{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } * { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } * { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ } * { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } * { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ } * { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } * { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } * { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } * { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } * { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } * { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } * { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } * { كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } * { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } * { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } * { لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ } * { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } * { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } * { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } * { هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } اللينة، قال الأخفش: كأنه لون من النخيل، أي ضرب منه، وأصلها لونه، قلبواالواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وأنشد:
قد شجاني الأصحاب لما تغنوا | بفراق الأحباب من فوق لينه |
انتهى. وجمعها لين، كتمرة وتمر، وقد كسروه على ليان، وتكسير ما بينه وبين واحده هاء التأنيث شاذ، كرطبة ورطب،شذوا فيه فقالوا: أرطاب وقال الشاعر:
وسالفة كسحوق الليان | أضرم فيها الغوى السعر |
وقال أبو الحجاج الأعلم: الليان جمع لينة، وهي النخلة. انتهى، وتأتى أقوال المفسرين في اللينة. أوجف البعير: حمله على الوجيف،وهو السير السريع. تقول: وجف البعير يجف وجفاً ووجيفاً ووجفاناً قال العجاج:
نـاج طـواه الايـن ممـا وجفـا |
وقال نصيب:
ألا رب ركب قد قطعت وجيفهم | إليك ولولا أنت لم يوجف الركب |
{سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى *ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ * وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ * يٰأَيُّهَا * ٱلَّذِى أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مِن دِيَـٰرِهِمْلاِوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم }. هذه السورة مدنية. وقيل: نزلت في بني النضير،وتعد من المدينة لتدانيها منها. وكان بنو النضير صالحوا رسول الله ﷺ، على أن لا يكونوا عليهولا له. فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعته في التوراة، لا ترد له راية. فلما هزم المسلمونيوم أُحد، ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة، فحالفوا عليه قريشاً عند الكعبة، فأخبر جبريلالرسول ﷺ بذلك، فأمر بقتل كعب، فقتله محمد بن مسلمة غيلة، وكان أخاه من الرضاعة. وكان النبيﷺ قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم في دية المسلمين الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري،منصرفه من بئر معونة؛ فهموا بطرح الحجر على رسول الله ﷺ، فعصمه الله تعالى. فلما قتلكعب، أمر عليه الصلاة والسلام بالمسير إلى بني النضير، وكانوا بقرية يقال لها الزهرة. فساروا، وهو عليه الصلاة والسلام علىحمار مخطوم بليف، فوجدهم ينوحون على كعب، وقالوا: ذرنا نبكي شجونا ثم مر أمرك، فقال: اخرجوا من المدينة ، فقالوا: الموتأقرب لنا من ذلك، وتنادوا بالحرب. وقيل: استمهلوه عشرة أيام ليتجهزوا للخروج. ودس المنافق عبد الله بن أبيّ وأصحابه أنلا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولننصرنكم، وإن أخرجتم لنخرجن معكم. فدرّبوا على الأزفة وحصنوها، ثم أجمعوا علىالغدر برسول الله ﷺ، فقالوا: اخرج في ثلاثين من أصحابك، ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك، فإن صدقواآمنا كلنا، ففعل، فقالوا: كيف نفهم ونحن ستون؟ اخرج في ثلاثة، ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا، ففعلوا، فاشتملوا على الخناجروأرادوا الفتك. فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها، وكان مسلماً، فأخبرته بما أرادوا، فأسرع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فسارهبخبرهم قبل أن يصل الرسول إليهم. فلما كان من الغد، غدا عليهم بالكتائب، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف اللهفي قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين، فطلبوا الصلح، فأبى عليهم إلا الجلاء، على أن يحمل كل ثلاثة أبيات علىبعير ما شاءوا من المتاع، فجلوا إلى الشام إلى أريحاء وأذرعات، إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيـيبن أحطب، فلحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة، وقبض أموالهم وسلاحهم، فوجد خمسين درعاً وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفاً. وكان ابنأبي قد قال لهم: معي ألفان من قومي وغيرهم، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان. فلما نازلهم رسول الله صلى اللهعليه وسلم، اعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان. ومناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكر حال المنافقين واليهودوتولي بعضهم بعضاً، ذكر أيضاً ما حل باليهود من غضب الله عليهم وجلائهم، وإمكان الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلامممن حاد الله ورسوله ورام الغدر بالرسول عليه الصلاة والسلام وأظهر العداوة بحلفهم مع قريش. وتقدم الكلام في تسبيحالجمادات التي يشملها العموم المدلول عليه بما، {مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ }: هم قريظة، وكانت قبيلة عظيمة توازن في القدر والمنزلةبني النضير، ويقال لهما الكاهنان، لأنهما من ولد الكاهن بن هارون، نزلوا قريباً من المدينة في فتن بني إسرائيل، انتظاراًلمحمد ﷺ، فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى في كتابه. {مِن دِيَـٰرِهِم }: يتعلق بأخرج، و{مّنْأَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } يتعلق بمحذوف، أي كائنين من أهل الكتاب. وصحت الإضافة إليهم لأنهم كانوا ببرية لا عمران فيها، فبنوافيها وأنشأوا. واللام في {لاِوَّلِ ٱلْحَشْرِ } تتعلق بأخرج، وهي لام التوقيت، كقوله: { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } ، والمعنى: عند أول الحشر،والحشر: الجمع للتوجيه إلى ناحية مّا. والجمهور: إلى أن هؤلاء الذين أخرجوا هم بنو النضير. وقال الحسن: هم بنو قريظة؛ورد هذا بأن بني قريظة ما حشروا ولا أجلوا وإنما قتلوا، وهذا الحشر هو بالنسبة لإخراج بني النضير. وقيل الحشرهو حشر رسول الله ﷺ الكتائب لقتالهم، وهو أول حشر منه لهم، وأول قتال قاتلهم. وأول يقتضيثانياً، فقيل: الأول حشرهم للجلاء، والثاني حشر عمر لأهل خيبر وجلاؤهم. وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بجلاء أهل خيبر بقولهﷺ: لا يبقين دينان في جزيرة . وقال الحسن: أراد حشر القيامة، أي هذا أوله، والقيام من القبورآخره. وقال عكرمة والزهري: المعنى: الأول موضع الحشر، وهو الشام. وفي الحديث، أنه عليه الصلاة والسلام قال لبني النضير: «اخرجوا»،قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى أرض المحشر». وقيل: الثاني نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وهذا الجلاء كان فيابتداء الإسلام، وأما الآن فقد نسخ، فلا بد من القتل والسبي أو ضرب الجزية. {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ }،لعظم أمرهم ومنعتهم وقوتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعددهم. {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ } تمنعهم حصونهم من حرب الله وبأسه. ولما كانظن المؤمنين منفياً هنا، أجري مجرى نفي الرجاء والطمع، فتسلط على أن الناصبة للفعل، كما يتسلط الرجاء والطمع. ولما كانظن اليهود قوياً جداً يكاد أن يلحق بالعلم تسلط على أن المشددة، وهي التي يصحبها غالباً فعل التحقيق، كعلمت وتحققتوأيقنت، وحصونهم الوصم والميضاة والسلاليم والكثيبة. وقال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم،وبين النظم الذي جاء عليه؟ قلت: في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي تصييرضميرهم اسماً لأن وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في انفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معها بأحد يتعرضلهم أو يطمع في معازتهم، وليس ذلك في قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم. انتهى، يعني أن حصونهم هو المبتدأ، ومانعتهمالخبر، ولا يتعين هذا، بل الراجح أن يكون حصونهم فاعلة بمانعتهم، لأن في توجيهه تقديماً وتأخيراً، وفي إجازة مثله مننحو: قائم زيد، على الابتداء، والخبر خلاف؛ ومذهب أهل الكوفة منعه. {فَـاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ }: أي بأسه، {مِنْ حَيْثُ لَمْيَحْتَسِبُواْ }: أي لم يكن في حسابهم، وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف، قاله السدي وأبو صالح وابن جريج، وذلكمما أضعف قوتهم. {وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ * ٱلرُّعْبَ }، فسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة حتى نزلوا على حكم رسول الله صلىالله عليه وسلم، {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ٱلْمُؤْمِنِينَ }، قال قتادة: خرب المؤمنون من خارج ليدخلوا، وخربوا هم من داخلونحوه. قال الضحاك والزجاج وغيرهما: كانوا كلما خرب المسلمون من حصونهم، هدموا هم من البيوت، خربوا الحصن. وقال الزهري وغيره:كانوا، لما أبيح لهم ما تستقل به الإبل، لا يدعون خشبة حسنة ولا سارية إلا قلعوها وخربوا البيوت عنها، فيكونقوله: {وَأَيْدِى ٱلْمُؤْمِنِينَ } إسناد التخريب إليها من حيث كان المؤمنون محاصرتهم إياهم داعية إلى ذلك. وقيل: شحوا على بقائهاسليمة، فخربوها إفساداً. وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمر: ويخربون مشدّداً؛ وباقي السبعة مخففاً، والقراءتان بمعنى واحدعدى خرب اللازم بالتضعيف وبالهمزة. وقال صاحب الكامل في القراآت؛ التشديد الاختيار على التكثير. وقال أبو عمرو بن العلاء: خرببمعنى هدم وأفسد، وأخرب: ترك الموضع خراباً وذهب عنه. {فَٱعْتَبِرُواْ }: تفطنوا لما دبر الله من إخراجهم بتسليط المؤمنين عليهممن غير قتال. وقيل: وعد رسول الله ﷺ المسلمين أن يورثهم الله أرضهم وأموالهم بغير قتال،فقال: فكان كما قال؛ {وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَء لَعَذَّبَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا }: أي لولا أنه تعالى قضى أنهسيجليهم من ديارهم ويبقون مدة يؤمن بعضهم ويولد لبعضهم من يؤمن، لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي، كما فعل بإخوانهم بنيقريظة. وكان بنو النضير من الجيش الذين عصوا موسى في كونهم لم يقتلوا الغلام ابن ملك العماليق، تركوه لجماله وعقله.وقال موسى عليه السلام: لا تستحيوا منهم أحداً. فلما رجعوا إلى الشام، وجدوا موسى عليه السلام قد مات. فقال لهمبنو إسرائيل: أننم عصاة، والله لا دخلتم علينا بلادنا، فانصرفوا إلى الحجاز، فكانوا فيه، فلم يجر عليهم الجلاء الذي أجلاهبخت نصر على أهل الشام. وكان الله قد كتب على بني إسرائيل جلاء، فنالهم هذا الجلاء على يد محمد صلىالله عليه وسلم، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالسيف والقتل، كأهل بدر وغيرهم. ويقال: جلا القوم عن منازلهم وأجلاهمغيرهم. قيل: والفرق بين الجلاء والإخراج: أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.وقال الماوردي: الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج قد يكون لواحد وجماعة. وقرأ الجمهور: الجلاء ممدوداً؛ والحسن بن صالح وأخوهعلي بن صالح: مقصوراً؛ وطلحة: مهموزاً من غير ألف كالبنأ. {وَلَهُمْ فِى ٱلاْخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ }: أي إن نجوا منعذاب الدنيا، لم ينجوا في الآخرة. وقرأ طلحة: ومن يشاقق بالإظهار، كالمتفق عليه في الأنفال؛ والجمهور؛ بالإدغام. كان بعض الصحابةقد شرع في بعض نخل بني النضير يقطع ويحرق، وذلك في صدر الحرب، فقالوا: ما هذا الإفساد يا محمد وأنتتنهى عن الإفساد؟ فكفوا عن ذلك، ونزل: {مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ } الآية رداً على بني النضير، وإخباراً أن ذلكبتسويغ الله وتمكينه ليخربكم به ويذلكم. واللينة والنخلة اسمان بمعنى واحد، قاله الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون. وقالالشاعر:
كان قيودي فوقها عش طائر | على لينة سوقاً يهفو حيونها |
وقال آخر:
طراق الحوامي واقع فوق لينة | يدي ليلة في ولشه يترقرق |
وقال ابن عباس وجماعة منأهل اللغة: هي النخلة ما لم تكن عجوة. وقال الثوري: الكريمة من النخل. وقال أبو عبيدة وسفيان: ما ثمرها لون،وهو نوع من التمر يقال له اللون. قال سفيان: هو شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج. وقال أيضاًأبو عبيدة: اللين: ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني. وقال جعفر بن محمد: هي العجوة، وقيل: هيالسيلان، وأنشد فيه:
غرسوا لينة بمجرى معين | ثم حف النخيل بالآجام |
وقيل:هي أغصان الأشجار للينها، فعلى هذا لا يكون أصل الياء الواو. وقيل: هي النخلة القصيرة. وقال الأصمعي: هي الدفل، وماشرطية منصوبة بقطعتم، ومن لينة تبيين لإبهام ما، وجواب الشرط {فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ }: أي فقطعها أو تركها بإذن الله. وقرأالجمهور؛ {قَائِمَةً }، أنث قائمة، والضمير في {تَرَكْتُمُوهَا } على معنى ما. وقرأ عبد الله والأعمش وزيد بن علي: قوماًعلى وزن فعل، كضرب جمع قائم. وقرىء: قائماً اسم فاعل، فذكر على لفظ ما، وأنث في على أصولها. وقرىء: أصلهابغير واو. ولما جلا بنو النضير عن أوطانهم وتركوا رباعهم وأموالهم، طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر، فنزلت: {مَّا أَفَاءٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ }: بين أن أموالهم فيء، لم يوجف عليها خيل ولا ركاب ولا قطعت مسافة، إنما كانوا ميلينمن المدينة مشوا مشياً، ولم يركب إلا رسول الله ﷺ. قال عمر بن الخطاب: كانت أموال بنيالنضير لرسول الله ﷺ خاصة، ينفق منها على أهله نفقة سنته، ثم يجعل ما بقي في السلاحوالكراع عدة في سبيل الله تعالى. وقال الضحاك: كانت له عليه الصلاة والسلام، فآثر بها المهاجرين وقسمها عليهم، ولم يعطالأنصار منها شيئاً إلا أبا دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة، أعطاهم لفقرهم. وما في قوله: {وَمَا أَفَاء ٱللَّهُعَلَىٰ رَسُولِهِ } شرطية أو موصولة، وأفاء بمعنى: يفيء، ولا يكون ماضياً في اللفظ والمعنى، ولذلك صلة ما الموصولة إذاكانت الباء في خبرها، لأنها إذ ذاك شبهت باسم الشرط. فإن كانت الآية نزلت قبل جلائهم، كانت مخبرة بغيب، فوقعكما أخبرت؛ وإن كانت نزلت بعد حصول أموالهم للرسول ﷺ، كان ذلك بياناً لما يستقبل، وحكم الماضيالمتقدم حكمه. ومن في: {مِنْ خَيْلٍ } زائدة في المفعول يدل عليه الاستغراق، والركاب: الإبل، سلط الله رسوله عليهم وعلىما في أيديهم، كما كان يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم. وقال بعض العلماء: كل ما وقع على الأئمةمما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة. {مَّا أَفَاء ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ }، قال الزمخشري: لميدخل العاطف على هذه الجملة، لأنها بيان للأولى، فهي منها غير أجنبية عنها. بين لرسول الله ﷺما يصنع بما أفاء الله عليه، وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوم على الأقسام الخمسة. انتهى. وقالابن عطية: أهل القرى المذكورون في هذه الآية هم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب التيتسمى قرى عرينة، وحكمها مخالف لبني النضير، ولم يحبس من هذه رسول الله ﷺ لنفسه شيئاً، بلأمضاها لغيره، وذلك أنها في ذلك الوقت فتحت. انتهى. وقيل: إن الآية الأولى خاصة في بني النضير، وهذه الآية عامة.وقرأ الجمهور: {كَى لاَ يَكُونَ } بالياء؛ وعبد الله وأبو جعفر وهشام: بالتاء. والجمهور: {دُولَةً } بضم الدال ونصب التاء؛وأبو جعفر وأبو حيوة وهشام: بضمها؛ وعلي والسلمي: بفتحها. قال عيسى بن عمر: هما بمعنى واحد. وقال الكسائي وحذاق البصرة:الفتح في الملك بضم الميم لأنها الفعلة في الدهر، والضم في الملك بكسر الميم. والضمير في تكون بالتأنيث عائد علىمعنى ما، إذ المراد به الأموال والمغانم، وذلك الضمير هو اسم {يَكُونَ }. وكذلك من قرأ بالياء، أعاد الضمير علىلفظ ما، أي يكون الفيء، وانتصب دولة على الخبر. ومن رفع دولة فتكون تامة، ودولة فاعل، وكيلا يكون تعليل لقوله:{فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ }، أي فالفيء وحكمه لله وللرسول، يقسمه على ما أمره الله تعالى، كي لا يكون الفيء الذي حقهأن يعطى للفقراء بلغة يعيشون بها متداولاً بين الأغنياء يتكاثرون به، أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم، كما كان رؤساؤهميستأثرون بالغنائم ويقولون: من عز بزّ، والمعنى: كي لا يكون أخذه غلبة وأثرة جاهلية. وروي أن قوماً من الأنصارتكلموا في هذه القرى المفتتحة وقالوا: لنا منها سهمنا، فنزل: {وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ }. وعنالكلبي: أن رؤساً من المسلمين قالوا له: يا رسول الله، خذ صفيك والربع ودعنا والباقي، فهكذا كنا نفعل في الجاهلية،فنزل: {وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ } الآية، وهذا عام يدخل فيه قسمة ما أفاء الله والغنائم وغيرها؛ حتى أنه قداستدل بهذا العموم على تحريم الخمر، وحكم الواشمة والمستوشمة، وتحريم المخيط للمحرم. ومن غريب الحكايات في الاستنباط: أن الشافعي،رحمه الله تعالى، قال: سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب الله تعالى وسنة النبي ﷺ. فقالله عبد الله بن محمد بن هارون: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: قال الله تعالى: {وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُفَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ }. وحدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن خراش، عنحذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله ﷺ: اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر . وحدثنا سفيانبن عيينة، عن مسعر بن كدام، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب، أنه أمربقتل الزنبور. انتهى. ويعني في الإحرام. بين أنه يقتدي بعمر، وأن الرسول ﷺ أمر بالاقتداء به، وأنالله تعالى أمر بقبول ما يقول رسول الله ﷺ. قوله عز وجل: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَـٰجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْمِن دِيَـٰرِهِمْ وَأَمْوٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوٰناً وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ وَٱلَّذِينَ }. {لِلْفُقَرَاء }، قالالزمخشري: بدل من قوله: {وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ }، والمعطوف عليه والذي منع الإبدال من {لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ }، والمعطوف عليهما، وإن كانالمعنى لرسول الله ﷺ، أن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء في قوله: {وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ}، وأنه يترفع برسول الله ﷺ عن التسمية بالفقير، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجبفي تعظيم الله عز وعلا. انتهى. وإنما جعله الزمخشري بدلاً من قوله: {وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ }، لأنه مذهب أبي حنيفة، والمعنىإنما يستحق ذو القربى الفقير. فالفقر شرط فيه على مذهب أبي حنيفة، ففسره الزمخشري على مذهبه. وأما الشافعي، فيرى أنسبب الاستحقاق هو القرابة، فيأخذ ذو القربى الغني لقرابته. وقال ابن عطية: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَـٰجِرِينَ } بيان لقوله: {وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِٱلسَّبِيلِ }، وكررت لام الجر لما كانت الأولى مجرورة باللام، ليبين بين الأغنياء منكم، أي ولكن يكون للفقراء. انتهى. ثموصف تعالى المهاجرين بما يقتضي فقرهم ويوجب الإشفاق عليهم. {أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ }: أي في إيمانهم وجهادهم قولاً وفعلاً. والظاهرأن قوله: {وَٱلَّذِينَ } معطوف على المهاجرين، وهم الأنصار، فيكون قد وقع بينهم الاشتراك فيما يقسم من الأموال. وقيل: هومستأنف مرفوع بالابتداء، والخبر {هَـٰؤُلاَء يُحِبُّونَ }. أثنى الله تعالى بهذه الخصال الجليلة، كما أنثى على المهاجرين بقوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً} الخ، والإيمان معطوف على الدار، وهي المدينة، والإيمان ليس مكاناً فيتبوأ. فقيل: هو من عطف الجمل، أي واعتقدوا الإيمانوأخلصوا فيه، قاله أبو عليّ، فيكون كقوله:
عـلفتها تبنـاً ومـاء بـارداً |
أو يكون ضمن {*تبوؤا} معنى لزموا، واللزوم قدر مشتركفي الدار والإيمان، فيصح العطف. أو لما كان الإيمان قد شملهم، صار كالمكان الذي يقيمون فيه، لكن يكون ذلك جمعاًبين الحقيقة والمجاز. قال الزمخشري: أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه، وحذفالمضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه؛ أو سمى المدينة، لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان. وقال ابنعطية: والمعنى تبوؤا الدار مع الإيمان معاً، وبهذا الاقتران يصح معنى قوله: {خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ } فتأمله. انتهى. ومعنى {مِنقَبْلِهِمُ }: من قبل هجرتهم، {حَاجَةً }: أي حسداً، {مّمَّا أُوتُواْ }: أي مما أعطي المهاجرون، ونعم الحاجة ما فعلهالرسول ﷺ في إعطاء المهاجرين من أموال بني النضير والقرى. {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ }: من ذلكقصة الأنصاري مع ضيف الرسول ﷺ، حيث لم يكن لهم إلا ما يأكل الصبية، فأوهمهم أنه يأكلحتى أكل الضيف، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: عجب الله من فعلكما البارحة ، فالآية مشيرة إلى ذلك. وروي غيرذلك في إيثارهم. والخصاصة: الفاقة، مأخوذة من خصاص البيت، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج: والفتوح، فكأن حال الفقيرهي كذلك، يتخللها النقص والاحتياج. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة: شح بكسر الشين. والجمهور: بإسكان الواو وتخفيف القاف وضمالشين، والشح: اللؤم، وهو كزازة النفس على ما عندها، والحرص على المنع. قال الشاعر:
يمارس نفساً بين جنبيه كرة | إذا همّ بالمعروف قالت له مهلاً |
وأضيف الشح إلى النفس لأنه غريزة فيها. وقال تعالى: { وَأُحْضِرَتِ ٱلأنفُسُ ٱلشُّحَّ } ، وفي الحديث: من أدّى الزكاة المفروضة وقرى الضيف وأعطى في النائبة فقد برىء من الشح . {وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِنبَعْدِهِمْ }: الظاهر أنه معطوف على ما قبله من المعطوف على المهاجرين. فقال الفراء: هم الفرقة الثالثة من الصحابة، وهومن آمن أو كفر في آخر مدّة النبي ﷺ. وقال الجمهور: أراد من يجيء من التابعين، فعلىالقول الأول: يكون معنى {مّن بَعْدِهِمْ }: أي من بعد المهاجرين والأنصار السابقين بالإيمان، وهؤلاء تأخر إيمانهم، أو سبق إيمانهوتأخرت وفاته حتى انقرض معظم المهاجرين والأنصار. وعلى القول الثاني: يكون معنى {مّن بَعْدِهِمْ }: أي من بعد ممات المهاجرين،مهاجريهم وأنصارهم. وإذا كان {وَٱلَّذِينَ } معطوفاً على المجرور قبله، فالظاهر أنهم مشاركو من تقدّم في حكم الفيء. وقالمالك بن أوس: قرأ عمر { إِنَّمَا * ٱلصَّدَقَـٰتُ لِلْفُقَرَاء } الآية، فقال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: { وَٱعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم } ،فقال: وهذه لهؤلاء، ثم قرأ: {مَّا أَفَاء ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ } حتى بلغ {لِلْفُقَرَاء الْمُهَـٰجِرِينَ } إلى {وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِنبَعْدِهِمْ }. ثم قال: لئن عشت لنؤتين الراعي، وهو يسير نصيبه منها. وعنه أيضاً: أنه استشار المهاجرين والأنصار فيما فتحالله عليه من ذلك في كلام كثير آخره أنه تلا: {مَّا أَفَاء ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ } الآية، فلما بلغ {أُوْلَـئِكَهُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ } قال: هي لهؤلاء فقط، وتلا: {وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ } الآية، إلى قوله: {رَءوفٌ رَّحِيمٌ }؛ ثمقال: ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك. وقال عمر رضي الله تعالى عنه: لولا منيأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها، كما قسم رسول الله ﷺ خيبر. وقيل: {وَٱلَّذِينَجَاءوا مِن بَعْدِهِمْ } مقطوع مما قبله، معطوف عطف الجمل، لا عطف المفردات؛ فإعرابه: {وَٱلَّذِينَ } مبتدأ، ندبوا بالدعاء للأولين،والثناء عليهم، وهم من يجيء بعد الصحابة إلى يوم القيامة، والخبر {يَقُولُونَ }، أخبر تعالى عنهم بأنهم لإيمانهم ومحبة أسلافهم{يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوٰنِنَا }، وعلى القول الأول يكون {يَقُولُونَ } استئناف إخبار، قيل: أو حال. {أَلَمْ تَرَإِلَى ٱلَّذِينَ نَـٰفَقُواْ } الآية: نزلت في عبد الله بن أبيّ، ورفاعة بن التابوت، وقوم من منافقي الأنصار، كانوا بعثواإلى بني النضير بما تضمنته الجمل المحكية بقوله: {يَقُولُونَ }، واللام في {لإِخْوٰنِهِمْ } للتبليغ، والإخوة بينهم إخوة الكفر وموالاتهم،{وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ }: أي في قتالكم، {أَحَدًا }: من الرسول والمؤمنين؛ أو {لا * نُطِيعُ فيكُمْ }: أي فيخذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة، و{لَنَنصُرَنَّكُمْ }: جواب قسم محذوف قبل أن الشرطية، وجواب أن محذوف، والكثير في كلامالعرب إثبات اللام المؤذنة بالقسم قبل أداة الشرط، ومن حذفها قوله: { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ } ، التقدير:ولئن لم ينتهوا لكاذبون، أي في مواعيدهم لليهود، وفي ذلك دليل على صحة النبوة لأنه إخبار بالغيب، ولذلك لم يخرجواحين أخرج بنو النضير، بل أقاموا في ديارهم، وهذا إذا كان قوله: {لإِخْوٰنِهِمْ } أنهم بنو النضير. وقيل: هم يهودالمدينة، والضمائر على هذين القولين. وقيل: فيها اختلاف، أي لئن أخرج اليهود لا يخرج المنافقون، ولئن قوتل اليهود لا ينصرهمالمنافقون، ولئن نصر اليهود المنافقين ليولي اليهود الأدبار، وكأن صاحب هذا القول نظر إلى قوله: {وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ }،فقد أخبر أنهم لا ينصرونهم، فكيف يأتي {وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ }؟ فأخرجه في حيز الإمكان، وقد أخبر أنهم لا ينصرونهم، فلايمكن نصرهم إياهم بعد إخباره تعالى أنه لا يقع. وإذا كانت الضمائر متفقة، فقال الزمخشري: معناه ولئن نصروهم على الفرض،والتقدير كقوله: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } ، وكما يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون. وقال ابن عطية: معناه:ولئن خالفوا ذلك فإنهم ينهزمون. انتهى. والظاهر أن الضمير في {لَيُوَلُّنَّ ٱلاْدْبَـٰرَ }، وفي {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } عائد علىالمفروض أنهم ينصرونهم، أي ولئن نصرهم المنافقون ليولن المنافقون الأدبار، ثم لا ينصر المنافقون. وقيل: الضمير في التولي عائد علىاليهود، وكذا في {لاَ يُنصَرُونَ }. قال ابن عطية: وجاءت الأفعال غير مجزومة في قوله: {لاَ يَخْرُجُونَ } و{لاَ يُنصَرُونَ} لأنها راجعة على حكم القسم، لا على حكم الشرط، وفي هذا نظر. انتهى. وأي نظر في هذا؟ وهذا جاءعلى القاعدة المتفق عليها من أنه إذا تقدم القسم على الشرط كان الجواب للقسم وحذف جواب الشرط، وكان فعله بصيغةالمضي، أو مجزوماً بلم، وله شرط، وهو أن لا يتقدمه طالب خبر. واللام في {لَئِنْ } مؤذنة بقسم محذوف قبله،فالجواب له. وقد أجاز الفراء أن يجاب الشرط، وأن تقدم القسم، ورده عليه البصريون. ثم خاطب المؤمنين بأن هؤلاء يخافونكمأشد خيفة من الله تعالى، لأنهم يتوقعون عاجل شركم، ولعدم إيمانهم لا يتوقعون أجل عذاب الله، وذلك لقلة فهمهم، ورهبة:مصدر رهب المبني للمفعول، كأنه قيل: أشد مرهوبية، فالرهبة واقعة منهم لا من المخاطبين، والمخاطبون مرهوبون، وهذا كما قال:
فلهو أخوف عندي إذ أكلمه | وقيل إنك مأسور ومقتول من ضيغم بثراء الأرض مخدره |
فالمخبر عنه مخوف لا خائف، والضمير في {صُدُورُهُمْ }. قيل: لليهود،وقيل: للمنافقين، وقيل: للفريقين. وجعل المصدر مقراً للرهبة دليل على تمكنها منهم بحيث صارت الصدور مقراً لها، والمعنى: رهبتهم منكمأشد من رهبتهم من الله عز وجل. {لاَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ }: أي بنو النضير وجميع اليهود. وقيل: اليهود والمنافقون {جَمِيعاً }:أي مجتمعين متساندين يعضد بعضهم بعضاً، {إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ }: لا في الصحراء لخوفهم منكم، وتحصينها بالدروب والخنادق، أومن وراء جدار يتسترون به من أن تصيبوهم. وقرأ الجمهور: {جُدُرٍ } بضمتين، جمع جدار؛ وأبو رجاء والحسن وابن وثاب:بإسكان الدال تخفيفاً، ورويت عن ابن كثير وعاصم والأعمش. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وكثير من المكيين: جدار بالألف وكسرالجيم. وقرأ كثير من المكيين، وهارون عن ابن كثير: جدر بفتح الجيم وسكون الدال. قال صاحب اللوامح: وهو واخذ بلغةاليمن. وقال ابن عطية: ومعناه أصل بنيان كالسور ونحوه. قال: ويحتمل أن يكون من جدر النخل، أي من وراء نخلهم،إذ هي مما يتقى به عند المصافة. {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ }: أي إذا اقتتلوا بعضهم مع بعض. كان بأسهم شديداً؛أما إذا قاتلوكم، فلا يبقى لهم بأس، لأن من حارب أولياء الله خذل. {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً }: أي مجتمعين، ذوي ألفةواتحاد. {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ }: أي وأهواؤهم متفرقة، وكذا حال المخذولين، لا تستقر أهواؤهم على شيء واحد، وموجب ذلك الشتات هوانتفاء عقولهم، فهم كالبهائم لا تتفق على حالة. وقرأ الجمهور: {شَتَّىٰ } بألف التأنيث؛ ومبشر بن عبيد: منوناً، جعلها ألفالإلحاق؛ وعبد الله: وقلوبهم أشت: أي أشد تفرقاً، ومن كلام العرب: شتى تؤوب الحلبة. قال الشاعر:
إلى الله أشكوا فتية شقت العصا | هي اليوم شتى وهي أمس جميع |
قوله عز وجل: {كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباًذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَـٰنِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّىأَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * فَكَانَ عَـٰقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى ٱلنَّارِ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء ٱلظَّـٰلِمِينَ * ٱلظَّـٰلِمِينَ * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْٱللَّهَ فَأَنسَـٰهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ * لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ * لَوْ أَنزَلْنَاهَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـٰشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَتِلْكَ ٱلاْمْثَـٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ }.{كَمَثَلِ }: خبر مبتدأ محذوف، أي مثلهم، أي بني النضير {كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً }: وهم بنو قينقاع، أجلاهمالرسول ﷺ من المدينة قبل بني النضير فكانوا مثلاً لهم، قاله ابن عباس؛ أو أهل بدر الكفار،فإنه عليه الصلاة والسلام قتلهم، فهم مثلهم في أن غلبوا وقهروا. وقيل: الضمير في {مِن قَبْلِهِمُ } للمنافقين، و{ٱلَّذِينَ مِنقَبْلِهِمْ }: منافقو الأمم الماضية، غلبوا ودلوا على وجه الدهر، فهؤلاء مثلهم. ويبعد هذا التأويل لفظة {قَرِيبًا } أن جعلتهمتعلقاً بما قبله، وقريباً ظرف زمان وإن جعلته معمولاً لذاقوا، أي ذاقوا وبال أمرهم قريباً من عصيانهم، أي لم تتأخرعقوبتهم في الدنيا، كما لم تتأخر عقوبة هؤلاء. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة. {كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ }: لما مثلهمبمن قبلهم، ذكر مثلهم مع المنافقين، فالمنافقون كالشيطان، وبنو النضير كالإنسان، والجمهور: على أن الشيطان والإنسان اسما جنس يورطه فيالمعصية ثم يفر منه. كذلك أغوى المنافقون بني النضير، وحرضوهم على الثبات، ووعدوهم النصر. فلما نشب بنو النضير، خذلهم المنافقونوتركوهم في أسوأ حال. وقيل: المراد استغواء الشيطان قريشاً يوم بدر. وقوله لهم: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنّيجَارٌ لَّكُمْ } إلى قوله: { إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ } . وقيل: التمثيل بشيطان مخصوص مع عابد مخصوص استودع امرأة، فوقع عليهافحملت، فخشي الفضيحة، فقتلها ودفنها. سول له الشيطان ذلك، ثم شهره، فاستخرجت فوجدت مقتولة؛ وكان قال إنها ماتت ودفنتها، فعلموابذلك، فتعرض له الشيطان وقال: اكفر واسجد لي وأنا أنجيك، ففعل وتركه عند ذلك وقال: أنا بريء منك. وقول الشيطان:{إِنّى أَخَافُ ٱللَّهَ } رياء، ولا يمنعه الخوف عن سوء يوقع ابن آدم فيه. وقرأ الجمهور: {عَـٰقِبَتَهُمَا } بنصب التاء؛والحسن وعمرو بن عبيد وسليم بن أرقم: برفعهما. والجمهور: {خَـٰلِدِينَ } بالياء حالاً، و{فِى ٱلنَّارِ } خبر أن؛ وعبد اللهوزيد بن علي والأعمش وابن عبلة: بالألف، فجاز أن يكون خبر أن، والظرف ملغى وإن كان قد أكد بقوله: {فِيهَا}، وذلك جائز على مذهب سيبويه، ومنع ذلك أهل الكوفة، لأنه إذا أكد عندهم لا يلغى. ويجوز أن يكون فيالنار خبراً، لأن {خَـٰلِدِينَ } خبر ثان، فلا يكون فيه حجة على مذهب سيبويه. ولما انقضى في هذه السورة،وصف المنافقون واليهود. وعظ المؤمنين، لأن الموعظة بعد ذكر المصيبة لها موقع في النفس لرقة القلوب والحذر مما يوجب العذاب،وكرر الأمر بالتقوى على سبيل التوكيد، أو لإختلاف متعلق بالتقوى. فالأولى في أداء الفرائض، لأنه مقترن بالعمل؛ والثانية في تركالمعاصي، لأنه مقترن بالتهديد والوعيد. وقرأ الجمهور: {وَلْتَنظُرْ }: أمراً، واللام ساكنة؛ وأبو حيوة ويحيـى بن الحارث: بكسرها. وروي ذلكعن حفص، عن عاصم والحسن: بكسرها وفتح الراء، جعلها لام كي. ولما كان أمر القىامة كائناً لا محالة، عبر عنهبالغد، وهو اليوم الذي يلي يومك على سبيل التقريب. وقال الحسن وقتادة: لم يزل يقر به حتى جعله كالغد، ونحوه:كأن لم تغن بالأمس، يريد تقريب الزمان الماضي. وقيل: عبر عن الآخرة بالغد، كأن الدنيا والآخرة نهاران، يوم وغد. قالابن عطية: ويحتمل أن يريد بقوله: {لِغَدٍ }: ليوم الموت، لأنه لكل إنسان كغده. وقال مجاهد وابن زيد: بالأمس الدنياوغد الآخرة. وقال الزمخشري: أما تنكير النفس فاستقلال للأنفس النواظر فيما قدمن للآخرة، كأنه: قيل لغد لا يعرف كنهه لعظمه.انتهى. وقرأ الجمهور: {لاَ تَكُونُواْ } بتاء الخطاب؛ وأبو حيوة: بياء الغيبة، على سبيل الالتفات. وقال ابن عطية: كناية عننفس التي هي اسم الجنس؛ {كَٱلَّذِينَ نَسُواْ }: هم الكفار، وتركوا عبادة الله وامتثال ما أمر واجتناب ما نهى، وهذاتنبيه على فرط غفلتهم واتباع شهواتهم؛ {فَأَنسَـٰهُمْ أَنفُسَهُمْ }، حيث لم يسعوا إليها في الخلاص من العذاب، وهذا من المجازاةعلى الذنب بالذنب. عوقبوا على نسيان جهة الله تعالى بأن أنساهم أنفسهم. قال سفيان: المعنى حظ أنفسهم، ثم ذكر مباينةالفريقين: أصحاب النار في الجحيم، وأصحاب الجنة في النعيم، كما قال: { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } ،وقال تعالى: { أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ } . {لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ عَلَىٰ جَبَلٍ }: هذا من باب التخييل والتمثيل،كما مر في قوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلاْمَانَةَ عَلَى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ } ، ودل على ذلك: { وَتِلْكَ ٱلاْمْثَـٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } ،والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وعدم تأثره لهذا الذي لو أنزل على الجبل لتخشع وتصدع. وإذا كان الجبل علىعظمه وتصلبه يعرض له الخشوع والتصدع، فابن آدم كان أولى بذلك، لكنه على حقارته وضعفه لا يتأثر. وقرأ طلحة: مصدعاً،بإدغام التاء في الصاد؛ وأبو السمال وأبو دينار الأعرابي: القدوس بفتح القاف؛ والجمهور: بالفك والضم. وقرأ الجمهور: المؤمن بكسر الميم،اسم فاعل من آمن بمعنى أمن. وقال ثعلب: المصدق المؤمنين في أنهم آمنوا. وقال النحاس: أو في شهادتهم على الناسيوم القيامة. وقيل: المصدق نفسه في أقواله الأزلية. وقرأ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين، وقيل، أبو جعفر المدني:المؤمن بفتح الميم. قال أبو حاتم: لا يجوز ذلك، لأنه لو كان كذلك لكان المؤمن به وكان جائزاً، لكن المؤمنالمطلق بلا حرف جر يكون من كان خائفاً فأومن. وقال الزمخشري: يعني المؤمن به على حذف حرف الجر، كما تقولفي قوم موسى من قوله: { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ } : المختارون. {ٱلْمُهَيْمِنُ }: تقدم شرحه. {ٱلْجَبَّارُ }: القهار الذي جبر خلقهعلى ما أراد. وقيل: الجبار: الذي لا يدانيه شيء ولا يلحق، ومنه نخلة جبارة إذا لم تلحق، وقال امرؤ القيس:
سوابق جبار أتيت فروعه | وعالين قنواناً من البسر أحمرا |
وقال ابن عباس: هو العظيم،وجبروته: عظمته. وقيل: هو من الجبر، وهو الإصلاح. جبرت العظم: أصلحته بعد الكسر. وقال الفراء: من أجبره على الأمر: قهره،قال: ولم أسمع فعالاً من أفعل إلا في جبار ودراك. انتهى، وسمع أسار فهو أسار. {ٱلْمُتَكَبّرُ }: المبالغ في الكبرياءوالعظمة. وقيل: المتكبر عن ظلم عباده، {ٱلْخَـٰلِقُ }: المقدر لما يوجده. {ٱلْبَارِىء }: المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة، {ٱلْمُصَوّرُ}: الممثل. وقرأ عليّ وحاطب بن أبي بلتعة والحسن وابن السميفع: المصور بفتح الواو والراء، وانتصب مفعولاً بالباري، وأراد بهجنس المصور. وعن علي؛ فتح الواو وكسر الراء على إضافة اسم الفاعل إلى المفعول، نحو: الضارب الغلام.