الرئيسيةبحث

تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الجن

{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } * { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } * { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } * { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً } * { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } * { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً } * { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً } * { وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً } * { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } * { وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } * { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } * { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } * { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } * { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً } * { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } * { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } * { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } * { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } * { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } * { قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً } * { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً } * { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } * { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } * { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } * { قُلْ إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً } * { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً } * { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } * { لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } الجد: لغة العظمة والجلال، وجد في عيني: عظم وجل. وقال أبو عبيدة والأخفش:الملك والسلطان، والجد: الحظ، والجد: أبو الأب. الحرس: اسم جمع، الواحد حارس، كغيب واحده غائب، وقد جمع على أحراس. قالالشاعر:

تـجاوزت أحـراساً وأهـوال معـشر    

كشاهد وأشهاد، والحارس: الحافظ للشيء يرقبه. القدد: السير المختلفة، الواحدة قدة. قال الشاعر:

القابض الباسط الهادي بطاعته     في قنية الناس إذ أهواؤهم قدد

وقال الكميت:

جمعت بالرأي منهم كل رافضة     إذ هم طرائق في أهوائهم قدد

تحرى الشيء: طلبه باجتهاد وتوخاه وقصده. الغدق: الكثير. اللبد، جمع لبدة:وهو تراكم بعضه فوق بعض، ومنه لبدة الأسد. ويقال للجراد الكثير المتراكم: لبد، ومنه اللبد الذي يفرش، يلبد صوفه: دخلبعضه في بعض. {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ ٱلْجِنّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً * يَهْدِى إِلَىٱلرُّشْدِ فَـئَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً * وَأَنَّهُ تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَـٰحِبَةً وَلاَ وَلَداً * وَأَنَّهُ كَانَيَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً * وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌمّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ ٱلْجِنّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً * وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً * وَأَنَّالَمَسْنَا ٱلسَّمَاء فَوَجَدْنَـٰهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَـٰعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلاْنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباًرَّصَداً * وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى ٱلاْرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً * وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنَّادُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِى ٱلاْرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً * وَأَنَّا لَمَّاسَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ ءامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً * وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَـٰسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَفَأُوْلَـئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً * وَأَمَّا ٱلْقَـٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً }. هذه السورة مكية. ووجه مناسبتها لما قبلها: أنه لماحكي تمادي قوم نوح في الكفر وعكوفهم على عبادة الأصنام، وكان عليه الصلاة والسلام أول رسول إلى الأرض؛ كما أنمحمداً ﷺ آخر رسول إلى الأرض، والعرب الذي هو منهم عليه الصلاة والسلام كانوا عباد أصنام كقومنوح، حتى أنهم عبدوا أصناماً مثل أصنام أولئك في الأسماء، وكان ما جاء به محمد ﷺ منالقرآن هادياً إلى الرشد، وقد سمعته العرب، وتوقف عن الإيمان به أكثرهم، أنزل الله تعالى سورة الجن إثر سورة نوح،تبكيتاً لقريش والعرب في كونهم تباطؤا عن الإيمان، إذ كانت الجن خيراً لهم وأقبل للإيمان، هذا وهم من غير جنسالرسول ﷺ؛ ومع ذلك فبنفس ما سمعوا القرآن استعظموه وآمنوا به للوقت، وعرفوا أنه ليس من نمطكلام الناس، بخلاف العرب فإنه نزل بلسانهم وعرفوا كونه معجزاً، وهم مع ذلك مكذبون له ولمن جاء به حسداً وبغياًأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. وقرأ الجمهور: {قُلْ أُوحِىَ } رباعياً؛ وابن أبي عبلةوالعتكي، عن أبي عمرو، وأبو أناس جوية بن عائذ الأسدي: وحى ثلاثياً، يقال: وحى وأوحى بمعنى واحد. قال العجاج: وحىإليها القرار فاستقرت. وقرأ زيد بن عليّ وجوية، فيما روي عن الكسائي وابن أبي عبلة أيضاً: أحى بإبدال الواو همزة،كما قالوا في وعد أعد. وقال الزمخشري: وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة. انتهى. وليس كما ذكر،بل في ذلك تفصيل، وذلك أن الواو المضمومة قد تكون أولاً وحشواً وآخراً، ولكل منها أحكام، وفي بعضها خلاف وتفصيلمذكور في النحو. قال الزمخشري: وقد أطلقه المازني في المكسور أيضاً، كإشاح وإسادة وإعاء أخيه. انتهى، وهذا تكثير وتبجح. وكانيذكر هذا في { وِعَاء أَخِيهِ } في سورة يوسف. وعن المازني في ذلك قولان: أحدهما: القياس كما قال، والآخر: قصرذلك على السماع. و{أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ } في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله؛ أي استماع {نَفَرٌ مّنَ ٱلْجِنّ }،والمشهور أن هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف في قوله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ ٱلْجِنّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءانَ } ،وهي قصة واحدة. وقيل: قصتان، والجن الذين أتوه بمكة جن نصيبين، والذين أتوه بنخلة جن نينوي، والسورة التي استمعوها، قالعكرمة: { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ } . وقيل: سورة الرحمن. ولم تتعرض الآية، لا هنا ولا في سورة الأحقاف، إلى أنه رآهموكلمهم عليه الصلاة والسلام. ويظهر من الحديث أن ذلك كان مرتين: إحداهما: في مبدأ مبعث رسول الله ﷺ، وهو في الوقت الذي أخبر فيه عبد الله بن مسعود أنه لم يكن معه ليلة الجن، وقد كانوا فقدوه عليه الصلاة والسلام، فالتمسوه في الأودية والشعاب فلم يجدوه. فلما أصبح، إذا هو جاء من قبل حراء، وفيه أتاني داعي الجن، فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن، فانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نارهم. والمرة الآخرى: كان معه ابن مسعود، وقد استندب ﷺ من يقوم معه إلى أن يتلو القرآن على الجن، فلم يقم أحد غير عبد الله بن مسعود، فذهب معه إلى الحجون عند الشعب، فخط علىه خطاً وقال: لا تجاوزه. فانحدر عليه ﷺ أمثال الحجر يجرون الحجارة بأقدامهم يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفهن حتى غشوه فلا أراه فقمت فأومأ إليّ بيده أن اجلس فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع واختفوا في الأرض حتى ما أراهم . الحديث. ويدل على أنهما قصتان،اختلافهم في العدد، فقيل: سبعة، وقيل: تسعة، وعن زر: كانوا ثلاثة من أهل حران، وأربعة من أهل نصيبين، قرية باليمنغير القرية التي بالعراق. وعن عكرمة: كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل، وأين سبعة من اثني عشر ألفاً؟{فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً }: أي قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم، ووصفوا قرآناً بقولهم {عَجَبًا } وصفاً بالمصدر علىسبيل المبالغة، أي هو عجب في نفسه لفصاحة كلامه، وحسن مبانيه، ودقة معانيه، وغرابة أسلوبه، وبلاغة مواعظه، وكونه مبايناً لسائرالكتب. والعجب ما خرج عن أحد أشكاله ونظائره. {يَهْدِى إِلَى ٱلرُّشْدِ }: أي يدعو إلى الصواب. وقيل: إلى التوحيد والإيمان.وقرأ الجمهور: {ٱلرُّشْدِ } بضم الراء وسكون الشين؛ وعيسى: بضمهما؛ وعنه أيضاً: فتحهما. {يَهْدِى إِلَى }: أي بالقرآن. ولما كانالإيمان به متضمناً الإيمان بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا: {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً }. وقرأ الحرميان والأبوان: بفتحالهمزة من قوله: {وَأَنَّهُ تَعَـٰلَىٰ } وما بعده، وهي اثنتا عشرة آية آخرها {وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ }؛ وباقي السبعة: بالكسر.فأما الكسر فواضح لأنها معطوفات على قوله: {إِنَّا سَمِعْنَا }، فهي داخلة في معمول القول. وأما الفتح، فقال أبو حاتم:هو على {أَوْحَىٰ }، فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله. انتهى. وهذا لا يصح، لأن منالمعطوفات ما لا يصح دخوله تحت {أَوْحَىٰ }، وهو كل ما كان فيه ضمير المتكلم، كقوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَامَقَـٰعِدَ لِلسَّمْعِ }. ألا ترى أنه لا يلائم {أُوحِىَ إِلَيْكَ }، {إِنَّا كُنَّا * نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَـٰعِدَ }، وكذلك باقيها؟وخرجت قراءة الفتح على أن تلك كلها معطوفة على الضمير المجرور في به من قوله: {يَهْدِى إِلَى }: أي وبأنه،وكذلك باقيها، وهذا جائز على مذهب الكوفيين، وهو الصحيح. وقد تقدم احتجاجنا على صحة ذلك في قوله: { وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } . وقال مكي: هو أجود في أن منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر مع أن. وقال الزجاج: وجههأن يكون محمولاً على آمنا به، لأنه معناه: صدقناه وعلمناه، فيكون المعنى: فآمنا به أنه تعالى جد ربنا؛ وسبقه إلىنحوه الفراء قال: فتحت أن لوقوع الإيمان عليها، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض، فلا يمنعكذلك من إمضائهن على الفتح، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح أن نحو: صدقنا وشهدنا. وأشار الفراء إلى أنبعض ما فتح لا يناسب تسليط آمنا عليه، نحو قوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً}، وتبعهما الزمخشري فقال: ومن فتح كلهن فعطفاً على محل الجار والمجرور في آمنا به، كأنه قيل: صدقناه وصدقنا أنهتعالى جد ربنا، وأنه كان يقول سفيهنا، وكذلك البواقي. انتهى. ولم يتفطن لما تفطن له الفراء من أن بعضها لايحسن أن يعمل فيه آمنا. وقرأ الجمهور: {جَدُّ رَبّنَا }، بفتح الجيم ورفع الدال، مضافاً إلى ربنا: أي عظمته، قالهالجمهور. وقال أنس والحسن: غناه. وقال مجاهد: ذكره. وقال ابن عباس: قدره وأمره. وقرأ عكرمة: جد منوباً، ربنا مرفوع الباء،كأنه قال: عظيم هو ربنا، فربنا بدل، والجد في اللغة العظيم. وقرأ حميد بن قيس: جد بضم الجيم مضافاً ومعناهالعظيم، حكاه سيبويه، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والمعنى: تعالى ربنا العظيم. وقرأ عكرمة: جداً ربنا، بفتح الجيم والدالمنوناً، ورفع ربنا وانتصب جداً على التمييز المنقول من الفاعل، أصله {تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبّنَا }. وقرأ قتادة وعكرمة أيضاً: جداًبكسر الجيم والتنوين نصباً، ربنا رفع. قال ابن عطية: نصب جداً على الحال، ومعناه: تعالى حقيقة ومتمكناً. وقال غيره: هوصفة لمصدر محذوف تقديره: تعاليا جداً، وربنا مرفوع بتعالى. وقرأ ابن السميفع: جدي ربنا، أي جدواه ونفعه. وقرأ الجمهور: {يَقُولُسَفِيهُنَا }: هو إبليس. وقيل: هو اسم جنس لكل سفيه، وإبليس مقدم السفهاء. والشطط: التعدي وتجاوز الجد. قال الأعشى:

أينتهون ولن ينهى ذوو شطط     كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

ويقال: أشط في السوم إذاأبعد فيه، أي قولا هو في نفسه شطط، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى. {وَأَنَّا ظَنَنَّا } الآية: أيكنا حسنا الظن بالإنس والجن، واعتقدنا أن أحداً لا يجترىء على أن يكذب على الله فينسب إليه الصاحبة والولد، فاعتقدناصحة ما أغوانا به إبليس ومردته حتى سمعنا القرآن فتبينا كذبهم. وقرأ الجمهور: {أَن لَّن تَقُولَ } مضارع قال؛ والحسنوالجحدري وعبد الرحمن بن أبي بكرة ويعقوب وابن مقسم: تقول مضارع تتقول، حذفت إحدى التاءين وانتصب {كَذِبًا } في قراءةالجمهور بتقول، لأن الكذب نوع من القول، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي قولا كذباً، أي مكذوباً فيه. وفيقراءة الشاذ على أنه مصدر لتقول، لأنه هو الكذب، فصار كقعدت جلوساً. {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ }. روى الجمهور أنالرجل كان إذا أراد المبيت أو الحلول في وادٍ نادى بأعلى صوته: يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك منالسفهاء الذين في طاعتك، فيعتقد بذلك أن الجني الذي بالوادي يمنعه ويحميه. فروي أن الجن كانت تقول عند ذلك: لانملك لكم ولا لأنفسنا من الله شيئاً. قال مقاتل: أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن، ثم بنو حنيفة، ثمفشا ذلك في العرب. والظاهر أن الضمير المرفوع في {فَزَادوهُمْ } عائد على {رِجَالٌ مّنَ ٱلإِنسِ }، إذ هم المحدثعنهم، وهو قول مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير. {فَزَادوهُمْ } أي الإنس، {رَهَقاً }: أي جراءة وانتخاءً وطغياناً وغشيان المحارموإعجاباً بحيث قالوا: سدنا الإنس والجن، وفسر قوم الرهق بالإثم. وأنشد الطبري في ذلك بيت الأعشى:

لا شيء ينفعني من دون رؤيتها     لا يشتفي وامق ما لم يصب رهقاً

قال معناه: ما لم يغش محرماً، والمعنى: زادت الإنسالجن مأثماً لأنهم عظموهم فزادوهم استحلالاً لمحارم الله تعالى. وقال قتادة وأبو العالية والربيع وابن زيد: {فَزَادوهُمْ }، أي الجنزادت الإنس مخافة يتخيلون لهم بمنتهى طاقتهم ويغوونهم لما رأوا من خفة أحلامهم، فازدروهم واحتقروهم. وقال ابن جبير: {رَهَقاً }:كفراً. وقيل: لا يطلق لفظ الرجال على الجن، فالمعنى: وإنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال منالإنس، وكان الرجل يقول مثلاً: أعوذ بحذيفة بن اليمان من جن هذا الوادي، وهذا قول غريب. {وَإِنَّهُمْ }: أي كفارالإنس، {ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ } أيها الجن، يخاطب به بعضهم بعضاً. وظنوا وظننتم، كل منهما يطلب، {أَن لَّن يَبْعَثَ }،فالمسألة من باب الإعمال، وإن هي المخففة من الثقيلة. وقيل: الضمير في وأنهم يعود على الجن، والخطاب في ظننتم لقريش،وهذه والتي قبلها هما من الموحى به لا من كلام الجن: {أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً }: الظاهر أنه بعثةالرسالة إلى الخلق، وهو أنسب لما تقدم من الآي ولما تأخر. وقيل: بعث القيامة. {وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَاء }: أصل اللمسالمس، ثم استعير للتطلب، والمعنى: طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها فوجدناها ملئت. الظاهر أن وجد هنا بمعنى صادف وأصابوتعدت إلى واحد، والجملة من {مُلِئَتْ } في موضع الحال، وأجيز أن تكون تعدت إلى اثنين، فملئت في موضع المفعولالثاني. وقرأ الأعرج: مليت بالياء دون همز، والجمهور: بالهمز، وشديداً: صفة للحرس على اللفظ لأنه اسم جمع، كما قال:

أخشـى رجيـلاً أو ركيبـاً عـادياً    

ولو لحظ المعنى لقال: شداداً بالجمع. والظاهر أن المراد بالحرس: الملائكة، أي حافظين منأن تقربها الشياطين، وشهباً جمع شهاب، وهو ما يرحم به الشياطين إذا استمعوا. قيل: ويحتمل أن يكون الشهب هم الحرس،وكرر المعنى لما اختلف اللفظ نحو:

وهنـد أتـى مـن دونـها النـأي والبعـد    

وقوله: {فَوَجَدْنَـٰهَا مُلِئَتْ } يدل على أنها كانتقبل ذلك يطرقون السماء ولا يجدونها قد ملئت. {مَقَـٰعِدَ } جمع مقعد، وقد فسر رسول الله ﷺصورة قعود الجن أنهم كانوا واحداً فوق واحد، فمتى أحرق الأعلى طلع الذي تحته مكانه، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلىالكهان ويزيدون معها، ثم يزيد الكهان الكلمة مائة كذبة. {فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلاْنَ }، الآن ظرف زمان للحال، ويستمع مستقبل، فاتسعفي الظرف واستعمل للاستقبال، كما قال:

سأسعـى الآن إذ بـلغـت انـاهـا    

فالمعنى: فمن يقع منه استماع في الزمان الآتي، {يَجِدْلَهُ شِهَاباً رَّصَداً }: أي يرصده فيحرقه، هذا لمن استمع. وأما السمع فقد انقطع، كما قال تعالى: { إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } ، والرجم كان في الجاهلية، وذلك مذكور في أشعارهم، ويدل عليه الحديث حين رأى عليه الصلاة والسلام نجماً قدرمي به، قال: ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية ؟ قالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم. قالأوس بن حجر:

وانقض كالدري يتبعه     نقع يثور بحالة طنبا

وقال عوفبن الجزع:

فرد علينا العير من دون إلفه     أو الثور كالدري يتبعه الدم

وقال بشر بنأبي حازم:

والعير يرهقها الغبار وجحشها     ينقض خلفهما انقضاض الكوكب

قال التبريزي:وهؤلاء الشعراء كلهم جاهليون ليس فيهم محضرم، وقال معمر: قلت للزهري: أكان يرمي بالنجوم في الجاهلي؟ قال: نعم، قلت: أرأيتقوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَـٰعِدَ لِلسَّمْعِ }؟ فقال: غلظت وشدد أمرها حين بعث رسول الله ﷺ.وقال الجاحظ: القول بالرمي أصح لقوله: {فَوَجَدْنَـٰهَا مُلِئَتْ }، وهذا إخبار عن الجن أنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت،ولما روى ابن عباس وذكر الحديث السابق. وقال الزمخشري: تابعاً للجاحظ، وفي قوله دليل على أن الحرس هو الملء والكثرة،فلذلك {نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَـٰعِدَ }: أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب، والآن ملئت المقاعد كلها. انتهى.وهذا كله يبطل قول من قال: إن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله ﷺ، وهو إحدى آياته.والظاهر أن رصداً على معنى: ذوي شهاب راصدين بالرجم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع. ولما رأواما حدث من كثرة الرجم ومنع الاستراق قالوا: {أَنَّا لاَ * نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى ٱلاْرْضِ }، وهو كفرهمبهذا النبي ﷺ، فينزل بهم الشر، {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً }، فيؤمنون به فيرشدون. وحين ذكرواالشر لم يسندوه إلى الله تعالى، وحين ذكروا الرشد أسندوه إليه تعالى. {وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّـٰلِحُونَ }: أخبروا بما هم عليهمن صلاح وغيره. {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ }: أي دون الصالحين، ويقع دون في مواضع موقع غير، فكأنه قال: ومنا غيرصالحين. ويجوز أن يريدوا: ومنادون ذلك في الصلاح، أي فيهم أبرار وفيهم من هو غير كامل في الصلاح، ودون فيموضع الصفة لمحذوف، أي ومنا قوم دون ذلك. ويجوز حذف هذا الموصوف في التفصيل بمن، حتى في الجمل، قالوا: مناظعن ومنا أقام، يريدون: منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، والجملة من قوله: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً } تفسير للقسمة المتقدمة.قال ابن عباس وعكرمة وقتادة: أهواء مختلفة، وقيل: فرقاً مختلفة. وقال الزمخشري: أي كنا ذوي مذاهب مختلفة، أو كنا فياختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة، أو كنا في طرائق مختلفة كقوله:

كمـا عسـل الطـريـق الثعلـب    

أو كانت طرائقنا قدداًعلى حذف المضاف الذي هو الطرائق، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه. انتهى. وفي تقديريه الأولين حذف المضاف من طرائق وإقامةالمضاف إليه مقامه، إذ حذف ذوي ومثل. وأما التقدير الثالث، وهو أن ينتصب على إسقاط في، فلا يجوز ذلك إلافي الضرورة، وقد نص سيبويه على أن عسل الطريق شاذ، فلا يخرج القرآن عليه. {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ}: أي أيقنا، {فِى ٱلاْرْضِ }: أي كائنين في الأرض، {وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً }: أي من الأرض إلى السماء، وفيالأرض وهرباً حالان، أي فارين أو هاربين. {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ }: وهو القرآن، {بِهِ إِنَّهُ }: أي بالقرآن، {فَمَنيُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ }: أي فهو لا يخاف. وقرأ ابن وثاب والأعمش والجمهور: {فَلاَ يَخَافُ }، وخرجت قراءتهما علىالنفي. وقيل: الفاء زائدة ولا نفي وليس بشيء، وكان الجواب بالفاء أجود من المجيء بالفعل مجزوماً دون الفاء، لأنه إذاكان بالفاء كان إضمار مبتدأ، أي فهو لا يخاف. والجملة الاسمية أدل وآكد من الفعلية على تحقق مضمون الجملة. {بَخْساً}، قال ابن عباس: نقص الحسنات، {وَلاَ رَهَقاً }، قال: زيادة في السيئات، {وَلاَ رَهَقاً }، قيل: تحميل ما لايطاق. وقال الزمخشري: أي جزاء بخس ولا رهق، لأنه لم يبخس أحداً حقاً ولا رهق ظلم أحد، فلا يخاف جزاءهما.ويجوز أن يراد: فلا يخاف أن يبخس بل يجزى الجزاء الأوفى، ولا أن ترهقه ذلة من قوله عز وجل: { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } . انتهى. وقرأ الجمهور: {بَخْساً } بسكون الخاء؛ وابن وثاب: بفتحها. {وَمِنَّا ٱلْقَـٰسِطُونَ }: أي الكافرون الجائزون عن الحق.قال مجاهد وقتادة: والبأس القاسط: الظالم، ومنه قول الشاعر:

قوم هم قتلوا ابن هند عنوة     وهمو اقسطوا على النعمان

وجاء هذا التقسيم، وإن كان قد تقدم {وَأَنَّا مِنَّا }، ومنا دون ذلك ليذكر حال الفريقين منالنجاة والهلكة ويرغب من يدخل في الإسلام. والظاهر أن {ٱلْقَـٰسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ } إلى آخر الشرطين من كلام الجن. وقالابن عطية: الوجه أن يكون {فَمَنْ أَسْلَمَ } مخاطبة من الله تعالى لمحمد ﷺ، وسلم ويؤيده مابعد من الآيات. وقرأ الأعرج: رشداً، بضم الراء وسكون الشين؛ والجمهور: بفتحهما. وقال الزمخشري: وقد زعم من لا يرى للجنثواباً أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم، وكفى به وعيداً، أي فأولئك تحروا رشداً، فذكر سبب الثواب وموجبه،والله أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال في قوله وموجبه. قوله عز وجل:{وَأَلَّوِ ٱسْتَقَـٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَـٰهُم مَّاء غَدَقاً * لّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً * وَأَنَّٱلْمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً * وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً * قُلْإِنَّمَا * ٱدْعُواْ * رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً * قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً * قُلْإِنّى لَن * يُجِيرَنِى مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَـٰلَـٰتِهِ وَمَن يَعْصِٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً * حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّعَدَداً * قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً * عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِأَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْرِسَـٰلَـٰتِ رَبّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَىْء عَدَداً }. هذا من جملة الموحى المندرج تحت {أُوحِىَ إِلَيْكَ }،وأن مخففة من الثقيلة، والضمير في {ٱسْتَقَـٰمُواْ }، قال الضحاك والربيع بن أنس وزيد بن أسلم وأبو مجلز: هو عائدعلى قوله: {فَمَنْ أَسْلَمَ }، والطريقة: طريقة الكفر، أي لو كفر من أسلم من الناس {لاَسْقَيْنَـٰهُم } إملاء لهم واستدراجاًواستعارة، الاستقامة للكفر قلقة لا تناسب. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جبير: هو عائد على القاسطين، والمعنى على الطريقةالإسلام والحق، لأنعمنا عليهم، نحو قوله: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ } . وقيل: الضمير في استقاموا عائد على الخلقكلهم، وأن هي المخففة من الثقيلة. {لاَسْقَيْنَـٰهُم مَّاء غَدَقاً }: كناية عن توسعة الرزق لأنه أصل المعاش. وقال بعضهم: المالحيث الماء. وقرأ الجمهور: {غَدَقاً } بفتح الدال؛ وعاصم في رواية الأعشى: بكسرها؛ ويقال: غدقت العين تغدق غدقاً فهي غدقة،إذا كثر ماؤها. {لِنَفْتِنَهُمْ }: أي لنختبرهم كيف يشكرون ما أنعم عليهم به، أو لمنتحنهم ونستدرجهم، وذلك على الخلاف فيمن يعود عليه الضمير في {ٱسْتَقَـٰمُواْ }. وقرأ الأعمش وابن وثاب بضم واو لو؛ والجمهور: بكسرها. وقرأ الكوفيون: {يَسْلُكْهُ }بالياء؛ وباقي السبعة: بالنون؛ وابن جندب: بالنون من أسلك؛ وبعض التابعين: بالياء من أسلك أيضاً، وهما لغتان: سلك وأسلك، قالالشاعر:حتـى إذا أسلكوهـم فـي قائـدة وقرأ الجمهور: {صَعَداً } بفتحتين، وذو مصدر صعد وصف به العذاب، أي يعلو المعذبويغلبه، وفسر بشاق. يقال: فلان في صعد من أمره، أي في مشقة. وقال عمر: ما يتصعد بي شيء كما يتصعدفي خطبة النكاح، أي ما يشق عليّ. وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس: صعد: جبل في النار. وقال الخدري: كلماوضعوا أيديهم عليه ذابت. وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم،فعلى هذا يجوز أن يكون بدلاً من عذاب على حذف مضاف، أي عذاب صعد. ويجوز أن يكون صعداً مفعول يسلكه،وعذاباً مفعول من أجله. وقرأ قوم: صعداً بضمتين؛ وابن عباس والحسن: بضم الصاد وفتح العين. قال الحسن: معناه لا راحةفيه. وقرأ الجمهور: {وَأَنَّ ٱلْمَسَـٰجِدَ }، بفتح الهمزة عطفاً على {أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ }، فهو من جملة الموحى. وقال الخليل:معنى الآية: {وَأَنَّ ٱلْمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ }: أي لهذا السبب، وكذلك عنده { لإِيلَـٰفِ قُرَيْشٍ } { فَلْيَعْبُدُواْ } ، وكذلك { وأنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ } : أي ولأن هذه. وقرأ ابن هرمز وطلحة: وإن المساجد، بكسرها على الاستئناف وعلى تقدير الخليل، فالمعنى: فلاتدعوا مع الله أحداً في المساجد لأنها لله خاصة ولعبادته، والظاهر أن المساجد هي البيوت المعدة للصلاة والعبادة في كلملة. وقال الحسن: كل موضع سجد فيه فهو مسجد، كان مخصوصاً لذلك أو لم يكن، لأن الأرض كلها مسجد هذهالأمة. وأبعد ابن عطاء في قوله إنها الآراب التي يسجد عليها، واحدها مسجد بفتح الجيم، وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتانوالقدمان عد الجبهة والأنف واحداً وأبعد أيضاً من قال المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد، وقال: إنه جمع مسجد وهو السجود.وروي أنها نزلت حين تغلبت قريش على الكعبة، فقيل لرسول الله ﷺ: المواضع كلها لله، فاعبده حيثكنت. وقال ابن جبير: نزلت لأن الجن قالت: يا رسول الله، كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك؟ فنزلت الآيةليخاطبهم على معنى أن عبادتكم حيث كنتم مقبولة إذ دخلنا المساجد. وقرأ الجمهور: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ }بفتح الهمزة، عطفاً على قراءتهم {وَأَنَّ ٱلْمَسَـٰجِدَ } بالفتح. وقرأ ابن هرمز وطلحة ونافع وأبو بكر. بكسرها على الاستئناف؛ وعبدالله هو محمد رسول الله ﷺ، {يَدْعُوهُ }: أي يدعو الله {كَادُواْ }: أي كاد الجن، قالابن عباس والضحاك: ينقضون عليه لاستماع القرآن. وقال الحسن وقتادة: الضمير في {كَادُواْ } لكفار قريش والعرب في اجتماعهم علىرد أمره. وقال ابن جبير: المعنى أنها قول الجن لقومهم يحكمون، والضمير في {كَادُواْ } لأصحابة الذين يطوعون له ويقيدونبه في الصلاة. قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل رسول الله أو النبي؟ قلت: لأن تقديره وأوحي إليّ أنه لماقام عبد الله، فلما كان واقعاً في كلام رسول الله ﷺ عن نفسه، جيء به على مايقتضيه التواضع والتذلل؛ أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله لله ليست بأمر مستعبد عن العقل ولا مستنكر حتى يكونواعليه لبداً. ومعنى قام يدعوه: قام يعبده، يريد قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن، فاستمعوا لقراءته عليه السلام. {كَادُواْيَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً }: أي يزدحمون عليه متراكمين، تعجباً مما رأوا من عبادته، واقتداء أصحابه به قائماً وراكعاً وساجداً، وإعجاباًبما تلا من القرآن، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره. انتهى، وهو قول متقدم كثرهالزمخشري بخطابته. وقرأ الجمهور: {لِبَداً } بكسر اللام وفتح الباء جمع لبدة، نحو: كسرة وكسر، وهي الجماعات شبهت بالشيء المتلبدبعضه فوق بعض، ومنه قول عبد مناف بن ربيع:

صافوا بستة أبيات وأربعة     حتى كأن عليهم جانباً لبداً

وقال ابن عباس: أعواناً. وقرأ مجاهد وابن محيصن وابن عامر: بخلاف عنه بضم اللام جمع لبدة،كزبرة وزبر؛ وعن ابن محيصن أيضاً: تسكين الباء وضم اللام لبداً. وقرأ الحسن والجحدري وأبو حيوة وجماعة عن أبي عمرو:بضمتين جمع لبد، كرهن ورهن، أو جمع لبود، كصبور وصبر. وقرأ الحسن والجحدري: بخلاف عنهما، لبداً بضم اللام وشد الباءالمفتوحة. قال الحسن وقتادة وابن زيد: لما قام الرسول للدعوة، تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، فأبى الله إلاأن ينصره ويتم نوره. انتهى. وأبعد من قال عبد الله هنا نوح عليه السلام، كاد قومه يقتلونه حتى استنقذه اللهمنهم، قاله الحسن. وأبعد منه قول من قال إنه عبد الله بن سلام. وقرأ الجمهور: قال إنما أدعوا ربي: أيأعبده، أي قال للمتظاهرين عليه: {إِنَّمَا * ٱدْعُواْ * رَبّى }: أي لم آتكم بأمر ينكر، إنما أعبد ربي وحده،وليس ذلك مما يوجب إطباقكم على عداوتي. أو قال للجن عند ازدحامهم متعجبين: ليس ما ترون من عبادة الله بأمريتعجب منه، إنما يتعجب ممن يعبد غيره. أو قال الجن لقومهم: ذلك حكاية عن رسول الله ﷺ،وهذا كله مرتب على الخلاف في عود الضمير في {كَادُواْ }. وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو بخلاف عنه: {قُلْ }:أي قل يا محمد لهؤلاء المزدحمين عليك، وهم إما الجن وإما المشركون، على اختلاف القولين في ضمير {كَادُواْ }.ثم أمره تعالى أن يقول لهم ما يدل على تبرئه من القدرة على إيصال خير أو شر إليهم، وجعل الضرمقابلاً للرشد تعبيراً به عن الغي، إذ الغي ثمرته الضرر، يمكن أن يكون المعنى: ضراً ولا نفعاً ولا غياً ولارشد، فحذف من كل ما يدل عليه مقابله. قرأ الأعرج: رشداً بضمتين. ولما تبرأ عليه السلام من قدرته على نفعهموضرهم، أمر بأن يخبرهم بأنه مربوب لله تعالى، يفعل فيه ربه ما يريد، وأنه لا يمكن أن يجبره منه أحد،ولا يجد من دونه ملجأ يركن إليه، قال قريباً منه قتادة. وقال السدي: حرزاً. وقال الكلبي: مدخلاً في الأرض، وقيل:ناصراً، وقيل: مذهباً ومسلكاً، ومنه قول الشاعر:

يا لهف نفسي ونفسي غير مجدية     عني وما من قضاء الله ملتحد

وقيل: في الكلام حذف وهو: قالوا له أترك ما ندعو إليه ونحن نجيرك، فقيل له: قل لنيجيرني. وقيل: هو جواب لقول وردان سيد الجن، وقد ازدحموا عليه، قال وردان: أنا أرحلهم عنك، فقال: إني لن يجبرنيأحد، ذكره الماوردي. {إِلاَّ بَلاَغاً }، قال الحسن: هو استثناء منقطع، أي لن يجيرني أحد، لكن إن بلغت رحمني بذلك.والإجارة للبلاغ مستعارة، إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته. وقيل على هذا المعنى: هو استثناء متصل، أي لن يجيرنيفي أحد، لكن لم أجد شيئاً أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيزني الله، فيجوز نصبه على الاستثناءمن ملتحداً وعلى البدل وهو الوجه، لأن ما قبله نفياً، وعلى البدل خرجه الزجاج. وقال أبو عبد الله الرازي: هذاالاستثناء منقطع، لأنه لم يقل: ولم أجد ملتحداً بل، قال: {مِن دُونِهِ }؛ والبلاغ من الله لا يكون داخلاً تحتقوله: {مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } لأنه لا يكون من دون الله، بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه. وقال قتادة: التقديرلا أملك إلا بلاغاً إليكم، فأما الإيمان والكفر فلا أملك. انتهى، وفيه بعد لطول الفصل بينهما. وقيل، إلا في تقديرالانفصال: إن شرطية ولا نافية، وحذف فعلها لدلالة المصدر عليه، والتقدير: إن لم أبلغ بلاغاً من الله ورسالته، وهذا كماتقول: إن لا قياماً قعوداً، أي إن لم تقيم قياماً فاقعد قعوداً، وحذف هذا الفعل قد يكون لدلالة عليه بعدهأو قبله، كما حذف في قوله:

فطلقها فلست لها بكفء     وإلا يعل مفرقك الحسام

التقدير: وإن لا تطقها، فحذف تطلقها لدلالة فطلقها عليه، ومن لابتداء الغاية. وقال الزمخشري: تابعاً لقتادة، أي لاأملك إلا بلاغاً من الله، و{قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى }: جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيانعجزه على معنى إن الله إن أراد به سوأ من مرض أو موت أو غيرهما لم يصح أن يجيره منهأحد أو يجد من دونه ملاذاً يأوي إليه. انتهى. {وَرِسَـٰلَـٰتِهِ }، قيل: عطف على {بَلاَغاً }، أي إلا أن أبلغعن الله، أو أبلغ رسالاته. الظاهر أن رسالاته عطف على الله، أي إلا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته. {وَمَنيَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }: أي بالشرك والكفر، ويدل عليه قوله: {خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً }. وقرأ الجمهور: {فَإِنَّ لَهُ } بكسرالهمزة. وقرأ طلحة: بفتحها، والتقدير: فجزاؤه أن له. قال ابن خالويه: وسمعت ابن مجاهد يقول: ما قرأ به أحد وهولحن، لأنه بعد فاء الشرط. وسمعت ابن الأنباري يقول: هو ضراب، ومعناه: فجزاؤه أن له نار جهنم. انتهى. وكان ابنمجاهد إماماً في القراآت، ولم يكن متسع النقل فيها كابن شنبوذ، وكان ضعيفاً في النحو. وكيف يقول ما قرأ بهأحد؟ وهذا كطلحة بن مصرّف قرأ به. وكيف يقول وهو لحن؟ والنحويون قد نصوا على أن إن بعد فاء الشرطيجوز فيها الفتح والكسر. وجمع {خَـٰلِدِينَ * حِمْلاً } على معنى من، وذلك بعد الحمل على لفظ من في قوله:{يَعْصِ }، {فَإِنَّ لَهُ }. {حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ }: حتى هنا حرف ابتداء، أي يصلح أن يجيء بعدها جملةالابتداء والخبر، ومع ذلك فيها معنى الغاية. قال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق حتى وجعل ما بعده غاية له؟ قلت:بقوله {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً }، على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون عددهم {حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ }من يوم بدر، وإظهار الله له عليهم، أو من يوم القيامة، {فَسَيَعْلَمُونَ } حينئذ أنهم {أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً }.ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده، كأنه لا يزالون على ما هم عليه{حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ }. قال المشركون: متى يكون هذا الموعد إنكاراً له؟ فقيل: قل إنه كائن لا ريبفيه فلا تنكروه، فإن الله قد وعد ذلك، وهو لا يخلف الميعاد. وأما وقته فلا أدري متى يكون، لأن اللهلم يبينه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة. انتهى. وقوله: بم تعلق إن؟ عنى تعلق حرف الجر، فليس بصحيحلأنها حرف ابتداء، فما بعدها ليس في موضع جر خلافاً للزجاج وابن درستوية، فإنهما زعما أنها إذا كانت حرف ابتداء،فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر؛ وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها، وكون ما بعدها غاية لما قبلها،فهو صحيح. وأما تقديره أنها تتعلق بقوله: {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً }، فهو بعيد جداً لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة. وقالالتبريزي: حتى جاز أن تكون غاية لمحذوف، ولم يبين ما المحذوف. وقيل: المعنى دعهم حتى إذا رأوا ما يوعدون منالساعة، {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً }، أهم أم أهل الكتاب؟ والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملةالتي قبلها من الحكم بكينونة النار لهم، كأنه قيل: إن العاصي يحكم له بكينونة النار لهم، والحكم بذلك هو وعيدحتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فسيعلمون. فقوله: {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } هو وعيد لهم بالنار، ومن أضعفمبتدأ وخبر في موضع نصب لما قبله، وهو معلق عنه لأن من استفهام. ويجوز أن تكون من موصولة في موضعنصب بسيعلمون، وأضعف خبر مبتدأ محذوف. والجملة صلة لمن، وتقديره: هو أضعف، وحسن حذفه طول الصلة بالمعمول وهو ناصراً. قالمكحول: لم ينزل هذا إلا في الجن، أسلم منهم من وفق وكفر من خذل كالإنس، قال: وبلغ من تابع النبيﷺ ليلة الجن سبعين ألفاً، وفزعوا عند انشقاق الفجر. ثم أمره تعالى أن يقول لهم إنه لايدري وقت طول ما وعدوا به، أهو قريب أم بعيد؟. قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى قوله: {أَمْ يَجْعَلُلَهُ رَبّى أَمَداً }، والأمد يكون قريباً وبعيداً؟ ألا ترى إلى قوله تعالى: { تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا } ؟ قلت: كان رسول الله ﷺ يستقرب الموعد، فكأنه قال: ما أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم مؤجل ضربت له غاية ؟ أي هو عالم الغيب. {فَلاَ يُظْهِرُ }: فلا يطلع، و{مِن رَّسُولٍ } تبيين لمنارتضى، يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضي الذي هو مصطفى للنبوّة خاصة، لا كل مرتضي، وفي هذه إبطالللكرامات، لأن الذين تضاف إليهم، وإن كانوا أولياء مرتضين، فليسوا برسل. وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع علىالغيب وإبطال الكهانة والتنجيم، لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط. انتهى. وقال ابن عباس: {عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ }،قال الحسن: ما غاب عن خلقه، وقيل: الساعة. وقال ابن عباس: إلا بمعنى لكن، فجعله استثناء منقطعاً. وقيل: إلا بمعنىولا أي، ولا من ارتضى من رسول وعالم خبر مبتدأ محذوف، أي هو عالم الغيب، أو بدل من ربي. وقرىء:عالم بالنصب على المدح. وقال السدّي: علم الغيب، فعلاً ماضياً ناصباً، والجمهور: عالم الغيب اسم فاعل مرفوعاً. وقرأ الجمهور: {فَلاَيُظْهِرُ } من أظهر؛ والحسن: يظهر بفتح الياء والهاء من ظهر، {إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ }: استثناء من أحداً،أي فإنه يظهره على ما يشاء من ذلك، فإنه يسلك الله من بين يدي ذلك الرسول، {وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }:أي حفظة يحفظونه من الجن ويحرسونه في ضبط ما يلقيه تعالى إلى ذلك الرسول من علم الغيب. وعن الضحاك: مابعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك. وقال القرطبي: قال العلماء: لما تمدح سبحانهبعلم الغيب واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاهمن الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم، ثم ذكر استدلالاًعلى بطلان ما يقوله المنجم، ثم قال باستحلال دم المنجم. وقال الواحدي: في هذا دليل على أن من ادعى أنالنجوم تدل على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن. قال أبو عبدالله الرازي والواحدي: تجوز الكرامات على ما قال صاحب الكشاف، فجعلها تدل على المنع من الأحكام النجومية ولا تدل علىالإلهامات مجرد تشبه، وعندي أن الآية لا تدل على شيء مما قالوه، لأن قوله: {عَلَىٰ غَيْبِهِ } ليس فيه صفةعموم، فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر خلقه تعالى على غيب واحد من غيوبه، ويحمله على وقت قيام القيامةفلا يبقى دليل في الآية على أنه لا يظهر شيئاً من الغيوب لأحد، ويؤكده أنه ذكر هذه الآية عقيب قوله:{إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } الآية: أي لا أدري وقت وقوع القيامة، إذ هي من الغيب الذي لا يظهرهالله لأحد. و{إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ }: استثناء منقطع، كأنه قال: فلا يظهر على غيبه المخصوص أحداً إلا من ارتضى منرسول، فله حفظة يحفظونه من شرّ مردة الإنس والجن. قال أبو عبد الله الرازي: واعلم أنه لا بد منالقطع بأنه ليس المراد من هذه الآية أنه لا يطلع أحد على شيء من المغيبات إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام،والذي يدل عليه وجوه: أحدها: أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور محمد صلىالله عليه وسلم قبل زمان ظهوره، وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم حتى رجع إليهما كسرى في تعرفأخبار رسولنا ﷺ. وثانيها: إطباق الأمم على صحة علم التعبير، فيخبر المعبر عن ما يأتي في المستقبلويكون صادقاً. وثالثها: أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملكشاه من بغداد إلى خراسان سألها عن أشياء فيالمستقبل فأخبرت بها ووقعت على وفق كلامها، فقد رأيت أناساً محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عنالأشياء الغائبة على سبيل التفصيل وجاءت كذلك، وبالغ أبو البركات صاحب المعتبر في شرح حالها في كتاب التعبير وقال: فحصتعن حالها منذ ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات أخباراً مطابقة موافقة. ورابعها: أنا نشاهد أصحاب الإلهاماتالصادقة، ليس هذا مختصاً بالأولياء، فقد يوجد في السحرة وفي الأحكام النجومية ما يوافق الصدق، وإن كان الكذب يقع منهمكثيراً. وإذا كان ذلك مشاهداً محسوساً، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن، وذلك بأطل. فقلنا:إن التأويل الصحيح ما ذكرناه. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وإنما أوردنا كلام هذا الرجل في هذه المسألة لننظر فيما ذكرمن تلك الوجوه. أما قصة شق وسطيح فليس فيها شيء من الإخبار بالغيب، لأنه مما يخبر به رئي الكهانمن الشياطين مسترقة السمع، كما جاء في الحديث: إنهم يسمعون الكلمة ويكذبون ويلقون إلى الكهنة ويزيد الكهنة للكلمة مائة كذبة .وليس هذا من علم الغيب، إذ تكلمت به الملائكة، وتلقفها الجني، وتلقفها منه الكاهن؛ فالكاهن لم يعلم الغيب. وأماتعبير المنامات، فالمعبر غير المعصوم لا يعبر بذلك على سبيل البت والقطع، بل على سبيل الحزر والتخمين، وقد يقع مايعبر به وقد لا يقع. وأما الكاهنة البغدادية وما حكي عنها فحسبه عقلاً أن يستدل بأحوال امرأة لم يشاهدها،ولو شاهد ذلك لكان في عقله ما يجوز أنه لبس عليه هذا، وهو العالم المصنف الذي طبق ذكره الآفاق، وهوالذي شكك في دلائل الفلاسفة وسامهم الخسف. وأما حكايته عن صاحب المعتبر، فهو يهودي أظهر إسلامه وهو منتحل طريقةالفلاسفة. وأما مشاهدته أصحاب الإلهامات الصادقة، فلي من العمر نحو من ثلاث وسبعين سنة أصحب العلماء وأتردد إلى من ينتميإلى الصلاح، فلم أر أحداً منهم صاحب إلهام صادق. وأما الكرامات، فلا أشك في صدور شيء منها، لكن ذلكعلى سبيل الندرة، وذلك في من سلف من صلحاء هذه الأمة؛ وربما قد يكون في أعصارنا من تصدر منه الكرامات،ولله تعالى أن يخص من شاء بما شاء والله الموفق. وقرأ الجمهور: {لِيَعْلَمَ } مبنياً للفاعل. قال قتادة: ليعلممحمد ﷺ أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم وحفظوا. وقال ابن جبير: ليعلم محمد أن الملائكة الحفظةالرصد النازلين بين يدي جبريل وخلفه قد أبلغوا رسالات ربهم. وقال مجاهد: ليعلم من أشرك وكذب أن الرسل قد بلغت،وعلى هذا القول لا يقع لهم هذا العلم إلا في الآخرة. وقيل: ليعلم الله رسله مبلغة خارجة إلى الوجود، لأنعلمه بكل شيء قد سبق. واختار الزمخشري هذا القول الأخير فقال: {لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ * أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَـٰلَـٰتِ رَبّهِمْ }:يعني الأنبياء. وحد أولاً على اللفظ في قوله: {مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ }، ثم جمع على المعنى كقوله: {فَإِنَّلَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِينَ }، والمعنى: ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان، وذكر العلم كذكره في قوله { حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ } . انتهى. وقيل: {لِيَعْلَمَ }، أي: أيّ رسول كان أن الرسل سواه بلغوا. وقيل: ليعلم إبليس أنالرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه وإسراف أصحابه. وقيل: ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم. وقيل: ليعلممحمد أن قد بلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه. وقيل: ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم،ولم يكونوا هم المتلقين بإستراق السمع. وقرأ ابن عباس وزيد بن عليّ: ليعلم، بضم الياء مبنياً للمفعول؛ والزهري وابن أبيعبلة: بضم الياء وكسر اللام، أي ليعلم الله، أي من شاء أن يعلمه، أن الرسل قد أبلغوا رسالاته. وقرأالجمهور: {رِسَالـٰتِ } على الجمع؛ وأبو حيوة: على الإفراد. وقرأ الجمهور: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ }: وأحاط مبنياً للفاعل، أي الله،{وَأَحْصَىٰ }: مبنياً للفاعل، أي الله كل نصباً؛ وابن أبي عبلة: وأحيط وأحصى مبنياً للمفعول كل رفعاً. ولما كان ليعلممضمناً معنى علم، صار المعنى: قد علم ذلك، فعطف وأحاط على هذا الضمير، والمعنى: وأحاط بما عند الرسل من الحكموالشرائع لا يفوته منها شيء. {وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَىْء عَدَداً }: أي معدوداً محصوراً، وانتصابه على الحال من كل شيء، وإنكان نكرة لاندراج المعرفة في العموم. ويجوز أن ينتصب نصب المصدر لأحصى لأنه في معنى إحصاء. وقال أبو البقاء: ويجوزأن يكون تمييزاً. انتهى، فيكون منقولاً من المفعول، إذا أصله: وأحصى عدد كل شيء، وفي كونه ثابتاً من لسان العربخلاف.