الرئيسيةبحث

تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الروم

{ الۤـمۤ } * { غُلِبَتِ ٱلرُّومُ } * { فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } * { فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ } * { بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } * { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } * { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } * { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } * { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } * { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤءَىٰ أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ } * { ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } * { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُبْلِسُ ٱلْمُجْرِمُونَ } * { وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ } * { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } * { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } * { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ فَأُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } * { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } * { وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } * { يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَيُحْيِي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } * { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } * { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } * { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ } * { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } * { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } * { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } * { وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } * { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } * { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } * { بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } * { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذَلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } * { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } * { وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } * { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } * { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } * { وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } * { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } * { فَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ ٱللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُضْعِفُونَ } * { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } * { ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } * { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ } * { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ ٱلْقِيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } * { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } * { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَافِرِينَ } * { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَٱنتَقَمْنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ } * { ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } * { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } * { فَٱنظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } * { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } * { وَمَآ أَنتَ بِهَادِ ٱلْعُمْيِ عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ } * { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ } * { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } * { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَٱلإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْبَعْثِ فَهَـٰذَا يَوْمُ ٱلْبَعْثِ وَلَـٰكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ } * { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } * { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ } * { كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } * { فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ }

{الم * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِى أَدْنَى ٱلاْرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِى بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ ٱلاْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ * وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَاوَهُمْ عَنِ ٱلاْخِرَةِ هُمْ غَـٰفِلُونَ * أَوَ لَمْ * يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَمَابَيْنَهُمَا إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَاء رَبّهِمْ لَكَـٰفِرُونَ * أَوَ لَمْ * يَسيرُواْ فِى ٱلاْرْضِ فَيَنظُرُواْكَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ ٱلاْرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا }. هذه السورة مكية،قال ابن عطية وغيره، بلا خلاف. وقال الزمخشري: إلا قوله: {فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ }. وسبب نزولها أن كسرى بعث جيشاً إلىالروم، وأمر عليهم رجلاً، واختلف النقلة في اسمه؛ فسار إليهم بأهل فارس، وظفر وقتل وخرب وقطع زيتونهم، وكان التقاؤهم بأذرعاتوبصرى، وكان قد بعث قيصر رجلاً أميراً على الروم. وقال مجاهد: التقت بالجزيرة. وقال السدي: بأرض الأردن وفلسطين، فشق ذلكعلى المسلمين لكونهم مع الروم أهل الكتاب، وفرح بذلك المشركون لكونهم مع المجوس ليسوا بأهل كتاب. وأخبر رسول الله صلىالله عليه وسلم، أن الروم {سَيَغْلِبُونَ * فِى بِضْعِ سِنِينَ }. ونزلت أوائل الروم، فصاح أبو بكر بها فينواحي مكة: {الم * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِى أَدْنَى ٱلاْرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِى بِضْعِ سِنِينَ }.فقال ناس من مشركي قريش: زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارساً في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ فقال: بلى،وذلك قبل تحريم الرهان. فاتفقوا أن جعلوا بضع سنين وثلاث قلائص، وأخبر أبو بكر رسول الله بذلك فقال: هلا اختطبت؟ فارجع فزدهم في الأجل والرهان فجعلوا القلائص مائة، والأجل تسعة أعوام. فظهرت الروم على فارس في السنة السابعة،وكان ممن راهن أبيّ بن خلف. فلما أراد أبو بكر الهجرة، طلب منه أبيّ كفيلاً بالخطر إن غلبت، فكفل بهابنه عبد الرحمن. فلما أراد أبيّ الخروج إلى أحد، طلبه عبد الرحمن بالكفيل، فأعطاه كفيلاً ومات أبيّ من جرح جرحهالنبي ﷺ. وظهر الروم على فارس يوم الحديبية. وقيل: كان النصر يوم بدر للفريقين، فأخذ أبو بكرالخطر من ذرية أبي، وجاء به إلى رسول الله ﷺ، فقال له: تصدق به وسبب ظهور الروم، أن كسرى بعث إلى شهريزان، وهو الذي ولاه على محاربة الروم، أن اقتل أخاك فرّخان لمقالة قالها،وهي قوله: لقد رأيتني جالساً على سرير كسرى، فلم يقتله. فبعث إلى فارس أني عزلت شهريزان ووليت أخاه فرّخان، وكتبإليه: إذا ولي، أن يقتل أخاه شهريزان، فأراد قتله، فأخرج له شهريزان ثلاث صحائف من كسرى يأمره بقتل أخيه فرّخان.قال: وراجعته في أمرك مراراً، ثم تقتلني بكتاب واحد؟ فرد الملك إلى أخيه. وكتب شهريزان إلى قيصر ملك الروم، فتعاوناعلى كسرى، فغلبت الروم فارس، وجاء الخبر، ففرح المسلمون. وكان ذلك من الآيات البينات الشاهدة بصحة النبوة، وأن القرآن منعند الله، لأنها إيتاء من علم الغيب الذي لا يعلمه إلاّ الله. وقرأ علي، وأبو سعيد الخدري، وابن عباس،وابن عمر، ومعاوية بن قرة، والحسن: {غُلِبَتِ ٱلرُّومُ }: مبنياً للفاعل، {سَيَغْلِبُونَ }: مبنياً للمفعول؛ والجمهور: مبنياً للمفعول، سيغلبون: مبنياًللفاعل. وتأويل ذلك على ما فسره ابن عمران: الروم غلبت على أدنى ريف الشأم، يعنى: بالريف السواد. وجاء كذلك عنعثمان، وتأوله أبو حاتم على أن الروم غلبت يوم بدر، فعز ذلك على كفار قريش، وسر المؤمنون، وبشر الله عبادهبأنهم سيغلبون في بضع سنين. انتهى. فيكون قد أخبر عن الروم بأنهم قد غلبوا، وبأنهم سيغلبون، فيكون غلبهم مرتين. قالابن عطية: والقراءة بضم الغين أصح. وأجمع الناس على سيغلبون بفتح الياء، يراد به الروم. وروي عن ابن عمر أنهقرأ سيغلبون بضم الياء، وفي هذه القراءة قلب المعنى الذي تظاهرت به الروايات. انتهى. وقوله: وأجمعوا، ليس كذلك. ألا ترىأن الذين قرؤا غلبت بفتح الغين هم الذين قرؤا سيغلبون بضم الياء وفتح اللام، وليست هذه مخصوصة بابن عمر؟ وقرأالجمهور: غلبهم، بفتح الغين واللام: وعلي، وابن عمر، ومعاوية بن قرة: بإسكانها؛ والقياس عن ابن عمر: وغلابهم، على وزن كتاب.والروم: طائفة من النصارى، وأدنى الأرض: أقر بها: فإن كانت الواقعة في أذرعات، فهي أدنى الأرض بالنظر إلى مكة، وهيالتي ذكرها امرؤ القيس في قوله

: تنوّرتها من أذرعات وأهلها     بيثرب أدنى دارها نظر عال

وإن كانت بالجزيرة، فهي أدنى بالنظر إلى أرض كسرى. فإن كانت بالاردن، فهيأدنى بالنظر إلى أرض الروم. وقرأ الكلبي: {فِى أَدْنَى ٱلاْرْضِ }، وتقدم الكلام في مدلول البضع باعتبار القراءتين. ففي غلبت،بضم الغين، يكون مضافاً للمفعول؛ وبالفتح، يكون مضافاً للفاعل، ويكون المعنى: سيغلبهم المسلمون في بضع سنين، عند انقضاء هذه المدةالتي هي أقصى مدلول البضع. أخذ المسلمون في جهاد الروم، وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عنأبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ } إلى قوله: {فِى بِضْعِ سِنِينَ }،افتتاح المسلمين بيت المقدس، معيناً زمانه ويومه، وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى، وأن ابن برجان ماتقبل الوقت الذي كان عينه للفتح، وأنه بعد موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم. وكان أبوجعفر يعتقد في أبي الحكم هذا، أنه كان يطلع على أشياء من المغيبات يستخرجها من كتاب الله. {للَّهِ ٱلاْمْرُ}: أي إنفاذ الأحكام وتصريفها على ما يريد. وقرأ الجمهور: {مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ }، بضمهما: أي من قبل غلبةالروم ومن بعدها. ولما كانا مضافين إلى معرفة، وحذفت بنيا على الضم، والكلام على ذلك مذكور في علم النحو. وقرأأبو السمال، والجحدري، وعون العقيلي: من قبل ومن بعد، بالكسر والتنوين فيهما. قال الزمخشري: على الجر من غير تقدير مضافإليه واقتطاعه، كأنه قيل: قبلاً وبعداً، بمعنى أولاً وآخراً. انتهى. وقال ابن عطية: ومن العرب من يقول: من قبل ومنبعد، بالخفض والتنوين. قال الفراء: ويجوز ترك التنوين، فيبقى كما هو في الإضافة، وإن حذف المضاف. انتهى. وأنكر النحاس ماقاله الفراء ورده، وقال الفراء في كتابه: في القرآن أشياء كثيرة من الغلط، منها: أنه زعم أنه يجوز من قبلومن بعد، وإنما يجوز من قبل ومن بعد على أنهما نكرتان، والمعنى: من متقدم ومن متأخر. وحكى الكسائي عن بعضبني أسد لله: الأمر من قبل ومن بعد الأول مخفوض منوّن، والثاني مضموم بلا تنوين. والظاهر أن يومئذ ظرف {يَفْرَحُٱلْمُؤْمِنُونَ }، وعلى هذا المعنى فسره المفسرون. وقيل: {وَيَوْمَئِذٍ } عطف على: {مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ }، كأنه حصرالأزمنة الثلاثة: الماضي والمستقبل والحال، ثم ابتدأ الإخبار بفرح المؤمنين بالنصر. و{بِنَصْرِ ٱللَّهِ }: أي الروم على فارس، أو المسلمينعلى عدوهم، أو في أن صدق ما قال الرسول من أن الروم ستغلب فارس، أو في أن يسلط بعض الظالمينعلى بعض، حتى تفانوا وتناكصوا، احتمالات. وفي الحديث: فارس نطحة أو نطحتان، ثم لا فارس بعدها أبداً، والروم ذات القرون، كلما ذهب قرن خلف قرن إلى آخر الأبد وقال ابن عباس: يوم بدر كانت هزيمة عبدةالأوثان وعبدة النيران، وقال معناه أبو سعيد الخدري، وقيل: ورد الخبر يوم الحديبية بوفاة كسرى، فسر المسلمون بحرب المشركين، ولموتعدو لهم في الأرض متمكن. وهو {ٱلْعَزِيزُ } بانتقامه من أعدائه، {ٱلرَّحِيمِ } لأوليائه. وانتصب {وَعَدَ ٱللَّهُ } على أنهمصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تقدمت، وهو قوله: {سَيَغْلِبُونَ }، وقوله: {يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ }. {وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ } الكفار منقريش وغيرهم، {لاَّ يَعْلَمُونَ }: نفي عنهم العلم النافع للآخرة، وقد أثبت لهم العلم بأحوال الدنيا. قيل: والمعنى لا يعلمونأن الأمور من عند الله، وأن وعده لا يخلفه، وأن ما يورده بعينه/ ﷺ، حق. {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً}: أي بيناً، أي ما أدّته إليهم حواسهم، فكأن علومهم إنما هي علوم البهائم. وقال ابن عباس، والحسن، والجمهور: معناهما فيه الظهور والعلوّ في الدنيا من اتقان الصناعات والمباني ومظان كسب المال والفلاحات، ونحو هذا. وقالت فرقة: معناه ذاهباًزائلاً، أي يعلمون أمور الدنيا التي لا بقاء لها ولا عاقبة. وقال الهذلي

: وعيرها الواشون أني أحبها     وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

أي: زائل. وقال ابن جبير: {ظَاهِراً }،أي يعلمون من قبل الكهنة مما يسترقه الشياطين. وقال الرماني: كل ما يعلم بأوائل الرؤية فهو الظاهر، وما يعلم بدليلالعقل فهو الباطن. وقال الزمخشري: {يَعْلَمُونَ } بدل من قول: {لاَّ يَعْلَمُونَ }، وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدلهمنه، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسد مسده، لنعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلمالذي لا يتجاوز الدنيا. وقوله: {ظَاهِراً مّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا }: يفيد أن للدنيا ظاهراًاً وباطناً، فظاهرها ما يعرفه الجهال منالتمتع بزخارفها والتنعم بملاذها، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز للآخرة، يتزود إليها منها بالطاعة والأعمال الصالحة؛ وهم الثانية توكيد لهم الأولى،أو مبتدأ. وفي إظهارهم على أي الوجهين، كانت تنبيه على غفلتهم التي صاروا ملتبسين بها، لا ينفكون عنها. و{فِى أَنفُسِهِمْ}: معمول ليتفكروا، إما على تقدير مضاف، أي في خلق أنفسهم ليخرجوا من الغفلة، فيعلموا أنهم يعلمون ظاهراً من الحياةالدنيا فقط، ويستدلوا بذلك على الخالق المخترع. ثم أخبر عقب هذا بأن الحق هو السبب في خلق السموات والأرض؛وأما على أن يكون {فِى أَنفُسِهِمْ } ظرفاً للفكرة في خلق السموات والأرض، فيكون {فِى أَنفُسِهِمْ } توكيداً لقوله: {يَتَفَكَّرُونَ}، كما تقول: أبصر بعينك واسمع بأدنك. وقال الزمخشري: في هذا الوجه كأنه قال: أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم؟أي في قلوبهم الفارغة من الفكر. والفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين، كقولك: اعتقده فيقلبك وأضمره في نفسك. وقال أيضاً: يكون صلة المتفكر، كقولك: تفكر في الإمر وأجال فكره. و{مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ } متعلقبالقول المحذوف، معناه: أو لم يتفكروا، فيقولوا هذا القول؟ وقيل معناه: فيعلموا، لأن في الكلام دليلاً عليه. انتهى. والدليل هوقوله: {أَوَ لَمْ * يَتَفَكَّرُواْ }. وقيل: {أَوَ لَمْ * يَتَفَكَّرُواْ } متصل بما بعده، ومثله: ثم

{ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ }

ومثله:

{ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ }

فيكون في بمعنى الباء، ثم {يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِممّن }، كأنه قال: أو لم يتفكروا بقلوبهم فيعلموا. انتهى. ويجوز أن يكون تفكروا هنا معلقة، ومتعلقها الجملة من قوله:{مَا خَلَقَ } إلى آخرها. و{فِى أَنفُسِهِمْ }: ظرف على سبيل التأكيد، لأن الفكر لا يكون إلا في النفس، كماأن الكتابة لا تكون إلا باليد. و{بِٱلْحَقّ }: في موضع الحال، أي وهي ملتبسة بالحق مقترنة به، وبتقدير أجل مسمىلا بد لها أن تنتهي إليه وهو: قيام الساعة، ووقت الحساب والثواب والعقاب. ألا ترى إلى قوله:

{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ }

كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثاً؟ والمراد بلقاء ربهم: الأجل المسمى.وقال ابن عطية: {إِلاَّ بِٱلْحَقّ }، أي بسبب المنافع التي هي حق واجب، يريد من الدلالة عليه والعبادة له دونفتور، والانتصار للعبرة ومنافع الإرفاق وغير ذلك. {وَأَجَلٌ } عطف على الحق، أي وبأجل مسمى، وهو يوم القيامة. ففي الآيةإشارة إلى البعث والنشور وفساد بنية هذا العالم. ثم أخبر عن كثير من الناس أنهم كفروا بذلك المعنى، فعبر عنهابلقاء الله، لأن لقاء الله هو عظيم الأمر، فيه النجاة والهلكة. انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي: قدم هنادلائل الأنفس على دلائل الآفاق، وفي:

{ سَنُرِيهِمْ ءايَـٰتِنَا فِى ٱلاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ }

دلائل الآفاق على دلائل الأنفس، وحكمةذلك أن المفيد يذكر الفائدة على وجه يختارها، فإن فهمت، وإلا انتقل إلى الأبين. والمستفيد يفهم أولاً الأبين، ثم يرتقيإلى الأخفى. وفي {أَوَ لَمْ * يَتَفَكَّرُواْ } بفعل مسند إلى السامع، فبدأ بما يفهم أولاً، ثم ارتقى إليه ثانياً.وفي

{ سَنُرِيهِمْ }

أسند إلى المفيد، فذكر أولاً، الآفاق، فإن لم يفهموا، فالأنفس، إذ لا ذهول للإنسان عن دلائلها،بخلاف دلائل الآفاق، لأنه قد يذهل عنها، وهذا مراعي في

{ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً }

الآية. بدأبأحوال الأنفس، ثم بدلائل الآفاق. وقال أيضاً هنا: {وَإِنَّ كَثِيرًا }، {وَقَبْلَ }، {وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ }، وذلك أن هناذكر كثيراً بعد ذكر الدلائل الواضحة، وهما: {أَوَ لَمْ * يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ }، و{مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ }. والإيمان بعدالدلائل أكثر من الإيمان قبلها، فبعد ذكر الدليل، لا بد أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع، فلا يبقى الأكثر. انتهى،وفيه تلخيص. ولا يتم كلامه الأول إلا إذا جعل {فِى أَنفُسِهِمْ } محلاً للتفكر، وجعل {مَا خَلَقَ } أيضاً محلاًثانياً. {أَوَ لَمْ * يَسِيرُواْ فِى ٱلاْرْضِ }: هذا تقرير توبيخ، أي قد ساروا ونظروا إلى ما حمل ممنكان قبلهم من مكذبي الرسل، ووصف حالهم من الشدة وإثارة الأرض وعمارتها، وأنهم أقوى منهم في ذلك. قال مجاهداً: {وَأَثَارُواْٱلاْرْضَ }: حرثوها. وقال الفراء: قلبوها للزراعة. وقال غيرهما: قلبوا وجه الأرض لاستنباط المياه، واستخراج المعادن، وإلقاء البذر فيها للزراعة؛والإثارة: تحريك الشيء حتى يرتفع ترابه. وقرأ أبو جعفر: وآثاروا الأرض، بمدة بعد الهمزة. وقال ابن مجاهد: ليس بشيء، وخرجهأبو الفتح على الإشباع كقوله

:ومن ذم الزمان بمنتزاح    

وقال: من ضرورة الشعر، ولا يجيء فيالقرآن. وقرأ أبو حيوة: وآثروا من الإثرة، وهو الاستبداد بالشيء. وقرىء: وأثروا الأرض: أي أبقوا عنها آثاراً. {وَعَمَرُوهَا }: منالعمارة، أي بقاؤهم فيها أكثر من بقاء هؤلاء، أو من العمران: أي سكنوا فيها، أو من العمارة. قال الزمخشري: {أَكْثَرَمِمَّا عَمَرُوهَا }: من عمارة أهل مكة، وأهل مكة أهل واد غير ذي زرع، ما لهم إثارة الأرض أصلاً، ولاعمارة لهم رأساً، فما هو إلاّ تهكم بهم وتضعيف حالهم في دنياهم، لأن معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهونبه أمر الدهقنة، وهم أيضاً ضعاف القوى. {فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ }: قبله محذوف، أي فكذبوهم فأهلكوا. وقرأ الحرميان، وأبوعمرو: {ثُمَّ كَانَ عَـٰقِبَةَ } بالرفع اسما لكان، وخبرها {*السوأى}، أو هو تأنيث الأسوإ، افعل من السوء. {ٱلسُّوءىٰ أَن كَذَّبُواْ}: مفعول من أجله متعلق بالخبر، لا بأساء، وإلا كان فيه الفصل بين الصلة ومتعلقها بالخبر، وهو لا يجوز؛ والمعنى:ثم كان عاقبتهم، فوضع المظهر موضع المضمر. {*السوأى}: أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة، وهي جهنم. ويجوز أنتكون {*السوأى} مصدراً على وزن فعلى، كالرجعى، وتكون خبراً أيضاً. ويجوز أن تكون مفعولاً بأساء بمعنى اقترفوا، وصفة مصدر محذوف،أي الإساءة السوأى، ويكون خبر كان {ٱلسُّوءىٰ أَن كَذَّبُواْ }. وقرأ الأعمش والحسن: السوى، بإبدال الهمزة واواً وإدغام الواو فيها،كقراءة من قرأ:

{ بِٱلسُّوء }

بالإدغام في يوسف. وقرأ ابن مسعود: السوء، بالتذكير. وقرأ الكوفيون وابن عامر: {عَـٰقِبَةُ }،بالنصب، خبر كان، والاسم السوأى، أو السوء مفعول، وكذبوا الاسم. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون أن بمعنى: أي تفسير الإساءةالتكذيب والاستهزاء، كانت في بمعنى القول، نحو: نادى وكتب. ووجه آخر، وهو أن يكون {*أساؤا السوأى} بمعنى: اقترفوا الخطيئة التيهي أسوأ الخطايات، {وَأَنْ * كَذَّبُواْ } عطف بيان لها، وخبر كان محذوف، كما يحذف جواب لما ولو إرادة الإبهام.انتهى. وكون أن هنا حرف تفسير متكلف جداً. وأما قول الخطايات فكذا هو في النسخة التي طالعناها، جمع جمع تكسيربالألف والتاء، وذلك لا ينقاس، إنما يقتصر فيه على مورد السماع، ولا يبعد أن يكون زيادة التاء في الخطايات منالناسخ. وأما قوله: {وَأَنْ * كَذَّبُواْ } عطف بيان لها، أي للسوأى، وخبر كان محذوف الخ. فهذا فهم أعجمي، لأنالكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف، فيتكلف له محذوفاً يدل عليه دليل. وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان وأخواتها،لا اقتصاراً ولا اختصاراً، إلا إن ورد منه شيء، فلا ينقاس عليه. وقرأ عبد الله وطلحة: يبدىء، بضم الياءوكسر الدال؛ والجمهور: بفتحها؛ والأبوان: يرجعون، بياء الغيبة؛ والجمهور: بتاء الخطاب، أي إلى ثوابه وعقابه؛ والجمهور: يبلس، بكسر اللام؛ وعليوالسلمي: بفتحها، من أبلسه إذا أسكته؛ والجمهور: ولم يكن، بالياء؛ وخارجة والأريس، كلاهما عن نافع، وابن سنان عن أبي جعفر،والأنطاكي عن شيبة: بتاء التأنيث. {مّن شُرَكَائِهِمْ }: من الذين عبدوهم من دون الله، وهي الأوثان، وأضيفوا إليهم لأنهم أشركوهمفي أموالهم، وقيل: لأنهم اتخذوها بزعمهم شركاء لله. وقال مقاتل: المراد بهم الملائكة شفعاء لله، كما زعموا:

{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى }

{وَكَانُواْ } معناه: ويكون عند معاينتهم أمر الله وفساد حال الأصنام عبر بالماضي، لتيقنالأمر وصحة وقوعه. وكتب السوأى بالألف قبل الياء، كما كتبوا علماء بني إسرائيل بواو قبل الألف والتنوين في {يَوْمَئِذٍ }،تنوين عوض من الجملة المحذوفة، أي {وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ }، يوم إذ {يُبْلِسُ ٱلْمُجْرِمُونَ }. والضمير في {يَتَفَرَّقُونَ } للمسلمينوالكافرين، لدلالة ما بعده عليه. قال الزمخشري: ويظهر أنه عائد على ما قبله، إذ قبله: {ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}. قال قتادة: هي فرقة، لا اجتماع بعدها. {فِى رَوْضَةٍ }، الروضة، الأرض ذات النبات والماء، وفي المثل: أحسنمن بيضة، يريدون: بيض النعامة، والروضة مما تعجب العرب، وقد أكثروا من مدحها في أشعارهم. {يُحْبَرُونَ }: يسرون. حبره: سرهسروراً، وتهلل له وجهه وظهر له أثره. يحبر بالضم، حبراً وحبرة وحبوراً، وفي المثل: امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينتظرون العبرة.وحكى الكسائي: حبرته: أكرمته ونعمته. وقال علي بن سليمان: هو من قولهم: على أسنانه حبرة، أي أثر، أي يسير عليهمأثر النعمة. وقيل: من التحبير، وهو التحسين، أي يحسنون. ويقال: فلان حسن الحبر والسبر، بالفتح، إذا كان جميلاً حسن الهيئة.وقال ابن عباس، والضحاك، ومجاهد: يكرمون. وقال يحيـى بن أبي كثير، والأوزاعي، ووكيع: يسمعون الأغاني. وقال أبو بكر، وابن عباس:يتوجون على رؤوسهم. وقال ابن كيسان: يحلون. ومعنى {مُحْضَرُونَ }: مجموعون له، لا يغيب أحد منهم عنه بقوله:

{ وَمَا هُم بِخَـٰرِجِينَ مِنْهَا }

وجاء في روضة منكراً وفي معرفاً. قال الزمخشري: والتنكير لإيهام أمرها وتفخيمه، وجاء يحبرون بالفعل المضارعلاستعماله للتجدد، لأنهم كل ساعة يأتيهم ما يسرون به من متجددات الملاذ وأنواعها المختلفة. وجاء {مُحْضَرُونَ } باسم الفاعل لاستعمالهللثبوت، فهم إذا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين، فهو وصف لاذم لهم. {فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ *وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيّتَ مِنَ ٱلْحَىِّ وَيُحْىِٱلاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ ءايَـٰتِهِأَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوٰجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَـٰتٍ لّقَوْمٍ }. لمابين تعالى عظيم قدرته في خلق السموات والأرض بالحق، وهو حالة ابتداء العالم، وفي مصيرهم إلى الجنة والنار، وهي حالةالانتهاء، أمر تعالى بتنزيهه من كل سوء. والظاهر أنه أمر عباده بتنزيهه في هذه الأوقات، لما يتجدد فيها من النعم.ويحتمل أن يكون كناية عن استغراق زمان العبد، وهو أن يكون ذاكراً ربه، واصفه بما يجب له على كل حال.وقال الزمخشري: لما ذكر الوعد والوعيد، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد. وقيل: المراد هنا بالتسبيح:الصلاة. فعن ابن عباس وقتادة: المغرب والصبح والعصر والظهر، وأما العشاء ففي قوله:

{ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ }

وعن ابنعباس: الخمس، وجعل {حِينَ تُمْسُونَ } شاملاً للمغرب والعشاء. {وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ }: اعتراض بين الوقتين، ومعناه:أن الحمد واجب على أهل السموات وأهل الأرض، وكان الحسن يذهب إلى أن هذه الآية مدنية، لأنه كان يقول: فرضتالخمس بالمدينة. وقال الأكثرون: بل فرضت بمكة؛ وفي التحرير، اتفق المفسرون على أن الخمس داخلة في هذه الآية. وعن ابنعباس: ما ذكرت الخمس إلا فيها، وقدم الإمساء على الإصباح، كما قدم في قول

{ يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ }

والظلمات على النور، وقابل بالعشي الإمساء، وبالإظهار الإصباح، لأن كلا منهما يعقب بما يقابله؛ فالعشي يعقبه الإمساء، والإصباح يعقبه الإظهار.ولما لم يتصرف من العشي فعل، لا يقال أعشى، كما يقال أمسى وأصبح وأظهر، جاء التركيب {وَعَشِيّاً }. وقرأ عكرمة:حينا تمسون وحينا تصبحون، بتنوين حين، والجملة صفة حذف منها العائد تقديره: تمسون فيه وتصبحون فيه. ولما ذكر الإبداء والإعادة،ناسب ذكره: {يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ }، وتقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران. {وَكَذٰلِكَ }: أي مثل ذلكالإخراج، والمعنى: تساوي الإبداء والإعادة في حقه تعالى. وقرأ الجمهور: {تُخْرَجُونَ }، بالتاء المضمومة، مبنياً للمفعول؛ وابن وثاب وطلحة والأعمش:بفتح تاء الخطاب وضم الراء. ثم ذكر تعالى آياته من بدء خلق الإنسان، آية آية، إلى حين بعثه منالقبر فقال: {وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ }: جعل خلقهم من تراب، حيث كان خلق أباهم آدم من تراب.و{تَنتَشِرُونَ }: تتصرفون في أغراضكم بثم المقتضية المهلة والتراخي. ونبه تعالى على عظيم قدرته بخلق الإنسان من تراب، وهو أبعدالأشياء عن درجة الإحياء، لأنه بارد يابس، والحياة بالحرارة والرطوبة، وكذا الروح نير وثقيل، والروح خفيف وساكن، والحيوان متحرك إلىالجهات الست، فالتراب أبعد من قبول الحياة من سائر الأجسام. {مّنْ أَنفُسِكُمْ }: فيها قولاً

{ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا }

إما كون حواء خلقت من ضلع آدم، وأما من جنسكم ونوعكم. وعلل خلق الأزواج بالسكون إليها، وهو الإلف. فمتى كانمن الجنس، كان بينهما تألف، بخلاف الجنسين، فإن يكون بينهما التنافر، وهذه الحكمة في بعث الرسل من جنس بني آدم.ويقال: سكن إليه: مال، ومنه السكن: فعل بمعنى مفعول. {مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً }: أي بالأزواج، بعد أن لم يكن سابقة تعارفيوجب التواد. وقال مجاهد والحسن وعكرمة: المودة: النكاح، والرحمة: الولد، كنى بذلك عنهما. وقيل: مودّة للشابة، ورحمة للعجوز. وقيل: مودةللكبير، ورحمة للصغير. وقيل: هما اشتباك الرحم. وقيل: المودة من الله، والبغض من الشيطان. {وَٱخْتِلَـٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ }: أي لغاتكم،فمن اطلع على لغات رأى من اختلاف تراكيبها أو قوانينها، مع اتحاد المدلول، عجائب وغرائب في المفردات والمركبات. وعن وهب:أن الألسنة اثنان وسبعون لساناً، في ولد حام سبعة عشر، وفي ولد سام تسعة عشر، وفي ولد يافث ستة وثلاثون.وقيل: المراد باللغات: الأصوات والنغم. وقال الزمخشري: الألسنة: اللذات وأجناس النطف وأشكاله. خالف عز وجل بين هذه الأشياء حتى لاتكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد، ولا جهارة، ولا حدة، ولا رخاوة، ولا فصاحة، ولا لكنة، ولا نظم، ولاأسلوب، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله. انتهى. {وَأَلْوٰنِكُمْ }: السواد والبياض وغيرهما، والأنواع والضروب بتخطيط الصور، ولولا ذلكالاختلاف، لوقع الالتباس وتعطلت مصالح كثيرة من المعاملات وغيرها. وفيه آية بينة، حيث فرعوا من أصل واحد، وتباينوا في الأشكالعلى كثرتهم. وقرأ الجمهور: {لّلْعَـٰلَمِينَ }، بفتح اللام، لأنها في نفسها آية منصوبة للعالم. وقرأ حفص وحماد بن شعيب عنأبي بكر، وعلقمة عن عاصم، ويونس عن أبي عمرو: بكسر اللام، إذ المنتفع بها إنما هم أهل العلم، كقوله:

{ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ ٱلْعَـٰلِمُونَ }

والظاهر أن {ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ } متعلق {*بمنامكم}، فامتن تعالى بذلك، لأن النهار قد يقام فيه،وخصوص من كل مشتغلاً في حوائجه بالليل. {وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَاؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ }: أي فيهما، أي في الليل والنهار معاً، لأنبعض الناس قد يبتغي الفعل بالليل، كالمسافرين والحراس بالليل وغيرهم. وقال الزمخشري: هذا من باب اللف، وترتيبه: {وَمِنْ ءايَـٰتِهِمَنَامُكُم بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَاؤُكُمْ }، ولأنه فصل بين الفريقين الأولين بالقرينين الآخرين لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيء واحد معإعانة اللف على ذلك، ويجوز أن يراد {مَنَامُكُم } في الزمانين، {وَٱبْتِغَاؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ } فيهما. والظاهر هو الأول لتكررهفي القرآن، وأسد المعاني ما دل عليه القرآن. وقال ابن عطية: وقال بعض المفسرين: في الكلام تقديم وتأخير، وهذا ضعيف،وإنما أراد أن ترتب النوم في الليل والابتغاء للنهار، ولفظ الآية لا يعطي ذلك. {وَمِنْ ءايَـٰتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً }:إما أن يتعلق من آياته بيريكم، فيكون في موضع نصب، ومن لابتداء الغاية، أو يكون يريكم على إضمار أن، كماقال

:ألا أيهذا الزاجري أحضر الوعى    

برفع أحضر، والتقدير أن أحضر، فلما حذف أن،ارتفع الفعل، وليس هذا من المواضع التي يحذف منها أن قياساً، أو على إنزال الفعل منزلة المصدر من غير مايسبكه له، كما قال الخليل في قول

:أريد لأنسى حبها    

أي أرادني لأنسى حبها، فيكونالتقدير في هذين الوجهين: ومن آياته إراءته إياكم البرق، فمن آياته في موضع رفع على أنه خبر المبتدأ. وقال الرماني:يحتمل أن يكون التقدير: ومن آياته يريكم البرق بها، وحذف لدلالة من عليها، كما قال الشاعر

: وما الدهر إلا تارتان فمنهما     أموات وأخرى أبتغي العيش أكدح

أي: فمنهما تارة أموات،ومن على هذه الأوجه الثلاثة للتبعيض. وانتصب {خَوْفًا وَطَمَعًا } على أنهما مصدران في موضع الحال، أي خائفين وطامعين. وقيل:مفعول من أجله. وقال الزجاج: وأجازه الزمخشري على تقدير إرادة خوف وطمع، فيتحد الفاعل في العامل والمحذوف، ولا يصح أنيكون العامل يريكم، لاختلاف الفاعل في العامل والمصدر. وقال الزمخشري: المفعولون فاعلون في المعنى، لأنهم راؤون مكانه، فكأنه قيل: لجعلكمرائين البرق خوفاً وطمعاً. انتهى. وكونه فاعلاً، قيل: همزة التعدية لا تثبت له حكمه بعدها، على أن المسألة فيها خلاف.مذهب الجمهور: اشتراط اتحاد الفاعل، ومن النحويين من لا يشترطه. ولو قيل: على مذهب من يشترطه. أن التقدير: يريكم البرقفترونه خوفاً وطمعاً، فحذف العامل للدلالة، لكان إعراباً سائغاً واتحد فيها الفاعل. وقال الضحاك: خوفاً من صواعقه، وطمعاً في مطره.وقال قتادة: خوفاً للمسافر، وطمعاً للمقيم. وقيل: خوفاً أن يكون خلباً، وطمعاً أن يكون ماطراً. وقال الشاعر

: لا يكن برقك برقاً خلبا     إن خير البرق ما العيث معه

وقال ابن سلام:خوفاً من البرد أن يهلك الزرع، وطمعاً في المطر أن يحييه. {وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَن تَقُومَ }: أن تثبت وتمسك، مثل:وإذا أظلم عليهم قاموا: أي ثبتوا بأمره، أي بإرادته. وإذا الأولى للشرط، والثانية للمفاجأة جواب الشرط، والمعنى: أنه لا يتأخرطرفة عين خروجكم عن دعائه، كما يجيب الداعي المطيع مدعوه، كما قال الشاعر

: دعوت كليباً دعوة فكأنمادعوت قرين الطود أو هو أسرع    

قرين الطود: الصد، أو الحجران أيد هذا. والطود: الجبل. و{*الدعوة}: البعثمن القبور، و{دَعْوَةً مّنَ ٱلاْرْضِ } يتعلق بدعاكم، و{دَعْوَةُ }: أي مرة، فلا يحتاج إلى تكرير دعاءكم لسرعة الإجابة. وقيل:{مّنَ ٱلاْرْضِ } صفة لدعوة. وقال ابن عطية: ومن عندي هنا لأنتهاء الغاية، كما يقول: دعوتك من الجبل إذا كانالمدعو في الجبل. انتهى. وكون من لأنتهاء الغاية قول مردود عند أصحابنا. وعن نافع ويعقوب: أنهما وقفا على دعوة، وابتدآمن الأرض. {إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } علقاً من الأرض بتخرجون، وهذا لا يجوز، لأن فيه الفصل بين الشرط وجوابه، بالوقفعلى دعوة فيه إعمال ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، وهو لا يجوز. وقال الزمخشري: وقوله: {إِذَا دَعَاكُمْ } بمنزلةقوله: {يُرِيكُمْ } في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى، كأنه قال: ومن آياته قيام السموات والأرض، ثم خروج الموتىمن القبور إذا دعاهم دعوة واحدة: يا أهل القبور أخرجوا، وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض بثم، بياناً لعظيمما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور قوموا، فلا تبقى نسمة من الأولينوالآخرين إلا قامت تنظر. انتهى. وقرأ حمزة والكسائي: تخرجون، بفتح التاء وضم الراء؛ وباقي السبعة: بضمها وفتح الراء. وبدأأولاً من الآيات بالنشأة الأولى، وهي خلق الإنسان من التراب، ثم كونه بشراً منتشراً، وهو خلق حي من جماد، ثمأتبعه بأن خلق له من نفسه زوجاً، وجعل بينهما تواد، وذلك خلق حي من عضو حي. وقال: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }،لأن ذلك لا يدرك إلا بالفكر في تأليف بين شيئين لم يكن بينهما تعارف، ثم أتبعه بما هو مشاهد للعالمكلهم، وهو خلق السموات والأرض، واختلاف اللغات والألوان، والاختلاف من لوازم الإنسان لا يفارقه. وقال: {لّلْعَـٰلَمِينَ }، لأنها آية مكشوفةللعالم، ثم اتبعه بالمنام والابتغاء، وهما من الأمور المفارقة في بعض الأوقات، بخلاف اختلاف الألسنة والألوان. وقال: {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ }،لأنه لما كان من أفعال العبادة قد يتوهم أنه لا يحتاج إلى مرشد، فنبه على السماع، وجعل البال من كلامالمرشد. ولما ذكر عرضيات الأنفس اللازمة والمفارقة، ذكر عرضيأ الآفاق المفارقة من إراءة البرق وإنزال المطر، وقدمها على ما هومن الأرض، وهو الإتيان والإحياء، كما قدم السموات على الأرض، وقدم البرق على الإنزال، لأنه كالمبشر يجيء بين يدي القادم.والأعراب لا يعلمون البلاد المعشبة، إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب إلى جانب. وقال: {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }،لأن البرق والإنزال ليس أمراً عادياً فيتوهم أنه طبيعة، إذ يقع ذلك ببلدة دون أخرى، ووقتاً دون وقت، وقوياً وضعيفاً،فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار، فقال: هو آية لمن عقل بأن لم يتفكر تفكراً تاماً. ثمختم هذه الآيات بقيام السموات الأرض، وذلك من العوارض اللازمة، فإن كلاً من السماء والأرض لا يخرج عن مكانه، فيتعجبمن وقوف الأرض وعدم نزولها، ومن علو السماء وثباتها من غير عمد. ثم أتبع ذلك بالنشأة الأخرى، وهي الخروج منالأرض، وذكر تعالى من كل باب أمرين: من الأنفس خلقكم وخلق لكم، ومن الآفاق السماء والأرض، ومن لوازم الإنسان اختلافالألسنة واختلاف الألوان، ومن خواصه المنام والابتغاء، ومن عوارض الآفاق البرق والمطر، ومن لوازمه قيام السماء وقيام الأرض. {وَلَهُمَن فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * كُلٌّ لَّهُ قَـٰنِتُونَ * وَهُوَ ٱلَّذِى يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُٱلْمَثَلُ ٱلاعْلَىٰ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ * ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ * مِمَّامَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ * مّن شُرَكَاء * فِيمَا * رَزَقْنَـٰكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصّلُ ٱلاْيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* بَلِ * ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَا لَهُمْ مّن نَّـٰصِرِينَ * فَأَقِمْوَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذَلِكَ ٱلدّينُ ٱلْقَيّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ }.{مَن فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ }: عام في كونهم تحت ملكه وقهره. وقال الحسن: {قَـٰنِتُونَ }: قائمون بالشهادة على وحدانيته،كما قال الشاعر

: وفي كل شيء له آية     تدل على أنه واحد

وقال ابن عباس: مطيعون، أي في تصريفه، لا يمتنع عنه شيء يريد فعله بهم، من حياة وموتوصحة ومرض، فهي طاعة الإرادة لا طاعة العبادة. وقيل: قائمون يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين. وإذا حمل القنوتعلى الإخلاص، كما قال ابن جبير، أ على الإقرار بالعبودية، أو قانتون من ملك ومؤمن، لأن كل عام مخصوص. {وَهُوَأَهْوَنُ عَلَيْهِ }: أي والعود أهون عليه، وليست أهون أفعل تفصيل، لأنه تفاوت عند الله في النشأتين: الإبداء والإعادة، فلذلكتأوله ابن عباس والربيع بن خيثم على أنه بمعنى هين، وكذا هو في مصحف عبد الله. والضمير في عليه عائدعلى الله. وقيل: أهون للتفضيل، وذلك بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في المشاهد من أن الإعادة في كثير منالأشياء أهون من البداءة، للاستغناء عن الروية التي كانت في البداءة؛ وهذا، وإن كان الاثنان عنده تعالى من اليسر فيحيز واحد. وقيل: الضمير في عليه عائد على الخلق، أي والعود أهون على الخلق: بمعنى أسرع، لأن البداءة فيها تدرجمن طور إلى طور إلى أن يصير إنساناً، والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات في الأطوار، إنما يدعوه الله فيخرج،فكأنه قال: وهو أيسر عليه، أي أقصر مدة وأقل انتقالاً. وقيل: المعنى وهو أهون على المخلوق، أي يعيد شيئاً بعدإنشائه، فهذا عرف المخلوقين، فكيف تنكرون أنتم الإعادة في جانب الخالق؟ قال ابن عطية: والأظهر عندي عود الضمير على اللهتعالى، ويؤيده قوله تعالى: {وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلاعْلَىٰ }، كما جاء بلفظ فيه استعاذة واستشهاد بالمخلوق على الخالق، وتشبيه بما يعهدهالناس من أنفسهم، خلص جانب العظمة، بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يتصل به، فكيف ولا تمثال مع شيء؟انتهى. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ }، وقدمت في قوله:

{ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ }

قلت: هنالك قصد الاختصاص، وهو تجبره، فقيل: وهو على هين، وإن كان مستصعباً عندك، وإن تولد بين هرموعاقر. وأما هنا لا معنى للاختصاص، كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء؟ فلو قدمتالصلة لتغير المعنى. انتهى. ومبنى كلامه على أن تقديم المعمول يؤذن بالاختصاص، وقد تكلمنا معه في ذلك، ولم نسلمه فيقوله:

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ }

{وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلاعْلَىٰ }، قيل: هو متعلق بما قبله، قاله الزجاج، وهو قوله: {وَهُوَأَهْوَنُ }؛ قد ضربه لكم مثلاً فيما يسهل أو يصعب. وقيل: بما بعده من قوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ}. وقيل: المثل: الوصف الأرفع الأعلى الذي ليس لغيره مثله، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاءوإعادة وغيرهما. {وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ }: أي القاهر لكل شيء، الحكيم الذي أفعالى على مقتضى حكمته. وعن مجاهد: المثل الأعلى قوله:

{ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ }

وله الوصف بالوحدانية، ويؤيده قول: {ضَرَبَ لَكُمْ }. وقال ابن عباس وغيره: بينتعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله، بضربه هذا المثل، ومعناه: أنكم أيها الناس، إذا كان لكم عبيد تملكونهم،فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهم أموركم، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة، وليس من شأنكم أن تخافوهم فيأن يرثوا أموالكم، أو يقاسمونكم إياها في حياتكم، كما يفعل بعضكم ببعض؛ فإذا كان هذا فيكم، فكيف تقولون: إن منعبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته وتثبتون في جانبه ما لا يليق عندكم بجوانبكم؟ وجاء هذا المعنى في معرض السؤالوالتقرير. وقال السدي: كانوا يورثون آلهتهم، فنزلت. وقيل: لما نزلت، قال أهل مكة: لا يكون ذلك أبداً، فقال رسول اللهﷺ: فلم يجوز لربكم ومن في: {مّنْ أَنفُسِكُمْ } لابتداء الغاية، كأنه قال: أخذ مثلاً،وافترى من أقرب شيء منكم، وهو أنفسكم، ولا يبعد. ومن في: {مِمَّا مَلَكَتْ } للتبعيض، ومن في: {مّن شُرَكَاء }زائدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. يقول: ليس يرضى أحد منكم أن يشركه عبده في ماله وزوجته وما يختص بهحتى يكون مثله، فكيف ترضون شريكاً لله، وهو رب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد؟ وقال أبو عبد الله الرازي: وبينالمثل والممثل به مشابهة ومخالفة. فالمشابهة معلومة، والمخالفة من وجوه: قوله: {مّنْ أَنفُسِكُمْ }: أي من نسلكم، مع حقارة الأنفسونقصها وعجزها، وقاس نفسه عليكم مع عظمتها وجلالتها وقدرتها. وقوله: {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ }: أي عبيدكم، والملك ما قبل النقلبالبيع، والزوال بالعتق، ومملوكه تعالى لا خروج له عن الملك. فإذا لم يجز أن يشرككم مملوككم، وهو مثلكم من جميعالوجوه ومثلكم في الآدمية، حالة الرق، فكيف يشرك الله مملوكه من جميع الوجوه المباين له بالكلية؟ وقوله: {فِيمَا * رَزَقْنَـٰكُمْ}: يعني أن الميسر لكم في الحقيقة إنما هو الله ومن رزقه حقيقة، فإذا لم يجز أن يشرككم فيما هولكم من حيث الاسم، فكيف يكون له تعالى شريك فيما له من جهة الحقيقة؟ انتهى، وفيه بعض تلخيص. و{شُرَكَاء }في موضع رفع بالابتداء، و{فِيمَا * رَزَقْنَـٰكُمْ } متعلق به، و{لَكُمْ } الخبر، و{مِمَّا مَلَكَتْ } في موضع الحال، لأنهنعت نكرة تقدم عليها وانتصب على الحال، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور، والواقع خبراً، وهو مقدر بعد المبتدأ. ومافي فيما {رَزَقْنَـٰكُمْ } واقعة على النوع، والتقدير: هل شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكته أيمانكم كائنون لكم؟ويجوز أن يتعلق لكم بشركاء، ويكون مما رزقناكم في موضع الخبر، كما تقول: لزيد في المدينة مبغض، فلزيد متعلق بمبغضالذي هو مبتدأ، وفي المدينة الخبر، و{فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء } جملة في موضع الجواب للاستفهام المضمن معنى النفي، وفيه متعلقبسواء، و{تَخَافُونَهُمْ } خبر ثان لأنتم، والتقدير: فأنتم مستوون معهم فيما رزقناكم، تخافونهم كما يخاف بعضكم بعضاً أيها السادة. والمقصودنفي الشركة والإستواء والخوف، وليس النفي منسحباً على الجواب وما بعده فقط، كأحد وجهي ما تأتينا فتحدثنا، أي ما تأتينافتحدثنا، إنما تأتي ولا تحدث، بل هو على الوجه الآخر، أي ما تأتينا فكيف تحدثنا؟ أي ليس منك إتيان فلايكون حديث. وكذلك هذا ليس لهم شريك، فلا استواء ولا خوف. وقرأ الجمهور: ، بالنصب، أضيف المصدر إلى الفاعل؛ وابنأبي عبيدة: بالرفع، أضيف المصدر للمفعول، وهما وجهان حسنان، ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل.{كَذٰلِكَ }: أي مثل ذلك التفصيل، {نُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ }: أي نبينها، لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها، لأنه بمنزلة التصويروالتشكيل لها. ألا ترى كيف صور الشرك بالصورة المشوهة؟ وقرأ الجمهور: نفصل، بالنون، حملاً على رزقناكم؛ وعباس عن ابن عمر:بياء الغيبة، رعياً لضرب، إذ هو مسند للغائب. وذكر بعض العلماء في هذه الآية دليلاً على صحة أصل الشركة بينالمخلوقين، لافتقار بعضهم إلى بعض، كأنه يقول: الممتنع والمستقبح شركة العبيد لساداتهم؛ أما شركة السادات بعضهم لبعض فلا يمتنع ولايستقبح. والإضراب ببل في قوله: {بَلِ ٱتَّبَعَ } جاء على ما تضمنته الآية، إذ المعنى: ليس لهم حجة ولا معذرةفيما فعلوا من إشراكهم بالله، بل ذلك بمجرد هوى بغير علم، لأنه قد يكون هوى للإنسان، وهو يعلم. و{ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ}: هم المشركون، اتبعوا أهواءهم جاهلين هائمين على أوجههم، لا يرغمهم عن هواهم علم، إذ هم خالون من العلم الذيقد يردع متبع الهوى. {فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ }: أي لا أحد يهدي من أضله الله، أي هؤلاء ممنأضلهم الله، فلا هادي لهم. وقال الزمخشري: من أضل الله: من خذله الله ولم يلطف به، لعلمه أنه ممن لالطف له ممن يقدر على هداية مثله. {وَمَا لَهُم مّن نَّـٰصِرِينَ }: دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان. انتهى، وهوعلى طريقة الاعتزال. {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ }: فقوم وجهك له وعد له غير ملتفت، وهو تمثيل لإقباله على الدينواستقامته عليه وثباته واهتمامه بأسبابه. فإن من اهتم بالشيء، عقد عليه طرفه وقوم له وجهه مقبلاً به عليه، والدين دينالإسلام. وذكر الوجه، لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه. و{حَنِيفاً }: حال من الضمير في أقم، أو من الوجه، أو منالدين، ومعناه: مائلاً عن الأديان المحرفة المنسوخة. {فِطْرَةَ ٱللَّهِ }: منصوب على المصدر، كقوله:

{ صِبْغَةَ ٱللَّهِ }

وقيل: منصوببإضمار فعل تقديره: التزم فطرة الله. وقال الزمخشري: الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله. وإنما أضمرت على خطاب الجماعةلقوله: {مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ }، ومنيبين حال من الضمير في الزموا. وقوله: {وَأَقِيمُواْ }، {وَلاَ تَكُونُواْ }، معطوف على هذا المضمر.انتهى. وقيل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ }، المراد به: فأقيموا وجوهكم، وليس مخصوصاً بالرسول وحده، وكأنه خطاب لمفرد أريد به الجمع، أي:فأقم أيها المخاطب، ثم جمع على المعنى، لأنه لا يراد به مخاطب واحد. فإذا كان هذا، فقوله: {مُّنِيبِينَ }، {وَأَقِيمُواْ}، {وَلاَ تَكُونُواْ } ملحوظ فيه معنى الجمع. وقول الزمخشري: أو عليكم فطرة الله لا يجوز، لأن فيه حذف كلمةالإغراء، ولا يجوز حذفها، لأنه قد حذف الفعل وعوض عليك منه. فلو جاء حذفه لكان إجحافاً، إذ فيه حذف العوضوالمعوض منه. والفطرة، قيل: دين الإسلام، والناس مخصوصون بالمؤمنين. وقيل: العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهمنسماً من ظهره ورجح الحذاق. إنها القابلية التي في الطفل للنظر في مصنوعات الله، والاستدلال بها على موجده، فيؤمن بهويتبع شرائعه، لكن قد عتعرض له عوارض تصرفه عن ذلك، كتهويد أبويه له، وتنصيرهما، إغواء شياطين الإنس والجن. {لاَتَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ }: أي لا تبديل لهذه القابلية من جهة الخالق. وقال مجاهد، وابن جبير، والضحاك، والنخعي، وابن زيد:لا تبديل لدين الله، والمعنى: لمعتقدات الأديان، إذ هي متفقة في ذلك. وقال الزمخشري: أي ما ينبغي أن تبدل تلكالفطرة أو تغير. وقال ابن عباس: لا تبديل لقضاء الله بسعادتهم وشقاوتهم، وقيل: هو نفي معناه: النهي، أي لا تبدلواذلك الدين. وقيل: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ } بمعنى: الواحدانية مترشحة فيه، لا تغير لها، حتى لو سألته: من خلقالسموات والأرض؟ تقول: الله. ويستغرب ما روي عن ابن عباس أن معنى {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ }: النهي عن خصاءالفحول من الحيوان. وقول من ذهب إلى أن المعنى في هذه الجملة ألجأ على الكفرة، اعترض به أثناء الكلام، كأنهيقول: أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا، فإن هؤلاء الكفرة ومن خلق الله لهم الكفر، و{لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِٱللَّهِ }: أي أنهم لا يفلحون ذلك الذي أمرت بإقامة وجهك له، هو الدين المبالغ في الاستقامة. والقيم: بياء مبالغة،من القيام، بمعنى الاستقامة، ووزنه فعيل، أصله قيوم كيد، اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياءفيها، وهو بناء مختص بالمعتل العين، لم يجىء منه في الصحيح إلا بيئس وصيقل علم لامرأة. {مُّنِيبِينَ }: حالمن {ٱلنَّاسِ }، ولا سيما إذا أريد بالناس: المؤمنون، أو من الضمير في: الزموا فطرة الله، وهو تقدير الزمخشري، أومن الضمير في: {فَأَقِمْ }، إذ المقصود: الرسول وأمته، وكأنه حذف معطوف، أي فأقم وجهك وأمتك. وكذا زعم الزجاج في:

{ ٱلْحَكِيمُ يأيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ }

أي يا أيها النبي والناس، ودل على ذلك مجيء الحال في {مُّنِيبِينَ} جمعاً، وفي {إِذَا طَلَّقْتُمُ } جاء الخطاب فيه وفي ما بعده. جمعاً، أو على خبر كان مضمرة، أي كونوامنيبين، ويدل عليه قوله بعد {وَلاَ تَكُونُواْ }، وهذه احتمالات منقولة كلها. {مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }: من اليهود والنصارى، قاله قتادة.وقال ابن زيد: هم اليهود؛ وعن أبي هريرة وعائشة: أنهم أهل القبلة، ولفظة الإشراك على هذا تجوز بأنهم صاروا فيدينهم فرقاً. والظاهر أن المشركين: كل من أشرك، فيدخل فيهم أهل الكتاب وغيرهم. و{مِنَ ٱلَّذِينَ }: بدل من المشركين، {فَرَّقُواْدِينَهُمْ }: أي دين الإسلام وجعلوه أدياناً مختلفة لاختلاف أهوائهم. {وَكَانُواْ شِيَعاً }: كل فرقة تشايع إمامها الذي كان سببضلالها. {كُلُّ حِزْبٍ }: أي منهم فرح بمذهبه مفتون به. والظاهر أن {كُلُّ حِزْبٍ } مبتدأ و{فَرِحُونَ } الخبر. وقالالزمخشري: ويجوز أن يكون {مِنَ ٱلَّذِينَ } منقطعاً مما قبله ومعناه: من المفارقين دينهم. كل حزب فرحين بما لديهم، ولكنهرفع فرحون على الوصف لكل، كقوله

:وكل خليل غيرها ضم نفسه    

انتهى. قدر أولاً فرحينمجرورة صفة لحزب، ثم قال: ولكنه رفع على الوصف لكل، لأنك إذا قلت: من قومك كل رجل صالح، جاز فيصالح الخفض نعتاً لرجل، وهو الأكثر، كقوله

: جادت عليه كل عين ترة     فتركن كل حديقة كالدرهم

وجاز الرفع نعتاً لكل، كقوله

: وعليه هبت كل معصفة     هو جاء ليس للبها دبر

يرفع هو جاء صفة لكل. {وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ }. الضر: الشدة،من فقر، أو مرض، أو قحط، أو غير ذلك؛ والرحمة: الخلاص من ذلك الضر. {دَعَوْاْ رَبَّهُمْ }: أفردوه بالتضرع والدعاءلينجوا من ذلك الضر، وتركوا أصنامهم لعلمهم أنه لا يكشف الضر إلا هو تعالى، فلهم في ذلك الوقت إنابة وخضوع،وإذا خلصهم من ذلك الضر، أشرك فريق ممن اخلص، وهذا الفريق هم عبدة الأصنام. قال ابن عطية: ويلحق من هذهالألفاظ شيء للمؤمنين، إذ جاءهم فرج بعد شدة، علقوا ذلك بمخلوقين، أو بحذق آرائهم، أو بغير ذلك، ففيه قلة شكرالله، ويسمى مجازاً. وقال أبو عبد الله الرازي: يقول: تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني وسبب الصنم الفلاني، بل ينبغي أنلا يعتقد أنه يخلص بسبب فلان إذا كان ظاهراً، فإنه شرك خفي. انتهى. و{إِذَا فَرِيقٌ }: جواب {إِذَا أَذَاقَهُمْ }،الأولى شرطية، والثانية للمفاجأة، وتقدم نظيره، وجاء هنا فريق، لأن قوله: {وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَ } عام للمؤمن والكافر، فلا يشركإلا الكافر. وضر هنا مطلق، وفي آخر العنكبوت

{ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }

لأنه في مخصوصين من المشركين عباد الأصنام،والضر هناك معين، وهو ما يتخوف من ركوب البحر. {إِذَا هُمْ }: أي ركاب البحر عبدة الأصنام، ويدل على ذلكما قبله وما بعده. واللام في {لِيَكْفُرُواْ } لام كي، أو لام الأمر للتهديد، وتقدم نظيره في آخر العنكبوت.وقرأ الجمهور: {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }، بالتاء فيهما. وقرأ أبو العالية: فيتمتعوا، بياء قبل التاء، عطف أيضاً على {لِيَكْفُرُواْ }،أي لتطول أعمارهم على الكفر؛ وعنه وعن عبد الله: فليتمتعوا. وقال هارون في مصحف عبد الله: يمتعوا. {أَمْ أَنزَلْنَا }،أم: بمعنى بل، والهمزة للإضراب عن الكلام السابق، والهمزة للاستفهام عن الحجة استفهام إنكار وتوبيخ. والسلطان: البرهان، من كتاب أونحوه. {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ }: أي يظهر مذهبهم وينطق بشركهم، والتكلم مجاز لقوله:

{ هَـٰذَا كِتَـٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقّ }

وهويتكلم: جواب للاستفهام الذي تضمنه أم، كأنه قال: بل أنزلنا عليهم سلطاناً، أي برهاناً شاهداً لكم بالشرك، فهو يشهد بصحةذلك، وإن قدر ذا سلطان، أي ملكاً ذا برهان، كان التكلم حقيقة. {وَإِذَا أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً }: أي نعمة،من مطر، أو سعة، أو صحة. {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ }: أي بلاء، من حدث، أو ضيق، أو مرض. {بِمَا قَدَّمَتْأَيْدِيهِمْ * مِنْ } المعاصي.

{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ }

ففي إصابة الرحمةفرحوا وذهلوا عن شكر من أسداها إليهم، وفي إصابة البلاء قنطوا ويئسوا وذهلوا عن الصبر، ونسوا ما أنعم به عليهمقبل إصابة البلاء. و{إِذَا هُمْ } جواب: {وَإِن تُصِبْهُمْ }، يقوم مقام الفاء في الجملة الاسمية الواقعة جواباً للشرط. وحينذكر إذاقة الرحمة، لم يذكر سببها، وهو زيادة الإحسان والتفضل. وحين ذكر إصابة السيئة، ذكر سببها، وهو العصيان، ليتحقق بدله.ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره لم ييأس من روح الله، وهو أنه تعالى هو الباسط القابض، فينبغي أنلا يقنط، وأن يتلقى ما يرد من قبل الله بالصبر في البلاء، والشكر في النعماء، وأن يقلع عن المعصية التيأصابته السيئة بسببها، حتى تعود إليه رحمة ربه. ومناسبة {فَـئَاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ } لما قبله: أنه لما ذكر أنهتعالى هو الباسط القابض، وجعل في ذلك آية للمؤمن، ثم نبه بالإحسان لمن به فاقة واحتياج، لأن من الإيمان الشفقةعلى خلق الله، فخاطب من بسط له الرزق بأداء حق الله من المال، وصرفه إلى من يقرب منه من حج،وإلى غيره من مسكين وابن سبيل. وقال الحسن: هذا خطاب لكل سامع بصلة الرحم، {وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ }. وقيل: للرسول،عليه السلام. وذو القربى: بنو هاشم وبنو المطلب، يعطون حقوقهم من الغنيمة والفيء. وقال الحسن: حق المسكين وابن السبيل منالصدقة المسماة لهما. واحتج أبو حنيفة بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب. أثبت تعالىلذي القربى حقاً، وللمسكين وابن السبيل حقهما. والسورة مكية، فالظاهر أن الحق ليس الزكاة، وإنما يصير حقاً بجهة الإحسانوالمواساة. وللاهتمام بذي القربى، قدم على المسكين وابن السبيل، لأن بره صدقة وصلة. {ذٰلِكَ }: أي الإيتاء، {خَيْرٌ }: أييضاعف لهم الأجر في الآخرة، وينمو ما لهم في الدنيا لوجه الله، أي التقرب إلى رضا الله لا يضره. ثمذكر تعالى من يتصرف في ماله غلى غير الجهة المرضية فقال؛ {وَمَا ءاتَيْتُمْ } أكلة اليربو، ليزيد ويزكو في المال،فلا يزكو عند الله، ولا يبارك فيه لقوله:

{ يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلْرّبَوٰاْ وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَـٰتِ }

قال السدّي: نزلت في رباثقيف، كانوا يعملون بالربا، ويعمله فيهم قريش. وقال ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وطاوس: هذه الآية نزلت في هبات، للثواب.وقال ابن عطية: وما جرى مجراهما مما يصنع للمجازاة، كالسلم وغيره، فهو وإن كان لا إثم فيه، فلا أجر فيهولا زيادة عند الله. وقال ابن عباس أيضاً، والنخعي: نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضلعليهم، وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع به، فذلك النفع لهم. وقال الشعبي قريباً من هذا وهو: أن ما خدمبه الإنسان غيره انتفع به، فذلك النفع لهم. وقال الشعبي أيضاً قريباً من هذا وهو: أن لا يربو عند الله،والظاهر القول الأول، وهو النهي عن الربا. وقرأ الجمهور: {وَمَا ءاتَيْتُمْ }، الأول بمد الهمزة، أي وما أعطيتم؛ وابن كثير:بقصرها، أي وما جئتم. وقرأ الجمهور: ليربو، بالياء وإسناد الفعل إلى الربا؛ وابن عباس، والحسن، وقتادة، وأبو رجاء، والشعبي، ونافع،وأبو حيوة: بالتاء مضمومة، وإسناد الفعل إليهم. وقرأ أبو مالك: ليربوها، بضمير المؤنث. والمضعف: ذو أضعاف في الأجر. قالالفراء: هم أصحاب المضاعفة، كما تقول: هو مسمن، أي صاحب إبل سمان، ومعطش: أي صاحب إبل عطشى. وقرأ أبي: {ٱلْمُضْعِفُونَ}، بفتح العين، اسم مفعول. وقال الزمخشري: {فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُضْعِفُونَ }، التفات حسن، كأنه قال لملائكته وخواص خلقه: فأولئك الذينيريدون وجه الله بصدقاتهم هم المضعفون، والمعنى: المضعفون به بدلالة أولئك هم المضعفون، والحذف لما في الكلام من الدليل عليه،وهذا أسهل مأخذاً، والأول أملأ بالفائدة: انتهى. وإنما احتاج إلى تقدير ما قدر، لأن اسم الشرط ليس بظرف، لا بدأن يكون في الجواب ضمير يعود عليه يتم به الربط. {ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْهَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء سُبْحَـٰنَهُ }. كرر تعالى خطاب الكفار في أمر أوثانهم، فذكرأفعاله التي لا يمكن أن يدعى له فيها شريك، وهي الخلق والرزق والإماتة والإحياء، ثم استفهم على جهة التقرير لهموالتوبيخ، ثم نزه نفسه عن مقالتهم. و{ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ }: مبتدأ وخبر. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون {ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ }صفة للمبتدأ، والخبر: {هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ }؛ وقوله: {مّن ذٰلِكُمُ } هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ لأن معناه: من أفعاله.انتهى. والذي ذكره النحويون أن اسم الإشارة يكون رابطاً إذا كان أشير به إلى المبتدأ. وأما {ذٰلِكُمْ } هنا فليسإشارة إلى المبتدأ، لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الربط بالمعنى، وخالفه الناس، وذلك في قوله:

{ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوٰجًا يَتَرَبَّصْنَ }

قال التقدير: يتربصن أزواجهم، فقدر الضمير بمضاف إلى ضمير الذين، فحصل به الربط، كذلك قدر الزمخشري{مّن ذٰلِكُمُ }: من أفعاله المضاف إلى الضمير العائد على المبتدأ. وقال الزمخشري أيضاً: هل من شركائكم الذين اتخذتموهم أنداداًله من الأصنام وغيرها من يفعل شيئاً، قط من تلك الأفعال، حتى يصح ما ذهبتم إليه؟ فاستعمل قط في غيرموضعها، لأنها ظرف للماضي، وهنا جعلها معمولة ليفعل. وقال الزمخشري أيضاً: ومن الأولى والثانية، كل واحدة مستقبلة تأكيد لتعجيز شركائهموتجهيل عبدتهم؛ فمن الأولى للتبعيض، والجار والمجرور خبر المبتدأ؛ ومن يفعل هو المبتدأ، ومن الثانية في موضع الحال من شيء،لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال؛ ومن الثالثة زائدة لانسحاب الاستفهام الذي معناه النفي على الكلام، التقدير: منيفعل شيئاً من ذلكم، أي من تلك الأفعال. وقرأ الجمهور: {يُشْرِكُونَ }، بياء الغيبة؛ والأعمش، وابن وثاب: بتاء الخطاب،والظاهر مراد ظاهر البر والبحر. وقال الحسن: وظهور الفساد فيهما بارتفاع البركات، ونزول رزايات، وحدوث فتن، وتقلب عدو كافر، وهذهالثلاثة توجد في البر والبحر. وقال ابن عباس: {ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرّ }، القطاع فتسده. وقال مجاهد: {فِى ٱلْبَرّ }، بقتلأحد بني آدم لأخيه، وفي البحر: بأخذ السفن غصباً، وعنه أيضاً: البر: البلاد البعيدة من البحر، والبحر: السوواحل والجزر التيعلى ضفة البحر والأنهار. وقال قتادة: البر: الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحارى والعمور، والبحر: المدن، جمع بحرة، ومنه: ولقد أجمعأهل هذه البحيرة ليتوجوه، يعني قول سعد بن عبادة في عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ويؤيد هذا قراءة عكرمة.والبحور بالجمع، ورويت عن ابن عباس، وكان قد ظهر الفساد براً وبحراً وقت بعثة رسول الله ﷺ،وكان الظلم عم الأرض، فأظهر الله به الدين، وأزال الفساد، وأخمده ﷺ. وقال النحاس: فيه قولان، أحدهما:ظهر الجدب في البر في البوادي وقراها والبحر، أي في مدن البحر، مثل:

{ وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ }

أي ظهر قلةالعشب، وغلاً السعر. والثاني: ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم، فهذا هو الفساد على الحقيقة، والأول مجاز، وقيل: إذا قلالمطر قل الغوص، وأحنق الصياد وعميت دواب البحر. وقال ابن عباس: إذا مطرت تفتحت الأصداف في البحر، فما وقع فيهامن السماء فهو لؤلؤ. {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ }: أي بسبب معاصيهم وذنوبهم. {لِيُذِيقَهُمْ }: أي أنه تعالى أفسدأسباب دنياهم ومحقهم، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا، قبل أن يعاقبهم بها جميعاً في الآخرة. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عماهم فيه. وقال ابن عطية: {بِمَا كَسَبَتْ }: جزاء ما كسبت، ويجوز أن يتعلق الباء بظهر، أي بكسبهم المعاصي فيالبر والبحر، وهو نفس الفساد الظاهر. وقرأ السلمي، والأعرج، وأبو حيوة، وسلام، وسهل، وروح، وابن حسان، وقنبل من طريق ابنمجاهد، وابن الصباح، وأبو الفضل الواسطي عنه، ومحبوب عن أبي عمر. و: لنذيقهم، بالنون؛ والجمهور: بالياء، ثم أمرهم بالمسير فيالأرض، فينظروا كيف أهلك الأمم بسبب معاصيهم وإشراكهم، وذلك تنبيه لقريش وأمر لهم بالاعتبار بمن سلف من الأمم، قوم نوحوعاد وثمود وغيرهم. {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ }: أهلكهم كلهم بسبب الشرك، وقوم بسبب المعاصي، لأنه تعالى يهلك بالمعاصي، كما يهلكبالشرك، كأصحاب السبت. أو أهلكهم كلهم، المشرك والمؤمن، كقوله تعالى:

{ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً }

وأهلكهم كلهم، وهم كفار، فأكثرهم مشركون، وبعضهم معطل. وحين ذكر امتنانه قال: {ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ }، فذكر الوجودثم البقاء بسبب الرزق. وحين ذكر خذلانهم بالطغيان، بسبب البقاء بإظهار الفساد، ثم بسبب الوجود بالإهلاك. {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَيَوْمٌ }: يوم القيامة، وفيه تحذير يعم الناس، {لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ }، المرد: مصدر رد، ومن الله: يحتملأن يتعلق بيأتي، أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد حتى لا يأتي لقوله:

{ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا }

ويحتمل أن يتعلق بمحذوف يدل عليه مرد، أي لا يرده هو بعد أن يجيء به، ولا ردله من جهته. {يَوْمَئِذٍ }: أي يوم إذ يأتي ذلك اليوم. {يَصَّدَّعُونَ }: يتفرقون، فريق في الجنة، وفريق في السعير.يقال: تصدع القوم إذا تفرقوا، ومنه الصداع، لأنه يفرق شعب الرأس، وقال الشاعر

: وكنا كندماني جذيمة حقبة     من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

ثم ذكر حالتي المتفرقين: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ }:أي جزاء كفره، وعبر عن حالة الكافر بعليه، وهي تدل على الفعل والمشقة، وعن حال المؤمن بقوله: {فَلاِنفُسِهِمْ }، باللامالتي هي لام الملك. و{يَمْهَدُونَ }: يوطئون، وهي استعارة من الفرش، وعبارة عن كونهم يفعلون في الدنيا ما يلقون به،ما تقر به أعينهم وتسر به أنفسهم في الجنة. وقال مجاهد: هو التمهيد للقبر. وقال الزمخشري: وتقديم الظرف في الموضعينلدلالة على أن ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر لا يتعداه، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لاتتجاوزه. انتهى. وهو على طريقته في دعواه أن تقديم المفعول وما جرى مجراه يدل على الاختصاص، وأما على مذهبنا فيدلعلى الاهتام، وأما ما يدعيه من الاختصاص فمفهوم من آي كثيرة في القرآن منها:

{ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ }

واللام في {لِيَجْزِىَ }، قال الزمخشري: متعلق بيمهدون، تعليل له وتكرير {ٱلَّذِينَ ءامَنُواْوَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ }، وترك الضمير إلى الصريح لتقديره أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح. وقوله: {أَن لا * يُحِبُّٱلْكَـٰفِرِينَ }، تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس. وقال ابن عطية: ليجزي متعلق بيصدعون، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف تقديرهذلك ليجزي، وتكون الإشارة إلى ما تقرر من قوله تعالى: {مَن كَفَرَ }، {وَمَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً }. انتهى. ويكون قسم{ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } على هذين التقديرين اللذين ذكرهما ابن عطية محذوفاً تقديره: كأنه قال: والكافرون بعد له، ودلعلى حذف هذا القسيم قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَـٰفِرِينَ }. ومعنى نفي الحب هنا: أنه لا تظهر عليهم أمارات رحمته،ولا يرضى الكفر لهم ديناً. وقال الزمخشري: {مِن فَضْلِهِ }: بما تفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب، وهذا يشبهالكناية، لأن الفضل تبع للثواب، فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له، أو أراد من عطائه، وهو ثوابه،لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب. {وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرّيَـٰحَ مُبَشّرٰتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِىَ ٱلْفُلْكُ بِأَمْرِهِوَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُم بِٱلْبَيّنَاتِ فَٱنتَقَمْنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَحَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ * ٱللَّهُ }. لما ذكر تعالى ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك، ذكر ظهور الصلاح. والكريملا يذكر لإحسانه عوضاً، ويذكر لعقابه سبباً لئلا يتوهم به الظلم؛ فذكر من أعلام قدرة إرسال الرياح مبشرات بالمطر، لأنهامتقدمة. والمبشرات: رياح الرحمة، الجنوب والشمال والصبا، وأما الدبور، فريح العذاب، وليس تبشيرها مقتصراً به على المطر، بل لها تبشيراتبسبب السفن والسير بها إلى مقاصد أهلها، وكأنه بدأ أولاً بشيء عام، وهو التبشير. وقرأ الأعمش: الريح، مفرداً، وأراد معنىالجمع، ولذلك قرأ: {مُبَشّرٰتٍ }. ثم ذكر من أعظم تباشيرها إذاقة الرحمة، وهي نزول المطر، ويتبعه حصول الخصب، والريح الذيمعه الهبوب، وإزالة العفونة من الهواء، وتذرية الحبوب، وغير ذلك. {وَلِيُذِيقَكُمْ }: عطف على معنى مبشرات، فالعامل أن يرسل، ويكونعطفاً على التوهم، كأنه قيل: ليبشروكم، والحال والصفة قد يجيئان، وفيهما معنى التعليل. تقول: أهن زيد سيئا وأكرم زيداً العالم،تريد لإماءته ولعلمه. وقيل: ما يتعلق به اللام محذوف، أي ولكنا أرسلناها. وقيل: الواو في وليذيقكم زائدة. و{بِأَمْرِهِ }: أيبأمر الله، يعني أن جريانها، لما كان مسنداً إليها، أخبر أنه بأمره تعالى. {مِن فَضْلِهِ }: مما يهيء لكم منالريح في التجارات في البحر، ومن غنائم أهل الشرك. ثم بين لرسوله بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء،ولما كان تعالى بين الأصلين: المبدأ والمعاد، بين ذكر الأصل الثالث، وهو النبوّة؛ وفي الكلام حذف تقديره: وآمن به بعضوكذب بعض، {فَٱنتَقَمْنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ }. وفي قوله: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ }: تبشير للرسول وأمته بالنصروالظفر، إذا أخبر أن المؤمنين بأولئك المؤمنين نصروا، وفي لفظ حقاً مبالغة في التحتم، وتكريم للمؤمنين، وإظهار لفضيلة سابقة الإيمان،حيث جعلهم مستحقين النصر والظفر. والظاهر أن {حَقّاً } خبر كان، و{نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ } الاسم، وأخر لكون ما تعلق بهفاصلة للاهتمام بالجزاء، إذ هو محط الفائدة. وقال ابن عطية: وقف بعض القراء على حقاً وجعله من الكلام المتقدم، ثماستأنف جملة من قوله: {عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ }، وهذا قول ضعيف، لأنه لم يدر قدر ما عرضه في نظم الآية.وقال الزمخشري: وقد يوقف على {حَقّاً }، ومعناه: وكان الانتقام منهم حقاً، ثم يبتدأ علينا {نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ }. انتهى. وفيالوقف على {وَكَانَ حَقّاً } بيان أنه لم يكن الانتقام ظلماً، بل عدلاً، لأنه لم يكن إلا بعد كون بقائهمغير مفيد إلاّ زيادة الإثم وولادة الفاجر الكافر، فكان عدمهم خيراً من وجودهم الخبيث. {ٱللَّهُ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرّيَـٰحَ }،هذا متعلق بقوله: {وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرّيَـٰحَ مُبَشّرٰتٍ }، والجملة التي بينهما اعتراض، جاءت تأنيساً للرسول وتسلية ووعداً بالنصرووعيداً لأهل الكفر، وفي إرسالها قدرة وحكمة. أما القدرة، فإن الهواء اللطيف الذي يسبقه البرق بحيث يقلع الشجر ويهدم البناء،وهو ليس بذاته يفعل ذلك، بل بفاعل مختار. وأما الحكمة، ففيما يفضي إليه نفس الهبوب من إثارة السحب، وإخراج الماءمنه، وإنبات الزرع، ودر الضرع، واختصاصه بناس دون ناس؛ وهذه حكمة بالغة معروفة بالمشيئة والإثارة، تحريكها وتسييرها. والبسط: نشرها فيالآفاق، والكسف: القطع. وتقدم الكلام على قوله: {فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ }، وذكر الخلاف في {كِسَفًا } وحاله منجهة القراء. والضمير في: {مِنْ خِلاَلِهِ }، الظاهر أنه عائد على السحاب، إذ هو المحدث عنه، وذكر الضمير لأن السحاباسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه. قيل: ويحتمل أن يعود على {كِسَفًا } في قراءة من سكن العين، والمراد بالسماء: سمتالسماء، كقوله:

{ وَفَرْعُهَا فِى ٱلسَّمَاء }

{فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء }: أي أرض من يشاء إصابتها، فاجأهم الاستبشار،ولم يتأخر سرورهم. وقال الأخفش: {مِن قَبْلِهِ } تأكيد لقوله: {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ }. وقال ابن عطية:أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار، وذلك أن قوله: {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } يحتملالفسحة في الزمان، أي من قبل أن ينزل بكثير، كالأيام ونحوه، فجاء قوله: {مِن قَبْلُ } بمعنى: أن ذلك متصلبالمطر، فهو تأكيد مقيد. وقال الزمخشري: وبمعنى التوكيد، فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم يأسهم وتمادىإبلاسهم، فكان الاستبشار على قدر اهتمامهم بذلك. انتهى. وما ذكره ابن عطية والزمخشري من فائدة التأكيد في قوله: {مِن قَبْلِهِ} غير ظاهر، وإنما هو عند ذكره لمجرد التوكيد، ويفيد رفع المجاز فقط. وقال قطرب: التقدير: وإن كانوا من قبلالتنزيل، من قبل المطر. انتهى. وصار من قبل إنزال المطر: من قبل المطر، وهذا تركيب لا يسوغ في كلام فصيح،فضلاً عن القرآن. وقيل: التقدير: من قبل تنزيل الغيث: من قبل أن يزرعوا، ودل المطر على الزرع، لأنه يخرج بسببالمطر؛ ودل على ذلك قوله: {فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً }، يعني الزرع. انتهى. وهذا لا يستقيم، لأن {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} متعلق بقوله: {لَمُبْلِسِينَ }. ولا يمكن من قبل الرزع أن يتعلق بمبلسين، لأن حرفي جر لا يتعلقان بعامل واحدإلا إن كان بواسطة حرف العطف، أو على جهة البدل. وليس التركيب هنا ومن قبله بحرف العطف، ولا يصح فيهالبدل، إذا إنزال الغيث ليس هو الزرع، ولا الزرع بعضه. وقد يتخيل فيه بدل الاشتمال بتكلف. أما لاشتمال الإنزال علىالزرع، بمعنى أن الزرع يكون ناشئاً عن الإنزال، فكأن الإنزال مشتمل عليه، وهذا على مذهب من يقول: الأول يشتمل علىالثاني. وقال المبرد: الثاني السحاب، ويحتاج أيضاً إلى حرف عطف حتى يمكن تعلق الحرفين بمبلسين. وقال علي بن عيسى: منقبل الإرسال. وقال الكرماني: ومن قبل الاستبشار، لأنه قرنه بالإبلاس، ولأنه منّ عليهم بالاستبشار. انتهى. ويحتاج قوله وقول ابن عيسىإلى حرف العطف، فإن ادعى في قوله من جعل الضمير في من قبله عائد إلى غير إنزال الغيث أن حرفالعطف محذوف، أمكن، لكن في حذف حرف العطف خلاف، أينقاس أم لا ينقاس؟ أما حذفه مع الجمل فجائز، وأما وحدهفهو الذي فيه الخلاف. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو، وأبو بكر: إلى أثر، بالإفراد؛ وباقي السبعة: بالجمع؛ وسلام: بكسر الهمزةوإسكان الثاء. وقرأ الجحدري، وابن السميفع، وأبو حيوة: تحيـي، بالتاء للتأنيث، والضمير عائد على الرحمة. وقال صاحب اللوامح: وإنما أنثالأثر لاتصاله بالرحمة إضافة إليها، فاكتسب التأنيث منها، ومثل ذلك لا يجوز إلا إذا كان المضاف بمعنى المضاف إليه، أومن سببه. وأما إذا كان أجنبياً، فلا يجوز بحال. انتهى. وقرأ زيد بن علي: نحيـي، بنون العظمة؛ والجمهور: {يُحْىِ }،بياء الغيبة، والضمير لله، ويدل عليه قراءة {ءاثَـٰرِ } بالجمع، وقيل: يعود على أثر في قراءة من أفرد. وقال ابنجني: {كَيْفَ يُحْىِ } جملة منصوبة الموضع على الحال حملاً على المعنى، كأنه قال: محيياً، وهذا فيه نظر. {إِنَّ ذٰلِكَ}: أي القادر على إحياء الأرض بعد موتها، هو الذي يحيـي الناس بعد موتهم. وهذا الإخبار على جهة القياس فيالبعث، والبعث من الأشياء التي هو قادر عليها تعالى. {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا }: أخبر تعالى عن حال تقلب ابنآدم، أنه بعد الاستبشار بالمطر، بعث الله ريحاً، فاصفر بها النبات. لظلوا يكفرون قلقاً منهم، والريح التي تصفر النبات صرحرور، وهما مما يصبح به النبات هشيماً، والحرور جنب الشمال إذا عصفت. والضمير في {فَرَأَوْهُ } عائد على ما يفهممن سياق الكلام، وهو النبات. وقيل: إلى الأثر، لأن الرحمة هي الغيث، وأثرها هو النبات. ومن قرأ: آثار، بالجمع، رجعالضمير إلى آثار الرحمة، وهو النبات، واسم النبات يقع على القليل والكثير، لأنه مصدر سمى به ما ينبت. وقال ابنعيسى: الضمير في {فَرَأَوْهُ } عائد على السحاب، لأن السحاب إذا اصفر لم يمطر؛ وقيل: على الريح، وهذان قولان ضعيفان.وقرأ صباح بن حبيش: مصفاراً، بألف بعد الفاء. واللام في {وَلَئِنِ } مؤذنة بقسم محذوف وجوابه لظلوا، وهو مما وضعفيه الماضي موضع المستقبل اتساعاً تقديره: ليظلن، ونظيره قوله تعالى:

{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ بِكُلّ ءايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ }

أي ما يتبعون ذمهم تعالى في جميع أحوالهم، كان عليهم أن يتوكلوا على فضل الله فقنطوا، وإن شكروانعمته فلم يزيدوا على الفرح والاستبشار، وإن تصبروا على بلائه كفروا. والضمير في {مِن بَعْدِهِ } عائد على الاصفرار، أيمن بعد اصفرار النبات تجحدون نعمته. وتقدم الكلام على قوله: {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ } إلى قوله: {فَهُم مُّسْلِمُونَ }في أواخر النمل، إلا أن هنا الربط بالفاء في قوله: {فَإِنَّكَ }. {ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَمِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ }. لما ذكر دلائل الآفاق، ذكر شيئاًمن دلائل الأنفس، وجعل الخلق من ضعف، لكثرة ضعف الإنسان أول نشأته وطفوليته، كقوله:

{ خُلِقَ ٱلإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ }

والقوة التي تلت الضعف، هي رعرعته ونماؤه وقوته إلى فصل الاكتهال. والضعف الذي بعد القوة هو حال الشيخوخة والهرم. وقيل:{مّن ضَعْفٍ }: من النطفة، كقوله:

{ مّن مَّاء مَّهِينٍ }

والترداد في هذه الهيئات شاهد بقدرة الصانع وعلمه. وقرأالجمهور: بضم الضاد في ضعف معاً؛ وعاصم وحمزة: بفتحها فيهما، وهي قراءة عبد الله وأبي رجاء. وروي عن أبي عبدالرحمن والجحدري والضحاك: الضم والفتح في الثاني. وقرأ عيسى: بضمتين فيهما. والظاهر أن الضعف والقوة هما بالنسبة إلى ما عداالبدن من ذلك، وإن الضم والفتح بمعنى واحد في ضعف. وقال كثير من اللغويين: الضم في البدن، والفتح في العقل.{مَا لَبِثُواْ }: هو جواب، وهو على المعنى، إذ لو حكى قولهم، كان يكون التركيب: ما لبثنا غير ساعة، أيما أقاموا تحت التراب غير ساعة، وما لبثوا في الدنيا: استقلوها لما عاينوا من الآخرة، أو فيما بين فناء الدنياإلى البعث، وإخبارهم بذلك هو على جهة التسور والتقول بغير علم، أو على جهة النسيان، أو الكذب. {يُؤْفَكُونَ }: أييصرفون عن قول الحق والنطق بالصدق. {ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ }: هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون. {فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ }: فيماوعد به في كتابه من الحشر والبعث والعلم يعم الإيمان وغيره، ولكن نص على هذا الخاص تشريفاً وتنبيهاً على محلهمن العلم. وقيل: {فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ }: اللوح المحفوظ، وقيل: في علمه، وقيل: في حكمه. وقرأ الحسن: البعث، بفتح العينفيهما، وقرىء: بكسرها، وهو اسم، والمفتوح مصدر. وقال قتادة: هو على التقديم والتأخير، تقديره: أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان.{لَقَدْ لَبِثْتُمْ }: وعلى هذا تكون في بمعنى الباء، أي العلم بكتاب الله، ولعل هذا القول لا يصح عن قتادة،فإن فيه تفكيكاً للنظم لا يسوغ في كلام غير فصيح، فكيف يسوغ في كلام الله؟ وكان قتادة موصوفاً بعلم العربية،فلا يصدر عنه مثل هذا القول. والفاء في: {فَهَـٰذَا يَوْمُ ٱلْبَعْثِ } عاطفة لهذه الجملة المقولة على الجملة التي قبلها،وهي: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ }، اعتقبها في الذكر. قال الزمخشري: فإن قلت: ما هذه الفاء، وما حقيقتها؟ قلت: هي التي فيقوله

:فقد جئنا خراساناً    

وحقيقتها أنها جواب شرط يدل عليه الكلام، كأنه قال: إن صحما قلتم من أن أقصى ما يراد بنا قلنا القفول: قد جئنا خراساناً، وإذا أمكن جعل الفاء عاطفة، لم يتكلفإضمار شرط، وجعل الفاء جواباً لذلك الشرط المحذوف، لا تعلمون لتفريطكم في طلب الحق واتباعه. وقيل: لا تعلمون البعث ولاتعرفون به، فصار مصيركم إلى النار، فتطلبون التأخير. {فَيَوْمَئِذٍ }: أي يوم إذ، يقع ذلك من إقسام الكفار وقول أوليالعلم لهم. وقرأ الكوفيون: {لاَّ ينفَعُ }، بالياء هنا وفي الطول، ووافقهم نافع في الطول؛ وباقي السبعة بتاء التأنيث. {وَلاَهُمْ يُسْتَعْتَبُونَ }، قال الزمخشري: من قولك: استعتبنى فلان فأعتبته: أي استرضاني فأرضيته، وذلك إذا كان جانياً عليه، وحقيقته: أعتبته:أزلت عتبه. ألا ترى إلى قوله

: غضبت تميم أن يقتل عامر     يوم النثار فأعتبوا بالصيلم

كيف جعلهم غضاباً. ثم قال: فأعتبوا: أي أزيل غضبهم، والغضب في معنى العتب، والمعنى: لا يقال لهمأرضوا ربكم بتوبة وطاعة، ومثله قوله تعالى:

{ فَٱلْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ }

فإن قلت: كيف جعلواغير مستعتبين في بعض الآيات، وغير معتبين في بعضها؟ وقوله:

{ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ }

قلت: أماكونهم غير مستعتبين، فهذا معناه؛ وأما كونهم غير معتبين، فمعناه أنهم غير راضين بما هم فيه؛ فشبهت حالهم بحال قومجنى عليهم، فهم عاتبون على الجاني، غير راضىن منه. فإن يستعتبوا الله: أي يسألوه إزالة ما هم فيه، فما هممن المجابين إلى إزالته. وقال ابن عطية: هذا إخبار عن هول يوم القيامة، وشدّة أحواله على الكفرة في أنهم لاينفعهم الاعتذار، ولا يعطون عتبى، وهو الرضا. ويستعتبون بمعنى: يعتبون، كما تقول: يملك ويستملك. والباب في استفعل أنه طلب الشيءوليس هذا منه، لأن المعنى لا يفسد إذا كان المفهوم منه، ولا يطلب منهم عتبى. انتهى. فيكون استفعل في هذابمعنى الفعل المجرد، وهو عتب، أي هم من الإهمال وعدم الالتفات إليهم بمنزلة من لا يؤهل للعتب. وقد قيل: لايعاتبون على سيئاتهم، بل يعاقبون. وقيل: لا يطلب لهم العتبى. وقيل: لا يلتمس منهم عمل وطاعة، ولكن ضربنا إشارة إلىإزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار. وقال الزمخشري: وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها، وقصصنا عليهمكل قصة عجيبة الشأن، كصفة المبعوثين يوم القيامة، وما يقال لهم، وما لا يقع من اعتذارهم، ولا يسمع من استعتابهم،ولكنهم لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة، إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا: أجئتنا بزور باطل؟ انتهى. و{أَنتُمْ }:خطاب للرسول والمؤمنين، أي: تبطلون في دعواكم الحشر والجزاء. وقال أبو عبد الله الرازي: وفي توحيد الخطاب بقول: {وَلَئِن جِئْتَهُمْ}، والجمع في قوله: {إِنْ أَنتُمْ } لطيفة، وهي: أن الله عز وجل قال: {وَلَئِن جِئْتَهُمْ } بكل آية جاءتبها الرسل، فيمكن أن يجاوبوه بقوله: أنتم كلكم أيها المدعون الرسالة مبطلون. {كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ }: أي مثل هذاالطبع يطبع الله، أي يحتم على قلوب الجهلة الذين قد حتم الله عليهم الكفر في الأزل، وأسند الطبع إلى ذاتهتعالى، إذ هو فاعل ذلك ومقدره. وقال الزمخشري: ومعنى طبع الله: صنع الألطاف التي يشرح لها الصدور حتى تقبل الحق،ثم قال: فكأنه كذلك تصدأ القلوب وتقسو قلوب الجهلة حتى يسموا المحقين مبطلين، وهم أعرف خلق الله في تلك الصفة.انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. ثم أمره تعالى بالصبر على عداوتهم، وقوّاه بتحقق الوعد أنه لا بد من إنجازه والوفاءبه، ونهاه عن الاهتزاز بكلامهم والتحرك، فإنهم لا يقين لهم ولا بصيرة. وقرأ ابن أبي إسحاق، ويعقوب: ولا يستحقنك: بحاءمهملة وقاف، من الاستحقاق؛ والجمهور: بخاء معجمة وفاء، من الاستخفاف؛ وسكن النون ابن أبي عبلة ويعقوب، والمعنى: لا يفتننك ويكونواأحق بك من المؤمنين.