→ سورة القدر | تفسير البحر المحيط سورة البينة ابي حيان الغرناطي |
سورة الزلزلة ← |
{لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيّنَةُ *رَسُولٌ مّنَ ٱللَّهِ * يَتْلُواْ * صُحُفاً مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ إِلاَّ مِنبَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ ٱلْبَيّنَةُ * وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَذَلِكَ دِينُٱلقَيّمَةِ * إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَوْلَـئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ * إِنَّٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أُوْلَـئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّـٰتُ عَدْنٍ * تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَفِيهَا أَبَداً رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذٰلِكَ * لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ }. هذه السورة مكية في قول الجمهور.وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار: مدنية، قاله ابن عطية. وفي كتاب التحرير: مدنية، وهو قول الجمهور. وروى أبو صالحعن ابن عباس أنها مكية، واختاره يحيـى بن سلام. ولما ذكر إنزال القرآن، وفي السورة التي قبلها { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ } ، ذكر هنا أن الكفار لم يكونوا منفكين عن ما هم عليه حتى جاءهم الرسول يتلو عليهم ما أنزل عليهمن الصحف المطهرة التي أمر بقراءتها، وقسم الكافرين هنا إلى أهل كتاب وأهل إشراك. وقرأ بعض القراء: والمشركون رفعاً عطفاًعلى {ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }. والجمهور: بالجر عطفاً على {أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ }، وأهل الكتاب واليهود والنصارى، والمشركون عبدة الأوثان من العرب.وقال ابن عباس: أهل الكتاب اليهود الذين كانوا بيثرب هم قريظة والنضير وبنو قينقاع، والمشركون الذين كانوا بمكة وحولها والمدينةوحولها. قال مجاهد وغيره: لم يكونوا منفكين عن الكفر والضلال حتى جاءتهم البينة. وقال الفراء وغيره: لم يكونوا منفكينعن معرفة صحة نبوّة محمد ﷺ والتوكف لأمره حتى جاءتهم البينة، فتفرقوا عند ذلك. وقال الزمخشري: كانالكفار من الفريقين يقولون قبل المبعث: لا ننفك مما نحن فيه من ديننا حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوبفي التوراة والإنجيل، وهو محمد ﷺ، فحكى الله ما كانوا يقولونه. وقال ابن عطية: ويتجه في معنىالآية قول ثالث بارع المعنى، وذلك أنه يكون المراد: لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظرهلهم حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولاً منذراً تقوم عليهم به الحجة ويتم على من آمن النعمة، فكأنه قال: ماكانوا ليتركوا سدى، ولهذا نظائر في كتاب الله تعالى، انتهى. وقيل: لم يكونوا منفكين عن حياتهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة.والظاهر أن المعنى: لم يكونوا منفكين، أي منفصلاً بعضهم من بعض، بل كان كل منهم مقرّاً الآخر على ما هوعليه مما اختاره لنفسه، هذا من اعتقاده في شريعته، وهذا من اعتقاده في أصنامه، والمعنى أنه اتصلت مودّتهم واجتمعت كلمتهمإلى أن أتتهم البينة. وقيل: معنى منفكين: هالكين، من قولهم: انفك صلا المرأة عند الولادة، وأن ينفصل فلا يلتئم،والمعنى: لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، انتهى. ومنفكين اسم فاعل منانفك، وهي التامة وليست الداخلة على المبتدأ والخبر. وقال بعض النحاة: هي الناقصة، ويقدر منفكين: عارفين أمر محمد صلى اللهعليه وسلم، أو نحو هذا، وخبر كان وأخواتها لا يجوز حذفه لا اقتصاراً ولا اختصاراً، نص على ذلك أصحابنا، ولهمعلة في منع ذلك ذكروها في علم النحو، وقالوا في قوله: حين ليس مجير، أي في الدنيا، فحذف الخبر أنهضرورة، والبينة: الحجة الجليلة. وقرأ الجمهور: {رَّسُولٍ } بالرفع بدلاً من {ٱلْبَيّنَةُ }، وأبيّ وعبد الله: بالنصب حالاً منالبينة. {يَتْلُو صُحُفاً }: أي قراطيس، {مُّطَهَّرَةٍ } من الباطل. {فِيهَا كُتُبٌ }: مكتوبات، {قَيّمَةٌ }: مستقيمة ناطقة بالحق. {وَمَاتَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ }: أي من المشركين، وانفصل بعضهم من بعض فقال: كل ما يدل عنده على صحة قوله.{إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ ٱلْبَيّنَةُ }: وكان يقتضي مجيء البينة أن يجتمعوا على اتباعها. وقال الزمخشري: كانوا يعدون اجتماعالكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول صلىالله عليه وسلم. وقال أيضاً: أفرد أهل الكتاب، يعني في قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } بعد جمعهم والمشركين،قيل: لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم، فإذا وصفوا بالتفرق عنه، كان من لا كتاب له أدخل فيهذا الوصف. والمراد بتفرقهم: تفرقهم عن الحق، أو تفرقهم فرقاً، فمنهم من آمن، ومنهم من أنكر. وقال: ليس به ومنهممن عرف وعاند. وقال ابن عطية: ذكر تعالى مذمة من لم يؤمن من أهل الكتاب من أنهم لم يتفرقوا فيأمر محمد ﷺ إلا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة، وكانوا من قبل متفقين على نبوته وصفته،فلما جاء من العرب حسدوه، انتهى. وقرأ الجمهور: {مُخْلِصِينَ } بكسر اللام، والدين منصوب به؛ والحسن: بفتحها، أي يخلصونهم أنفسهم في نياتهم. وانتصب {ٱلدّينِ }، إما على المصدر من {لِيَعْبُدُواْ }، أي ليدينوا الله بالعبادة الدين، وإما علىإسقاط في، أي في الدين، والمعنى: وما أمروا، أي في كتابيهما، بما أمروا به إلا ليعبدوا. {حُنَفَاء }: أي مستقيميالطريقة. وقال محمد بن الأشعب الطالقاني: القيمة هنا: الكتب التي جرى ذكرها، كأنه لما تقدم لفظ قيمة نكرة، كانت الألفواللام في القيمة للعهد، كقوله تعالى: { كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ }. وقرأ عبد الله: وذلكالدين القيمة، فالهاء في هذه القراءة للمبالغة، أو أنث، على أن عنى بالدين الملة، كقوله: ما هذه الصوت؟ يريد: ماهذه الصيحة: وذكر تعالى مقر الأشقياء وجزاء السعداء، والبرية: جميع الخلق. وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع: البرئة بالهمز من برأ،بمعنى خلق. والجمهور: بشد الياء، فاحتمل أن يكون أصله الهمز، ثم سهل بالإبدال وأدغم، واحتمل أن يكون من البراء، وهوالتراب. قال ابن عطية: وهذا الاشتقاق يجعل الهمز خطأ، وهو اشتقاق غير مرضي، ويعني اشتقاق البرية بلا همز من البرا،وهو التراب، فلا يجعله خطأ، بل قراءة الهمز مشتقة من برأ، وغير الهمز من البرا؛ والقراءتان قد تختلفان في الاشتقاقنحو: أو ننساها أو ننسها، فهو اشتقاق مرضي. وحكم على الكفار من الفريقين بالخلود في النار وبكونهم شر البرية، وبدأبأهل الكتاب لأنهم كانوا يطعنون في نبوته، وجنايتهم أعظم لأنهم أنكروه مع العلم به، وشر البرية ظاهره العموم. وقيل:{شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ}: الذين عاصروا الرسول ﷺ، إذ لا يبعد أن يكون في كفار الأمم هو شر من هؤلاء،كفرعون وعاقر ناقة صالح. وقرأ الجمهور: {خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } مقابل {شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ }؛ وحميد وعامر بن عبد الواحد: خيار البرية جمع خير، كجيد وجياد. وبقية السورة واضحة، وتقدم شرح ذلك إفراداً وتركيباً.