→ سورة الزلزلة | تفسير البحر المحيط سورة العاديات ابي حيان الغرناطي |
سورة القارعة ← |
{ وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً } * { فَٱلمُورِيَاتِ قَدْحاً } * { فَٱلْمُغِيرَاتِ صُبْحاً } * { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } * { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } * { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } * { وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } * { وَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } * { أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي ٱلْقُبُورِ } * { وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ } * { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ }
العاديات: الجاريات بسرعة، وهو وصف، ويأتي في التفسير الخلاف في الموصوف، الضبح: تصويتجهير عند العدو الشديد، ليس بصهيل ولا رغاء ولا نباح، بل هو غير المعتاد من صوت الحيوان الذي يضبح. وعنابن عباس: ليس يضبح من الحيوان غير الخيل والكلاب. قيل: ولا يصح عن ابن عباس، لأن الإبل تضبح، والأسود منالحيات والبوم والصدى والأرنب والثعلب والقوس، كما استعملت العرب لها الضبح. أنشد أبو حنيفة في صفة قوس:
حنانة من نشم أو تألب | تضبح في الكف ضباح الثعلب |
وقال أهل اللغة: أصله للثعلب، فاستعير للخيل،وهو من ضبحته النار: غيرت لونه ولم تبالغ فيه، وانضبح لونه: تغير إلى السواد قليلاً. وقال أبو عبيدة: الضبح والضبعبمعنى العدو الشديد، وكذا قال المبرد:م الضبح من إضباعها في السير. القدح: الصك، وقيل: الاستخراج، ومنه قدحت العين: أخرجت منهاالفاسد، والقداح والقداحة والمقدحة: ما تورى به النار. أغار على العدو: قصده لنهب أو قتل أو أسر. النقع: الغبار. قالالشاعر:
يخرجن من مستطار النقع دامية | كأن آذانها أطراق أقلام |
وقال ابن رواحة:
عدمت بنيتي إن لم تروها | تثير النقع من كنفي كداء |
وقال أبو عبيدة: النقع: رفعالصوت، ومنه قول لبيد:
فمتى ينقع صراخ صادق | تحلبوها ذات حرس وزجل |
الكنود: الكفورللنعمة، قال الشاعر:
كنود لنعماء الرجال ومن يكن | كنوداً لنعماء الرجال يبعد |
وعن ابنعباس: الكنود، بلسان كندة وحضرموت: العاصي؛ وبلسان ربيعة ومضر: الكفور؛ وبلسان كنانة: البخيل السيـىء الملكة، وقاله مقاتل. وقال الكلبي مثلهإلا أنه قال: وبلسان بني مالك: البخيل، ولم يذكر وحضرموت، ويقال: كند النعمة كنوداً. وقال أبو زبيد في البخيل:
إن تفتني فلم أطب عنك نفسا | غير أني أمنى بدهر كنود |
حصل الشيء: جمعه، وقيل:ميزه من غيره، ومنه قيل للمنحل: المحصل، وحصل الشيء: ظهر واستبان. {وَٱلْعَـٰدِيَـٰتِ ضَبْحاً * فَٱلمُورِيَـٰتِ قَدْحاً * فَٱلْمُغِيرٰتِ صُبْحاً* فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً * إِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُلِحُبّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى ٱلْقُبُورِ * وَحُصّلَ مَا فِى ٱلصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْيَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ }. هذه السورة مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء، مدنية في قول ابن عباسوأنس وقتادة. لما ذكر فيما قبلها ما يقتضي تهديداً ووعيداً بيوم القيامة، بتعنيف لمن لا يستعد لذلك اليوم، ومن آثرأمر دنياه على أمر آخرته. والجمهور من أهل التفسير واللغة على أن العاديات هنا الخيل، تعدو في سبيل الله وتضبححالة عدوها، وقال عنترة:
والخيل تكدح حين تضبح | في حياض الموت ضبحا |
وقال أبو عبد الله وعلي وإبراهيم والسدي ومحمد بن كعب وعبيد بن عمير: العاديات: الإبل. أقسم بها حين تعدو منعرفة ومن المزدلفة إذا دفع الحاج. وبأهل غزوة بدر لم يكن فيها غير فرسين، فرس للزبير وفرس للمقداد، وبهذا حجعليّ رضي الله عنه ابن عباس حين تماريا، فرجع ابن عباس إلى قول علي رضي الله تعالى عنهما. وقالت صفيةبنت عبد المطلب:
فلا والعاديات غداة جمع | بأيديها إذا سطع الغبار |
وانتصبضبحاً على إضمار فعل، أي يضبحن ضبحاً؛ أو على أنه في موضع الحال، أي ضابحات؛ أو على المصدر على قولأبي عبيدة أن معناه العدو الشديد، فهو منصوب بالعاديات. وقال الزمخشري: أو بالعاديات كأنه قيل: والضابحات، لأن الضبح يكون معالعدو، انتهى. وإذا كان الضبح مع العدو، فلا يكون معنى {وَٱلْعَـٰدِيَـٰتِ } معنى الضابحات، فلا ينبغي أن يفسر به. {فَٱلمُورِيَـٰتِقَدْحاً }، والإيراء: إخراج النار، أي تقدح بحوافرها الحجارة فيتطاير منها النار لصك بعض الحجارة بعضاً. ويقال: قدح فأورى، وقدحفأصلد. وتسمى تلك النار التي تقدحها الحوافر من الخيل أو الإبل: نار الحباحب. قال الشاعر:
تقدّ السلوقي المضاعف نسجة | وتوقد بالصفاح نار الحباحب |
وقيل: {فَٱلمُورِيَـٰتِ قَدْحاً } مجاز، أو استعارة في الخيل تشعل الحرب،قاله قتادة. وقال تعالى:
{ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ } . ويقال: حمي الوطيس إذا اشتدّ الحرب. وقال ابن عباسومجاهد وزيد بن أسلم: الموريات: الجماعة التي تمكر في الحرب، والعرب تقوله إذا أرادت المكر بالرجل: والله لا يكون ذلك،ولأورين لك. وعن ابن عباس أيضاً: التي توري نارها بالليل لحاجتها وطعامها. وعنه أيضاً: جماعة الغزاة تكثر النار إرهاباً. وقالعكرمة: ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به، وتظهر من الحجج والدلائل، وإظهار الحق وإبطال الباطل. {فَٱلْمُغِيرٰتِ صُبْحاً}: أي تغير على العدو في الصبح، ومن قال هي الإبل، قال العرب تقول: أغار إذا عدى جرياً، أي منمزدلفة إلى منى، أو في بدر؛ وفي هذا دليل على أن هذه الأوصاف لذات واحدة، لعطفها بالفاء التي تقتضي التعقيب.والظاهر أنها الخيل التي يجاهد عليها العدو من الكفار، ولا يستدل على أنها الإبل بوقعة بدر، وإن لم يكن فيهاإلا فرسان، لأنه لم يذكر أن سبب نزول هذه السورة هو وقعة بدر، ثم بعد ذلك لا يكاد يوجد أنالإبل جوهد عليها في سبيل الله، بل المعلوم أنه لا يجاهد في سبيل الله تعالى إلا على الخيل في شرقالبلاد وغربها. {فَأَثَرْنَ }: معطوف على اسم الفاعل الذي هو صلة أل، لأنه في معنى الفعل، إذ تقديره: فاللاتيعدون فأغرن فأثرن. وقال الزمخشري: معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، انتهى. وتقول أصحابنا: هو معطوف على الاسم،لأنه في معنى الفعل. وقرأ الجمهور: {فَأَثَرْنَ }، {فَوَسَطْنَ }، بتخفيف الثاء والسين؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة: بشدّهما؛ وعليّوزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى: بشدّ السين. وقال الزمخشري: وقرأ أبو حيوة: فأثرن بالتشديد، بمعنى: فأظهرن به غباراً،لأن التأثير فيه معنى الإظهار، أو قلب ثورن إلى وثرن، وقلب الواو همزة. وقرىء: فوسطن بالتشديد للتعدية، والباء مزيدة للتوكيد،كقوله:
{ فَأْتُواْ بِهِ } ، وهي مبالغة في وسطن، انتهى. أما قوله: أو قلب، فتمحل بارد. وأما أن التشديد للتعدية، فقدنقلوا أن وسط مخففاً ومثقلاً بمعنى واحد، وأنهما لغتان، والضمير في به عائد في الأول على الصبح، أي هيجن فيذلك الوقت غباراً، وفي به الثاني على الصبح. قيل: أو على النقع، أي وسطن النقع الجمع، فيكون وسطه بمعنى توسطه.وقال علي وعبد الله: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً }: أي الإبل، وجمعاً اسم للمزدلفة، وليس بجمع من الناس. وقال بشر بنأبي حازم:
فوسطن جمعهم وأفلت حاجب | تحت العجاجة في الغبار الأقتم |
وقيل: الضمير في به معاًيعود على العدو الدال عليه {وَٱلْعَـٰدِيَـٰتِ }أيضاً. وقيل: يعود على المكان الذي يقتضيه المعنى، وإن لم يجر له ذكر، لدلالةوالعاديات وما بعدها عليه. وقيل: المراد بالنقع هنا الصياح، والظاهر أن المقسم به هو جنس العاديات، وليست أل فيه للعهد،والمقسم عليه: {إِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ }. وفي الحديث: الكنود يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده . وقال ابن عباس والحسن:هو الجحود لنعمة الله تعالى. وعن الحسن أيضاً: هو اللائم لربه، يعد السيئات وينسى الحسنات. وقال الفضيل: هو الذي تنسيهسيئة واحدة حسنات كثيرة، ويعامل الله على عقد عوض. وقال عطاء: هو الذي لا يغطى في النائبات مع قومه. وقيل:البخيل. وقال ابن قتيبة: أرض كنود: لا تنبت شيئاً. والظاهر عود الضمير في {وَأَنَّهُ } على ذلك {لَشَهِيدٌ }، أييشهد على كنوده، ولا يقدر أن يجحده لظهور أمره، وقاله الحسن ومحمد بن كعب. وقال ابن عباس وقتادة: هو عائدعلى الله تعالى، أي وربه شاهد عليه، وهو على سبيل الوعيد. وقال التبريزي: هو عائد على الله تعالى، وربه شاهدعليه هو الأصح، لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورين، ويكون ذلك كالوعيد والزجر عن المعاصي، انتهى. ولا يترجح بالقربإلا إذا تساويا من حيث المعنى. والإنسان هنا هو المحدث عنه والمسند إليه الكنود. وأيضاً فتناسق الضمائر لواحد مع صحةالمعنى أولى من جعلهما لمختلفين، ولا سيما إذا توسط الضمير بين ضميرين عائدين على واحد. {وَأَنَّهُ }: أي وإن الإنسان،{لِحُبّ ٱلْخَيْرِ }: أي المال،،لشديد}: أي قوي في حبه. وقيل: لبخيل بالمال ضابط له، ويقال للبخيل: شديد ومتشدد. وقال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي | عقيلة مال الفاحش المتشدد |
وقال قتادة: الخير منحيث وقع في القرآن هو المال. قال ابن عطية: ويحتمل أن يراد هذا الخير الدنيوي من مال وصحة وجاءه عندالملوك ونحوه، لأن الكفار والجهال لا يعرفون غير ذلك. فأما المحب في خير الآخرة فممدوح مرجوله الفور. وقال الفراء: نظمالآية أن يقال: وإنه لشديد الحب للخير. فلما تقدم الحب قال لشديد، وحذف من آخره ذكر الحب لأنه قد جرىذكره، ولرءوس الآي كقوله تعالى:
{ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } ، والعصوف: للريح لا للأيام، كأنه قال: في يوم عاصف الريح، انتهى.وقال غيره ما معناه: لأنه ليس أصله ذلك التركيب، بل اللام في {لِحُبّ } لام العلة، أي وإنه لأجل حبالمال لبخيل؛ أو وإنه لحب المال وإيثاره قوي مطيق، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمه ضعيف متقاعس. تقول: هو شديدلهذا الأمر وقوي له إذا كان مطيقاً له ضابطاً. قال الزمخشري: أو أراد: وإنه لحب الخيرات غير هش منبسط، ولكنهشديد منقبض. {أَفَلاَ يَعْلَمُ }: توقيف إلى ما يؤول إليه الإنسان، ومفعول يعلم محذوف وهو العامل في الظرف، أيأفلا يعلم مآ له؟ {إِذَا بُعْثِرَ }، وقال الحوفي: إذا ظرف مضاف إلى بعثر والعامل فيه يعلم. انتهى، وليس بمتضحلأن المعنى: أفلا يعلم الآن؟ وقرأ الجمهور: بعثر بالعين مبنياً للمفعول. وقرأ عبد الله: بالحاء. وقرأ الأسود بن زيد: بحث.وقرأ نضر بن عاصم: بحثر على بنائه للفاعل. وقرأ ابن يعمر ونصر بن عاصم ومحمد بن أبي سعدان: وحصل مبنياًللفاعل؛ والجمهور: مبنياً للمفعول. وقرأ ابن يعمر أيضاً ونصر بن عاصم أيضاً: وحصل مبنياً للفاعل خفيف الصاد، والمعنى جمع مافي المصحف، أي أظهر محصلاً مجموعاً. وقيل: ميز وكشف ليقع الجزاء عليه. وقرأ الجمهور: {ءانٍ * بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ }باللام: هو استئناف إخبار، والعامل في {بِهِمُ }، وفي {يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ }، وهو تعالى خبير دائماً لكنه ضمن خبير معنىمجاز لهم في ذلك اليوم. وقرأ أبو السمال والحجاج: بفتح الهمزة وإسقاط اللام. ويظهر في هذه القراءة تسلط يعلم علىإن، لكنه لا يمكن إعمال خبير في إذا لكونه في صلة أن المصدرية، لكنه لا يمكن أن يقدر له عاملفيه من معنى الكلام، فإنه قال: يجزيهم إذا بعثر، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون يعلم معلقه عن العمل فيقراءة الجمهور، وسدت مسد المعمول في إن، وفي خبرها اللام ظاهر، إذ هي في موضع نصب بيعلم. وإذا العامل فيهامن معنى مضمون الجملة تقديره: كما قلنا يجزيهم إذا بعثر.