الرئيسيةبحث

تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة القصص

{طسۤمۤ } * { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } * { نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } * { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } * { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ } * { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ } * { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } * { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ } * { وَقَالَتِ ٱمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } * { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } * { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } * { فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } * { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَٱغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } * { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ } * { فَأَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا ٱلَّذِي ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } * { فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِٱلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يٰمُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ } * { وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يٰمُوسَىٰ إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَٱخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ ٱلنَّاصِحِينَ } * { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } * { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّيۤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } * { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } * { فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } * { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } * { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يٰأَبَتِ ٱسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلأَمِينُ } * { قَالَ إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } * { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } * { فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } * { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي ٱلأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يٰمُوسَىٰ إِنِّيۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } * { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يٰمُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ٱلآمِنِينَ } * { ٱسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } * { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } * { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } * { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَالِبُونَ } * { فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ } * { وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّيۤ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ ٱلدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } * { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يٰأَيُّهَا ٱلْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يٰهَامَانُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّيۤ أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } * { وَٱسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ } * { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلظَّالِمِينَ } * { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَيَوْمَ ٱلْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ } * { وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ } * { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ ٱلأُولَىٰ بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } * { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ } * { وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } * { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ ٱلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } * { وَلَوْلاۤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلاۤ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } * { قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } * { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } * { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } * { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } * { وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } * { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } * { وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ } * { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } * { وَقَالُوۤاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوَارِثِينَ } * { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِيۤ أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } * { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ } * { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } * { قَالَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوۤاْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } * { وَقِيلَ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } * { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ } * { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ } * { فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ } * { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } * { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } * { وَهُوَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ وَلَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } * { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } * { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ } * { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } * { وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوۤاْ أَنَّ ٱلْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } * { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } * { وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } * { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ } * { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا يٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } * { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ٱلصَّابِرُونَ } * { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ } * { وَأَصْبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِٱلأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاۤ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَافِرُونَ } * { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } * { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى ٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ قُل رَّبِّيۤ أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { وَمَا كُنتَ تَرْجُوۤ أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ } * { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ ٱللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

الوكز: الضرب باليد مجموعاً كعقد ثلاث وسبعين. وقيل: بجمع كفه. وقيل: الوكز والنكزواللهز واللكز: الدفع بأطراف الأصابع. وقيل: الوكز على القلب، واللكز على اللحى. وقيل: الوكز بأطراف الأصابع. ذاذ: طرد ودفع وقالالفراء: حبس جذوت الشيء جذواً: قطعته، والجذوة: عود فيه نار بلا لهب. قال ابن مقبل

: باتت حواطب ليلى يلتمسن لها     جزل الجذا غير خوّار ولا ذعر

الخوّار: الذي يتقصف، والذعر الذي فيهتعب. وقال آخر

: وألقى على قبس من النار جذوة عليها حمئها وإلتهابها    

وقيل: الجذوة مثلث الجيم، العود الغليظ، كانت في رأسه نار أو لم تكن. وقال السلمني يصف الصلى

: حمى حب هذي النار حب خليلتي وحب الغواني فهو دون الحبائب وبدلت بعد المسك والبان شقوةذخان الجذا في رأس أشمط شاحب    

الشاطىء والشط: حفة الوادي. الفصاحة: بسط اللسان في إيضاح المعنى المقصود، ومقابله: اللكن.الردء: المعين الذي يشد به في الأمر، فعل بمعنى مفعول، فهو اسم لما يعان به، كما أن الدفء اسم لمايدفأ به. قال سلامة بن حندل

: وردء كل أبيض مشرفيشحيذ الحد عضب ذي فلول    

ويقال: ردأت الحائط أردؤه، إذا دعمته بخشبة لئلا يسقط. وقال أبو عبيدة: العون، ويقال: ردأته على عدوه: أعنته.المقبوح: المطرود، وقال الشاعر

: ألا قبح الله البراجم كلها     وجدّع يربوعاً وعفر دارماً

ثوى يثوي ثواء: أقام، قال الشاعر

: لقد كان في حول ثواء ثويته     تقضي لبانات ويسأم سائم

وقال العجاج

:فبات حيث يدخل الثوى    

أي الضيفالمقيم. البطر: الطغيان. السرمد: الدائم الذي لا ينقطع.بسم الله الرحمن الرحيم {طسم تِلْكَ ءايَاتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ * نَتْلُواْ عَلَيْكَمِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ٱلاْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُأَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ }. هذه السورة مكية كلها، قاله الحسن وعطاء وعكرمة. وقال مقاتل: فيهامن المدني {ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِهِ } إلى قوله: {لاَ نَبْتَغِى ٱلْجَـٰهِلِينَ }. وقيل: نزلت بين مكة والجحفة. وقالابن عباس: بالجحفة، في خروجه عليه السلام للهجرة. وقال ابن سلام: نزل {إِنَّ ٱلَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ}، بالجحفة، وقت الهجرة إلى المدينة. ومناسبة أول هذه السورة لآخر السورة قبلها أنه أمره تعالى بحمده، ثم قال:

{ سَيُرِيكُمْ ءايَـٰتِهِ }

وكان مما فسر به آياته تعالى معجزات الرسول، وأنه أضافها تعالى إليه، إذ كان هو المخبربها على قدمه فقال: {تِلْكَ ءايَـٰتُ ٱلْكِتَـٰبِ }، إذ كان الكتاب هو أعظم المعجزات وأكبر الآيات البينات، والظاهر أن الكتابهو القرآن، وقيل: اللوح المحفوظ. {*نتلو}: أي نقرأ عليك بقراءة جبريل، أو نقص. ومفعول {جَاءكَ مِن نَّبَإِ }: أي بعضنبأ، وبالحق متعلق بنتلو، أي محقين، أو في موضع الحال من نبأ، أي متلبساً بالحق، وخص المؤمنين لأنهم هم المنتفعونبالتلاوة. {عَلاَ فِى ٱلاْرْضِ }: أي تجبر واستكبر حتى ادّعى الربوبية الإلهية. والأرض: أرض مصر، والشيع: الفرق. ملك القبط واستعبدبني إسرائيل، أي يشيعونه على ما يريد، أو يشيع بعضهم بعضاً في طاعته، أو ناساً في بناء وناساً في حفر،وغير ذلك من الحرف الممتهنة. ومن لم يستخدمه، ضرب عليه الجزية، أو أغرى بعضهم ببعض ليكونوا له أطوع، والطائفة المستضعفةبنو إسرائيل. والظاهر أن {يَسْتَضْعِفُ } استئناف يبين حال بعض الشيع، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير، وجعل وأن تكونصفة لشيعاً، ويذبح تبيين للاستضعاف، وتفسير أو في موضع الحال من ضمير يستضعف، أو في موضع الصفة لطائفة. وقرأ الجمهور:يذبح، مضعفاً؛ وأبو حيوة، وابن محيصن: بفتح الياء وسكون الذال. {إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ }: علة لتجبره ولتذبيح الأبناء،إذ ليس في ذلك إلاّ مجرد الفساد. {وَنُرِيدُ }: حكاية حال ماضية، والجملة معطوفة على قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ }، لأنكلتيهما تفسير للبناء، ويضعف أن يكون حالاً من الضمير في يستضعف، لاحتياجه إلى إضمار مبتدأ، أي ونحن نريد، وهو ضعيف.وإذا كانت حالاً، فكيف يجتمع استضعاف فرعون وإرادة المنة من الله ولا يمكن الاقتران؟ فقيل: لما كانت المنة بخلاصهم منفرعون قرينة الوقوع، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم. و{أَن نَّمُنَّ }: أي بخلاصهم من فرعون وإغراقه. {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً }:أي مقتدى بهم في الدين والدنيا. وقال مجاهد: دعاة إلى الخير. وقال قتادة: ولاة، كقولهم وجعلكم ملوكاً. وقال الضحاك: أنبياء.{وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ }: أي يرثون فرعون وقومه، ملكهم وما كان لهم. وعن علي، الوارثون هم: يوسف عليه السلام وولده،وعن قتادة أيضاً: ورثوا أرض مصر والشام. وقرأ الجمهور: {وَنُمَكّنَ }، عطفاً على نمن. وقرأ الأعمش: ولنمكن، بلام كي، أيوأردنا ذلك لنمكن، أو ولنمكن فعلنا ذلك. والتمكين: التوطئة في الأرض، هي أرض مصر والشام، بحيث ينفذ أمرهم ويتسلطون علىمن سواهم. وقرأ الجمهور: {وَنُرِىَ }، مضارع أرينا، ونصب ما بعده. وعبد الله، وحمزة، والكسائي: ونرى، مضارع رأى، ورفع مابعده. {وَهَـٰمَـٰنَ }: وزير فرعون وأحد رجاله، وذكر لنباهته في قومه ومحله من الكفر. ألا ترى إلى قوله له:

{ فَرْعَوْنُ يٰهَـٰمَـٰنُ ٱبْنِ لِى صَرْحاً }

ويحذرون أي زوال ملكهم وإهلاكهم على يدى مولود من بني إسرائيل. {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰأُمّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱليَمّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ }. إيحاءالله إلى أم موسى: إلهام وقذف في القلب، قاله ابن عباس وقتادة؛ أو منام، قاله قوم؛ أو إرسال ملك، قالهقطرب وقوم، وهذا هو الظاهر لقوله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَـٰعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ }. وأجمعوا على أنها لم تكن نبية، فإنكان الوحي بإرسال ملك، كما هو الظاهر، فهو كإرساله للأقرع والأبرص والأعمى، وكما روي من تكليم الملائكة للناس. والظاهر أنهذا الإيحاء هو بعد الولادة، فيكون ثم جملة محذوفة، أي ووضعت موسى أمه في زمن الذبح وخافت عليه. {وَأَوْحَيْنَا }،و{ءانٍ } تفسيرية، أو مصدرية. وقيل: كان الوحي قبل الولادة. وقرأ عمرو بن عبد الواحد، وعمر بن عبد العزيز: أنارضعيه، بكسر النون بعد حذف الهمزة على غير قياس، لأن القياس فيه نقل حركة الهمزة، وهي الفتحة، إلى النون، كقراءةورش. {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون الأولاد، {فَأَلْقِيهِ فِى ٱليَمّ }. قال الجنيد: إذاخفت حفظه بواسطة، فسلميه إلينا بإلقائه في البحر، واقطعي عنك شفقتك وتدبيرك. وزمان إرضاعه ثلاثة أشهر، أو أربعة، أو ثمانية،أقوال. واليم هنا: نيل مصر. {وَلاَ تَخَافِى }: أي من غرقه وضياعه، ومن التقاطه، فيقتل، {وَلاَ تَحْزَنِى } لمفارقتك إياه،{إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ }، وعد صادق يسكن قلبها ويبشرها بحياته وجعله رسولاً، وقد تقدم في سورة طه طرف من حديثالتابوت ورميه في اليم وكيفية التقاطه، فأغنى عن إعادته. واستفصح الأصمعي امرأة من العرب أنشدت شعراً فقالت: أبعد قوله تعالى{وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمّ مُوسَىٰ } الآية، فصاحة؟ وقد جمع بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. {فَٱلْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ }: فيالكلام حذف تقديره: ففعلت ما أمرت به من إرضاعه ومن إلقائه في اليم. واللام في {لِيَكُونَ } للتعليل المجازي، لماكان مآل التقاطه وتربيته إلى كونه عدواً لهم {وَحَزَناً }، وإن كانوا لم يلتقطوه إلا للتبني، وكونه يكون حبيباً لهم،ويعبر عن هذه اللام بلام العاقبة وبلام الصيرورة. وقرأ الجمهور: وحزناً، بفتح الحاء والزاي، وهي لغة قريش. وقرأ ابن وثاب،وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وابن سعدان: بضم الحاء وإسكان الزاي. والخاطىء: المتعمد الخطأ، والمخطىء: الذي لا يتعمده. واحتمل أن يكونفي الكلام حذف، وهو الظاهر، أي فكان لهم عدواً وحزناً، أي لأنهم كانوا خاطئين، لم يرجعوا إلى دينه، وتعمدوا الجرائموالكفر بالله. وقال المبرد: خاطئين على أنفسهم بالتقاطه. وقيل: بقتل أولاد بني إسرائيل. وقيل: في تربية عدوّهم. وأضيف الجندهنا وفيما قبل إلى فرعون وهامان، وإن كان هامان لا جنود له، لأن أمر الجنود لا يستقيم إلا بالملك والوزير،إذ بالوزير تحصل الأموال، وبالملك وقهره يتوصل إلى تحصيلها، ولا يكون قوام الجند إلا بالأموال. وقرىء: خاطيين، بغير همز، فاحتملأن يكون أصله الهمز. وحذفت، وهو الظاهر. وقيل: من خطا يخطو، أي خاطين الصواب. ولما التقطوه، هموا بقتله، وخافواأن يكون المولود الذي يحذرون زوال ملكهم على يديه، فألقى الله محبته في قلب آسية امرأة فرعون، ونقلوا أنها رأتنوراً في التابوت، وتسهل عليها فتحه بعد تعسر فتحه على يدي غيرها، وأن بنت فرعون أحبته أيضاً لبرئها من دائهاالذي كان بها، وهو البرص، بإخبار من أخبر أنه لا يبرئها إلا ريق إنسان يوجد في تابوت في البحر.وقرة: خبر مبتدأ محذوف، أي هو قرة، ويبعد أن يكون مبتدأ والخبر {لاَ تَقْتُلُوهُ }؛ وتقدم شرح قرة في آخرالفرقان. وذكر أنها لما قالت لفرعون: {قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ }، قال: لك لا لي. وروي أنها قالت له: لعلهمن قوم آخرين ليس من بني إسرائيلي، وأتبعت النهي عن قتله برجائها أن ينفعهم لظهور مخايل الخير فيه من النورالذي رأته، ومن برء البرص، أو يتخذوه ولداً، فإنه أهل لذلك. {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }: جملة حالية، أي لا يشعرونأنه الذي يفسد ملكهم على يديه، قاله قتادة؛ أو أنه عدو لهم، قاله مجاهد؛ أو أني أفعل ما أريد لاما يريدون، قاله محمد بن إسحاق. والظاهر أنه من كلام الله تعالى. وقيل: هو من كلام امرأة فرعون، أي قالتذلك لفرعون، والذين أشاروا بقتله لا يشعرون بمقالتها له واستعطاف قلبه عليه، لئلا يغروه بقتله. وقال الزمخشري: تقدير الكلام:{فَٱلْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً }، و{قَالَتِ ٱمْرَأَتُ * فِرْعَوْنُ } كذا، {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أنهم علىخطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه. وقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ } الآية، جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليهمؤكدة لمعنى خطئهم. انتهى. ومتى أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير فصل كان أحسن. {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَىٰفَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنجُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُنَـٰصِحُونَ * فَرَدَدْنَـٰهُ إِلَىٰ أُمّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ *وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ ءاتَيْنَـٰهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ }. {وَأَصْبَحَ }: أي صار فارغاً من العقل، وذلكحين بلغها أنه وقع في يد فرعون، فدهمها أمر مثله لا يثبت معه العقل، لا سيما عقل امرأة خافت علىولدها حتى طرحته في اليم، رجاء نجاته من الذبح؛ هذا مع الوحي إليها أن الله يرده إليها ويجعله رسولاً، ومعذلك فطاش لبها وغلب عليها ما يغلب على البشر عند مفاجأة الخطب العظيم، ثم استكانت بعد ذلك لموعود الله. وقرأأحمد بن موسى، عن أبي عمر وفؤاد: بالواو. وقال ابن عباس: فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى. وقالمالك: هو ذهاب العقل. وقالت فرقة: فارغاً من الصبر. وقال ابن زيد: فارغاً من وعد الله ووحيه إليها، تناسته منالهم. وقال أبو عبيدة: فارغاً من الحزن، إذ لم يغرق، وهذا فيه بعد، وتبعده القراآت الشواذ التي في اللفظة. وقرأفضالة بن عبيد، والحسن، ويزيد بن قطيب، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير: فزعاً، بالزاي والعين المهملة، من الفزع، وهوالخوف والقلق؛ وابن عباس: قرعاً، بالقاف وكسر الراء وإسكانها، من قرع رأسه، إذا انحسر شعره، كأنه خلا من كل شيءإلا من ذكر موسى. وقيل: قرعاً، بالسكون، مصدر، أي يقرع قرعاً من القارعة، وهي الهم العظيم. وقرأ بعض الصحابة: فزغاً،بالفاء مكسورة وسكون الزاي والغين المنقوطة، ومعناه: ذاهباً هدراً تالفاً من الهم والحزن. ومنه قول طليحة الأسدي في أخيه حبال

: فإن يك قتلي قد أصيْبت نفوسهم     فلن تذهبوا فزغاً بقتل حبال

أي:بقتل حبال فزغاً، أي هدراً لا يطلب له بثأر ولا يؤخذ. وقرأ الخليل بن أحمد: فرغاً، بضم الفاء والراء. {إِنكَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ }: هي إن المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة. وقيل: إن نافية، واللام بمعنى إلاّ، وهذا قولكوفي، والإبداء: إظهار الشيء. والظاهر أن الضمير في به عائد على موسى عليه السلام، فقيل: الباء زائدة، أي: لتظهره. وقيل:مفعول تبدي محذوف، أي لتبدي القول به، أي بسببه وأنه ولدها. وقيل: الضمير في به للوحي، أي لتبدي بالوحي. وقالابن عباس: كادت تصيح عند إلقائه في البحر وا ابناه. وقيل: عند رؤيتها تلاطم الأمواج به {لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰقَلْبِهَا }. قال قتادة: بالإيمان. وقال السدي: بالعصمة. وقال الصادق: باليقين. وقال ابن عطاء: بالوحي، و{لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }. فعلناذلك، أي المصدقين بوعد الله، وأنه كائن لا محالة. والربط على القلب كناية عن قراره وإطمئنانه، شبه بما يربط مخافةالانقلاب. وقال الزمخشري: ويجوز: وأصبح فؤادها فارغاً من الهم حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه. {إِن كَادَتْ لَتُبْدِى} بأنه ولدها، لأنها لم تملك نفسها فرحاً وسروراً بما سمعت، لولا أنا طمأنا قلبها وسكّنّا قلقه الذي حدث بهمن شدة الفرح والابتهاج. {لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } الواثقين بوعد الله، لا بتبني فرعون وتعطفه. انتهى. وما ذهب إليه الزمخشريمن تجويز كونه فارغاً من الهم إلى آخره، خلاف ما فهمه المفسرون من الآية، وجواب لولا محذوف تقديره: لكادت تبديبه، ودل عليه قوله: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ }، وهذا تشبيه بقوله:

{ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ }

{وَقَالَتْ لاخْتِهِ }، طمعاً منها في التعرف بحاله. {قُصّيهِ }: أي اتبعي أثره وتتبعي خبره. فروي أنها خرجتفي سكك المدينة مختفية، فرأته عند قوم من حاشية امرأة فرعون يتطلبون له امرأة ترضعه، حين لم يقبل المراضع، واسمأخته مريم، وقيل: كلثمة، وقيل: كلثوم، وفي الكلام حذف، أي فقصت أثره. {فَبَصُرَتْ بِهِ }: أي أبصرته؛ {عَن جُنُبٍ }،أي عن بعد؛ {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بتطلبها له ولا بإبصارها. وقيل: معنى {عَن جُنُبٍ }: عن شوق إليه، حكاهأبو عمرو بن العلاء وقال: هي لغة جذام، يقولون: جنبت إليك: اشتقت. وقال الكرماني: جنب صفة لموصوف محذوف، أي عنمكان جنب، يريد بعيد. وقيل: عن جانب، لأنها كانت تمشي على الشط، وهم لا يشعرون أنها تقص. وقيل: لا يشعرونأنها أخته. وقيل: لا يشعرون أنه عدو لهم، قاله مجاهد. وقرأ الجمهور: عن جنب، بضمتين. وقرأ قتادة: فبصرت، بفتح الصاد؛وعيسى: بكسرها. وقرأ قتادة، والحسن، والأعرج، وزيد بن علي: جنب، بفتح الجيم وسكون النون. وعن قتادة: بفتحهما أيضاً. وعن الحسن:بضم الجيم وإسكان النون. وقرأ النعمان بن سالم: عن جانب، والجنب والجانب والجنابة والجناب بمعنى واحد. وقال قتادة: معنى عنجنب: أنها تنظر إليه كأنها لا تريده. والتحريم هنا بمعنى المنع، أي منعناه أن يرضع ثدي امرأة؛ والمراضع جمع مرضع،وهي المرأة التي ترضع؛ أو جمع مرضع، وهو موضع الرضاع، وهو الثدي، أو الإرضاع. {مِن قَبْلُ }: أي من أولأمره. وقيل: من قبل قصها أثره وإتيانه على من هو عنده. {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ }: أي أرشدكم إلى {أَهْلِبَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَـٰصِحُونَ }، لكونهم فيهم شفقة ورحمة لمن يكفلونه وحسن تربية. ودل قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ}، أنه عرض عليه جملة من المرضعات، والظاهر أن الضمير في له عائد على موسى. قيل: ويحتمل أن يعود علىالملك الذي كان الطفل في ظاهر أمْره من جملته. وقال ابن جريج: تأول القوم أن الضمير للطفل فقالوا لها: إنكقد عرفتيه، فأخبرينا من هو؟ فقالت: ما أردت، إلا أنهم ناصحون للملك، فتخلصت منهم بهذا التأويل. وفي الكلام حذف تقديره:فمرت بهم إلى أمه، فكلموها في إضاعه؛ أو فجاءت بأمه إليهم، فكلموها في شأنه، فأرضعته، فالتقم ثديها. ويروى أن فرعونقال لها: ما سبب قبول هذا الطفل ثديك، وقد أبى كل ثدي؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، لاأوتي بصبي إلا قبلني، فدفعه إليها، وذهبت به إلى بيتها، وأجرى لها كل يوم ديناراً. وجاز لها أخذه لأنه مالحربي، فهو مباح، وليس ذلك أجرة رضاع. {فَرَدَدْنَـٰهُ إِلَىٰ أُمّهِ }، كما قال تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ }، ودمع الفرحبارد، وعين المهموم حرى سخنة، وقال أبو تمام

: فأما عيون العاشقين فأسخنت     وأما عيون الشامتين فقرت

لما أنجز تعالى وعده في الردّ، ثبت عندها أنه سيكون نبياً رسولاً.{وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ }، فعلنا ذلك. ولا يعلمون، أي أن وعد الله حق، فهم مرتابون فيه؛ أو لايعلمون أن الرد إنما كان لعلمها بصدق وعد الله. ولكن أكثر الناس لا يعلمون بأن الرد كان لذلك، وفي قوله:{وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } دلالة على ضعف من ذهب إلى أن الإيحاء إليها كان إلهاماً أو مناماً، لأنذلك يبعد أن يقال فيه وعد. وقوله: ولتعلم وقوع ذلك فهو علم مشاهدة، إذ كانت عالمة أن ذلك سيكون، وأكثرهمهم القبط، ولا يعلمون سرّ القضاء. وقال الضحاك: لا يعلمون مصالحهم وصلاح عواقبهم. وقال الضحاك أيضاً، ومقاتل: لا يعلمون أنالله وعدها رده إليها، وتقدم تفسير {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } إلى {ٱلْمُحْسِنِينَ } في سورة يوسف عليه السلام. {وَدَخَلَٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوّهِ فَٱسْتَغَـٰثَهُ ٱلَّذِى }.{ٱلْمَدِينَةِ }، قال ابن عباس: هي منف. ركب فرعون يوماً وسار إليها، فعلم موسى عليه السلام بركوبه، فلحق بتلك المدينةفي وقت القائلة، وعنه بين العشاء والعتمة. وقال ابن إسحاق: المدينة مصر بنفسها، وكان موسى قد بدت منه مجاهرة لفرعونوقومه بما يكرهون، فاختفى وخاف، فدخلها متنكراً حذراً متغفلاً للناس. وقال ابن زيد: كان فرعون قد أخرجه من المدينة، فغابعنها سنين، فُنسي، فجاء والناس في غفلة بنسيانهم له وبعد عهدهم به. وقيل: كان يوم عيد، وهم مشغولون بلهوهم. وقيل:خرج من قصر فرعون ودخل مصر. وقيل: المدينة عين شمس. وقيل: قرية على فرسخين من مصر يقال لها حابين. وقيل:الإسكندرية. وقرأ أبو طالب القارىء: {عَلَىٰ حِينِ }، بنصب نون حين، ووجهه أنه أجرى المصدر مجرى الفعل، كأنه قال: علىحين غفل أهلها، فبناه كما بناه حين أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض، كقوله

:على حين عاتبت المشيب على الصبا    

وهذا توجيه شذوذ. وقرأ نعيم بن ميسرة: يقتلان. بإدغام التاء في التاء ونقل فتحتها إلى القاف.قيل: كانا يقتتلان في الدين، إذ أحدهما إسرائيل مؤمن والآخر قبطي. وقيل: يقتتلان، في أن كلف القبطي حمل الحطب إلىمطبخ فرعون على ظهر الإسرائيلي، ويقتتلان صفة لرجلين. وقال ابن عطية: يقتتلان في موضع الحال. انتهى. والحال من النكرة أجازهسيبويه من غير شرط. {هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ }: أي ممن شايعه على دينه، وهو الإسرائيلي. قيل: وهو السامري، وهذا منعدوه، أي من القبط. وقيل: اسمه فاتون، وهذا حكاية حال، وقد كانا حاضرين حالة وجد أن موسى لهما، أو لحكايةالحال، عبر عن غائب ماض باسم الإشارة الذي هو موضوع للحاضر. وقال المبرد: العرب تشير بهذا إلى الغائب. قال جرير

: هذا ابن عمي في دمشق خليفة     لو شئت ساقكم إليّ قطينا

وقرأ الجمهور: {*فاستغاثة}، أي طلب غوثه ونصره على القبطي. وقرأ سيبويه، وابن مقسم، والزعفراني: بالعين المهملة والنون بدل الثاء، أيطلب منه الإعانة على القبطي. قال أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة: والاختيار قراءة ابن مقسم، لأن الإعانة أولىفي هذا الباب. وقال ابن عطية: ذكرها الأخفش، وهي تصحيف لا قراءة. انتهى. وليست تصحيفاً، فقد نقلها ابن خالويه عنسيبويه، وابن جبارة عن ابن مقسم والزعفراني. وروي أنه لما اشتد التناكر بينهما قال القبطي لموسى: لقد هممت أن أحملهعليك، يعني الحطب، فاشتد غضب موسى، وكان قد أوتي قوة، {عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ }، فمات. وقرأ عبد الله فلكزه، باللام، وعنه:فنكزه، بالنون. قال قتادة: وكزه بعصاه؛ وغيره قال: بجمع كفه، والظاهر أن فاعل {فَقَضَىٰ } ضمير عائد على موسى. وقيل:يعود على الله، أي فقضى الله عليه بالموت. ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه، أي فقضى الوكز عليه،وكان موسى لم يتعمد قتله، ولكن وافقت وكزته الأجل، فندم موسى. وروي أنه دفنه في الرمل وقال: {هَـٰذَا مِنْ عَمَلِٱلشَّيْطَـٰنِ }، وهو ما لحقه من الغضب حتى أدى إلى الوكزة التي قضت على القبطي، وجعله من عمل الشيطان وسماهظلماً لنفسه واستغفر منه، لأنه أدى إلى قتل من لم يؤذن له في قتله. وعن ابن جريج: ليس لنبي أنيقتل ما لم يؤمر. وقال كعب: كان موسى إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة، وكان قتله خطأ، فإن الوكزة فيالغالب لا تقتل. وقال النقاش: كان هذا قبل النبوة، وقد انتهج موسى عليه السلام نهج آدم عليه السلام إذ قال:

{ ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا }

والباء في {بِمَا أَنْعَمْتَ } للقسم، والتقدير: أقسم بما أنعمت به عليّ من المغفرة، والجواب محذوف،أي لأتوبن، {فَلَنْ أَكُونَ }، أو متعلقة بمحذوف تقديره: اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة، {فَلَنْ أَكُونَ } إنعصمتني {ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ }. وقيل: {فَلَنْ أَكُونَ } دعاء لا خبر، ولن بمعنى لا في الدعاء، والصحيح أن لن لاتكون في الدعاء، وقد استدل على أن لن تكون في الدعاء بهذه الآية، وبقول الشاعر

: لن تزالوا كذاكم ثم ما زلــت لهم خالداً خلود الجبال    

والمظاهرة، إما بصحبته لفرعون وانتظامه في جملته وتكثير سوادهحيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون، وإما أنه أدت المظاهرة إلى القتل الذي جرى علىيده. وقيل: بما أنعمت عليّ من النبوّ، فلن أستعملها إلاّ في مظاهرة أوليائك، ولا أدع قبطياً يغلب إسرائيلياً. واحتج أهلالعلم بهذه الآية على منع معونة أهل الظلم وخدمتهم، نص على ذلك عطاء بن أبي رباح وغيره. وقال رجل لعطاء:إن خي يضرب بعلمه ولا يعد ورزقه، قال: فمن الرأس، يعني من يكتب له؟ قال: خالد بن عبد الله القسري،قال: فأين قول موسى؟ وتلا الآية: {فَأَصْبَحَ فِى ٱلْمَدِينَةِ خَائِفاً } من قبل القبطي أن يؤخذ به، يترقب وقوع المكروه،به أو الإخبار هل وقفوا على ما كان منه؟ قيل: خائفاً من أنه يترقب المغفرة. وقيل: خائفاً يترقب نصرة ربه،أو يترقب هداية قومه، أو ينتظر أن يسلمه قومه. {فَإِذَا ٱلَّذِى ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلاْمْسِ }: أي الإسرائيلي الذي كان قتل القبطيبسببه. وإذا هنا للمفاجأة، وبالأمس يعني اليوم الذي قبل يوم الاستصراخ، وهو معرب، فحركة سينه حركة إعراب لأنه دخلته أل،بخلاف حاله إذا عري منها، فالحجاز تنبيه إذا كان معرفة، وتميم تمنعه الصرف حالة الرفع فقط، ومنهم من يمنعه الصرفمطلقاً، وقد يبنى مع أل على سبيل الندور. قال الشاعر

: وإني حسبت اليوم والأمس قبله     إلى الليل حتى كادت الشمس تغرب

{يَسْتَصْرِخُهُ }: يصيح به مستغيثاً من قبطيّ آخر، ومنه قولالشاعر

: كنا إذا ما أتانا صارخ فزع كان الصراخ له قرع الطنابيب    

قال لهموسى: الظاهر أن الضمير في له عائد على الذي {إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ } لكونك كنت سبباً في قتل القبطي بالأمس،قال له ذلك على سبيل العتاب والتأنيب. وقيل: الضمير في له، والخطاب للقبطي، ودل عليه قوله: يستصرخه، ولم يفهم الإسرائيليأن الخطاب للقبطي. {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ }: الظاهر أن الضمير في أراد ويبطش هو لموسى. {بِٱلَّذِى هُوَ عَدُوٌّلَّهُمَا }: أي للمستصرخ وموسى وهو القبطي يوهم الإسرائيلي أن قوله: {إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ } هو على سبيل إرادة السوءبه، وظن أنه يسطو عليه. قال، أي الإسرائيلي: {قَالَ يٰمُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلاْمْسِ }، دفعاً لماظنه من سطو موسى عليه، وكان تعيين القائل القبطي قد خفي على الناس، فانتشر في المدينة أن قاتل القبطي هوموسى، ونمى ذلك إلى فرعون، فأمر بقتل موسى. وقيل: الضمير في أراد ويبطش للإسرائيلي عند ذلك من موسى، وخاطبه بمايقبح، وأن بعد لما يطرد زيادتها. وقيل: لو إذا سبق قسم كقوله

: فأقسم أن لو التقينا وأنتم     لكان لكم يوم من الشر مظلم

وقرأ الجمهور: يبطش، بكسر الطاء؛ والحسن، وأبو جعفر:بضمها. {إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى ٱلاْرْضِ }: وشأن الجبار أن يقتل بغير حق. وقال الشعبي: من قتلرجلين فهو جبار، يعني بغير حق، ولما أثبت له الجبروتية نفى عنه الصلاح. {وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ }، قيل:هو مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون. قال الكلبي: واسمه جبريل بن شمعون. وقال الضحاك: شمعون بن إسحاق. وقيل:هو غير مؤمن آل فرعون. {يَسْعَىٰ }: يشتد في مشيه. ولما أمر فرعون بقتله، خرج الجلاوزة من الشارع الأعظم، فسلكهذا الرجل طريقاً أقرب إلى موسى. ومن أقصى المدينة، ويسعى: صفتان، ويجوز أن يكون يسعى حالاً، ويجوز أن يتعلق منأقصى بجاء. قال الزمخشري: وإذا جعل، يعني، من أقصى حالاً، لجاء لم يجز في يسعى إلاّ الوصف. انتهى. يعني: أنرجلاً يكون نكرة لم توصف، فلا يجوز منها الحال، وقد أجاز ذلك سيبويه في كتابه من غير وصف. قال: {إِنَّٱلْمَلاَ }، وهم وجوه أهل دولة فرعون، {يَأْتَمِرُونَ }: يتشاورون، قال الشاعر، وهو النمر بن تولب

: أرى الناس قد أحدثوا شيمة     وفي كل حادثة يؤتمر

وقال ابن قتيبة: يأمر بعضهم بعضاً بقوله،من قوله تعالى:

{ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ }

{فَٱخْرُجْ إِنّى لَكَ مِنَ ٱلنَّـٰصِحِينَ }. ولك: متعلق إما بمحذوف، أيناصح لك من الناصحين، أو بمحذوف على جهة البيان، أي لك أعني، أو بالناصحين، وإن كان في صلة أل، لأنهيتسامح في الظرف والمجرور ما لا يتسامح في غيرهما. وهي ثلاثة أقوال للنحويين فيما أشبه هذا، فامتثل موسى ما أمرهبه ذلك الرجل، وعلم صدقه ونصحه، وخرج وقد أفلت طالبيه فلم يجدوه. وكان موسى لا يعرف ذلك الطريق، ولم يصحبأحداً، فسلك مجهلاً، واثقاً بالله تعالى، داعياً راغباً إلى ربه في تنجيته من الظالمين. {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَعَسَىٰ رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء ٱلسَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا }. {تَوَجَّهَ }: رد وجهه. و {تِلْقَاء }: تقدم الكلام عليه في يونس،أي ناحية وجهه. استعمل المصدر استعمال الظرف، وكان هناك ثلاث طرق، فأخذ موسى أوسطها، وأخذ طالبوه في الآخرين وقالوا: المريبلا يأخذ في أعظم الطرق ولا يسلك إلاّ بنياتها. فبقي في الطريق ثماني ليال وهو حاف، لا يطعم إلا ورقالشجر. والظاهر من قوله: {عَسَىٰ رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء ٱلسَّبِيلِ }، أنه كان لا يعرف الطريق، فسأل ربه أن يهديهأقصد الطريق بحيث أنه لا يضل، إذ لو سلك ما لا يوصله إلى المقصود لتاه. وعن ابن عباس: قصد مدينوأخذ يمشي من غير معرفة، فأوصله الله إلى مدين. وقيل: هداه جبريل إلى مدين. وقيل: ملك غيره. وقيل: أخذ طريقاًيأمن فيه، فاتفق ذهابه إلى مدين. والظاهر أن سواء السبيل: وسط الطريق الذي يسلكه إلى مكان مأمنه. وقال مجاهد: سواءالسبيل: طريق مدين. وقال الحسن: هو سبيل الهدى، فمشى موسى عليه السلام إلى أن وصل إلى مدين، ولم يكن فيطاعة فرعون. {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ }: أي وصل إليه، والورود بمعنى الوصول إلى الشيء، وبمعنى الدخول فيه. قيل:وكان هذا الماء بئراً. والأمة: الجمع الكثير، ومعنى عليه: أي على شفيره وحاشيته. {يُسْقَوْنَ }: يعني مواشيهم. {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ}: أي من الجهة التي وصل إليها قبل أن يصل إلى الأمة، فهما من دونهم بالإضافة إليه، قاله ابن عطية.وقال الزمخشري: في مكان أسفل من مكانهم. {تَذُودَانِ }، قال ابن عباس وغيره: تذودان غنمهما عن الماء خوفاً من السقاةالأقوياء. وقال قتادة: تذودان الناس عن غنمهما. قال الزجاج: وكأنهما تكرهان المزاحمة على الماء. وقيل: لئلا تختلط غنمهما بأغنامهم. وقيل:تذودان عن وجوههما نظر الناظر لتسترهما. وقال الفراء: تحبسانها عن أن تتفرق، واسم الصغرى عبرا، واسم الكبر صبورا. ولمارآهما موسى عليه السلام واقفتين لا تتقدمان للسقي، سألهما فقال: {مَا خَطْبُكُمَا }؟ قال ابن عطية: والسؤال بالخطب إنما هوفي مصاب، أو مضطهد، أو من يشفق عليه، أو يأتي بمنكر من الأمر. قال الزمخشري: وحقيقته: ما مخطوبكما؟ أي مامطلوبكما من الذياد؟ سمى المخطوب خطباً، كما سمى الشؤون شأناً في قولك: ما شأنك؟ يقال: شانت شأنه، أي قصدت قصده.انتهى. وفي سؤاله عليه الصلاة والسلام دليل على جواز مكالمة الأجنبية فيما يعنّ ولم يكن لأبيهما أجير، فكانتا تسوقان الغنمإلى الماء، ولم تكن لهما قوة الإستقاء، وكان الرعاة يستقون من البئر فيسقون مواشيهم، فإذا صدروا، فإن بقي في الحوضشيء سقتا. فوافى موسى عليه السلام ذلك اليوم وهما يمنعان غنمهما عن الماء، فرق عليهما وقال: {مَا خَطْبُكُمَا }؟ وقرأشمر: بكسر الخاء، أي من زوجكما؟ ولم لا يسقي هو؟ وهذه قراءة شاذة نادرة. {قَالَتَا لاَ نَسْقِى }. وقرأابن مصرف: لا نسقي، بضم النون. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والحسن، وقتادة، والعربيان: يصدر، بفتح الياء وضم الدال، أي يصدرونبأغنامهم؛ وباقي السبعة، والأعرج، وطلحة، والأعمش، وابن أبي إسحاق، وعيسى: بضم الياء وكسر الدال، أي يصدرون أغنامهم. وقرأ الجمهور: الرعاء،بكسر الراء: جمع تكسير. قال الزمخشري: وأما الرعاء بالكسر فقياس، كصيام وقيام. انتهى. وليس بقياس، لأنه جمع راع؛ وقياس فاعلالصفة التي للعاقل أن تكسر على فعلة، كقاض وقضاة، وما سوى جمعه هذا فليس بقياس. وقرىء: الرعاء، بضم الراء، وهواسم جمع، كالرخال والثناء. قال أبو الفضل الرازي: وقرأ عياش، عن أبي عمرو: الرعاء، بفتح الراء، وهو مصدر أقيم مقامالصفة، فاستوى لفظ الواحد والجماعة فيه، وقد يجوز أنه حذف منه المضاف. {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ }: اعتذار لموسى عن مباشرتهماالسقي بأنفسهما، وتنبيه على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخه وكبره، واستعطاف لموسى في إعانتهما. {فَسَقَىٰ لَهُمَا }:أي سقى غنمهما لأجلهما. وروي أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجراً لا يقله إلا عدد من الرجال، واضطربالنقل في العدد، فأقل ما قالوا سبعة، وأكثره مائة، فأقله وحده. وقيل: كانت لهم دلو لا ينزع بها إلا أربعون،فنزع بها وحده. وروي أنه زاحمهم على الماء حتى سقى لهما، كل ذلك رغبة في الثواب على ما كان بهمن نصب السفر وكثرة الجوع، حتى كانت تظهر الخضرة في بطنه من البقل. وقيل: إنه مشى حتى سقط أصله، وهوباطن القدم، ومع ذلك أغاثهما وكفاهما أمر السقي. وقد طابق جوابهما لسؤاله. سألهما عن سبب الذود، فأجاباه: بأنا امرأتان ضعيفتانمستورتان، لا نقدر على مزاحمة الرجال، فتؤخر السقي إلى فراغهم. ومباشرتهما ذلك ليس بمحظور، وعادة العرب وأهل البدو في ذلكغير عادة أهل الحضر والأعاجم، لا سيما إذا دعت إلى ذلك ضرورة. {ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظّلّ }، قال ابن مسعود:ظل شجرة. قيل: كانت سمرة. وقيل: إلى ظل جدار لا سقف له. وقيل: جعل ظهره يلي ما كان يلي وجههمن الشمس. {فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }، قال المفسرون: تعرض لما يطعمه، لما ناله منالجوع، ولم يصرح بالسؤال؛ وأنزلت هنا بمعنى تنزل. وقال الزمخشري: وعدى باللام فقير، لأنه ضمن معنى سائل وطالب. ويحتمل أنيريد، أي فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدين، وهو النجاة من الظالمين، لأنه كان عند فرعونفي ملك وثروة، قال ذلك رضا بالبدل السني وفرحاً به وشكراً له. وقال الحسن: سأل الزيادة في العلم والحكمة.{فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى ٱسْتِحْيَاء }: في الكلام حذف، والتقدير: فذهبتا إلى أبيهما من غير إبطاء في السقي، وقصتا عليهأمر الذي سقى لهما، فأمر إحداهما أن تدعوه له. {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا }. قرأ ابن محيصن: فجاءته إحداهما، بحذف الهمزة، تخفيفاًعلى غير قياس، مثل: ويل أمه في ويل أمه، ويابا فلان، والقياس أن يجعل بين بين، وإحداهما مبهم. فقيل: الكبرى،وقيل: كانتا توأمتين، ولدت الأولى قبل الأخرى بنصف نهار. وعلى استحياء: في موضع الحال، أي مستحيية متحفزة. قال عمر بنالخطاب: قد سترت وجهها بكم درعها؛ والجمهور: على أن الداعي أباهما هو شعيب عليه السلام، وهما ابنتاه. وقال الحسن: هوابن أخي شعيب، واسمه مروان. وقال أبو عبيدة: هارون. وقيل: هو رجل صالح ليس من شعيب ينسب. وقيل: كان عمهماصاحب الغنم، وهو المزوج، عبرت عنه بالأب، إذ كان بمثابته. {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا }، في ذلك ما كانعليه شعيب من الإحسان والمكافأة لمن عمل له عملاً، وإن لم يقصد العالم المكافأة. {فَلَمَّا جَاءهُ }: أي فذهبمعهما إلى أبيهما، وفي هذا دليل على اعتماد أخبار المرأة، إذ ذهب معها موسى، كما يعتمد على أخبارها في بابالرواية. {وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ }: أي ما جرى له من خروجه من مصر، وسبب ذلك. {قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ }: أي قبل الله دعاءك في قولك: {رَبّ نَجّنِى مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ }، أو أخبره بنجاته منهم، فأنسهبقوله: {لاَ تَخَفْ }، وقرب إليه طعاماً، فقال له موسى: إنا أهل بيت، لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً، فقالله شعيب: ليس هذا عوض السقي، ولكن عادتي وعادة آبائي قري الضيف وإطعام الطعام؛ فحينئذ أكل موسى عليه السلام.{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا }: أبهم القائلة، وهي الذاهبة والقائلة والمتزوجة، {إِحْدَاهُمَا يٰأَبَتِ ٱسْتَـجِرْهُ }: أي لرعي الغنم وسقيها. ووصفته بالقوة: لكونهرفع الصخرة عن البئر وحده، وانتزع بتلك الدلو، وزاحمهم حتى غلبهم على الماء؛ وبالأمانة: لأنها حين قام يتبعها هبت الريحفلفت ثيابها فوصفتها، فقال: ارجعي خلفي ودليني على الطريق. وقولها كلام حكيم جامع، لأنه إذا اجتمعت الكفاية والأمانة في القائمبأمر، فقد تم المقصود، وهو كلام جرى مجرى المثل، وصار مطروقاً للناس، وكان ذلك تعليلاً للاستئجار، وكأنها قالت: استأجره لأمانتهوقوته، وصار الوصفات منبهين عليه. ونظير هذا التركيب قول الشاعر

: ألا إن خير الناس حياً وهالكا     أسير ثقيف عندهم في السلاسل

جعل خير من استأجرت الاسم، اعتناء به. وحكمت عليه بالقوة والأمانة. ولما وصفتهبهذين الوصفين قال لها أبوها: ومن أين عرفت هذا؟ فذكرت إقلاله الحجر وحده، وتحرجه من النظر إليها حين وصفتها الريح؛وقاله ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وغيرهم. وقيل: قال لها موسى ابتداء: كوني ورائي، فإني رجل لا أنظر إلى أدبارالنساء، ودليني على الطريق يميناً أو يساراً. وقال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله:

{ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا }

وأبو بكر في عمر. وفي قولها: {ٱسْتَـجِرْهُ }، دليل على مشروعية الإجارة عندهم، وكذا كانت فيكل ملة، وهي ضرورة الناس ومصلحة الخلطة، خلافاً لابن علية والأصم، حيث كانا لا يجيزانها؛ وهذا مما انعقد عليه الإجماع،وخلافهما خرق. {قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَىَّ هَاتَيْنِ }: رغب شعيب في مصاهرته، لما وصفته به، ولمارأى فيه من عزوفه عن الدنيا وتعلقه بالله وفراره من الكفرة. وقرأ ورش، وأحمد بن موسى، عن أبي عمرو: أنكحكإحدى، بحذف الهمزة. وظاهر قوله: {أَنْ أُنكِحَكَ }، أن الإنكاح إلى الولي لا حق للمرأ فيه، خلافاً لأبي حنيفة فيبعض صوره، بأن تكون بالغة عالمة بمصالح نفسها، فإنها تعقد على نفسها بمحضر من الشهود، وفيه دليل على عرض الوليوليته على الزوج، وقد فعل ذلك عمر، ودليل على تزويج ابنته البكر من غير استئمار، وبه قال مالك والشافعي. وقالأبو حنيفة: إذا بلغت البكر، فلا تزوج إلا برضاها. قيل: وفيه دليل على قول من قال: لا ينعقد إلا بلفظالتزويج، أو الإنكاح، وبه قال ربيعة، والشافعي، وأبو ثور، وأبو عبيد، وداود. وإحدى ابنتي: مبهم، وهذا عرض لا عقد. ألاترى إلى قوله: {إِنّى أُرِيدُ }؟ وحين العقد يعين من شاء منهما، وكذلك لم بحدّ أول أمد الإجارة. والظاهر منالآية جواز النكاح بالإجارة، وبه قال الشافعي وأصحابه وابن حبيب. وقال الزمخشري: {هَاتَيْنِ }، فيه دليل على أنه كانت لهغيرهما. انتهى. ولا دليل في ذلك، لأنهما كانتا هما اللتين رآهما تذودان، وجاءته إحداهما، فأشار إليهما، والإشارة إليهما لا تدلعلى أن له غيرهما. {عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِى } في موضع الحال من ضمير أنكحك، إما الفاعل، وإما المفعول. وتأجرني، منأجرته: كنت له أجيراً، كقولك: أبوته: كنت له أباً، ومفعول تأجرني الثاني محذوف تقديره نفسك. و {ثَمَانِىَ حِجَجٍ }: ظرف،وقاله أبو البقاء. وقال الزمخشري: حجج: مفعول به، ومعناه: رعيه ثماني حجج. {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ }: أي هوتبرع وتفضل لا اشتراط. {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } بإلزام أيّم الأجلين، ولا في المعاشرة والمناقشة في مراعاة الأوقات،وتكليف الرعاة أشياء من الخدم خارجة عن الشرط. {سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّـٰلِحِينَ }: وعد صادق مقرون بالمشيئة منالصالحين في حسن المعاملة ووطاءة الخلق، أو من الصالحين على العموم، فيدخل تحته حسن المعاملة. ولما فرغ شعيب مماحاور به موسى، قال موسى: {ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ }، على جهة التقدير والتوثق في أن الشرط إنما وقع في ثمانيحجج. وذلك مبتدأ أخبره بيني وبينك، إشارة إلى ما عاهده عليه، أي ذلك الذي عاهدتني وشارطتني قائم بيننا جميعاً لانخرج عنه، ثم قال: {أَيَّمَا ٱلاْجَلَيْنِ }، أي الثماني أو العشر؟ {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ }: أي لا يعتدى عليّ فيطلب الزيادة، وأي شرط، وما زائدة. وقرأ الحسن، والعباس، عن أبي عمرو: أيما، بحذف الياء الثانية، كما قال الشاعر

: تنظرت نصراً والسماكين أيما     علي من الغيث استهلت مواطره

وقرأ عبد الله: أي الأجلينما قضيت، بزيادة ما بين الأجلين وقضيت. قال الزمخشري فإن قلت: ما الفرق بين موقع ما المزيدة في القراءتين؟ قلت:وقعت في المستفيضة مؤكدة الإبهام، أي زائدة في شياعها وفي الشاذ، تأكيداً للقضاء، كأنه قال: أي الأجلين صممت على قضائهوجردت عزيمتي له؟ وقرأ أبو حيوة، وابن قطيب: فلا عدوان، بكسر العين. قال المبرد: قد علم أنه لا عدوان عليهفي أتمهما، ولكن جمعهما، ليجعل الأول كالأتم في الوفاء. وقال الزمخشري: تصور العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هوأقصر، وهو المطالبة بتتمة العشر، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعاً؟ قلت: معناه: كما أني إن طولبت بالزيادة على العشر،كان عدواناً لا شك فيه، فكذلك إن طولبت في الزيادة على الثماني. أراد بذلك تقرير الخيار، وأنه ثابت مستقر، وأنالأجلين على السواء، إما هذا، وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء. وأما التتمة فموكولة إلى رأيي، إن شئتأتيت بها وإلا لم أجبر عليها. وقيل: معناه فلا أكون متعدياً، وهو في نفي العدوان عن نفسه، كقولك: لا إثمعليّ ولا تبعة. انتهى، وجوابه الأول فيه تكثير. {وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ }: أي على ما تعاهدنا عليه وتواثقنا، {وَكِيلٌ}: أي شاهد. وقال قتادة: حفيظ. وقال ابن شجرة: رقيب، والوكيل الذي وكل إليه الأمر، فلما ضمن معنى شاهد ونحوهعدى بعلى. {فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلاْجَلَ }: جاء على النبي ﷺ أنه وفي أطول الأجلين، وهوالعشر. وعن مجاهد: وفي عشر أو عشراً بعدها، وهذا ضعيف. {وَسَارَ بِأَهْلِهِ }: أي نحو مصر بلده وبلد قومه. والخلاففيمن تزوّج، الكبرى أم الصغرى، وكذلك في اسمها. وتقدّم كيفية مسيره، وإيناسه النار في سورة طه وغيرها. وقرأ الجمهور: جذوة،بكسر الجيم؛ والأعمش، وطلحة، وأبو حيوة، وحمزة: بضها؛ وعاص، غير الجعفي: بفتحها. {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ }: أي تتسخنون بها، إذ كانتليلة باردة، وقد أضلوا الطريق. {فَلَمَّا أَتَـٰهَا نُودِىَ مِن شَاطِىء ٱلْوَادِى ٱلايْمَنِ فِى ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يٰمُوسَىٰ* مُوسَىٰ إِنّى *أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰمُدْبِراً * مُوسَىٰ * أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ٱلاْمِنِينَ * ٱسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءوَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَـٰنِ مِن رَّبّكَ إِلَىٰ }. من، في: من شاطىء، لابتداء الغاية، ومن الشجرةكذلك، إذ هي بدل من الأولى، أي من قبل الشجرة. والأيمن: يحتمل أن يكون صفة للشاطىء وللوادي، على معنى اليمنوالبركة، أو الأيمن: يريد المعادل للعضو الأيسر، فيكون ذلك بالنسبة إلى موسى، لا للشاطىء، ولا للوادي، أي أيمن موسى فياستقباله حتى يهبط الوادي، أو بعكس ذلك؛ وكل هذه الأقوال في الأيمن مقول. وقرأ الأشهب العقيلي، ومسلمة: في البقعة، بفتحالباء. قالأبو زيد: سمعت من العرب: هذه بقعة طيبة، بفتح الباء، ووصفت البقعة بالبركة، لما خصت به من آيات اللهوأنواره وتكليمه لموسى عليه السلام، أو لما حوت من الأرزاق والثمار الطيبة. ويتعلق في البقعة بنودي، أو تكون في موضعالحال من شاطىء. والشجرة عناب، أو عليق، أو سمرة، أو عوسج، أقوال. وأن: يحتمل أن تكون حرف تفسير، وأن تكونمخففة من الثقيلة. وقرأت فرقة: {إِنّى أَنَاْ }، بفتح الهمزة، وفي إعرابه إشكال، لأن إن، إن كانت تفسيرية، فينبغي كسرإني، وإن كانت مصدرية، تتقدر بالمفرد، والمفرد لا يكون خبراً لضمير الشأن، فتخريج هذه القراءة على أن تكون إن تفسيرية،وإن معمول لمضمر تقديره: إني يا موسى أعلم إني أنا الله. وجاء في طه:

{ نُودِىَ يٰمُوسَىٰ * مُوسَىٰ إِنّى * أَنَاْ رَبُّكَ }

وفي النمل:

{ نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى ٱلنَّارِ }

وهنا: {نُودِىَ مِن شَاطِىء }،ولا منافاة، إذ حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء. والجمهور: على أنه تعالى كلمه في هذاالمقام من غير واسطة. وقال الحسن: ناداه نداء الوحي، لا نداء الكلام. وتقدم الكلام على نظير قوله: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَفَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ }، ثم أمره فقال: {ٱسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ }، وهو فتحالجبة من حيث تخرج الرأس، وكان كم الجبة في غاية الضيق. وتقدّم الكلام على: {تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء }وفسر الجناح هنا باليد وبالعضد وبالعطاف، وبما أسفل من العضد إلى الرسغ، وبجيب مدرعته. والرهب: الخوف، وتأتي القراءات فيه. وقيل:بفتح الراء والهاء: الكم، بلغة بني حنيفة وحمير، وسمع الأصمعي قائلاً يقول: اعطني ما في رهبك، أي في كمك، والظاهرحمل: {وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ } على الحقيقة. قال الثوري: خاف موسى أن يكون حدث به سوء، فأمرهتعالى أن يعيد يده إلى جيبه لتعود على حالتها الأولى، فيعلم موسى أنه لم يكن سوءاً بل آية من الله.وقال مجاهد، وابن زيد: أمره بضم عضده وذراعه، وهو الجناح، إلى جنبه، ليخف بذلك فزعه. ومن شأن الإنسان إذا فعلذلك في وقت فزعه أن يقوي قلبه. وقيل: لما انقلبت العصا حية، فزع موسى واضطرب، فاتقاها بيده، كما يفعل الخائفمن الشيء، فقيل له: أدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها، ثم أخرجها بيضاء لتظهر معجزة أخرى، وهذا القول بسطهالزمخشري، لأنه كالتكرار لقوله: {ٱسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ }. وقد قال هو والجناح هنا اليد، قال: لأن يدي الإنسان بمنزلةجناحي الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى، فقد ضم جناحه إليه. وقيل: المعنى إذا هالك أمر لما يغلبمن شعاعها، فاضممها إليك تسكن. وقالت فرقة: هو مجاز أمره بالعزم على ما أمره به، كما تقول العرب: أشدد حيازيمكواربط جأشك، أي شمر في أمرك ودع الرهب، وذلك لما كثر تخوفه وفزعه في غير موطن، قاله أبو علي، وكأنهطيره الفزع، وآلة الطيران الجناح. فقيل له: اسكن ولا تخف، وضم منشور جناحك من الخوف إليك، وذكر هذا القول الزمخشري،فقال والثاني أن يراد بضم جناحه إليه: تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية، حتى لا يضطرب ولا يرهب،استعارة من فعل الطائر، لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما، وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران. ومعنى {مِنَ ٱلرَّهْبِ }: منأجل الرهب، أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية، فاضمم إليك جناحك. جعل الرهب الذي كان يصيبه سبباً وعلة فيماأمر به من ضم جناحه إليه. ومعنى: {وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ }، وقوله: {ٱسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ } على أحد التفسيرينواحد، ولكن خولف بين العبارتين، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، وفيالثاني إخفاء الرهب. فإن قلت: قد جعل الجناح، وهو اليد، في أحد الموضعين مضموماً وفي الآخر مضموماً إليه، وذلك قوله:{وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ }،

{ وَٱضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ }

فما التوفيق بينهما؟ قلت: المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى،وبالمضموم إليه اليد اليسرى، وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح. ومن بدع التفاسير أن الرهب: الكم، بلغة حمير، وأنهميقولون: اعطني ما في رهبك؛ وليت شعري؛ كيف صحته في اللغة؟ وهل سمع من الأثبات الثقات التي ترضي عربيتهم؟ ثمليت شعري: كيف موقعه في الآية؟ وكيف يعطيه الفصل كسائر كلمات التنزيل؟ على أن موسى، صلوات الله عليه، ما كانعليه ليلة المناجاة إلاّ زرماتقة من صوف، لا كمين لها. انتهى. أما قوله: وهل سمع من الأثبات؟ وهذا مروي عنالأصمعي، وهو ثقة ثبت. وأما قوله: كيف موقعه من الآية؟ فقالوا: معناه أخرج يدك من كمك، وكان قد أخذ العصابالكم. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو: من الرهب، بفتح الراء والهاء؛ وحفص: بفتح الراء وسكون الهاء؛ وباقي السبعة: بضم الراء وإسكانالهاء. وقرأ قتادة، والحسن، وعيسى، والجحدري: بضمهما. {فَذَانِكَ }: شارة إلى العصا واليد، وهما مؤنثتان، ولكن ذكرا لتذكير الخبر،كما أنه قد يؤنث المذكر لتأنيث الخبر، كقراءة من قرأ: ثم لم يكن فتنتهم إلا أن قالوا، بالياء في تكن.{بُرْهَانَـٰنِ }: حجتان نيرتان. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: فذانك، بتشديد النون؛ وباقي السبعة: بتخفيفها. وقرأ ابن مسعود، وعيسى، وأبونوفل، وابن هرمز، وشبل: فذانيك، بياء بعد النون المكسورة، وهي لغة هذيل. وقيل: بل لغة تميم، ورواها شبل عن ابنكثير، وعنه أيضاً: فذانيك، بفتح النون قبل الياء، على لغة من فتح نون التثنية، نحو قوله

: على أحوذيين استقلت عشية©†    

وقرأ ابن مسعود: بتشديد النون مكسورة بعدها ياء. قيل: وهي لغة هذيل. وقال المهدوي:بل لغتهم تخفيفها. و {إِلَىٰ فِرْعَوْنَ }: يتعلق بمحذوف دل عليه المعنى تقديره: اذهب إلى فرعون. {قَالَ رَبّ إِنّى قَتَلْتُمِنْهُمْ نَفْساً }: هو القبطي الذي وكزه فمات، فطلب من ربه ما يزداد به قوة، وذكر أخاه والعلة التي تكونله زيادة التبليغ. و {أَفْصَحُ }: يدل على أنه فيه فصاحة، ولكن أخوة أفصح. {فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ }: أي معيناً يصدقني،ليس المعنى أنه يقول لي: صدقت، إذ يستوي في قول هذا اللفظ العيي والفصيح، وإنما المعنى: أنه لزيادة فصاحته يبالغفي التبيان، وفي الإجابة عن الشبهات، وفي جداله الكفار. وقرأ الجمهور: ردأ، بالهمزة؛ وأبو جعفر، ونافع، والمدنيان: بحذف الهمزة ونقلحركتها إلى الدال؛ والمشهور عن أبي جعفر بالنقل، ولا همز ولا تنوين، ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف. وقرأ عاصم،وحمزة: يصدقني، بضم القاف، فاحتمل الصفة لردأ، والحال احتمل الاستئناف وقرأ باقي السبعة: بالإسكان. وقرأ أبي، وزيد بن علي: يصدقوني،والضمير لفرعون وقومه. قال ابن خالويه: هذا شاهد لمن جزم، لأنهلو كان رفعاً لقال: يصدقونني. انتهى، والجزم على جواب الأمر.والمعنى في يصدقوني: أرجو تصديقهم إياي، فأجابه تعالى إلى طلبته وقال: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ }. وقرأ زيد بن علي،والحسن: عضدك، بضمتين. وعن الحسن: بضم العين وإسكان الضاد. وعن بعضهم: بفتح العين وكسر الضاد؛ وفتحهما، قرأ به عيسى، ويقالفيه: عضد، بفتح العين وسكون الضاد، ولا أعلم أحداً قرأ به. والعضد: العضو المعروف، وهي قوام اليد، ويشدتها يشتد. قالالشاعر

أبني لبيني لستما بيد     إلا يداً ليست لها عضد

والمعنى فيه:سنقويك بأخيك. ويقال في الخير: شد الله عضدك، وفي الشر: فتّ الله في عضدك. والسلطان: الحجة والغلبة والتسليط. {فَلاَ يَصِلُونَإِلَيْكُمَا }: أي بسوء، أو إلى إذايتكما. ويحتمل {بِـئَايَـٰتِنَا } أن يتعلق بقوله: ويجعل، أو بيصلون، أو بالغالبون، وإن كانموصولاً على مذهب من يجوز عنده أن يتقدم الظرف والجار والمجرور على صلة أل، وإن كان عنده موصولاً على سبيلالاتساع، أو بفعل محذوف، أي اذهبا بآياتنا. كما علق في تسع آيات باذهب، أو على البيان، فالعامل محذوف، وهذه أعاريبمنقولة. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون قسماً جوابه {فَلاَ يَصِلُونَ } مقدماً عليه، أو من لغو القسم. انتهى. أما أنهقسم جوابه {فَلاَ يَصِلُونَ }، فإنه لا يستقيم على قول الجمهور، لأن جواب القسم لا تدخله الفاء. وأما قوله: أومن لغو القسم، فكأنه يريد والله أعلم. إنه لم يذكر له جواب، بل حذف لدلالة عليه، أي بآياتنا لتغلبن.{فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَىٰ بِـئَايَـٰتِنَا بَيّنَـٰتٍ قَالُواْ مَا هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ءابَائِنَا ٱلاْوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَىٰرَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِٱلْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَـٰقِبَةُ ٱلدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ * وَقَالَ }.{بِـئَايَـٰتِنَا }: هي العصا واليد. {بَيّنَـٰتٍ }: أي واضحات الدلالة على صدقه، وأنه أمر خارق معجز، كفوا عن مقاومته ومعارضته،فرجعوا إلى البهت والكذب، ونسبوه إلى أنه سحر، لأنهم يرون الشيء على حالة، ثم يرونه على حالة أخرى، ثم يعودإلى الحالة الأولى، فزعموا أنه سحر يفتعله موسى ويفتريه على الله، فليس بمعجز. ثم مع دعواهم أنه سحر مفترى، وكذبهمفي ذلك، أرادوا في الكذب أنهم ما سمعوا بهذا في آبائهم، أي في زمان آبائهم وأيامهم. وفي آبائنا: حال، أيبهذا، أي بمثل هذا كائناً في أيام آبائنا. وإذا نفوا السماع لمثل هذا في الزمان السابق، ثبت أن ما ادّعاهموسى هو بدع لم يسبق إلى مثله، فدل على أنه مفترى على الله، وقد كذبوا في ذلك، وطرق سمعهم أخبارالرسل السابقين موسى في الزمان. ألا ترى إلى قول مؤمن من آل فرعون:

{ وَلَقَدْ جَاءكُـمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِٱلْبَيّنَـٰتِ }

ولما رأى موسى ما قابلوه به من كون ما أتى به سحراً، وانتفاء سماع مثله في الزمان السابق،{قَالَ مُوسَىٰ * رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِٱلْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ }، حيث أهله للرسالة، وبعثه بالهدى، ووعده حسن العقبي، ويعنيبذلك نفسه، ولو كان كما يزعمون لم يرسله. ثم نبه على العلة الموجبة لعدم الفلاح، وهي الظلم. وضع الشيء غيرموضعه، حيث دعوا إلى الإيمان بالله، وأتوا بالمعجزات، فادعوا الإلهية، ونسبوا ذلك المعجز إلى السحر. وعاقبة الدار، وإن كانت تصلحللمحمودة والمذمومة، فقد كثر استعمالها في المحمودة، فإن لم تقيد، حملت عليها. ألاترى إلى قوله:

{ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ * جَنَّـٰتِ عَدْنٍ }

وقال:

{ وَسَيَعْلَمُ ٱلْكُفَّـٰرُ لِمَنْ عُقْبَى ٱلدَّارِ }

وقرأ ابن كثير: قال موسى، بغير واو؛ وباقيالسبعة: بالواو. ومناسبة قراءة الجمهور أنه لما جاءهم بالبينات قالوا: كيت وكيت، وقال موسى: كيت وكيت؛ فيتميز الناظر فصل مابين القولين وفساد أحدهما، إذ قد تقابلا، فيعلم يقيناً أن قول موسى هو الحق والهدى. ومناسبة قراءة ابن كثير، أنهموضع قراءة لما قالوا: كيت وكيت، قال موسى: كيت وكيت. ونفى فرعون علمه بإله غيره للملأ، ويريد بذلك نفي وجوده،أي ما لكم من إله غيري. ويجوز أن يكون غير معلوم عنده إله لهم، ولكنه مظنون، فيكون النفي على ظاهره،ويدل على ذلك قوله: {وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ }، وهو الكاذب في انتفاء علمه بإله غيره. ألا ترى إلى قولهحالة غرقه:

{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا * إِسْرٰءيلَ }

واستمر فرعون في مخرقته، ونادىوزيره هامان، وأمره أن يوقد النار على الطين. قيل: وهو أول من عمل الآجر، ولم يقل: أطبخ الآخر، لأنه لميتقدم لهامان علم بذلك، ففرعون هو الذي يعلمه ما يصنع. {فَٱجْعَل لّى صَرْحاً }: أي ابن لي، لعل أطلعإلى إله موسى. أوهم قومه أن إله موسى يمكن الوصول إليه والقدرة عليه، وهو عالم متيقن أن ذلك لا يمكنله؛ وقومه لغباوتهم وجهلهم وإفراط عمايتهم، يمكن ذلك عندهم، ونفس إقليم مصر يقتضي لأهله تصديقهم بالمستحيلات وتأثرهم للموهمات والخيالات، ولايشك أنه كان من قوم فرعون من يعتقد أنه مبطل في دعواه، ولكن يوافقه مخافه سطوه واعتدائه. كما رأيناه يعرضلكثير من العقلاء، إذا حدث رئيس بحضرته بحديث مستحيل، يوافقه على ذلك الحديث. ولا يدل الأمر ببناء الصرح علىأنه بني، وقد اختلف في ذلك، فقيل: بناه، وذكر من وصفه بما الله أعلم به. وقيل: لم يبن. واطلع فيمعنى: اطلع، يقال: طلع إلى الجبل واطلع بمعنى واحد، أي صعد، فافتعل فيه بمعنى الفعل المجرد وبغير الحق، إذ ليسلهم ذلك، فهم مبطلون في استكبارهم، حيث ادعى الإلهية ووافقوه على ذلك؛ والكبرياء في الحقيقة إنما هو الله. وقرأ حمزة،والكسائي، ونافع: لا يرجون، مبنياً للفاعل؛ والجمهور: مبنياً للمفعول. والأرض هنا أرض مصر. {فَنَبَذْنَـٰهُمْ فِى ٱلْيَمّ }: كناية عن إدخالهمفي البحر حتى غرقوا، شبهوا بحصيات. قذفها الرامي من يده، ومنه نبذ النواة، وقول الشاعر

: نظرت إلى عنوانه فنبذته     كنبذك نعلاً من نعالك باليا

وقوم فرعون وفرعون، وإن ساروا إلى البحر باختيارهم في طلببني إسرائيل، فإن ما ضمهم من القدر السابق، وإغراقهم في البحر، هو نبذ الله إياهم. وجعل هنا بمعنى: صبر، أيصيرناهم أئمة قدوة للكفار يقتدون بهم في ضلالتهم، كما أن للخير أئمة يقتدى بهم، اشتهروا بذلك وبقي حديثهم. وقال الزمخشري:وجعلناهم: دعوناهم، أئمة: دعاة إلى النار، وقلنا: إنهم أئمة دعاة إلى النار، وهو من قولك: جعله بخيلاً وفاسقاً إذا دعاهفقال: إنه بخيل وفاسق. ويقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله: جعله بخيلاً وفاسقاً، ومنه قوله عز وجل:

{ وَجَعَلُواْ ٱلْمَلَـئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَـٰثاً }

ومعنى دعوتهم إلى النار: دعوتهم إلى موجباتها من الكفر. انتهى. وإنما فسر جعلناهمبمعنى دعوناهم، لا بمعنى صيرناهم، جرياً على مذهبه من الاعتزال، لأن في تصييرهم أئمة، خلق ذلك لهم. وعلى مذهب المعتزلة،لا يجوّزون ذلك من الله، ولا ينسبونه إليه، قال: ويجوز خذلناهم حتى كانوا أئمة الكفر، ومعنى الخذلان: منع الإلطاف، وإنمايمنعها من علم أنه لا ينفع فيه، وهو المصمم على الكفر، الذي لا تغني عنه الآيات والنذر. انتهى، وهو علىطريقة الاعتزال أيضاً. {لَّعْنَةُ }: أي طرداً وإبعاداً، وعطف يوم القيامة على: {فِى هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا }. {مّنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ }، قالأبو عبيدة: من الهالكين. وقال ابن عباس: من المشوهين الخلقة، لسواد الوجوه وزرقة العيون. وقيل: من المبعدين. ولما ذكرتعالى ما آل إليه فرعون وقومه من غضب الله عليهم وإغراقه، ذكر ما امتن به على رسوله موسى عليه السلامفقال: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَـٰبَ }، وهو التوراة، وهو أول كتاب أنزلت فيه الفرائص والأحكام. {مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَٱلاْولَىٰ }: قوم نوح وهود وصالح ولوط، ويقال: لم تهلك قرية بعد نزول التوراة غير القرية التي مسخ أهلها قردة.وانتصب بصائر على الحال، أي طرائق هدي يستبصر بها. {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِىّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى ٱلاْمْرَ وَمَاكنتَ مِنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو * عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُوَمَا كُنتَ ثَاوِياً * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ ٱلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـٰكِن رَّحْمَةً مّن رَّبِكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَـٰهُم مّن نَّذِيرٍمّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ }. لما قص الله تعالى من أنباء موسى وغرائب ما جرى له من الحمل به فيوقت ذبح الأبناء، ورميه في البحر في تابوت، ورده إلى أمّه، وتبني فرعون له، وإيتائه الحكم والعلم، وقتله القبطي، وخروجهمن منشئه فاراً، وتصاهره مع شعيب، ورعيه لغنمه السنين الطويلة، وعوده إلى مصر، وإضلاله الطريق، ومناجاة الله له، وإظهار تينكالمعجزتين العظيمتين على يديه، وهي العصا واليد، وأمره بالذهاب إلى فرعون، ومحاورته معه، وتكذيب فرعون وإهلاكه وإهلاك قومه، والامتنان علىموسى بإيتائه التوراة؛ وأوحى تعالى بجميع ذلك إلى محمد رسوله ﷺ؛ ذكره بإنعامه عليه بذلك، وبما خصهمن الغيوب التي كان لا يعلمها لا هو ولا قومه فقال: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِىّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى ٱلاْمْرَ}. والأمر، قيل: النبوّة والحكم الذي آتاه الله موسى. وقيل: الأمر: أمر محمد عليه السلام أن يكون من أمته،وهذا التأويل يلتئم معه ما بعده من قوله: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً }. وقيل: الأمر: هلاك فرعون بالماء، ويحمل بجانب الغربىعلى اليم، وبدأ أولاً بنفي شيء خاص، وهو أنه لم يحضر وقت قضاء الله لموسى الأمر، ثم ثنى بكونه لميكن من الشاهدين. والمعنى، والله أعلم؛ من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به، فهو نفي لشهادته جميع ما جرى لموسى، فكانعموماً بعد خصوص. وبجانب الغربي: من إضافة الموصوف إلى صفته عند قوم، ومن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه عند قوم.فعلى القول الأول أصله بالجانب الغربي، وعلى الثاني أصله بجانب المكان الغربي، والترجيح بين القولين مذكور في النحو. والغربي، قالقتادة: غربي الجبل، وقال الحسن: بعث الله موسى بالغرب، وقال أبو عبيدة: حيث تغرب الشمس والقمر والنجوم. وقيل: هنا جبلغربي. وقيل: الغربي من الوادي، وقيل: من البحر. قال ابن عطية: المعنى: لم تحضر يا محمد هذه الغيوب التي تخبربها، ولكنها صارت إليك بوحينا، أي فكان الواجب أن يسارع إلى الإيمان بك، ولكن تطاول الأمر على القرون التي أنشأناهازمناً زمناً، فعزبت حلومهم، واستحكمت جهالتهم وضلالتهم. وقال الزمخشري: الغرب: المكان الواقع في شق الغرب، وهو المكان الذي وقع فيهميقات موسى من الطور، وكتب الله له في الألواح. والأمر المقضي إلى موسى: الوحي الذي أوحى إليه. والخطاب لرسول اللهﷺ، يقول: وما كنت حاضراً المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى، ولا كنت من جملة الشاهدين للوحيإليه، أو على الوحي إليه، وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات، حتى نقف من جملة المشاهدة على ما جرى من أمرموسى في ميقاته، وكتب التوراة له في الألواح، وغير ذلك. فإن قلت: كيف يتصل قوله: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً } بهذاالكلام، ومن أي جهة يكون استدراكاً؟ قلت: اتصاله به وكونه استدراكاً من حيث أن معناه: ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحيإلى عهدك قروناً كثيرة، فتطاول على آخرهم، وهو القرن الذي أنت فيهم. {ٱلْعُمُرُ }: أي أمد انقطاع الوحي، واندرستالعلوم، فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وكسبناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى، كأنه قال: وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه،ولكنا أوحيناه إليك، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة النظرة، ودل به على المسبب على عادة الله في اختصاره. فإذن،هذا الاستدراك شبيه للاستدراكين بعده. {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً }: أي مقيماً في أهل مدين، هم شعيب والمؤمنون. {تَتْلُو عَلَيْهِمْ *ءايَـٰتِنَا }: تقرأ عليهم تعلماً منهم، يريد الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه. ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها. {إِذْ نَادَيْنَا}، يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه، ولكن علمناك. وقيل: {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ }، وفترت النبوة، ودرست الشرائع، وحرف كثيرمنها؛ وتمام الكلام مضمر تقديره: وأرسلناك مجدداً لتلك الأخبار، مميزاً للحق بما اختلف فيه منها، رحمة منا. وقيل: يحتمل أنيكون المعنى: وما كنت من الشاهدين في ذلك الزمان، وكانت بينك وبين موسى قرون تطاولت أعمارهم، وأنت تخبر الآن عنتلك الأحوال أخبار مشاهدة وعيان بإيحائنا، معجزة لك. وقيل: تتلو حال، وقيل: مستأنف، أي أنت الآن تتلو قصة شعيب، ولكناأرسلناك رسولاً، وأنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار المنسية تتلوها عليهم، ولولاك ما أخبرتهم بما لم يشاهدوه. وقال الفراء:{وَمَا كُنتَ ثَاوِياً } في أيهل مدين مع موسى، فتراه وتسمع كلامه، وها أنت {تَتْلُو عَلَيْهِمْ * ءايَـٰتِنَا }: أيعلى أمتك، فهو منقطع. انتهى. قيل: وإذا لم يكن حاضراً في ذلك المكان، فما معنى: {وَمَا كنتَ مِنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ }؟فقال ابن عباس: التقدير: لم تحضر ذلك الموضع، ولو حضرت، فما شاهدت تلك الوقائع، فإنه يجوز أن يكون هناك: ولايشهد ولا يرى. وقال مقاتل: لم يشهد أهل مدين فيقرأ على أهل مكة خبرهم، ولكنا أرسلناك إلى أهل مكة، وأنزلناإليك هذه الأخبار، ولولا ذلك ما علمت. وقال الضحاك: يقول إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين، تتلوعليهم آيات الكتاب، وإنما كان غيرك، ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولاً، فأرسلنا إلى مدين شعيباً، وأرسلناك إلى العربلتكون خاتم الأنبياء. انتهى. وقال الطبري: {إِذْ نَادَيْنَا } بأن:

{ سأكتبها لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ }

وعن أبي هريرة: أنهنودي من السماء حينئذ يا أمة محمد استجبت لكم قبل أن تدعوني، وغفرت لكم قبل أن تسألوني، فحينئذ قال موسىعليه السلام: اللهم اجعلني من أمة محمد. فالمعنى: إذ نادينا بأمرك، وأخبرناك بنبوتك. وقرأ الجمهور: {رَحْمَةً }، بالنصب، فقدر: ولكنجعلناك رحمة، وقدر أعلمناك ونبأناك رحمة. وقرأ عيسى، وأبو حيوة: بالرفع، وقدر: ولكن هو رحمة، أو هو رحمة، أو أنترحمة. {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَـٰهُم مّن نَّذِيرٍ }: أي في زمن الفترة بينك وبين عيسى، وهو خمسمائة وخمسون عاماً ونحوه.وجواب {لَوْلاَ } محذوف. والمعنى: لولا أنهم قائلون، إذ عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي، هلا أرسلت إلينا رسولاً؟ لولاأنهم قائلون، إذ عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي، هلا أرسلت إلينا رسولاً؟ محتجين بذلك علينا ما أرسلنا إليهم: أيإنما أرسلنا الرسل إزالة لهذا العذر، كما قال:

{ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ }

أن

{ تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ }

وتقدير الجواب: ما أرسلنا إليهم الرسل، هو قول الزجاج. وقال ابن عطية:تقديره: لعاجلناهم بما يستحقونه. والمصيبة: العذاب. ولما كان أكثر الأعمال تزاول بالأيدي، عبر عن كل عمل باجتراح الأيدي، حتى أعمالالقلوب، اتساعاً في الكلام، وتصيير الأقل تابعاً للأكثر، وتغليب الأكثر على الأقل. والفاء في {فَيَقُولُواْ } للعطف على نصيبهم، ولولاالثانية للتحضيض. وفنتبع: الفاء فيه جواب للتحضيض. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف استقام هذا المعنى، وقد جعلت العقوبة هيالسبب في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟ قلت: القول هو المقصود بأن يكون سبباً لإرسال الرسل، ولكنالعقوبة، لما كانت هي السبب للقول، فكان وجوده بوجودها، جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول، فأدخلت عليها لولا، وجيءبالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السببية، ويؤول معناها إلى قولك: ولولا قولهم هذا،

{ إِذَا أَصَـٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ }

لماأرسلنا، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة، وهو أنهم لم يعاقبوا مثلاً على كفرهم، وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلماليقين. لم يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولاً، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير، لا التأسف على مافاتهم من الإيمان بخالقهم. وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخهم فيه ما لا يخفى، كقولهم:

{ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَـٰدُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ }

. انتهى. {وَٱلْحَقَّ }: هو الرسول، محمد ﷺ، جاء بالكتابالمعجز الذي قطع معاذيرهم. وقيل: القرآن، {مِثْلَ مَا أُوتِىَ مُوسَىٰ }. {مِن قَبْلُ }: أي من قبل الكتاب المنزل جملةواحدة، وانقلاب العصا حية، وفلق البحر، وغيرها من الآيات. اقترحوا ذلك على سبيل التعنت والعناد، كما قالوا: لولا أنزل عليهكنز، وما أشبه ذلك من المقترحات لهم. وهذه المقالة التي قالوها هي من تعليم اليهود لقريش، قالوا لهم. ألا يأتيبآية باهرة كآيات موسى، فرد الله عليهم بأنهم كفروا بآيات موسى، وقد وقع منهم في آيات موسى ما وقع منهؤلاء في آيات الرسول. فالضمير في: {أَوَ لَمْ * يَكْفُرُواْ } لليهود، قاله ابن عطية: وقيل: قائل ذلك العرب بالتعليم،كما قلنا. وقيل: قائل ذلك اليهود، ويظهر عندي أنه عائد على قريش الذين قالوا: {لَوْلا أُوتِىَ }: أي محمد، {مَاأُوتِىَ مُوسَىٰ }، وذلك أن تكذيبهم لمحمد ﷺ تكذيب لموسى عليه السلام، ونسبتهم السحر للرسول نسبة السحرلموسى، إذ الأنبياء هم من وادٍ واحد. فمن نسب إلى أحد من الأنبياء ما لا يليق، كان ناسباً ذلك إلىجميع الأنبياء. وتتناسق الضمائر كلها في هذا، في قوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَـٰبٍ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ } وإن كان الظاهر منالقول إنه النطق اللساني، فقد ينطلق على الاعتقاد وهم من حيث إنكار النبوات، معتقدون أن ما ظهر على أيدي الأنبياءمن الآيات إنما هو من باب السحر. وقال الزمخشري: {أَوَ لَمْ * يَكْفُرُواْ }، يعني آباء جنسهم، ومن مذهبهممذهبهم، وعنادهم عنادهم، وهم الكفرة في زمن موسى {بِمَا أُوتِىَ مُوسَىٰ }. وعن الحسن: قد كان للعرب أصل في أيامموسى، فمعناه على هذا: أو لم يكفر آباؤهم؟ قالوا في موسى وهارون: {وَإِن تَظَاهَرَا }، أي تعاوناً. انتهى. ومن قبل:يحتمل أن يتعلق بيكفروا، وبما أوتي. وقرأ الجمهور: ساحران. قال مجاهد: موسى وهارون. وقال الحسن: موسى وعيسى. وقال ابن عباس:موسى ومحمد ﷺ. وقال الحسن أيضاً: عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وقرأ عبد الله، وزيد بن علي،والكوفيون: سحران. قال ابن عباس: التوراة والقرآن. وقيل: التوراة والإنجيل، أو موسى وهارون جعلا سحرين على سبيل المبالغة. {تَظَاهَرَا }:تعاونا. قرأ الجمهور: تظاهرا: فعلاً ماضياً على وزن تفاعل. وقرأ طلحة، والأعمش: اظاهرا، بهمزة الوصل وشد الظاء، وكذا هي فيحرف عبد الله، وأصله تظاهرا، فأدغم التاء في الظاء، فاجتلبت همزة الوصل لأجل سكون التاء المدغمة. وقرأ محبوب عن الحسن،ويحيى بن الحارث الذماري، وأبو حيوة، وأبو خلاد عن اليزيدي: تظاهرا بالتاء، وتشديدالظاء. قال ابن خالويه: وتشديده لحن لأنه فعلماض، وإنما يشدد في المضارع. وقال صاحب اللوامح: ولا أعرف وجهه. وقال صاحب الكامل في القراءات: ولا معنى له. انتهى.وله تخريج في اللسان، وذلك أنه مضارع حذفت منه النون، وقد جاء حذفها في قليل من الكلام وفي الشعر، وساحرانخبر مبتدأ محذوف تقديره: أنتما ساحران تتظاهران؛ ثم أدغمت التاء في الظاهر وحذفت النون، وروعي ضمير الخطاب. ولو قرىء: يظاهرا،بالياء، حملاً على مراعاة ساحران، لكان له وجه، أو على تقدير هما ساحران تظاهرا. {وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلّ كَـٰفِرُونَ }:أي بكل من الساحرين أو السحرين، ثم أمره تعالى أن يصدع بهذه الآية، وهي قوله: {قُلْ فَأْتُواْ }: أي أنتمأيها المكذبون، بهذه الكتب التي تضمنت الأمر بالعبادات ومكارم الأخلاق، ونهت عن الكفر والنقائص، ووعد الله عليها الثواب الجزيل. إنكان تكذيبكم لمعنى {فَأْتُواْ بِكِتَـٰبٍ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ } يهدي أكثر من هدي هذه، أتبعه معكم. والضمير في منها عائدعلى ما أنزل على موسى، وعلى محمد صلى الله عليهما وسلم، وتعليق إتيانهم بشرط الصدق أمر متحقق متيقن، أنه لايكون ولا يمكن صدقهم، كما أنه لا يمكن أن يأتوا بكتاب من عند الله يكون أهدى من الكتابين. ويجوز أنيراد بالشرط التهكم بهم. وقرأ زيد بن علي: أتبعه، برفع العين الاستئناف، أ ي أنا أتبعه. {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ}، قال ابن عباس: يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج، ولم يمكنهم أن يأوا بكتاب هو أفضل،والاستجابة تقتضي دعاء، وهو ﷺ يدعو دائماً إلى الإيمان، أي فإن لم يستجيبوا لك بعدما وضح لهممن المعجزات التي تضمنها كتابك الذي أنزل، أو يكون قوله: {فَأْتُواْ بِكِتَـٰبٍ }، هو الدعاء إذ هو طلب منهم ودعاءلهم بأن يأتوا به. ومعلوم أنهم لا يستجيبون لأن يأتوا بكتاب من عند الله، فاعلم أنه ليس لهم إلا اتباعهوى مجردغ، لا اتباع دليل. واستجاب: بمعنى أجاب، ويعدى للداعي باللام ودونها، كما قال:

{ فَٱسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ }

{ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ }

{ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ * لَكُمْ }

وقال الشاعر

: فلم يستجبه عند ذاك مجيب    

فعداه بغير لام. وقال الزمخشري: هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء وإلى الداعي باللام،ويحذف الدعاء إذا عدى إلى الداعي في الغالب، فيقال: استجاب الله دعاءه، واستجاب له، فلا يكاد يقال استجاب له دعاءه.وأما البيت فمعناه: فلم يستجب دعاء، على حذف المضاف. انتهى. {وَمَنْ أَضَلُّ }: أي لا أحد أضل، و {بِغَيْرِ هُدًى}: في موضع الحال، وهذا الحال قيد في اتباع الهوى، لأنه قد يتبع الإنسان ما يهواه، ويكون ذلك الذي يهواهفيه هدى من الله، لأن الأهواء كلها تنقسم إلى ما يكون فيه هدى وما لا يكون فيه هدى، فلذلك قيدبهذه الحال. وقال الزمخشري: يعني مخذولاً مخلى بينه وبين هواه. انتهى، وهو على طريق الاعتزال. {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَلَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّمِن رَّبّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَـئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ * صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيّئَةَ وَمِمَّارَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَـٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـٰلُكُمْ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى ٱلْجَـٰهِلِينَ * إِنَّكَلاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ * وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْأَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقاً مّن لَّدُنَّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }.قرأ الجمهور: {وَصَّلْنَا }، مشدد الصاد؛ والحسن: بتخفيفها، والضمير في لهم لقريش. وقال رفاعة القرظي: نزلت في عشرة من اليهود،أنا أحدهم. قال الجمهور: وصلنا: تابعنا القرآن موصولاً بعضه ببعض في المواعظ والزجر والدعاء إلى الإسلام. وقال الحسن: وفي ذكرالأمم المهلكة. وقال مجاهد: جعلناه أوصالاً من حيث كان أنواعاً من القول في معان مختلفة. وقال ابن زيد: وصلنا لهمخبر الآخرة بخبر الدنيا، حتى كأنهم عاينوا الآخرة. وقال الأخفش: أتممنا لوصلك الشيء بالشيء، وأصل التوصل في الحبل، يوصل بعضهببعض. وقال الشاعر

: فقل لبني مروان ما بال ذمتي     بحبل ضعيف لا يزال يوصل

وهذه الأقوال معناها: توصيل المعاني فيه بها إليهم. وقالت فرقة: التوصيل بالنسبة إلى الألفاظ، أي وصلنا لهم قولاً معجزاًدالاً على نبوتك. وأهل الكتاب هنا جماعة من اليهود أسلمت، وكان الكفار يؤذونهم. أو بحيرا الراهب، أو النجاشي، أو سلمانالفارسي. وابن سلام، وأبو رفاعة، وابنه في عشرة من اليهود أسلموا. أو أربعون من أهل الإنجيل كانوا مؤمنين بالرسول قبلمبعثه، اثنان وثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب، وثمانية قدموا من الشام: بحيرا، وأبرهة، وأشرف، وأربد، وتمام،وإدريس، ونافع، ورادأ ابن سلام، وتميم الداري، والجارود العبدي، وسلمان، سبعة أقوال آخرها لقتادة. والظاهر أنها أمثلة لمن آمن منهم،والضمير في به عائد على القول، وهو القرآن. وقال الفراء: عائد على الرسول، وقال أيضاً: إن عاد على القرآن، كانصواباً، لأنهم قد قالوا: إنه الحق من ربنا. انتهى. {إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّنَا }: تعليل للإيمان به، لأن كونهحقاً من الله حقيق بأن نؤمن به. {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ }: بيان لقوله: {بِهِ إِنَّهُ }، أي إيماننابه متقادم، إذ كان الآباء الأقدمون إلى آبائنا قرأوا ما في الكتاب الأول، وأعلموا بذلك الأبناء، فنحن مسلمون من قبلنزوله وتلاوته علينا، والإسلام صفة كل موحد مصدق بالوحي. وإيتاء الأجر مرتين، لكونه آمن بكتابه وبالقرآن؛ وعلل ذلك بصبرهم: أيعلى تكاليف الشريعة السابقة لهم، وهذه الشريعة وما يلقون من الأذى. وفي الحديث: ثلاثة يؤتيهم الله أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي الحديث. {*ويدرأون}: يدفعون، {وَيَدْرَءونَ بِٱلْحَسَنَةِ }: بالطاعة، {ٱلسَّيّئَةُ }: المعصية المتقدمة، أوبالحلم الأذى، وذلك من مكارم الأخلاق. وقال ابن مسعود: يدفعون بشهادة أن لا إله إلاّ الله الشرك. وقال ابن جبير:بالمعروف المنكر. وقال ابن زيد: بالخير الشر. وقال ابن سلام: بالعلم الجهل، وبالكظم الغيظ. وفي وصية الرسول صلى الله عليهوسلم، لمعاذ: أتبع السيئة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن و {ٱللَّغْوَ }: سقط القول. وقال مجاهد: الأذى والسب.وقال الضحاك: الشرك. وقال ابن زيد: ما غيرته اليهود من وصف الرسول، سمعه قوم منهم، فكرهوا ذلك وأعرضوا. {وَلَكُمْ أَعْمَـٰلُكُمْ}: خطاب لقائل اللغو المفهوم ذلك من قوله: {وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ }. {سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ }، قال الزجاج:سلام متاركة لإسلام تحية. {لاَ نَبْتَغِى ٱلْجَـٰهِلِينَ }: أي لا نطلب مخالطتهم. {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى } من أحببت: أي لاتقدر على خلق الهداية فيه، ولا تنافي بين هذا وبين قوله:

{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ }

لأن معنىهذا: وإنك لترشد. وقد أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب، وحديثه مع رسول الله ﷺ،حالة أن مات، مشهور. وقال الزمخشري: لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت، لأنك لا تعلم المطبوع علىقلبه من غيره، ولكن الله يدخل في الإسلام من يشاء، وهو الذي علم أنه غير مطبوع على قلبه، وأن الألطافتنفع فيه، فتقرب به ألطافه حتى يدعوه إلى القبول. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ }: بالقابلين من الذين لا يقبلون. انتهى، وهوعلى طريقة الاعتزال في أمر الألطاف. وقالوا: الضمير في وقالوا لقريش. وقيل، القائل الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبدمناف: إنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب، فذلك وإنما نحن أكلة رأس، أي قليلون أن يتخطفونا منأرضنا. وقولهم: {ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ }: أي على زعمك، فقطع الله حجتهم، إذ كانوا، وهم كفار بالله، عباد أصنام قدأمنوا في حرمهم، والناس في غيره يتقاتلون، وهم مقيمون في بلد غير ذي زرع، يجيء إليهم ما يحتاجون من الأقوات،فكيف إذا آمنوا واهتدوا؟ فهو تعالى يمهد لهم الأرض ويملكهم الأرض، كما وعدهم تعالى، ووقع على وعد به؛ ووصف الحرمبالأمن مجاز، إذ الآمنون فيه هم ساكنوه. و {ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء }: عام مخصوص، يراد به الكثرة. وقرأ المنقري: يتخطف،برفع الفاء، مثل قوله تعالى:

{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ }

برفع الكاف، أي فيدرككم، أي فهو يدرككم. وقوله: من يفعلالحسنات الله يشكرها: أي فيتخطف، وفالله يشكرها، وهو تخريج شذوذ. وقرأ نافع وجماعة، عن يعقوب؛ وأبو حاتم، عن عاصم: تجبى،بتاء التأنيث، والباقون بالياء. وقرأ الجمهور: ثمرات، بفتحتين؛ وأبان بن تغلب: بضمتين؛ وبعضهم: بفتح الثاء وإسكان الميم. وانتصب رزقاً علىأنه مصدر من المعنى، لأن قوله: {يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ }: أي برزق ثمرات، أو على أنه مفعول له، وفاعل الفعلالمعلل محذوف، أي نسوق إليه ثمرات كل شيء، وإن كان الرزق ليس مصدراً، بل بمعنى المرزوق، جاز انتصابه على الحالمن ثمرات، ويحسن لك تخصيصاً بالإضافة. و{أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }: أي جهلة، بأن ذلك الرزق هو من عندنا. {وَكَمْأَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَـٰكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوٰرِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَمُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا }. هذا تخويفلأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش،فعظموا النعمة، وقابلوها بالأشر والبطر، فدمرهم الله وخرب ديارهم. و {مَعِيشَتَهَا } منصوب على التمييز، على مذهب الكوفيين؛ أو مشبهبالمفعول، على مذهب بعضهم؛ أو مفعول به على تضمين {بَطِرَتْ } معنى فعل متعد، أي خسرت معيشتها، على مذهب أكثرالبصريين؛ أو على إسقاط في، أي في معيشتها، على مذهب الأخفش؛ أو على الظرف، على تقدير أيام معيشتها، كقولك: جئتخفوق النجم، على قول الزجاج. {فَتِلْكَ مَسَـٰكِنُهُمْ }: أشار إليها، أي ترونها خراباً، تمرون عليها كحجر ثمود، هلكوا وفنوا، وتقدمذكر المساكن. و {تُسْكَن }، فاحتمل أن يكون الاستثناء في قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً } من المساكن: أي إلاّ سكنى قليلاً،أي لم يسكنها إلاّ المسافر ومار الطريق. {وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوٰرِثِينَ }: أي لتلك المساكن وغيرها، كقوله:

{ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلاْرْضَ }

خلت من ساكنيها فخربت

. تتخلف الآثار عن أصحابها     حيناً ويدركها الفناء فتتبع

والظاهر أن القرى عامة في القرى التي هلكت، فالمعنى أنه تعالى لا يهلكها في كل وقت. حتى يبعثفي أم تلك القرى، أي كبيرتها، التي ترجع تلك القرى إليها، ومنها يمتارون، وفيها عظيمهم الحاكم على تلك القرى. {حَتَّىٰيَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً }، لإلزام الحجة وقطع المعذرة. ويحتمل أن يراد بالقرى: القرى التي في عصر الرسول، فيكون أمالقرى: مكة، ويكون الرسول: محمداً ﷺ، خاتم الأنبياء، وظلم أهلها: هو بالكفر والمعاصي. {وَمَا أُوتِيتُم مّن شَىْء}: أي حسن يسركم وتفخرون به، {فَمَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتُهَا }: تمتعون أياماً قلائل، {وَمَا عِندَ ٱللَّهِ }: من النعيمالدائم الباقي المعد للمؤمنين، {خَيْرٌ }. من متاعكم، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }: توبيخ لهم. وقرأ أبو عمرو: يعقلون، بالياء، إعراض عنخطابهم وخطاب لغيرهم، كأنه قال: انظروا إلى هؤلاء وسخافة عقولهم. وقرأ الجمهور: بالتاء من فوق، على خطابهم وتوبيخهم، في كونهمأهملوا العقل في العاقبة. ونسب هذه القراءة أبو علي في الحجة إلى أبي عمرو وحده، وفي التحرير والتحبير بين الياءوالتاء، عن أبي عمرو. وقرىء: متاعاً الحياة الدنيا، أي يمتعون متاعاً في الحياة الدنيا، فانتصب الحياة الدنيا على الظرف.{أَفَمَن وَعَدْنَـٰهُ }: يذكر تفاوت ما بين الرجلين من وعد، {وَعْداً حَسَناً }، وهو الثواب، فلاقاه، ومن متع في الحياةالدنيا، ثم أحضر إلى النار. وظاهر الآية العموم في المؤمن والكافر. قيل: ونزلت في الرسول ﷺ، وأبيجهل. وقيل: في حمزة وأبي جهل. وقيل: في عليّ وأبي جهل. وقيل: في عمار والوليد بن المغيرة. وقيل: نزلت فيالمؤمن والكافر، وغلب لفظ المحضر في المحضر إلى النار كقوله:

{ لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ }

{ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ }

والفاء في: {أَفَمَنِ }، للعطف، لما ذكر تفاوت ما بين ما أوتوا من المتاع والزينة، وما عند الله من الثواب،قال: أفبعد هذا التفاوت الظاهر يسوى بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا؟ والفاء في: {فَهُوَ لاَقِيهِ }، للتسبيب، لأن لقاء الموعودمسبب عن الوعد الذي هو الضمان في الخبر، وثم للتراخي حال الإحضار عن حال التمتع بتراخي وقته عن وقته. وقرأطلحة: أمن وعدناه، بغير فاء. {وَيَوْمَ يُنَـٰدِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُرَبَّنَا هَـؤُلاء ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَـٰهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ * وَقِيلَ }. لما ذكر أنالممتعين في الدنيا يحضرون إلى النار، ذكر شيئاً من أحوال يوم القيامة، أي واذكر حالهم يوم يناديهم الله، ونداؤه إياهميحتمل أن يكون بواسطة وبغير واسطة؛ {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ }؟ أي على زعمكم، وهذا الاستفهام على جهة التوبيخ والتقريع؛ والشركاءهم من عبدوه من دون الله، من ملك، أو جنّ، أو إنس، أو كوكب، أو صنم، أو غير ذلك. ومفعولاً{تَزْعُمُونَ } محذوفان، أحدهما العائد على الموصول، والتقدير: تزعمونهم شركاء. ولما كان هذا السؤال مسكتاً لهم، إذ تلك الشركاء التيعمدوها مفقودون، هم أوجدوا هم في الآخرة حادوا عن الجواب إلى كلام لا يجدي. {قَالَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ}: أي الشياطين، وأئمة الكفر ورؤوسه؛ وحق: أي وجب عليهم القول، أي مقتضاه، وهو قوله:

{ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ }

و {هَـؤُلاء }: مبتدأ، و {ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَا }: هم صفة، و {أَغْوَيْنَـٰهُمْ كَمَا غَوَيْنَا }: الخبر، و{كَمَا غَوَيْنَا }: صفة لمطاوع أغويناهم، أي فغووا كما غوينا، أي تسببنا لهم في الغي فقبلوا منا. وهذا الإعراب قالهالزمخشري. وقال أبو عليّ : ولا يجوز هذا الوجه، لأنه ليس في الخبر زيادة على ما في صفة المبتدأ. قال:فإن قلت: قد وصلت بقوله: {كَمَا غَوَيْنَا }، وفيه زيادة. قيل: الزيادة بالظرف لا تصيره أصلاً في الجملة، لأن الظروفصلات، وقال هو: {ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَا } هو الخبر، و {أَغْوَيْنَـٰهُمْ }: مستأنف. وقال غير أبي علي: لا يمتنع الوجه الأول،لأن الفضلات في بعض المواضع تلزم، كقولك: زيد عمرو قائم في داره. انتهى. والمعنى: هؤلاء أتباعنا آثروا الكفر على الإيمان،كما آثرناه نحن، ونحن كنا السبب في كفرهم، فقبلوا منا. وقرأ أبان، عن عاصم وبعض الشاميين: كما غوينا، بكسر الواو.قال ابن خالويه: وليس ذلك مختاراً، لأن كلام العرب: غويت من الضلالة، وغويت من البشم. ثم قالوا: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ }،منهم ما كانوا يعبدوننا، إنما عبدوا غيرنا، و {إِيَّانَا }: مفعول {يَعْبُدُونَ }، لما تقدّم الفصل، وانفصاله لكون يعبدون فاصلة،ولو اتصل، ثم لم يكن فاصلة. وقال الزمخشري: إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم؛ وإخلاء الجملتين من العاطف، لكونهما مقرونينلمعنى الجملة الأولى. انتهى. {وَقِيلَ ٱدْعُواْ شُرَكَاءكُمْ }: لما سئلوا ابن شركاؤكم وأجابوا بغير جواب، سئلوا ثانياً فقيل: ادعواشركاءكم، وأضاف الشركاء إليهم، أي الذين جعلتموهم شركاء لله. وقوله: {ٱدْعُواْ شُرَكَاءكُمْ }، على سبيل التهكم بهم، لأنه يعلم أنهلا فائدة في دعائهم، {فَدَعَوْهُمْ }، هذا لسخافة عقولهم في ذلك الموطن أيضاً، إذ لم يعلموا أن من كان موجوداًمنهم في ذلك الموطن لا يجيبهم، والضمير في {وَرَأَوُاْ }. قال الضحاك ومقاتل: هو للتابع والمتبوع، وجواب لو محذوف، والظاهرأن يقدر مما يدل عليه مما يليه، أي لو كانوا مؤمنين في الدنيا، ما رأوا العذاب في الآخرة. وقيل: التقدير:لو كانوا مهتدين بوجه من وجوه الحيل، لدفعوا به العذاب. وقيل: لعلموا أن العذاب حق. وقيل: لتحيروا عند رؤيته منفظاعته، وإن لم يعذبوا به، وقيل: ما كانوا في الدنيا عابدين الأصنام. وقال أبو عبد الله الرازي: وعندي أن الجوابغير محذوف، وفي تقريره وجوه: أحدها: أن الله إذا خاطبهم بقوله: {ٱدْعُواْ شُرَكَاءكُمْ }، اشتدّ خوفهم ولحقهم شيء بحيث لايبصرون شيئاً، لا جرم ما رأوا العذاب. وثانيها: لما ذكر الشركاء، وهي الأصنام، وأنهم لا يجيبون الذين دعوهم، قال فيحقهم: {وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ }، لو كانوا من الأحياء المهتدين، ولكنها ليست كذلك، ولا جرم ما رأت العذاب. والضمير في رأوا،وإن كان للعقلاء، فقد قال: ودعوهم وهم للعقلاء. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقد أثنى على هذا الذي اختاره، وليس بشيء،لأنه بناه على أن الضمير في رأوا عائد على المدعوين، قال: وهم الأصنام. والظاهر أنه عائد على الداعين، كقوله:

{ إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ }

ولأن حمل مهتدين على الأحياء في غاية البعد، لأن ماقدره هو جواب، ولا يشعر به أنه جواب، إذ صار التقدير عنده: لو كانوا من الأحياء رأوا العذاب، لكنها ليستمن الأحياء، فلا ترى العذاب. ألا ترى إلى قوله: فلا جرم ما رأت العذاب؟ {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ }: هذا النداءأيضاً قد يكون بواسطة من الملائكة، أو بغير واسطة. حكى أولاً ما يوبخهم من اتخاذهم له شركاء، ثم ما يقولهرؤوس الكفر عند توبيخهم، ثم استعانتهم بشركائهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسالالرسل وإزالة العلل. وقرأ الجمهور: {فَعُمّيَتْ } بفتح العين وتخفيف الميم. وقرأ الأعمش، وجناح بن حبيش، وأبو زرعة بن عمروبن جرير: بضم العين وتشديد الميم، والمعنى: أظلمت عليهم الأمور، فلم يستطيعوا أن يخبروا بما فيه نجاة لهم، وأتى بلفظالماضي لتحقق وقوعه. {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ }، وقرأ طلحة: يساءلون، بإدغام التاء في السين: أي لا يسأل بعضهم بعضاً فيمايتحاجون به، إذا أيقنوا أنه لا حجة لهم، فهم في عمى وعجز عن الجواب. والمراد بالنبأ: الخبر عما أجاب بهالمرسل إليه رسوله. ولما ذكر تعالى أحوال الكفار يوم القيامة، وما يكون منهم فيه، أخبر بأن من تاب من الشركوآمن وعمل صالحاً، فإنه مرجو له الفلاح والفوز في الآخرة، وهذا ترغيب للكافر في الإسلام، وضمان له للفلاح. ويقال: إنعسى من الله واجبة. {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ }: نزلت بسبب ما تكلمت به قريش من استغراب أمرالنبي ﷺ، وقول بعضهم:

{ لَوْلاَ نُزّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }

وقائل ذلكالوليد بن المغيرة. قال القرطبي: هذا متصل بذكر الشركاء الذين دعوهم واختاروهم للشفاعة، أي الاختيار إلى الله تعالى في الشفعاء،لا إلى المشركين. وقيل: هو جواب لليهود، إذ قالوا: لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل، لأمنا به، ونص الزجاج،وعليّ بن سليمان، والنحاس: على أن الوقف على قوله: {وَيَخْتَارُ } تام، والظاهر أن ما نافية، أي ليس لهم الخيرة،إنما هي لله تعالى، كقوله: {مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } من أمرهم. وذهب الطبري إلى أن ما موصولة منصوبة بيختار،أي ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس، كما لا يختارون هم ما ليس إليهم، ويفعلون ما لم يؤمروابه. وأنكر أن تكون ما نافية، لئلا يكون المعنى: إنه لم تكن لهم الخير فيما مضى، وهي لهم فيما يستقبل،ولأنه لم يتقدّم كلام ينفي. وروي عن ابن عباس معنى ما ذهب إليه الطبري، وقد رد هذا القول تقدّم العائدعلى الموصول، وأجيب بأن التقدير: ما كان لهم فيه الخيرة، وحذف لدلالة المعنى. قال الزمخشري: كما حذف من قوله:

{ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلاْمُورِ }

يعني: أن التقدير أن ذلك فيه لمن عزم الأمور. وأشد القاسم ابن معن بيتعنترة

: أمن سمية دمع العين تذريف     لو كان ذا منك قبل اليوم معروف

وقرن الآية بهذا البيت. والرواية في البيت: لو أن ذا، ولكن على ما رواه القاسم يتجه في بيت عنترة أنيكون في كان ضمير الشأن. فأما في الآية، فقال ابن عطية: تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف. قالابن عطية: ويتجه عندي أن تكون ما مفعولة، إذا قدرنا كان تامة، أي أن الله تعالى يختار كل كائن، ولايكون شيء إلا بإذنه. وقوله: {لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ }: جملة مستأنفة معناها: تعديد النعمة عليهم في اختيار الله لهم، لو قبلواوفهموا. انتهى. يعني: والله أعلم خيرة الله لهم، أي لمصلحتهم. والخيرة من التخير، كالطيرة من التطير، يستعملان بمعنى المصدر؛ والجملالتي بعد هذا تقدم الكلام عليها. والحمد في الآخرة قولهم:

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ }

{ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ }

{ ٱلْحَمْدُ * ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }

والتحميد هنالك على سبيل اللذة،لا التكليف. وفي الحديث: يلهمون التسبيح والتقديس وقرأ ابن محيصن: ما تكن، بفتح التاء وضم الكاف. {وَلَهُٱلْحُكْمُ }: أي القضاء بين عباده والفصل. و {أَرَءيْتُمْ }: بمعنى أخبرون، وقد يسلط على الليل {أَرَءيْتُمْ } و {جَعَلَ}، إذ كان منهما يقتضيه، فأعمل الثاني. وجملة أرأيتم الثانية هي جملة الاستفهام، والعائد على الليل محذوف تقديره: من إلهغير الله يأتيكم بضياء بعده، ولا يلزم في باب التنازع أن يستوي المتنازعان في جهة التعدي مطلقاً، بل قد يختلفالطلب، فيطلبه هذا على جهة الفاعلية، وهذا على جهة المفعولية، وهذا على جهة المفعول، وهذا على جهة الظرف. وكذلك أرأيتمثاني مفعولية جملة استفهامية غالباً، وثاني جعل إن كانت بمعنى صير لا يكون استفهاماً، وإن كانت بمعنى خلق وأوجد وانتصبما بعد مفعولها، كان ذلك المنتصب حالاً. و {سَرْمَداً }، قيل: من السرمد، فميمه زائدة، ووزنه فعمل، ولا يزاد وسطاًولا آخراً بقياس، وإنما هي ألفاظ تحفظ مذكورة في علم التصريف. وأتى {بِضِيَاء }، وهو نور الشمس، ولم يجىء التركيببنهار يتصرفون فيه، كما جاء {بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ }، لأن منافع الضياء متكاثرة، ليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليسبتلك المنزلة، ومن ثم قرن بالضياء. {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ }؟ لأن السمع يدرك ما يدركه البصر من ذكر منافعه ووصففوائده، وقرن بالليل. {أَفلاَ تُبْصِرُونَ }؟ لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه، قال الزمخشري.و {مّن رَّحْمَتِهِ }، من هنا للسبب، أي وبسبب رحمته إياكم، {جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ }، ثم علل جعل كلواحد منهما، فبدأ بعلة الأول، وهو الليل، وهو: {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ }، ثم بعلة الثاني وهو: ولتبتغوا من فضله، ثم بمايشبه العلة لجعل هذين الشيئين وهو: {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ }، ثم بما يشبه العلة لجعل هذين الشيئين وهو: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، أي هذه الرحمة والنعمة. وهذا النوع من علم البديع يسمى التفسير، وهو أن تذكر أشياء ثم تفسرها بما يناسبها،ومنه قول ابن جيوش

: ومقرطق يغني النديم بوجهه     عن كأسه الملأى وعن إبريقه فعل المدام ولونها ومذاقها

والضمير في {فِيهِ } عائد على الليل، وفي {فَضْلِهِ } يجوز أنيكون عائداً على الله، والتقدير: من فضله، أي من فضل الله فيه، أي في النهار؛ وحذف لدلالة المعنى، ولدلالة لفظفيه السابق عليه. ويحتمل أن يعود على النهار، أي من فضل النهار، ويكون أضافه إلى ضمير النهار على سبيل المجاز.لما كان الفضل حاصلاً فيه، أضيف إليه، كقوله:

{ بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ }

{وَيَوْمَ يُنَـٰدِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَـٰنَكُمْ فَعَلِمُواْ أَنَّ ٱلْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْيَفْتَرُونَ * إِنَّ قَـٰرُونَ * كُلٌّ مّنَ * قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَءاتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِٱلْعُصْبَةِأُوْلِى ٱلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ }. تقدم الكلام على قوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ }: وكرر هنا على جهةالإبلاغ والتأكيد. {وَنَزَعْنَا }: أي ميزنا وأخرجنا بسرعة من كل أمة من الأمم. {شَهِيداً }: وهو نبي تلك الأمة، لأنههو الشهيد عليها، كما قال: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟ وقيل: عدولاً وخياراً.والشهيد على هذا اسم الجنس، والشهيد يشهد على تلك الأمّة بما صدر منها، وما أجابت به لما دعيت إلى التوحيد،وأنه قد بلغهم رسالة ربهم. {فَقُلْنَا }: أي للملأ، {هَاتُواْ بُرْهَـٰنَكُمْ }: أي حجتكم فيما كنتم عليه في الدنيا منالكفر ومخالفة هذا الشهيد، {فَعَلِمُواْ أَنَّ ٱلْحَقَّ لِلَّهِ }، لا لأصنامهم وما عبدوا من دون الله. {وَضَلَّ عَنْهُم }: أيوغاب عنهم غيبة الشيء الضائع، {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من الكذب والباطل. وقارون أعجمي: منع الصرف للعجمة والعلمية. وقيل:ومعنى كان من قومه: أي ممن آمن به. قال ابن عطية: وهو إسرائيلي بإجماع. انتهى. واختلف في قرابته من موسىعليه السلام، إختلافاً مضطرباً متكاذباً، وأولاها: ما قاله ابن عباس أنه ابن عمه، وهو قارون ابن يصهر بن قاهث، جدموسى، لأن النسابين ذكروا نسبة كذلك، وكان يسمى المنور لحسن صورته، وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم، فنافق كما نافقالسامري. {فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ }: ذكروا من أنواع بغيه الكفر والكبر، وحسده لموسى على النبوة، ولهارون على الذبح والقربان، وظلمه لبنيإسرائيل حين ملكه فرعون عليهم، ودسه بغياً تكذب على موسى أنه تعرض لها، وتفضحه بذلك في ملأ من بني إسرائيل،ومن تكبره أن زاد في ثيابه شبراً. {إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ }، قيل: أظفره الله بكنز من كنوز يوسف عليه السلام.وقيل: سميت أمواله كنوزاً، إذ كان ممتنعاً من أداء الزكاة، وبسبب ذلك عادى موسى عليه السلام أول عداوته. وما موصوله،صلتها إن ومعمولاها. وقال النحاس: سمعت علي بن سليمان، يعني الأخفش الصغير، يقول: ما أقبح ما يقوله الكوفيون في الصلات،أنه لا يجوز أن تكون صلة الذي إن وما عملت فيه، وفي القرآن: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ }. انتهى. وتقدم الكلامفي مفاتح في سورة الأنعام، وقالوا هنا: مقاليد خزائنه. وقال السدي: هي الخزائن نفسها. وقال الضحاك: ظروفه وأوعيته. وقرأ الأعمش:مفاتيحه، بياء، جمع مفتاح، وذكروا من كثرة مفاتحه ما هو كذب، أو يقارب الكذب، فلم أكتبه. قال أبو زيد: نؤتبالعمل إذا نهضت به. قال الشاعر

: إذا وجدنا خلفاً بئس الخلف     عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف

ويقول: ناء ينوء، إذا نهض بثقل. قال الشاعر

: تنوء بأحراها فلأياً قيامها     وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر

وقال أبو عبيدة: هو مقلوب وأصله: لتنوء بها العصبة، أي تنهض، والقلبعند أصحابنا بابه الشعر. والصحيح أن الباء للتعدية، أي لتنيء العصبة، كما تقول: ذهبت به وأذهبته، وجئت به وأجأته. ونقلهذا عن الخليل وسيبويه والفراء، واختاره النحاس، وروي معناه عن ابن عباس وأبي صالح والسدي، وتقول العرب: ناء الحمل بالبعيرإذا أثقله. قال ابن عطية: ويمكن أن يسند تنوء إلى المفاتح، لأنها تنهض بتحامل إذا فعل ذلك الذي ينهض بها،وذا مطرد في ناء الحمل بالبعير ونحوه، فتأمله. وقرأ بديل بن ميسرة: لينوء، بالياء، وتذكيره راعى المضاف المحذوف، التقدير: ماإن حمل مفاتحه، أو مقدارها، أو نحو ذلك. وقال الزمخشري: ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن، ويعطيها حكم ما أضيف إليهللملابسة والإيصال، كقوله: ذهبت أهل اليمامة. انتهى. يعني: أنه اكتسب المفاتح التذكير من الضمير الذي لقارون، كما اكتسب أهل التأنيثمن إضافته إلى اليمامة، فقيل فيه، ذهبت. وذكر أبو عمرو الداني أن بديل بن ميسرة قرأ: ما إن مفتاحه، علىالإفراد، فلا تحتاج قراءته لينوء بالياء إلى تأويل. وتقدم تفسير العصبة في سورة يوسف عليه السلام. وتقدم قبل تفسير المفاتح،أهي المقاليد، أو الخزائن نفسها، أو الظروف والأوعية؟ وعن ابن عباس والحسن: أن المفاتح هي الأموال. قال ابن عباس:كانت خزائنه تحملها أربعون أقوياء، وكانت أربعمائة ألف، يحمل كل رجل عشرة آلاف. وقال أبو مسلم: المراد من المفاتح: العلموالإحاطة، كقوله تعالى:

{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ }

والراد: وآتيناه من الكنوز، ما إن حفظها والإطلاع عليها ليثقل على العصبة،أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها، يتعب حفظها القائمين على حفظها. {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ }: نهوه عنالفرح المطغى الذي هو إنهماك وإنحلال نفس وأشر وإعجاب، وإنما يفرح بإقبال الدنيا عليه من اطمأن إليها وغفل عن أمرالآخرة، ومن جعل أنه مفارق زهرة الدنيا عن قريب، فلا يفرح بها. وقال أبو الطيب

: أشد الغم عندي في سرور     تيقن عنه صاحبه انتقالا

قال الزمخشري: ومحل إذ منصوب بتنوء. انتهى، وهذا ضعيف جداً،لأن إثقال المفاتح العصبة ليس مقيداً بوقت قول قومه له: {لاَ تَفْرَحْ }. وقال ابن عطية: متعلق بقوله: {فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ}، وهو ضعيف أيضاً، لأن بغيه عليهم لم يكن مقيداً بذلك الوقت. وقال الحوفي: الناصب له محذوف تقديره أذكر. وقالأبو البقاء: {إِذْ قَالَ لَهُ } ظرف لآتيناه، وهو ضعيف أيضاً، لأن الإيتاء لم يكن وقت ذلك القول. وقال أيضاً:ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل محذوف دل عليه الكلام، أي بغى عليهم، {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ }. انتهى. ويظهر أنيكون تقديره: فأظهر التفاخر والفرح بما أوتي من الكنوز، {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ }. وقال تعالى:

{ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَـٰكُمْ }

والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير. وقال الشاعر

: ولست بمفراح إذا الدهر سرني     ولا جازع من صرفه المتحول

وقال الآخر

: إن تلاق منفساً لا تلقنا     فرح الخير ولا نكبوا الضر

وقرىء: الفارحين، حكاه عيسى بن سليمان الحجازى. و {لاَ يُحِبُّ }: صفةفعل، لا صفة ذات، بمعنى الإرادة، لأن الفرح أمر قد وقع، فالمعنى: لا يظهر عليهم بركته، ولا يعمهم رحمته. ولمانهوه عن الفرح المطغى، أمروه بأن يطلب، فيما آتاه الله من الكنوز وسعة الرزق، ثواب الدار الآخرة، بأن يفعل فيهأفعال البر، وتجعله زادك إلى الآخرة. {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا }، قال ابن عباس، والجمهور: معناه: ولا تضيع عمركفي أن لا تعمل صالحاً في دنياك، إذ الآخرة إنما يعمل لها في الدنيا، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها،وهذا التأويل فيه عظة. وقال الحسن، وقتادة: معناه: لا تضيع حظك من الدنيا في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ونظرك لعاقبةدنياك، وفي هذا التأويل بعض رفق. وقال الحسن: معناه: قدم الفضل وأمسك ما تبلغ به. وقال مالك: هو الأكل والشرببلا سرف. وقيل: أرادوا بنصيبه الكفن، وهذا وعظ متصل، كأنهم قالوا: تترك جميع مالك، لا يكون نصيبك منه إلا الكفن؛كما قال الشاعر

: نصيبك مما تجمع الدهر كله     رداءان تأوي فيهما وحنوط

وقال الزمخشري:أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك، وهذا قريب من قول الحسن: {وَأَحْسَنُ } إلى عباد الله، أو يكرك وطاعتك لله.{كَمَا أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } بتلك النعم التي خولكها، والكاف للتشبيه، وهو يكون في بعض الأوصاف، لأن مماثلة إحسان العبدلإحسان الله من جميع الصفات يمتنع أن تكون، فالتشبيه وقع في مطلق الإحسان، أو تكون الكاف للتعليل، أي أحسن لأجلإحسان الله إليك. {وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ }: أي ما أنت عليه من البغي والظلم. {عَلَىٰ عِلْمٍ }، علم: مصدر، يحتملأن يكون مضافاً إليه ومضافاً إلى الله. فقال الجمهور: ادّعى أن عنده علماً استوجب به أن يكون صاحب تلك الكنوز.فقيل: علم التوراة وحفظها، وكان أحد السبعين الذين اختارهم موسى للميقات، وكانت هذه مغالطة. وقال أبو سليمان الداني: أي علمالتجارة ووجوه المكاسب، أي أوتيته بإدراكي وسعيي. وقال ابن المسيب: علم الكيمياء، قال ابن المسيب: وكان موسى عليه السلام يعلمالكيمياء، وهي جعل الرصاص والنحاس ذهباً. وعن ابن عباس: على علم الصنعة الذهب، ولعل ذلك لا يصح عنه ولا عنابن المسيب. وأنكر الزجاج علم الكيمياء وقال: باطل لا حقيقة له. انتهى. وكثيراً ما تولع أهل مصر بطلب أشياءمن المستحيلات والخرافات؛ من ذلك: تغوير الماء، وخدمة الصور الممثلة في الجدر خطوطاً، وادعائهم أن تلك الخطوط تتحرك إذا خدمتبأنواع من الخدم لهم، والكيمياء؛ حتى أن مشايخ العلم عندهم، الذين هم عندهم بصورة الولاية، يتطلب ذلك من أجهل واردمن المغاربة. وقال ابن زيد وغيره: أراد: {أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } من الله وتخصيص من لدنه قصدني به، أي فلايلزمني فيه شيء مما قلتم، ثم جعل قوله: {عِندِى }، كما يقول: في معتقدي وعلى ما أراه. وقال مقاتل: {عَلَىٰعِلْمٍ }، أي على خير علمه الله عندي. والظاهر أن قوله: {أَوَ لَمْ * يَعْلَمْ }، تقرير لعلمه ذلك، وتنبيهعلى خطئه في اغتراره؛ أي قد علم أن الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى، لأنهقد قرأه في التوراة، وأخبر به موسى، وسمعه في التواريخ، كأنه قيل: أو لم يعلم في جملة ما عنده منالعلم؟ هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون نعتاً لعلمه بذلك، لأنه لما قال: {أُوتِيتُهُعَلَىٰ عِلْمٍ عِندِى }، فتنفح بالعلم وتعظم به، قيل: أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه؟ وأرى نفسه به مستوجبة لكلنعمة، ولم يعلم هذا العلم النافح حتى يقي نفسه مصارع الهالكين. انتهى. {وَأَكْثَرُ جَمْعاً }، إما للمال، أو جماعة يحوطونهويخدمونه. قال ابن عطية: {أَوَ لَمْ * يَعْلَمْ }، يرجح أن قارون تشبع بعلم نفسه على زعمه. وقرأ الجمهور:{وَلاَ يَسْـئَلُ }، مبنياً للمفعول و {ٱلْمُجْرِمُونَ }: رفع به، وهو متصل بما قبله، قاله محمد بن كعب. والضمير في{ذُنُوبِهِمُ } عائد على من أهلك من القرون، أي لا يسأل غيرهم ممن أجرم، ولا ممن لم يجرم، عمن أهلكهالله، بل:

{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }

وقيل: أهلك من أهلك من القرون، عن علم منه بذنوبهم، فلميحتج إلى مسألتهم عنها. وقيل: هو مستأنف عن حال يوم القيامة. قال قتادة: لا يسألون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها، لأنهميدخلون النار بغير حساب. وقال قتادة أيضاً، ومجاهد: لا تسألهم الملائكة عن ذنوبهم، لأنهم يعرفونهم بسيماهم من السواد والتشويه، كقوله:

{ يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـٰهُمْ }

وقيل: لا يسألون سؤال توبيخ وتفريع. وقرأ أبو جعفر في روايته: ولا تسأل، بالتاء والجزم،المجرمين: نصب. وقرأ ابن سيرين، وأبو العالية: كذلك في ولا تسأل على النهي للمخاطب، وكان ابن أبي إسحاق لا يجوّزذلك إلاّ أن يكون المجرمين بالياء في محل النصب، بوقوع الفعل عليه. قال صاحب اللوامح: فالظاهر ما قاله، ولم يبلغنيفي نصب المجرمين شيء، فإن تركاه على رفعه، فله وجهان: أحدهما: أن تكون الهاء والميم في {عَن ذُنُوبِهِمُ } راجعةإلى ما تقدم من القرون، وارتفاع المجرمين بإضمار المبتدأ، وتقديره: هم المجرمون، أو أولئك المجرمون، ومثله

{ ٱلتَّـٰئِبُونَ ٱلْعَـٰبِدُونَ }

في التوبة. والثاني: أن يكون بدلاً من أصل الهاء والميم في ذنوبهم، لأنها، وإن كانت في محل الجر بالإضافةإليها، فإن أصلها الرفع، لأن الإضافة إليها بمنزلة إضافة المصدر إلى اسم الفاعل؛ فعلى ذلك المجرمون محمول على الأصل، علىما تقدم لنا من أن بعضهم قرأ:

{ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً }

بالجر، على أنها بدل من أصلا لمثل، وما زائدة فيه، وتقديره: لا يستحي بضرب مثل بعوضة، أي بضرب بعوضة. في ذلك فسر أن مع الفصلبالمصدر ناصب إلى المفعول به، ثم أبدل منه البعوضة من غير أن أعرف فيها أثراً لحال. فأما قوله: من ذنوبهم،فذنوب جمع، فإن كان جمع مصدر، ففي إعماله خلاف. وأما قوله على ما تقدم لنا من أن بعضهم قرأ، فقدذكر في البقرة أنه سمع ذلك، ولا تعرف فيها أثراً، فينبغي أن لا يجعلها قراءة. ولما ذكر تعالى قارونونعته، وما آتاه من الكنوز، وفرحه بذلك فرح البطرين، وادعاءه أن ما أوتي من ذلك إنما أوتيه على علم، ذكرما هو ناشىء عن التكبر والسرور بما أوتي فقال: {فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ }، وكان يوم السبت: أي أظهرما يقدر عليه من الملابس والمراكب وزينة الدنيا. قال جابر، ومجاهد: في ثياب حمر. وقال ابن زيد: هو وحشمه فيثياب معصفرة. وقيل: في ثياب الأرجوان. وقيل: على بغلة شهباء عليها الأرجوان، وعليها سرج من ذهب، ومعه أربعة آلاف علىزيه. وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعلى يمينه ثلاثمائة غلام، وعلى يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهم الحلى والديباج. وقيل:في تسعين ألفاً عليهم المعصفرات، وهو أول يوم رؤي فيه المعصفر. وقيل غير ذلك من الكيفيات. {قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا } قيل: كانوا مؤمنين. وقال قتادة: تمنوه ليتقربوا به إلى الله. وقيل: رغبة في اليسارة والثروة. وقيل: كانواكفارة، وتمنوا {مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَـٰرُونُ }، ولم يذكروا زوال نعمته، وهذا من الغبطة. {إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ }: أيدرجة عظيمة، قاله الضحاك. وقيل: نصيب كثير من الدنيا والحظ البخت والسعد، يقال: فلان ذو حظ وحظيظ ومحظوظ. {وَقَالَ ٱلَّذِينَأُوتُواْ ٱلْعِلْمَ }، منهم: يوشع، والعلم: معرفة الثواب والعقاب، أو التوكل، أو الإخبار، أقوال. {وَيْلَكُمْ }: دعاء بالشر. {ثَوَابُ ٱللَّهِ}: وهو ما أعده في الآخرة للمؤمن {خَيْرٌ } مما أوتي قارون. {وَلاَ يُلَقَّاهَا }: أي هذه الحكمة، وهي معرفةثواب الله، وقيل: الجنة ونعيمها. وقيل: هذه المقالة، وهي قولهم: {ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً }، وبخهم بها.{إِلاَّ ٱلصَّـٰبِرُونَ } على الطاعات وعلى قمع أنفسهم عن الشهوات. تقدم طرف من خبر قارون وحسده لموسى. ومن حسدهأنه جعل لبغي جعلاً، على أن ترمي موسى بطلبها وبزنائها، وأنها تابت إلى الله، وأقرت أن قارون هو الذي جعللها جعلاً على رمي موسى بذلك، فأمر الله الأرض أن يطيعه، فقال: يا أرض خذيه وأتباعه، فخسف بهم في حكايةطويلة، الله أعلم بها. ولما خسف بقارون ومن معه، فقال بنو إسرائيل: إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه،فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله. ومن زائدة، أي من جماعة تفيد استغراق الفئات. وإذا انتفت الجملة، ولم يقدر علىنصره، فانتفاء الواحد عن نصرته أبلغ. {وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ }: أي لم يكن في نفسه ممن يمتنع من عذابالله. {وَأَصْبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِٱلاْمْسِ }: بدل، وأصبح، إذا حمل على ظاهره، أن الخسف به وبداره كان ليلاً،وهو أفظع العذاب، إذ الليل مقر الراحة والسكون، والأمس يحتمل أن يراد به الزمان الماضي، ويحتمل أن يراد به ماقبل يوم الخسف، وهو يوم التمني، ويدل عليه العطف بالفاء التي تقتضي التعقيب في قوله: {فَخَسَفْنَا }، فيكون فيه اعتقابالعذاب خروجه في زينته، وفي ذلك تعجيل العذاب. ومكانه: منزلته في الدنيا من الثروة والحشم والأتباع. و: وي، عند الخليلوسيبويه: اسم فعل مثل: صه ومه، ومعناها: أعجب. قال الخليل: وذلك أن القوم ندموا فقالوا: متندمين على ما سلف منهم:وي، وكل من ندم فأظهر ندامته قال: وي. وكأن: هي كاف التشبيه الداخلة على أن، وكتبت متصلة بكاف التشبيه لكثرةالاستعمال، وأنشد سيبويه

: وي كأن من يكن له نشب بحـ     ـسبب ومن يفتقر يعش عيش ضر

والبيت لزيد بن عمرو بن نفيل. وحكى الفراء أن امرأة قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال: ويكأنه وراء البيت،وعلى هذا المذهب يكون الوقف على وي. وقال الأخفش: هي ويك، وينبغي أن تكون الكاف حرف خطاب، ولا موضع لهمن الإعراب، والوقف عليه ويك، ومنه قول عنترة

: ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها     قيل الفوارس ويك عنتر اقدم

قال الأخفش: وأن عنده مفتوح بتقدير العلم، أي أعلم أن الله، وقال الشاعر

: ألا ويك المضرة لا تدوم     ولا يبقى على البؤس النعيم

وذهب الكسائي ويونس وأبو حاتم وغيرهمإلى أن أصله ويلك، فحذفت اللام والكاف في موضع جر بالإضافة. فعلى المذهب الأول قيل: تكون الكاف خالية من معنىالتشبيه، كما قيل:

{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء }

وعلى المذهب الثاني، فالمعنى: أعجب لأن الله. وعلى المذهب الثالث تكون ويلككلمة تحزن، والمعنى أيضاً: لأن الله. وقال أبو زيد وفرقة معه: ويكأن، حرف واحد بجملته، وهو بمعنى: ألم تر. وبمعنى:ألم تر، قال ابن عباس والكسائي وأبو عبيد. وقال الفراء: ويك، في كلام العرب، كقوله الرجل: أما ترى إلى صنعالله؟ وقال ابن قتيبة، عن بعض أهل العلم أنه قال: معنى ويك: رحمة لك، بلغة حمير. ولما صدر منهمتمني حال قارون، وشاهدوا الخسف، كان ذلك زاجراً لهم عن حب الدنيا، وداعياً إلى الرضا بقدر الله، فتنبهوا لخطئهم فقالوا:وي، ثم قالوا: {كَانَ ٱللَّهُ * يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ }، بحسب مشيئته وحكمته، لا لكرامته عليه، ويضيقعلى من يشاء، لا لهوانه، بل لحكمته وقضائه ابتلاء. وقرأ الأعمش: لولا منّ الله، بحذف أن، وهي مزادة. وروي عنه:منّ الله، برفع النون والإضافة. وقرأ الجمهور: لخسف مبنياً للمفعول؛ وحفص، وعصمة، وأبان عن عاصم، وابن أبي حماد عن أبيبكر: مبنياً للفاعل؛ وابن مسعود، وطلحة، والأعمش: لا تخسف بنا، كقولك: انقطع بنا، كأنه فعل مطاوع، والمقام مقام الفاعل هو{بِنَا }. ويجوز أن يكون المصدر: أي لا نخسف الانخساف، ومطاوع فعل لا يتعدى إلى مفعول به، فلذلك بني إمالبنا وإما للمصدر. وعن ابن مسعود أيضاً: لتخسف، بتاء وشد السين، مبنياً للمفعول. {تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَيُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ٱلاْرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَمَن جَاء بِٱلسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَىٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * إِنَّ }. لما كان من قول أهل العلم والإيمان ثواب اللهخير، ذكر محل الثواب، وهو الدار الآخرة. والمعنى: تلك التي سمعت بذكرها، وبلغك وصفها. {ٱلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ }: أي نعيم الدارالآخرة، وهي الجنة، والبقاء فيها سرمداً، وعلق حصولها على مجرد الإرادة، فكيف يمن بأشر العلوّ والفساد؟ ثم جاء التركيب بلافي قوله: {وَلاَ فَسَاداً }، فدل على أن كل واحد من العلوّ والفساد مقصود، لا مجموعهما. قال الحسن: العلوّ: العزوالشرف، إن جر البغي الضحاك، الظلم والفساد يعم أنواع الشر. وعن عليّ، كرم الله وجهه: أن الرجل ليعجبه أن يكونشراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل تحتها. وعن الفضيل، أنه قرأها ثم قال: ذهبت الأماني. وعن عمر بنعبد العزيز: أنه كان يرددها حتى قبض. {فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا }: يحتمل أن يكون خير أفعل التفضيل، وأن يكون واحدالخيور، أي فله خير بسبب فعلها، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {فَلاَ يُجْزَى ٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيّئَاتِ }، تهجيناً لحالهموتبغيضاً للسيئة إلى قلوب السامعين، ففيه بتكراره ما ليس فيه لو كان: فلا يجزون بالصهر، وما كانوا على حذف مثل،أي إلاّ مثل ما كانوا يعملون، لأن جزاء السيئة سيئة مثلها، والحسنة بعشر أمثالها. {إِنَّ ٱلَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ}، قال عطاء: العمل به؛ ومجاهد: أعطاكه؛ ومقاتل: أنزله عليك، وكذا قال الفراء وأبو عبيدة. وقال الزمخشري: أوجب عليك تلاوتهوتبليغه والعمل بما فيه؛ يعني أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف ليثيبك عليها ثواباً لا يحيط به الوصف. والمعاد، قالالجمهور: في الآخرة، أي باعثك بعد الموت، ففيه إثبات الجزاء والإعلام بوقوعه. وعن ابن عباس، وأبي سعيد الخدري: المعاد: الموت.وقيل: بيت المقدس. وقيل: الجنة، وكان قد دخلها ليلة المعراج. وقال ابن عباس أيضاً، ومجاهد: المعاد: مكة، أراد رده إليهايوم الفتح، ونكره، والمقصود التعظيم، أي معاد أي معاد، أي له شأن لغلبة الرسول عليها وقهره لأهلها، ولظهور عز الإسلاموأهله، فكأن الله وعده وهو بمكة أنه يهاجر منها ويعود إليها ظافراً ظاهراً. وقيل: نزلت عليه حين بلغ الجحفة فيمهاجره، وقد اشتاق إليها، فقال له جبريل: أتشتاق إليها؟ قال: نعم، فأوحاها إليه. ومن منصوب بإضمار فعل، أي يعلم منجاء بالهدى، ومن أجاز أن يأتي أفعل بمعنى فاعل، وأجاز مع ذلك أن ينصب به، جاز أن ينتصب به، إذيؤوله بمعنى عالم، ويعطيه حكمه من العمل. ولما وعده تعالى أنه يرده إلى معاد، وأنه تعالى فرض عليه القرآن،أمره أن يقول للمشركين ذلك، أي هو تعالى عالم بمن جاء بالهدى، وهو محمد ﷺ، وبما يستحقهمن الثواب في معاده، وهذا إذا عنى بالمعاد ما بعد الموت. ويعني بقوله: {وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ }: المشركينالذين أمره الله بأن يبلغهم ذلك، هو عالم بهم، وبما يستحقونه من العقاب في معادهم، وفي ذلك متاركة للكفار وتوبيخ.{وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبُ }: هذا تذكير لنعمه تعالى على رسوله، وأنه تعالى رحمه رحمة لم يتعلقبها رجاؤه. وقيل: بل هو معلق بقوله: {إِنَّ ٱلَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ }، وأنت بحال من لا يرجو ذلك، وانتصبرحمة على الاستثناء المنقطع، أي لكن رحمة من ربك سبقت، فألقى إليك الكتاب. وقال الزمخشري: هذا كلام محمول على المعنى،كأنه قيل: وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمة من ربك. انتهى. فيكون استثناء متصلاً، إما من الأحوال، وإما من المفعولله. وقرأ الجمهور: يصدنك، مضارع صد وشدوا النون، ويعقوب كذلك، إلا أنه خففها. وقرىء: يصدنك، مضارع أصد، بمعنى صد، حكاهأبو زيد، عن رجل من كلب قال: وهي لغة قومه، وقال الشاعر

: أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم     صدود السواقي عن أنوف الحوائم

{بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ }: أي بعد وقت إنزالها، وإذ تضاف إليهاأسماء الزمان كقوله:

{ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا }

ويومئذ، وحينئذ. قال الضحاك: وذلك حين دعوه إلى دين إبائه، أي لاتلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم، فيصدونك عن اتباع آيات الله. {وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبّكَ }: أي دين ربك، وهذهالمناهي كلها ظاهرها أنها للرسول، وهي في الحقيقة لأتباعه، والهلاك يطلق بإزاء العدم المحض، فالمعنى: أن الله يعدم كل شيءسواه. وبإزاء نفي الانتفاع به، إما للإمانة، أو بتفريق الأجزاء، وإن كانت نافية يقال: هلك الثوب، لا يريدون فناء أجزائه،ولكن خروجه عن الانتفاع به. ومعنى: {إِلاَّ وَجْهَهُ }: إلا إياه، قاله الزجاج. وقال مجاهد، والسدي: هالك بالموت إلا العلماء،فإن علمهم باق. انتهى. ويريدون إلا ما قصد به وجهه من العلم، فإنه باق. وقال الضحاك: إلا الله عز وجل،والعرش، والجنة، والنار. وقيل: ملكه، ومنه:

{ لّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ }

وقال أبو عبيدة: المراد بالوجه: جاهه الذي جعله فيالناس. وقال سفيان الثوري: إلا وجهه، ما عمل لذاته، ومن طاعته، وتوجه به نحوه، ومنه قول الشاعر

: رب العباد إليه الوجه والعمل    

وقوله: يريدون وجهه. {لَهُ ٱلْحُكْمُ }: أي فصل القضاء. {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }: أيإلى جزائه. وقرأ عيسى: ترجعون، مبنياً للفاعل؛ والجمهور: مبنياً للمفعول.