الرئيسيةبحث

تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الأحقاف

حـمۤ } * { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } * { مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ } * { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ ٱئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } * { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ } * { وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } * { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } * { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } * { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } * { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } * { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } * { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَـٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِيۤ أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } * { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيۤ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ ٱللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ } * { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } * { وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } * { وَٱذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِٱلأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ ٱلنُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } * { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { قَالَ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } * { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ } * { وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } * { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } * { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } * { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } * { قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } * { وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضَ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَىٰ ٱلنَّارِ أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقِّ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } * { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ }

الحقف: رمل مستطيل مرتفع فيه اعوجاج وانحناء، ومنه احقوقف الشيء: اعوج. قال امرؤالقيس:

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى     بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل

عنى بالأمر: إذا لم تعرف جهته،ويجوز فيه الإدغام فتقول: عي، كما قلت في حيـي: حي. قال الشاعر:

عيوا بأمرهم كماعيت ببيضتها الحمامه    

{حـم تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَمَابَيْنَهُمَا إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِى مَاذَاخَلَقُواْ مِنَ ٱلاْرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ * ٱئْتُونِى بِكِتَـٰبٍ مّن قَبْلِ هَـٰذَا أَوْ أَثَـٰرَةٍ مّنْ عِلْمٍ إِنكُنتُمْ صَـٰدِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ * يَدْعُواْ * مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَهُمْعَن دُعَائِهِمْ غَـٰفِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَـٰفِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُنَا بَيّنَـٰتٍ قَالَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ ٱللَّهِشَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىٰ بِهِ }. هذه السورة مكية . وعن ابن عباس وقتادة، أن:{قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ }. و{فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ }، الآيتين مدنيتان. ومناسبة أولها لما قبلها، أن فيآخر ما قبلها:

{ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ ٱتَّخَذْتُمْ ءايَـٰتِ ٱللَّهِ هُزُواً }

، وقلتم: إنه عليه الصلاة والسلام اختلقها، فقال تعالى: {حـم تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِمِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ }. وهاتان الصفتان هما آخر تلك، وهما أول هذه. {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى }: أي موعد لفساد هذهالبنية. قال ابن عباس: هو القيامة؛ وقال غيره: أي أجل كل ملخوق. {عَن مَّا * أَنْذِرُواْ }: يحتمل أن تكونما مصدرية، وأن تكون بمعنى الذي. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ }: معناه أخبروني عن الذين تدعون من دون الله، وهيالأصنام. {أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلاْرْضِ }: استفهام توبيخ، ومفعول أرأيتم الأول هو ما تدعون. وماذا خلقوا: جملة استفهامية يطلبهاأرأيتم، لأن مفعولها الثاني يكون استفهاماً، ويطلبها أروني على سبيل التعليق، فهذا من باب الإعمال، أعمل الثاني وحذف مفعول أرأيتمالثاني. ويمكن أن يكون أروني توكيداً لأرأيتم، بمعنى أخبروني، وأروني: أخبروني، كأنهما بمعنى واحد. وقال ابن عطية: يحتمل أرأيتموجهين: أحدهما: أن تكون متعدية، وما مفعولة بها؛ ويحتمل أن تكون أرأيتم منبهة لا تتعدى، وتكون ما استفهاماً على معنىالتوبيخ، وتدعون معناه: تعبدون. انتهى. وكون أرأيتم لا تتعدى، وأنها منبهة، فيه شيء؛ قاله الأخفش في قوله:

{ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى ٱلصَّخْرَةِ }

. والذي يظهر أن ما تدعون مفعول أرأيتم، كما هو في قوله:

{ قُلْ أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ }

في سورة فاطر؛ وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة فيها. وقد أمضى الكلام في أرأيتم في سورة الأنعام، فيطالعهناك: و{مّنَ ٱلاْرْضِ }، تفسير للمبهم في: {مَاذَا خَلَقُواْ }. والظاهر أنه يريد من أجزاء الأرض، أي خلق ذلك إنماهو لله، أو يكون على حذف مضاف، أي من العالي على الأرض، أي على وجهها من حيوان أو غيره. ثموقفهم على عبارتهم فقال: {أَمْ لَهُمْ }: أي: بل. {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ * ٱئْتُونِى بِكِتَـٰبٍ مّنقَبْلِ هَـٰذَا }: أي من قبل هذا الكتاب، وهو القرآن، يعني أن هذا القرآن ناطق بالتوحيد وبإبطال الشرك، وكل كتبالله المنزلة ناطقة بذلك؛ فطلب منهم أن يأتوا بكتاب واحد يشهد بصحة ما هم عليه من عبادة غير الله. {أَوْأَثَـٰرَةٍ مّنْ عِلْمٍ }، أي بقية من علم، أي من علوم الأولين، من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من شحم،أو على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب. والأثارة تستعمل في بقية الشرف؛ يقال: لبني فلان أثارة من شرف،إذا كانت عندهم شواهد قديمة، وفي غير ذلك قال الراعي:

وذات أثارة أكلت علينا     نباتاً في أكمته قفارا

أي: بقية من شحم. وقرأ الجمهور: أو أثارة، وهو مصدر، كالشجاعة والسماحة، وهي البقية من الشيء،كأنها أثرة. وقال الحسن: المعنى: من علم استخرجتموه فتثيرونه. وقال مجاهد: المعنى: هل من أحد يأثر علماً في ذلك؟ وقالالقرطبي: هو الإسناد، ومنه قول الأعشى:

إن الذي فيه تماريتما     بين للسامع والآثر

أي: وللمستدعين غيره؛ ومنه قول عمر رضي الله عنه: فما خلفت به ذاكراً ولا آثراً. وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن، وقتادة: المعنى: أو خاصة من علم، فاشتقاقها من الأثرة، فكأنها قد آثر الله بها من هي عنده. وقال ابنعباس: المراد بالأثارة: الخط في التراب، وذلك شيء كانت العرب تفعله وتتكهن به وتزجر تفسيره. الأثارة بالخط يقتضي تقوية أمرالخط في التراب، وأنه شيء ليس له وجه إذاية وقف أحد إليه. وقيل: إن صح تفسير ابن عباس الإثارة بالخطفي التراب، كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم. وقرأ علي، وابن عباس: بخلاف عنهما، وزيد بن علي، وعكرمة،وقتادة، والحسن، والسلمي، والأعمش، وعمرو بن ميمون: أو أثرة بغير ألف، وهي واحدة، جمعها أثر؛ كقترة وقتر؛ وعلي، والسلمي، وقتادةأيضاً: بإسكان الثاء، وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر، أي قد قنعت لكم بخبر واحد وأثر واحد يشهد بصحة قولكم. وعنالكسائي: ضم الهمزة وإسكان الثاء. وقال ابن خالويه، وقال الكسائي على لغة أخرى: إثرة وأثرة يعني بكسر الهمزة وضمها.{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ } يعبد الأصنام، وهي جماد لا قدرة لها على استجابة دعائهم ما دامت الدنيا، أي لا يستجيبونلهم أبداً، ولذلك غياً انتفاء استجابتهم بقوله: {إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ }، ومع ذلك لا شعور لهم بعبادتهم إياهم، وهم فيالآخرة أعداء لهم، فليس لهم في الدنيا بهم نفع، وهم عليهم في الآخرة ضرر، كما قال تعالى:

{ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَـٰدَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ صداً }

. وجاء {ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ }، لأنهم يسندون إليهم ما يسند لأولي العلم من الاستجابة والغفلة؛ وكأن {مَنلاَّ يَسْتَجِيبُ } يراد به من عبد من دون الله من إنس وجن وغيرهما، وغلب من يعقل، وحمل أولاً علىلفظ من لا يستجيب، ثم على المعنى في: وهم من ما بعده. والظاهر عود الضمير أولاً على لفظ {مَن لاَّيَسْتَجِيبُ }، ثم على المعنى في: وهم على معنى من في: {مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ }، كما فسرناه. وقيل: يعود علىمعنى من في: {وَمَنْ أَضَلُّ }، أي والكفار عن ضلالهم بأنهم يدعون من لا يستجيب. {غَـٰفِلُونَ }: لا يتأملون ماعليهم في دعائهم من هذه صفته. {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُنَا بَيّنَاتٍ }: جمع بينة، وهي الحجة الواضحة. واللام في{لِلْحَقّ }، لام العلة، أي لأجل الحق. وأتى بالظاهرين بدل المضمرين في {قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقّ }، ولم يأت التركيب:قالوا لها، تنبيهاً على الوصفين: وصف المتلو عليهم بالكفر، ووصف المتلو عليهم بالحق، ولو جاء بهما الوصفين، لم يكن فيذلك دليل على الوصفين من حيث اللفظ، وإن كان من سمى الآيات سحراً هو كافر، والآيات في نفسها حق، ففيذكرهما ظاهرين، يستحيل على القائلين بالكفر، وعلى المتلو بالحق. وفي قوله: {لَمَّا جَاءهُمْ } تنبيه على أنهم لم يتأملوا مايتلى عليهم، بل بادروا أول سماعه إلى نسبته إلى السحر عناداً وظلماً، ووصفوه بمبين، أي ظاهر، إنه سحر لا شبهةفيه. {أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ }: أي بل يقولون افتراه، أي بل أيقولون اختلقه؟ انتقلوا من قولهم: {هَـٰذَا سَـٰحِرٌ }إلى هذه المقالة الأخرى. والضمير في افتراه عائد إلى الحق، والمراد به الآيات. {قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ }، على سبيل الفرض،فالله حسبي في ذلك، وهو الذي يعاقبني على الافتراء عليه، ولا يمهلني؛ {فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ } عقوبة الله بيشيئاً. فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه؟ يقال: فلان لا يملك إذا غضب، ولا يملك عنانه إذا صم؛ ومثله:

{ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ }

{ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً }

.ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: لا أملك لكم من الله شيئاً . ثم استسلم إلى الله واستنصر به فقال: {هُوَ أَعْلَمُبِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ }: أي تندفعون فيه من الباطل، ومراده الحق، وتسميته تارة سحراً وتارة فرية. والضمير في فيه يحتملأن يعود على ما، أو على القرآن، وبه في موضع الفاعل يكفي على أصح الأقوال. {شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ }: شهيدإليّ بالتبليغ والدعاء إليه، وشهيد عليكم بالتكذيب. {وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ }: عدة لهم بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر، وإشعاربحلمه تعالى عليهم، إذ لم يعاجلهم بالعقاب، إذ كان ما تقدم تهديداً لهم في أن يعاجلهم على كفرهم. {قُلْ مَاكُنتُ بِدْعاً مّنَ ٱلرُّسُلِ }: أي جاء قبلي غيري، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والبدع والبديع: من الأشياء ما لمير مثله، ومنه قول عدي بن زيد، أنشده قطرب:

فما أنا بدع من حوادث تعتري     رجالاً عرت من بعد بؤسي فأسعد

والبدع والبديع: كالخف والخفيف، والبدعة: ما اخترع مما لم يكن موجوداً، وأبدع الشاعر: جاء بالبديع،وشيء بدع، بالكسر: أي مبتدع، وفلان بدع في هذا الأمر: أي بديع، وقوم إبداع، عن الأخفش. وقرأ عكرمة، وأبو حيوة،وابن أبي عبلة: بفتح الدال، جمع بدعة، وهو على حذف مضاف، أي ذا بدع. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون صفةعلى فعل، كقولهم: دين قيم ولحم زيم. انتهى. وهذا الذي أجازه، إن لم ينقل استعماله عن العرب، لم نجزه، لأنفعل في الصفات لم يحفظ منه سيبويه إلا عدى. قال سيبويه: ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف معتل يوصفبه الجمع، وهو قوم عدي، وقد استدرك، واستدراكه صحيح. وأما قيم، فأصله قيام وقيم، مقصور منه، ولذلك اعتلت الواو فيه،إذ لو لم يكن مقصوراً لصحت، كما صحت في حول وعوض. وأما قول العرب: مكان سوى، وماء روى، ورجل رضى،وماء صرى، وسبى طيبه، فمتأولة عند البصريين لا يثبتون بها فعلاً في الصفات. وعن مجاهد، وأبي حيوة: بدعا، بفتح الباءوكسر الدال، كحذر.. {وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ }: أي فيما يستقبل من الزمان، أي لا أعلممالي بالغيب، فأفعاله تعالى، وما يقدر لي ولكم من قضاياه، لا أعلمها. وعن الحسن وجماعة: وما أدري ما يصير إليهأمري وأمركم في الدنيا، ومن الغالب منا والمغلوب؟ وعن الكلبي، قال له أصحابه، وقد ضجروا من أذى المشركين: حتى متىنكون على هذا؟ فقال: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم أأنزل بمكة؟ أم أومر بالخروج إلى أرض قد رفعتورأيتها، يعني فى منامه، ذات نخل وشجر؟ وقال ابن عباس، وأنس بن مالك، وقتادة، والحسن، وعكرمة: معناه في الآخرة، وكانهذا في صدر الإسلام، ثم بعد ذلك عرفه الله تعالى أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر،وأن المؤمنين لهم من الله فضل كبير وهو الجنة، وبأن الكافرين في نار جهنم؛ وهذا القول ليس بظاهر، بل قدأعلم سبحانه من أول الرسالة حال الكافر وحال المؤمن. وقيل: {مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ } من الأوامر والنواهي، ومايلزم الشريعة. وقيل: نزلت في أمر كان النبي ﷺ ينتظره من الله في غير الثواب والعقاب.{إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَىَّ }: استسلام وتبرؤ من علم المغيبات، ووقوف مع النذارة إلا من عذاب الله. وقرأالجمهور: ما يفعل بضم الياء مبنياً للمفعول؛ وزيد بن عليّ، وابن أبي عبلة: بفتحها. والظاهر أن ما استفهامية، وأدري معلقة؛فجملة الاستفهام موصولة منصوبة. انتهى. والفصيح المشهور أن دَرَى يتعدى بالباء، ولذلك حين عدي بهمزة النقل يتعدى بالباء، نحو قوله:

{ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ }

، فجعل ما استفهامية هو الأولى والأجود، وكثيراً ما علقت في القرآن نحو: {وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ }،ويفعل مثبت غير منفي، لكنه قد انسحب عليه النفي، لاشتماله على ما ويفعل؛ فلذلك قال: {وَلاَ بِكُمْ }. ولولا اعتبارالنفي، لكان التركيب {مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ }. ألا ترى زيادة من في قوله:

{ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ }

؟ لانسحاب قوله:

{ مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }

على يود وعلى متعلق يود، وهو أن ينزل، فاذا انتفت ودادة التنزيل انتفىالتنزيل. وقرأ ابن عمير: ما يوحي، بكسر الحاء، أي الله عز وجل. {قُلْ أَرَءيْتُمْ }: مفعولاً أرأيتم محذوفان لدلالةالمعنى عليهما، والتقدير: أرأيتم حالكم إن كان كذا؟ ألستم ظالمين؟ فالأول حالكم، والثاني ألستم ظالمين، وجواب الشرط محذوف؛ أي فقدظلمتم، ولذلك جاء فعل الشرط ماضياً. وقال الزمخشري: جواب الشرط محذوف تقديره: إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتمبه، ألستم ظالمين؟ ويدل على هذا المحذوف قوله: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ }. انتهى. وجملة الاستفهام لا تكونجواباً للشرط إلا بالفاء. فإن كانت الأداة الهمزة، تقدمت الفاء نحو: إن تزرنا، أفما نحسن إليك؟ أو غيرها تقدمت الفاءنحو: إن تزرنا، فهل ترى إلا خيراً؟ فقول الزمخشري: ألستم ظالمين؟ بغير فاء، لا يجوز أن يكون جواب الشرط. وقالابن عطية: وأرأيتم يحتمل أن تكون منبهة، فهي لفظ موضوع للسؤال لا يقتضي مفعولاً. ويحتمل أن تكون الجملة: كان وماعملت فيه، تسد مسد مفعوليها. انتهى. وهذا خلاف ما قرره محققو النحاة في أرأيتم. وقيل: جواب الشرط. {قُلْ أَرَءيْتُمْ}: أي فقد آمن محمد به، أو الشاهد، واستكبرتم أنتم عن الإيمان. وقال الحسن: تقديره فمن أضل منكم. وقيل: فمنالمحق منا ومنكم، ومن المبطل؟ وقيل: إنما تهلكون، والضمير في به عائد على ما عاد عليه اسم كان، وهو القرآن.وقال الشعبي: يعود على الرسول، والشاهد عبد لله بن سلام، قاله الجمهور، وابن عباس، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وابن سيرين؛والآية مدنية. وعن عبد الله بن سلام: نزلت في آيات من كتاب الله، نزلت في {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إِسْرٰءيلَعَلَىٰ مِثْلِهِ فَـئَامَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُمْ }. وقال مسروق: الشاهد موسى عليه السلام، لا ابن سلام، لأنه أسلم بالمدينة، والسورة مكية، والخطابفي {وَكَفَرْتُمْ بِهِ }لقريش. وقال الشعبي: الشاهد من آمن من بني إسرائيل بموسى والتوارة، لأن ابن سلام أسلم قبل وفاةالنبي ﷺ بعامين، والسورة مكية. وقال سعد بن أبي وقاص، ومجاهد، وفرقة: الآية مكية، والشاهد عبد اللهبن سلام، وهي من الآيات التي تضمنت غيباً أبرزه الوجود، وعبد الله بن سلام مذكور في الصحيح، وفيه بهت لليهودلعنهم الله. ومن كذب اليهود وجهلهم بالتاريخ، ما يعتقدونه في عبد الله بن سلام، أنه ﷺحين سافر إلى الشام في تجارة لخديجة رضي الله عنها، اجتمع بأحبار اليهود وقص عليهم أحلامه، فعلموا أنه صاحب دولة،وعموا، فأصحبوه عبد الله بن سلام، فقرأ علوم التوراة وفقهها مدة، زعموا وأفرطوا في كذبهم، إلى أن نسبوا الفصاحة المعجزةالتي في القرآن إلى تأليف عبد الله بن سلام، وعبد الله هذا لم تعلم له إقامة بمكة ولا تردد إليها.فما أكذب اليهود وأبهتهم لعنهم الله. وناهيك من طائفة، ما ذم في القرآن طائفة مثلها. {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ }. قال قتادة: هيمقالة كفار قريش للذين آمنوا: أي لأجل الذين آمنوا: واللام للتبليغ. ثم انتقلوا إلى الغيبة في قولهم: {مَّا سَبَقُونَا }،ولو لم ينتقلوا لكان الكلام ما سبقتم إليه. ولما سمعوا أن جماعة آمنوا خاطبوا جماعة من المؤمنين، أي قالوا: {لِلَّذِينَءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ }: أولئك الذين بلغنا إيمانهم يريدون عماراً وصهيباً وبلالاً ونحوهم ممن أسلم وآمنبالنبي ﷺ. وقال الكلبي والزجاج: هي مقالة كنانة وعامر وسائر قبائل العرب المجاورة. قالت ذلك حين أسلمتغفار ومزينة وجهينة، أي لو كان هذا الدين خيراً، ما سبقنا إليه الرعاة. وقال الثعلبي: هي مقالة اليهود حين أسلمابن سلام وغيره منهم. وقال أبو المتوكل: أسلم أبو ذر، ثم أسلمت غفار، فقالت قريش ذلك. وقيل: أسلمت أمة لعمر،فكان يضربها، حتى يفتر ويقول: لولا أني فترت لزدتك ضرباً فقال كفار قريش: لو كان ما يدعو إليه محمد حقاً،ما سبقتنا إليه فلانة. والظاهر أن اسم كان هو القرآن، وعليه يعود به ويؤيده، ومن قبله كتاب موسى. وقيل: بهعائد على الرسول، والعامل في إذ محذوف، أي {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ }، ظهر عنادهم. وقوله: {فَسَيَقُولُونَ }، مسبب عنذلك الجواب المحذوف، لأن هذا القول هو ناشىء عن العناد، ويمتنع أن يعمل في: إذ فسيقولون، لحيلولة الفاء، وليعاند زمانإذ وزمان سيقولون. {إِفْكٌ قَدِيمٌ }، كما قالوا: {أَسَـٰطِيرُ ٱلاْوَّلِينَ }، وقدمه بمرور الأعصار عليه. ولما طعنوا في صحةالقرآن، قيل لهم: إنه أنزل الله من قبله التوراة على موسى، وأنتم لا تنازعون في ذلك، فلا ينازع في إنزالالقرآن. {إِمَاماً } أي يهتدى به، إن فيه البشارة بمبعث رسول الله ﷺ وإرساله، فليزم اتباعه والإيمانبه؛ وانتصب إماماً على الحال، والعامل فيه العامل في: {وَمِن قَبْلِهِ }، أي وكتاب موسى كان من قبل القرآن فيحال كونه إماماً. وقرأ الكلبي: كتاب موسى، نصب وفتح ميم من على أنها موصولة، تقديره: وآتينا الذي قبله كتاب موسى.وقيل: انتصب إماماً بمحذوف، أي أنزلناه إماماً، أي قدوة يؤتم به، {وَرَحْمَةً } لمن عمل به؛ وهذا إشارة إلى القرآن.{كِتَـٰبٌ مُّصَدّقٌ } له، أي لكتاب موسى، وهي التوراة التي تضمنت خبره وخبر من جاء به، وهو الرسول. فجاء هومصدقاً لتلك الأخبار، أو مصدقاً للكتب الإلهية. ولساناً: حال من الضمير في مصدق، والعامل فيه مصدق، أو من كتاب، إذقد وصف العامل فيه اسم الإشارة. أو لساناً: حال موطئة، والحال في الحقيقة هو عربياً، أو على حذف، أي ذاالشأن عربي، فيكون مفعولاً بمصدق؛ أي هذا القرآن مصدق من جاء به وهو الرسول، وذلك بإعجازه وأحواله البارعة. وقيل: انتصبعلى إسقاط الخافص، أي بلسان عربي. وقرأ أبو رجاء، وشيبة، والأعرج، وأبو جعفر، وابن عامر، ونافع، وابن كثير: لتنذر، بتاءالخطاب للرسول؛ والأعمش، وابن كثيراً أيضاً، وباقي السبعة: بياء الغيبة، أي لينذرنا القرآن والذين ظلموا الكفار عباد الأصنام، حيث وضعواالعبادة في غير من يستحقه. {وَبُشْرَىٰ }، قيل: معطوف على مصدق، فهو في موضع رفع، أو على إضمار هو.وقيل: منصوب بفعل محذوف معطوف على لينذر، أي ويبشر بشرى. وقيل: منصوب على إسقاط الخافض، أي ولبشرى. وقال الزمخشري، وتبعهأبو البقاء: وبشرى في محل النصب، معطوف على محل لينذر، لأنه مفعول له. انتهى. وهذا لا يجوز على الصحيح منمذهب النحويين، لأنهم يشترطون في الحمل على المحل أن يكون المحل بحق الأصالة، وأن يكون للموضع محرز. والمحل هنا ليسبحق الأصالة، لأن الأصل هو الجر في المفعول له، وإنما النصب ناشىء عن إسقاط الخافض، لكنه لما كثر بالشروط المذكورةفي النحو، وصل إليه الفعل فنصبه. ولما عبر عن الكفار بالذين ظلموا، عبر عن المؤمنين بالمحسنين، ليقابل بلفظ الإحسان لفظالظلم. {إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ }: تقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة فصلت. ولماذكر: {جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }، قال: {وَوَصَّيْنَا }، إذ كان بر الوالدين ثانياً أفضل الأعمال، إذ في الصحيح: أيالأعمال أفضل؟ فقال الصلاة على ميقاتها قال: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، وإن كان عقوقهما ثاني أكبر الكبائر، إذقال عليه الصلاة والسلام: ألا أنبئكم؟ بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين ، والوارد في برهما كثير. وقرأ الجمهور: حسناً، بضمالحاء وإسكان السين؛ وعلي، والسلمي، وعيسى: بفتحهما؛ وعن عيسى: بضمهما؛ والكوفيون: إحساناً، فقيل: ضمن ووصينا معنى ألزمنا، فيتعدى لاثنين، فانتصبحسناً وإحساناً على المفعول الثاني لوصينا. وقيل: التقدير: إيصاء ذا حسن، أو ذا إحسان. ويجوز أن يكون حسناً بمعنى إحسان،فيكون مفعولاً له، أي ووصيناه بهما لإحساننا إليهما، فيكون الإحسان من الله تعالى. وقيل: النصب على المصدر على تضمين وصينامعنى أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحساناً. وقال ابن عطية: ونصب هذا يعني إحساناً على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور؛والباء متعلقة بوصينا، أو بقوله: إحساناً. انتهى. ولا يصح أن يتعلق بإحساناً، لأنه مصدر بحرف مصدري والفعل، فلا يتقدم معمولهعليه، ولأن أحسن لا يتعدى بالباء، إنما يتعدى باللام؛ تقول: أحسنت لزيد، ولا تقول: أحسنت بزيد، على معنى أن الإحسانيصل إليه. وتقدم الكلام

{ عَلَىٰ * وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً }

في سورة العنكبوت، وانجر هنا بالكلام على ذلك مزيداًللفائدة. {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً }: لبس الكره في أول علوقها، بل في ثاني استمرار الحمل، إذ لا تدبير لهافي حمله ولا تركه. انتهى. ولا يلحقها كره إذ ذاك، فهذا احتمال بعيد. وقال مجاهد، والحسن، وقتادة: المعنى حملته مشقة،ووضعتهمشقة. وقرأ الجمهور: بضم الكاف؛ وشيبة، وأبو جعفر، والأعرج، والحرميان، وأبو عمرو: بالفتح؛ وبهما معاً: أبو رجاء، ومجاهد، وعيسى؛ والضموالفتح لغتان بمعنى واحد، كالعقر والعقر. وقالت فرقة: بالضم المشقة، وبالفتح الغلبة والقهر، وضعفوا قراءة الفتح. وقال بعضهم: لو كانبالفتح، لرمت به عن نفسها إذ معناه: القهر والغلبة. انتهى. وهذا ليس بشيء، إذ قراءة الفتح في السبعة المتواترة. وقالأبو حاتم: القراءة بفتح الكاف لا تحسن، لأن الكره بالفتح، النصب والغلبة. انتهى. وكان أبو حاتم يطعن في بعض القرآنبما لا علم له به جسارة منه، عفا الله عنه، وانتصابهما على الحال من ضمير الفاعل، أي حملته ذات كره،أو على أنه نعت لمصدر محذوف، أي حملاً ذاكره. {وَحَمْلُهُ وَفِصَـٰلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً }: أي ومدة حمله وفصاله، وهذالا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصاً؛ إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين، وإما أن تلد لتسعةأشهر على العرف وترضع عامين غير ربع عام. فإن زادت مدة الحمل، نقصت مدة الرضاع. فمدة الرضاع عام وتسعة أشهر،وإكمال العامين لمن أراد أن يتم الرضاعة. وقد كشفت التجربة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، كنص القرآن. وقال جالينوس:كنت شديد الفحص عن مقدر زمن الحمل، فرأيت امرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة. وزعم ابن سينا أنه شاهد ذلك؛وأما أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه. قال ابن سينا في الشفاء: بلغني من جهة من أثق بهكل الثقة، أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل، ولدت ولداً نبتت أسنانه. وحكي عن أرسطا طاليس أنه قال:إن مدة الحمل لكل الحيوان مضبوطة سوى الإنسان، فربما وضعت لسبعة أشهر، ولثمانية، وقل ما يعيش الولد في الثامن، إلافي بلاد معينة مثل مصر. انتهى. وعبر عن الرضاع بالفصال، لما كان الرضاع يلي الفصال ويلابسه، لأنه ينتهي به ويتم،سمي به. وقرأ الجمهور: وفصاله، وهو مصدر فاصل، كأنه من اثنين: فاصل أمه وفاصلته. وقرأ أبو رجاء، والحسن، وقتادة، والجحدري:وفصله، قيل: والفصل والفصال مصدران، كالفطم والفطام. وهنا لطيفة: ذكر تعالى الأم في ثلاثة مراتب في قوله: بوالديه وحمله وإرضاعهالمعبر عنه بالفصال، وذكر الولد في واحدة في قوله: بوالديه؛ فناسب ما قال الرسول من جعل ثلاثة أرباع البر للأموالربع للأب في قول الرجل: يا رسول الله، من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك . {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } في الكلام حذف تكون حتى غاية له،تقديره: فعاش بعد ذلك، أو استمرت حياته؛ وتقدم الكلام في

{ بَلَغَ أَشُدَّهُ }

في سورة يوسف. والظاهر ضعف قول من قال:بلوغ الأشد أربعون، لعطف {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً }. والعطف يقتضي التغاير، إلا إن ادعى أن ذلك توكيد لبلوغ الأشد فيمكن؛والتأسيس أولى من التأكيد؛ وبلوغ الأربعين اكتمال العقل لظهور الفلاح. قيل: ولم يبعث نبي إلا بعد الأربعين. وفي الحديث: أنالشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول: يأتي وجه لا يفلح. {قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْأَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَىٰ وٰلِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـٰلِحاً تَرْضَـٰهُ }: وتقدم الكلام على هذا في سورة النمل. {وَأَصْلِحْلِى فِى ذُرّيَّتِى }: سأل أن يجعل ذريته موقعاً للصلاح ومظنة له، كأنه قال: هب لي الصلاح في ذريتي، فأوقعهفيهم، أو ضمن: وأصلح لي معنى: وألطف بي في ذريتي، لأن أصلح يقتدي بنفسه لقوله:

{ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زوجه }

، فلذلك احتجقوله: {لِى فِى ذُرّيَّتِى } إلى التأويل. قيل: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، وتتناول من بعده، وهو مشكل،لأنها نزلت بمكة، وأبوه أسلم عام الفتح. ولقوله: {أُوْلَـٰئكَ ٱلَّذِينَ * نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ }: فلم يقصد بذلكأبو بكر ولا غيره. والمراد بالإنسان الجنس، ولذلك أشار يقوله: {أُوْلَـٰئِكَ } جمعاً. وقرأ الجمهور: يتقبل مبنياً للمفعول، أحسن رفعاً،وكذا ويتجاوز؛ وزيد بن علي، وابن وثاب، وطلحة، وأبو جعفر، والأعمش: بخلاف عنه. وحمزة، والكسائي، وحفص: نتقبل أحسن نصباً، ونتجاوزبالنون فيهما؛ والحسن، والأعمش، وعيسى: بالياء فيهما مفتوحة ونصب أحسن. {فِى أَصْحَـٰبِ ٱلْجَنَّةِ }، قيل: في بمعنى مع؛ وقيل:هو نحو قولك: أكرمني الأمير في ناس من أصحابه، يريد في جملة من أكرم منهم، ومحله النصب على الحال علىمعنى كائنين في أصحاب الجنة. وانتصب {وَعْدَ ٱلصّدْقِ } على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، لأن قوله: {أُوْلَـٰئكَ ٱلَّذِينَ* نَتَقَبَّلُ }، وعد منه تعالى بالتقبل والتجاوز، لما ذكر الإنسان البار بوالديه وما آل إليه من الخير، ذكر العاقبوالديه وما آل إليه من الشر. والمراد بالذي: الجنس، ولذلك جاء الخبر مجموعاً في قوله: {أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ}. وقال الحسن: هو الكافر العاق بوالديه المنكر البعث. وقول مروان بن الحكم، واتبعه قتادة: أنها نزلت في عبد الرحمنبن أبي بكر الصديق، قول خطأ ناشىء عن جور، حين دعا مروان، وهو أمير المدينة، إلى مبايعة يزيد، فقال عبدالرحمن: جعلتموها هرقلية؟ كلما مات هرقل ولى ابنه، وكلما مات قيصر ولى ابنه؟ فقال مروان: خذوه، فدخل بيت أخته عائشةرضي الله عنها، وقد أنكرت ذلك عائشة فقالت، وهي المصدوقة: لم ينزل في آل أبي بكر من القرآن غير براءتي؛وقالت: والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته. وصدت مروان وقالت: ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه،فأنت فضض من لعنة الله. ويدل على فساد هذا القول أنه قال تعالى: {أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ }، وهذهصفات الكفار أهل النار، وكان عبد الرحمن من أفاضل الصحابة وسراتهم وأبطالهم، وممن له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره.{أُفّ لَّكُمَا }: تقدم الكلام على أف مدلولاً ولغات وقراءة في سورة الإسراء، واللام في لكما للبيان، أي لكما،أعني: التأفيف. وقرأ الجمهور: {أَتَعِدَانِنِى }، بنونين، الأولى مكسورة؛ والحسن، وعاصم، وأبو عمرو، وفي رواية؛ وهشام: بإدغام نون الرفع فينون الوقاية. وقرأ نافع في رواية، وجماعة: بنون واحدة. وقرأ الحسن،. وشيبة، وأبو جعفر: بخلاف عنه؛ وعبد الوارث، عن أبيعمرو، وهارون بن موسى، عن الجحدري، وسام، عن هشام: بفتح النون الأولى، كأنهم فروا من الكسرتين، والياء إلى الفتح طلباًللتخفيف ففتحوا، كما فر من أدغم ومن حذف. وقال أبو حاتم: فتح النون باطل غلط. {أَنْ أَخْرِجْ }: أي أخرجمن قبري للبعث والحساب. وقرأ الجمهور: أن أخرج، مبنياً للمفعول؛ والحسن، وابن يعمر، والأعمش، وابن مصرف، والضحاك: مبنياً للفاعل.{وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِى }: أي مضت، ولم يخرج منهم أحد ولا بعث. وقال أبو سليمان الدمشقي: {وَقَدْ خَلَتِٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِى } مكذبة بالبعث. {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ }، يقال: استغثت الله واستغثت بالله، والاستعمالان في لسان العرب. وقدرددنا على ابن مالك إنكار تعديته بالباء، وذكرنا شواهد على ذلك في الأنفال، أي يقولان: الغياث بالله منك ومن قولك،وهو استعظام لقوله: {وَيْلَكَ }، دعاء عليه بالثبور؛ والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك. وقيل: ويلك لمنيحقر ويحرك لأمر يستعجل إليه. وقرأ الأعرج، وعمرو بن فائدة: {إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ }، بفتح الهمزة، أي: آمن بأن وعدالله حق، والجمهور بكسرها، {فَيَقُولُ مَا هَـٰذَا }: أي ما هذا الذي يقول؟ أي من الوعد بالبعث من القبور، إلاشيء سطره الأولون في كتبهم، ولا حقيقة له. قال ابن عطية: وظاهر الفاظ هذه الآية أنها نزلت في مشار إليهقال وقيل له، فنفى الله أقواله تحذيراً من الوقوع في مثلها. وقوله: {أُوْلَـٰئِكَ }، ظاهره أنه إشارة إلى جنسيتضمنه قوله: {وَٱلَّذِى قَالَ }، ويحتمل أن تكون الآية في مشار إليه، ويكون قوله في أولئك بمعنى صنف هذا المذكوروجنسه هم: {ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } أي قول الله أنه يعذبهم {فِى أُمَمٍ }، أي جملة: {أُمَمٍ قَدْ خَلَتْمِن قَبْلِهِمْ مّنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْسِ }، يقتضي أن الجنس يموتون قرناً بعد قرن كالإنس. وقال الحسن في بعض مجالسه: الجنلا يموتون، فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت. وقرأ العباس، عن أبي عمرو: أنهم كانوا، بفتح الهمزة، والجمهور بالكسر. {وَلِكُلّ }:أي من المحسن والمسيء، {دَرَجَـٰتٌ } غلب درجات، إذ الجنة درجات والنار دركات، والمعنى: منازل ومراتب من جزاء ما عملوامن الخير والشر، ومن أجل ما عملوا منها. قال ابن زيد: درجات المحسنين تذهب علواً، ودرجات المسيئين تذهب سفلاً. انتهى.والمعلل محذوف تقديره: وليوفيهم أعمالهم قدر جزائهم، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات. وقرأ الجمهور: وليوفيهم بالياء، أي الله تعالى؛ والأعمش،والأعرج، وشيبة، وأبو جعفر، والإخوان، وابن ذكوان، ونافع: بخلاف عنه بالنون؛ والسلمي: بالتاء من فوق، أي ولنوفيهم الدرجات، أسند التوفيةإليها مجازاً. {وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيّبَـٰتِكُمْ فِى حَيَـٰتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِبِمَا كُنتُمْ }. {وَيَوْمَ يُعْرَضُ }: أي يعذب بالنار، كما يقال: عرض على السيف، إذا قتل به. والعرض: المباشرة،كما تقول: عرضت العود على النار: أي باشرت به النار. وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد عرض النار عليهم من قولهم:عرضت الناقة على الحوض، يريدون عرض الحوض عليها، فقلبوا. ويدل عليه تفسير ابن عباس: يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها.انتهى. ولا ينبغي حمل القرآن على القلب، إذ الصحيح في القلب أنه مما يضطر إليه في الشعر. وإذا كان المعنىصحيحاً واضحاً مع عدم القلب، فأي ضرورة ندعو إليه؟ وليس في قولهم: عرضت الناقة على الحوض، ولا في تفسير ابنعباس ما يدل على القلب، لأن عرض الناقة على الحوض، وعرض الحوض على الناقة، كل منهم صحيح؛ إذ العرض أمرنسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض. وقرأ الجمهور: أذهبتم على الخبر، أي فيقال لهم: أذهبتم، ولذلك حسنت الفاءفي قوله: {فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ }. وقرأ قتادة، ومجاهد، وابن وثاب، وأبو جعفر، والأعرج، وابن كثير: بهمزة بعدها مدة مطولة، وابنعامر، بهمزتين حققهما ابن ذكوان، ولين الثانية هشام، وابن كثير في رواية. وعن هشام: الفصل بين المحققة والملينة بألف، وهذاالاستفهام هو على معنى التوبيخ والتقرير، فهو خبر في المعنى، فلذلك حسنت الفاء، ولو كان استفهاماً محضاً لم تدخل الفاء.والطيبات هنا: المستلذات من المآكل والمشارب والملابس والمفارش والمراكب والمواطىء، وغير ذلك مما يتنعم به أهل الرفاهية. وهذه الآيةمحرضة على التقلل من الدنيا، وترك التنعم فيها، والأخذ بالتقشف، وما يجتزي به رمق الحياة عن رسول الله في ذلكما يقتضي التأسي به. وعن عمر في ذلك أخبار تدل على معرفته بأنواع الملاذ، وعزة نفسه الفاضلة عنها. أتظنون أنالا نعرف خفض العيش؟ ولو شئت لجعلت أكباداً وصلاء وصلائق، ولكن استبقي حسناني؛ فإن الله عز وجل وصف أقواماً فقال:{أَذْهَبْتُمْ طَيّبَـٰتِكُمْ فِى حَيَـٰتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ }. والصلاء الشواء والصفار المتخذ من الخردل والزبيب، والصلائق: الخبز الرقاق العريض. قال ابنعباس: وهذا من باب الزهد، وإلا فالآية نزلت في كفار قريش؛ والمعنى: أنه كانت تكون لكم طيبات الآخرة لو آمنتم،لكنكم لم تؤمنوا، فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا. فهذه كناية عن عدم الإيمان، ولذلك نزلت عليه: {فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ}؛ ولو أريد الظاهر، ولم يكن كناية عن ما ذكرنا، لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب. وقرىء: الهوان، وهو والهون بمعنىواحد ثم بين تلك الكناية بقوله: {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ }: أي تترفعون عن الإيمان؛ {وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ }: أي بمعاصيالجوارح وقدم ذنب القلب، وهو الاستكبار على ذنب الجوارح؛ إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب. ولما كان أهلمكة مستغرقين في لذات الدنيا، معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول، ذكرهم بما جرى للعرب الأولى، وهم قوم عاد،وكانوا أكثر أموالاً وأشد قوة وأعظم جاهاً فيهم، فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم، وضرب الأمثال. وقصص من تقدم تعرف بقبحالشيء وتحسينه، فقال لرسوله: واذكر لقومك، أهل مكة، هوداً عليه السلام، {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ } عاداً عذبهم الله {بِٱلاْحْقَافِ }.قال ابن عباس: واد بين عمان ومهرة. وقال ابن إسحاق: من عمان إلى حضرموت. وقال ابن زيد: رمال مشرقة بالشحرمن اليمن. وقيل: بين مهرة وعدن. وقال قتادة: هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني. وقال ابن عباس: هي جبل بالشام.قال ابن عطية: والصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن، ولهم كانت

{ إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ }

، وفي ذكر هذه القصة اعتبارلقريش وتسلية للرسول، إذ كذبه قومه، كما كذبت عاد هوداً عليه السلام. والجملة من قوله: {وَقَدْ خَلَتِ ٱلنُّذُرُ }: وهوجمع نذير، {مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ }، يحتمل أن تكون حالاً من الفاعل في: {ٱلنُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ }،وهم الرسل الذين تقدموا زمانه، ومن خلفه الرسل الذين كانوا في زمانه، ويكون على هذا معنى {وَمِنْ خَلْفِهِ }: أيمن بعد إنذاره؛ ويحتمل أن يكون اعتراضاً بين إنذار قومه وأن لا تعبدوا. والمعنى: وقد أنذر من تقدمه من الرسل،ومن تأخر عنه مثل ذلك، فاذكرهم. {قَالُواْ أَجِئْتَنَا }: استفهام تقرير، وتوبيخ وتعجيز له فيما أنذره إياهم من العذابالعظيم على ترك إفراد الله بالعبادة. {لِتَأْفِكَنَا }: لتصرفنا، قاله الضحاك؛ أو لتزيلنا عن آلهتنا بالإفك، وهو الكذب، أي عنعبادة آلهتنا، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا }: استعجال منهم بحلول ما وعدهم به من العذاب. ألا ترى إلى قوله: بل هوما استعجلتم به؟ {قَالَ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ }: أي علم وقت حلوله، وليس تعيين وقته إليّ، وإنما أنا مبلغما أرسلني به الله إليكم. ولما تحقق عنده وعد الله، وأنه حال بهم وهم في غفلة من ذلك وتكذيب، قال:{وَلَـٰكِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ }: أي عاقبة أمركم لا شعور لكم بها، وذلك واقع لا محالة. وكانت عاد قد حبسالله عنها المطر أياماً، فساق الله إليهم سحابة سوداء خرجت عليهم من واد يقال له المغيث، فاستبشروا. والضمير في {رَأَوْهُ} الظاهر أنه عائد على ما في قوله: {بِمَا تَعِدُنَا }، وهو العذاب، وانتصب عارضاً على الحال من المفعول. وقالابن عطية، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئي الطالع عليهم، الذي فسره قوله: {عَارِضاً }. وقال الزمخشري: {فَلَمَّا رَأَوْهُ}، في الضمير وجهان: أن يرجع إلى ما تعدنا، وأن يكون مبهماً، قد وضح أمره بقوله: {عَارِضاً }، إما تمييزوإما حال، وهذا الوجه أعرب وأفصح. انتهى. وهذا الذي ذكر أنه أعرب وأفصح ليس جارياً على ما ذكره النحاة، لأنالمبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب، نحو: رب رجلاً لقيته، وفي باب نعم وبئس علىمذهب البصريين، نحو: نعم رجلاً زيد، وبئس غلاماً عمرو. وأما أن الحال يوضح المبهم ويفسره، فلا نعلم أحداً ذهب إليه،وقد حضر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده، فلم يذكروا فيه مفعول رأي إذا كان ضميراً، ولا أن الحال يفسرالضمير ويوضحه. والعارض: المعترض في الجو من السحاب الممطر، ومنه قول الشاعر:

يا من رأى عارضاً أرقت له     بين ذراعي وجبهة الأسد

وقال الأعشى:

يا من رأى عارضاً قد بث أرمقه     كأنها البرق في حافاتها الشعل

{مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ }: هو جمع واد، وأفعلة في جمع فاعل. الاسم شاذ نحو: ناد وأندية، وجائز وأجوزة.والجائز: الخشبة الممتدة في أعلى السقف، وإضافة مستقبل وممطر إضافة لا تعرف، فلذلك نعت بهما النكرة. {بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم}: أي قال لهم هو ذلك، أي بل هو العذاب الذي استعجلتم به، أضرب عن قولهم: {عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا }، وأخبربأن العذاب فاجأهم، ثم قال: {رِيحٌ }: أي هي ريح بدل من هو. وقرأ: ما استعجلتم، بضم التاء وكسر الجيم،وتقدمت قصص في الريح، فأغنى عن ذكرها هنا. {تُدَمّرُ }: أي تهلك، والدمار: الهلاك، وتقدم ذكره. وقرأ زيد بن عليّ:تدمر، بفتح التاء وسكون الدال وضم الميم. وقرىء كذلك إلا أنه بالياء ورفع كل، أي يهلك كل شيء، وكل شيءعام مخصوص، أي من نفوسهم وأموالهم، أو من أمرت بتدميره. وإضافة الرب إلى الريح دلالة على أنها وتصريفها مما يشهدبباهر قدرته تعالى، لأنها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده. وذكر الأمر لكونها مأمورة من جهته تعالى. وقرأ الجمهور: لا ترىبتاء الخطاب، إلا مساكنهم، بالنصب؛ وعبد الله، ومجاهد، وزيد بن علي، وقتادة، وأبو حيوة، وطلحة، وعيسى، والحسن، وعمرو بن ميمون:بخلاف عنهما؛ وعاصم، وحمزة: لا يرى بالياء من تحت مضمومة إلا مساكنهم بالرفع. وأبو رجاء، ومالك بن دينار: بخلاف عنهما.والجحدري، والأعمش، وابن أبي إسحاق، والسلمي: بالتاء من فوق مضمومة مساكنهم بالرفع، وهذا لا يجيزه أصحابنا إلا في الشعر، وبعضهميجيزه في الكلام. وقال ذو الرمة:

كأنه جمل همّ وما بقيت     إلا النخيرة والألواح والعصب

وقال آخر:

فمـا بقيـت إلا الضـلوع الجـراشـع    

وقرأ عيسى الهمداني: لا يرى بضم الياء إلا مسكنهم بالتوحيد. وروي هذا عنالأعمش، ونصر بن عاصم. وقرىء: لا ترى، بتاء مفتوحة للخطاب، إلا مسكنهم بالتوحيد مفرداً منصوباً، واجتزىء بالمفرد عن الجمع تصغيراًلشأنهم، وأنهم لما هلكوا في وقت واحد، فكأنهم كانوا في مسكن واحد. ولما أخبر بهلاك قوم عاد، خاطب قريشاً علىسبيل الموعظة فقال: {وَلَقَدْ مَكَّنَـٰهُمْ }، وإن نافية، أي في الذي ما مكناهم فيه من القوة والغنى والبسط في الأجساموالأموال؛ ولم يكن النفي بلفظ ما، كراهة لتكرير اللفظ، وإن اختلف المعنى. وقيل: إن شرطية محذوفة الجواب، والتقدير: إن مكناكمافيه طغيتم. وقيل: إن زائدة بعدما الموصولة تشبيهاً بما النافية وما التوقيتية، فهي في الآية كهي في قوله:

يرجى المرء ما إن لا يراه     وتعرض دون أدناه الخطوب

أي مكناهم في مثل الذي مكناكم، فيه، وكونهانافية هو الوجه، لأن القرآن يدل عليه في مواضع كقوله: { كَانُواْ أَكْـثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءاثَاراً } ، وقوله: { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئيا } ، وهو أبلغ في التوبيخ وأدخل في الحث في الاعتبار. ثم عدد نعمه عليهم، وأنها لم تغن عنهم شيئاً،حيث لم يستعملوا السمع والأبصار والأفئدة فيما يجب أن يستعمل. وقيل: ما استفهام بمعنى التقرير، وهو بعيد كقوله: {تَذَرُ مِنشَىْء }، إذ يصير التقدير: أي شيء مما ذكر أغنى عنهم من شيء، فتكون من زيدت في الموجب، وهو لايجوز على الصحيح، والعامل في إذ أغنى. ويظهر فيها معنى التعليل لو قلت: أكرمت زيداً لإحسانه إليّ، أو إذ أحسنإليّ. استويا في الوقت، وفهم من إذ ما فهم من لام التعليل، وإن إكرامك إياه في وقت إحسانه إليك، إنماكان لوجود إحسانه لك فيه. {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مّنَ ٱلْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا ٱلاْيَـٰتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرْبَاناً ءالِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَٱلْجِنّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُواْ }. {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَاحَوْلَكُمْ مّنَ ٱلْقُرَىٰ }: خطاب لقريش على جهة التمثيل لهم، والذي حولهم من القرى: مأرب، وحجر، ثمود، وسدوم. ويريد منأهل القرى: {وَصَرَّفْنَا ٱلاْيَـٰتِ }، أي الحجج والدلائل والعظاة لأهل تلك القرى، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عن ما هم فيه منالكفر إلى الإيمان، فلم يرجعوا. {فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ }: أي فهلا نصرهم حين جاءهم الهلاك؟ {ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ }: أي اتخذوهم، {مِندُونِ ٱللَّهِ قُرْبَاناً }: أي في حال التقرب وجعلتهم شفعاء. {ءالِهَةً }: وهو المفعول الثاني لا تخذوا، والأول الضمير المحذوفالعائد على الموصول. وأجاز الحوفي وابن عطية وأبو البقاء أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً لا تخذوا آلهة بدل منه. وقالالزمخشري: وقرباناً حال، ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً وآلهة بدل منه، لفساد المعنى. انتهى. ولم يبين الزمخشري كيفيفسد المعنى، ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب. وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون قرباناً مفعولاً من أجله. {بَلْضَلُّواْ عَنْهُمْ }: أي غابوا عن نصرتهم. وقرأ الجمهور: إفكهم، بكسر الهمزة وإسكان الهاء وضم الكاف؛ وابن عباس في رواية:بفتح الهمزة. والإفك مصدر إن. وقرأ ابن عباس أيضاً، وابن الزبير، والصباح بن العلاء الأنصاري، وأبو عياض، وعكرمة، وحنظلة بنالنعمان ابن مرة، ومجاهد: إفكهم، بثلاث فتحات: أي صرفهم؛ وأبو عياض، وعكرمة أيضاً: كذلك، إلا أنهما شددا الفاء للتكثير؛ وابنالزبير أيضاً، وابن عباس، فيما ذكر ابن خالويه: آفكهم بالمد، فاحتمل أن يكون فاعل. فالهمزة أصلية، وأن يكون أفعل، فالهمزةللتعدية، أي جعلهم يأفكون، ويكون أفعل بمعنى المجرد. وعن الفراء أنه قرىء: أفكهم بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف، وهي لغةفي الأفك؛ وابن عباس، فيما روى قطرب، وأبو الفضل الرازي: آفكهم اسم فاعل من آفك، أي صارفهم، والإشارة بذلك علىمن قرأ: إفكهم مصدراً إلى اتخاذ الأصنام آلهة، أي ذلك كذبهم وافتراؤهم. وقال الزمخشري: وذلك إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهملهم وضلالهم عنهم، أي وذلك إثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب من كونهذا شركاء. انتهى. وعلى قراءة من جعله فعلاً معناه: وذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق، وكذلك قراءة اسم الفاعل، أي صارفهمعن الحق. ويحتمل أن تكون ما مصدرية، أي وافتراؤهم، وأن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف، أي يفترونه}. {VVV}.{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ ٱلْجِنّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءانَ }: ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما بين أن الإنسي مؤمنوكافر، وذكر أن الجن فيهم مؤمن وكافر؛ وكان ذلك بأثر قصة هود وقومه، لما كان عليه قومه من الشدة والقوة.والجن توصف أيضاً بذلك، كما قال تعالى: { قَالَ عِفْرِيتٌ مّن ٱلْجِنّ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ } . وإن ما أهلك به قوم هود هو الريح، وهو من العالم الذي لا يشاهد، وإنما يحسبهبوبه. والجن أيضاً من العالم الذي لا يشاهد. وإن هوداً عليه السلام كان من العرب، ورسول الله صلى الله عليهوسلم من العرب، فهذه تجوز أن تكون مناسبة لهذه الآية بما قبلها. وفيها أيضاً توبيخ لقريش وكفار العرب، حيث أنزلعليهم هذا الكتاب المعجز، فكفروا به، وهم من أهل اللسان الذي أنزل به القرآن، ومن جنس الرسول الذي أرسل إليهم.وهؤلاء جن، فليسوا من جنسه، وقد أثر فيهم سماع القرآن وآمنوا به وبمن أنزل عليه، وعلموا أنه من عند الله،بخلاف قريش وأمثالها، فهم مصرون على الكفر به. {وَإِذْ صَرَفْنَا }: وجّهنا إليك. وقرأ: صرفنا، بتشديد الراء، لأنهم كانواجماعة، فالتكثير بحسب الحال. {نَفَراً مّنَ ٱلْجِنّ }، والنفر دون العشرة، ويجمع على أنفار. قال ابن عباس: كانوا سبعة، منهمزوبعة. والذي يجمع اختلاف الروايات، أن قصة الجن كانت مرتين. إحداهما: حين انصرف من الطائف، وكان خرج إليهم يستنصرهمفي قصة ذكرها أصحاب السير. فروى أن الجن كانت تسترق السمع؛ فلما بعث الرسول، حرست السماء، ورمي الجن بالشهب، قالوا:ما هذا إلا أمر حدث. وطافوا الأرض، فوافوا رسول الله ﷺ بوادي نخلة، وهو قائم يصلي؛ فاستمعوالقراءته، وهو لا يشعر؛ فأنبأه الله باستماعهم. {ٱلثَّالِثَةَ ٱلاْخْرَىٰ }: أن الله أمره أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فقال: إني أمرت أن أقرأ على الجن فمن يتبعني ، قالها ثلاثاً، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود، قال: لم يحضره أحدليلة الجن غيري. فانطلقنا حتى إذا كنا في شعب الحجون، خط لي خطاً وقال: لا تخرج منه حتى أعود إليك ،ثم افتتح القرآن. وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على رسول الله ﷺ، وعشيته أسودة كثيرة حالت بينيوبينه حتى ما أسمع صوته، ثم تقطعوا تقطع السحاب، فقال لي: هل رأيت شيئاً ؟ قلت: نعم، رجالاً سوداً مستثفري ثياببيض، فقال: أولئك جن نصيبين . وكانوا اثني عشر ألفاً، والسورة التي قرأها عليهم: اقرأ باسم ربك. وفي آخر هذا الحديثقلت: يا رسول الله، سمعت لهم لغطاً، فقال: إنهم تدارؤا في قتيل لهم فحكمت بالحق . وقد روي عن ابن مسعودأنه لم يحضر أحد ليلة الجن، والله أعلم بصحة ذلك. {فَلَمَّا حَضَرُوهُ }: أي القرآن، أي كانوا بمسمع منه،وقيل: حضروا الرسول، وهو التفات من إليك إلى ضمير الغيب. {قَالُواْ أَنصِتُواْ }: أي اسكتوا للاستماع، وفيه تأديب مع العلموكيف يتعلم. وقرأ الجمهور: {فَلَمَّا قُضِىَ }: مبنياً للمفعول؛ وأبو مجلز، وحبيب بن عبد الله بن الزبير: قضى، مبنياً للفاعل،أي قضى محمد ما قرأ، أي أتمه وفرغ منه. وقال ابن عمر، وجابر بن عبد الله: قرأ عليهم سورة الرحمن،فكان إذا قال: {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ }، قالوا: لا شيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد. {وَلَّوْاْ إِلَىٰقَوْمِهِم مُّنذِرِينَ }: تفرقوا على البلاد ينذرون الجن. قال قتادة: ما أسرع ما عقل القوم. انتهى. وعند ذلك وقعت قصةسواد بن قارب، وخنافر وأمثالهما، حين جاءهما رياهما من الجن، وكان سبب إسلامهما. {مِن بَعْدِ مُوسَىٰ }: أي منبعد كتاب موسى. قال عطاء: كانوا على ملة اليهود، وعن ابن عباس: لم تسمع الجن بأمر عيسى، وهذا لا يصحعن ابن عباس. كيف لا تسمع بأمر عيسى وله أمة عظيمة لا تنحصر على ملته؟ فيبعد عن الجن كونهم لميسمعوا به. ويجوز أن يكونوا قالوا: {مِن بَعْدِ مُوسَىٰ } تنبيهاً لقومهم على اتباع الرسول، إذ كان عليه الصلاة والسلامقد بشر به موسى، فقالوا: ذلك من حيث أن هذا الأمر مذكور في التوراة، {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } منالتوراة والإنجيل والكتب الإلهية، إذ كانت كلها مشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد، والأمر بتطهير الأخلاق. {يَهْدِى إِلَى ٱلْحَقّ }: أيإلى ما هو حق في نفسه صدق، يعلم ذلك بصريح العقل. {وَإِلَى * صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ }: غابر بين اللفظين، والمعنىمتقارب، وربما استعمل أحدهما في موضع لا يستعمل الآخر فيه، فجمع هنا بينهما وحسن التكرار. {أَجِيبُواْ دَاعِىَ ٱللَّهِ }: هوالرسول، والواسطة المبلغة عنه، {يٰقَوْمَنَا أَجِيبُواْ }: يعود على الله. {يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ }: من للتبعيض، لأنه لايغفر بالإيمان ذنوب المظالم، قال معناه الزمخشري. وقيل: من زائدة، لأن الإسلام يجب ما قبله، فلا يبقى معه تبعة. {وَيُجِرْكُمْمّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }: وهذا كله وظواهر القرآن تدل على الثواب، وكذا قال ابن عباس: لهم ثواب وعليهم عقاب، يلتقونفي الجنة ويزدحمون على أبوابها. وقيل: لا ثواب لها إلا النجاة من النار، وإليه كان يذهب أبو حنيفة. {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍفِى ٱلاْرْضَ }: أي بفائت من عقابه، إذ لا منجا منه، ولا مهرب، كقوله: { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِى ٱلاْرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } . وروي عن ابن عامر: وليس لهم بزيادة ميم. وقرأ الجمهور: {وَلَمْ يَعْىَ }، مضارععيـي، على وزن فعل، بكسر العين؛ والحسن: ولم يعي، بكسر العين وسكون الياء، ووجهه أنه في الماضي فتح عين الكلمة،كما قالوا في بقي: بقا، وهي لغة لطيـىء. ولما بنى الماضي على فعل بفتح العين، بنى مضارعه على يفعل بكسرالعين، فجاء يعني. فلما دخل الجازم، حذف الياء، فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين، فسكنت الياء وبقي يعي. وقرأالجمهور: {بِقَادِرٍ }: اسم فاعل، والباء زائدة في خبر أن، وحسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي. وقد أجازالزجاج: ما ظننت أن أحداً بقائم، قياساً على هذا، والصحيح قصر ذلك على السماع، فكأنه في الآية قال: أليس اللهبقادر؟ ألا ترى كيف جاء ببلى مقرراً لإحياء الموتى لا لرؤيتهم؟ وقرأ الجحدري، وزيد بن علي، وعمرو بن عبيد، وعيسى،والأعرج: بخلاف عنه؛ ويعقوب: يقدر مضارعاً. {أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقّ }: أي يقال لهم، والإشارة بهذا إلى العذاب. أي كنتمتكذبون بأنكم تعذبون، والمعنى: توبيخهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم: { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } . {قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبّنَا }، تصديقحيث لا ينفع. وقال الحسن: إنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم، يعترفون أنه العدل، فيقول لهم المجاوب منالملائكة عند ذلك: {فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ }: الفاء عاطفة هذهالجملة على الجملة من أخبار الكفار في الآخرة، والمعنى بينهما مرتبط: أي هذه حالهم مع الله. فلا تستعجل أنت واصبر،ولا تخف إلا الله. وأولو العزم: أي أولو الجد من الرسل، وهم من حفظ له شدة مع قومه ومجاهدة. فتكونمن للتبعيض، وقيل: يجوز أن تكون للبيان، أي الذين هم الرسل، ويكون الرسل كلهم أولى العزم؛ وأولو العزم على التبعيضيقتضي أنهم رسل وغير رسل؛ وعلى البيان يقتضي أنهم الرسل، وكونها للتبعيض قول عطاء الخراساني والكلبي، وللبيان قول ابن زيد.وقال الحسن بن الفضل: هم الثمانية عشر المذكورة في سورة الأنعام، لأنه قال عقب ذكرهم: { فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } . وقال مقاتل:هم ستة: نوح صبر على أذى قومه طويلاً، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر نفسه على الذبح، ويعقوب صبر علىالفقد لولده وعمي بصره وقال فصبر جميل، ويوسف صبر على السجن والبئر، وأيوب على البلاء. وزاد غيره: وموسى قال قومه: { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ } ، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنةعلى لبنة وقال: إنها معبر، فاعبروها ولا تعمروها. {وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ }: أي لكفار قريش بالعذاب، أي لا تدعلهم بتعجيله، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر، وإنهم مستقصرن حينئذ مدة لبثهم في الدنيا، كأنهم {لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّسَاعَةً }. وقرأ أبي: من النهار؛ وقرأ الجمهور: من نهار. وقرأ الجمهور: بلاغ، بالرفع، والظاهر رجوعه إلى المدة التي لبثوافيها، كأنه قيل: تلك الساعة بلاغهم، كما قال تعالى: { مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ } فبلاغ خبر مبتدأ محذوف. قيل: ويحتمل أن يكونبلاغ يعني به القرآن والشرع، أي هذا بلاغ، أي تبليغ وإنذار. وقال أبو مجلز: بلاغ مبتدأ وخبره لهم؛ ويقف علىفلا تستعجل، وهذا ليس بجيد، لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض، إذ ظاهر قوله: لهم، أنه متعلق بقوله: فلاتستعجل لهم، والحيلولة الجملة التشبيهية بين الخبر والمبتدأ. وقرأ الحسن، وزيد بن علي، وعيسى: بلاغاً بالنصب، فاحتمل أن يراد: بلاغاًفي القرآن، أي بلغوا بلاغاً، أو بلغنا بلاغاً. وقرأ الحسن أيضاً: بلاغ بالجر، نعتاً لنهار. وقرأ أبو مجلز، وأبو سراحالهذلي: بلغ علي الأمر، للنبي ﷺ، وهذا يؤيد حمل بلاغ رفعاً ونصباً على أنه يعني به تبليغالقرآن والشرع. وعن أبي مجلز أيضاً: بلغ فعلاً ماضياً. وقرأ الجمهور: يهلك، بضم الياء وفتح اللام، وابن محيصن، فيما حكىعنه ابن خالويه: بفتح الياء وكسر اللام؛ وعنه أيضاً: بفتح الياء واللام، وماضيه هلك بكسر اللام، وهي لغة. وقال أبوالفتح: هي مرغوب عنها. وقرأ زيد بن ثابت: يهلك، بضم الياء وكسر اللام. {إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ }: بالنصب، وفي هذه الآية وعيد وإنذار.