الرئيسيةبحث

تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة التحريم

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } * { وَإِذَ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ } * { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } * { عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَٱغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } * { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَةَ نُوحٍ وَٱمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّاخِلِينَ } * { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } * { وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ } { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوٰجِكَ وَٱللَّهُغَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـٰنِكُمْ وَٱللَّهُ مَوْلَـٰكُمْ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ وَإِذَ أَسَرَّ ٱلنَّبِىُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوٰجِهِ حَدِيثاًفَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ }. هذه السورة مدنية،وسبب نزولها ما يأتي ذكره في تفسير أوائلها، والمناسبة بينها وبين السورة قبلها أنه لما ذكر جملة من أحكام زوجاتالمؤمنين، ذكر هنا ما جرى من بعض زوجات رسول الله ﷺ. {مُّنتَظِرُونَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىّ }: نداءإقبال وتشريف وتنبيه بالصفة على عصمته مما يقع فيه من ليس بمعصوم؛ {لِمَ تُحَرّمُ }: سؤال تلطف، ولذلك قدم قبله{مُّنتَظِرُونَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىّ }، كما جاء في قوله تعالى: { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } . ومعنى {تُحَرّمُ }: تمنع،وليس التحريم المشروع بوحي من الله، وإنما هو امتناع لتطييب خاطر بعض من يحسن معه العشرة. {مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ}: هو مباشرة مارية جاريته، وكان ﷺ ألمّ بها في بيت بعض نسائه، فغارت من ذلك صاحبةالبيت، فطيب خاطرها بامتناعه منها، واستكتمها ذلك، فأفشته إلى بعض نسائه. وقيل: هو عسل كان يشربه عند بعض نسائه، فكانينتاب بيتها لذلك، فغار بعضهن من دخوله بيت التي عندها العسل، وتواصين على أن يذكرن له على أن رائحة ذلكالعسل ليس بطيب، فقال: «لا أشربه». وللزمخشري هنا كلام أضربت عنه صفحاً، كما ضربت عن كلامه في قوله: { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } ، وكلامه هذا ونحوه محقق قوي فيه، ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقاً. فلو حرمالإنسان على نفسه شيئاً أحله الله، كشرب عسل، أو وطء سرية؛ واختلفوا إذا قال لزوجته: أنت عليّ حرام، أو الحلالعلى حرام، ولا يستثني زوجته؛ فقال جماعة، منهم الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ: هو كتحريم الماء والطعام. وقال تعالى: { لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَـٰتِ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ } ، والزوجة من الطيبات ومما أحله الله. وقال أبو بكر وعمر وزيد وابنعباس وابن مسعود وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاووس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة والحسن والأوزاعي وأبو ثور وجماعة: هويمين يكفرها. وقال ابن مسعود وابن عباس أيضاً في إحدى روايتيه، والشافعي في أحد قوليه: فيه تكفير يمين وليس بيمين.وقال أبو حنيفة وسفيان والكوفيون: هذا ما أراد من الطلاق، فإن لم يرد طلاقها فهو لا شيء. وقال آخرون: كذلك،فإن لم يرد فهو يمين. وفي التحرير، قال أبو حنيفة وأصحابه: إن نوى الطلاق فواحدة بائنة، أو اثنين فواحدة، أوثلاثاً فثلاث، أو لم ينو شيئاً فيمين وهو مول، أو الظهار فظهار. وقال ابن القاسم: لا تنفعه نية الظهار ويكونطلاقاً. وقال يحيـى بن عمر: يكون، فإن ارتجعها، فلا يجوز له وطئها حتى يكفر كفارة الظهار فما زاد من أعداده،فإن نوى واحدة فرجعية، وهو قول الشافعي. وقال الأوزاعي وسفيان وأبو ثور: أي أي شيء نوى به من الطلاق وقعوإن لم ينو شيئاً، فقال سفيان: لا شيء عليه. وقال الأوزاعي وأبو ثور: تقع واحدة. وقال الزهري: له نيته ولايكون أقل من واحدة، فإن لم ينو فلا شيء. وقال ابن جبير: عليه عتق رقبة وإن لم يكن ظهاراً. وقالأبو قلابة وعثمان وأحمد وإسحاق: التحريم ظهار، ففيه كفارة. وقال الشافعي: إن نوى أنها محرمة كظهر أمه، فظهار أو تحريمعينها بغير طلاق، أو لم ينو فكفارة يمين. وقال مالك: هي ثلاث في المدخول بها، وينوى في غير المدخول بها،فهو ما أراد من واحدة أو اثنتين أو ثلاث. وقاله علي وزيد وأبو هريرة. وقيل: في المدخول بها ثلاث، قالهعليّ أيضاً وزيد بن أسلم والحكم. وقال ابن أبي ليلى وعبد الملك بن الماجشون: هي ثلاث في الوجهين، ولا ينويفي شيء. وروى ابن خويز منداد عن مالك، وقاله زيد وحماد بن أبي سليمان: إنها واحدة بائنة في المدخول بهاوغير المدخول بها. وقال الزهري وعبد العزيز بن الماجشون: هي واحدة رجعية. وقال أبو مصعب ومحمد بن الحكم: هي فيالتي لم يدخل بها واحدة، وفي المدخول بها ثلاث. وفي الكشاف لا يراه الشافعي يميناً، ولكن سبباً في الكفارة فيالنساء وحدهن، وإن نوى الطلاق فهو رجعي. وعن عمر: إذا نوى الطلاق فرجعي. وعن علي: ثلاث؛ وعن زيد: واحدة؛ وعنعثمان: ظهاراً. انتهى. وقال أيضاً: ولم يثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال لما أحله: «هو حرامعلي»، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدّمت منه، وهو قوله: والله لا أقربها بعد اليوم ، فقيل له: {لِمَ تُحَرّمُ مَاأَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ }: أي لم تمتنع منه بسبب اليمين؟ يعني أقدم على ما حلفت عليه وكفر، ونحو قوله تعالى: { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ } : أي منعناه منها. انتهى. و{تَبْتَغِى }: في موضع الحال. وقال الزمخشري تفسير لتحرم، أو استئناف، {مَرْضَاتَ}: رضا أزواجك، أي بالامتناع مما أحله الله لك. {قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـٰنِكُمْ }: الظاهر أنه كانحلف على أنه يمتنع من وطء مارية، أو من شرب ذلك العسل، على الخلاف في السبب، وفرض إحالة على آيةالعقود، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان. وتحلة: مصدر حلل، كتكرمة من كرم، وليس مصدراً مقيساً، والمقيس: التحليل والتكريم، لأن قياسفعل الصحيح العين غير المهموز هو التفعيل، وأصل هذا تحللة فأدغم. وعن مقاتل: أعتق رقبة في تحريم مارية. وعن الحسن:لم يكفر. انتهى. فدل على أنه لم يكن ثم يمين. و{بَعْضِ أَزْوٰجِهِ }: حفصة، والحديث هو بسبب مارية. {فَلَمَّا نَبَّأَتْبِهِ }: أي أخبرت عائشة. وقيل: الحديث إنما هو: «شربت عسلاً». وقال ميمون بن مهران: هو إسراره إلى حفصة أنأبا بكر وعمر يملكان إمرتي من بعدي خلافه. وقرأ الجمهور: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ }؛ وطلحة: أنبأت، والعامل في إذا: اذكر،وذكر ذلك على سبيل التأنيب لمن أسرّ له فأفشاه. ونبأ وأنبأ، الأصل أن يتعديا إلى واحد بأنفسهما، وإلى ثان بحرفالجر، ويجوز حذفه فتقول: نبأت به، المفعول الأول محذوف، أي غيرها. و{مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا }: أي بهذا، {قَالَ نَبَّأَنِىَ }أي نبأني به أو نبأنيه، فإذا ضمنت معنى أعلم، تعدت إلى ثلاثة مفاعيل، نحو قول الشاعر:

نبئت زرعة والسفاهة كاسمها     تهدي إليّ غرائب الأشعار

{وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ }: أي أطلعه، أي علىإفشائه، وكان قد تكوتم فيه، وذلك بإخبار جبريل عليه السلام. وجاءت الكناية هنا عن التفشية والحذف للمفشى إليها بالسر، حياطةوصوناً عن التصريح بالاسم، إذ لا يتعلق بالتصريح بالاسم غرض. وقرأ الجمهور: {عَرَّفَ } بشد الرّاء، والمعنى: أعلم به وأنبعليه. وقرأ السلمي والحسن وقتادة وطلحة والكسائي وأبو عمرو في رواية هارون عنه: بخف الراء، أي جازى بالعتب واللوم، كماتقول لمن يؤذيك: لأعرفن لك ذلك، أي لأجازينك. وقيل: إنه طلق حفصة وأمر بمراجعتها. وقيل: عاتبها ولم يطلقها. وقرأ ابنالمسيب وعكرمة: عراف بألف بعد الراء، وهي إشباع. وقال ابن خالويه: ويقال إنها لغة يمانية، ومثالها قوله:

أعوذ بالله من العقراب     الشائلات عقد الأذناب

يريد: من العقرب. {وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ }: أيتكرماً وحياء وحسن عشرة. قال الحسن: ما استقصى كريم قط. وقال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، ومفعول عرّفالمشدد محذوف، أي عرّفها بعضه، أي أعلم ببعض الحديث. وقيل: المعرّف خلافة الشيخين، والذي أعرض عنه حديث مارية. ولما أفشتحفصة الحديث لعائشة واكتتمتها إياه، ونبأها الرسول الله ﷺ به، ظنت أن عائشة فضحتها فقالت: {مَنْ أَنبَأَكَهَـٰذَا } على سبيل التثبت، فأخبرها أن الله هو الذي نبأه به، فسكنت وسلمت. {إِن تَتُوبَا إِلَى ٱللَّهِ }: انتقالمن غيبة إلى خطاب، ويسمى الالتفات والخطاب لحفصة وعائشة. {فَقَدْ * صَــٰفَّـٰتٍ }: مالت عن الصواب، وفي حرف عبد الله:راغت، وأتى بالجمع في قوله: {قُلُوبُكُمَا }، وحسن ذلك إضافته إلى مثنى، وهو ضميراهما، والجمع في مثل هذا أكثر استعمالاًمن المثنى، والتثنية دون الجمع، كما قال الشاعر:

فتخالسا نفسيهما بنوافذ     كنوافذ العبط التي لا ترفع

وهذا كان القياس، وذلك أن يعبر بالمثنى عن المثنى، لكن كرهوا اجتماع تثنيتين فعدلوا إلى الجمع، لأن التثنيةجمع في المعنى، والإفراد لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر، كقوله:

حمامـة بطـن الـوادييـن تـرنمـي    

يريد: بطني. وغلط ابنمالك فقال في كتاب التسهيل: ونختار لفظ الإفراد على لفظ التثنية. وقرأ الجمهور: تظاهرا بشد الظاء، وأصله تتظاهرا، وأدغمت التاءفي الظاء، وبالأصل قرأ عكرمة، وبتخفيف الظاء قرأ أبو رجاء والحسن وطلحة وعاصم ونافع في رواية، وبشد الظاء والهاء دونألف قرأ أبو عمرو في رواية، والمعنى: وأن تتعاونا عليه في إفشاء سره والإفراط في الغيرة، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَـٰهُ}: أي مظاهره ومعينه، والأحسن الوقف على قوله: {مَوْلاهُ }. ويكون {وَجِبْرِيلُ } مبتدأ، وما بعده معطوف عليه، والخبر {ظَهِيرٍ}. فيكون ابتداء الجملة بجبريل، وهو أمين وحي الله واختتامه بالملائكة. وبدىء بجبريل، وأفرد بالذكر تعظيماً له وإظهاراً لمكانته عندالله. ويكون قد ذكر مرتين، مرة بالنص ومرة في العموم. واكتنف صالح المؤمنين جبريل تشريفاً لهم واعتناء بهم، إذ جعلهمبين الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون. فعلى هذا جبريل داخل في الظهراء لا في الولاية، ويختص الرسول بأن اللههو مولاه. وجوزوا أن يكون {وَجِبْرِيلُ وَصَـٰلِحُ الْمُؤْمِنِينَ } عطفاً على اسم الله، فيدخلان في الولاية، ويكون {وَٱلْمَلَـئِكَةُ } مبتدأ،والخبر {ظَهِيرٍ }، فيكون جبريل داخلاً في الولاية بالنص، وفي الظهراء بالعموم، والظاهر عموم وصالح المؤمنين فيشمل كل صالح. وقالقتادة والعلاء بن العلاء بن زيد: هم الأنبياء، وتكون مظاهرتهم له كونهم قدوة، فهم ظهراء بهذا المعنى. وقال عكرمة والضحاكوابن جبير ومجاهد: المراد أبو بكر وعمر، وزاد مجاهد: وعلي بن أبي طالب. وقيل: الصحابة. وقيل: الخلفاء. وعن ابن جبير:من يرىء من النفاق، وصالح يحتمل أن يراد به الجمع، وإن كان مفرداً فيكون كالسامر في قوله: { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَـٰمِراً } ، أي سماراً. ويحتمل أن يكون جمعاً حذفت منه الواو خطأ لحذفها لفظاً، كقوله: { سَنَدْعُ الزبانية } ، وأفرد الظهير لأن المرادفوج ظهير، وكثيراً ما يأتي فعيل نحو: هذا للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ المفرد، كأنهم في الظاهرة يد واحدة على منيعاديه، فما قد تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه، وذلك إشارة إلى تظاهرهما، أو إلى الولاية. وفي الحديث أنعمر قال: يا رسول الله لا تكترث بأمر نسائك، والله معك، وجبريل معك، وأبو بكر وأنا معك، فنزلت. وروي عنهأنه قال لزوجات النبي ﷺ: {ظَهِيرٌ عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ } الآية، فنزلت. وقرأ الجمهور: طلقكن بفتحالقاف، وأبو عمرو في رواية ابن عباس: بإدغامها في الكاف، وتقدم ذكر الخلاف في {أَن يُبْدِلَهُ }في سورة الكهف، والمتبدلبه محذوف لدلالة المعنى عليه، تقديره: أن يبدله خيراً منكن، لأنهن إذا طلقهن كان طلاقهن لسوء عشرتهن، واللواتي يبدلهن بهذهالأوصاف يكن خيراً منهن. وبدأ في وصفهن بالإسلام، وهو الانقياد؛ ثم بالإيمان، وهو التصديق؛ ثم بالقنوت، وهو الطواعية؛ ثم بالتوبة،وهي الإقلاع عن الذنب؛ ثم بالعبادة، وهي التلذذ؛ ثم بالسياحة، وهي كناية عن الصوم، قاله أبو هريرة وابن عباس وقتادةوالضحاك. وقيل: إن الرسول ﷺ فسره بذلك، قاله أيضاً الحسن وابن جبير وزيد بن أسلم وابنه عبدالرحمن. قال الفراء والقتبي: سمي الصائم سائحاً لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام. وقال زيدبن أسلم ويمان: مهاجرات. وقال ابن زيد: ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة. وقيل: ذاهبات في طاعة الله. وقرأ الجمهور:سائحات، وعمرو بن فائد: سيحات، وهذه الصفات تجتمع، وأما الثيوبة والبكارة فلا يجتمعان، فلذلك عطف أحدهما على الآخر، ولو لميأت بالواو لاختل المعنى. وذكر الجنسين لأن في أزواجه ﷺ من تزوجها بكراً، والثيب: الراجع بعد زوالالعذرة، يقال: ثابت تثوب ثووباً، ووزنه فعيل كسيد. ولما وعظ أزواج الرسول ﷺ موعظة خاصة، أتبعذلك بموعظة عامة للمؤمنين وأهليهم، وعطف {وَأَهْلِيكُمْ } على {أَنفُسَكُـمْ }، لأن رب المنزل راع وهو مسؤول عن أهله. ومعنىوقايتهم: حملهم على طاعته وإلزامهم أداء ما فرض عليهم. قال عمر: يا رسول الله، نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا؟ قال:«تنهونهن عما نهاكم الله تعالى عنه، وتأمرونهن بما أمركم الله به، فتكون ذلك وقاية بينهن وبين النار»، ودخل الأولاد في{وَأَهْلِيكُمْ }. وقيل: دخلوا في {أَنفُسَكُـمْ } لأن الولد بعض من أبيه، فيعلمه الحلال والحرام ويجنبه المعاصي. وقرىء: وأهلوكم بالواو،وهو معطوف على الضمير في {قُواْ } وحسن العطف للفصل بالمفعول. وقال الزمخشري: فإن قلت: أليس التقدير قوا أنفسكم وليقأهلوكم أنفسهم؟ قلت: لا، ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو وأنفسكم واقع بعده، فكأنه قيل: قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم. لماجمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه. فجعلت ضميرهما معاً على لفظ المخاطب. انتهى. وناقض في قوله هذا لأنه قدر وليقأهلوكم فجعله من عطف الجمل، لأن أهلوكم اسم ظاهرة لا يمكن عنده أن يرتفع بفعل الآمر الذي للمخاطب، وكذا فيقوله: { ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } ، ثم قال: ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو، فناقض لأنه في هذا جعله مقارناًفي التقدير للواو، وفيما قبله رفعه بفعل آخر غير الرافع للواو وهو وليق، وتقدم الخلاف في فتح الواو في قوله:{وَقُودُهَا } وضمها في البقرة. وتفسير {وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } في البقرة {عَلَيْهَا مَلَـئِكَةٌ }: هي الزبانية التسعة عشر وأعوانهم.ووصفهم بالغلظ، إما لشدة أجسامهم وقوتها، وإما لفظاظتهم لقوله: { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ } ، أي ليس فيهم رقة ولاحنة على العصاة. وانتصب {مَا أَمَرَهُمْ } على البدل، أي لا يعصون أمره لقوله تعالى: { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى } ، أو علىإسقاط حرف الجر. أي فيما أمرهم {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }. قيل: كرر المعنى توكيداً. وقال الزمخشري: فإن قلت: أليس الجملتانفي معنى واحد؟ قلت: لا فإن معنى الأولى: أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها، ومعنى الثانية: أنهم يودونما يؤمرون، لا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه. {لاَ تَعْتَذِرُواْ }: خطاب لهم عند دخولهم المنار، لأنهم لا ينفعهم الاعتذار،فلا فائدة فيه. قوله عز وجل: {تَعْمَلُونَ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَعَنكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـٰرُ }. ذكروا في النصوح أربعة وعشرين قولاً. وروي عن عمر وعبدالله وأبي ومعاذ أنها التي لا عودة بعدها، كما لا يعود اللبن إلى الضرع، ورفعه معاذ إلى النبي صلى اللهعليه وسلم. وقرأ الجمهور: {نَّصُوحاً } بفتح النون، وصفاً لتوبة، وهو من أمثلة المبالغة، كضروب وقتول. وقرأ الحسن والأعرج وعيسىوأبو بكر عن عاصم، وخارجة عن نافع: بضمها، هو مصدر وصف به، ووصفها بالنصح على سبيل المجاز، إذ النصح صفةالتائب، وهو أن ينصح نفسه بالتوبة، فيأتي بها على طريقها، وهي خلوصها من جميع الشوائب المفسدة لها، من قولهم: عسلناصح، أي خالص من الشمع، أو من النصاحة وهي الخياطة، أي قد أحكمها وأوثقها، كما يحكم الخياط الثوب بخياطته وتوثيقه.وسمع عليّ أعرابياً يقول: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فقال: يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين، قال:وما التوبة؟ قال: يجمعها ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، وعلى الفرائض الإعادة، ورد المظالم واستحلال الخصوم، وأن يعزمعلى أن لا يعودوا، وأن تدئب نفسك في طاعة الله كما أدأبتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتهاحلاوة المعاصي. وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه. انتهى. ونصوحاً من نصح، فاحتملـ وهو الظاهر ـ أن تكون التوبة تنصح نفس التائب، واحتمل أن يكون متعلق النصح الناس، أي يدعوهم إلى مثلهالظهور أمرها على صاحبها. وقرأ زيد بن علي: توباً بغير تاء، ومن قرأ بالضم جاز أن يكون مصدراً وصف كماقدمناه، وجاز أن يكون مفعولاً له، أي توبوا لنصح أنفسكم. وقرأ الجمهور: {وَيُدْخِلْكُمْ } عطفاً على {أَن يُكَفّرَ }. وقالالزمخشري: عطفاً على محل عسى أن يكفر، كأنه قيل: توبوا يوجب تكفير سيآتكم ويدخلكم. انتهى. والأولى أن يكون حذف الحركةتخفيفاً وتشبيهاً لما هو من كلمتين بالكلمة الواحدة، تقول في قمع ونطع: قمع ونطع. {يَوْمٌ لاَّ } منصوب بيدخلكم،ولا يجزي تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر، والنبي هو محمد رسول ﷺ، وفي الحديث أنهﷺ تضرع إلى الله عز وجل في أمر أمته، فأوحى الله تعالى إليه: إن شئت جعلت حسابهمإليك، فقال: يا رب أنت أرحم بهم ، فقال تعالى: إذاً لا أخزيك فيهم. وجاز أن يكون: {مُفَصَّلاً وَٱلَّذِينَ } معطوفاًعلى {ٱلنَّبِىّ }، فيدخلون في انتفاء الخزي. وجاز أن يكون مبتدأ، والخبر {نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِمْ }. وقرأ سهلبن شعيب وأبو حيوة: وبإيمانهم بكسر الهمزة، وتقدم في الحديث. {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا }. قال ابن عباس والحسن:يقولون ذلك إذا طفىء نور المنافقين. وقال الحسن أيضاً: يدعونه تقرباً إليه، كقوله: { وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ } ، وهو مغفور له. وقيل:يقوله من يمر على الصراط زحفاً وحبوا. وقيل: يقوله من يعطى من النور مقدار ما يبصر به موضع قدميه. {ٱلْعَظِيمُيٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ جَـٰهِدِ ٱلْكُفَّـٰرَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ }: تقدم نظير هذه الآية في التوبة. {ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ }: ضربتعالى المثل لهم بامرأة نوح وامرأة لوط في أنهم لا ينفعهم في كفرهم لحمة نسب ولا وصلة صهر، إذ الكفرقاطع العلائق بين الكافر والمؤمن، وإن كان المؤمن في أقصى درجات العلا. ألا ترى إلى قوله تعالى: { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَـٰلِحٍ } ؟ كما لم ينفع تينك المرأتين كونهما زوجتي نبيين. وجاءت الكناية عن اسمهما العلمين بقوله:{عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا }، لما في ذلك من التشريف بالإضافة إليه تعالى. ولم يأت التركيب بالضمير عنهما، فيكون تحتهما لماقصد من ذكر وصفهما بقوله: {صَـٰلِحِينَ }، لأن الصلاح هو الوصف الذي يمتاز به من اصطفاه الله تعالى بقوله فيحق إبراهيم عليه الصلاة والسلام: { وَإِنَّهُ فِى ٱلاْخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } ، وفي قول يوسف عليه السلام: { وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّـٰلِحِينَ } ، وقولسليمان عليه الصلاة والسلام: { وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } . {فَخَانَتَاهُمَا }، وذلك بكفرهما وقول امرأة نوح عليه السلام: هومجنون، ونميمة امرأة لوط عليه السلام بمن ورد عليه من الأضياف، قاله ابن عباس. وقال: لم تزن امرأة نبي قط،ولا ابتلي في نسائه بالزنا. قال في التحرير: وهذا إجماع من المفسرين، وفي كتاب ابن عطية. وقال الحسن في كتابالنقاش: فخانتاهما بالكفر والزنا وغيره. وقال الزمخشري: ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور، لأنه سمج في الطباع نقيصة عند كلأحد، بخلاف الكفر، فإن الكفر يستسمجونه ويسمونه حقاً. وقال الضحاك: خانتاهما بالنميمة، كان إذا أوحى إليه بشيء أفشتاه للمشركين، وقيل:خانتاهما بنفاقهما. قال مقاتل: اسم امرأة نوح والهة، واسم امرأة لوط والعة. {فَلَمْ يُغْنِينَا } بياء الغيبة، والألف ضمير نوحولوط: أي على قربهما منهما فرق بينهما الخيانة. {وَقِيلَ ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ }: أي وقت موتهما، أو يوم القيامة؛ {مَعَ ٱلدخِلِينَ}: الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو مع من دخلها من إخوانكما من قوم نوح وقوملوط. وقرأ مبشر بن عبيد: تغنيا بالتاء، والألف ضمير المرأتين، ومعنى {عَنْهُمَا }: عن أنفسهما، ولا بد من هذا المضافإلا أن يجعل عن اسما، كهي في: دع عنك، لأنها إن كانت حرفاً، كان في ذلك تعدية الفعل الرافع للضميرالمتصل إلى ضمير المجرور، وهو يجري مجرى المنصوب المتصل، وذلك لا يجوز. {وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ}: مثل تعالى حال المؤمنين في أن وصلة الكفار لا تضرهم ولا تنقص من ثوابهم بحال امرأة فرعون، واسمها آسيةبنت مزاحم، ولم يضرها كونها كانت تحت فرعون عدوّ الله تعالى والمدعي الإلهية، بل نجاها منه إيمانها؛ وبحال مريم، إذأوتيت من كرامة الله تعالى في الدنيا والآخرة، والاصطفاء على نساء العالمين، مع أن قومها كانوا كفاراً. {إِذْ قَالَتْ رَبّٱبْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى ٱلْجَنَّةِ }: هذا يدل على إيمانها وتصديقها بالبعث. قيل: كانت عمة موسى عليه السلام، وآمنتحين سمعت بتلقف عصاه ما أفك السحرة. طلبت من ربها القرب من رحمته، وكان ذلك أهم عندها، فقدمت الظرف، وهو{عِندَكَ بَيْتاً }، ثم بينت مكان القرب فقالت: {فِى ٱلْجَنَّةِ }. وقال بعض الظرفاء: وقد سئل: اين في القرآن مثلقولهم: الجار قبل الدار؟ قال: قوله تعالى {ٱبْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى ٱلْجَنَّةِ }، فعندك هو المجاورة، وبيتاً في الجنةهو الدار، وقد تقدم {عِندَكَ } على قوله: {بَيَـٰتًا }. {وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ }، قيل: دعت بهذه الدعوات حين أمرفرعون بتعذيبها لما عرف إيمانها بموسى عليه السلام. وذكر المفسرون أنواعاً مضطربة في تعذيبها، وليس في القرآن نصاً أنها عذبت.وقال الحسن: لما دعت بالنجاة، نجاها الله تعالى أكرم نجاة، فرفعها إلى الجنة تأكل وتشرب وتتنعم. وقيل: لما قالت: {ٱبْنِلِى عِندَكَ بَيْتاً فِى ٱلْجَنَّةِ }، أريت بيتها في الجنة يبنى، {وَعَمَلِهِ }، قيل: كفره. وقيل: عذابه وظلمه وشماتته. وقالابن عباس: الجماع. {وَنَجّنِى مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ }، قال: أهل مصر، وقال مقاتل: القبط، وفي هذا دليل على الالتجاء إلىالله تعالى عند المحن وسؤال الخلاص منها، وإن ذلك من سنن الصالحين والأنبياء. {وَمَرْيَمَ }: معطوف على امرأة فرعون،{ٱبْنَةَ عِمْرَانَ ٱلَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا }: تقدم تفسير نظير هذه في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.وقرأ الجمهور: ابنت بفتح التاء؛ وأيوب السختياني: ابنه بسكون الهاء وصلاً أجراه مجرى الوقف. وقرأ الجمهور: {فَنَفَخْنَا فِيهِ }: أيفي الفرج؛ وعبد الله: فيها، كما في سورة الأنبياء، أي في الجملة. وجمع تعالى في التمثيل بين التي لها زوجوالتي لا زوج لها تسلية للأرامل وتطييباً لقلوبهن. وقرأ الجمهور: {وَصَدَّقَتْ } بشد الدال؛ ويعقوب وأبو مجلز وقتادة وعصمة عنعاصم: بخفها، أي كانت صادقة بما أخبرت به من أمر عيسى عليه السلام، وما أظهر الله له من الكرامات. وقرأالجمهور: وكلماته جمعاً، فاحتمل أن تكون الصحف المنزلة على إدريس عليه السلام وغيره، وسماها كلمات لقصرها، ويكون المراد بكتبه: الكتبالأربعة. واحتمل أن تكون الكلمات: ما كلم الله تعالى به ملائكته وغيرهم، وبكتبه: جميع ما يكتب في اللوح وغيره. واحتملأن تكون الكلمات: ما صدر في أمر عيسى عليه السلام. وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري: بكلمة على التوحيد، فاحتمل أن يكوناسم جنس، واحتمل أن يكون كناية عن عيسى، لأنه قد أطلق عليه أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم. وقرأ أبوعمرو وحفص: وكتبه جمعاً، ورواه كذلك خارجة عن نافع. وقرأ باقي السبعة: وكتابه على الإفراد، فاحتمل أن يراد به الجنس،وأن يراد به الإنجيل لا سيما إن فسرت الكلمة بعيسى. وقرأ أبو رجاء: وكتبه. قال ابن عطية: بسكون التاء وكتبه،وذلك كله مراد به التوراة والإنجيل. وقال صاحب اللوامح أبو رجاء: وكتبه بفتح الكاف، وهو مصدر أقيم مقام الاسم. قالسهل: وكتبه أجمع من كتابه، لأن فيه وضع المضاف موضع الجنس، فالكتب عام، والكتاب هو الإنجيل فقط. انتهى. {وَكَانَتْمِنَ ٱلْقَـٰنِتِينَ }: غلب الذكورية على التأنيث، والقانتين شامل للذكور والإناث، ومن للتبعيض. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون لابتداء الغايةعلى أنها ولدت من القانتين، لأنها من أعقاب هارون أخي موسى، صلوات الله وسلامه عليهما، وقال يحيـى بن سلام: مثلضربه الله يحذر به عائشة وحفصة من المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله ﷺ، ثم ضرب لهمامثلاً بامرأة فرعون ومريم ابنت عمران ترغيباً في التمسك بالطاعات والثبات على الدّين. انتهى. وأخذ الزمخشري كلام ابن سلام هذاوحسنه وزمكه بفصاحة فقال: وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأمّي المؤمنين المذكورتين في أول السورة، وما فرط منهما من التظاهرعلى رسول الله ﷺ بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه لما في التمثيل من ذكرالكفر ونحوه. ومن التغليظ قوله: { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ } ، وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونافي الإخلاص والكتمان فيه كمثل هاتين المؤمنتين، وأن لا يشكلا على أنهما زوجتا رسول الله ﷺ، فإنذلك الفضل لا ينقصهما إلا مع كونهما مخلصين. والتعريض بحفصة أرج، لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة علىرسول الله ﷺ. وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدّاً يدق عن تفطنالعالم ويزل عن تبصره. انتهى. وقال ابن عطية: وقال بعض الناس: إن في المثلين عبرة لزوجات النبي صلى الله عليهوسلم حين تقدم عتابهن، وفي هذا بعد، لأن النص أنه للكفار يبعد هذا، والله سبحانه وتعالى أعلم.