الرئيسيةبحث

تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار (الجزء الأول)


☰ جدول المحتويات

صفحة : 110

وفي غد ذلك اليوم دخلت المدينة على باب يعرف بباب بغداد، ووصلنا إلى سوق عظيمة تعرف بسوق قازان، من أحسن أسواق بلاد الدنيا كل صناعة فيها على حدة لا تخالطها أخرى واجتزت بسوق الجوهريين، فحار بصري مما رأيته من أنواع الجواهر، وهي بأيدي مماليك حسان الصور، عليهم الثياب الفاخرة وأوساطهم مشدودة بمناديل الحرير، وهم بين أيدي التجار يعرضون الجواهر على نساء الأتراك، وهن يشترينه كثيرا، ويتنافسن فيه. فرأيت من ذلك كله فتنة يستعاذ الله منها. ودخلنا سوق العنبر والمسك فرأينا مثل ذلك وأعظم، ثم وصلنا إلى المسجد الجامع الذي عمره الوزير علي شاه المعروف بجيلان، وبخارجه عن يمين مستقبل القبلة مدرسة، وعن يساره زاوية. وصحنه مفروش بالمرمر وحيطانه بالقاشاني، وهو شبه الزليج، ويشقه نهر ماء، وبه أنواع الأشجار ودوالي العنب وشجر ياسمين. ومن عاداتهم أنهم يقرأون به كل يوم سورة يس وسورة الفتح وسورة عم بعد صلاة العصر في صحن الجامع، ويجتمع لذلك أهل المدينة. وبتنا ليلة بتبريز، ثم وصل بالغد أمر السلطان أبي سعيد إلى الأمير علاء الدين بأن يصل إليه فعدت معه. ولم ألق بتبريز أحدا من العلماء. ثم سافرنا إلى أن وصلنا محلة السلطان، فأعلمه الأمير المذكور بمكاني وأدخلني عليه، فسألني عن بلادي وكساني وأركبني، وأعلمه الأمير أني أريد السفر إلى الحجاز الشريف فأمر لي بالزاد والركوب في السبيل مع المحمل، وكتب لي بذلك إلى أمير بغداد خواجه معروف، فعدت إلى بغداد، واستوفيت ما أمر لي به السلطان، وكان قد بقي لأوان سفر الركب أزيد من شهرين، فظهر لي أن أسافر إلى الموصل وديار بكر، لأشاهد تلك البلاد، وأعود إلى بغداد في حين سفر الركب، فأتوجه إلى الحجاز الشريف. فخرجت من بغداد إلى منزل على نهر دجيل، وهو متفرع عن دجلة، فيسقي قرى كثيرة. ثم نزلنا بعد يومين بقرية كبيرة تعرف بحربة، مخصبة فسيحة. ثم رحلنا فنزلنا موضعا على شط دجلة بالقرب من حصن يسمى المعشوق، وهو مبني على الدجلة. وفي الجهة الشرقية من هذا الحصن مدينة سر من رأى وتسمى أيضا سامرا. ويقال لها سام راه، ومعناه بالفارسية طريق سام وراه هو الطريق وقد استولى الخراب على هذه المدينة، فلم يبق منها إلا القليل وهي معتدلة الهواء رائعة الحسن على بلائها ودروس معالمها، وفيها أيضا مشهد صاحب الزمان كما بالحلة، ثم سرنا منها مرحلة ووصلنا إلى مدينة تكريت، وهي مدينة كبيرة فسيحة الأرجاء مليحة الأسواق كثير الجوامع وأهلها موصوفون بحسن الأخلاق والدجلة من الجهة الشمالية منها ولها قلعة حصينة على شط الدجلة والمدينة عتيقة البناء عليها سور يطيف بها ثم رحلنا منها مرحلتين ووصلنا قرية تعرف بالعقر على شط الدجلة وبأعلاها ربوة كان بها حصن وبأسفلها الخان المعروف بخان الحديد له أبراج وبناؤه حافل والقرى والعمارة متصلة من هنالك إلى الموصل. ثم رحلنا ونزلنا موضعا يعرف بالقيارة بمقربة من دجلة وهنالك أرض سوداء فيها عيون تنبع بالقار ويصنع له أحواض ويجتمع فيها فتراه شبه الصلصال على وجه الأرض حالك اللون صقيلا رطبا وله رائحة طيبة وحول تلك العيون بركة كبيرة سوداء يعلوها شبه الطحلب الرقيق فتقذفه إلى جوانبها فيصير أيضا قارا. وبمقربة من هذا الموضع عين كبيرة فإذا أرادوا نقل القار منها أوقدوا عليها النار فتنشف النار ما هنالك رطوبة مائية ثم يقطعونه قطعا وينقلونه. وقد تقدم لنا ذكر العين التي بين الكوفة والبصرة على هذا النحو ثم سافرنا من هذه العيون مرحلتين ووصلنا بعدهما إلى الموصل.

صفحة : 111

مدينة الموصل

وهي مدينة عتيقة كثيرة الخصب وقلعتها المعروفة بالحدباء عظيمة الشأن شهيرة الامتناع عليها سور محكم البناء مشيد البروج وتتصل بها دور السلطان وقد فصل بينها وبين البلد شارع متسع مستطيل من أعلى البلد إلى أسفله وعلى البلد سوران اثنان وثيقان أبراجهما كثيرة متقاربة وفي باطن السور بيوت بعضها على بعض مستديرة بجداره قد تمكن فتحها فيه لسعته ولم أر في أسوار البلاد مثله إلا السور الذي على مدينة دهلي حضرة ملك الهند. وللموصل ربض كبير فيه الجوامع والحمامات والفنادق والأسواق وبه مسجد جامع على شط الدجلة تدور به شبابيك حديد وتتصل به مساطب تشرف على دجلة في النهاية من الحسن والإتقان وامامه مارستان وبداخل المدينة جامعان أحدهما قديم والآخر حديث وفي صحن الحديث منهما قبة في داخلها خصة رخام مثمنة مرتفعة على سارية رخام يخرج منها الماء بقوة وانزعاج فيرتفع مقدار القامة ثم ينعكس فيكون له مرأى حسن. وقيسارية الموصل مليحة لها أبواب حديد ويدور بها دكاكين وبيوت بعضها فوق بعض متقنة البناء. وبهذه المدينة مشهد جرجيس النبي عليه السلام وعليه مسجد والقبر في زاوية منه عن يمين الداخل إليه وهو فيما بين الجامع الجديد وباب الجسر وقد حصلت لنا زيارته والصلاة بمسجده والحمد لله تعالى وهنالك تل يونس عليه السلام وعلى نحو ميل منه العين المنسوبة إليه يقال انه أمر قومه بالتطهر فيها ثم صعدوا التل ودعا ودعوا فكشف الله عنهم العذاب وبمقربة منه قرية كبيرة يقرب منها خراب يقال أنه موضع المدينة المعروفة بنينوى مدينة يونس عليه السلام وأثر السور المحيط بها ظاهر ومواضع الأبواب التي هي متبينة. وفي التل بناء عظيم ورباط فيه بيوت كثيرة ومقاصر ومطاهر وسقايات يضم الجميع باب واحد، وفي وسط الرباط بيت عليه ستر حرير وله باب مرصع يقال انه الموضع الذي به موقف يونس عليه السلام ومحراب المسجد الذي بهذا الرباط يقال انه كان بيت متعبده عليه السلام. وأهل الموصل يخرجون في كل ليلة جمعة إلى هذا الرباط يتعبدون فيه. وأهل الموصل لهم مكارم أخلاق ولين كلام وفضيلة ومحبة في الغريب وإقبال عليه وكان أميرها حين قدومي عليها السيد الشريف الفاضل علاء الدين علي بن شمس الدين محمد الملقب بحيدر وهو من الكرماء الفضلاء أنزلني بداره وأجرى علي الانفاق مدة مقامي عنده وله الصدقات والإيثار المعروف.

وكان السلطان أبو سعيد يعظمه وفوض إليه أمر هذه المدينة وما يليها ويركب في موكب عظيم من مماليكه وأجناده ووجوه أهل المدينة وكبراؤها يأتون للسلام عليه غدوا وعشيا وله شجاعة ومهابة وولده في حين كتب هذا في حضرة فاس مستقر الغرباء ومأوى الفرق ومحط رحال الوفود زادها الله بسعادة أيام مولانا أمير المؤمنين بهجة وإشراقا وحرس أرجاءها ونواحيها. ثم رحلنا من الموصل ونزلنا قرية تعرف بعين الرصد وهي على نهر عليه جسر مبني وبها خان كبير. ثم رحلنا ونزلنا قرية تعرف بالمويلحة ثم رحلنا منها ونزلنا جزيرة ابن عمر وهي مدينة كبيرة حسنة محيط بها الوادي ولذلك سميت جزيرة وأكثرها خراب ولها سوق حسنة ومسجد عتيق مبني بالحجارة محكم العمل وسورها مبني بالحجارة أيضا وأهلها فضلاء لهم محبة في الغرباء ويوم نزلنا بها رأينا جبل الجودي المذكور في كتاب الله عز وجل الذي استوت عليه سفينة نوح عليه السلام وهو جبل عال مستطيل. ثم رحلنا مرحلتين ووصلنا إلى مدينة نصيبين وهي مدينة عظيمة عتيقة متوسطة قد خرب أكثرها وهي في بسيط أفيح فسيح فيه المياه الجارية والبساتين الملتفة والاشجار المنتظمة والفواكه الكثيرة وبها يصنع ماء الورد الذي لا نظير له في العطارة والطيب ويدور بها نهر ينعطف عليها انعطاف السوار منبعه من عيون في جبل قريب منها وينقسم انقساما فيتخلل بساتينها ويدخل منه نهر إلى المدينة فيجري في شوارعها ودورها ويخترق صحن مسجدها الأعظم وينصب في صهريجيهن أحدهما في وسط الصحن والآخر عند الباب الشرقي وبهذه المدينة مارستان ومدرستان وأهلها أهل صلاح ودين وصدق وأمانة ولقد صدق أبو نواس في قوله:

طابت نصيبين لي يوما وطبت لها يا ليت حظي من الدنيا نصيبـين

قال ابن جزي: والناس يصفون مدينة نصيبين بفساد الماء والوخامة، وفيها يقول بعض الشعراء:

صفحة : 112

لنصيبين قد عجبت وما في دارها لي داع إلى العلات يعدم الورد أحمرا في ذراها لسقام حتى من الوجنـات

ثم رحلنا إلى مدينة سنجار، وهي مدينة كبيرة كثيرة الفواكه والأشجار والعيون المطردة والأنهار، مبنية في سفح جبل، تشبه بدمشق في كثرة أنهارها وبساتينها، ومسجدها الجامع مشهور البركة، يذكر ان الدعاء به مستجاب، ويدور به نهر ماء ويشقه. وأهل سنجار أكراد، ولهم شجاعة وكرم، وممن لقيته بها الشيخ الصالح العابد الزاهد عبد الله الكردي أحد المشايخ الكبار صاحب كرامات يذكر عنه أنه لا يفطر إلا بعد أربعين يوما ويكون إفطاره على نصف قرص من الشعير، لقيته برابطة بأعلى جبل سنجار ودعا لي وزودني بدراهم، لم تزل عندي إلى ان سلبني كفار الهنود. ثم سافرنا إلى مدينة دارا، وهي عتيقة كبيرة بيضاء المنظر، لها قلعة مشرفة، وهي الآن خراب لا عمارة بها وفي خارجها قرية معمورة، بها كان نزولنا، ثم رحلنا منها فوصلنا إلى مدينة ماردين، وهي عظيمة في سطح جبل من أحسن مدن الإسلام وأبدعها وأتقنها وأحسنها أسواقا وبها تصنع الثياب المنسوبة إليها من الصوف المعروف بالمرعز ولها قلعة شماء من مشاهير القلاع في قنة جبلها. قال ابن جزي: قلعة ماردين هذه تسمى الشهباء وإياها عنى شاعر العراق صفي الدين عبد العزيز بن سراي الحلي بقوله في مسمطته:

فدع ربوع الحـلة الـفـيحـاء وازور بالعيس عن الـزوراء ولا تقف بالموصل الـحـدبـاء إن شهاب القلعة الشـهـبـاء

محرق شيطان صروف الدهر وقلعة حلب تسمى الشهباء أيضا وهذه المسمطة بديعة مدح بها الملك المنصور سلطان ماردين، وكان كريما شهير الصيت ولي الملك بها نحو خمسين سنة، وأدرك أيام قازان ملك التتر، وصاهر السلطان خدابنده بابنته دنيا خاتون.

ذكر سلطان ماردين في عهد دخولي إليها

وهو الملك الصالح ابن الملك المنصور الذي ذكرناه آنفا، ورث الملك عن أبيه وله المكارم الشهيرة. وليس بأرض العراق والشام ومصر أكرم منه يقصده الشعراء والفقراء فيجزل لهم العطايا، جريا على سنن أبيه قصده أبو عبيد الله محمد ابن جابر الأندلسي المروي الكفيف مادحا، فأعطاه عشرين ألف درهم. وله الصدقات والمدارس والزوايا لإطعام الطعام، وله وزير كبير القدر، وهو الإمام العالم وحيد الدهر وفريد العصر جمال الدين السنجاوي، وقرأ بمدينة تبريز، وأدرك العلماء الكبار، وقاضي قضاته الامام الكامل برهان الدين الموصلي، وهو ينتسب إلى الشيخ الولي فتح الموصلي، وهذا القاضي من أهل الدين والورع والفضل، يلبس الخشن من ثياب الصوف الذي لا تبلغ قيمته عشرة دراهم، ويعتم بنحو ذلك، وكثيرا ما يجلس للأحكام بصحن مسجد خارج المدرسة، كان يتعبد فيه فإذا رآه من لا يعرفه ظنه بعض خدام القاضي وأعوانه.

حكاية

ذكر لي: أن امرأة أتت هذا القاضي، وهو خارج من المسجد، ولم تكن تعرفه، فقالت له: يا شيخ، أين يجلس القاضي ? فقال لها: وما تريدين منه ? فقالت: إن زوجي ضربني، وله زوجة ثانية، وهو لا يعدل بيننا في القسم وقد دعوته إلى القاضي فأبى وأنا فقيرة ليس عندي ما أعطيه لرجال القاضي حتى يحضرونه بمجلسه، فقال لها: وأين منزل زوجك ? فقالت: بقرية الملاحين خارج المدينة فقال لها: أنا أذهب معك إليه فقالت: والله ما عندي شيء أعطيك إياه فقال لها: لا آخذ منك شيئا ثم قال لها: اذهبي إلى القرية وانتظريني خارجها، فإني على أثرك. فذهبت كما أمرها وانتظرته، فوصل إليها وليس معه أحد، وكانت عادته أن لا يدع أحدا يتبعه فجاءت به إلى منزل زوجها فلما رآه قال: ما هذا الشيخ النحس الذي معك ? فقال له: نعم والله أنا كذلك، ولكن أرض زوجتك. فلما طال الكلام، جاء الناس فعرفوا القاضي وسلموا عليه وخاف ذلك الرجل وخجل فقال له القاضي: لا عليك أصلح ما بينك وبين زوجتك فأرضاها الرجل من نفسه وأعطاهما القاضي نفقة ذلك اليوم وانصرف.

صفحة : 113

لقيت هذا القاضي وأضافني بداره ثم رحلت عائدا إلى بغداد فوصلت إلى مدينة الموصل التي ذكرناها، فوجدت ركبها بخارجها متوجهين إلى بغداد، وفيهم امرأة صالحة عابدة تسمى بالست زاهدة، وهي من ذرية الخلفاء، حجت مرارا، وهي ملازمة الصوم سلمت عليها، وكنت في جوارها، ومعها جملة من الفقراء يخدمونها، وفي هذه الوجهة توفيت رحمة الله عليها وكانت وفاتها بزرود، ودفنت هنالك، ثم وصلنا إلى مدينة بغداد، فوجدت الحاج في أهبة الرحيل، فقصدت أميرها معروف خواجة فطلبت منه ما أمر لي به السلطان. فعين لي شقة محارة وزاد أربعة من الرجال وماءهم، وكتب لي بذلك ووجه إلى أمير الركب البهلوان محمد الحويح فأوصاه بي. وكانت المعرفة بيني وبينه متقدمة، فزادها تأكيدا، ولم أزل في جواره وهو يحسن إلي ويزيدني على ما أمر به، وأصابني عند خروجنا من الكوفة إسهال فكانوا ينزلونني من أعلى المحمل مرات كثيرة في اليوم، والأمير يتفقد حالي ويوصي بي ولم أزل مريضا حتى وصلت مكة حرم الله تعالى، زادها الله شرفا وتعظيما، وطفت بالبيت الحرام كرمه الله تعالى طواف القدوم، وكنت ضعيفا بحيث أؤدي المكتوبة قاعدا فطفت وسعيت بين الصفا والمروة راكبا على فرس الأمير الحويح المذكور، ووقفنا تلك السنة يوم الإثنين فلما نزلنا منى أخذت في الراحة والاستقلال من مرضي، ولما انقضى الحاج أقمت مجاورا بمكة تلك السنة. وكان بها الأمير علاء الدين بن هلال مشيد مشد الدواوين مقيما لعمارة دار الوضوء بظاهر العطارين من باب ابن شيبة وجاور في تلك السنة من المصريين جماعة من كبرائهم منهم تاج الدين بن الكويك ونور الدين القاضي وزين الدين بن الأصيل وابن الخليلي وناصر الدين الأسيوطي. وسكنت تلك السنة بالمدرسة المظفرية، وعافاني الله من مرضي، فكنت في أنعم عيش، وتفرغت للطواف والعبادة والاعتمار، وأتى في أثناء تلك السنة حجاج الصعيد، وقدم معهم الشيخ الصالح نجم الدين الأصفهوني ، وهي أول حجة حجها، والأخوان علاء الدين علي وسراج الدين عمر ابنا القاضي الصالح نجم الدين البالسي قاضي مصر، وجماعة غيرهم، في منتصف ذي القعدة وصل الأمير سيف الدين يلملك، وهو من الفضلاء، ووصل في صحبته جماعة من أهل طنجة بلدي حرسها الله، منهم الفقيه أبو عبد الله بن عطاء الله والفقيه أبو محمد عبيد الله الحضري والفقيه أبو عبد الله المرسي، وأبو العباس ابن الفقيه أبي علي البلنسي وأبو محمد ابن القابلة وأبو الحسن البياري وأبو العباس بن نافوت وأبو الصبر أيوب الفخار وأحمد بن حكامه ومن أهل القصر المجاز الفقيه أبو زيد عبد الرحمن ابن القاضي أبي العباس بن خلوف ومن أهل القصر الكبير الفقيه أبو محمد ابن مسلم وأبو إسحاق إبراهيم بن يحيى وولده. ووصل في تلك السنة الأمير سيف الدين تقزدمور من الخاصكية والأمير موسى بن قرمان والقاضي فخر الدين ناظر الجيش وكاتب المماليك والتاج أبو إسحاق والست حدق مربية الملك الناصر. وكانت لهم صدقات عميمة بالحرم الشريف، وأكثرهم صدقة القاضي فخر الدين، وكانت وقفتنا في تلك السنة في يوم الجمعة من سنة ثمان وعشرين، ولما انقضى الحج أقمت مجاورا بمكة حرسها الله سنة تسع وعشرين، وفي هذه السنة وصل أحمد بن الأمير رميثة ومبارك ابن الأمير عطيفة من العراق صحبة الأمير محمد الحويح والشيخ زاده الحرباوي والشيخ دانيال، وأتوا بصدقات عظيمة للمجاورين وأهل مكة من قبل السلطان أبي سعيد ملك العراق، وفي تلك السنة ذكر اسمه في الخطبة بعد ذكر الملك الناصر، ودعوا له بأعلى قبة زمزم، وذكروا بعده سلطان اليمن الملك المجاهد نور الدين ولم يوافق الأمير عطيفة على ذلك، وبعث شقيقه منصورا ليعلم الملك الناصر بذلك فأمر رميثة برده فرد، فبعثه ثانية على طريق جدة حتى أعلم الملك الناصر بذلك ووقفنا تلك السنة، وهي سنة تسع وعشرين يوم الثلاثاء، ولما انقضى الحج أقمت مجاورا بمكة حرسها الله سنة ثلاثين. وفي موسمها وقعت الفتنة بين أمير مكة عطيفة وبين أيدمور أمير جندار الناصري وسبب ذلك أن تجارا من أهل اليمن سرقوا، فتشكوا إلى أيدمور بذلك، فقال أيدمور لمبارك ابن الأمير عطيفة: إئت بهؤلاء السراق، فقال: لا أعرفهم فكيف نأتي بهم، وبعد فأهل اليمن تحت حكمنا ولا حكم لك عليهم، إن سرق لأهل مصر والشام شيء فاطلبني به فشتمه أيدمور وقال له:

صفحة : 114

يا قواد تقول لي هكذا، وضربه على صدره فسقط، ووقعت عمامته عن رأسه وغضب له عبيدة وركب أيدمور يريد عسكره، فلحقه مبارك وعبيدة فقتلوه وقتلوا ولده. ووقعت الفتنة بالحرم، وكان به الأمير أحمد ابن عم الملك الناصر، ورمى الترك بالنشاب، فقتلوا امرأة قيل: إنها كانت تحرض أهل مكة على القتال، وركب من ركب من الأتراك، وأميرهم خاص ترك، فخرج إليهم القاضي والأئمة والمجاورين وفوق رؤوسهم المصاحف، وحاولوا الصلح، ودخل الحجاج مكة فأخذوا ما لهم بها وانصرفوا إلى مصر، وبلغ الخبر إلى الملك الناصر فشق عليه، وبعث العساكر إلى مكة ففر الأمير عطيفة وابنه مبارك، وخرج أخوه رميثة وأولاده إلى وادي نخلة، فلما وصل العسكر إلى مكة بعث الأمير رميثة أحد أولاده يطلب له الأمان، ولولده، فأمنوا وأتى رميثة وكفنه في يده إلى الأمير، فخلع عليه، وسلمت إليه مكة، وعاد العسكر إلى مصر وكان الملك الناصر رحمه الله حليما فاضلا فخرجت تلك الأيام من مكة قاصدا بلاد اليمن فوصلت إلى حده، بالحاء المهمل المفتوح وهي نصف الطريق بين مكة وجدة بالجيم المضموم ثم وصلت إلى جدة، وهي بلدة قديمة على ساحل البحر يقال: انها من عمارة الفرس، وبخارجها مصانع قديمة، وبها جباب للماء منقورة في الحجر الصلد، يتصل بعضها ببعض، تفوت الاحصاء كثرة، وكانت هذه السنة قليلة المطر، وكان الماء يجلب إلى جدة على مسيرة يوم وكان الحجاج يسألون الماء من أصحاب البيوت.ا قواد تقول لي هكذا، وضربه على صدره فسقط، ووقعت عمامته عن رأسه وغضب له عبيدة وركب أيدمور يريد عسكره، فلحقه مبارك وعبيدة فقتلوه وقتلوا ولده. ووقعت الفتنة بالحرم، وكان به الأمير أحمد ابن عم الملك الناصر، ورمى الترك بالنشاب، فقتلوا امرأة قيل: إنها كانت تحرض أهل مكة على القتال، وركب من ركب من الأتراك، وأميرهم خاص ترك، فخرج إليهم القاضي والأئمة والمجاورين وفوق رؤوسهم المصاحف، وحاولوا الصلح، ودخل الحجاج مكة فأخذوا ما لهم بها وانصرفوا إلى مصر، وبلغ الخبر إلى الملك الناصر فشق عليه، وبعث العساكر إلى مكة ففر الأمير عطيفة وابنه مبارك، وخرج أخوه رميثة وأولاده إلى وادي نخلة، فلما وصل العسكر إلى مكة بعث الأمير رميثة أحد أولاده يطلب له الأمان، ولولده، فأمنوا وأتى رميثة وكفنه في يده إلى الأمير، فخلع عليه، وسلمت إليه مكة، وعاد العسكر إلى مصر وكان الملك الناصر رحمه الله حليما فاضلا فخرجت تلك الأيام من مكة قاصدا بلاد اليمن فوصلت إلى حده، بالحاء المهمل المفتوح وهي نصف الطريق بين مكة وجدة بالجيم المضموم ثم وصلت إلى جدة، وهي بلدة قديمة على ساحل البحر يقال: انها من عمارة الفرس، وبخارجها مصانع قديمة، وبها جباب للماء منقورة في الحجر الصلد، يتصل بعضها ببعض، تفوت الاحصاء كثرة، وكانت هذه السنة قليلة المطر، وكان الماء يجلب إلى جدة على مسيرة يوم وكان الحجاج يسألون الماء من أصحاب البيوت.

صفحة : 115

حكاية

ومن غريب ما اتفق لي بجدة أنه وقف على بابي سائل أعمى يطلب الماء يقوده غلام، فسلم علي وسماني باسمي وأخذ بيدي، ولم أكن عرفته قط، ولا عرفني فعجبت من شأنه ثم أمسك أصبعي بيده وقال: أين الفتخة ? وهي الخاتم وكنت حين خروجي من مكة لقيني بعض الفقراء وسألني، ولم يكن عندي في ذلك الحين شيء فدفعت له خاتمي. فلما سألني عنه هذا الأعمى قلت له: أعطيته لفقير. فقال: ارجع في طلبه فإن فيه أسماء مكتوبة فيها سر من الأسرار فطال تعجبي منه ومن معرفته بذلك، والله أعلم بحاله، وبجدة جامع يعرف بجامع الآبنوس، معروف البركة يستجاب به الدعاء، وكان الأمير بها أبا يعقوب بن عبد الرزاق، وقاضيها وخطيبها الفقيه عبد الله من أهل مكة شافعي المذهب، وإذا كان يوم الجمعة واجتمع الناس للصلاة أتى المؤذن، وعد أهل جدة المقيمين بها فإن أكملوا أربعين خطب وصلى بهم الجمعة، وإن لم يبلغ عددهم أربعين صلى ظهرا أربعا، ولا يعتبر من ليس من أهلها وإن كانوا عددا كثيرا. ثم ركبنا البحر من جدة في مركب يسمونه الجلبة وكان لرشيد الدين الألفي اليمني الحبشي الأصل، وركب الشريف منصور ابن أبي نمي في جلبة أخرى، ورغب مني أن أكون معه فلم أفعل، لكونه كان معه في جلبته الجمال فخفت من ذلك، ولم أكن ركبت البحر قبلها وكان هنالك جملة من أهل اليمن قد جعلوا زوادهم وأمتعتهم في الجلب وهم متأهبون للسفر.

حكاية

ولما ركبنا البحر أمر الشريف منصور أحد غلمانه أن يأتيه بعديلة دقيق، وهي نصف حمل وبطة سمن، يأخذهما من جلب أهل اليمن. فأخذهما وأتى بهما إليه، فأتاني التجار باكين، وذكروا إلى أن في جوف تلك العديلة عشرة آلاف درهم نقرة، ورغبوا مني أن أكلمه في ردها، وأن يأخذ سواها، فأتيته وكلمته في ذلك وقلت له: إن للتجار في جوف هذه العديلة شيئا، فقال: إن كان سكرا فلا أرده إليهم، وإن كان سوى ذلك فهو لهم، ففتحوها ووجدوا الدراهم، فردها عليهم وقال لي: لو كان عجلان ما ردها وعجلان هو ابن أخيه رميثة، وكان قد دخل في تلك الأيام دار تاجر من أهل دمشق قاصدا لليمن، فذهب بمعظم ما كان فيها، وعجلان هو أمير مكة على هذا العهد، وقد صلح حاله، وأظهر العدل والفضل. ثم سافرنا في هذا البحر بالريح الطيبة يومين، وتغيرت الريح بعد ذلك وصدتنا عن السبيل التي قصدناها، ودخلت أمواج البحر معنا في المركب، واشتد الميد بالناس ، ولم نزل في أهوال حتى خرجنا في مرسى يعرف برأس دوائر، فيما بين عيذاب وسواكن فنزلنا به، ووجدنا بساحله عريش قصب على هيئة مسجد، وبه كثير من قشور بيض النعام مملوءة ماء فشربنا منه، وطبخنا ورأيت في ذلك المرسى عجبا، وهو خور مثل الوادي يخرج من البحر، فكان الناس يأخذون الثوب ويمسكون بأطرافه ويخرجون به، وقد امتلأ سمكا، كل سمكة منها قدر الذراع، ويعرفونه بالبوري فطبخ منه الناس كثيرا واشتروا وقصدت إلينا طائفة من البجاة، وهم سكان تلك الأرض سود الألوان، لباسهم الملاحف الصفر، ويشدون على رؤوسهم عصائب حمرا، عرض الأصبع، وهم أهل نجدة وشجاعة، وسلاحهم الرماح والسيوف، ولهم جمال يسمونها الصهب، يركبونها بالسروج فاكترينا منهم الجمال، وسافرنا معهم في برية كثيرة الغزلان، والبجاة لا يأكلونها وهي تأنس بالآدمي ولا تنفر منه. وبعد يومين من مسيرنا وصلنا إلى حي من العرب يعرفون بأولاد كاهل، مختلطين بالبجاة، عارفين بلسانهم، وفي ذلك اليوم وصلنا إلى جزيرة سواكن، وهي على نحو ستة أميال من البر، ولا ماء بها ولا زرع ولا شجر، والماء يجلب إليها في القوارب، وفيها صهاريج يجتمع بها ماء المطر، وهي جزيرة كبيرة، وبها لحوم النعام والغزلان وحمر الوحش، والمعزى عندهم كثير والألبان والسمن ومنها يجلب إلى مكة وحبوبهم الجرجور، وهو نوع من الذرة كبير الحب يجلب منها أيضا إلى مكة.

صفحة : 116

ذكر سلطان سواكن

وكان سلطان جزيرة سواكن حين وصولي إليها الشريف زيد بن أبي نمي، وأبوه أمير مكة، وأخواه أميراها بعده، وهما عطيفة ورميثة اللذان تقدم ذكرهما وصارت إليه من قبل البجاة، فإنهم أخواله ومعه عسكر من البجاة، وأولاده كاهل وعرب جهينة وركبنا البحر من جزيرة سواكن نريد أرض اليمن، وهذا البحر لا يسافر فيه بالليل لكثرة أحجاره، وإنما يسافرون فيه من طلوع الشمس إلى غروبها ويرسون وينزلون إلى البر فإذا كان الصباح صعدوا إلى المركب وهم يسمون رئيس المركب الربان ولا يزال أبدا في مقدم المركب، ينبه صاحب السكان على الأحجار ، وهم يسمونها النبات. وبعد ستة أيام من خروجنا عن جزيرة سواكن وصلنا إلى مدينة حلي وضبط اسمها بفتح الحاء المهمل وكسر اللام وتخفيفها ، وتعرف باسم ابن يعقوب وكان من سلاطين اليمن ساكنا بها قديما وهي كبيرة حسنة العمارة، يسكنها طائفتان من العرب، وهم بنو حرام وبنو كنانة وجامع هذه المدينة من أحسن الجوامع، وفيه جماعة من الفقراء المنقطعين إلى العبادة منهم الشيخ الصالح العابد الزاهد قبولة الهندي، من كبار الصالحين لباسه مرقعة وقلنسوة لبد، وله خلوة متصلة بالمسجد، فرشها الرمل، لا حصير بها ولا بساط، ولم أر بها حين لقائي له شيئا إلا إبريق الوضوء، وسفرة من خوص النخيل فيها كسر شعير يابسة، وصحيفة فيها ملح وسعتر فإذا جاءه أحد قدم بين يديه ذلك، ويسمع به أصحابه، فيأتي كل واحد منهم بما حضر من غير تكلف شيء وإذا صلوا العصر اجتمعوا للذكر بين يدي الشيخ إلى صلاة المغرب وإذا صلوا المغرب أخذ كل واحد منهم موقفه للتنفل، فلا يزالون كذلك إلى صلاة العشاء الآخرة، فإذا صلوا العشاء الآخرة أقاموا على الذكر إلى ثلث الليل ثم انصرفوا ويعودون في أول الثلث الثالث إلى المسجد فيتهجدون إلى الصبح، ثم يذكرون إلى أن تحين صلاة الإشراق، فينصرفون بعد صلاتها ومنهم من يقيم إلى أن يصلي صلاة الضحى بالمسجد وهذا دأبهم، أبدا، ولقد كنت أردت الإقامة معهم باقي عمري، ولم أوفق لذلك والله تعالى يتداركنا بلطفه وتوفيقه.

صفحة : 117

ذكر سلطان حلي

وسلطانها عامر بن ذؤيب من بنى كنانة، وهو من الفضلاء الأدباء الشعراء. صحبته من مكة إلى جدة، وكان قد حج في سنة ثلاثين. ولما قدمت مدينته أنزلني وأكرمني، وأقمت في ضيافته أياما. وركبت البحر في مركب له فوصلت إلى بلدة السرجة وضبط اسمها بفتح السين المهمل وإسكان الراء وفتح الجيم ، بلدة صغيرة يسكنها جماعة من أولاد الهلبي، وهم طائفة من تجار اليمن، أكثرهم ساكنون بصنعاء ولهم فضل وكرم وإطعام لأبناء السبيل، ويعينون الحجاج، ويركبونهم في مراكبهم، ويزودونهم من أموالهم. وقد عرفوا بذلك واشتهروا به. وكثر الله أموالهم، وزادهم من فضله، وأعانهم على فعل الخير. وليس بالأرض من يماثلهم في ذلك إلا الشيخ بدر الدين النقاش الساكن ببلدة القحمة، فله مثل ذلك من المآثر والإيثار. وأقمنا بالسرجة ليلة واحدة في ضيافة المذكورين، ثم رحلنا إلى مرسى الحادث ولم ننزل به، ثم إلى مرسى الأبواب، ثم إلى مدينة زبيد، مدينة عظيمة باليمن بينها وبين صنعاء أربعون فرسخا، وليس باليمن بعد صنعاء أكبر منها، ولا أغنى من أهلها، واسعة البساتين كثيرة المياه والفواكه من الموز وغيره. وهي برية لا شطية إحدى قواعد بلاد اليمن وهي بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة مدينة كبيرة كثيرة العمارة، بها النخل والبساتين والمياه، أملح بلاد اليمن وأجملها، ولأهلها لطافة الشمائل وحسن الأخلاق وجمال الصور، ولنسائها الحسن الفائق الفائت، وهي وادي الخصيب الذي يذكر في بعض الآثار أن رسول الله ﷺ قال لمعاذ في وصيته: يا معاذ إذا جئت وادي الخصيب فهرول ولأهل هذه المدينة سبوت النخل المشهورة، وذلك لأنهم يخرجون في أيام البسر والرطب في كل سبت إلى حدائق النخل، ولا يبقى بالمدينة أحد من اهلها ولا من الغرباء، ويخرج أهل الطرب أهل الأسواق لبيع الفواكه والحلاوات، وتخرج النساء ممتطيات الجمال في المحامل، ولهن مع ما ذكرناه من الجمال الفائق، الأخلاق الحسنة والمكارم. وللغريب عندهن مزية، ولا يمتعن من تزوجه كما يفعله نساء بلادنا. فإذا أراد السفر خرجت معه وودعته، وإن كان بينهما ولد فهي تكفله وتقوم بما يجب له إلى ان يرجع أبوه، ولا تطالبه في أيام الغيبة بنفقة ولا كسوة ولا سواها. وإذا كان مقيما فهي تقنع منه بقليل النفقة والكسوة. لكنهن لا يخرجن عن بلدهن أبدا، ولو أعطيت إحداهن ما عسى أن تعطاه على أن تخرج من بلدها لم تفعل. وعلماء تلك البلاد وفقهاؤها أهل صلاح ودين وأمانة ومكارم وحسن خلق. لقيت بمدينة زبيد الشيخ العالم الصالح أبا محمد الصنعاني، والفقيه الصوفي المحقق أبا العباس الإبياني، والفقيه المحدث أبا علي الزبيدي. ونزلت في جوارهم فأكرموني وأضافوني ودخلت حدائقهم، واجتمعت عند بعضهم بالفقيه القاضي العالم أبي زيد عبد الرحمن الصوفي أحد فضلاء اليمن. ووقع عنده ذكر العابد الزاهد الخاشع أحمد بن العجيل اليمني، وكان من كبار الرجال وأهل الكرامات.

صفحة : 118

كرامة

ذكروا أن فقهاء الزيدية وكبراءهم أتوا مرة إلى زيارة الشيخ أحمد بن العجيل، فجلس لهم خارج الزاوية، واستقبلهم أصحابه. ولم يبرح الشيخ عن موضعه، فسلموا عليه، وصافحهم ورحب بهم. ووقع بينهم الكلام في مسألة القدر. وكانوا يقولون أن لا قدر، وأن المكلف يخلق أفعاله. فقال لهم الشيخ فإن كان الأمر على ما تقولون فقوموا عن مكانكم هذا. فأرادوا القيام فلم يستطيعوا. وتركهم الشيخ على حالهم ودخل الزاوية. وأقاموا كذلك، واشتد بهم الحر، ولحقهم وهج الشمس، وضجوا مما نزل بهم. فدخل أصحاب الشيخ إليه وقالوا له إن هؤلاء القوم قد تابوا إلى الله، ورجعوا عن مذهبهم الفاسد، فخرج عليهم الشيخ، فأخذ بأيديهم وعاهدهم على الرجوع إلى الحق وترك مذهبهم السيء وأدخلهم زاويته، فأقاموا في ضيافته ثلاثا وانصرفوا إلى بلادهم. وخرجت لزيارة قبر هذا الرجل الصالح، وهو بقرية يقال لها: غسانة خارج زبيد. ولقيت ولده الصالح أبا الوليد إسماعيل، فأضافني وبت عنده، وزرت ضريح الشيخ، وأقمت معه ثلاثا. وسافرت في صحبته إلى زيارة الفقيه أبي الحسن الزيلعي، وهو من كبار الصالحين، ويقدم عليه حجاج اليمن إذا توجهوا للحج. وأهل تلك البلاد وأعرابها يعظمونه ويحترمونه. فوصلنا إلى جبلة، وهي بلدة صغيرة حسنة ذات نخل وفواكه وأنهار. فلما سمع الفقيه أبو الحسن الزيلعي بقدوم الشيخ أبي الوليد استقبله وأنزله بزاويته وسلمت عليه معه. وأقمنا عنده ثلاثة أيام في خير مقام، ثم انصرفنا. وبعث معنا أحد الفقراء، فتوجهنا إلى مدينة تعز حضرة ملك اليمن وضبط اسمها بفتح التاء المعلوة وكسر العين المهملة وزاء، وهي من أحسن مدن اليمن وأعظمها، وأهلها ذوو تجبر وتكبر وفظاظة. وكذلك الغالب على البلاد التي يسكنها الملوك. وهي ثلاث محلات: إحداها يسكنها السلطان ومماليكه وحاشيته وأرباب دولته وتسمى باسم لا أذكره، والثانية يسكنها الأمراء والأجناد وتسمى عدينة، والثالثة يسكنها عامة الناس وبها السوق العظمى وتسمى المحالب.

صفحة : 119

ذكر سلطان اليمن

وهو السلطان المجاهد نور الدين علي ابن السلطان المؤيد هزبر الدين داود ابن السلطان المظفر يوسف بن علي بن رسول، شهر جده برسول لأن أحد خلفاء بني العباس أرسله إلى اليمن ليكون بها أميرا، ثم استقل أولاده بالملك وله ترتيب عجيب في قعوده وركوبه. وكنت لما وصلت هذه المدينة مع الفقير الذي يعثه الشيخ الفقيه أبو الحسن الزيلعي في صحبتي قصد بي إلى قاضي القضاة الإمام المحدث صفي الدين الطبري المكي، فسلمنا عليه ورحب بنا وأقمنا بداره في ضيافته ثلاثا. فلما كان اليوم الرابع وهو يوم الخميس وفيه يجلس السلطان لعامة الناس، دخل بي عليه فسلمت عليه، وكيفية السلام عليه أن يمس الإنسان الأرض بسبابته، ثم يرفعها إلى رأسه، ويقول: أدام الله عزك. ففعلت كمثل ما فعله القاضي عن يمين الملك، وأمرني فقعدت بين يديه. فسألني عن بلادي وعن مولانا أمير المسلمين جواد الأجواد أبي سعيد رضي الله عنه، وعن ملك مصر وملك العراق وملك اللور، فأجبته عما سأل من أحوالهم، وكان وزيره بين يديه، فأمره بإكرامي وإنزالي. وترتيب قعود هذا الملك أنه يجلس فوق دكانه مفروشة مزينة بثياب الحرير، وعن يمينه ويساره أهل السلاح، ويليه منهم أصحاب السيوف والدرق، ويليهم أصحاب القسي، وبين أيديهم في الميمنة والميسرة الحاجب وأرباب الدولة وكاتب السر وأمير جندار على رأسه، والشاويشية، وهم من الجنادرة وقوف على بعد. فإذا قعد السلطان صاحوا صيحة وحدة: بسم الله. فإذا قاموا فعلوا مثل ذلك، فيعلم جميع من بالمشور وقت قيامه ووقت قعوده. فإذا استوى قاعدا كل من عادته أن يسلم عليه فسلم ووقف حيث رسم له في الميمنة أو الميسرة، لا يتعدى أحد موضعه، ولا يقعد إلا من أمر بالقعود. يقول السلطان للأمير جندار مر فلانا يقعد، فيتقدم ذلك المأمور بالقعود عن موقفه قليلا، ويقعد على بساط هناك بين أيدي القائمين في الميمنة والميسرة، ثم يؤتى بالطعام، وهو طعامان طعام العامة وطعام الخاصة. فأما الطعام الخاص فيأكل منه السلطان وقاضي القضاة والكبار من الشرفاء ومن الفقهاء والضيوف، وأما الطعام العام فيأكل منه سائر الشرفاء والفقهاء والقضاة والمشايخ والأمراء ووجوه الأجناد. ومجلس كل إنسان للطعام معين لا يتعداه ولا يزاحم أحد منهم أحدا. وعلى مثل هذا الترتيب سواء هو ترتيب ملك الهند في طعامه. فلا أعلم أن سلاطين الهند أخذوا ذلك عن سلاطين اليمن أم سلاطين اليمن أخذوه عن سلاطين الهند. وأقمت في ضيافة سلطان اليمن أياما، وأحسن إلي وأركبني، وانصرفت مسافرا إلى مدينة صنعاء، وهي قاعدة بلاد اليمن الأولى. مدينة كبيرة حسنة العمارة، بناؤها بالآجر والجص، كثيرة الأشجار والفواكه والزرع، معتدلة الهواء طيبة الماء ومن الغريب أن المطر ببلاد الهند واليمن والحبشة إنما ينزل في أيام القيظ، وأكثر ما يكون نزوله بعد الظهر من كل يوم في ذلك الأوان. فالمسافرون عند الزوال لئلا يصيبهم المطر وأهل المدينة ينصرفون إلى منازلهم لأن أمطارها وابلة متدفقة، والمدينة مفروشة كلها. فإذا نزل المطر غسل جميع أزقتها وأنقاها. وجامع صنعاء من أحسن الجوامع، وفيه قبر نبي من الأنبياء عليهم السلام. ثم سافرت منها إلى مدينة عدن، مرسى بلاد اليمن، على ساحل البحر الأعظم. والجبال تحف بها ولا مدخل إليها إلا من جانب واحد؛ وهي مدينة كبيرة، ولا زرع بها ولا شجر ولا ماء، وبها صهاريج يجتمع فيها الماء أيام المطر. والماء على بعد منها، فربما منعته العرب وحالوا بين أهل المدينة وبينه حتى يصانعونهم بالمال والثياب. وهي شديدة الحر. وهي مرسى أهل الهند. تأتي إليها المراكب العظيمة من كنبايت وتانه وكولم وقالقوط وفندراينه والشاليات ومنجرور وفاكنور وهنور وسندابور وغيرها، وتجار الهند ساكنون بها، وتجار مصر أيضا. وأهل عدن ما بين تجار وحمالين وصيادين للسمك. وللتجار منهم أموال عريضة، وربما يكون لأحدهم المركب العظيم بجميع ما فيه لا يشاركه فيه غيره لسعة ما بين يديه من الأموال، ولهم في ذلك تفاخر ومباهاة.

صفحة : 120

حكاية

ذكر لي أن بعضهم بعث غلاما له ليشتري له كبشا، وبعث آخر منهم غلاما له برسم ذلك أيضا، فاتفق أنه لم يكن بالسوق في ذلك اليوم إلا كبش واحد. فوقعت المزايدة فيه بين الغلامين، فأنهى ثمنه إلى أربعمائة دينار. فأخذه أحدهما وقال: إن رأس مالي أربعمائة دينار، فإن أعطاني مولاي ثمنه فحسن، وإلا دفعت فيه رأس مالي ونصرت نفسي وغلبت صاحبي، وذهب الكبش إلى سيده بالقضية أعتقه وأعطاه ألف دينار، وعاد الآخر إلى سيدة خائبا فضربه وأخذ ماله ونفاه عنه. ونزلت في عدن عند تاجر يعرف بناصر الدين الفأري. فكان يحضر طعامه كل ليلة نحو عشرين من التجار. وله غلمان وخدام أكثر من ذلك. مع هذا كله فهم أهل دين وتواضع وصلاح ومكارم أخلاق، يحسنون إلى الغريب ويؤثرون الفقير ويعطون حق الله من الزكاة على ما يجب، ولقيت بهذه المدينة قاضيها الصالح سالم بن عبد الله الهندي، وكان والده من العبيد الحمالين. واشتغل ابنه بالعلم، فرأس وساد. وهو من خيار القضاة وفضلائهم. أقمت في ضيافته أياما، وسافرت من مدينة عدن في البحر أربعة أيام، ووصلت إلى مدينة زيلع وهي مدينة البرابرة، وهم طائفة من السودان شافعية المذهب، وبلادهم صحراء مسيرة شهرين. أولها زيلع، وآخرها مقدشو. ومواشيهم الجمال، وهي أغنام مشهورة السمن. وأهل زيلع سود الألوان، وأكثرهم رافضة. وهي مدينة كبيرة لها سوق عظيمة، إلا أنها أقذر مدينة في المعمور وأوحشها وأكثرها نتنا. وسبب نتنها كثرة سمكها ودماء الإبل التي ينحرونها في الأزقة. ولما وصلنا إليها اخترنا المبيت بالبحر على شدة هوله، ولم نبت بها لقذرها. ثم سافرنا منها في البحر خمس عشرة ليلة ووصلنا مقدشو وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان القاف وفتح الدال المهمل والشين المعجم وإسكان الواو ، وهي مدينة متناهية في الكبر، وأهلها لهم جمال كثيرة ينحرون منها المئين في كل يوم. ولهم أغنام كثيرة، وأهلها تجار أقوياء، وبها تصنع الثياب المنسوبة إليها التي لا نظير لها. ومنه تحمل إلى ديار مصر وغيرها. ومن عادة أهل هذه المدينة أنه متى وصل مركب إلى المرسى تصعد الصنابق، وهي القوارب الصغار إليه. ويكون في كل صنبوق جماعة من شبان أهلها، فيأتي كل واحد منهم بطبق مغطى فيه الطعام، فيقدمه لتاجر من تجار المركب، ويقول: هذا نزيلي. وكذلك يفعل كل واحد منهم. ولا ينزل التاجر من المركب إلا إلى دار نزيله من هؤلاء الشبان إلا ما كان كثير التردد إلى البلد، وحصلت له معرفة أهله، فإنه ينزل حيث شاء. فإذا نزل عند نزيله باع له ما عنده واشترى له، ومن اشترى منه ببخس أو باع منه بغير حضور نزيله، فذلك البيع مردود عندهم. ولهم منتفعة في ذلك. ولما صعد الشبان إلى المركب الذي كنت فيه جاء إلي بعضهم فقال له أصحابي: ليس هذا بتاجر، وإنما هو فقيه. فصاح بأصحابه وقال لهم: هذا نزيل القاضي، وكان فيها أحد أصحاب القاضي فعرفه بذلك، فأتى إلى ساحل البحر في جملة من الطلبة، وبعث إلي أحدهم. فنزلت أنا وأصحابي وسلمت على القاضي وأصحابه، وقال لي: بسم الله نتوجه للسلام على الشيخ. فقلت: ومن الشيخ ? فقال: السلطان. وعادتهم أن يقولوا للسلطان الشيخ. فقلت له: إذا نزلت توجهت إليه. فقال لي: إن العادة إذا جاء الفقيه أو الشريف أو الرجل الصالح لا ينزل حتى يرى السلطان فذهبت معهم إليه كما طلبوا.

صفحة : 121

ذكر سلطان مقديشو

وسلطان مقديشو كما ذكرناه، إنما يقولون له الشيخ، واسمه أبو بكر ابن الشيخ عمر. وهو في الأصل من البرابرة، وكلامه بالمقدشي، ويعرف اللسان العربي. ومن عوائده أنه متى وصل مركب، يصعد إليه صنبوق السلطان، فيسأل عن المركب من أين قدم ومن صاحبه ومن ربانه وهو الرئيس وما وسقه ومن قدم فيه من التجار وغيرهم، فيعرف بذلك كله، ويعرض على السلطان. فمن استحق أن ينزل عنده أنزله. ولما وصلت مع القاضي المذكور، وهو يعرف بابن البرهان، المصري الأصل، إلى دار السلطان، خرج بعض الفتيان فسلم على القاضي، فقال له: بلغ الأمانة. وعرف مولانا الشيخ أن هذا الرجل قد وصل من أرض الحجاز. فبلغ، ثم عاد وأتى بطبق فيه أوراق التنبول والفوفل، فأعطاني عشر أوراق مع قليل من الفوفل، وأعطى للقاضي كذلك، وأعطى لأصحابي ولطلبة القاضي ما بقي في الطبق، وجاء بقمقم من ماء الورد الدمشقي، فسكب علي وعلى القاضي، وقال: إن مولانا أمر أن ينزل بدار الطلبة، وهي دار معدة لضيافة الطلبة. فأخذ القاضي بيدي، وجئنا إلى تلك الدار، وهي بمقربة من دار الشيخ. مفروشة مرتبة بما تحتاج إليه. ثم أتي بالطعام من دار الشيخ، ومعه أحد وزرائه، وهو الموكل بالضيوف، فقال: مولانا يسلم عليكم، ويقول لكم قدمتم خير مقدم، ثم وضع الطعام، فأكلنا. وطعامهم الأرز المطبوخ بالسمن، يجعلونه في صفحة خشب كبيرة، ويجعلون فوقه صحاف الكوشان، وهو الإدام من الدجاج واللحم والحوت والبقول. ويطبخون الموز قبل نضجه في اللبن الحليب، ويجعلونه في صحفة، ويجعلون اللبن المروب في صحفة، ويجعلون عليه الليمون المصبر وعناقيد الفلفل المصبر المخلل والمملوح والزنجبيل الأخضر والعنب، وهي مثل التفاح ولكن لها نواة، وهي إذا نضجت شديدة الحلاوة، وتؤكل كالفاكهة، وقبل نضجها حامضة كالليمون يصبرونها في الخل. وهم إذا أكلوا لقمة من الأرز أكلوا بعدها من هذه الموالح والمخللات. والواحد من أهل مقديشو يأكل قدر ما تأكله الجماعة منا عادة لهم. وفي نهاية من ضخامة الأجسام وسمنها. ثم لما طعمنا انصرف عنا القاضي. وأقمنا ثلاثة أيام، يؤتى إلينا بالطعام ثلاث مرات في اليوم، وتلك عادتهم.

صفحة : 122

فلما كان اليوم الرابع، وهو يوم الجمعة، جاءني القاضي والطلبة وأحد وزراء الشيخ، وأتوني بكسوة. وكسوتهم فوطة خز يشدها الإنسان في وسطه عوض السراويل، فإنهم لا يعرفونها، ودراعة من المقطع المصري معلمة، وفرجية من القدسي مبطنة، وعمامة مصرية معلمة. وأتوا لأصحابي بكسى تناسبهم. وأتينا الجامع. فصلينا خلف المقصورة. فلما خرج الشيخ من باب المقصورة، سلمت عليه مع القاضي فرحب وتكلم بلسانهم مع القاضي، ثم قال باللسان العربي: قدمت خير مقدم وشرفت بلادنا وآنستنا. وخرج إلى صحن المسجد فوقف على قبر والده، وهو مدفون هنالك، فقرأ ودعا. ثم جاء الأمراء والوزراء ووجوه الأجناد فسلموا. وعادتهم في السلام كعادة أهل اليمن. يضع سبابته في الأرض ثم يجعلها على رأسه، ويقول: أدام الله عزك. ثم خرج الشيخ من باب المسجد، فلبس نعليه، وأمر القاضي أن ينتعل، وأمرني أن أنتعل، وتوجه إلى منزله ماشيا، وهو بالقرب من المسجد، ومشى الناس كلهم حفاة. ورفعت فوق رأسه أربع قباب من الحرير الملون، وعلى أعلى كل قبة صورة طائر من ذهب. وكان لباسه في ذلك اليوم فرجية قدسي أخضر، وتحتها من ثياب مصر وطروحاتها الحسان. وهو متقلد بفوطة حرير. وهو معتم بعمامة كبيرة. وضربت بين يديه الطبول والأبواق والأنفار. وأمراء الأجناد أمامه وخلف. والقاضي والفقهاء والشرفاء معه. ودخل إلى مشوره على تلك الهيئة. وقعد الوزراء والأمراء ووجوه الأجناد في سقيفة هنالك. وفرش للقاضي بساط لا يجلس معه غيره عليه، والفقهاء والشرفاء معه. ولم يزالوا كذلك إلى صلاة العصر. فلما صلوا العصر مع الشيخ، أتى جميع الأجناد، ووقفوا صفوفا على قدر مراتبهم. ثم ضربت الأطبال والأنفار والأبواق والصرنايات، وعند ضربها لا يتحرك أحد، ولا يتزحزح من مقامه، ومن كان ماشيا وقف، فلم يتحرك إلى خلف ولا إلى أمام، فإذا فرغ من ضرب الطبلخانة سلموا بأصابعهم كما ذكرناه، وانصرفوا. وتلك عادة لهم في كل يوم جمعة. وإذا كان يوم السبت يأتي الناس إلى باب الشيخ فيقعدون في سقائف خارج الدار، ويدخل القاضي والفقهاء والصالحون والمشايخ والحجاج إلى المشور الثاني، فيقعدون على دكاكين خشب معدة لذلك، ويكون القاضي على دكانه وحده، وكل صنف على دكانه تخصهم، لا يشاركهم فيها سواهم. ثم يجلس الشيخ بمجلسه، ويبعث إلى القاضي فيجلس عن يساره، ثم يدخل الفقهاء فيقعد كبراؤهم بين يديه، وسائرهم يسلمون وينصرفون، ثم يدخل الشرفاء، فيقعد كبراؤهم بين يديه، ويسلم سائرهم وينصرفون. وإن كانوا ضيوفا جلسوا عن يمينه، ثم يدخل المشايخ والحجاج، فيجلس كبراؤهم ويسلم سائرهم وينصرفون. ثم يدخل الوزراء ثم الأمراء ثم وجوه الأجناد، طائفة بعد طائفة أخرى، فيسلمون وينصرفون. ويؤتى بالطعام، فيأكل بين يدي الشيخ القاضي والشرفاء ومن كان قاعدا بالمجلس، ويأكل الشيخ معهم. وإن أراد تشريف أحد من كبار أمرائه بعث إليه فأكل معهم. ويأكل سائر الناس بدار الطعام، وأكلهم على ترتيب مثل ترتيبهم في الدخول على الشيخ. ثم يدخل الشيخ إلى داره، ويقصد القاضي والوزراء وكاتب السر وأربعة من كبار الأمراء للفصل بين الناس وأهل الشكايات، فما كان متعلقا بالأحكام الشرعية حكم فيه القاضي، وما كان من سوى ذلك حكم فيه أهل الشورى، وهم الوزراء والأمراء. وما كان مفتقرا إلى مشاورة السلطان كتبوا إليه، فيخرج لهم الجواب من حينه على ظهر البطاقة بما يقتضيه نظره وتلك عادتهم.

صفحة : 123

ثم ركبت من مدينة مقديشو متوجها إلى بلاد السواحل قاصدا مدينة كلوا من بلاد الزنوج. فوصلنا إلى جزيرة منبسى وضبط اسمها ميم مفتوح ونون مسكن وباء موحدة مفتوحة وسين مهمل مفتوح وياء وهي كبيرة، بينها وبين أرض السواحل مسيرة يومين في البحر ولا بر لها. وأشجارها: الموز والليمون والأترج. ولهم فاكهة يسمونها الجمون، وهي شبه الزيتون، ولها نوى كنواه، إلا أنها شديدة الحلاوة. ولا زرع عند أهل هذه الجزيرة، وإنما يجلب اليهم من السواحل. وأكثر طعامهم الموز والسمك. وهم شافعية المذهب أهل دين وعفاف وصلاح، ومساجدهم من الخشب محكمة الإتقان، وعلى كل باب من أبواب المساجد البئر والثنتان. وعمق آبارهم ذراع أو ذراعان، فيستقون منها الماء بقدح خشب، قد غرز فيه عود رقيق في طول الذراع. والأرض حول البئر والمسجد مسطحة، فمن أراد دخول المسجد غسل رجليه ودخل. ويكون على بابه قطعة حصير غليظ يمسح بها رجليه. ومن أراد الوضوء أمسك القدح بين فخذيه وصب على يديه. ويتوضأ. وجميع الناس يمشون حفاة الأقدام. وبتنا بهذه الجزيرة ليلة، وركبنا البحر إلى مدينة كلوا وضبط اسمها بضم الكاف واسكان اللام وفتح الواو، وهي مدينة عظيمة ساحلية، وأكثر أهلها الزنوج المستحكمو السواد. ولهم شرطات في وجوههم، كما هي في وجوه الليميين من جنادة. وذكر لي بعض التجار أن مدينة سفالة على مسيرة نصف شهر من مدينة كلوا، وأن بين سفالة ويوفي من بلاد الليميين مسيرة شهر، ومن يوفي يؤتى بالتبر إلى سفالة. ومدينة كلوا من أحسن المدن وأتقنها عمارة وكلها بالخشب. وسقف بيوتها الديس والأمطار بها كثيرة. وهم أهل جهاد لأنهم في بر واحد مع كفار الزنوج. والغالب عليهم الدين والصلاح، وهم شافعية المذهب.

ذكر سلطان كلوا

وكان سلطانها في عهد دخولي إليها أبو المظفر حسن. ويكنى أيضا أبا المواهب، لكثرة مواهبه ومكارمه. وكان كثير الغزو إلى أرض الزنوج، يغير عليهم ويأخذ الغنائم، فيخرج خمسها ويصرفه في مصارفه المعينة في كتاب الله تعالى، ويجعل نصيب ذوي القربى في خزانة على حدة. فإذا جاءه الشرفاء دفعه إليهم. وكان الشرفاء يقصدونه من العراق والحجاز وسواها. ورأيت عنده من شرفاء الحجاز جماعة منهم محمد بن جماز ومنصور بن لبيدة ابن أبي نمي ومحمد بن شميلة ابن أبي نمي. ولقيت بمقديشو أتيل بن كيش بن جماز، وهو يريد القدوم عليه. وهذا السلطان له تواضع شديد، ويجلس مع الفقراء ويأكل معهم، ويعظم أهل الدين والشرف.

حكاية من مكارمه

حضرته يوم جمعة وقد خرج من الصلاة قاصدا إلى داره، فتعرض له أحد الفقراء اليمنيين فقال له: أبا المواهب، فقال: لبيك يا فقير ما حاجتك ? قال: أعطني هذه الثياب التي عليك. فقال له: نعم، أعطيكها. قال: الساعة، قال: نعم، الساعة. فرجع إلى المسجد ودخل بيت الخطيب فلبس ثيابا سواها، وخلع تلك الثياب، وقال للفقير: أدخل فخذها، فدخل الفقير وأخذها وربطها في منديل وجعلها فوق رأسه وانصرف. فعظم شكر الناس للسلطان على ماظهر من تواضعه وكرمه، وأخذ ابنه ولي عهده تلك الكسوة من الفقير وعوضه عنها بعشرة من العبيد. وبلغ السلطان ما كان من شكر الناس له على ذلك فأمر للفقير أيضا بعشرة رؤوس من الرقيق وحملين من العاج. ومعظم عطاياهم من العاج، وقلما يعطون الذهب. ولما توفي هذا السلطان الفاضل الكريم رحمة الله عليه ولي أخوه داود فكان على الضد، إذا أتاه سائل يقول له: مات الذي كان يعطي، ولم يترك من بعده ما يعطي. ويقيم الوفود عنده الشهود الكثيرة، وحينئذ يعطيهم القليل، حتى انقطع الوافدون عن بابه. وركبنا البحر من كلوا إلى مدينة ظفار الحموض وضبط اسمها بفتح الظاء المعجم والفاء وآخره راء مبنية على الكسر، وهي آخر بلاد اليمن على ساحل البحر الهندي، ومنها تحمل الخيل العتاق إلى الهند. ويقطع البحر فيما بينها وبين بلاد الهند مع مساعدة الريح في شهر كامل، قد قطعته مرة في قالقوط من بلاد الهند إلى ظفار في ثمانية وعشرين يوما بالريح، ولم ينقطع لنا جري بالليل ولا بالنهار. وبين ظفار وعدن في البر مسيرة شهر في صحراء. وبينها وبين حضرموت ستة عشر يوما، وبينها وبين عمان عشرون يوما.

صفحة : 124

ومدين ظفار في صحراء لا قرية بها ولا عمالة لها، والسوق خارج المدينة بربض يعرف بالحرجاء، وهي من أقذر الأسواق وأشدها تنتا وأكثرها ذبابا، لكثرة ما يباع فيها من الثمرات والسمك. وأكثر سمكها النوع المعروف بالسردين، وهو بها في النهاية من السمن. ومن العجائب أن دوابهم إنما علفها من هذا السردين وكذلك غنمهم. ولم أر ذلك في سواها. وأكثر باعتها الخدم، وهن يلبسن السواد. وزرع أهلها الذرة، وهم يسقونها من آبار بعيدة الماء. وكيفية سقيهم أنهم يصنعون دلوا كبيرة، ويجعلون لها حبالا كثيرة، ويتحزم بكل حبل عبد أو خادم، ويجرون الدلو على عود كبير مرتفع عن البئر، ويصبونها في صهريج يسقون منه. ولهم قمح يسمونه العلس وهو في الحقيقة نوع من السلت، والأرز يجلب إليهم من بلاد الهند، وهو أكثر طعامهم. ودراهم هذه المدينة من النحاس والقصدير، ولا تنفق في سواها. وهم أهل تجارة لا عيش لهم إلا منها، ومن عاداتهم أنه إذا وصل مركب من الهند أو غيرها خرج عبيد السلطان إلى الساحل، وصعدوا في صنبوق إلى المركب، ومعهم الكسوة الكاملة لصاحب المركب أو وكيله، وللربان وهو الرئيس، وللكراني وهو كاتب المركب، ويؤتى إليهم بثلاثة أفراس فيركبونها، وتضرب أمامهم الأطبال والأبواق من ساحل البحر إلى دار السلطان فيسلمون على الوزير وأمير الجند، وتبعث الضيافة لكل من بالمركب ثلاثا، وبعد الثلاث يأكلون بدار السلطان. وهم يفعلون ذلك استجلابا لأصحاب المراكب. وهم أهل تواضع وحسن أخلاق وفضيلة ومحبة للغرباء، ولباسهم القطن، وهو يجلب إليهم من بلاد الهند ويشدون الفوط في أوساطهم عوضا عن السروال، وأكثرهم يشد فوطة في وسطه، ويجعل فوق ظهره أخرى من شدة الحر، ويغتسلون مرات في اليوم. وهي كثيرة المساجد. ولهم في كل مسجد مطاهر كثيرة معدة للاغتسال. ويصنع بها ثياب من الحرير والقطن والكتان حسان جدا. والغالب على أهلها رجالا ونساء المرض المعروف بداء الفيل، وهو انتفاخ القدمين. وأكثر رجالهم مبتلون بالأدر والعياذ بالله ومن عوايدهم الحسنة التصافح في المسجد إثر صلاة الصبح والعصر، يستند أهل الصف الأول إلى القبلة، ويصافحهم الذين يلونهم. وكذلك يفعلون بعد صلاة الجمعة، يتصافحون أجمعون. ومن خواص هذه المدينة وعجائبها أنه لا يقصدها أحد بسوء إلا عاد عليه مكروه وحيل بينه وبينها. وذكر لي أن السلطان قطب الدين تمتهن بن طوران شاه صاحب هرمز نازلها مرة من البر والبحر، فأرسل الله سبحانه عليه ريحا عاصفا كسرت مراكبه ورجع عن حصارها وصالح ملكها. وكذلك ذكر أن الملك المجاهد سلطان اليمن عين ابن عم له بعسكر كبير، برسم انتزاعها من يد ملكها، وهو أيضا ابن عمه، فلما خرج ذلك الأمير من داره سقط عليه حائط وعلى جماعة من أصحابه فهلكوا جميعا. ورجع الملك عن رأيه وترك حصارها وطلبها. ومن الغرائب أن أهل هذه المدينة أشبه الناس بأهل المغرب في شؤونهم. نزلت بدار الخطيب بمسجدها الأعظم، وهو عيسى بن علي، كبير القدر كريم النفس. فكان له جوار مسميات بأسماء خدام المغرب، إحداهن اسمها بخيتة والأخرى زاد المال. ولم أسمع هذه الأسماء في بلد سواها. وأكثر أهلها رؤوسهم مكشوفة، لا يجعلون عليها العمائم. وفي كل دار من دورهم سجادة الخوص، معلقة في البيت، يصلي عليها صاحب البيت، كما يفعل أهل المغرب وأكلهم الذرة. وهذا التشابه كله مما يقوي القول بأن صنهاجة وسواهم من قبائل المغرب أصلهم من حمير. وبقرب من هذه المدينة بين بساتينها زاوية الشيخ الصالح العابد أبي محمد بن أبي بكر بن عيسى، من أهل ظفار. وهذه الزاوية معظمة عندهم، يأتون إليها غدوا وعيشا، ويستجيرون بها. فإذا دخلها المستجير لم يقدر السلطان عليه. رأيت بها شخصا ذكر لي أن له بها مدة سنين مستجيرا لم يتعرض له السلطان.

صفحة : 125

وفي الأيام التي كنت بها استجار بها كاتب السلطان، وأقام فيها حتى وقع بينهما الصلح. أتيت هذه الزاوية، فبت بها في ضيافة الشيخين أبي العباس أحمد وأبي عبد الله محمد ابني الشيخ أبي بكر المذكور، وشاهدت لهما فضلا عظيما، ولما غسلنا أيدينا من الطعام أخذ أبو العباس منهما ذلك الماء الذي غسلنا به فشرب منه، وبعث الخادم بباقيه إلى أهله وأولاده فشربوه. وكذلك يفعلون بمن يتوسمون فيه الخير من الواردين عليهم. وكذلك أضافني قاضيها الصالح أبو هاشم عبد الله الزبيدي، وكان يتولى خدمتي وغسل يدي بنفسه، ولا يكل ذلك إلى غيره. وبمقربة من هذه الزاوية تربة سلف السلطان الملك المغيث، وهي معظمة عندهم، ويستجير بها من طلب حاجة، فتقضى له. ومن عادة الجند أنه إذا تم الشهر ولم يأخذوا أرزاقهم، استجار بهذه التربة، وأقاموا في جوارها إلى أن يعطوا أرزاقهم. وعلى مسيرة نصف يوم من هذه المدينة الأحقاف، وهي منازل عاد. وهنالك زاوية ومسجد على ساحل البحر، وحوله قرية لصيادي السمك. وفي الزاوية قبر مكتوب عليه: هذا قبر هود بن عابر عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد ذكرت أن بمسجد دمشق موضعا مكتوب عليه: هذا قبر هود بن عابر. والأشبه أن يكون قبره بالأحقاف لأنها بلاده، والله أعلم. ولهذه المدينة بساتين فيها موز كثير كبير الجرم. وزنت بمحضري حبة منه فكان وزنها اثنتي عشرة أوقية. وهو طيب المطعم شديد الحلاوة. وبها أيضا التنبول والنارجيل المعروف بجوز الهند، ولا يكونان إلا ببلاد الهند، وبمدينة ظفار هذه، لشبهها بالهند وقربها منه؛ اللهم إلا أن في مدينة زبيد، في بستان السلطان شجيرات من النارجيل. وإذ قد وقع ذكر التنبول والنارجيل، فلنذكرهما ولنذكر خصائصهما.

ذكر التنبول

والتنبول شجر يغرس كما تغرس دوالي العنب، ويصنع له معرشات من القصب، كما تصنع لدوالي العنب، أو يغرس في مجاورة النارجيل، فيصعد فيها كما تصعد الدوالي، وكما يصعد الفلفل. ولا ثمر للتنبول. وإنما المقصود منه ورقه، وهو يشبه ورق العليق. وأطيبه الأصفر. وتجنى أوراقه في كل يوم. وأهل الهند يعظمون التنبول تعظيما شديدا، وإذا أتى الرجل دار صاحبه فأعطاه خمس ورقات منه، فكأنما أعطاه الدنيا وما فيها، لا سيما إن كان أميرا أو كبيرا. وإعطاؤه عندهم أعظم شأنا وأدل على الكرامة من إعطاء الفضة والذهب. وكيفية استعماله أن يؤخذ قبله الفوفل، وهو شبه جوز الطيب، فيكسر حتى يصير أطرافا صغارا، ويجعله الإنسان في فمه ويعلكه، ثم يأخذ ورق التنبول، فيجعل عليها شيئا من النورة ويمضغها مع الفوفل. وخاصيته أنه طيب النكهة، ويذهب بروائح الفم، ويهضم الطعام، ويقطع ضرر شرب الماء على الريق، ويفرح آكله، ويعين على الجماع. ويجعله الإنسان عند رأسه ليلا فإذا استيقظ من نومه، أو أيقظته زوجته أو جاريته أخذ منه، فيذهب بما في فمه من رائحة كريه. ولقد ذكر لي أن جواري السلطان والأمراء ببلاد الهند لا يأكلن غيره، وسنذكره عند ذكر بلاد الهند.

صفحة : 126

ذكر النارجيل

وهو جوز الهند، وهذا الشجر من أغرب الأشجار شأنا وأعجبها أمرا، وشجره شبه شجر النخل لا فرق بيهما، إلا أن هذه تثمر جوزا وتلك تثمر ثمرا. وجوزها يشبه رأس ابن آدم لأن فيها شبه العينين والفم وداخلها شبه الدماغ إذا كانت خضراء، وعليها ليف شبه الشعر، وهم يصنعون به حبالا يخيطون به المراكب عوضا عن مسامير الحديد، ويصنعون منه الحبال للمراكب. والجوزة منها وخصوصا التي بجزائر ذيبة المهل، تكون بمقدار رأس الآدمي. ويزعمون أن حكيما من حكماء الهند في غابر الزمان كان متصلا بملك من الملوك ومعظما لديه، وكان للملك وزير بينه وبين هذا الحكيم معاداة. فقال الحكيم للملك: إن رأس هذا الوزير إذا قطع ودفن تخرج منه نخلة تثمر بثمر عظيم، يعود نفعه على أهل الهند وسواهم من أهل الدنيا. فقال له الملك: فإن لم يظهر من رأس الوزير ما ذكرته، قال: إن لم يظهر، فاصنع برأسي كما صنعت برأسه. فأمر الملك برأس الوزير فقطع، وأخذه الحكيم، وغرس نواة تمر في دماغه، وعالجها حتى صارت شجرة، وأثمرت بهذا الجوز. وهذه الحكاية من الأكاذيب، ولكن ذكرناها لشهرتها عندهم. ومن خواص هذا الجوز تقوية البدن وإسراع السمن والزيادة في حمرة الوجه. وأما الإعانة على الباءة ففعله فيها عجيب. ومن عجائبه إنه يكون في ابتداء أمره أخضر. فمن قطع بالسكين قطعة من قشره وفتح رأس الجوزة شرب منها ماء في النهاية من الحلاوة والبرودة. ومزاجه حار معين على الباءة. فاذا شرب ذلك الماء أخذ قطعة القشرة وجعلها شبه الملعقة وجرد بها ما في داخل الجوزة من الطعم، فيكون طعمه كطعم البيضة إذا شربت ولم يتم نضجها كل التمام، ويتغذى به. ومنه كان غذائي أيام إقامتي بجزائر ذيبة المهل مدة عام ونصف عام. وعجائبه أن يصنع منه الزيت والحليب والعسل.فأما كيفية صناعة العسل منه فإن خدام النخل منه، ويسمون الفازانية، يصعدون إلى النخلة غدوا وعشيا إذا أرادوا أخذ مائها الذي يصنعون منه العسل، وهم يسمونه الأطواق، فيقطعون العذق الذي يخرج منه الثمر، ويتركون منه مقدار إصبعين، ويربطون عليه قدرا صغيرة فيقطر فيها الماء الذي يسيل من العذق. فإذا ربطها غدوة، صعد إليها عشيا ومعه قدحان من قشر الجوز المذكور، أحدهما مملوء ماء فيصب ما اجتمع من ماء العذق في أحد القدحين ويغسله بالماء الذي في القدح الآخر، وينجر من العذق قليلا ويربط عليه القدر ثانية، ثم يفعل غدوة كفعله عشيا، فإذا اجتمع له الكثير من ذلك الماء طبخه كما يطبخ ماء العنب إذا صنع منه الرب، فيصير عسلا عظيم النفع طيبا، يشتريه تجار الهند واليمن والصين، ويحملونه إلى بلادهم، ويصنعون منه الحلواء. وأما كيفية صنع الحليب منه فإن بكل دار شبه الكرسي، تجلس فوقه المرأة، ويكون بيدها عصا، في أحد طرفيها حديدة مشرفة، فيفتحون في الجوزة مقدار ما تدخل تلك الحديد ويجرشون ما في باطن الجوزة، وكل ما ينزل منها يجتمع في صحفة، حتى لا يبقى في داخل الجوزة شيء، ثم يمرس ذلك الجريش بالماء، فيصير كلون الحليب بياضا، ويكون طعمه كطعم الحليب، ويأتدم به الناس. وأما كيفية صنع الزيت فإنهم يأخذون الجوز بعد نضجه وسقوطه عن شجره، فيزيلون قشره ويقطعونه قطعا ويجعل في الشمس، فإذا ذبل طبخوه في القدور واستخرجوا زيته، وبه يستصبحون. ويضعه الناس في شعورهم، وهو عظيم النفع.

صفحة : 127

ذكر سلطان ظفار

وهو السلطان الملك المغيث بن الملك الفائز ابن عم ملك اليمن. وكان أبوه أميرا على ظفار من قبل صاحب اليمن. وله عليه هدية يبعثها له في كل سنة. ثم استبد الملك المغيث بملكها، وامتنع من إرسال الهدية. وكان من عزم ملك اليمن على محاربته، وتعيين ابن عمه ووقوع الحائط عليه ما ذكرناه آنفا. وللسلطان قصر بداخل المدينة يسمى الحصن، عظيم فسيح، والجامع بإزائه. ومن عادته أن تضرب الطبول والبوقات والأنفار والصرنايات على بابه كل يوم بعد صلاة العصر؛ وفي كل يوم إثنين وخميس تأتي العساكر إلى بابه فيقفون خارج المشور ساعة وينصرفون، والسلطان لا يخرج ولا يراه أحد إلا في يوم الجمعة، فيخرج للصلاة ثم يعود إلى داره. ولا يمنع أحد من دخول المشور، وأمير جندار قاعد على بابه، وإليه ينتهي كل صاحب حاجة أو شكاية، وهو يطالع السلطان، ويأتيه الجواب للحين. وإذا أراد السلطان الركوب خرجت مراكبه من القصر وسلاحه ومماليكه إلى خارج المدينة، وأتى بجمل عليه محمل مستور بستر أبيض منقوش بالذهب، فيركب السلطان ونديمه في المحمل بحيث لا يرى. وإذا خرج إلى بستانه وأحب ركوب الفرس ركبه ونزل عن الجمل. وعادته أن لا يعارضه أحد في طريقه ولا يقف لرؤيته ولا لشكاية ولا لغيرها، ومن تعرض لذلك ضرب أشد الضرب. فتجد الناس إذا سمعوا بخروج السلطان فروا عن الطريق وتحاموها. ووزير هذا السلطان الفقيه محمد العدني، وكان معلم صبيان، فعلم هذا السلطان القراءة والكتابة، وعاهده على أن يستوزره إن ملك. فلما ملك استوزره، فلم يكن يحسنها، فكان الاسم له والحكم لغيره. ومن هذه المدينة ركبنا البحر نريد عمان في مركب صغير لرجل يعرف بعلي بن إدريس المصيري من أهل جزيرة مصيرة. وفي الثاني لركوبنا نزلنا بمرسى حاسك وبه ناس من العرب، صيادون للسمك، ساكنون هنالك، وعندهم شجر الكندر، وهو رقيق الورق. وإذا شرطت الورقة منه قطر منها ماء شبه اللبن، ثم عاد صمغا. وذلك الصمغ هو اللبان وهو كثير جدا هنالك. ولا معيشة لأهل ذلك المرسى إلا من صيد السمك، وسمكهم يعرف باللخم بخاء معجم مفتوح ، وهو شبيه كلب البحر. يشرح ويقدد ويقتات به. وبيوتهم من عظام السمك، وسقفها من جلود الجمال. وسرنا من مرسى حاسك أربعة أيام ووصلنا إلى جبل لمعان بضم اللام ، وهو في وسط البحر، وبأعلاه رابطة مبنية بالحجارة وسقفها من عظام السمك، وبخارجها غدير ماء يجتمع من المطر.

صفحة : 128

ذكر ولي لقيناه بهذا الجبل

ولما أرسينا تحت هذا الجبل صعدناه إلى هذه الرابطة، فوجدنا بها شيخا نائما، فسلمنا عليه فاستيقظ، وأشار برد السلام فكلمناه فلم يكلمنا، وكان يحرك رأسه. فأتاه أهل المركب بطعام، فأبى أن يقبله. فطلبنا منه الدعاء فكان يحرك شفتيه ولا نعلم ما يقول، وعليه مرقعة وقلنسوة لبد، وليس معه ركوة ولا إبريق ولا عكاز ولا نعل. وقال أهل المركب: إنهم ما رأوه قط بهذا الجبل. وأقمنا تلك الليلة بساحل الجبل، وصلينا معه العصر والمغرب، وجئناه بطعام فرده، وأقام يصلي إلى العشاء الآخرة. ثم أذن وصلينا معه. وكان حسن الصوت بالقراءة مجيدا لها، ولما فرغ من صلاة العشاء الآخرة أومأ إلينا بالانصراف، فودعناه وانصرفنا ونحن نعجب من أمره. ثم إني أردت الرجوع إليه لما انصرفنا، فلما دنوت منه غلب علي الخوف، ورجعت إلى أصحابي وانصرفت معهم، وركبنا البحر، ووصلنا بعد يومين إلى جزيرة الطير، وليست بها عمارة. فأرسينا وصعدنا إليها، فوجدناها ملآنة بطيور تشبه الشقاشق، إلا أنها أعظم منها. وجاءت الناس ببيض تلك الطيور فطبخوها وأكلوها، واصطادوا جملة من تلك الطيور فطبخوها دون ذكاة وأكلوها. وكان يجالسني تاجر من أهل جزيرة مصيرة ساكن بظفار اسمه مسلم، ورأيته يأكل معهم تلك الطيور، فأنكرت ذلك عليه، فاشتد خجله وقال لي: ظننت أنهم ذبحوها. وانقطع عني بعد ذلك من الخجل، فكان لا يقربني حتى أدعو به. وكان طعامي في تلك الأيام بذلك المركب التمر والسمك. وكانوا يصطادون بالغدو والعشي سمكا يسمى بالفارسية شير ماهي، ومعناه أسد السمك، لأن شير هو الأسد، وماهي السمك. وهو يشبه الحوت المسمى عندنا بتارزت، وهم يقطعونه قطعا ويشوونه ويعطون كل من في المركب قطعة، لا يفضلون أحدا على أحد ولا صاحب المركب ولا سواه، ويأكلونه بالتمر. وكان عندي خبز وكعك استصحبتهما من ظفار، فلما نفدا، كنت أقتات من ذلك السمك في جملتهم. وعيدنا عيد الأضحى على ظهر البحر، وهبت علينا في يومه ريح عاصف بعد طلوع الفجر، ودامت إلى طلوع الشمس، وكادت تغرقنا.

صفحة : 129

كرامة: وكان معنا في المركب حاج من أهل الهند يسمى بخضر، ويدعى بمولانا لأنه يحفظ القرآن ويحسن الكتابة، فلما رأى هول البحر لف رأسه بعباءة كانت له وتناوم، فلما فرج الله ما نزل بنا قلت له: يا مولانا خضر كيف رأيت ? قال: كنت عند الهول أفتح عيني أنظر، هل أرى الملائكة الذين يقبضون الأرواح جاءوا، فلا أراهم، فأقول الحمد لله لو كان الغرق لأتوا لقبض الأرواح. ثم أغلق عيني ثم أفتحهما، فأنظر كذلك، إلى أن فرج الله عنا. وكان قد تقدمنا مركب لبعض التجار فغرق، ولم ينج منه إلا رجل واحد خرج عوما بعد جهد شديد. وأكلت في ذلك المركب نوعا من الطعام لم أذقه قبل ولا بعد، صنعه بعض تجار عمان وهو من الذرة طبخها من غير طحن، وصب عليه السيلان، وهو عسل التمر، وأكلناه. ثم وصلنا إلى جزيرة مصيرة التي منها صاحب المركب الذي كنا فيه، وهي على لفظ مصير وزيادة تاء التأنيث، جزيرة كبيرة، لا عيش لأهلها إلا من السمك. ولم ننزل إليها لبعد مرساها عن الساحل. وكنت قد كرهتهم لما رأيتهم يأكلون الطير من غير ذكاة. وأقمنا بها يوما، وتوجه صاحب المركب إلى داره وعاد إلينا، ثم سرنا يوما وليلة، ووصلنا إلى مرسى قرية كبيرة على ساحل البحر تعرف بصور، ورأينا منها مدينة قلهات، في سفح جبل، فخيل لنا أنها قريبة. وكان وصولنا إلى المرسى وقت الزوال أو قبله. فلما ظهرت لنا المدينة أحببت المشي إليها والمبيت بها، وكنت قد كرهت صحبة أهل المركب، فسألت عن طريقها، فأخبرت أني أصل إليها العصر. فاكتريت أحد البحريين ليدلني على طريقها، وصحبني خضر الهندي الذي تقدم ذكره، وتركت أصحابي مع ما كان لي بالمركب ليلحقوا بي في غد ذلك اليوم، وأخذت أثوابا كانت لي، فدفعتها للدليل ليكفيني مؤونة حملها، وحملت في يدي رمحا. فإذا ذلك الدليل يحب أن يستولي على أثوابي، فأتى بنا إلى خليج يخرج من البحر فيه المد والجزر، فأراد عبوره بالثياب، فقلت له: إنما تعبر وحدك وتترك الثياب عندنا، فإن قدرنا الجواز جزنا، وإلا صعدنا نطلب المجاز فرجع. ثم رأينا رجالا جازوه عوما فتحققنا أنه كان قصده أن يغرقنا ويذهب بالثياب. فحينئذ أظهرت النشاط وأخذت بالحزم وشددت وسطي وكنت أهز الرمح، فهابني ذلك الدليل وصعدنا حتى وجدنا مجازا، ثم خرجنا إلى صحراء لا ماء بها، واشتد الأمر، فبعث الله لنا فارسا في جماعة من أصحابه وبيد أحدهم ركوة ماء فسقاني وسقى صاحبي. وذهبنا نحسب المدينة قريبة منا، وبيننا وبينها خنادق نمشي فيها الأميال الكثيرة. فلما جاء العشي أراد الدليل أن يميل بنا إلى ناحية البحر، وهو لا طريق له، لأن ساحله حجارة. فأراد أن ننشب فيها ويذهب بالثياب. فقلت له: إنما نمشي على هذه الطريق التي نحن عليها، وبينها وبين البحر نحو ميل. فلما أظلم الليل قال لنا، إن المدينة قريبة، فتعالوا نمشي حتى نبيت بخارجها إلى الصباح. فخفت أن يتعرض لنا أحد في الطريق، ولم أحقق مقدار ما بقي، إليها، فقلت له: إنما الحق أن نخرج عن الطريق فننام، فإذا أصبحنا أتينا المدينة إن شاء الله. وكنت قد رأيت جملة من الرجال في سفح جبل هنالك، فخفت أن يكونوا لصوصا، وقلت التستر أولى. وغلب العطش على صاحبي فلم يوافق على ذلك. فخرجت عن الطريق، وقصدت شجرة من شجر أم غيلان، وقد أعييت وأدركني الجهد، لكني أظهرت قوة وتجلدا، خوف الدليل. وأما صاحبي فمريض لا قوة له. فجعلت الدليل بيني وبين صاحبي، وجعلت الثياب بين ثوبي وجسدي، وأمسكت الرمح بيدي ورقد صاحبي ورقد الدليل، وبقيت ساهرا. فكلما تحرك الدليل كلمته وأريته أني مستيقظ، ولم نزل كذلك حتى الصبح.

صفحة : 130

ثم خرجنا إلى الطريق فوجدنا الناس ذاهبين بالمرافق إلى المدينة، فبعثت الدليل ليأتينا بماء، وأخذ صاحبي الثياب. وكان بيننا وبين المدينة مهاو وخنادق. فأتان بالماء فشربنا، وذلك أوان الحر، ثم وصلنا إلى مدينة قلهات وضبط اسمها بفتح القاف واسكان اللام وآخره تاء مثناة، فأتيناها ونحن في جهد عظيم. وكنت قد ضاقت نعلي على رجلي حتى كاد الدم يخرج من تحت أظفارها، فلما وصلنا باب المدينة كان ختام المشقة، أن قال لنا الموكل بالباب: لا بد لك أن تذهب معي إلى أمير المدينة ليعرف قضيتك، ومن أين قدمت. فذهبت معه إليه فرأيته فاضلا حسن الأخلاق، وسألني عن حالي وأنزلني، وأقمت عنده ستة أيام، لا قدرة لي فيها على النهوض على قدمي لما لحقها من الآلام. ومدينة قلهات على الساحل، وهي حسنة الأسواق، ولها مسجد من أحسن المساجد. حيطانه بالقاشاني، وهو شبه الزليج. وهو مرتفع، ينظر منه إلى البحر، والمرسى وهو من عمارة الصالحة بيبي مريم، ومعنى بيبي عندهم الحرة. وأكلت بهذه المدينة سمكا لم آكل مثله في إقليم من الأقاليم، وكنت أفضله على جميع اللحوم، فلا آكل سواه. وهم يشوونه على ورق الشجر، ويجعلونه على الأرز، ويأكلونه. والأرز يجلب إليهم من أرض الهند. وهم أهل تجارة، ومعيشتهم مما يأتي إليهم في البحر الهندي. وإذا وصل إليهم مركب فرحوا به أشد الفرح. وكلامهم ليس بالفصيح مع أنهم عرب. وكل كلمة يتكلمون بها يصلونها بلا. فيقولون مثلا: تأكل لا، تمشي لا، تفعل كذا لا. وأكثرهم خوارج. لكنهم لا يقدرون على إظهار مذهبهم، لأنهم تحت طاعة السلطان قطب الدين تمتهن ملك هرمز، وهو من أهل السنة. وبمقربة من قلهات قرية طيبي، واسمها على نحو اسم الطيب إذ أضافه المتكلم لنفسه. وهي من أجمل القرى وأبدعها حسنا، ذات أنهار جارية وأشجار ناضرة وبساتين كثيرة. ومنها تجلب الفواكه إلى قلهات. وبها الموز المعروف بالمرواري بالفارسية هو الجوهري المروار الجوهر، وهو كثير بها، وجلب منها إلى هرمز وسواها. وبها أيضا التنبول، لكن ورقته صغيرة. والتمر يجلب إلى هذه الجهات من عمان. ثم قصدنا بلاد عمان، فسرنا ستة أيام في صحراء، ثم وصلنا بلاد عمان في اليوم السابع. وهي خصبة ذات أنهار وأشجار وبساتين وحدائق ونخل وفاكهة كثيرة مختلفة الأجناس. ووصلنا إلى قاعدة هذه البلاد وهي مدينة نزوا وضبط اسمها بنون مفتوح وزاي مسكن وواو مفتوح، مدينة في سفح جبل، تحف بها البساتين والأنهار. يأتي كل إنسان بما عنده، ويجتمعون للأكل في صحن المسجد، ويأكل معهم الوارد والصادر. ولهم نجدة وشجاعة. والحرب قائمة فيما بينهم أبدا. وهم أباضية المذهب. ويصلون الجمعة ظهرا أربعا، فإذا فرغوا منها قرأ الإمام أيات من القرآن، ونثر كلاما شبه الخطبة يرضى فيه عن أبي بكر وعمر، ويسكت عن عثمان وعلي. وهم أرادوا ذكر علي رضي الله عنه كنوا عنه، فقالوا: ذكر عن الرجل أو قال الرجل. ويرضون عن الشقي اللعين ابن ملجم، ويقولون فيه: العبد الصالح قامع الفتنة. ونساؤهم يكثرن الفساد، ولا غيرة عندهم، ولا إنكار لذلك. وسنذكر حكاية إثر هذا مما يشهد بذلك.

ذكر سلطان عمان

وسلطانها عربي من قبيلة الأزد بن الغوث، ويعرف بأبي محمد ابن نبهان. وأبو محمد عندهم سمة لكل سلطان يلي عمان، كما هي أتابك عند ملوك اللور. وعادته أن يجلس خارج باب داره في مجلس هنالك، ولا حاجب له ولا وزير، ولا يمنع أحدا من الدخول إليه من غريب أو غيره، ويكرم الضيف على عادة العرب، ويعين له الضيافة، ويعطيه على قدره. وله أخلاق حسنة. ويؤكل على مائدته لحم الحمار الإنسي، ويباع بالسوق، لأنهم قائلون بتحليله، ولكنهم يخفون ذلك عن الوارد عليهم، ولا يظهرونه بمحضره. ومن مدن عمان مدينة زكي لم أدخلها، وهي على ما ذكر لي، مدينة عظيمة منها القريات وشبا وكلبا وخورفكان وصحار، وكلها ذات أنهار وحدائق وأشجار ونخل، وأكثر هذه البلاد في عمالة هرمز.

صفحة : 131

حكاية

كنت يوما عند السلطان أبي محمد بن نبهان فأتته امرأة صغيرة السن حسنة الصورة بادية الوجه، فوقفت بين يديه وقالت له: ياأبا محمد طغا الشيطان في رأسي. فقال لها: اذهبي واطردي الشيطان. فقالت له: لا أستطيع وأنا في جوارك ياأبا محمد. فقال لها: اذهبي فافعلي ماشئت. فذكر لي لما انصرفت عنه أن هذه ومن فعل مثل فعلها تكون في جوار السلطان وتذهب للفساد، ولايقدر أبوها ولا ذوو قرابتها أن يغيروا عليها، وإن قتلوها قتلوا بها، لأنها في جوار السلطان. ثم سافرت من بلاد عمان إلى بلاد هرمز، وهرمز مدينة على ساحل البحر، وتسمى أيضا موغ أستان، وتقابلها في البحر هرمز الجديدة، وبينهما في البحر ثلاثة فراسخ. ووصلنا إلى هرمز الجديدة، وهي جزيرة مدينتها تسمى جرون بفتح الجيم والراء وآخرها نون، وهي مدينة حسنة كبيرة لها أسواق حافلة وهي مرسى الهند والسند، ومنها تحمل سلع الهند إلى العراقين وفارس وخراسان. وهذه المدينة سكنى السلطان، والجزيرة التي فيها المدينة مسيرة يوم، وأكثرها سباخ وجبال ملح، وهو الملح الداراني، ومنه يصنعون الأواني المزينة والمنارات التي يضعون السرج عليها. وطعامهم السمك والتمر المجلوب إليهم من البصرة وعمان. ويقولون بلسانهم: خرما وما هي لوت بادشاهي، معناه بالعربي التمر والسمك طعام الملوك. وللماء في الجزيرة قيمة، وبها عيون ماء وصهاريج مصنوعة، يجتمع فيها ماء المطر. وهي على بعد من المدينة، ويأتون إليها بالقرب فيملأونها ويرفعونها على ظهورهم إلى البحر، يوسقونها في القوارب ويأتون بها إلى المدينة. ورأيت من العجائب عند باب الجامع فيما بينه وبين السوق رأس سمكة كأنه رابية وعيناه كأنهما بابان، فترى الناس يدخلون في إحداهما، ويخرجون من الأخرى. ولقيت بهذه المدينة الشيخ الصالح السائح أبا الحسن الأقطاراني، وأصله من بلاد الروم، فأضافني وزارني وألبسني ثوبا، وأعطاني كمر الصحبة، وهو يحتبي به، فيعين الجالس، فيكون كأنه مستند. وأكثر فقراء العجم يتقلدونه. وعلى ستة أميال من هذه المدينة مزار ينسب إلى الخضر والياس عليهما السلام. يذكر أنهما يصليان فيه، وظهرت له بركات وبراهين. وهنالك زاوية يسكنها أحد المشايخ يخدم بها الوارد والصادر، وأقمنا عنده يوما، وقصدنا من هنالك زيارة رجل صالح منقطع في آخر هذه الجزيرة، قد نحت غارا لسكناه. فيه زاوية ومجلس ودار صغيرة له. فيها جارية وله عبيد خارج الغار يرعون بقرا له وغنما. وكان هذا الرجل من كبار التجار فحج البيت وقطع العلائق وانقطع هنالك للعبادة، ودفع ماله لرجل من إخوانه يتجر له به. وبتنا عنده ليلة، فأحسن القرى وأجمل، رضي الله تعالى عنه، وسيمة الخير والعبادة لائحة عليه.

صفحة : 132

ذكر سلطان هرمز

وهو السلطان قطب الدين تمتهن طوران شاه وضبط اسمه بفتح التاءين المعلوتين وبينهما ميم مفتوح وهاء مسكنة وآخره نون، وهو من كرماء السلاطين كثير التواضع حسن الأخلاق، وعادته أن يأتي لزيارة كل من يقدم عليه من فقيه أو صالح أو شريف ويقوم بحقه، ولما دخلنا جزيرته وجدناه مهيأ للحرب مشغولا بها مع ابني أخيه نظام الدين. فكان في كل ليلة يتيسر للقتال. والغلاء مستول على الجزيرة، فأتى إلينا وزيره شمس الدين محمد بن علي وقاضيه عماد الدين الشونكاري وجماعة من الفضلاء، فاعتذروا بما هم عليه من مباشرة الحرب. وأقمنا عندهم ستة عشر يوما. فلما أردنا الانصراف قلت لبعض الأصحاب: كيف ننصرف ولا نرى هذا السلطان ? فجئنا على الوزير وكانت داره في جوار الزاوية التي نزلت بها، فقلت له، إني أريد السلام على الملك. فقال بسم الله، وأخذ بيدي فذهب بي إلى داره، وهي على ساحل البحر، والأجفان مجلسة عندها. فإذا شيخ عليه أقبية ضيقة دنسة، وعلى رأسه عمامة، وهو مشدود الوسط بمنديل، فسلم عليه الوزير وسلمت عليه ولم أعرف انه الملك. وكان إلى جانبه ابن اخته، وهو علي شاه ابن جلال الدين الكيجي، وكانت بيني وبينه معرفة، فأنشأت أحادثه، وأنا لا أعرف الملك، فعرفني الوزير بذلك. فخجلت منه لإقبالي بالحديث على ابن أخته دونه واعتذرت، ثم قام فدخل داره، وتبعه الأمراء والوزراء وأرباب الدولة. ودخلت مع الوزير، فوجدناه قاعدا على سرير ملكه وثيابه عليه لم يبدلها وفي يده سبحة جوهر، لم تر العيون مثلها لأن مغاصات الجوهر تحت حكمه. فجلس أحد الأمراء إلى جانبه، وجلست إلى جانب ذلك الأمير، وسألني عن حالي ومقدمي وعمن لقيته من الملوك فأخبرته بذلك. وحضر الطعام فأكل الحاضرون ولم يأكل معهم، ثم قام فودعته وانصرفت. وسبب الحرب التي بينه وبين ابني أخيه أنه ركب البحر مرة من مدينته الجديدة برسم النزهة في هرمز القديمة وبساتينها، وبينهما في البحر ثلاثة فراسخ كما قدمناه. فخالف عليه أخوه نظام الدين، ودعا لنفسه وبايعه أهل الجزيرة وبايعته العساكر، فخاف قطب الدين على نفسه وركب البحر إلى مدينة قلهات التي تقدم ذكرها، وهي من جملة بلاده، فأقام بها شهورا وجهز المراكب وأتى الجزيرة، فقاتله أهلها مع أخيه وهزموه. وعاد إلى قلهات، وفعل ذلك مرارا. فلم تكن له حيلة إلا أن يراسل بعض نساء أخيه فسمته ومات. وأتى هو إلى الجزيرة فدخلها، وفر ابنا أخيه بالخزائن والأموال والعساكر إلى جزيرة قيس، حيث مغاص الجوهر، وصاروا يقطعون الطريق على من يقصد الجزيرة من أهل الهند والسند، ويغيرون على بلاده البحرية، حتى تخرب معظمها. ثم سافرنا من مدينة جرون برسم لقاء رجل صالح ببلد خنج بال. فلما عدينا البحر اكترينا دواب من التركمان، وهم سكان تلك البلاد، ولا يسافر فيها إلا معهم لشجاعتهم ومعرفتهم بالطرق. وفيها صحراء مسيرة أربع، يقطع بها الطريق لصوص الأعراب، وتهب فيها ريح السموم في شهري تموز وحزيران، فمن صادفته فيها قتلته. ولقد ذكر لي أن الرجل إذا قتلته تلك الريح وأراد أصحابه غسله ينفصل كل عضو منه عن سائر الأعضاء. وبها قبور كثيرة للذين ماتوا فيها بهذه الريح، وكنا نسافر فيها بالليل، فإذا طلعت الشمس نزلنا تحت ظلال الأشجار من أم غيلان، ونرحل بعد العصر إلى طلوع الشمس. وفي هذه الصحراء وماوالاها كان يقطع الطريق بها جمال اللك الشهير الاسم هنالك.

صفحة : 133

حكاية

كان جمال اللك من أهل سجستان أعجمي الأصل واللك بضم اللام معناه الأقطع. وكانت يده قطعت في بعض حروبه. وكانت له جماعة كثيرة من فرسان الأعراب والأعاجم يقطع بهم الطرق. وكان يبني الزوايا، ويطعم الوارد والصادر من الأموال التي يسلبها من الناس. ويقال: إنه كان يدعو أن لا يسلط إلا على من لا يزكي ماله، وأقام على ذلك دهرا. وكان يغير هو وفرسانه ويسلكون براري لا يعرفها سواهم، ويدفنون بها قرب الماء ورواياه. فإذا تبعهم عسكر السلطان دخلوا الصحراء واستخرجوا المياه، ويرجع العسكر عنهم خوفا من الهلاك. وأقام على هذه الحالة مدة لا يقدر عليه ملك العراق ولا غيره، ثم تاب وتعبد حتى مات، وقبره يزار ببلده. وسلكنا هذه الصحراء إلى أن وصلنا إلى كوراستان وضبط اسمه بفتح الكاف واسكان الواو وراء، وهو بلد صغير فيه الأنهار والبساتين وهو شديد الحر. ثم سرنا منه ثلاثة أيام في صحراء مثل التي تقدمت ووصلنا إلى مدينة لار وآخر اسمها راء، مدينة كبيرة كثيرة العيون والمياه المطردة والبساتين. ولها أسواق حسان، ونزلنا منها بزاوية الشيخ العابد أبي دلف محمد وهو الذي قصدنا زيارته بخنج بال. وبهذه الزاوية ولده أبو زيد عبد الرحمن، ومعه جماعة من الفقراء. ومن عادتهم أنهم يجتمعون بالزاوية بعد صلاة العصر من كل يوم، ثم يطوفون على دور المدينة فيعطاهم من كل دار الرغيف والرغيفان، فيطعمون منها الوارد والصادر. وأهل الدور قد ألفوا ذلك فهم يجعلونه في جملة قوتهم، ويعدونه لهم إعانة على إطعام الطعام. وفي كل ليلة جمعة يجتمع بهذه الزاوية فقراء المدينة وصلحاؤها، ويأتي كل منهم بما تيسر له من الدراهم، فيجمعونها وينفقونها تلك الليلة، ويبيتون في عبادة من الصلاة والذكر والتلاوة، وينصرفون بعد صلاة الصبح.

ذكر سلطان لار

وبهذه المدينة سلطان يسمى بجلال الدين، تركماني الأصل، بعث إلينا بضيافة. ولم نجتمع به ولا رأيناه. ثم سافرنا إلى مدينة خنج بال وضبط اسمها بضم الخاء المعجم وقد يعوض منه هاء وإسكان النون وضم الجيم وباء معقودة وألف ولام، وبها سكنى الشيخ أبي دلف الذي قصدنا زيارته، وبزاويته نزلنا. ولما دخلت الزاوية، رأيته قاعدا بناحية منها على التراب، وعليه جبة صوف خضراء بالية، وعلى رأسه عمامة صوف سوداء، فسلمت عليه، فأحسن الرد، وسألني عن مقدمي وبلادي وأنزلني. وكان يبعث إلي الطعام والفاكهة مع ولد له من الصالحين، كثير الخشوع والتواضع صائم الدهر كثير الصلاة. ولهذا الشيخ أبي دلف شأن عجيب وأمر غريب، فإن نفقته في هذه الزاوية عظيمة. وهو يعطي العطاء الجزيل، ويكسو الناس، ويركبهم الخيل، ويحسن لكل وارد وصادر. ولم أر في تلك البلاد مثله، ولا يعلم له جهة إلا ما يصله من الإخوان والاصحاب، حتى زعم كثير من الناس أنه ينفق من الكون. وفي زاويته المذكورة قبر الشيخ الولي الصالح القطب دانيال، وله اسم بتلك البلاد شهير. وشأن في الولاية كبير. وعلى قبره قبة عظيمة بناها السلطان قطب الدين تمتهن بن طوران شاه. وأقمت عند الشيخ أبي دلف يوما واحدا، لاستعجال الرفقة التي كنت في صحبتها. وسمعت أن بالمدينة خنج بال المذكورة زاوية فيها جملة من الصالحين المتعبدين، فرحت إليها بالعشي، وسلمت على شيخهم وعليهم، ورأيت جماعة مباركة قد أثرت فيهم العبادة، فهم صفر الألوان نحاف الجسوم كثيرو البكاء غزيرو الدموع، وعند وصولي إليهم أتوا بالطعام. فقال كبيرهم: ادعوا إلي ولدي محمدا وكان معتزلا في بعض نواحي الزاوية. فجاء إلينا الولد، وهو كأنما خرج من قبر مما نهكته العبادة، فسلم وقعد. فقال له أبوه: يا بني، شارك هؤلاء الواردين في الأكل تنل من بركاتهم، وكان صائما فأفطر معنا، وهم شافعية المذهب، فلما فرغنا من أكل الطعام دعوا لنا وانصرفنا. ثم سافرنا منها إلى مدينة قيس. وتسمى أيضا بسيراف، وهي على ساحل بحر الهند المتصل ببحر اليمن وفارس، وعدادها في كور فارس مدينة لها انفساح وسعة، طيبة البقعة، في دورها بساتين عجيبة، فيها الرياحين والأشجار الناضرة. وشرب أهلها من عيون منبعثة من جبالها، وهم عجم من الفرس أشراف، وفيهم طائفة من عرب بني سفاف، وهم الذين يغوصون على الجوهر.

صفحة : 134

ذكر مغاص الجوهر

ومغاص الجوهر فيما بين سيراف والبحرين في خور راكد مثل الوادي العظيم، فإذا كان شهر إبريل، وشهر مايو تأتي إليه القوارب الكثيرة فيها الغواصون وتجار فارس والبحرين والقطيف ويجعل الغواص على وجهه مهما أراد أن يغوص شيئا يكسوه من عظم الغيلم، وهي السلحفاة ويصنع من هذا العظم أيضا شكلا شبه المقراض، يشده على أنفه، ثم يربط حبلا في وسطه، ويغوص، ويتفاوتون في الصبر في الماء، فمنهم من يصبر الساعة والساعتين فما دون ذلك فإذا وصل إلى قعر البحر يجد الصدف هنالك فيما بين الأحجار الصغار. مثبتا في الرمل، فيقتلعه بيده، أو يقطعه بحديدة عنده، معدة لذلك، ويجعلها في مخلاة جلد منوطة بعنقه، فإذا ضاق نفسه، حرك الحبل فيحس به الرجل الممسك للحبل على الساحل، فيرفعه إلى القارب، فتؤخذ منه المخلاة، ويفتح الصدف فيوجد في أجوافها قطع اللحم تقطع بحديدة، فإذا باشرت الهواء جمدت فصارت جواهر ، فيجمع جميعها من صغير وكبير، فيأخذ السلطان خمسه والباقي يشتريه التجار الحاضرون بتلك القوارب وأكثرهم يكون له الدين على الغواصين، فيأخذ الجوهر في دينه أو ما وجب له منه، ثم سافرنا من سيراف إلى مدينة البحرين، وهي مدينة كبيرة حسنة ذات بساتين وأشجار وأنهار، وماؤها قريب المؤونة يحفر عليه بالأيدي فيوجد، وبها حدائق النخل والرمان والأترج، يزرع بها القطن وهي شديدة الحر كثيرة الرمال وربما غلب الرمل على بعض منازلها وكان فيما بينها وبين عمان طريق استولت عليه الرمال وانقطع، فلا يوصل من عمان إليها إلا في البحر، وبالقرب منها جبلان عظيمان يسمى أحدهما بكسير، وهو في غربيها، ويسمى الآخر يعوير وهو في شرقيها وبهما ضرب المثل فقيل كسير وعوير وكل غير خير، ثم سافرنا إلى مدينة القطيف، وضبط اسمها بضم القاف ، كأنه تصغير قطف، وهي مدينة كبيرة حسنة ذات نخل كثير يسكنها طوائف العرب، وهم رافضية غلاة، يظهرون الرفض جهارا لا يبقون أحدا، ويقول مؤذنهم في أذانه بعد الشهادتين: أشهد أن عليا ولي الله ويزيد بعد الحيعلتين: حي على خير العمل، ويزيد بعد التكبير الأخير محمد وعلي خير البشر، ومن خالفهما فقد كفر. ثم سافرنا منها إلى مدينة هجر وتسمى الآن بالحسا بفتح الحاء والسين واهمالهما وهي التي يضرب المثل بها، فيقال: كجالب التمر إلى هجر، وبها من النخيل ما ليس ببلد سواها ومنه يعلفون دوابهم، وأهلها عرب، وأكثرهم من قبيلة عبد القيس بن أفصى. ثم سافرنا منها إلى مدينة اليمامة وتسمى أيضا بحجر بفتح الحاء المهمل واسكان الجيم مدينة حسنة خصبة ذات أنهار وأشجار، يسكنها طوائف من العرب، وأكثرهم من بني حنيفة، وهي بلدهم قديما، وأميرهم طفيل بن غانم، ثم سافرت منها في صحبة هذا الأمير برسم الحج وذلك في سنة اثنتين وثلاثين فوصلت إلى مكة شرفها الله تعالى. وحج في تلك السنة الملك الناصر سلطان مصر رحمه الله وجملة من أمرائه، وهي آخر حجة حجها، وأجزل الإحسان لأهل الحرمين الشريفين وللمجاورين وفيها قتل الملك الناصر أمير أحمد الذي يذكر أنه ولده، وقتل أيضا كبير أمرائه بكتمور الساقي.

صفحة : 135

حكاية

ذكر أن الملك الناصر وهب لبكتمور الساقي جارية، فلما أراد الدنو منها قالت له: إني حامل من الملك الناصر فاعتزلها وولدت ولدا سماه بأمير أحمد، ونشأ في حجره، فظهرت نجابته واشتهر بابن الملك الناصر، فلما كان في هذه الحجة تعاهد على الفتك بالملك الناصر، وأن يتولى أمير أحمد الملك، وحمل بكتمور معه العلامات والطبول والكسوات والأموال، فنمي الخبر إلى الملك الناصر، فبعث إلى أمير أحمد في يوم شديد الحر، فدخل عليه، وبين يديه أقداح الشرب، فشرب الملك الناصر قدحا، وناول أمير أحمد قدحا ثانيا فيه السم فشربه، وأمر بالرحيل في تلك الساعة ليشغل الوقت فرحل الناس، ولم يبلغوا المنزل حتى مات أمير أحمد، فاكترث بكتمور لموته، وقطع أثوابه، وامتنع من الطعام والشراب وبلغ خبره إلى الملك الناصر فأتاه بنفسه ولاطفه وسلاه، وأخذ قدحا فيه سم فناوله إياه وقال له: بحياتي عليك إلا شربت فبردت نار قلبك، فشربه ومات من حينه، ووجد عنده الخلع السلطنة والأموال فتحقق ما نسب من الفتك بالملك الناصر. ولما انقضى الحج توجهت إلى جدة برسم ركوب البحر إلى اليمن والهند فلم يقض لي ذلك، ولا تأتى لي رفيق، وأقمت بجدة نحو أربعين يوما وكان بها مركب لرجل يعرف بعبد الله التونسي يروم السفر إلى القصير، من عمالة قوص فصعدت إليه لأنظر حاله فلم يرضني، ولا طابت نفسي بالسفر فيه وكان ذلك لطفا من الله تعالى. فإنه سافر، فلما توسط البحر غرق بموضع يقال له: رأس أبي محمد، فخرج صاحبه وبعض التجار في العشاري بعد جهد عظيم، واشرفوا على الهلاك، وهلك بعضهم، وغرق سائر الناس وكان فيه نحو سبعين من الحجاج، ثم ركبت البحر بعد ذلك في صنبوق برسم عيذاب، فردتنا الريح إلى جبل يعرف برأس دواير وسافرنا منه في البر مع البجاة. ووردنا ماء كثيرة النعام والغزلان، فيها عرب جهينة وبني كاهل وطاعتهم للبجاة. ووردنا ماء يعرف بمفرور، وماء يعرف بالجديد. ونفذ زادنا فاشترينا من قوم من البجاة وجدناهم بالفلاة أغناما وتزودنا لحومها ورأيت بهذه الفلاة صبيا من العرب كلمني باللسان العربي وأخبرني أن البجاة أسروه، وزعم أنه منذ عام لم يأكل طعاما. وإنما يقتات بلبن الإبل ونفد منا بعد ذلك اللحم الذي اشتريناه، ولم يبق لنا زاد وكان عندي نحو حمل من التمر الصيحاني والبرني برسم الهدية لأصحابي ففرقته على الرفقة، وتزودناه ثلاثا وبعد مسيرة تسعة أيام من رأس دواير، وصلنا إلى عيذاب وكان قد تقدم إليها بعض الرفقة، فتلقانا أهلها بالخبز والتمر والماء وأقمنا بها أياما واكترينا الجمال وخرجنا صحبة طائفة من عرب دغيم ووردنا ماء يعرف بالجنيب ولعله الخبيب، وحللنا بحميثرا، حيث قبر ولي الله تعالى أبي الحسن الشاذلي، وحصلت لنا زيارته ثانية، وبتنا في جواره ثم وصلنا إلى قرية العطواني، وهي على ضفة النيل، مقابلة لمدينة إدفو من الصعيد الأعلى. وأجزنا النيل إلى مدينة أسنا ثم إلى مدينة أرمنت ثم إلى الأقصر، وزرنا الشيخ أبا الحجاج الأقصري ثانية ثم إلى مدينة قوص ثم إلى مدينة قنا وزرنا الشيخ عبد الرحيم القناوي ثانية، ثم إلى مدينة هو ثم إلى مدينة أخميم ثم إلى مدينة أسيوط، ثم إلى منفلوط، ثم إلى مدينة منلوى، ثم إلى مدينة الأشمونين، ثم إلى مدينة منية بن الخصيب ثم إلى مدينة البهنسة ثم إلى مدينة بوش ثم إلى مدينة منية القائد. وقد تقدم لنا ذكر هذه البلاد، ثم إلى مصر وأقمت بها أياما وسافرت على طريق بلبيس إلى الشام ورافقني الحاج عبد الله بن أبي بكر بن الفرحان النوزري، ولم يزل في صحبتي سنين، إلى أن خرجنا من بلاد الهند، فتوفي بسندابور، وسنذكر ذلك، فوصلنا إلى مدينة غزة ثم إلى مدينة الخليل عليه السلام، وتكررت لنا زيارته، ثم إلى بيت المقدس ثم إلى مدينة الرملة ثم إلى مدينة عكا ثم إلى مدينة طرابلس ثم إلى مدينة جبلة وزرنا إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه ثانية، ثم إلى مدينة اللاذقية، وقد تقدم لنا ذكر هذه البلاد كلها ومن اللاذقية ركبنا البحر في قرقورة كبيرة للجنويين يسمى صاحبها بمرتلمين، وقصدنا بر التركية المعروف ببلاد الروم، وإنما نسبت إلى الروم لأنها كانت بلادهم في القديم، ومنها الروم الأقدمون واليونانية ثم استفتحها المسلمون وبها الآن كثير من النصارى تحت ذمة المسلمين من التركمان وسرنا في البحر عشرا بريح

صفحة : 136

طيبة، وأكرمنا النصراني ولم يأخذ منا نولا. وفي العاشر وصلنا إلى مدينة العلايا، وهي أول بلاد الروم وهذا الأقليم المعروف ببلاد الروم من أحسن أقاليم الدنيا وقد جمع الله فيه ما تفرق من المحاسن في البلاد فأهله أجمل الناس صورا وأنظفهم ملابس وأطيبهم مطاعم وأكثر خلق الله شفقة ولذلك يقال البركة في الشام، والشفقة في الروم وإنما عنى به أهل هذه البلاد. وكنا متى نزلنا بهذه البلاد زاوية أو دارا، يتفقد أحوالنا جيراننا من الرجال والنساء، وهن لا يحتجبن فإذا سافرنا عنهم ودعونا كأنهم أقاربنا وأهلنا وترى النساء باكيات لفراقنا متأسفات ومن عادتهم بتلك البلاد أن يخبزوا الخبز في يوم واحد من الجمعة، يعدون فيه ما يفوتهم سائرها فكان رجالهم يأتون إلينا بالخبز الحار في يوم خبزه، ومعه الإدام الطيب إطرافا لنا بذلك، ويقولن لنا: إن النساء بعثن هذا إليكم وهن يطلبن منكم الدعاء، وجميع أهل هذه البلاد على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، مقيمين على السنة لا قدري فيهم ولا رافضي ولا معتزلي ولا خارجي ولا مبتدع وتلك فضيلة خصهم الله تعالى بها. إلا أنهم يأكلون الحشيش ولا يعيبون ذلك. ومدينة العلايا التي ذكرناها كبيرة على ساحل البحر، يسكنها التركمان، وينزلها تجار مصر وإسكندرية والشام وهي كثيرة الخشب، ومنها يحمل إلى اسكندرية ودمياط، ويحمل منها إلى سائر بلاد مصر، ولها قلعة بأعلاها عجيبة منيعة، بناها السلطان المعظم علاء الدين الرومي، ولقيت بهذه المدينة قاضيها جلال الدين أرزنجاني، وصعد معي إلى القلعة يوم الجمعة فصلينا بها. وأضافني وأكرمني، وأضافني أيضا بها شمس الدين ابن الرجيحاني الذي توفي أبوه علاء الدين بمالي من بلاد السودان. وأكرمنا النصراني ولم يأخذ منا نولا. وفي العاشر وصلنا إلى مدينة العلايا، وهي أول بلاد الروم وهذا الأقليم المعروف ببلاد الروم من أحسن أقاليم الدنيا وقد جمع الله فيه ما تفرق من المحاسن في البلاد فأهله أجمل الناس صورا وأنظفهم ملابس وأطيبهم مطاعم وأكثر خلق الله شفقة ولذلك يقال البركة في الشام، والشفقة في الروم وإنما عنى به أهل هذه البلاد. وكنا متى نزلنا بهذه البلاد زاوية أو دارا، يتفقد أحوالنا جيراننا من الرجال والنساء، وهن لا يحتجبن فإذا سافرنا عنهم ودعونا كأنهم أقاربنا وأهلنا وترى النساء باكيات لفراقنا متأسفات ومن عادتهم بتلك البلاد أن يخبزوا الخبز في يوم واحد من الجمعة، يعدون فيه ما يفوتهم سائرها فكان رجالهم يأتون إلينا بالخبز الحار في يوم خبزه، ومعه الإدام الطيب إطرافا لنا بذلك، ويقولن لنا: إن النساء بعثن هذا إليكم وهن يطلبن منكم الدعاء، وجميع أهل هذه البلاد على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، مقيمين على السنة لا قدري فيهم ولا رافضي ولا معتزلي ولا خارجي ولا مبتدع وتلك فضيلة خصهم الله تعالى بها. إلا أنهم يأكلون الحشيش ولا يعيبون ذلك. ومدينة العلايا التي ذكرناها كبيرة على ساحل البحر، يسكنها التركمان، وينزلها تجار مصر وإسكندرية والشام وهي كثيرة الخشب، ومنها يحمل إلى اسكندرية ودمياط، ويحمل منها إلى سائر بلاد مصر، ولها قلعة بأعلاها عجيبة منيعة، بناها السلطان المعظم علاء الدين الرومي، ولقيت بهذه المدينة قاضيها جلال الدين أرزنجاني، وصعد معي إلى القلعة يوم الجمعة فصلينا بها. وأضافني وأكرمني، وأضافني أيضا بها شمس الدين ابن الرجيحاني الذي توفي أبوه علاء الدين بمالي من بلاد السودان.

صفحة : 137

ذكر سلطان العلايا

وفي يوم السبت ركب معي القاضي جلال الدين، وتوجهنا إلى لقاء ملك العلايا وهو يوسف بك ومعنى بك الملك ابن قرمان، بفتح القاف والراء ومسكنه على عشرة أميال من المدينة فوجدناه قاعدا على الساحل وحده فوق رابية هنالك، والأمراء والوزراء أسفل منه، والأجناد عن يمينه ويساره، وهو مخضوب الشعر بالسواد، فسلمت عليه، وسألني عن مقدمي، فأخبرته عما سأل، وانصرفت عنه وبعث إلي إحسانا، وسافرت من هنالك إلى مدينة أنطاليا وضبط اسمها بفتح الهمزة واسكان النون وفتح الطاء المهمل والف ولام مكسور وياء آخر الحروف وأما التي بالشام فهي أنطاكية على وزنها، إلا أن الكاف عوض عن اللام، وهي من أحسن المدن، متناهية في اتساع الساحة والضخامة، أجمل ما يرى من البلاد وأكثره عمارة وأحسنه ترتيبا، وكل فرقة من سكانها منفردة بأنفسها عن الفرقة الأخرى فتجار النصارى ماكثون منها بالموضع المعروف بالميناء، وعليهم سور تسد أبوابه عليهم ليلا وعند صلاة الجمعة. والروم الذين كانوا أهلها قديما ساكنون بموضع آخر منفردين به، وعليهم أيضا سور. واليهود في موضع آخر، وعليهم سور، والملك وأهل دولته ومماليكه يسكنون ببلدة عليها أيضا سور يحيط بها، ويفرق بينها وبين ما ذكرناه من الفرق وسائر الناس من المسلمين يسكنون المدينة العظمى، وبها مسجد جامع ومدرسة وحمامات كثيرة وأسواق ضخمة مرتبة بأبدع ترتيب، وعليها سور عظيم يحيط بها وبجميع المواضع التي ذكرناها، وفيها البساتين الكثيرة والفواكه الطيبة والمشمش العجيب المسمى عندهم بقمر الدين وفي نواته لوز حلو وهو ييبس ويحمل إلى ديار مصر وهو بها مستظرف وفيها عيون الماء الطيب العذب الشديد البرودة في أيام الصيف نزلنا من هذه المدينة بمدرستها وشيخها شهاب الدين الحموي، ومن عادتهم أن يقرأ جماعة من الصبيان بالأصوات الحسان بعد العصر من كل يوم في المسجد الجامع، وفي المدرسة أيضا سورة الفتح وسورة الملك وسورة عم.

صفحة : 138

ذكر الأخية الفتيان

واحد الأخية أخي على لفظ الأخ إذا أضافه المتكلم إلى نفسه، وهم بجميع البلاد التركمانية الرومية في كل بلد ومدينة وقرية ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالا بالغرباء من الناس، وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج، والأخذ على أيدي الظلمة وقتل الشرط، ومن ألحق بهم من أهل الشر. والأخي عندهم رجل يجتمع أهل صناعته وغيرهم من الشبان الأعزاب والمتجردين، ويقدمونه على أنفسهم، وتلك هي الفتوة أيضا. ويبني زاوية ويجعل فيها الفرش والسرج وما يحتاج إليه من الآلات ويخدم أصحابه بالنهار في طلب معايشهم ويأتون إليه بعد العصر بما يجتمع لهم، فيشترون به الفواكه والطعام إلى غير ذلك مما ينفق في الزاوية فإن ورد في ذلك اليوم مسافر على البلد أنزلوه عندهم، وكان ذلك ضيافته لديهم، ولا يزال عندهم حتى ينصرف وإن لم يرد وارد، اجتمعوا على طعامهم فأكلوا وغنوا ورقصوا، وانصرفوا إلى صناعتهم بالغدو، وأتوا بعد العصر إلى مقدمهم بما اجتمع لهم ويسمون بالفتيان ويسمى مقدمهم كما ذكرنا الأخي ولم أر في الدنيا أجمل أفعالا منهم ويشبههم في أفعالهم أهل شيراز وأصفهان إلا أن هؤلاء أحب في الوارد والصادر، وأعظم إكراما له وشفقة عليه. وفي الثاني من يوم وصولنا إلى هذه المدينة أتى أحد هؤلاء الفتيان إلى الشيخ شهاب الدين الحموي وتكلم معه باللسان التركي، ولم أكن يومئذ أفهمه، وكان عليه أثواب خلقة، وعلى رأسه قلنسوة لبد، فقال لي الشيخ أتعلم ما يقول هذا الرجل ? فقلت لا أعلم ما قال: فقال لي: إنه يدعوك إلى ضيافته أنت وأصحابك فعجبت منه، وقلت له: نعم. فلما انصرف قلت للشيخ هذا رجل ضعيف ولا قدرة له على تضييفنا، ولا نريد أن نكلفه. فضحك الشيخ وقال لي هذا أحد شيوخ الفتيان الأخية هو من الخرازين ، وفيه كرم نفس وأصحابه نحو مائتين من أهل الصناعات قد قدموه على أنفسهم، وبنوا زاوية للضيافة، وما يجتمع لهم بالنهار انفقوه بالليل. فلما صليت المغرب عاد إلينا ذلك الرجل وذهبنا معه إلى زاويته، فوجدناها زاوية حسنة مفروشة بالبسط الرومية الحسان، وبها الكثير من ثريات الزجاج العراقي، وفي المجلس خمسة من البياسيس، والبيسوس شبه المنارة من النحاس له أرجل ثلاث، وعلى رأسه شبه جلاس من النحاس، وفي وسطه أنبوب للفتيلة ويملأ من الشحم المذاب، وإلى جانبه آنية نحاس ملآنة بالشحم، وفيها مقراض لإصلاح الفتيل، وأحدهم موكل بها، ويسمى عندهم الجراجي الجراغجي وقد اصطف في المجلس جماعة من الشبان ولباسهم الأقبية وفي أرجلهم الأخفاف وكل واحد منهم متحزم، على وسطه سكين في طول ذراعين، وعلى رؤوسهم قلانس بيض من الصوف، بأعلى كل قلنسوة قطعة موصلة بها في طول ذراع، وعرض إصبعين فإذا استقر بهم المجلس نزع كل واحد منهم قلنسوة، ووضعها بين يديه. وتبقى على رأسه قلنسوة أخرى من الزردخاني وسواه حسنة المنظر، وفي وسط مجلسهم شبه مرتبة موضوعة للواردين. ولما استقر بنا المجلس عندهم أتوا بالطعام الكثير والفاكهة والحلواء، ثم أخذوا في الغناء والرقص فراقنا حالهم، وطال عجبنا من سماحهم، وكرم أنفسهم وانصرفنا عنهم آخر الليل، وتركناهم بزاويتهم.

صفحة : 139

ذكر سلطان انطالية

وسلطانها خضر بك ابن يونس بك، وجدناه عند وصولنا إليها عليلا، فدخلنا عليه بداره، وهو في فراش المرض، فكلمنا بألطف كلام وأحسنه وودعناه، وبعث الينا بإحسان. وسافرنا إلى بلدة بردور وضبط اسمها بضم الباء الموحدة وإسكان الراء وضم الدال المهمل وواو وراء، وهي بلدة صغير كثيرة البساتين والأنهار، ولها قلعة في رأس جبل شاهق نزلنا بدار خطيبها، واجتمعت الأخية، وأرادوا نزولنا عندهم فأبى عليهم الخطيب، فصنعوا لنا ضيافة في بستان لأحدهم وذهبوا بنا إليها فكان من العجائب إظهارهم السرور بنا، والاستبشار والفرح، وهم لا يعرفون لساننا، ونحن لا نعرف لسانهم، ولا ترجمان فيما بيننا. وأقمنا عندهم يوما وانصرفنا ثم سافرنا من هذه البلدة إلى بلدة سبرنا وضبط اسمها بفتح السين المهمل والباء الموحدة وإسكان الراء وفتح التاء المعلوة والف وهي بلدة حسنة العمارة والأسواق كثيرة البساتين والأنهار، لها قلعة في جبل شامخ وصلنا إليها بالعشي، ونزلنا عند قاضيها وسافرنا منها إلى مدينة أكريدور وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون الكاف وكسر الراء وياء مد ودال مهمل مضموم وواو مد وراء مدينة عظيمة كثيرة العمارة حسنة الأسواق ذات أنهار وبساتين، ولها بحيرة عذبة الماء يسافر المركب فيها يومين إلى أقشهر وبقشهر وغيرهما من البلاد والقرى، ونزلنا منها بمدرسة تقابل الجامع الأعظم بها المدرس العام الحاج المجاور الفاضل مصلح الدين قرأ بالديار المصرية والشام وسكن بالعراق. وهو فصيح اللسان حسن البيان، أطروفة من طرف الزمان، أكرمنا غاية الإكرام وقام بحقنا أحسن قيام.

ذكر سلطان أكريدور

وسلطانها أبو إسحاق بك ابن الدندار بك، من كبار سلاطين تلك البلاد، سكن ديار مصر أيام أبيه وحج، وله سيرة حسنة، ومن عادته أنه يأتي كل يوم إلى صلاة العصر بالمسجد الجامع، فإذا قضيت صلاة العصر استند إلى جدار القبلة، وقعد القراء بين يديه على مصطبة خشب عالية، فقرأوا سورة الفتح والملك وعم بأصوات حسان فعالة في النفوس تخشع لها القلوب وتقشعر الجلود وتدمع العيون، ثم ينصرف إلى داره. وأظلنا عنده شهر رمضان فكان يقعد في كل يوم ليلة منه على فراش لاصق بالأرض من غير سرير، ويستند إلى مخدة كبيرة، ويجلس الفقيه مصلح الدين إلى جانبه، وأجلس إلى جانب الفقيه ويلينا أرباب دولته أمراء حضرته ثم يؤتى بالطعام، فيكون أول ما يفطر عليه ثريد في قحفة صغيرة، عليه العدس مسقي بالسمن والسكر، ويقدمون الثريد تبركا، ويقولون أن النبي ﷺ فضله على سائر الطعام فنحن نبدأ به لتفضيل النبي له ثم يؤتى بسائر الأطعمة وهكذا فعلهم في جميع ليالي رمضان. وتوفي في بعض تلك الأيام ولد السلطان، فلم يزيدوا على بكاء الرحمة، كما يفعله أهل مصر والشام، خلافا لما قدمناه من فعل أهل اللور حين مات ولد سلطانهم فلما دفن أقام السلطان والطلبة ثلاثة أيام يخرجون إلى قبره بعد صلاة الصبح. وثاني يوم من دفنه خرجت مع الناس فرآني السلطان ماشيا برجلي، فبعث لي بفرس واعتذر، فلما وصلت المدرسة بعثت الفرس فرده وقال: إنما أعطيته عطية لا عارية، وبعث إلي بكسوة ودراهم فانصرفنا إلى مدينة قل حصار وضبط اسمها بضم الكاف وإسكان اللام ثم حاء مهمل مكسور وصاد مهمل وآخره راء مدينة صغيرة بها المياه من كل جانب، قد نبت فيها القصب، فلا طريق لها إلا طريق كالجسر مهيأ بين القصب والمياه، لا يسع إلا فارسا واحدا، والمدينة على تل في وسط المياه منيعة لا يقدر عليها ونزلنا بزاوية أحد الفتيان الأخية بها.

صفحة : 140

ذكر سلطان قل حصار

وسلطانها محمد جلبي وجلبي بجيم معقود ولام مفتوحين وباء موحدة وياء، وتفسيره بلسان الروم سيدي، وهو أخو السلطان أبي إسحاق ملك أكريدور، ولما وصلنا إلى مدينته كان غائبا عنها فأقمنا بها أياما ثم قدم فأكرمنا وأركبنا وزودنا، وانصرفنا على طريق قرا أغاج وقرا بفتح القاف وتفسيره أسود وأغاج بفتح الهمزة والغين المعجم وآخره جيم تفسيره الخشب وهي صحراء خضراء يسكنها التركمان. وبعث معنا السلطان فراسانا يبلغوننا إلى مدينة لاذق. بسبب أن هذه الصحراء يقطع الطريق فيها طائفة يقال لها الجرميان يذكر أنهم من ذرية يزيد بن معاوية، ولهم مدينة يقال لها: كوتاهية فعصمنا الله منهم، ووصلنا إلى مدينة لاذق، وهي بكسر الذال المعجم وبعده قاف وتسمى أيضا دون غزله وتفسيره بلد الخنازير، وهي من أبدع المدن وأضخمها وفيها سبعة من المساجد لإقامة الجمعة، ولها البساتين الرائقة والأنهار المطردة والعيون المنبعة، وأسواقها حسان، وتصنع بها ثياب قطن معلمة بالذهب لا مثل لها تطول أعمارها لصحة قطنها وقوة غزلها وهذه الثياب معروفة بالنسبة إليها، وأكثر الصناع بها نساء الروم، وبها من الروم كثير تحت الذمة، وعليهم وظائف للسلطان من الجزية وسواها وعلامة الروم بها القلانس الطوال، منها الحمر والبيض. ونساء الروم لهن عمائم كبار وأهل هذه المدينة لا يغيرون المنكر، بل كذلك أهل هذا الإقليم كلهم وهم يشترون الجواري الروميات الحسان ويتركونهن للفساد وكل واحدة عليها وظيف لمالكها تؤديه له. وسمعت هنالك أن الجواري يدخلن الحمام مع الرجال، فمن أراد الفساد فعل ذلك بالحمام من غير منكر عليه. وذكر لي أن القاضي بها له جوار على هذه الصورة. وعند دخولنا لهذه المدينة تقدم إلينا رجال من حوانيتهم حتى سل بعضهم السكاكين وأخذوا بأعنة الخيل ونازعهم آخرون على بعض، ونحن لا نعلم ما يقولون، فخفنا منهم وظننا أنهم الجرميان الذين يقطعون الطرق، وأن تلك مدينتهم، وحسبنا أنهم يريدون نهبنا. ثم بعث الله لنا رجلا حاجا يعرف اللسان العربي فسألته عن مرادهم منا فقال: إنهم من الفتيان، وإن الذين سبقوا إلينا أولا هم أصحاب الفتى أخي سنان والآخرون أصحاب الفتى أخي طومان، وكل طائفة ترغب أن يكون نزولكم عندهم. فعجبنا من كرم نفوسهم. ثم وقع بينهم الصلح على المقارعة، فمن كانت قرعته نزلنا عنده أولا، فوقعت قرعة أخي سنان وبلغه ذلك، فأتى إلينا في جماعة من أصحابه فسلموا علينا ونزلنا بزاوية له. وأتي بأنواع الطعام، ثم ذهب بنا إلى الحمام ودخل معنا، وتولى خدمتي بنفسه، وتولى أصحابه خدمة أصحابي يخدم الثلاثة والأربعة الواحد منهم. ثم خرجنا من الحمام فأتو بطعام عظيم وحلواء وفاكهة كثيرة. وبعد الفراغ من الأكل قرأ القراء آيات من القرآن العزيز، ثم أخذوا في السماع والرقص. وأعلموا السلطان بخبرنا. فلما كان من الغد بعث في طلبنا بالعشي فتوجنا إليه وإلى ولده كما نذكره، ثم عدنا إلى الزاوية فألفينا الأخي طومان وأصحابه في انتظارنا، فذهبوا بنا إلى زاويتهم، ففعلوا في الطعام والحمام مثل أصحابهم، وزادوا عليه أن صبوا علينا ماء الورد صبا بعد خروجنا من الحمام، ثم مضوا بنا إلى الزاوية، ففعلوا أيضا من الأحتفال في الأطعمة والحلواء والفاكهة وقراءة القرآن بعد الفراغ من الأكل ثم السماع والرقص كمثل ما فعله أصحابهم أو أحسن. وأقمنا عندهم بالزاوية أياما.

ذكر سلطان لاذق

وهو السلطان يننج بك واسمه بياء آخر الحروف مفتوحة ثم نونين أولاهما مفتوحة والثانية مسكنة وجيم، وهو من كبار سلاطين بلاد الروم. ولما نزلنا بزاوية أخي سنان كما قدمناه، بعث إلينا الواعظ المذكور العالم علاء الدين القسطموني، واصطحب معه خيلا بعددنا، وذلك في شهر رمضان، فتوجهنا إليه وسلمنا عليه.

صفحة : 141

ومن عادة ملوك هذه البلاد التواضع لواردين ولين الكلام وقلة العطاء. فصلينا معه المغرب وحضر طعامه فأفطرنا عنده وانصرفنا. وبعث إلينا بدراهم، ثم بعث إلينا ولده مراد بك، وكان ساكنا في بستان خارج المدينة، وذلك في إبان الفاكهة، وبعث أيضا خيلا على عددنا، كما فعله أبوه فأتينا بستانه وأقمنا عنده تلك الليلة. وكان له فقيه يترجم بيننا وبينه. ثم انصرفنا غدوة، وأظلنا عيد الفطر بهذه البلدة، فخرجنا إلى المصلى، وخرج السلطان في عساكره، والفتيان الأخية كلهم بالأسلحة. ولأهل كل صناعة الأعلام والبوقات والطبول والأنفار، وبعضهم يفاخر بعضا ويباهيه في حسن الهيئة وكمال الشكة، ويخرج أهل كل صناعة معهم البقر والغنم وأحمال الخبز، فيذبحون البهائم بالمقابر ويتصدقون بها وبالخبز. ويكون خروجهم أولا إلى المقابر ومنها إلى المصلى. ولما صلينا صلاة العيد، دخلنا مع السلطان إلى منزله، وحضر الطعام. فجعل للفقهاء والمشايخ والفتيان سماط على حدة، وجعل للفقراء والمساكين سماط على حدة. ولا يرد على بابه في ذلك اليوم فقير ولا غني، وأقمنا بهذه البلدة مدة بسبب مخاوف الطريق. ثم تهيأت رفقة فسافرنا معهم يوما وبعض ليلة، ووصلنا إلى حصن طواس واسمه بفتح الطاء وتخفيف الواو وآخره سين مهمل ، وهو حصن كبير. يذكر أن صهيبا صاحب رسول الله ﷺ، ورضي الله عنه، من أهل هذا الحصن. وكان مبيتنا بخارجه. ووصلنا بالغد إلى بابه، فسألنا أهله من أعلى السور عن مقدمنا فأخبرناهم. وحينئذ خرج أمير الحصن ميناس بك في عسكره ليختبر نواحي الحصن والطريق، خوفا من إغارة السراق على الماشية. فلما طافوا بجهاته خرجت مواشيههم، وهكذا فعلهم أبدا. ونزلنا من هذا الحصن بربضة في زاوية رجل فقير وبعث إلينا أمير الحصن بضيافة وزاد، وسافرنا منه إلى مغلة وضبط اسمها بضم الميم واسكان الغين المعجم وفتح اللام، ونزلنا بزاوية أحد المشايخ بها، وكان من الكرماء والفضلاء، يكثر الدخول علينا بزاويته، ولا يدخل إلا بطعام أو فاكهة أو حلواء. ولقينا بهذه البلدة إبراهيم بك ولد سلطان مدينة ميلاس، وسنذكره، فأكرمنا وكسانا، ثم سافرنا إلى مدينة ميلاس وضبط اسمها بكسر الميم وياء مد وآخره سين مهمل، وهي من أحسن بلاد الروم وأضخمها، كثيرة الفواكه والبساتين والمياه. نزلنا منها بزاوية أحد الفتيان الأخية، ففعل ما فعله من قبله من الركاء والضيافة ودخول الحمام وغير ذلك من حميد الأفعال وجميل الأعمال. ولقينا بمدينة ميلاس رجلا صالحا معمرا يسمى بأبي الششتري، وذكروا أن عمره يزيد على مائة وخمسين سنة، وله قوة وحركة وعقله ثابت وذهنه جيد. دعا لنا وحصلت لنا بركته.

صفحة : 142

ذكر سلطان ميلاس

وهو السلطان المكرم شجاع الدين أرخان بك ابن المنتشا وضبط اسمه بضم الهمزة وإسكان الراء وخاء معجم وآخره نون، وهو من خيالي الملوك، حسن الصورة والسيرة، جلساؤه الفقهاء وهم معظمون لديه، وببابه منهم جماعة منهم الفقيه الخوارزمي عارف بالفنون فاضل. وكان السلطان في أيام لقائي له واجدا عليه. بسبب رحلته إلى مدينة أياسلوق ووصوله إلى سلطانها وقبول ما أهداه. فسألني هذا الفقيه أن أتكلم عند الملك في شأنه بما يذهب ما في خاطره، فأثنيت عليه عند السلطان، وذكرت ما علمته من علمه وفضله، ولم أزل به حتى ذهب ما كان يجده فيه. وأحسن إلينا هذا السلطان وأركبنا وزودنا. وسكناه في مدينة برجين، وهي قريبة من ميلاس، بينهما ميلان وضبط اسمها بفتح الموحدة واسكان الراء وجيم وياء مد وآخره نون ، وهي جديدة على تل هنالك، بها العمارات الحسان والمساجد. وكان قد بنى بها مسجدا جامعا، لم يتم بناؤه بعد. وبهذه البلدة لقيناه، ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي علي. ثم انصرفنا بعد ما أحسن إلينا كما قدمناه إلى مدينة قونيه وضبط اسمها بضم القاف وواو مد ونون مسكن مكسور ويار آخر الحروف، مدينة عظيمة حسنة العمارة كثيرة المياه والانهار والبساتين والفواكة، وبها المشمش المسمى بقمر الدين. وقد تقدم ذكره، ويحمل منه أيضا إلى ديار مصر والشام. وشوارعها متسعة جدا، وأسواقها بديعة الترتيب. وأهل كل صناعة على حدة ويقال: إن هذه المدينة من بناء الإسكندر، وهي من بلاد السلطان بدر الدين بن قرمان، وسنذكره. وقد تغلب عليها صاحب العراق في بعض الأوقات لقربها من بلاده التي بهذا الإقليم. نزلنا منها بزاوية قاضيها، ويعرف بابن قلم شاه وهو من الفتيان، وزاويته من أعظم الزوايا. وله طائفة كبيرة من التلاميذ، ولهم في الفتوة سند يتصل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. ولباسها عندهم السراويل كما تلبس الصوفية الخرقة. وكان صنيع هذا القاضي في إكرامنا وضيافتنا أعظم صنيع من قبله وأجمل. وبعث ولده عوضا عنه لدخول الحمام معنا. وبهذه المدينة تربة الشيخ الإمام الصالح القطب جلال الدين المعروف بمولانا، وكان كبير القدر. وبأرض الروم طائفة ينتمون ويعرفون باسمه، فيقال لهم الجلالية، كما تعرف الأحمدية بالعراق، والحيدرية بخراسان، وعلى تربته زاوية عظيمة فيها الطعام للوارد.

حكاية

يذكر أنه كان في ابتداء أمره فقيها مدرسا، يجتمع إليه الطلبة بمدرسته بقونيه، فدخل يوما إلى المدرسة رجل يبيع الحلواء، وعلى رأسه طبق منها، وهي مقطعة قطعا، يبيع القطعة منها بفلس. فلما أتى مجلس التدريس قال له الشيخ: هات طبقك. فأخذ الحلواني قطعة منه وأعطاها للشيخ.. فأخذها الشيخ بيده، وأكلها. فخرج الحلواني، ولم يطعم أحدا سوى الشيخ. فخرج الشيخ في اتباعه، وترك التدريس، فأبطأ على الطلبة. طال انتظارهم إياه، فخرجوا في طلبه فلم يعرفوا له مستقرا. ثم إنه عاد إليهم بعد أعوام، وصار لا ينطق إلا بالشعر الفارسي المتعلق الذي لا يفهم. فكان الطلبة يتبعونه ويكتبون ما يصدر عنه من ذلك الشعر، وألفوا منه كتابا سموه المثنوي. وأهل تلك البلاد يعظمون ذلك الكتاب ويعتبرون كلامه، ويعلمونه ويقرأونه بزواياهم في ليالي الجمعات. وفي هذه المدينة أيضا قبر الفقيه أحمد، الذي يذكر أنه كان معلم جلال الدين المذكور. ثم سافرنا إلى مدينة اللارندة، وهي بفتح الراء التي بعد الالف واللام واسكان النون وفتح الدال المهمل، مدينة حسنة كثيرة المياه والبساتين.

صفحة : 143

ذكر سلطان اللارندة

وسلطانها الملك بدر الدين بن قرمان وبفتح القاف والراء، وكانت قبله لشقيقه موسى، فنزل عنها للملك الناصر، وعوضه عنها بعوض، وبعث إليها أميرا وعسكرا، ثم تغلب عليها السلطان بدر الدين، وبنى بها دار مملكته، واستقام أمره بها. ولقيت هذا السلطان خارج المدينة، وهو عائد من تصيده، فنزلت له عن دابتي، فنزل هو عن دابته، وسلمت عليه. وأقبل علي، ومن عادة ملوك هذه البلاد أنه إذا نزل لهم الوارد عن دابته نزلوا له، وأعجبهم فعله وزادوا في إكرامه. وإن سلم عليهم راكبا ساءهم ذلك ولم يرضهم، ويكون سببا لحرمان الوارد. وقد جرى لي ذلك مع بعضهم وسأذكره. وولما سلمت عليه وركب وركبت، سألني عن حالي وعن مقدمي، ودخلت معه المدينة، فأمر بإنزالي أحسن نزل، وكان يبعث الطعام الكثير والفواكهة والحلواء في طيافير الفضة والشمع، وكسا وأركب وأحسن، ولم يطل مقامنا عنده. وانصرفنا إلى مدينة أقصرا وضبطها بفتح الهمزة وسكون القاف وفتح الصاد المهمل والراء، وهي من أحسن بلاد الروم وأتقنها. تحف بها العيون الجارية والبساتين من كل ناحية، ويشق المدينة ثلاثة أنهار، ويجري الماء بدورها، وفيها الأشجار ودوالي العنب، وداخلها بساتين كثيرة، وتصنع بها البسط المنسوبة اليها من صوف الغنم لا مثل لها في بلد من البلاد، ومنها تحمل إلى الشام ومصر والعراق والهند والصين وبلاد الأتراك. وهذه المدينة في طاعة ملك العراق. ونزلنا منها بزاوية الشريف حسين النائب بها عن الأمير أرتنا، وأرتنا هو النائب عن ملك العراق، فيما تغلب عليه من بلاد الروم. وهذا الشريف من الفتيان وله طائفة كثيرة وأكرمنا إكراما متناهيا وفعل أفعال من تقدمه. ثم رحلنا إلى مدينة نكدة وضبط اسمها بفتح النون وإسكان الكاف ودال مهمل مفتوح، وهي من بلاد ملك العراق، مدينة كبيرة كثيرة العمارة، قد تخرب بعضها، ويشقها النهر المعروف بالنهر الأسود، وهو من كبار الأنهار، عليه ثلاث قناطر: إحداها بداخل المدينة واثنتان بخارجها، وعليه النواعير بالداخل والخارج، منها تسقى البساتين، والفواكه كثيرة. ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي جاروق، وهو الأمير بها، فأكرمنا على عادة الفتيان، وأقمنا بها ثلاثا. وسرنا منها بعد ذلك إلى مدينة قيسارية، وهي من بلاد صاحب العراق وهي إحدى المدن العظام بهذا الإقليم، بها عسكر أهل العراق وإحدى خواتين الأمير علاء الدين أرتنا المذكور. وهي من أكرم الخواتين وأفضلهن ولها نسبة من ملك العراق، وتدعى أغا بفتح الهمزة والغين المعجم، ومعنى أغا الكبير، وكل من بينه وبين السلطان نسبة يدعى بذلك، واسمها طغى خاتون، ودخلنا إليها فقامت وأحسنت السلام والكلام، وأمرت بإحضار الطعام فأكلنا، ولما انصرفنا بعثت إلينا بفرس مسرج ملجم وخلعة ودراهم مع أحد غلمانها واعتذرت. ونزلنا من هذه المدينة بزاوية الفتى الأخي أمير علي وهو أمير كبير من كبار الأخية بهذه البلاد، وله طائفة تتبعه من وجوه المدينة وكبرائها، وزاويته من أحسن الزوايا فرشا وقناديل وطعاما كثيرا وإتقانا. والكبراء من أصحابه وغيرهم يجتمعون كل ليلة عنده، ويفعلون في إكرام الوارد أضعاف ما يفعله سواهم. ومن عوائد هذه البلاد أنه ما كان منها ليس به سلطان، فالأخي هو الحاكم به، وهو يركب الوارد ويكسوه ويحسن إليه على قدره وترتيبه في أمره ونهيه وركوبه ترتيب الملوك. ثم سافرنا إلى مدينة سيواس وضبط اسمها بكسر السين المهمل وياء مد وآخره سين مهمل وهي من بلاد العراق، وأعظم ما له بهذا الإقليم من البلاد، وبها منزل أمرائه وعماله. مدينة حسنة العمارة واسعة الشوارع أسواقها غاصة بالناس، وبها دار مثل المدرسة تسمى دار السيادة، لا ينزلها إلا الشرفاء، ونقيبهم ساكن بها. وتجري لهم فيها مدة مقامهم الفرش والطعام والشمع وغيره فيزودون إذا انصرفوا.

صفحة : 144

ولما قدمنا هذه المدينة خرج إلى لقائنا أصحاب الفتى بجقجي، وبحق بالتركية السكين، وهذا منسوب إليه، والجيمان منه معقودان بينهما قاف، وباؤه مكسورة وكانوا جماعة، منهم الركبان والمشاة. ثم لقينا بعدهم أصحاب الفتى أخي جلبي، وهو من كبار الأخية. وطبقته أعلى من طبقة أخي بجقجي، فطلبوا أن ينزل عندهم، فلم يمكن لنا ذلك لسبق الأولين. ودخلنا المدينة معهم جميعا، وهم يتفاخرون. والذي سبقوا إلينا قد فرحوا أشد الفرح بنزولنا عندهم. ثم كان من صنيعهم في الطعام والحمام والمبيت مثل صنيع من تقدم. وأقمنا عندهم ثلاثة في أحسن ضيافة. ثم أتانا القاضي وجماعة من الطلبة، ومعهم خيل الأمير علاء الدين أرتنا نائب ملك العراق ببلاد الروم، فركبنا معه، واستقبلنا الأمير إلى دهليز داره، فسلم علينا ورحب وكان فصيح اللسان بالعربية. وسألني عن العراقين وأصبهان وشيراز وكرمان، وعن السلطان أتابك، وبلاد الشام ومصر، وسلاطين التركمان. وكان مراده أن أشكر الكريم منهم وأذم البخيل، فلم أفعل ذلك، بل شكرت الجميع. فسر بذلك مني وشكرني عليه. ثم أحضر الطعام وأكلنا، وقال: تكونون في ضيافتي. فقال له الفتى أخي جلبي: إنهم لم ينزلوا بعد بزاويتي، فليكونوا عندي، وضيافتك تصلهم. فقال: أفعل. فانتقلنا إلى زاويته، وأقمنا بها ستا في ضيافته وفي ضيافة الأمير. ثم بعث الأمير بفرس وكسوة ودراهم، وكتب لنوابه بالبلاد أن يضيفونا ويكرمونا ويزودونا. وسافرنا إلى مدينة أماصية وضبط اسمها بفتح الهمزة والميم والف وصاد مهمل مكسور وياء آخر الحروف مفتوحة، مدينة كبيرة حسنة ذات أنهار وبساتين وأشجار وفواكه، وعلى أنهارها النواعير تسقي جناتها ودورها. وهي فسيحة الشوارع والأسواق. وملكها صاحب العراق. ويقرب منها بلدة سونسى وضبط اسمها بضم السين المهمل وواو مد ونون مضموم وسين مهمل مفتوح، وهي لصاحب العراق أيضا. وبها سكنى أولاد ولي الله تعالى أبي العباس أحمد الرفاعي. منهم الشيخ عز الدين وهو الآن شيخ الرواق وصاحب سجادة الرفاعي، وإخوته الشيخ علي والشيخ إبراهيم والشيخ يحيى أولاد الشيخ أحمد كوجك ومعناه الصغير ابن تاج الدين الرفاعي. ونزلنا بزاويتهم ورأينا لهم الفضل على من سواهم. ثم سافرنا إلى مدينة كمش وضبط اسمها بضم الكاف وكسر الميم وشين معجم، وهي من بلاد ملك العراق، مدينة كبيرة عامرة يأتيها التجار من العراق والشام، وبها معادن الفضة. وعلى مسيرة يومين منها جبال شامخة وعرة لم أصل إليها ونزلنا منها بزاوية الأخي مجد الدين، وأقمنا بها ثلاثا في ضيافته وفعل أفعال من قبله. وجاء إلينا نائب الأمير أرتنا، وبعث بضيافة وزاد. وانصرفنا من تلك البلاد، فوصلنا إلى أرزنجان وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الراء وفتح الزاي وسكون النون وجيم والف ونون، وهي من بلاد صاحب العراق. مدينة كبيرة عامرة، وأكثر سكانها الأرمن. والمسلمون يتكلمون بها التركية. ولها أسواق حسنة الترتيب. ويصنع بها ثياب حسان تنسب اليها. وفيها معادن النحاس، ويصنعون منه الأواني والبياسيس التي ذكرناها، وهي شبه المنار عندنا. ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي نظام الدين، وهي من أحسن الزوايا، وهو أيضا من خيار الفتيان وكبارهم، أضافنا أحسن ضيافة. وانصرفنا إلى مدينة أرز الروم، وهي من بلاد ملك العراق، كبيرة الساحة، خرب أكثرها بسبب فتنة وقعت بين طائفتين من التركمان بها. ويشقها ثلاثة أنهار. وفي أكثر دورها بساتين فيها الأشجار والدوالي. ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي طومان، وهو كبير السن، يقال: إنه أناف على مائة وثلاثين سنة. ورأيته ينصرف على قدميه متوكئا على عصا، ثابت الذهن، مواظبا للصلاة في أوقاتها، لم ينكر من نفسه شيئا، إلا أنه لا يستطيع الصوم. وخدمنا بنفسه في الطعام وخدمنا أولاده في الحمام، وأردنا الانصراف عنه ثاني يوم نزولنا، فشق عليه ذلك، وأبى منه وقال: إن فعلتم نقصتم حرمتي، وإن أقل الضيافة ثلاث. فأقمنا لديه ثلاثا.

صفحة : 145

ثم انصرفنا إلى مدينة بركي وضبط اسمها بباء موحدة مكسورة وكاف معقود مكسور بينهما راء مسكن، ووصلنا إليها بعد العصر، فلقينا رجلا من أهلها، فسألناه عن زاوية الأخي بها فقال: أنا أدلكم عليها، فاتبعناه فذهب بنا إلى منزله نفسه في بستان له، فأنزلنا بأعلى سطح بيته، والأشجار مظللة، وذلك أوان الحر الشديد، وأتى إلينا بأنواع الفاكهة، وأحسن في ضيافته. وعلف دوابنا، وبتنا عنده تلك الليلة. وكنا قد تعرفنا أن بهذه المدينة مدرسا فاضلا يسمى بمحيي الدين، فأتى بنا ذلك الرجل الذي بتنا عنده، وكان من الطلبة إلى المدرسة وإذا بالمدرس قد أقبل راكبا على بغلة فارهة، ومماليكه وخدامه عن جانبيه، والطلبة بين يديه، وعليه ثياب مفرجة حسان مطرزة بالذهب. فسلمنا عليه، فرحب بنا وأحسن السلام والكلام، وأمسك بيدي وأجلسني إلى جانبه. ثم جاء القاضي عز الدين فرشتي، ومعنى فرشتي الملك. لقب بذلك لدينه وعفافه وفضله. فقعد عن يمين المدرس، وأخذ في تدريس العلوم الأصلية والفرعية. ثم لما فرغ من ذلك أتى دويرة بالمدرسة فأمر بفرشها، وأنزلني فيها. وبعث ضيافة حافلة، ثم وجه إلينا بعد المغرب، فمضيت إليه، فوجدته في مجلس ببستان له، وهنالك صهريج ماء ينحدر اليه الماء من خصة رخام أبيض يدور بها القاشاني، وبين يديه جملة من الطلبة، ومماليكه وخدامه وقوف من جانبيه، وهو قاعد على مرتبة عليها أقطاع منقوشة حسنة، فخلته لما شاهدته ملكا من الملوك. فقام إلي واستقبلني وأخذ بيدي وأجلسني إلى جانبه على مرتبته، وأتى بالطعام فأكلنا وانصرفنا إلى المدرسة. وذكر لي بعض الطلبة أن جميع من حضر تلك الليلة من الطلبة عند المدرس، فعادتهم الحضور لطعامه كل ليلة، وكتب هذا المدرس إلى السلطان بخبرنا وأثنى في كتابه، والسلطان في جبل هنالك يصيف فيه لأجل شدة الحر، وذلك الجبل بارد وعادته أن يصيف فيه.

صفحة : 146

ذكر سلطان بركي

وهو السلطان محمد بن آيدين من خيار السلاطين وكرمائهم وفضلائهم، ولما بعث إليه المدرس يعلمه بخبري، وجه نائبه إلي لآتيه، فأشار علي المدرس أن أقيم حتى يبعث إلي ثانية، وكان المدرس إذ ذاك قد خرجت برجله قرحة، لا يستطيع الركوب بسببها، وانقطع عن المدرسة، ثم إن السلطان بعث في طلبي ثانية، فشق ذلك على المدرس فقال: أنا لا أستطيع الركوب، ومن غرضي التوجه معك، لأقرر لدى السلطان ما يجب لك. ثم إنه تحامل ولف على رجله خرقا، وركب ولم يضع رجله في الركاب. وركبت أنا وأصحابي وصعدنا إلى الجبل، في طريق قد نحتت وسويت، فوصلنا إلى موضع السلطان عند الزوال، فنزلنا على نهر ماء تحت ظلال شجر الجوز، وصادفنا السلطان في قلق وشغل بال، بسبب فرار ابنه الأصغر سليمان عنه إلى صهره السلطان أرخان بك، فلما بلغه خبر وصولنا بعث إلينا ولديه: خضر بك وعمر بك، فسلما على الفقيه، وأمرهما بالسلام علي ففعلا ذلك، وسألاني عن حالي ومقدمي وانصرفا. وبعث إلي ببيت يسمى عندهم الخرقة خركاه، وهو عصي من الخشب تجمع شبه القبة، وتجعل عليها اللبود، ويفتح أعلاه لدخول الضوء والريح، مثل البادهنج. ويسد متى احتيج إلى شده. وأتوا بالفرش ففرشوه، وقعد الفقيه، وقعدت معه أصحابه وأصحابي خارج البيت تحت ظلال شجر الجوز، وذلك الموضع شديدة البرد، ومات لي تلك الليلة فرس من شدة البرد. ولما كان من الغد ركب المدرس إلى السلطان وتكلم في شأني بما اقتضته فضائله، ثم عاد إلي وأعلمني بذلك. وبعد ساعة وجه السلطان في طلبنا معا، فجئنا إلى منزله ووجدناه قائما، فسلمنا عليه، وقعد الفقيه عن يمينه وأنا مما يلي الفقيه. فسألني عن حالي ومقدمي، وسألني عن الحجاز ومصر والشام واليمن والعراقين وبلاد الأعاجم. ثم حضر الطعام فأكلنا وانصرفنا، وبعث الأرز والدقيق والسمن في كروش الأغنام، وكذلك فعل الترك. وأقمنا على تلك الحال أياما، يبعث إلينا كل يوم، فنحضر طعامه، وأتى يوما إلينا بعد الظهر، وقعد الفقيه في صدر المجلس، وأنا عن يساره، وقعد السلطان عن يمين الفقيه، وذلك لعزة الفقهاء عند الترك، وطلب مني أن أكتب له أحاديث من حديث رسول ﷺ فكتبتها له، وعرضها الفقيه عليه في تلك الساعة فأمره أن يكتب له شرحها باللسان التركي، ثم قام فخرج، ورأى الخدام يطبخون لنا الطعام تحت ظلال الجوز بغير إدام ولا خضر. فأمر بعقاب صاحب خزانته، وبعث بالأبزار والسمن. وطالت إقامتنا بذلك الجبل، فأدركني الملل وأردت الإنصراف. وكان الفقيه أيضا قد مل من المقام هنالك، فبعث إلى السلطان يخبره أني أريد السفر. فلما كان من الغد بعث السلطان نائبه، فتكلم مع المدرس بالتركية، ولم أكن إذ ذاك أفهمها، فأجابه عن كلامه وانصرف. فقال لي المدرس: أتدري ماذا قال:? قلت: لا أعرف ما قال. قال: إن السلطان بعث إلي ليسألني ماذا يعطيك. فقلت له: عنده الذهب والفضة والخيل والعبيد فليعطه ما أحب من ذلك. فذهب إلى السلطان ثم عاد إلينا. فقال: إن السلطان يأمر أن تقيما هنا اليوم، وتنزلا معه غدا إلى داره بالمدينة. ولما كان من الغد بعث فرسا جيدا من مراكبه، ونزل ونحن معه إلى المدينة. فخرج الناس لاستقباله، وفيهم القاضي المذكور آنفا وسواه، ودخل السلطان ونحن معه، فلما نزل بباب داره ذهبت مع المدرس إلى ناحية المدرسة، فدعا بنا وأمرنا بالدخول معه إلى داره. ولما وصلنا إلى دهليز الدار وجدنا من خدامه نحو عشرين، صورهم فائقة الحسن وعليهم ثياب الحرير وشعورهم مفروقة وألوانهم ساطعة البياض مشربة بحمرة. فقلت للفقيه: ما هذه الصور الحسان? قال: هؤلاء فتيان روميون. وصعدنا مع السلطان درجا كثيرة إلى أن انتهينا إلى مجلس حسن في وسطه صهريج ماء، وعلى كل ركن من أركانه صورة سبع نحاس يمج ماء من فيه، وتدور بهذا المجلس مصاطب متصلة مفروشة، وفوق إحداها مرتبة السلطان. فلما انتهينا إليها نحى السلطان مرتبته بيده، وقعد معنا على الأقطاع، وقعد الفقيه عن يمينه، والقاضي مما يلي الفقيه، وأنا مما يلي القاضي، وقعد القراء أسفل المصطبة، والقراء لا يفارقونه حيث كان من مجالسه.

صفحة : 147

ثم جاءوا بصحاف من الذهب والفضة مملوءة بالجلاب المحلول، قد عصر فيه ماء الليمون، وجعل فيه كعكات صغار مقسومة، وفيها ملاعق ذهب وفضة، وجاءوا معها بصحاف صيني فيها مثل ذلك، وفيها ملاعق خشب، فمن تورع استعمل صحاف الصيني وملاعق الخشب. وتكلمت بشكر السلطان وأثنيت على الفقيه، وبالغت في ذلك فأعجب ذلك السلطان وسره.

حكاية

وفي أثناء قعودنا مع السلطان أتى شيخ على رأسه عمامة لها ذؤابة فسلم عليه، وقام له القاضي والفقيه، وقعد أمام السلطان فوق المصطبة، والقراء أسفل منه. فقلت للفقيه: من هذا الشيخ ? فضحك وسكت. ثم أعدت السؤال، فقال لي: هذا يهودي طبيب، وكلنا محتاج إليه. فلأجل هذا فعلنا ما رأيت من القيام له. فأخذني ما حدث وأبديت الامتعاض. فقلت لليهودي: يا ملعون ابن ملعون، كيف تجلس فوق قراء القرآن، وأنت يهودي? وشتمته ورفعت صوتي، فعجب السلطان وسأل عن معنى كلامي فأخبره الفقيه به. وغضب اليهودي فخرج عن المجلس في أسوأ حال. ولما انصرفنا قال لي الفقيه: أحسنت بارك الله فيك. إن أحدا سواك لا يتجاسر على مخاطبته بذلك، ولقد عرفته بنفسه.

صفحة : 148

حكاية آخرى

وسألني السلطان في هذا المجلس، فقال لي هل رأيت حجرا نزل من السماء? فقلت: ما رأيت ذلك ولا سمعت به. فقال لي: إنه قد نزل بخارج بلدنا هذا حجر من السماء. ثم دعا رجالا وأمرهم أن يأتوا بالحجر، فأتوا بحجر أسود أصم شديد الصلابة، له بريق. قدرت أن زنته تبلغ قنطارا. وأمر السلطان بإحضار القطاعين، فحضر أربعة منهم فأمرهم أن يضربوه، فضربوا عليه ضربة رجل واحد أربع مرات بمطارق الحديد، فلم يؤثروا فيه شيئا، فعجبت من أمره. وأمر برده إلى حيث كان. وفي ثالث يوم من دخولنا إلى المدينة مع السلطان، صنع صنيعا عظيما، ودعا الفقراء والمشايخ وأعيان العسكر ووجوه أهل المدينة، فطعموا وقرأ القراء القرآن بالأصوات الحسان، وعدنا إلى منزلنا بالمدرسة. وكان يوجه الطعام والفاكهة والحلواء والشمع في كل ليلة. ثم بعث إلي مائة مثقال ذهبا وألف درهم وكسوة كاملة وفرسا ومملوكا روميا يسمى ميخائيل، وبعث لكل من أصحابي كسوة ودراهم. كل هذا بمشاركة المدرس محيي الدين، جزاه الله تعالى خيرا، وودعنا، وانصرفنا. وكانت مدة مقامنا عنده بالجبل والمدينة أربعة عشر يوما. ثم قصدنا مدينة تيرة وهي من بلاد هذا السلطان، وضبط اسمها بكسر التاء المعلوة وياء مد وراء مدينة حسنة ذات انهار وبساتين فواكه. نزلنا منها بزاوية الفتى محمد، وهو من كبار الصالحين، صائم الدهر، وله أصحاب على طريقته. فأضافنا ودعا لنا. وسرنا إلى مدينة أياسلوق وضبط اسمها بفتح الهمزة والياء آخر الحروف وسين مهمل مضموم ولام مضموم وآخره قاف مدينة كبيرة قديمة معظمة عند الروم، وفيها كنيسة كبيرة مبنية بالحجارة الضخمة، ويكون طول الحجر منها عشرة أذرع فما دونها، منحوتة أبدع نحت. والمسجد الجامع بهذه المدينة من أبدع مساجد الدنيا، لا نظير له في الحسن، وكان كنيسة للروم معظمة عندهم يقصدونها من البلاد، فلما فتحت هذه المدينة جعلها المسلمون مسجدا جامعا، وحيطانه من الرخام الملون، وفرشه الرخام الأبيض، وهو مسقف بالرصاص، وفيه إحدى عشرة قبة منوعة، في وسط كل قبة صهريج ماء، والنهر يشقه وعلى جانبي النهر الأشجار المختلفة الأجناس ودوالي العنب ومعرشات الياسمين. وله خمسة عشر بابا. وأمير هذه المدينة خضر بك ابن السلطان محمد بن آيدين، وقد كنت رأيته عند أبيه ببركي ثم لقيته بهذه المدينة خارجها. فسلمت عليه، وأنا راكب، فكره ذلك مني، وكان سبب حرماني لديه. فإن عادتهم إذا نزل لهم الوارد نزلوا وأعجبهم ذلك. ولم يبعث إلي إلا ثوبا واحدا من الحرير المذهب يسمونه النخ بفتح النون وخاء معجم. واشتريت بهذه المدينة جارية رومية بكرا بأربعين دينارا ذهبا، ثم سرنا إلى المدينة يزمير وضبط اسمها بياء آخر الحروف مفتوحة وزاي مسكن وميم مكسورة وياء مد وراء مدينة كبيرة على ساحل البحر، معظمها خراب. ولها قلعة متصلة بأعلاها. نزلنا منها بزاوية الشيخ يعقوب، وهو من الأحمدية صالح فاضل. ولقينا بخارجها الشيخ عز الدين بن أحمد الرفاعي، ومعه زاده الأخلاطي من كبار المشايخ، ومعه مائة فقير من المولهين. وقد ضرب لهم الأمير الأخية، وصنع الشيخ يعقوب ضيافة، وحضرتها واجتمعت بهم. وأمير هذه المدينة عمر بك ابن السلطان محمد بن آيدين المذكور آنفا، وسكناه بقلعتها، وكان حين قدومنا عليها عند أبيه، ثم قدم بعد خمس من نزولنا بها. فكان من مكارمه أن أتى إلي بالزاوية فسلم علي واعتذر، وبعث ضيافة عظيمة، وأعطاني بعد ذلك مملوكا روميا خماسيا اسمه نقوله، وثوبين من الكمخا، وهي ثياب حرير تصنع ببغداد وتبريز ونيسابور وبالصين، وذكر لي الفقيه الذي يؤم به أن الأمير لم يبق له مملوك سوى ذلك المملوك الذي أعطاني بسبب كرمه رحمه الله، وأعطى أيضا للشيخ عز الدين ثلاثة أفراس مجهزة، وآنية فضية كبيرة تسمى عندهم المشربة مملوءة دراهم، وثيابا من الملف والمرعز والقسي والكمخا وجواري وغلمانا. وكان هذا الأمير كريما صالحا كثير الجهاد، له أجفان غزوية يضرب بها على نواحي القسطنطينية العظمى فيسبي ويغنم، ويفني ذلك كرما وجودا، ثم يعود إلى الجهاد، إلى أن اشتدت على الروم وطأته فرفعوا أمرهم إلى البابا فأمر نصارى جنوة وإفرانسة بغزوه. وجهز جيشا من رومية، وطرقوا مدينته ليلا في عدد كثير من الأجفان، وملكوا المرسى والمدينة. ونزل إليهم

صفحة : 149

الأمير عمر من القلعة فقاتلهم واستشهد هو وجماعة من ناسه، واستقر النصارى بالبلد، ولم يقدروا على القلعة لمنعتها. ثم سافرنا من هذه المدينة إلى مدينة مغنيسية وضبط اسمها بميم مفتوحة وغين معجمة نسكنة ونون مكسورة وياء مد وسين مهملة مكسورة وياء آخر الحروف مشددة نزلنا بها عشي يوم عرفة بزاوية رجل من الفتيان، وهي مدينة كبيرة حسنة، في سفح جبل، وبسيطها كثير الأنهار والعيون والبساتين والفواكه.

ذكر سلطان مغنيسية

وسلطانها يسمى صاروخان، ولما وصلنا إلى هذه البلدة، وجدناه بتربة ولده، وكان قد توفي منذ أشهر، فكان هو وأم الولد ليلة العيد وصبيحتها بتربته، والولد قد صبر، وجعل في تابوت خشب مغشى بالحديد المقزدر، وعلق في قبة لا سقف لها لتذهب رائحته، وحينئذ تسقف القبة، ويجعل تابوته ظاهرا على وجه الأرض، وتجعل ثيابه عليه. وهكذا رأيت غيره أيضا من الملوك فعل، وسلمنا عليه بذلك الموضع، وصلينا معه صلاة العيد، وعدنا إلى الزاوية. فأخذ الغلام الذي كان لي أفراسنا، وتوجه مع غلام لبعض الأصحاب برسم سقيها، فأبطأ. ثم لما كان العشي لم يظهر لهما أثر. وكان بهذه المدينة الفقيه المدرس الفاضل مصلح الدين، فركب معي إلى السلطان وأعلمناه بذلك. فبعث في طلبهما، فلم يوجدا، واشتغل الناس في عيدهم وقصدا مدينة للكفار على ساحل البحر تسمى فوجة على مسيرة يوم من مغنيسية. وهؤلاء الكفار في بلد حصين. وهم يبعثون هدية في كل سنة إلى سلطان مغنيسية فيقنع منهم بها، لحصانة بلدهم. فلما كان بعد الظهر أتى بهما بعض الأتراك وبالأفراس، وذكروا أنهما اجتازا بهم عشية النهار، فأنكروا أمرهما واشتدوا عليهما حتى أقرا بما عزما عليه من الفرار. ثم سافرنا من مغنيسية، وبتنا ليلة عند قوم من التركمان قد نزلوا في مرعى لهم، ولم نجد عندهم ما نعلف به دوابنا تلك الليلة، وبات أصحابنا يحترسون مداولة بينهم خوف السرقة. فأتت نوبة الفقيه عفيف الدين التوزري. فسمعته يقرأ سورة البقرة فقلت له: إذا أردت النوم فأعلمني لأنظر من يحرس، ثم نمت، فما أيقظني إلا الصباح. وقد ذهب السراق بفرس لي كان يركبه عفيف الدين بسرجه ولجامه، وكان من جياد الخيل اشتريته بأياسلوق. ثم رحلنا من الغد فوصلنا إلى مدينة، برغمة وضبط اسمها بباء موحدة مفتوحة وراء مسكنة وغين معجمة مفتوحة وميم مفتوحة مدينة خربة، لها قلعة عظيمة منيعة بأعلى جبل. ويقال: إن أفلاطون الحكيم من أهل هذه المدينة، وداره تشتهر باسمه إلى الآن. ونزلنا منها بزاوية فقير من الأحمدية. ثم جاء أحد كبراء المدينة فنقلنا إلى داره وأكرمنا إكراما كثيرا.

ذكر سلطان برغمة

وسلطانها يسمى يخشي خان بكسر الشين، وخان عندهم هو السلطان ويخشي بباء آخر الحروف وخاء معجم وشين مكسور ومعناه جيد، صادفناه في مصيف له، فأعلم بقدومنا فبعث بضيافة وثوب قدسي، ثم اكترينا من يدلنا على الطريق، وسرنا في جبال شامخة وعرة، إلى أن وصلنا إلى مدينة بلي كسري وضبط اسمها باء موحدة مفتوحة ولام مكسورة وياء مد وكاف مفتوح وسين مهمل مسكن وراء مكسور وياء مدينة حسنة كثيرة العمارات مليحة الأسواق، ولا جامع لها يجمع فيه. وأرادوا بناء جامع خارجها متصل بها، فبنوا حيطانه ولم يجعلوا له سقفا. وصاروا يصلون به ويجتمعون تحت ظلال الأشجار، ونزلنا من هذه المدينة بزاوية الفتى أخي سنان وهو من أفاضلهم، وأتى إلينا قاضيها وخطيبها الفقيه موسى.

صفحة : 150

ذكر سلطان بلي كسري

ويسمى دمورخان، ولا خير فيه. وأبوه هو الذي بنى هذه المدينة، وكثرت عمارتها بمن لا خير فيه، في مدة ابنه هذا، والناس على دين الملك، ورأيته. وبعث إلي ثوب حرير. واشتريت بهذه المدينة جارية رومية تسمى مر غليظة، ثم سرنا إلى مدينة برصا وضبط اسمها بضم الباء الموحدة وإسكان الراء وفتح الصاد المهمل مدينة كبيرة عظيمة حسنة الأسواق فسيحة الشوارع، تحفها البساتين من جميع جهاتها والعيون الجارية. وبخارجها نهر شديد الحرارة يصب في بركة عظيمة، وقد بني عليها بيتان: أحدهما للرجال والآخر للنساء، والمرضى يستشفون بهذه الحمة، ويأتون إليها من أقاصي البلاد. وهنالك زاوية للواردين ينزلون بها ويطعمون مدة مقامهم وهي ثلاثة أيام. عمر هذه الزاوية أحد ملوك التركمان. ونزلنا في هذه المدينة بزاوية الفتى أخي شمس الدين من كبار الفتيان. ووافقنا عنده يوم عاشوراء. فصنع طعاما كثيرا، ودعا وجوه العسكر وأهل المدينة ليلا، وأفطروا عنده، وقرأ القراء بالأصوات الحسنة، وحضر الفقيه الواعظ مجد الدين القونوي. ووعظ وذكر وأحسن، ثم أخذوا في السماع والرقص. وكانت ليلة عظيمة الشأن. وهذا الواعظ من الصالحين يصوم الدهر ولا يفطر إلا في كل ثلاثة أيام، ولا يأكل إلا من كد يمينه. ويقال: إنه لم يأكل طعام أحد قط، ولا منزل له ولا متاع إلا ما يستتر به، ولا ينام إلا في المقبرة. ويعظ في المجالس ويذكر فيتوب على يديه في كل مجلس الجماعة من الناس. وطلبته بعد هذه الليلة فلم أجده، وأتيت الجبانة فلم أجده. ويقال: إنه يأتيها بعد هجوع الناس.

حكاية

لما حضرنا ليلة عاشوراء بزاوية شمس الدين، وعظ بها مجد الدين آخر الليل. فصاح أحد الفقراء صيحة غشي عليه منها. فصبوا عليه ماء الورد فلم يفق، فأعادوا عليه ذلك فلم يفق، واختلفت الناس فيه، فمن قائل إنه ميت، ومن قائل إنه مغشي عليه. وأتم الواعظ كلامه وقرأ القراء وصلينا الصبح وطلعت الشمس، فاختبروا حال الرجل فوجدوه فارق الدينا رحمه الله. فاشتغلوا بغسله وتكفينه. وكنت فيمن حضر الصلاة عليه ودفنه. وكان هذا الفقير يسمى الصياح. وذكروا أنه كان يتعبد بغار هنالك في جبل. فمتى علم أن الواعظ مجد الدين يعظ قصده، وحضر وعظه، ولم يأكل طعام أحد. فإذا وعظ مجد الدين يصيح ويغشى عليه ثم يفيق، فيتوضأ ويصلي ركعتين. ثم إذا سمع الواعظ صاح يفعل ذلك مرارا في الليلة وسمي الصياح لأجل ذلك. وكان أعذر اليد والرجل، لا قدرة له على الخدمة، وكانت له والدة تقوته من غزلها. فلما توفيت اقتات من نبات الأرض. ولقيت بهذه المدينة الشيخ الصالح عبد الله المصري السائح وهو من الصالحين، جال الأرض، إلا أنه لم يدخل الصين ولا جزيرة سرنديب ولا المغرب ولا الأندلس ولا بلاد السودان، وقد زدت عليه بدخول هذه الأقاليم.

صفحة : 151

ذكر سلطان برصا

سلطانها اختيار الدين أرخان بك، وأرخان بضم الهمزة وخاء معجم ابن السلطان عثمان جوق وجوق بجيم معقود مضموم وآخره قاف وتفسيره بالتركية الصغير. وهذا السلطان أكبر ملوك التركمان وأكثر مالا وبلادا وعسكرا، له من الحصون ما يقارب مائة حصن. وهو في أكثر أوقاته لا يزال يطوف عليها، ويقيم بكل حصن منها أياما لإصلاح شؤونه وتفقد حاله. ويقال: إنه لم يقم قط شهرا كاملا ببلد، ويقاتل الكفار ويحاصرهم. وواله هو الذي استفتح مدينة برصا من أيدي الروم، وقبره بمسجدها. وكان مسجدها كنيسة للنصارى. ويذكر أنه حاصر مدينة برتيك نحو عشرين سنة ومات قبل فتحها، فحاصرها ولده هذا الذي ذكرناه اثني عشرة سنة وافتتحها. وبها كان لقائي له. وبعث إلي بدراهم كثيرة. ثم سافرنا إلى مدينة يزنيك وضبط اسمها بفتح الياء آخر الحروف وإسكان الزاي وكسر النون وياء مد وكاف وبتنا قبل الوصول إليها ليلة بقرية تدعى كرله، بزاوية فتى من الأخية. ثم سرنا من هذه القرية يوما كاملا في أنهار ماء على جوانبها أشجار الرمان الحلو والحامض، ثم وصلنا إلى بحيرة ماء تنبت القصب، على ثمانية أميال من يزنيك. لا يستطاع دخولها إلا على طريق واحد مثل الجسر، لا يسلك عليها إلا فارس واحد. وبذلك امتنعت هذه المدينة، والبحيرة محيطة بها من جميع الجهات، وهي خاوية على عروشها. لا يسكن بها إلا أناس قليلون من خدام السلطان، وبها زوجته بيون خاتون، وهي الحاكمة عليهم امرأة صالحة فاضلة، وعلى المدينة أسوار أربعة. بين كل سورين خندق وفيه الماء، ويدخل إليها على جسور خشب، متى أرادوا رفعها رفعوها. وبداخل المدينة البساتين والدور والأرض والمزارع، فلكل إنسان داره ومزرعته وبستانه مجموعة. وشربها من آبار قريبة، وبها من جميع أصناف الفواكه والجوز. والقسطل عندهم كثير جدا رخيص الثمن. ويسمون القسطل قسطنة بالنون. والجوز القوز بالقاف. وبها العنب العذاري لم أر مثله في سواها، متناهي الحلاوة وعظيم الجرم. صافي اللون رقيق القشر، للحبة منه نواة واحدة. أنزلنا بهذه المدينة الفقيه الإمام الحاج المجاور علاء الدين السلطانيوكي، وهو شيخ الفضلاء الكرماء، ما جئت قط لزيارته إلا أحضر الطعام، وصورته حسنة وسيرته أحسن. وتوجه معي إلى الخاتون المذكورة، فأكرمت وأضافت وأحسنت. وبعد قدومنا بأيام وصل إلى هذه المدينة السلطان أرخان بك الذي ذكرناه. وأقمت بهذه المدينة نحو أربعين يوما بسبب مرض فرس لي. فلما طال علي المكث تركته وانصرفت، ومعي ثلاثة من أصحابي وجارية وغلامان. وليس معنا من يحسن اللسان التركي ويترجم عنا. وكان لنا ترجمان فارقنا بهذه المدينة. ثم خرجنا منها فبتنا بقرية يقال لها مكجا بفتح الميم والكاف والجيم بتنا عند فقيه أكرمنا وأضافنا. وسافرنا من عنده وتقدمتنا امرأة من الترك على فرس ومعها خديم لها، وهي قاصدة مدينة ينجا، ونحن في اتباع أثرها، فوصلت إلى واد كبير يقال له سقري كأنه نسب إلى سقر، أعاذنا الله منها، فذهبت تجوز الوادي فلما توسطته، كادت الدابة تغرق بها ورمتها عن ظهرها، وأراد الخديم الذي كان معها استخلاصها، فذهب الوادي بهما معا. وكان في عدوة الوادي قوم رموا بأنفسهم في أثرها سباحة، فأخرجوا المرأة وبها من الحياة رمق، ووجدوا الرجل قد قضى نحبه رحمه الله. وأخبرنا أولئك الناس أن المعدية أسفل من ذلك الموضع. توجهنا إليها، وهي أربع خشبات مربوطة بالحبال، يجعلون عليها سروج الدواب والمتاع، ويجذبها الرجال من العدوة الأخرى، ويركب عليها الناس. وتجاز الدواب سباحة وكذلك فعلنا. ووصلنا تلك الليلة إلى كاوية واسمها على مثال فاعلة من الكي نزلنا منها بزاوية أحد الأخية فكلمناه بالعربية فلم يفهم عنا، وكلمنا بالتركية فلم نفهم عنه، فقال: اطلبوا الفقيه فإنه يعرف العربية. فأتى الفقيه فكلمنا بالفارسية وكلمناه بالعربية فلم يفهمها منا فقال: للفتى ايشان عربي كهنا ميقوان ميكو يندو من عربي نوميدانم. وايشان معناه هؤلاء، وكهنا قديم، وميقوان يقولون، ومن أنا، ونو جديد، وميدانم تعرف. وإنما أراد الفقيه بهذا الكلام ستر نفسه عن الفضيحة حين ظنوا أنه يعرف اللسان العربي وهو لا يعرفه. فقال لهم: هؤلاء يتكلمون بالكلام العربي القديم، وأنا لاأعرف إلا العربي الجديد فظن الفتى أن الأمر على ما قاله الفقيه.

صفحة : 152

ونفعنا ذلك عنده وبالغ في إكرامنا وقال: هؤلاء تجب كرامتهم، لأنهم يتكلمون باللسان العربي القديم وهو لسان النبي ﷺ تسليما وأصحابه. ولم نفهم كلام الفقيه إذ ذاك لكنني حفظت لفظه. فلما تعلمت اللسان الفارسي فهمت مراده. وبتنا تلك الليلة بالزاوية، وبعث معنا دليلا إلى ينجا وضبط اسمها بفتح الياء آخر الحروف وكسر النون وجيم بلدة كبيرة حسنة. بحثنا بها عن زاوية الأخي فوجدنا بها أحد الفقراء المولهين، فقلت له: هذه زاوية الأخي، فقال لي: نعم. فسرت عند ذلك إذ وجدت من يفهم اللسان العربي. فلما اختبرته أبرز الغيب أنه لا يعرف من اللسان العربي إلا كلمة نعم خاصة. ونزلنا بالزاوية وجاء إلينا أحد الطلبة بطعام. ولم يكن الأخي حاضرا، وحصل الأنس بهذا الطالب، ولم يكن يعرف اللسان العربي، ولكنه تفضل وتكلم مع نائب البلدة فأعطاني فارسا من أصحابه، وتوجه معنا إلى كبنوك وضبط اسمها بفتح الكاف وسكون الباء وضم النون وهي بلدة صغيرة يسكنها كفار الروم تحت ذمة المسلمين، وليس بها غير بيت واحد من المسلمين، وهم الحكام عليهم. وهي من بلاد السلطان أرخان بك، فنزلنا بدار عجوز كافرة، وذلك إبان الثلج والشتاء، فأحسنا إليها وبتنا عندها تلك الليلة، وهذه البلدة لا شجر بها ولا دوالي العنب ولا يزرع بها إلا الزعفران، وأتتنا هذه العجوز بزعفران كثير، وظنت أننا تجار نشتريه منها .ولما كان الصباح ركبنا وأتانا الفارس الذي بعثه الفتى معنا من كاوية، فبعث معنا فارسا غيره ليوصلنا إلى مدينة مطرني. وقد وقع في تلك الليلة ثلج كثير عفى عن الطريق ، فتقدمنا ذلك الفارس فاتبعنا أثره إلى أن وصلنا في نصف النهار إلى قرية للتركمان، فأتوا بطعام فأكلنا منه، وكلمهم ذلك الفارس فركب معنا أحدهم، وسلك بنا أوعارا وجبالا ومجرى ماء تكرر لنا جوازه أزيد من الثلاثين مرة. فلما خلصنا من ذلك قال لنا ذلك الفارس: أعطوني شيئا من الدراهم. فقلنا له: إذا وصلنا إلى المدينة نعطيك ونرضيك فلم يرض ذلك منا، أو لم يفهم عنا. فأخذ قوسا لبعض أصحابي ومضى غير بعيد ثم رجع فرد إلينا القوس فأعطيته شيئا من الدراهم، فأخذها وهرب عنا وتركنا لا نعرف أين نقصد ولا طريق لنا، فكنا نتلمح أثر الطريق تحت الثلج ونسلكه، إلى أن بلغنا عند غروب الشمس إلى جبل يظهر الطريق به لكثرة الحجارة، فخفت الهلاك علي ومن معي وتوقعت نزول الثلج ليلا ولا عمارة هنالك. فإن نزلنا عن الدواب هلكنا، وإن سرينا ليلتنا لا نعرف أين نتوجه. وكان لي فرس من الجياد فعملت على الخلاص، وقلت في نفسي: إذا سلمت لعلي أحتال في سلامة أصحابي، فكان كذلك. واستودعتهم الله تعالى وسرت. وأهل تلك البلاد يبنون على القبور بيوتا من الخشب يظن رائيها أنها عمارة، فيجدها قبورا. فظهر لي منها كثير. فلما كان بعد العشاء وصلت إلى البيوت فقلت: اللهم اجعلها عامرة، فوجدتها عامرة، ووفقني الله تعالى إلى باب دار، فرأيت عليها شيخا فكلمته بالعربي فكلمني بالتركي، وأشار إلي بالدخول. فأخبرته بشأن أصحابي فلم يفهم عني، وكان من لطف الله أن تلك الدار زاوية للفقراء، والواقف بالباب شيخها. فلما سمع الفقراء الذين بداخل الزاوية كلامي مع الشيخ خرج بعضهم. وكانت بيني وبينه معرفة فسلم علي، وأخبرته خبر أصحابي وأشرت إليه بأن يمضي مع الفقراء لاستخلاص الأصحاب، ففعلوا ذلك وتوجهوا معي إلى أصحابي، وجئنا جميعا إلى الزاوية وحمدنا الله تعالى على السلامة، وكانت ليلة جمعة، فاجتمعوا أهل القرية وقطعوا ليلتهم بذكر الله تعالى. وأتى كل منهم بما تيسر له من الطعام وارتفعت المشقة. ورحلنا عند الصباح فوصلنا مدينة مطرني عند صلاة الجمعة وضبط اسمها بضم الميم والطاء المكهملة واسكان الراء وكسر النون وياء مد، فنزلنا بزاوية أحد الفتيان الأخية، وبها جماعة من المسافرين، ولم نجد مربطا للدواب. فصلينا الجمعة ونحن في قلق لكثرة الثلج والبرد وعدم المربط، فلقينا أحد الحجاج من أهلها فسلم علينا، وكان يعرف اللسان العربي فسررت برؤيته، وطلبت منه أن يدلنا على مرابط للدواب بالكراء. فقال: أما ربطها فهي في منزل فلا يتأتى، لأن أبواب دور هذه البلدة صغار، لا تدخل منها الدواب، ولكنني أدلكم على سقيفة بالسوق يربط فيهم المسافرون دوابهم، والذين يأتون لحضور السوق،

صفحة : 153

فدلنا عليها وربطنا بها دوابنا، ونزل أحد الأصحاب بحانوت خال إزاءها ليحرس الدواب. عليها وربطنا بها دوابنا، ونزل أحد الأصحاب بحانوت خال إزاءها ليحرس الدواب.

حكاية

وكان من غريب ما اتفق لنا أني بعثت أحد الخدام ليشتري التبن للدواب، وبعثت أحدهم يشتري السمن. فأتى أحدهما بالتبن، والآخر دون شيء، وهو يضحك. فسألناه عن سبب ضحكه فقال: إنا وقفنا على دكان بالسوق فطلبنا منه السمن، فأشار إلينا بالوقوف. وكلم والده فدفعنا له الدراهم، فأبطأ ساعة وأتى بالتبن فأخذناه منه، وقلنا له: إنا نريد السمن، فقال: هذا السمن، وأبرز الغيب أنهم يقولون للتبن سمن بلسان الترك. أما السمن فيسمى عندهم رباغ. ولما اجتمعنا بهذا الحاج الذي يعرف اللسان العربي رغبنا منه أن يسافر معنا إلى قصطومنية، وبينها وبين هذه البلدة عشرة، وكسوته ثوبا مصريا من ثيابي، وأعطيته نفقه تركها لعياله، وعينت له دابة لركوبه، ووعدته الخير. وسافر معنا، فظهر لنا من حاله أنه صاحب مال كثير، وله ديون على الناس، غير أنه ساقط الهمة خسيس الطبع سيء الأفعال وكنا نعطيه الدارهم لنفقتنا فيأخذ ما يفضل من الخبز ويشتري به الأبراز والخضر والملح ويمسك ثمن ذلك لنفسه. وذكر لي أنه كان يسرق من دارهم النفقة دون ذلك، وكنا نحتمله لما كنا نكابده من عدم المعرفة بلسان الترك، وانتهت حاله إلى أن فضحناه، وكنا نقول له في آخر النهار ياحاج، كم سرقت اليوم من النفقة? فيقول: كذا فنضحك منه ونرضى بذلك. ومن أفعله الخسيسة أنه مات لنا فرس في بعض المنازل، فتولى سلخ جلده بيده وباعه. ومنها أنا نزلنا ليلة عند أخت له في بعض القرى فجاءت بطعام وفاكهة من الأجاص والتفاح والمشمش والخوخ، كلها ميبسة وتجعل في الماء حتى ترطب فتؤكل ويشرب ماؤها. فأردنا أن نحسن إليها فعلم بذلك فقال: لا تعطوها شيئا، وأعطوا ذلك لي فأعطيناه إرضاء له، وأعطيناه إحسانا في خفية بحيث لم يعلم بذلك. ثم وصلنا إلى مدينة بولي وضبط اسمها بياء موحدة مضموة وكسر اللام، ولما انتهينا إلى قريب منها وجدنا واديا يظهر في رأي العين صغيرا، فلما دخله بعض أصحابنا وجدوه شديد الجرية والانزعاج، فجاوزه جميعا. وبقيت جارية صغيرة خافوا في تجويزها، وكان فرسي خيرا من أفراسهم فأردفتها، وأخذت في جواز الوادي فلما توسطته وقع بي الفرس ووقعت الجارية، فأخرجها أصحابي وبها رمق وخلصت أنا. ودخلنا المدينة فقصدنا زاوية أحد الفتيان الأخية، ومن عوائدهم أنه لا تزال النار موقودة في زواياهم أيام الشتاء أبدا. يجعلون في كل ركن من أركان الزاوية موقد النار، ويصنعون لها منافس يصعد منها الدخان، ولا يؤذي الزاوية. ويسمونها البخاري واحدها بخيري. قال ابن جزي: وقد أحسن صفي الدين عبد العزيز بن سرايا الحلي في قوله في التورية، وتذكرته بذكر البخيري:

إن البخيري مذ فارقتموه غـدا يحثو الرماد على كانونه الترب لو شئتم أنه يمسي أبـا لـهـب جاءت بغالكم حمالة الحطـب

قال: فلما دخلنا للزاوية وجدنا النار موقودة، فنزعت ثيابي ولبست ثيابا سواها، واصطليت بالنار. وأتى الأخي بالطعام والفاكهة أكثر من ذلك. فلله درهم من طائفة ماأكرم نفوسهم وأشد إيثارهم وأعظم سفقتهم على الغريب وألطفهم بالوارد وأحبهم فيه وأجملهم أحتفالا بأمره. فليس قدوم الإنسان الغريب عليهم إلا كقدومه على أحب أهله إليه. وبتنا تلك الليلة بحال مرضية، ثم رحلنا بالغداة فوصلنا إلى مدينة كردي بولي وضبط اسمها بكاف معقودة وفتح الراء والدال المهمل وسكون الياء وباء موحدة مضمومة وواو مد ولام مكسورة وياء، وهي مدينة كبيرة في بسيط من الأرض حسنة، متسعة الشوارع وألسواق، من أشد البلاد بردا. وهي محلات مفترقة، كل محلة تسكنها طائفة لا يخالطهم غيرهم.

صفحة : 154

ذكر سلطانها

وهو السلطان شاه بك، من متوسطي سلاطين هذه البلاد، حسن الصورة والسيرة جميل الخلق قليل العطاء. صلينا بهذه المدينة صلاة الجمعة ونزلنا منها، ولقيت بها الخطيب الفقيه شمس الدين الدمشقي الحنبلي، وهو من مستوطنيها من سنين، وله بها أولاد. وهو فقيه هذا السلطان وخطيبه، ومسموع الكلام عنده. ودخل علينا هذا الفقيه بالزاوية، فأعلمنا أن السلطان قد جاء لزيارتنا. فشكرته على فعله، واستقبلت السلطان فسلمت عليه وجلس. فسألني عن حالي وعن مقدمي وعمن لقيته من السلاطين، فأخبرته بذلك كله. وأقام ساعة ثم انصرف، وبعث بدابة مسرجة وكسوة وانصرفنا إلى مدينة برلو وضبط اسمها بضم الباء الموحد وإسكان الراء وضم اللام ، وهي مدينة صغيرة على تل، تحتها خندق، ولها قلعة بأعلى شاهق. نزلنا منها بمدرسة. وكان الحاج الذي سافر معنا يعرف مدرستها وطلبتها، ويحضر معهم الدرس. وهو على علاته من الطلبة حنفي المذهب. ودعانا أمير هذه البلدة وهو علي بك ابن السلطان المكرم سليمان باد شاه ملك قصطمونية وسنذكره، فصعدنا إليه إلى القلعة، فسلمنا عليه، فرحب بنا وأكرمنا، وسألني عن أسفاري وحالي، فأجبته عن ذلك، وأجلسني إلى جانبه. وحضر قاضيه وكاتبه الحاج علاء الدين محمد وهو من كبار الكتاب، وحضر الطعام فأكلنا ثم قرأ القراء بأصوات مبكية وألحان عجيبة وانصرفنا. وسافرنا بالغد إلى مدينة قصطمونية وضبط اسمها بقاف مفتوح وصاد مهمل مسكن وطاء مهمل مسكن وطاء مهمل مفتوح وميم مضمومة وواو ونون مكسور وياء آخر الحروف ، وهي من أعظم المدن وأحسنها، كثيرة الخيرات، رخيصة الأسعار. نزلنا منها بزاوية شيخ يعرف الأطروش لثقل سمعه. ورأيت منه عجبا، وهو أن أحد الطلبة كان يكتب له في الهواء، وتارة في الأرض بإصبعه، فيفهم عنه ويجيبه، ويحكي له بذلك، الحكايات فيفهمها. وأقمنا بهذه المدينة نحو أربعين يوما فكنا نشتري طابق اللحم الغنمي السمين بدرهمين، ونشتري خبزا بدرهمين فيكفينا ليومنا، ونحن عشرة. ونشتري حلواء العسل بدرهمين، فتكفينا أجمعين. ونشتري جوزا بدرهم وقشطلا بمثله، فنأكل منها أجمعون، ويفضل باقيها. ونشتري حمل الحطب بدرهم واحد، وذلك أوان البرد الشديد، ولم أر في البلاد مدينة أرخص أسعارا منها. ولقيت بها الشيخ الإمام العالم المفتي المدرس تاج الدين السلطانيوكي من كبار العلماء، قرأ بالعراقين وتبريز واستوطنها مدة، وقرأ بدمشق، وجاور بالحرمين قديما. ولقيت بها العلم المدرس صدر الدين سليمان الفنيكي من أهل فنيكة من بلاد الروم، وأضافني بمدرسته التي بسوق الخيل، ولقيت بها الشيخ المعمر الصالح دادا أمير علي، دخلت عليه بزاويته بمقربة من سوق الخيل، فوجده ملقى على ظهره، فأجلسه بعض خدامه، ورفع بعضهم حاجبيه عن عينيه ففتحهما، وكلمني بالعربي الفصيح، وقال: قدمت خير مقدم، وسألته عن عمره فقال: كنت من أصحاب الخليفة المستنصر بالله، وتوفي وأنا ابن ثلاثين سنة. وعمري الآن مائة وثلاث وستون سنة، فطلبت منه الدعاء فدعا لي وانصرف.

صفحة : 155

ذكر سلطان قصطمونية

وهو السلطان المكرم سليمان بادشاه واسمه بباء معقود وألف ودال مسكن، وهو كبير السن ينيف على سبعين سنة، حسن الوجه طويل اللحية صاحب وقار وهيبة، يجالسه الفقهاء والصلحاء. دخلت عليه بمجلسه فأجلسني إلى جانبه وسألني عن حالي ومقدمي وعن الحرمين الشريفين ومصر والشام فأجبته، وأمر بإنزالي على قرب منه، وأعطاني ذلك اليوم فرسا عتيقا قرطاسي اللون وكسوة، وعين لي نفقة وعلفا، وأمر لي بعد ذلك بقمح وشعير نفذ لي في قرية من قرى المدينة، على مسيرة نصف يوم منها، فلم أجد من يشتريه، لرخص الأسعار، فأعطيته للحاج الذي كان في صحبتنا. ومن عادة هذا السلطان أن يجلس كل يوم بمجلسه، بعد صلاة العصر، ويؤتى بالطعام فتفتح الأبواب، ولا يمنع أحد من حضري أو بدوي أو غريب أو مسافر من الأكل. ويجلس في أول النهار جلوسا خاصا، ويأتي ابنه فيقبل يديه، وينصرف إلى مجلس له ويأتي أرباب الدولة فيأكلون عنده وينصرفون. ومن عادته في يوم الجمعة أن يركب إلى المسجد، وهو بعيد عن داره. والمسجد المذكور هو ثلاث طبقات من الخشب. فيصلي السلطان وأرباب دولته والقاضي والفقهاء ووجوه الأجناد في الطبقة السفلى، ويصلي الأفندي، وهو أخو السلطان وأصحابه وأخدامه وبعض أهل المدينة في الطبقة الوسطى، ويصلي ابن السلطان ولي عهده وهو أصغر أولاده، ويسمى الجواد، وأصحابه ومماليكه وخدامه وسائر الناس في الطبقة العليا، ويجتمع القراء فيقعدون حلقة أمام المحراب، ويقعد معهم الخطيب والقاضي. ويكون السلطان بإزاء المحراب. ويقرأون سورة الكهف بأصوات حسان، ويكررون الآيات بترتيب عجيب. فإذا فرغوا من قراءتها صعد الخطيب المنبر فخطب ثم صلى، فإذا فرغوا من الصلاة تنفلوا وقرأ القارئ بين يدي السلطان عشرا، وانصرف السلطان ومن معه. ثم يقرأ القارئ بين يدي أخي السلطان، فإذا أتم قراءته انصرف هو ومن معه، ثم يقرأ القارئ بين يدي ابن السلطان، فإذا فرغ من قراءته قام المعرف، وهو المذكر، فيمدح السلطان بشعر تركي ويمدح ابنه ويدعو لهما وينصرف. ويأتي ابن الملك إلى دار أبيه بعد أن يقبل يد عمه في طريقه واقفا في انتظاره، ثم يدخلان إلى السلطان فيتقدم اخوه ويقبل يده ويجلس بين يديه، ثم يأتي ابنه فيقبل يده وينصرف إلى مجلسه فيقعد به مع ناسه. فإذا حانت صلاة العصر صلوها جميعا. وقبل أخو السلطان يده، وانصرف عنه فلا يعود إليه إلا في الجمعة الأخرى. وأما الولد فإنه يأتي كل يوم غدوة كما ذكرناه. ثم سافرنا من هذه المدينة ونزلنا في زاوية عظيمة بإحدى القرى من أحسن زاوية رأيتها في تلك البلاد، بناها أمير كبير تاب إلى الله تعالى يسمى فخر الدين، وجعل النظر فيها لولده، والإشراف لمن أقام بالزاوية من الفقراء. وفوائد القرية وقف عليها. وبنى بإزاء الزاوية حماما للسبيل يدخله الوارد والصادر من غير شيء يلزمه، وبنى سوقا بالقرية ووقفه على المسجد الجامع. وعين من أوقاف هذه الزاوية لكل فقير يرد من الحرمين الشريفين أو من الشام ومصر والعراقين وخراسان وسواهما كسوة كاملة ومائة درهم يوم قدومه، وثلاثمائة درهم يوم سفره. والنفقه أيام مقامه وهي الخبز واللحم والأرز المطبوخ بالسمن والحلواء. ولكل فقير من بلاد الروم عشرة دراهم وضيافة ثلاثة أيام، ثم انصرفنا وبتنا ليلة ثانية بزاوية في جبل شامخ لا عمارة فيه عمرها بعض الفتيان الأخية، ويعرف بنظام الدين من أهل قصطمونية، ووقف عليها قرية ينفق خراجها على الوارد والصادر بهذه الزاوية. وسافرنا من هذه الزاوية إلى مدينة صنوب وضبط اسمها بفتح الصاد وضم النون وآخره باء، وهي مدينة حافلة جمعت بين التحصين والتحسين، يحيط بها البحر من جميع جهاتها إلا واحدة وهي الشرق، ولها هنالك باب واحد لا يدخل إليها أحد إلا بإذن أميرها، وأميرها إبراهيم بك ابن السلطان سليمان بادشاه الذي ذكرناه. ولما استؤذن لنا عليه دخلنا البلد ونزلنا بزاوية عز الدين أخي جلبي، وهي خارج باب البحر، ومن هنالك يصعد إلى جبل داخل في البحر، كميناء سبتة في البساتين والمزارع والمياه،وأكثر فواكهه التين والعنب، وهو جبل مانع لا يستطاع الصعود إليه. وفيه إحدى عشرة قرية يسكنها كحفار الروم تحت ذمة المسلمين. وبأعلاه رابطة تنسب للخضر والياس عليهما السلام، لا تخلو عن متعبد، وعندها عين ماء. والدعاء فيها مستجاب. وبسفح هذه

صفحة : 156

الجبر قبر الوالي الصالح الصحابي بلال الحبشي، وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر. والمسجد بمدينة صنوب من أحسن المساجد. وفي وسطه بركة ماء عليها قبة تثقلها أربع أرجل، ومع كل رجل ساريتان من الرخام، وفوقها مجلس يصعد له على درج خشب، وذلك من عمارة السلطان بروانه ابن السلطان علاء الدين الرومي، وكان يصلي الجمعة بأعلى تلك القبة. وملك بعد ابنه غازي جلبي، فلما مات تغلب عليها السلطان سليمان المذكور. وكان غازي جلبي المذكور شجاعا مقداما، ووهبه الله خاصية في الصبر تحت الماء وفي قوة السباحة، وكان يسافر في الأجفان الحربية لحرب الروم، فإذا كانت الملاقاة واشتغل الناس بالقتال غاص تحت الماء وبيده آلة حديد يخرق بها أجفان العدو، فلا يشعرون بما حل بهم حتى يدهمهم الغرق. وطرقت مرسى بلده مرة أجفان العدو فخرقها وأي من كان فيها. وكانت فيه كفاية لا كفاء لها إلا أنهم يذكرون أنه كان يكثر أكل الحشيش وبسببه مات. فإنه خرج يوما للتصيد وكان مولعا به، فاتبع غزالة ودخلت له بين الأشجار، وزاد في ركض فرسه فعارضته شجرة فضربت رأسه فخدشته فمات. وتغلب السلطان سليمان على البلد وجعل به ابنه ابراهيم. ويقال: إنه أيضا كان يأكل صاحبه، على أن أهل بلاد الروم كلها لا ينكرون أكلها. ولقد مررت يوما على باب الجامع بصنوب، وبخارجه دكاكين يقعد الماس عليها، فرأيت نفرا من كبار الأجناد وبين أيديهم خديم لهم بيده شكارة مملوءة بشيء يشبه الحناء، وأحدهم يأخذ منها بملعقة ويأكل، وأنا أنظر إليه ولا أعلم بما في الشكارة. فسألت من كان معي فأخبرني أنه الحشيش. وأضافنا بهذه المدينة قاضيها ونائب الأمير بها ومعلمه ويعرف بابن عبد الرزاق.ر قبر الوالي الصالح الصحابي بلال الحبشي، وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر. والمسجد بمدينة صنوب من أحسن المساجد. وفي وسطه بركة ماء عليها قبة تثقلها أربع أرجل، ومع كل رجل ساريتان من الرخام، وفوقها مجلس يصعد له على درج خشب، وذلك من عمارة السلطان بروانه ابن السلطان علاء الدين الرومي، وكان يصلي الجمعة بأعلى تلك القبة. وملك بعد ابنه غازي جلبي، فلما مات تغلب عليها السلطان سليمان المذكور. وكان غازي جلبي المذكور شجاعا مقداما، ووهبه الله خاصية في الصبر تحت الماء وفي قوة السباحة، وكان يسافر في الأجفان الحربية لحرب الروم، فإذا كانت الملاقاة واشتغل الناس بالقتال غاص تحت الماء وبيده آلة حديد يخرق بها أجفان العدو، فلا يشعرون بما حل بهم حتى يدهمهم الغرق. وطرقت مرسى بلده مرة أجفان العدو فخرقها وأي من كان فيها. وكانت فيه كفاية لا كفاء لها إلا أنهم يذكرون أنه كان يكثر أكل الحشيش وبسببه مات. فإنه خرج يوما للتصيد وكان مولعا به، فاتبع غزالة ودخلت له بين الأشجار، وزاد في ركض فرسه فعارضته شجرة فضربت رأسه فخدشته فمات. وتغلب السلطان سليمان على البلد وجعل به ابنه ابراهيم. ويقال: إنه أيضا كان يأكل صاحبه، على أن أهل بلاد الروم كلها لا ينكرون أكلها. ولقد مررت يوما على باب الجامع بصنوب، وبخارجه دكاكين يقعد الماس عليها، فرأيت نفرا من كبار الأجناد وبين أيديهم خديم لهم بيده شكارة مملوءة بشيء يشبه الحناء، وأحدهم يأخذ منها بملعقة ويأكل، وأنا أنظر إليه ولا أعلم بما في الشكارة. فسألت من كان معي فأخبرني أنه الحشيش. وأضافنا بهذه المدينة قاضيها ونائب الأمير بها ومعلمه ويعرف بابن عبد الرزاق.

صفحة : 157

حكاية

لما دخلنا هذه المدينة رآنا أهلها ونحن نصلي مسبلي أيدينا وهم حنفية لا يعرفون مذهب مالك ولا كيفية صلاته، والمختار من مذهبه وهو إسبال اليدين. وكان بعضهم يرى الروافض بالحجاز والعراق مسبلي أيديهم، فاتهمونا بمذهبهم، وسألونا عن ذلك فأخبرناهم أننا على مذهب مالك، فلم يقنعوا بذلك منا واستقرت التهمة في نفوسهم حتى بعث إلينا نائب السلطان بأرنب، وأوصى بعض خدامه أن يلازمنا حتى يرى ما نفعل له، فذبجناه وطبخناه وأكلناه وانصرف الخديم إليه وأعلمه بذلك. فحينئذ زالت عنا التهمة، وبعثوا لنا بالضيافة. والروافض لا يأكلون الأرانب. وبعد أربعة أيام من وصولنا إلى صنوب توفيت أم الأمير إبراهيم بها، فخرجت في جنازتها وخرج ابنها على قدميه، كاشفا شعره، وكذلك الأمراء والمماليك وثيابهم مقلوبة. وأما القاضي والخطيب والفقهاء. فإنهم قلبوا ثيابهم ولم يكشفوا رؤوسهم بل جعلوا عليها مناديل من الصوف الأسود عوضا عن العمائم. وأقاموا يطعمون الطعام أربعين يوما وهي مدة العزاء عندهم. وكانت إقامتنا بهذه المدينة نحو أربعين يوما ننتظر تيسير السفر في البحر إلى مدينة القرم فاكترينا مركبا للروم، وأقمنا أحد عشر يوما ننتظر مساعدة الريح، ثم ركبنا البحر، فلما توسطناه بعد ثلاث، هال علينا واشتد بنا الأمر ورأينا الهلاك عيانا، وكنت بالطارمة ومعي رجل من أهل المغرب، يسمى أبا بكر، فأمرته أن يصعد إلى أعلى المركب لينظر كيف البحر، ففعل ذلك وأتاني بالطارمة فقال لي: استودعكم الله، ودهمنا من الهول ما لم يعهد مثله، ثم تغيرت الريح وردتنا إلى مقربة من مدينة صنوب التي خرجنا منها. وأراد بعض التجار النزول إلى مرساها. فمنعت صاحب المركب من إنزاله ثم استقامت الريح وسافرنا، فلما توسطنا البحر هال علينا، وجرى لنا مثل المرة الأولى. ثم ساعدت الريح، ورأينا جبال البر، وقصدنا مرسى يسمى الكرش، فأردنا دخوله، فأشار إلينا أناس كانوا بالجبل أن لا تدخلوا، فخفنا على أنفسنا وظننا أن هنالك أجفانا للعدو، فرجعنا مع البر، فلما قربناه قلت لصاحب المركب، أريد أن أنزل ها هنا. فأنزلني بالساحل. ورأيت كنيسة فقصدتها، فوجدت بها راهبا، ورأيت في أحد حيطان الكنيسة صورة رجل عربي عليه عمامة متقلد سيفا وبيده رمح، وبين يديه سراج يوقد، فقلت للراهب ما هذه الصورة فقال هذه صورة النبي علي فأعجبت من قوله. وبتنا تلك الليلة بالكنيسة وطبخنا دجاجا فلم نستطع أكلها إذ كانت مما استصحبناه في المركب ورائحة البحر قد غلبت على كل ما كان فيه. وهذا الموضع الذي نزلنا به هو من الصحراء المعروفة بدشت قفجق والدشت بالشين المعجم والتاء المثناة بلسان الترك هو الصحرا. وهذه الصحراء خضرة نضرة لا شجر بها ولا جبل ولا تل ولا أبنية ولا حطب، وإنما يوقدون الأرواث ويسمونها التزك، فترى كبراءهم يلقطونها ويجعلونها في أطراف ثيابهم، ولا يسافر في هذه الصحراء إلا في العجل، وهي مسيرة ستة أشهر، ثلاثة منها في بلاد السلطان محمد أوزبك وثلاثة في بلاد غيره. ولما كان الغد من وصولنا إلى هذا المرسى، توجه بعض التجار من أصحابنا إلى من بهذه الصحراء من الطائفة المعروفة بقفجق، وهم على دين النصرانية. فاكترى منهم عجلة يجرها الفرس فركبناها ووصلنا إلى مدينة الكفا واسمها بكاف وفاء مفتوحين، وهي مدينة عظيمة مستطيلة على ضفة البحر، يسكنها النصارى، وأكثرهم الجنويون ولهم أمير يعرف بالدندير، ونزلنا منها بمسجد المسلمين.

صفحة : 158

حكاية

ولما نزلنا بهذا الجامع أقمنا به ساعة ثم سمعنا أصوات النواقيس من كل ناحية، ولم أكن سمعتها قط فهالني ذلك، وأمرت أصحابي أن يصعدوا الصومعة ويقرأوا القرآن ويذكروا الله ويؤذنوا ففعلوا ذلك. فإذا برجل قد دخل علينا وعليه الدرع والسلاح فسلم علينا واستفهمناه عن شأنه فأخبرنا أنه قاضي المسلمين هنالك وقال: لما سمعت القراءة والأذان خفت عليكم فجئت كما ترون. ثم انصرف عنا وما رأينا إلا خيرا. ولما كان الغد جاء إلينا الأمير وصنع طعاما فأكلنا عنده، وطفنا بالمدينة فرأيناها حسنة الأسواق. وكلهم كفار ونزلنا إلى المرسى، فرأينا مرسى عجيبا به نحو مائتي مركب ما بين حربي وسفري، صغيرا وكبيرا، وهو من مراسي الدنيا الشهيرة، ثم اكترينا عجلة وسافرنا إلى مدينة القرم وهي بكسر القاف وفتح الراء مدينة كبيرة حسنة من بلاد السلطان المعظم محمد أوزبك خان، وعليها أمير من قبله اسمه تلكتمور وضبط اسمه بتاء مثناة مضمومة ولام مضموم وكاف مسكن وتاء كالأولى مضمومة وميم مضمومة وواو وراء، وكان أحد خدام هذا الأمير قد صحبنا في طريقنا فعرفه بقدومنا. فبعث إلي مع إمامه سعد الدين بفرس، ونزلنا بزاوية شيخها زاده الخراساني، فأكرمنا هذا الشيخ ورحب بنا وأحسن إلينا، وهو معظم عندهم. ورأيت الناس يأتون للسلام عليه من قاض وخطيب وفقيه وسواهم. وأخبرني هذا الشيخ زاده أن بخارج هذه المدينة راهبا من النصارى في دير يتعبد به، ويكثر الصوم. وأنه انتهى إلى أن يواصل أربعين يوما ثم يفطر على حبة فول. وأنه يكاشف بالأمور. ورغب مني أن أصحبه في التوجه إليه. فأبيت ثم ندمت بعد ذلك على أن لم أكن رأيته وعرفت حقيقة أمره. ولقيت بهذه المدينة قاضيها الأعظم شمس الدين السائل قاضي الحنفية، ولقيت بها قاضي الشافعية، وهو يسمى بخضر، والفقيه المدرس علاء الدين الأصي، وخطيب الشافعية أبا بكر، وهو الذي يخطب بالمسجد الجامع الذي عمره الملك الناصر رحمه الله بهذه المدينة، والشيخ الحكيم الصالح مظفر الدين وكان من الروم فأسلم وحسن إسلامه، والشيخ الصالح العابد مظهر الدين وهو من الفقهاء المعظمين. وكان الأمير تلكتمور مريضا، فدخلنا عليه، فأكرمنا وأحسن إلينا. وكان علي التوجه إلى مدينة السرا حضرة السلطان محمد أوزبك، فعملت في السير في صحبته، واشتريت العجلات برسم ذلك.

صفحة : 159

ذكر العجلات التي يسافر عليها بهذه البلاد

وهم يسمون العجلة عربة بعين مهملة وراء موحدة مفتوحات، وهي عجلات تكون للواحدة منهن أربع بكرات كبار، ومنها ما يجره فرسان، ومنها ما يجره أكثر من ذلك، وتجرها أيضا البقر والجمال على حال العربه في ثقلها أو خفتها. والذي يخدم العربة يركب إحدى الأفراس التي تجرها. ويكون عليه سرج، وفي يده سوط يحركها للمشي، وعود كبير يصوبها به إذا عاجت عن القصد، ويجعل على العربة شبه قبة من قضبان خشبة مربوط بعضها إلى بعض بسيور جلد رقيق، وهي خفيفة الحمل، وتكسى باللبد أو بالملف، ويكون فيها طيقان مشبكة، ويرى الذي بداخلها الناس ولا يرونه. ويتقلب فيها كما يحب وينام ويأكل ويقرأ ويكتب وهو في حال سيره. والتي تحمل الأثقال والأزواد وخزائن الأطعمة من هذه العربات يكون عليها شبه البيت كما ذكرنا. وعليها قفل. وجهزت لما أردت السفر عربة لركوبي مغشاة باللبد ومعي بها جارية لي، وعربة صغيرة لرفيقي عفيف الدين التوزري، وعجلة كبيرة لسائر الأصحاب: يجرها ثلاثة من الجمال، يركب أحدها خادم العربة، وسرنا في صحبة الأمير تلكتمور وأخيه عيسى وولديه قطلود مور وصارر بك، وسار أيضا معه في هذه الوجهة إمامه سعد الدين والخطيب أبو بكر والقاضي شمس الدين والفقيه شرف الدين موسى، والمعرف علاء الدين. وخطة هذا المعرف أن يكون بين يدي الأمير في مجلسه. فإذا أتى القاضي يقف له هذا المعرف ويقول بصوت عال: بسم الله سيدنا ومولانا قاضي القضاة والحكام مبين الفتاوى والأحكام، بسم الله. وإذا أتى فقيه معظم أو رجل مشار إليه قال بسم الله سيدنا ومولانا فلان الدين بسم الله، فيتهيأ من كان حاضرا لدخول الداخل ويقوم إليه ويفسح له في المجلس. وعادة الأتراك أن يسيروا في هذه الصحراء. سيرا كسير الحجاج في درب الحجاز. يرحلون بعد صلاة الصبح وينزلون ضحى ويرحلون بعد الظهر وينزلون عشيا. وإذا حلوا الخيل والإبل والبقر عن العربات، سرحوها للرعي ليلا ونهارا. ولا يعلف أحد دابة السلطان ولا غيره. وخاصية هذه الصحراء أن نباتها يقوم مقام الشعير للدواب، وليس لغيرها من البلاد هذه الخاصية، ولذلك كثرت الدواب بها. ودوابهم لا رعاة لها ولا حراس، وذلك لشدة أحكامهم في السرقة، وحكمهم فيها أنه من وجد عنده فرس مسروق كلف أن يرده إلى صاحبه ويعطيه معه تسعة مثله، فإن لم يقدر على ذلك أخذ أولاده في ذلك، فإن لم يكن له أولاد ذبح كما تذبح الشاة. وهؤلاء الأتراك لا يأكلون الخبز ولا الطعام الغليظ، وإنما يصنعون طعاما من شيء شبه الآتلي يسمونه الدوقي بدال مهمل مضموم وواو وقاف مكسور معقود، يجعلون على النار الماء فإذا غلى صبوا عليه شيئا من الدوقي، وإن كان عندهم لحم قطعوه قطعا صغارا وطبخوه. ثم يجعل لكل رجل نصيبه في صحفة، ويصبون عليه اللبن الرائب ويشربونه، ويشربون عليه لبن الخل، وهم يسمونه القمز بكسر القاف والميم والزاي المشددة وهم أهل قوة وشدة وحسن مزاج. ويستعملون في بعض الأوقات طعاما يسمونه البورخاني، وهو عجين يقطعونه قطعيات صغارا، ويثقبون أوساطها ويجعلونها في قدرة، فإذا طبخت صبوا عليها اللبن الرائب وشربوها. ولهم نبيذ يصنعونه من حب الدوقي الذي تقدم ذكره. وهم يرون أكل الحلواء عيبا.

صفحة : 160

ولقد حضرت يوما عند السلطان أوزبك في رمضان، فأحضرت لحوم الخيل وهي أكثر ما يأكلون من اللحم ولحوم الأغنام والرشتا وهو شبة الأطرية، يطبخ ويشرب باللبن، وأتيته تلك الليلة بطبق حلواء صنعها بعض أصحابي فقدمتها بين يديه فجعل إصبعه عليها وجعله على فيه، ولم يزد على ذلك، وأخبرني الأمير تلكتمور أن أحد الكبار من مماليك هذا السلطان وله من أولاده، وأولاد أولاده نحو أربعين ولدا، قال له السلطان يوما: كل الحلواء وأعتقكم جميعا، فأبى وقال: لو قتلتني ما أكلتها. ولما خرجنا من مدينة القرم نزلنا بزاوية الأمير تلكتمور، في موضع يعرف بسجاف فبعث إلي أن أحضر عنده. فركبت إليه. وكان لي فرس معد لركوبي يقوده خديم العربة، فإذا أردت ركوبه ركبته وأتيت الزاوية، فوجدت الأمير قد وضع بها طعاما كثيرا فيه الخبز، ثم أتوا بماء أبيض في صحاف صغار فشرب القوم منه. وكان الشيخ مظفر الدين يلي الأمير في مجلسه، وأنا أليه فقلت له: ما هذا? فقال هذا ماء الدهن. فلم أفهم ما قال. فذقته فوجدت له حموضة فتركته. فلما خرجت سألت عنه فقال هو نبيذ يصنعونه من حب الدوقي وهم حنفية المذهب، والنبيذ عندهم حلال ويسمون هذا النبيذ المصنوع من الدوقي البوزة بضم الباء الموحدة وواو مد وزاي مفتوح. وإنما قال لي الشيخ مظفر الدين: ماء الدخن ولسانه فيه اللكنة الأعجمية فظننت أنه يقول ماء الدهن. وبعد مسيرة ثمانية عشر منزلا من مدينة القرم، وصلنا إلى ماء كثير نخوضه يوما كاملا، وإذا كثر خوض الدواب والعربات في هذا الماء اشتد وحله، وزاد صعوبة. فذهب الأمير إلى راحلتي وقدمني أمامه مع بعض خدامه، وكتب لي كتابا إلى الأمير أزاق يعلمه أني أريد القدوم على الملك، ويحضه على إكرامي. وسرنا حتى انتهينا إلى ماء آخر نخوضه نصف يوم.

صفحة : 161

ثم سرنا بعده ثلاثا ووصلنا إلى مدينة أزاق وضبط اسمها بفتح الهمزة والزاي وآخره قاف، وهي على ساحل البحر حسنة العمارة، يقصدها الجنويون وغيرهم بالتجارات. وبها من الفتيان أخي بجقجي، وهو من العظماء، يطعم الوارد والصادر. ولما وصل كتاب القاضي تلكتمور إلى أمير أزاق وهو محمد خواجة الخوارزمي، خرج إلى استقبالي، معه القاضي والطلبة، وأخرج الطعام، فلما سلمنا عليه. نزلنا بموضع أكلنا فيه، ووصلنا إلى المدينة ونزلنا بخارجها بمقربة من رابطة هنالك، تنسب للخضر والياس عليهما السلام. وخرج شيخ من أهل أزاق يسمى برجب النهر ملكي نسبة إلى قرية بالعراق، فأضافنا بزاوية له ضيافة حسنة. وبعد يومين من قدومنا قدم الأمير تلكتمور، وخرج الأمير محمد للقائه، ومعه القاضي والطلبة وأعدوا له الضيافة، وضربوا ثلاث قباب متصلا بعضها ببعض، إحداها من الحرير الملون عجيبة والثنتان من الكتان. وأداروا عليها سراجة وهي المسماة عندنا أفراج، وخارجها الدهليز وهو على هيئة البرج عندنا. ولما نزل الأمير بسطت بين يديه شقاق الحرير يمشي عليها، فكان من مكارمه وفضله أن قدمني أمامه ليرى ذلك الأمير منزلتي عنده، ثم وصلنا إلى الخباء الأولى، وهي المعد لجلوسه، وفي صدرها كرسي من الخشب لجلوسه كبير، مرصع، وعليه مرتبة حسنة، فقدمني الأمير أمامه، وقدم الشيخ مظفر الدين، وصعد هو فجلس فيما بيننا، ونحن جميعا على المرتبة، وجلس قاضيه وخطيبه وقاضي هذه المدينة وطلبتها عن يسار الكرسي على فرش فاخرة، ووقف ولدا الأمير تلكتمور وأخوه والأمير محمد وأولاده في الخدمة، ثم أتوا بالأطعمة من لحوم الخيل وسواها، وأتوا بألبان الخيل، ثم أتوا بالبوزة، وبعد الفراغ من الطعام قرأ القراء بالأصوات الحسان. ثم نصب منبر وصعده الواعظ وجلس القراء بين يديه وخطب خطبة بليغة ودعا للسلطان وللأمير وللحاضرين، يقول ذلك بالعربي، ثم يفسره لهم بالتركي وفي أثناء ذلك يكرر القراء آيات من القرآن بترجيع عجيب، ثم أخذوا في الغناء يغنون بالعربي ويسمونه القول ثم بالفارسي والتركي، يسمونه الملمع، ثم أتوا بطعام آخر، ولم يزالوا على ذلك إلى العشي. وكلما أردت الخروج منعني الأمير ثم جاءوا بكسوة للأمير وكساوى لولديه وأخيه وللشيخ مظفر الدين ولي، وأتوا بعشرة أفراس للأمير ولأخيه ولولديه بستة أفراس. ولكل كبير من أصحابه بفرس ولي بفرس. والخيل بهذه البلاد كثيرة جدا، وثمنها نزر، قيمة الجيد منها خمسون درهما أو ستون من دراهمهم. وذلك صرف دينار من دنانيرنا أو نحوه. وهذه الخيل هي التي تعرف بمصر بالأكاديش ومنها معاشهم. وهي ببلادهم كالغنم ببلادنا بل أكثر، فيكون للتركي منهم آلاف منها.

صفحة : 162

ومن عادة الترك المستوطنين تلك البلاد أصحاب الخيل أنهم يضعون في العربات التي تركب فيها نساؤهم قطعة لبد في طول الشبر، مربوطة إلى عود رقيق في طول الذراع، في ركن العربة، يجعل لكل ألف فرس قطعة. ورأيت منهم من يكون له عشر قطع ومن له دون ذلك. وتحمل هذه الخيل إلى بلاد الهند، فيكون في الرفقة منها ستة آلاف وما فوقها وما دونها، لكل تاجر المائة والمائتان فما دون ذلك وما فوقه، ويستأجر التاجر لكل خمسين منها راعيا يقوم عليها ويرعاها كالغنم ويسمى عندهم القشي، ويركب أحدها وبيده عصا طويلة فيها حبل، فإذا أراد أن يقبض على فرس منها حاذاه بالفرس الذي هو راكبه ورمى الحبل في عنقه وجذبه، فيركبه ويترك الآخر للرعي. وإذا وصلوا بها إلى أرض السند أطعموها العلف لأن نبات أرض السند لا يقوم مقام الشعير، ويموت لهم منها الكثير ويسرق، ويغرمون عليها بأرض السند سبعة دنانير فضة على الفرس بموضع يقال ششقنار، ويغرمون عليها بملتان قاعدة بلاد السند وكانوا فيما تقدم يغرمون ربع ما يجلبونه، فرفع ملك الهند إلى السلطان محمد ذلك، وأمر أن يؤخذ من تجار المسلمين الزكاة، ومن تجار الكفار العشر ومع ذلك يبقى للتجار فيها فضل كبير، لأنهم يبيعون الرخيص منها ببلاد الهند بمائة دينار دراهم، وصرفها من الذهب المغربي خمسة وعشرون دينارا، وربما باعوها بضعف ذلك وضعفه وضعفيه والجياد منها تساوي خمسمائة دينار. وأكثر من ذلك وأهل الهند لا يبتاعونها للجري والسبق لأنهم يلبسون في الحرب الدروع ويدرعون الخيل وإنما يبتغون قوة الخيل واتساع خطاها والخيل التي يبتغونها للسبق تجلب إليهم من اليمن وعمان وفارس ويباع الفرس منها بألف دينار إلى أربعة آلاف ولما سافر الأمير تلكتمور عن هذه المدينة أقمت بعده ثلاثة أيام حتى جهز لي الأمير محمد خواجه آلات سفري.

صفحة : 163

وسافرت إلى مدينة الماجر، وهي بفتح الميم والف وجيم مفتوح معقود وراء مدينة كبرى من أحسن مدن الترك، على نهر كبير، وبها البساتين والفواكه الكثيرة، نزلنا منها بزاوية الشيخ الصالح العابد المعمر محمد البطائحي من بطائح العراق، وكان خليفة الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه، وفي زاويته نحو سبعين من فقراء العرب والفرس والترك والروم، منهم المتزوج والعزب، وعيشهم من الفتوح. ولأهل تلك البلاد اعتقاد حسن في الفقراء، وفي كل ليلة يأتون إلى الزاوية بالخيل والبقر والغنم، ويأتي السلطان والخواتين لزيارة الشيخ والتبرك به، ويجزلون الإحسان، ويعطون العطاء الكثير، وخصوصا النساء فإنهن يكثرن الصدقة ويتحرين أفعال الخير. وصلينا بمدينة الماجر صلاة الجمعة، فلما قضيت الصلاة صعد الواعظ عز الدين المنبر، وهو من فقهاء بخارى وفضلائها، وله جماعة من الطلبة والقراء يقرأون بين يديه، ووعظ وذكر، وأمير المدينة حاضر وكبراؤها فقام الشيخ محمد البطائحي فقال: إن الفقيه الواعظ يريد السفر ونريد له زوادة ثم خلع فرجية مرعز كانت عليه وقال: هذه مني إليه فكان الحاضرون بين من خلع ثوبه ومن أعطي فرسا ومن أعطى دراهم واجتمع له كثير من ذلك كله، ورأيت بقيسارية هذه المدينة يهوديا سلم علي وكلمني بالعربي، فسألته عن بلاده، فذكر أنه من بلاد الأندلس، وأنه قدم منها في البر ولم يسلك بحرا، وأتى على طريق القسطنطينية العظمى وبلاد الروم وبلاد الجرجس، وذكر أن عهده بالأندلس منذ أربعة أشهر، وأخبرني التجار المسافرون الذين لهم المعرفة بذلك بصحة مقاله ورأيت بهذه البلاد عجبا من تعظيم النساء عندهم وهن أعلى شأنا من الرجال. فأما نساء الأمراء فكانت أول رؤيتي لهن عند خروجي من القرم رؤية الخاتون زوجة الأمير سلطية في عربة لها، وكلها مجللة بالملف الأزرق الطيب، وطيقان البيت مفتوحة، وأبوابه، وبين يديها أربع جوار، فاتنات الحسن بديعات اللباس، وخلفها جملة من العربات فيها جوار يتبعنها ولما قربت من منزل الأمير نزلت عن العربة إلى الأرض، ونزل معها نحو ثلاثين من الجواري يرفعن أذيالها، ولأثوابها عرى تأخذ كل جارية بعروة، وويرفعن الأذيال عن الأرض من كل جانب، ومشت كذلك متبخترة فلما وصلت إلى الأمير قام إليها وسلم عليها وأجلسها إلى جانبه، ودار بها جواريها وجاءوا بروايا القمز، فصبت منه في قدح وجلست على ركبتيها قدام الأمير، وناولته القدح فشرب، ثم سقت أخاه وسقاها الأمير، وحضر الطعام فأكلت معه وأعطاها كسوة وانصرفت. وعلى هذا الترتيب نساء الأمراء، وسنذكر نساء الملك فيما بعد. وأما نساء الباعة والسوقة فرأيتهن، وإحداهن تكون في العربة والخيل تجرها، وبين يديها الثلاث والأربع من الجواري، يرفعن أذيالها. وعلى رأسها البغطاق، وهو أقروف مرصع بالجوهر، وفي أعلاه ريش الطواويس وتكون طيقان البيت مفتحة، وهي بادية الوجه، لأن نساء الأتراك لا يحتجبن وتأتي إحداهن على هذا الترتيب ومعها عبيدها بالغنم واللبن فتبيعه من الناس بالسلع العطرية، وربما كان مع المرأة منهن زوجها فيظنه من يراها بعض خدامها، ولا يكون عليه من الثياب إلا فروة من جلد الغنم، وفي رأسه قلنسوة تناسب ذلك يسمونها الكلا وتجهزنا من مدينة الماجر نقصد معسكر السلطان، وكان على أربعة أيام من الماجر بموضع يقال له بش دغ ومعنى بش عندهم خمسة وهو بكسر الباء وشين معجم ومعنى دغ الجبل، وهو بفتح الدال المهمل وغين معجم وبهذه الجبال الخمسة عين ماء حار يغتسل منها الأتراك، ويزعمون أنه من اغتسل منها لم تصبه عاهة مرض، وارتحلنا إلى موضع المحلة فوصلناه أول يوم من رمضان، فوجدنا المحلة قد خلت فعدنا إلى الموضع الذي رحلنا منه، لأن المحلة تنزل بالقرب منه فضربت بيتي على تلة هنالك، وركزت العلم أمام البيت، وجعلت الخيل والعربات وراء ذلك، وأقبلت المحلة، وهم يسمونها الأرد بضم الهمزة، فرأينا مدينة عظيمة تسير بأهلها فيها المساجد والأسواق، ودخان المطبخ صاعد في الهواء وهم يطبخون في حال رحيلهم، والعربات تجرها الخيل بهم، فإذا بلغوا المنزل أنزلوا البيوت عن العربات، وجعلوها على الأرض، وهي خفيفة المحمل، وكذلك يصنعون بالمساجد والحوانيت. واجتاز بنا خواتين السلطان، كل واحدة بناسها على حدة ولما اجتازت الرابعة منهن وهي بنت الأمير عيسى بك

صفحة : 164

وسنذكرها، رأت البيت بأعلى التل والعلم أمامه، وهو علامة الوارد فبعثت الفتيان والجواري فسلموا علي، وبلغوا سلامها إلي، وهي واقفة تنتظرهم فبعثت إليها هدية مع بعض أصحابي، ومع معرف الأمير تلكتمور فقبلتها تبركا وأمرت أن أنزل في جوارها وانصرفت، وأقبل السلطان فنزل في محلته على حدة.سنذكرها، رأت البيت بأعلى التل والعلم أمامه، وهو علامة الوارد فبعثت الفتيان والجواري فسلموا علي، وبلغوا سلامها إلي، وهي واقفة تنتظرهم فبعثت إليها هدية مع بعض أصحابي، ومع معرف الأمير تلكتمور فقبلتها تبركا وأمرت أن أنزل في جوارها وانصرفت، وأقبل السلطان فنزل في محلته على حدة.

ذكر السلطان المعظم محمد أوزبك خان

واسمه محمد أوزبك بضم الهمز وواو وزاي مسكن وباء موحدة مفتوحة. ومعنى خان عندهم السلطان. وهذا السلطان عظيم المملكة شديد القوة كبير الشأن رفيع المكان. قاهر لأعداء الله أهل قسطنطينية العظمى، مجتهد في جهادهم، وبلاده متسعة ومدنه عظيمة منها التكفار والقرم والماجر وأزاق وسرداق سوداق وخوارزم وحضرته السرا وهو أحد الملوك السبعة الذين هم كبراء الدنيا وعظماؤها وهم مولانا أمير المؤمنين ظل الله في أرضه، إمام الطائفة المنصورة الذين لا يزالون ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة، أيد الله أمره وأعز نصره، وسلطان مصر والشام، وسلطان العراق، والسلطان أوزبك هذا، وسلطان بلاد تركستان وما وراء النهر، وسلطان الهند، وسلطان الصين. ويكون هذا السلطان إذا سافر في محلة على حدة، معه مماليكه وأرباب دولته، وتكون كل خاتون من خواتينه على حدة في محلتها، وإذا أراد أن يكون عنده واحدة منهن، بعث إليها يعلمها بذلك، فتتهيأ له. وله في محل قعوده وسفره وأموره ترتيب عجيب بديع. ومن عادته أن يجلس يوم الجمعة بعد الصلاة في قبة تسمى قبة الذهب مزينة بديعة، وهي من قضبان خشب مكسوة بصفائح الذهب، وسطها يسرير من خشب، مكسوة بصفائح الفضة المذهبة، وقوائمه فضة خالصة، ورؤوسها مرصعة بالجواهر، ويقعد السلطان على السرير، وعلى يمينه الخاتون طيطغلي، وتليها الخاتون كبك، وعلى يساره الخاتون بيلون، وتليها الخاتون أردوجا، ويقف أسفل السرير على اليمين ولد السلطان تين بك، وعن الشمال ولده الثاني جان بك وتجلس بين يديه ابنته إيت كجك. وإذا أتت إحداهن، قام لها السلطان، وأخذ بيدها حتى تصعد على السرير، وأما طيطغلي، وهي الملكة وأحظاهن عنده، فإنه يستقبلها إلى باب القبة، فيسلم عليها ويأخذ بيدها فإذا صعدت على السرير وجلست، حينئذ يجلس السلطان وهذا كله على أعين الناس دون احتجاب.

صفحة : 165

ويأتي بعد ذلك كبار الأمراء، فتنصب لهم كراسيهم عن اليمين والشمال وكل إنسان منهم إذا اتى مجلس السلطان، يأتي معه غلام بكرسيه، ويقف بين يدي السلطان أبناء الملوك من بني عمه وإخوته وأقاربه، ويقف مقابلتهم عند باب القبة أولاد الأمراء الكبار، ويقف خلفهم وجوه العساكر عن يمين وعن شمال، ثم يدخل الناس للسلام بالأمثل فالأمثل ثلاثة ثلاثة، فيسلمون وينصرفون، فيجلسون على بعد، فإذا كان بعد صلاة العصر انصرفت الملكة من الخواتين، ثم ينصرف سائرهن، فيتبعها إلى محلتها فإذا دخلت اليها انصرفت كل واحدة إلى محلتها راكبة عربتها، ومع كل واحدة نحو خمسين جارية، راكبات على الخيل وأمام العربات نحو عشرين من قواعد النساء، راكبات على الخيل، فيما بين الفتيان والعربة، وخلف الجميع نحو مائة مملوك من الصبيان، وأمام الفتيان نحو مائة من المماليك الكبار، ركبانا ومثلهم مشاة، بأيديهم القضبان، والسيوف مشدودة على أوساطهم وهم بين الفرسان والفتيان، وهكذا ترتيب كل خاتون منهن في انصرافها ومجيئها. وكان نزولي من المحلة في جوار ولد السلطان جان بك، الذي يقع ذكره فيما بعد وفي الغد من يوم وصولي دخلت إلى السلطان بعد صلاة العصر، وقد جمع المشايخ والقضاة والفقهاء والشرفاء والفقراء، وقد صنع طعاما كثيرا، وأفطرنا بمحضره وتكلم السيد الشريف نقيب الشرفاء ابن عبد الحميد، والقاضي حمزة في شأني بالخير، وأشاروا على السلطان بإكرامي، وهؤلاء الأتراك لا يعرفون إنزال الوارد ولا إجراء النفقة، وإنما يبعثون له الغنم والخيل للذبح وروايا القمز، وتلك كرامتهم وبعد هذا بأيام صليت صلاة العصر مع السلطان، فلما أردت الانصراف أمرني بالقعود، وجاءوا بالطعام، من المشروبات كما يصنع من الدوقي، ثم باللحوم المسلوقة من الغنم والخيل. وفي تلك الليلة أتيت السلطان بطبق حلواء، فجعل إصبعه عليه وجعله على فيه، ولم يزد على ذلك.

ذكر الخواتين وترتيبهن

وكل خاتون منهن تركب في عربة للبيت، وللبيت الذي تكون فيه قبة من الفضة المموهة بالذهب أو من الخشب المرصع وتكون الخيل التي تجر عربتها مجللة بأثواب الحرير المذهب، وخديم العربة الذي يركب أحد الخيل فتى يدعي القشي، والخاتون قاعدة في عربتها، وعن يمينها امرأة من القواعد تسمى أولو خاتون بضم الهمزة واللام ومعنى ذلك الوزيرة وعن شمالها امرأة من القواعد أيضا تسمى كجك خاتون بضم الكاف والجيم ومعنى ذلك الحاجبة، وبين يديها ست من الجواري الصغار، يقال لهن البنات، فائقات الجمال متناهيات الكمال، ومن ورائها اثنتان منهن، تستند إليهن، وعلى رأس الخاتون البغطاق، وهو مثل التاج الصغير مكلل بالجواهر، ولأعلاها ريش الطواويس، وعليها ثياب حرير مرصعة بالجواهر شبه المنوت الملوطة التي يلبسها الروم وعلى رأس الوزيرة والحاجبة مقنعة حرير مزركشة الحواشي بالذهب والجوهر، وعلى رأس كل واحدة من البنات الكلا، وهو شبه الأقروف، وفي أعلاها دائرة ذهب مرصعة بالجوهر، وريش الطواويس من فوقها وعلى كل واحدة ثوب من الحرير مذهب يسمى النخ ويكون بين يدي الخاتون عشرة أو خمسة عشر من الفتيان الروميين والهنديين، وقد لبسوا ثياب الحرير المذهب، المرصعة بالجواهر، وبيد كل واحد منهم عمود ذهب أو فضة، أو يكون من عود ملبس بهما وخلف عربة الخاتون نحو مائة عربة في كل عربة الثلاث والأربع من الجواري الكبار والصغار، وثيابهن الحرير، وعلى رؤوسهن الكلا وخلف هذه العربات نحو ثلاثمائة عربة تجرها الجمال والبقر، وتحمل خزائن الخاتون وأموالها وثيابها وأثاثها وطعامها ومع كل عربة غلام موكل بها متزوج بجارية من الجواري التي ذكرناها فإن العادة عندهن أن لا يدخل بين الجواري من الغلمان إلا من كان له بينهن زوجة وكل خاتون فهي على هذا الترتيب، ولنذكرهن على الانفراد.

صفحة : 166

ذكر الخاتون الكبرى

والخاتون الكبرى هي الملكة أو ولدي السلطان جان بك وتين بك، وسنذكرهما وليست أم ابنته إيت كجك وأمها كانت الملكة قبل هذه واسم هذه الخاتون طيطغلي بفتح الطاء المهملة الأولى واسكان الياء آخر الحروف وضم الطاء الثانية وسكان الغين المعجمة وكسر اللام وياء مد، وهي أحظى نساء هذا السلطان عنده وعندها يبيت أكثر لياليه ويعظمها الناس بسبب تعظيمه لها، وإلا فهي أبخل الخواتين، وحدثني من أعتمده من العارفين بأخبار هذه الملكة، أن السلطان يحبها للخاصية التي فيها، وهي أنه يجدها كل ليلة كأنها بكر. وذكر لي غيره أنها من سلالة المرأة التي يذكر ان الملك زال عن سليمان عليه السلام بسببها ولما عاد إليه ملكه أمر أن توضع بصحراء لا عمارة فيها فوضعت بصحراء قفجق. وان رحم هذه الخاتون شبه الحلقة خلقة وكذلك كل من هو من نسل المرأة المذكورة. ولم أر بصحراء قفجق ولا غيرها من أخبر أنه رأى امرأة على هذه الصورة ولا سمع بها إلا هذه الخاتون اللهم إلا أن بعض أهل الصين أخبرني أن بالصين صنفا من نسائها على هذه الصورة ولا يقع بيدي ذلك، ولاعرفت له حقيقة، وفي غد اجتماعي بالسلطان دخلت إلى هذه الخاتون، وهي قاعدة فيما بين عشر من النساء القواعد كأنهن خديمات لها، وبين يديها نحو خمسين جارية صغارا يسمون البنات، وبين أيديهن طيافير الذهب والفضة مملوءة بحب الملوك وهن ينقينه، وبين يدي الخاتون صينية ذهب مملوءة منه، وهي تنقيه، فسلمنا عليها. وكان في جملة أصحابي قارئ يقرأ القرآن على طبقة المصريين بطريقة حسنة وصوت طيب فقرأ، ثم أمرت أن يؤتى بالقمز، فأتي به في أقداح خشب لطاف خفاف فأخذت القدح بيدها وناولتني إياه وتلك نهاية الكرامة عندهم، ولم أكن شربت القمز، قبلها ولكن لم يمكني الا قبوله وذقته ولا خير فيه، ودفعته لأحد أصحابي وسألتني عن كثير من حال سفرنا، فأجبناها ثم انصرفنا عنها وكان ابتداؤنا بها لأجل عظمتها عند الملك.

ذكر الخاتون التي تلي الملكة

واسمها كبك خاتون بفتح الكاف الأولى وكسر الباء الموحدة ومعناها بالتركية النخالة وهي بنت الأمير نغطي واسمه بنون وغين معجمة وطاء مهملة مفتوحات وياء مسكنة، وأبوها حي مبتلى بعلة النقرس، وقد رأيته في غد دخولنا على الملكة. دخلنا على هذه الخاتون فوجدناها على مرتبة تقرأ في المصحف الكريم، وبين يديها نحو عشر من النساء القواعد، ونحو عشرين من البنات يطرزن ثيابا، فسلمنا عليها، وأحسنت في السلام والكلام وقرأ قارئنا فاستحسنته، وأمرت بالقمز فأحضر وناولتني القدح بيدها كمثل ما فعلته الملكة وانصرفنا عنها.

ذكر الخاتون الثالثة واسمها بيلون

بياء موحدة وآخر الحروف كلاهما مفتوح ولام مضموم وواو مد ونون وهي بنت ملك القسطنطينية العظمى السلطان تكفور ودخلنا على هذه الخاتون، وهي قاعدة على سرير مرصع، قوائمه فضة وبين يديها نحو مائة جارية روميات وتركيات ونوبيات، منهن قائمات وقاعدات، والفتيان على رأسها، والحجاب بين يديها من رجال الروم فسألت عن حالنا ومقدمنا وبعد أوطاننا، وبكت ومسحت وجهها بمنديل كان بين يديها، رقة منها وشفقة وأمرت بالطعام فأحضر وأكلنا بين يديها، وهي تنظر إلينا. ولما أردنا الانصراف قالت: لا تنقطعوا عنا، وترددوا إلينا وطالبونا بحوائجكم وأظهرت مكارم الأخلاق وبعثت في أثرنا بطعام وخبز كثير وسمن وغنم ودراهم وكسوة جيدة وثلاثة من جياد الخيل وعشرة من سائرها ومع هذه الخاتون كان سفري إلى القسطنطينية العظمى، كما نذكره بعد.

ذكر الخاتون الرابعة واسمها أردجا

بضم الهمزة واسكان الراء وضم الدال المهمل وجيم وألف وأردو بلسانهم المحلة وسميت بذلك لولادتها في المحلة، وهي بنت الأمير الكبير عيسى بك أمير الألوس بضم الهمز واللام ومعناه أمير الأمراء وأدركته حيا، وهو متزوج ببنت السلطان إيت كجك وهذه الخاتون من أفضل الخواتين وألطفهن شمائل وأشفقهن وهي التي بعثت إلي لما رأت بيتي على التل عند جواز المحلة كما قدمناه، ودخلنا عليها، فرأينا من حسن خلقها وكرم نفسها، مالا مزيد عليه، وأمرت بالطعام فأكلنا بين يديها، ودعت بالقمز فشرب أصحابنا وسألت عن حالنا فأجبناها ودخلنا أيضا إلى أختها زوجة الأمير علي بن أرزق.

صفحة : 167

ذكر بنت السلطان المعظم أوزبك

واسمها إيت كجك وإيت بكسر الهمزة وياء مد وتاء مثناة وكجك بضم الكاف وضم الجيم ومعنى اسمها الكلب الصغير، فإن إيت هو الكلب وكجك هو الصغير، وقد قدمنا ان الترك يسمون بالفأل، كما تفعل العرب، وتوجهنا إلى هذه الخاتون بنت الملك، وهي في محلة منفردة على نحو ستة أميال من محلة والدها فأمرت بإحضار الفقهاء والقضاة والسيد الشريف ابن عبد الحميد وجماعة من الطلبة والمشايخ والفقهاء وحضر زوجها الأمير عيسى الذي بنته زوجة السلطان فقعد معها على فراش واحد وهو معتل بالنقرس، فلا يستطيع التصرف على قدميه، ولا ركوب الفرس، وإنما يركب العربة، وإذا أراد الدخول على السلطان أنزله خدامه وأدخلوه إلى المجلس محمولا، وعلى هذه الصورة رأيت أيضا الأمير نغطي، وهو أبو الخاتون الثانية وهذه العلة فاشية في هؤلاء الأتراك ورأينا من هذه الخاتون بنت السلطان من المكارم وحسن الأخلاق مالم نره من سواها وأجزلت الإحسان وأفضلت جزاها الله خيرا.

ذكر ولدي السلطان

وهما شقيقان، وأمهما جميعا الملكة طيطغلي التي قدمنا ذكرها، والأكبر منهما اسمه تين بك بتاء معلوة مكسورة وياء مد ونون مفتوح، وبك معناه الأمير، وتين معناه الجسد. فكأن اسمه أمير الجسد، واسم أخيه جان بك بفتح الجيم وكسر النون، ومعنى جان الروح، فكأنه يسمى أمير الروح، وكل واحد منهما له محلة على حدة، وكان تين بك من أجمل خلق الله صورة. وعهد له أبوه بالملك. وكانت له الحظوة والتشريف عنده، ولم يرد الله ذلك، فإنه لما مات أبوه ولي يسيرا، ثم قتل لأمور قبيحة جرت له. وولي أخوه جان بك، وهو خير منه وأفضل. وكان السيد الشريف ابن عبد الحميد هو الذي تولى تربية جان بك. وأشار علي هو والقاضي حمزة والإمام بدر الدين القوامي والإمام المقري حسام الدين البخاري وسواهم حين قدومي أن يكون نزولي بمحلة جان بك المذكور لفضله، ففعلت ذلك.

ذكر سفري إلى مدينة بلغار

وكنت سمعت بمدينة بلغار فأردت التوجه إليها لأرى ما ذكر عنها من انتهاء قصر الليل بها وقصر النهار أيضا، في عكس ذلك الفصل. وكان بينها وبين محلة السلطان مسيرة عشر. فطلبت منه من يوصلني إليها فبعث معي من أوصلني اليها وردني إليه. ووصلتها في رمضان، فلما صلينا المغرب، أفطرنا. وأذن بالعشاء في أثناء إفطارنا، فصليناها وصلينا التراويح والشفع والوتر. وطلع الفجر إثر ذلك. وكذلك يقصر النهار بها في فصل قصره أيضا. وأقمت بها ثلاثا.

صفحة : 168

ذكر أرض الظلمة

وكنت أردت الدخول إلى أرض الظلمة، والدخول إليها من بلغار، وبينهما أربعون يوما. ثم أضربت عن ذلك لعظم المؤونة فيه وقلة الجدوى. والسفر إليها لا يكون إلا في عجلات صغار تجرها كلاب كبار. فإن تلك المفازة فيها الجليد، فلا يثبت قدم الآدمي ولا حافر الدابة فيها. والكلاب لها الأظفار، فتثبت أقدامها في الجليد. ولا يدخلها إلا الأقوياء من التجار الذين يكون لأحدهم مائة عجلة أو نحوها، موقرة بطعامه وشرابه وحطبه. فإنها لا شجر فيها ولا حجر ولا مدر. والدليل بتلك الأرض هو الكلب الذي قد سار فيها مرارا كثيرة، وتنتهي قيمته إلى ألف دينار ونحوها، وتربط العربة إلى عنقه، ويقرن معه ثلاثة من الكلاب. ويكون هو المقدم، تتبعه سائر الكلاب بالعربات. فإذا وقف وقفت. وهذا الكلب لا يضربه صاحبه ولا ينهره، وإذا حضر الطعام أطعم الكلاب أولا قبل بني آدم، وإلا غضب الكلب وفر وترك صاحبه للتلف. فإذا كملت للمسافرين بهذه الفلاة أربعون مرحلة، نزلوا عند الظلمة، وترك كل واحد منهم ما جاء به من المتاع هنالك، وعادوا إلى منزلهم المعتاد. فإذا كان من الغد عادوا لتفقد متاعهم، فيجدون بإزائه من السمور والسنجاب والقاقم، فإن أرضى صاحب المتاع ما وجده إزاء متاعه أخذه، وإن لم يرضه تركه، فيزيدونه، وربما رفعوا متاعهم، أعني أهل الظلمة، وتركوا متاع التجار. وهكذا بيعهم وشراؤهم. ولا يعلم الذين يتوجهون إلى هنالك من يبايعهم ويشاريهم، أمن الجن هو أم الإنس. ولا يرون أحدا. والقاقم هو أحسن أنواع الفراء. وتساوي الفروة منه ببلاد الهند ألف دينار، وصرفها من ذهبنا مائتان وخمسون. وهي شديدة البياض، من جلد حيوان صغير في طول الشبر، وذنبه طويل يتركونه في الفروة على حاله. والسمور دون ذلك. تساوي الفروة منه أربعمائة دينار فما دونها. ومن خاصية هذه الجلود أنه لا يدخلها القمل. وأمراء الصين وكبارها يجعلون منه الجلد الواحد متصلا بفرواتهم عند العنق. وكذلك تجار فارس والعراقين. وعدت من مدينة بلغار مع الأمير الذي بعثه السلطان في صحبتي، فوجدت محلة السلطان على الموضع المعروف ببش دغ، وذلك في الثامن والعشرين من رمضان. وحضرت معه صلاة العيد، وصادف يوم العيد يوم الجمعة.

ذكر ترتيبهم في العيد

ولما كان صباح يوم العيد ركب السلطان في عساكره العظيمة، وركبت كل خاتون عربتها ومعها عساكرها، وركبت بنت السلطان والتاج على رأسها، إذ هي الملكة على الحقيقة، ورثت الملك من أمها، وركب أولاد السلطان، كل واحد في عسكره. وكان قد قدم لحضور العيد قاضي القضاة شهاب الدين السايلي، ومعه جماعة من الفقهاء والمشايخ. فركبوا وركب القاضي حمزة والإمام بدر الدين القوامي والشريف ابن عبد الحميد. وكان ركوب هؤلاء الفقهاء مع تين بك ولي عهد السلطان، ومعهم الأطبال والأعلام. فصلى بهم القاضي شهاب الدين وخطب أحسن خطبة. وركب السلطان، وانتهى إلى برج خشب يسمى عندهم الكشك، فجلس فيه ومعه خواتينه، ونصب برج ثان دونه، فجلس فيه ولي عهده وابنته صاحبة التاج. ونصب برجان دونهما عن يمينه وشماله، فيهما أبناء السلطان وأقاربه. ونصبت الكراسي للأمراء وأبناء الملوك، وتسمى الصندليات، عن يمين البرج وشماله، فجلس كل واحد على كرسيه. ثم نصبت طبلات للرمي، لكل أمير طومان طبلة مختصة به، وأمير طومان عندهم هو الذي يركب له عشرة آلاف. فكان الحاضرون من أمراء طومان سبعة عشر، يقودون مائة وسبعون ألفا، وعسكره أكثر من ذلك. ونصب لكل أمير شبه منبر فقعد عليه، وأصحابه يلعبون بين يديه. فكانوا على ذلك ساعة. ثم أتي بالخلع، فخلعت على كل أمير خلعة، وعندما يلبسها يأتي إلى أسفل برج السلطان فيخدم، وخدمته أن يمس الأرض بركبته اليمنى، ويمد رجله تحتها، والأخرى قائمة، ثم يؤتى بفرس مسرح ملجم، فيرفع حافره، ويقبل فيه الأمير، ويقوده بنفسه إلى كرسيه. وهنالك يرتبه ويقف مع عسكره. ويفعل هذا الفعل مع كل أمير منهم.

صفحة : 169

ثم ينزل السلطان على البرج ويركب الفرس، وعن يمينه ابنه ولي العهد، وتليه بنته الملكة إيت كجك، وعن يساره ابنه الثاني، وبين يديه الخواتين الأربع في عربات مكسوة بأثواب الحرير المذهب، والخيل التي تجرها مجللة بالحرير المذهب. وينزل جميع الأمراء الكبار والصغار وأبناء الملوك والوزراء والحجاب وأرباب الدولة، فيمشون بين يدي السلطان على أقدامهم، إلى أن يصل الوطاق، والوطاق بكسر الواو هو إفراج. وقد نصبت هنالك باركة باركاه عظيمة، والباركة عندهم بيت عظيم له أربعة أعمدة من الخشب مكسوة بصفائح الفضة المموهة بالذهب، وفي أعلى كل عمود جامور من الفضة المذهبة له بريق وشعاع، وتظهر هذه الباركة على البعد كأنها ثنية. ويوضع عن يمينها ويسارها سقائف من القطن والكتان، ويفرش ذلك كله بفرش الحرير، وينصب في وسط الباركة السرير الأعظم، وهم يسمونه التخت، وهو من خشب مرصع، وأعواده مكسوة بصفائح فضة مذهبة، وقوائمه من الفضة الخالصة المموهة، وفوقه فرش عظيم وفي وسط هذا السرير الأعظم مرتبة يجلس السلطان والخاتون الكبرى، وعن يمينه مرتبة جلست بها ابنته إيت كجك ومعها الخاتون أردوجا، وعن يساره مرتبة جلست بها الخاتون بيلون ومعها الخاتون كبك، ونصب عن يمين السرير كرسي قعد عليه تين بك ولد السلطان، ونصب عن شماله كرسي قعد عليه جان بك ولده الثاني، ونصبت كراسي عن اليمين والشمال جلس فوقها أبناء الملوك الكبار، ثم الأمراء الصغار، مثل أمراء هزارة، وهم الذين يقودون ألفا. ثم أتي بالطعام على موائد الذهب والفضة، وكل مائدة يحملها أربعة رجال وأكثر من ذلك. وطعامهم لحوم الخيل والغنم مسلوقة، وتوضع بين يدي كل أمير مائدة، ويأتي الباروجي، وهو مقطع اللحم، وعليه ثياب حرير، وقد ربط عليها فوطة حرير، وفي حزامه جملة سكاكين في أغمادها. ويكون لكل أمير باروجي. فإذا قدمت المائدة قعد بين يدي أميره. ويؤتى بصفحة صغيرة من الذهب أو الفضة فيها ملح محلول بالماء، فيقطع البروجي اللحم قطعا صغارا ولهم في ذلك صنعة في قطع اللحم مختلطا بالعظم، فإنهم لا يأكلون منه إلا ما أختلط بالعظم. ثم يؤتى بأواني الذهب والفضة للشرب، وأكثر شربهم نبيذ العسل. وهم حنفية المذهب، يحللون شرب النبيذ. فإذا أراد السلطان أن يشرب، أخذت ابنته القدح بيدها، وخدمت برجلها، ثم ناولته القدح فشرب. ثم تأخذ قدحا آخر فتناوله للخاتون الكبرى، فتشرب منه. ثم تناول لسائر الخواتين على ترتيبهن، ثم ولي العهد القدح، ويخدم ويناوله إياه فيشرب. ثم الخواتين ثم أخته، ويخدم جميعهن. ثم يقوم الولد الثاني فيأخذ القدح ويسقي أخاه ويخدم له. ثم يقوم الأمراء الكبار، فيسقي كل واحد منهم ولي العهد ويخدم له، ثم يقوم أبناء الملوك، ويغنون أثناء ذلك بالموالية. وكانت قد نصبت قبة كبيرة أيضا إزاء المسجد للقاضي والخطيب والشريف وسائر الفقهاء والمشايخ وأنا معهم، فأوتينا بموائد الذهب والفضة يحمل كل واحدة أربعة من كبار الأتراك. ولا يتصرف في ذلك اليوم بين يدي السلطان إلا الكبار، فيأمرهم برفع ما أراد من الموائد إلى من أراد. فكان من الفقهاء من أكل، ومنهم من تورع عن الأكل في موائد الفضة والذهب. ورأيت مد البصر عن اليمين والشمال من العربات عليها روايا القمز. فأمر السلطان بتفريقها على الناس. فأتوا إلي بعربة منها، فأعطيتها لجيراني من الأتراك. ثم أتينا المسجد تنتظر صلاة الجمعة، فأبطأ السلطان. فمن قائل: إنه لا يأتي. لأن السكر قد غلب عليه، ومن قائل: إنه لا يترك الجمعة. فلما كان بعد تمكن الوقت أتى وهو يتمايل، فسلم على السيد الشريف، وتبسم له، وكان يخاطبه بآطا، وهو الأب بلسان التركية. ثم صلينا الجمعة، وانصرف الناس إلى منازلهم. وانصرف السلطان إلى الباركة، فبقى على حاله إلى صلاة العصر. ثم انصرف الناس أجمعون وبقي مع الملك تلك الليلة خواتينه وبنته.

صفحة : 170

ثم كان رحيلنا مع السلطان والمحلة لما انقضى العيد، فوصلا إلى المدينة الحاج ترخان، ومعنى ترخان عندهم الموضع المحرر من المغارم، وهو بفتح المثناة وسكون الراء وبفتح الخاء المعجم وآخره نون، والمنسوب إليه هذه المدينة. هو حاج من الصالحين تركي نزل بموضعها، وحرر له السلطان ذلك الموضع. فصار قرية عظمت وتمدنت. وهي من أحسن المدن عظيمة الأسواق مبنية على نهر أتل، وهو من أنهار الدنيا الكبار. وهنالك يقيم السلطان حتى يشتد البرد ويجمد هذا النهر وتجمد المياه المتصلة به، ثم يأمر أهل تلك البلاد فيأتون بالآلاف من أحمال التبن، فيجعلونها على الجليد المنعقد فوق النهر. والتبن هنالك لا تأكله الدواب لأنه يضرها، وكذلك ببلاد الهند، وإنما أكلها الحشيش الأخضر لخصب البلاد. ويسافرون بالعربات فوق هذا النهر والمياه المتصلة به ثلاث مراحل، وربما جازت القوافل فوقه مع آخر فصل الشتاء، فيغرقون ويهلكون. ولما وصلنا مدينة الحاج ترخان رغبت الخاتون بيلون ابنة ملك الروم من السلطان أن يأذن لها في زيارة أبيها لتضع حملها عنده وتعود إليه، فأذن لها. ورغبت منه أن يأذن لي في التوجه صحبتها لمشاهدة القسطنطينية العظمى فمنعني خوفا علي. فلاطفته وقلت له: إنما أدخلها في حرمتك وجوارك، فلا أخاف من أحد. فأذن لي وودعناه. ووصلني بألف وخمسمائة دينار وخلعة وأفراس كثيرة. وأعطتني كل خاتون منهن سبائك الفضة، وهم يسمونها بصوم بفتح الصاد المهمل ، واحدتها صومة. وأعطت ابنته أكثر منهن، وكستني وأركبتني واجتمع لي من الخيل والثياب وفروات السنجاب والسمور جملة.

ذكر سفري إلى القسطنطينية

وسافرنا في العاشر من شوال في صحبة الخاتون بيلون وتحت حرمتها، ورحل السلطان في تشييعها مرحلة، ورجع هو والملكة وولي عهده، وسافر سائر الخواتين في صحبتها مرحلة ثانية ثم رجعن، وسافر صحبتها الأمير بيدره في خمسة آلاف من عسكره. وكان عسكر الخاتون نحو خمسمائة فارس، منهم خدامها من المماليك والروم نحو مائتين، والباقون من الترك. وكان معها من الجواري نحو مائتين، وأكثرهن روميات. وكان لها من العربات نحو أربعمائة عربة، ونحو ألفي فرس لجرها وللركوب، ونحو ثلثمائة من البقر، ومائتين من الجمال لجرها. وكان معها من الفتيان الروميين عشرة، ومن الهنديين مثلهم. وقائدهم الأكبر يسمى بسنبل الهندي، وقائد الروميين ويسمى بميخائيل، ويقول له الأتراك لؤلؤ، وهو من الشجعان الكبار. وتركت أكثر جواريها وأثقالها بمحلة السلطان إذ كانت قد توجهت برسم الزيارة ووضع الحمل. وتوجهنا إلى مدينة أكك. وهي بضم الهمزة وفتح الكاف الأولى مدينة متوسطة حسنة العمارة كثير الخيرات شديد البرد. وبينهما وبين السرا حضرة السلطان مسيرة عشر؛ وعلى مسيرة يوم من هذه المدينة جبال الروس، وهم نصارى شقر الشعور زرق العيون قباح الصور أهل غدر، وعندهم معادن الفضة. ومن بلادهم يؤتى بالصوم، وهي سبائك الفضة التي يباع ويشتري في هذه البلاد، ووزن الصومة منها خمس أوقي.

صفحة : 171

ثم وصلنا بعد عشر من هذه المدينة إلى مدينة سردق وضبط اسمها بضم السين المهمل وسكون الراء وفتح الدال المهمل وآخره قاف. وهي من مدن دشت قفجق على ساحل البحر، ومرساها من أعظم المراسي وأحسنها، وبخارجها البساتين والمياه. وينزلها الترك وطائفة من الروم تحت ذمتهم، وهم أهل الصنائع. وأكثر بيوتها خشب. وكانت هذه المدينة كبيرة. فخرب معظمها بسبب فتنة وقعت بين الروم والترك. وكانت الغلبة للروم. فانتصر للترك أصحابهم، وقتلوا الروم شر قتلة، ونفوا أكثرهم، وبقي بعضهم تحت الذمة إلى الآن. وكانت الضيافة تحمل إلى الخاتون في كل منزل من تلك البلاد من الخيل والغنم والبقر والدوقي والقمز وألبان البقر والغنم. والسفر في هذه البلاد مضحي ومعشي. وكل أمير بتلك البلاد يصحب الخاتون بعساكره إلى آخر حد بلاده، تعظيما لها لا خوفا عليها، لأن تلك البلاد آمنة. ثم وصلنا إلى البلدة المعروفة باسم بابا سلطوق، وبابا عندهم بمعناه عند البربر سواء، إلا أنهم يفخمون الباء وسلطوق بفتح السين المهمل واسكان اللام وضم الطاء المهمل وآخره قاف، ويذكرون أن سلطوق هذا كان مكاشفا، لكن يذكر عنه أشياء ينكرها الشرع. وهذه البلاد آخر بلاد الأتراك، بينها وبين أول عمالة الروم ثمانية عشر يوما في برية غير معمورة، منها ثمانية أيام لا ماء بها يتزود لها الماء، ويحمل في الروايا والقرب على العربات، وكان دخولنا إليها في أيام البرد، فلم نحتج إلى كثير من الماء. والأتراك يرفعون الألبان في القرب، ويخلطونها بالدوقي المطبوخ ويشربونها فلا يعطشون. وأخذنا من هذه البلدة في الاستعداد للبرية، واحتجت إلى زيادة أفراس، فأتيت الخاتون، فأعلمتها بذلك. وكنت أسلم عليها صباحا ومساء ومتى أتتها ضيافة تبعث إلي بالفرسين والثلاثة وبالغنم. فكنت أترك الخيل لأذبحها. وكان من معي من الغلمان، والخدم يأكلون مع أصحابنا الأتراك، فاجتمع لي نحو خمسين فرسا. وأمرت لي الخاتون بخمسة عشر فرسا، وأمرت وكيلها ساروجة الرومي أن يختارها سمانا من خيل المطبخ. وقالت: لا تخف، فإن احتجت إلى غيرها زدناك. ودخلنا البرية في منتصف ذي القعدة. فكان سيرنا من يوم فارقنا السلطان إلى أول البرية تسعة عشر يوما وإقامتنا خمسة. ورحلنا من هذه البرية ثمانية عشر يوما مضحى ومعشى، ومارأينا إلا خيرا والحمد لله. ثم وصلنا بعد ذلك إلى حصن مهتولي، وهو أول عمالة الروم وضبط اسمه بفتح الميم وسكون الهاء وضم التاء المعلوة وواو مد ولام مكسور وياء وكانت الروم قد سمعت بقدوم هذه الخاتون على بلادها، فوصلنا إلى هذا الحصن فاستقبلنا كفالي نقوله الرومي، في عسكر عظيم وضيافة عظيمة. وجاءت الخواتين والدايات من دار أبيها ملك القسطنطينية. وبين مهتولي والقسطنطينية مسيرة اثنين وعشرين يوما، منها ستة عشر يوما إلى الخليج، وستة منه إلى القسطنطينية. ولا يسافر من هذا الحصن إلا بالخيل والبغال، وتترك العربات به، لأجل الوعر والجبال. وجاء كفالي المذكور ببغال كثيرة، وبعثت إلي الخاتون بستة منها، وأوصت أمير ذلك الحصن بمن تركته من أصحابي وغلماني مع العربات والأثقال، فأمر لهم بدار. ورجع الأمير بيدرة بعساكره، لم يسافر مع الخاتون إلا ناسها، وتركت مسجدها بهذا الحصن، وارتفع حكم الأذان. وكان يؤتى إليها بالخمور في الضيافة فتشربها وبالخنازير، وأخبرني بعض خواصها أنها أكلتها. ولم يبق معها من يصلي إلا بعض الأتراك كان يصلي معنا. وتغيرت البواطن لدخولنا في بلاد الكفر، ولكن الخاتون أوصت الأمير كفالي بإكرامي. ولقد ضرب مرة بعض مماليكه لما ضحك من صلاتنا. ثم وصلنا حصن مسلمة بن عبد الملك، وهم بسفح جبل على نهر زخار، يقال له: اصطقيلي، ولم يبق من هذا الحصن إلا آثاره، وبخارجه قرية كبيرة. ثم سرنا يومين، ووصلنا إلى الخليج، وعلى ساحله قرية كبيرة فوجدنا فيه المد، فأقمنا حتى كان الجزر، وخضناه، وعرضه نحو ميلين. ومشينا أربعة أميال في رمال، ووصلنا الخليج الثاني، فخضناه، وعرضه نحو ثلاثة أميال، ثم مشينا نحو ميلين في حجارة ورمل، ووصلنا الخليج الثالث، وقد ابتدأ المد، فتبعنا فيه، وعرضه ميل واحد. فعرض الخليج كله مائيه ويابسه اثنا عشر ميلا، وتصير ماء كلها في أيام المطر، فلا تخاض إلا في القوارب.

صفحة : 172

وعلى ساحل هذا الخليج الثالث مدينة الفنيكة واسمها بفاء مفتوحة ونون وياء مد وكاف مفتوح، وهي صغيرة، لكنها حسنة مانعة، وكنائسها وديارها حسان، والأنهار تخرقها والبساتين تحفها، ويدخر بها العنب والإجاص والتفاح والسفرجل من السنة إلى الأخرى. وأقمنا بهذه المدينة ثلاثا. والخاتون في قصر لأبيها هنالك، ثم قدم أخوها شقيقها اسمه كفالي قراس في خمسة آلاف فارس شاكي السلاح، ولما أرادوا لقاء الخاتون ركب أخوها المذكور فرسا أشهب، ولبس ثيابا بيضاء، وجعل على رأسه مظللا مكللا بالجواهر، وجعل عن يمينه خمسة من أبناء الملوك، وعن يساره مثلهم، لابسين البياض أيضا، وعليهم مظللات مزركشة بالذهب، وجعل بين يديه مائة من المشائين ومائة فارس، قد أسبغوا الدروع على أنفسهم وخيلهم، وكل واحد منهم يقود فرسا مسرجا مدرعا، عليه شكة فارس من البيضة المجوهرة والدروع والتركش والقوس والسيف، وبيده رمح في طرف رأسه راية. وأكثر تلك الرماح مكسوة بصفائح الذهب والفضة. وتلك الخيل المقودة هي مراكب ابن السلطان. وقسم فرسانه على أفواج، كل فوج فيه مائتا فارس، لهم أمير قد قدم أمامه عشر من الفرسان شاكين في السلاح، وكل واحد منهم يقود فرسا، وخلفه عشرة من العلامات ملونة بأيدي عشرة من الفرسان، وعشرة أطبال يتقلدها عشرة من الفرسان، ومعهم ستة يضربون الأبواق والأنفار والصرنايات، وهي الغيطات. وركبت الخاتون في مماليكها وجواريها وفتيانها وخدامها، وهم نحو خمسمائة، عليهم ثياب الحرير المزركشة بالذهب المرصعة، وعلى الخاتون حلة يقال لها: النخ، ويقال لها أيضا: النسيج، مرصعة بالجوهر، وعلى رأسها تاج مرصع، وفرسها مجلل حرير مزركش بالذهب، وفي يده ورجليه خلاخل الذهب، وفي عنقه قلائد مرصعة. وعظم السرج مكسو ذهبا، مكلل جوهرا. وكان التقاؤهما في بسيط من الأرض على نحو ميل من البلد. وترجل لها أخوها لأنه أصغر سنا منها، وقبل ركابها، وقبلت رأسه. وترجل الأمراء وأولاد الملوك، وقبلوا جميعا ركابها، وانصرفت مع أخيها. وفي غد ذلك اليوم وصلنا إلى مدينة كبيرة على ساحل البحر، لا نثبت الآن اسمها، ذات أنهار وأشجار، نزلنا بخارجها. ووصل أخو الخاتون ولي العهد في ترتيب عظيم وعسكر ضخم من عشرة آلاف مدرع، وعلى رأسه تاج، وعن يمينه نحو عشرين من أبناء الملوك، وعن يساره مثلهم، وقد رتب فرسانه على ترتيب أخيه سواء، إلا أن الحفل أعظم، والجمع أكثر. وتلاقت معه أخته في مثل زيها الأول، وترجلا جميعا. وأتي بخباء حرير فدخلا فيه. فلا أعلم كيفية سلامها، ونزلنا على عشرة أميال من القسطنطينية. فلما كان بالغد خرج أهلها من رجال من رجال ونساء وصبيان، ركبانا ومشاة في أحسن زي وأجمل لباس، وضربت عند الصبح الأطبال والابوا ق والانفار، وركبت العساكر، وخرج السلطان وزوجته أم هذه الخاتون وأرباب الدولة والخواص، وعلى رأس الملك رواق يحمله جملة من الفرسان، ورجال بأيديهم عصي طوال، في أعلى كل عصا شبه كرة من جلد يرفعون بها الرواق، وفي وسط الرواق مثل القبة يرفعها الفرسان بالعصي. ولما أقبل السلطان اختلطت العساكر وكثر العجاج، ولم أقدر على الدخول فيما بينهم، فلزمت أثقال الخاتون وأصحابها، خوفا على نفسي. وذكر لي أنها لما قربت من أبويها ترجلت وقبلت الأرض بين أيديهما، ثم قبلت حافري فرسيهما. وفعل كبار أصحابها مثل فعلها في ذلك. وكان دخولنا عند الزوال أو بعده إلى القسطنطينية العظمى، وقد ضربوا نواقيسهم حتى ارتجت الآفاق لاختلاط أصواتها. ولما وصلنا الباب الأول من أبواب قصر الملك وجدنا به مائة رجل، معهم قائد لهم فوق دكانه. وسمعتهم يقولون: سراكنوا سراكنوا، ومعناه المسلمون. ومنعونا من الدخول. فقال لهم أصحاب الخاتون: إنهم من جهتنا. فقالوا: لا يدخلون إلا بإذن. فأقمنا بالباب، وذهب بعض أصحاب الخاتون، فبعث من أعلمها بذلك، وهي بين يدي والدها، فذكرت له شأننا فأمر بدخولنا. وعين لنا دارا بمقربة من دار الخاتون، وكتب لنا أمرا بأن لا نعترض حيث نذهب من المدينة، ونودي بذلك في الأسواق.وأقمنا بالدار ثلاثا، فبعث إلينا الضيافة من الدقيق والخبز والغنم والدجاج والسمن والفاكهة والحوت والدراهم والفرش. وفي اليوم الرابع دخلنا على السلطان.

صفحة : 173

ذكر سلطان القسطنطينية

واسمه تكفور بفتح التاء المثناة وسكون الكاف وضم الفاء وواو وراء ابن السلطان جرجيس. وأبوه السلطان جرجيس بقيد الحياة، لكنه تزهد وترهب وانقطع للعبادة في الكنائس، وترك الملك لولده وسنذكره. وفي اليوم الرابع من وصولنا إلى القسطنطينية بعثت إلي الخاتون الفتى سنبل الهندي، فأخذ بيدي وأدخلني إلى القصر، فجزنا أربعة أبواب، في كل باب سقائف بها رجال وأسلحتهم وقائدهم على دكانة مفروشة. فلما وصلنا إلى الباب الخامس تركني الفتى سنبل ودخل، ثم أتى ومعه أربعة من الفتيان الروميين، ففتشوني لئلا يكون معي سكين، وقال لي القائد: تلك عادة لهم، لا بد من تفتيش كل من يدخل على الملك من خاص أو عام، غريب أو بلدي، وكذلك الفعل بأرض الهند. ثم لما فتشوني قام الموكل بالباب، فأخذ بيدي وفتح الباب وأحاط بي أربعة من الرجال أمسك اثنان بكمي، واثنان من ورائي فدخلوا بي إلى مشور كبير، حيطانه بالفسيفساء قد نقش فيها صور المخلوقات من الحيوانات والجماد، وفي وسطه ساقيه ماء، ومن جهتها الأشجار والناس واقفون يمينا ويسارا سكوتا لا يتكلم أحد منهم، وفي وسط المشور ثلاثة رجال وقوف. أسلمني أولئك الأربعة إليهم فأمسكوا بثيابي كما فعل الآخرون، وأشار إليهم رجل فتقدموا بي، وكان أحدهم يهوديا فقال لي بالعربي: لا تخف، فهكذا عادتهم أن يفعلوا بالوارد، وأنا الترجماني، وأصلي من بلاد الشام. فسألته كيف أسلم. فقال: قل السلام عليكم.ثم وصلت إلى قبة عظيمة، والسلطان على سريره، وزوجته أم هذا الخاتون بين يديه، وأسفل السرير الخاتون وإخوتها، وعن يمينه ستة رجال، وعن يساره اربعة، وكلهم بالسلاح. فأشار إلي قبل السلام والوصول إليه بالجلوس هنيهة، ليسكن روعي، ففعلت ذلك، ثم وصلت إليه فسلمت عليه، وأشار إلى أن أجلس فلم أفعل. وسألني عن بيت المقدس، وعن الصخرة المقدسة، وعن القمامة، وعن مهد عيسى، وعن بيت لحم، وعن مدينة الخليل عليه السلام، ثم عن دمشق ومصر والعراق وبلاد الروم، فأجبته عن ذلك كله، واليهودي يترجم بيني وبينه. فأعجبه كلامي وقال لأولاده: أكرموا هذا الرجل وأمنوه. ثم خلع علي خلعة، وأمر لي بفرس مسرج ملجم، ومظلة من التي يجعلها الملك فوق رأسه، وهي علامة الأمان. وطلبت منه أن يعين من يركب معي بالمدينة في كل يوم، حتى أشاهد عجائبها وغرائبها، وأذكرها في بلادي. فعين لي ذلك. ومن العوائد عندهم ان الذي يلبس خلعة الملك ويركب فرسه يطاف به في أسواق المدينة بالأبواق والأنفار والأطبال ليراه الناس وأكثر ما يفعل ذلك بالأتراك الذين يأتون من بلاد السلطان أوزبك لئلا يؤذوا فطافوا بي في الأسواق.

صفحة : 174

ذكر المدينة

وهي متناهية في الكبر، منقسمة بقسمين بينهما نهر عظيم المد والجزر، على شكل وادي سلا من بلاد المغرب. وكانت عليه فيما تقدم قنطرة مبنية فخربت. وهو الآن يعبر في القوارب. واسم هذا النهر أبسمي بفتح الهمزة واسكان الباء الموحدة وضم السين المهمل وكسر الميم وياء مد. وأحد القسمين من المدينة يسمى أصطنبول بفتح الهمزة واسكان الصاد وفتح الطاء المهملتين وسكون النون وضم الباء الموحدة وواو مد ولام، وهو بالعدوة الشرقية من النهر، وفيه سكنى السلطان وأرباب دولته وسائر الناس. وأسواقه وشوارعه مفروشه بالصفاح متسعة. وأهل كل صناعة على حدة لا يشاركهم شواهم، وعلى كل سوق أبواب تسد عليه بالليل وأكثر الصناع والباعة به النساء. والمدينة في سفح جبل داخل في البحر نحو تسعة أميال، وعرضه مثل ذلك أو أكثر، وفي أعلاه قلعة صغيرة وقصر السلطان. والسور يحيط بهذا الجبل، وهو مانع لا سبيل لأحد إليه من جهة البحر. وفيه نحو ثلاث عشرة قرية عامرة والكنيسة العظمى هي في وسط هذا القسم من المدينة. وأما القسم الثاني منها فيسمى الغلطة بغين معجمة ولام وطا مهمل مفتوحات وهو بالعدوة الغربية من النهر، شبيه برباط الفتح في قربه من النهر. وهذا القسم خاص بنصارى الإفرنج يسكنونه. وهم أصناف، فمنهم الجنويون والبنادقة وأهل رومية وأهل إفرانسة. وحكمهم إلى ملك القسطنطينية، يقدم عليهم منهم من يرتضونه ويسمونه القمص، وعليهم وظيفة في كل عام لملك القسطنطينية. وربما استعصوا عليه، فيحاربهم حتى يصلح بينهم البابا. وجميعها أهل تجارة، ومرساهم من أعظم المراسي، رأيت به نحو مائة جفن من القراقر وسواها من الكبار، وأما الصغار فلا تحصى كثرة. وأسواق هذا القسم حسنة، إلا أن الأقذار غالبة عليها، ويشقها نهر صغير قذر نجس، وكنائسهم لا خير فيها.

ذكر الكنيسة العظمى

وإنما نذكر خارجها، وأما داخلها فلم أشاهده. وهي تسمى عندهم أياصوفيا بفتح الهمزة والياء آخر الحروف والف وصاد مضموم وواو مد وفاء مكسورة وياء كالأولى والف. ويذكر أنها من بناء آصف بن بريخاء، وهو ابن خالة سليمان عليه السلام. وهي من أعظم كنائس الروم، وعليها سور يطيف به فكأنها مدينة. وأبوابها ثلاثة عشر بابا، ولها حرم هو نحو ميل، عليه باب كبير، ولا يمنع أحد من دخوله. وقد دخلته مع والد الملك الذي يقع ذكره، وهو شبه مشور مسطح بالرخام وتشقه ساقية تخرج من الكنيسة، لها حائطان مرتفعان نحو ذراع، مصنوعان بالرخام المجزع المنقوش بأحسن صنعة، والأشجار منتظمة عن جهتي الساقية. ومن باب الكنيسة إلى باب هذا المشور معرش من الخشب مرتفع، عليه دوالي العنب، وفي أسفله الياسمين والرياحين، وخارج باب هذا المشور قبة خشب كبيرة فيها طبلات خشب، يجلس عليها خدام ذلك الباب. وعن يمين القبة مساطب وحوانيت أكثرها من الخشب، يجلس بها قضاتهم وكتاب دواوينهم. وفي وسط تلك الحوانيت قبة خشب يصعد إليها على درج خشب، وفيها كرسي كبير مطبق بالملف، يجلس فوقه قاضيهم وسنذكره، وعن يسار القبة التي على باب هذا المشور سوق العطارين. والساقية التي ذكرناها تنقسم قسمين أحدهما يمر بسوق العطارين، والآخر يمر بالسوق حيث القضاة والكتاب، وعلى باب الكنيسة سقائف يجلس بها خدامها الذين يقمون طرقها ويوقدون سرجها ويغلقون أبوابها، ولا يدعون أحدا بداخلها حتى يسجد للصليب الأعظم عندهم الذي يزعمون أنه بقية من الخشبة التي صلب عليها شبيه عيسى عليه السلام، وهو على باب الكنيسة، مجعول في جعبة ذهب طولها نحو عشرة أذرع، وقد عرضوا عليها جعبة ذهب مثلها، حتى صارت صليبا. وهذا الباب مصفح بصفائح الفضة والذهب، وحلقتاه من الذهب الخالص. وذكر لي أن عدد من بهذه الكنيسة من الرهبان والقسيسين ينتهي إلى آلاف، وأن بعضهم من ذرية الحواريين. وأن بداخلها كنيسة مختصة بالنساء فيها من الأبكار المنقطعات للعبادة أزيد من ألف. وأما القواعد من النساء فأكثر من ذلك كله. ومن عادة الملك وأرباب دولته وسائر الناس أن يأتوا كل يوم صباحا إلى زيارة هذه الكنيسة، ويأتي إليها البابا مرة في السنة، وإذا كان على مسيرة أربع من البلد، يخرج الملك إلى لقائه ويترجل له. وعند دخول المدينة يمشي بين يديه على قدميه، ويأتيه صباحا ومساء للسلام طوال مقامه بالقسطنطينية حتى ينصرف.

صفحة : 175

ذكر المانستارات بقسطنطينية

والمانستار على مثل لفظ المارستان إلا أن نونه متقدمة وراءه متأخرة، وهو عندهم شبه الزاوية عند المسلمين، وهذه المانستارات بها كثيرة فمنها مانستار عمره الملك جرجيس وااد ملك القسطنطينية وسنذكره، وهو بخارج اصطنبول مقابل الغلطة. ومنها مانستاران خارج الكنيسة العظمى عن يمين الداخل إليها، وهما في داخل بستان يشقهما نهر ماء. وأحدهما للرجال والآخر للنساء. وفي كل واحد منهما كنيسة، ويدور بهما البيوت للمتعبدين والمتعبدات، وقد حبس على كل واحد منهما أحباس لكسوة المتعبدين ونفقتهم، بناهما أحد الملوك. ومنها مانستاران عن يسار الداخل إلى الكنيسة العظمى على مثل هذين الآخرين، ويطيف بها بيوت. وأحدهما يسكنه العميان، والثاني يسكنه الشيوخ الذين لا يستطيعون الخدمة، ممن بلغ الستين أو نحوها. ولكل واحد منهم كسوته ونفقته من أوقاف معينة لذلك. وفي داخل كل مانستار منها دويرة لتعبد الملك الذي بناه. وأكثر هؤلاء الملوك إذا بلغ الستين أو السبعين بنى مانستارا أو لبس المسوح، وهي ثياب الشعر، وقلد ولده الملك، واشتغل بالعبادة حتى يموت. وهم يحتفلون في بناء هذه المانستارات، ويعملونها بالرخام والفسيفساء، وهي كثيرة بهذه المدينة ودخلت مع الرومي الذي عينه الملك للركوب معي إلى مانستار يشقه نهر، وفيه كنيسة فيها نحو خمسمائة بكر، عليهن المسوح ورؤوسهن محلوقة فيها قلانيس اللبد، ولهن جمال فائق، وعليهن أثر العبادة. وقد قعد صبي على منبر يقرأ لهن الإنجيل بصوت لم أسمع قط أحسن منه، وحوله ثمانية من الصبيان على منابر، ومعهم قسيسهم. فلما قرأ هذا الصبي قرأ صبي آخر. وقال لي الرومي: إن هؤلاء البنات من بنات الملوك، وهبن أنفسهن لخدمة هذه الكنيسة، وكذلك الصبيان القراء، ولهم كنيسة أخرى خارج تلك الكنيسة. ودخلت أيضا إلى كنيسة في بستان فوجدنا بها نحو خمسمائة بكر أو أزيد وصبيا يقرأ لهن على منبر، وجماعة صبيان معه على منابر مثل الأولين، فقال لي الرومي: هؤلاء بنات الوزراء والأمراء يتعبدن بهذه الكنيسة. ودخلت إلى كنائس فيها أبكار من وجوه أهل البلد، وإلى كنائس فيها العجائز والقواعد من النساء، وإلى كنائس فيها الرهبان، يكون في الكنيسة منه مائة رجل أو أكثر أو أقل، وأكثر هذه المدينة رهبان ومتعبدون وقسيسون. وكنائسها لا تحصى كثرة. وأهل المدينة من جندي وغيره صغير وكبير يجعلون على رؤوسهم المظلات الكبار شتاء وصيفا، والنساء لهن عمائم كبار.

ذكر الملك المترهب جرجيس

وهذا الملك ولى الملك لابنه وانقطع للعبادة، وبنى مانستارا كما ذكرناه خارج المدينة على ساحلها. وكنت يوما مع الرومي المعين للركوب معي فإذا بهذا الملك ماش على قدميه، وعليه المسوح وعلى رأسه قلنسوة لبد، وله لحية بيضاء طويلة ووجهه حسن عليه أثر العبادة، وخلفه وأمامه جماعة من الرهبان، وبيده عكاز، وعلى عنقه سبحة. فلما رآه الرومي نزل وقال لي: انزل فهذا والد الملك. فلما سلم عليه الرومي سأله عني، ثم وقف وبعث لي فجئت إليه فأخذ بيدي وقال لذلك الرومي، وكان يعرف اللسان العربي: قل لهذا السراكنوا، يعني المسلم أنا أصافح اليد التي دخلت بيت المقدس، والرجل التي مشت داخل الصخرة والكنيسة العظمى التي تسمى قمامة وبيت لحم، وجعل يده على قدمي ومسح بها وجهه، فعجبت من اعتقادهم فيمن دخل تلك المواضع من غير ملتهم، ثم أخذ بيدي ومشيت معه فسألني عن بيت المقدس ومن فيه من النصارى، وأطال السؤال، ودخلت معه إلى حرم الكنيسة الذي وصفناه آنفا. ولما قارب الباب الأعظم خرجت جماعة من القسيسين والرهبان للسلام عليه، وهو من كبارهم في الرهبانية. ولما رآهم أرسل يدي فقلت له: أريد الدخول معك إلى الكنيسة. فقال للترجمان: قل له: لابد لداخلها من السجود للصليب الأعظم، فإن هذا مما سنته الأوائل، ولا يمكن خلافه، فتركته، ودخل وحده، ولم أره بعد.

صفحة : 176

ذكر قاضي القسطنطينية

ولما فارقت الملك المترهب المذكور دخلت سوق الكتاب، فرآني القاضي فبعث إلي أحد أعوانه، فسأل الرومي الذي معي، فقال له: إنه من طلبة المسلمين. فلما عاد إليه وأخبره بذلك بعث إلي أحد أعوانه، وهم يسمون القاضي النجشي كفالي، فقال لي: النجشي كفالي يدعوك، فصعدت إليه، إلى القبة التي تقدم ذكرها، فرأيت شيخا حسن الوجه واللمة، عليه لباس الرهبان وهو الملف الأسود، وبين يديه نحو عشرة من الكتاب يكتبون. فقام إلي وقام أصحابه، وقال: أنت ضيف الملك، ويجب علينا إكرامك. وسألني عن بيت المقدس والشام ومصر وأطال الكلام وكثر عليه الازدحام، وقال لي: لابد لك أن تأتي إلى داري فأضيفك. فانصرفت عنه، ولم ألقه بعد.

ذكر الانصراف عن القسطنطينية

ولما ظهر لمن كان في صحبة الخاتون من الأتراك أنها على دين أبيها وراغبة في المقام معه، طلبوا منها الإذن في العودة إلى بلادهم، فأذنت لهم، وأعطتهم عطاء جزيلا، وبعثت معهم من يوصلهم إلى بلادهم أميرا يسمى ساروجة الصغير في خمسمائة فارس، وبحثت عني فأعطتني ثلاثمائة دينار من ذهبهم يسمونه البربرة وليس بالطيب، وألفي درهم بندقية وشقة ملف من عمل البنات، وهو أجود أنواعه، وعشرة أثواب من حرير وكتان وصوف، وفرسين، وذلك من عطاء أبيها، وأوصت بي ساروجة وودعتها وانصرفت. وكانت مدة مقامي عندهم شهرا وستة أيام. وسافرنا صحبة ساروجة، فكان يكرمني، حتى وصلنا إلى آخر بلادهم، حيث تركنا أصحابنا وعرباتنا، فركبنا العربات ودخلنا البرية، ووصل ساروجة معنا إلى مدينة بابا سلطوق، وأقام بها ثلاثا في الضيافة، وانصرف إلى بلاده، وذلك في اشتداد البرد، وكنت ألبس ثلاث فروات وسروالين أحدهما مبطن، وفي رجلي خف من صوف، وفوقه خف مبطن بثوب كتان، وفوقه خف من البرغالي وهو جلد الفرس مبطن بجلد ذئب، وكنت أتوضأ بالماء الحار بمقربة من النار، فما تقطر من الماء قطرة إلا جمدت لحينها. وإذا غسلت وجهي بالماء إلى لحيتي فيجمد فأحركها فيسقط منها شبه الثلج، والماء الذي ينزل من الأنف يجمد على الشارب، وكنت لا أستطيع الركوب لكثرة ما علي من الثياب حتى يركبني أصحابي. ثم وصلت إلى مدينة الحاج ترخان حيث فارقنا السلطان أوزبك، فوجدناه قد رحل واستقر بحضرة ملكه؛ فسافرنا على نهر أتل وما يليه من المياه ثلاثا وهي جامدة. وكنا إذا احتجنا الماء قطعنا قطعا من الجليد وجعلناه في القدرة حتى يصير ماء، فنشرب منه ونطبخ به. ووصلنا إلى مدينة السرا وضبط اسمها بسين مهمل وراء مفتوحة والف، وتعرف بسرا بركة، وهي حضرة السلطان أوزبك. ودخلنا على السلطان فسألنا عن كيفية سفرنا، وعن ملك الروم ومدينته، فأعلمناه. وأمر بإجراء النفقة علينا، وأنزلنا. ومدينة السرا، من أحسن المدن، متناهية الكبر، في بسيط من الأرض، تغص بأهلها كثرة، حسنة الأسواق، متسعة الشوارع.

وركبنا يوما مع بعض كبرائها، وغرضنا التطوف عليها ومعرفة مقدارها، وكان منزلنا في طرف منها، فركبنا منه غدوة. فما وصلنا لآخرها إلا بعد الزوال، فصلينا الظهر، وأكلنا طعامنا. فما وصلنا إلى المنزل إلا عند المغرب ومشينا يوما في عرضها ذاهبين راجعين في نصف يوم، وذلك في عمارة متصلة الدور لا خراب فيها ولا بساتين. وفيها ثلاثة عشر مسجدا لإقامة الجمعة أحدها للشافعية، وأما المساجد سوى ذلك فكثيرة جدا. وفيها طوائف من الناس. منهم المغل، وهم أهل البلاد والسلاطين، وبعضهم مسلمون، ومنهم الآص، وهم مسلمون، ومنهم القفجق والجركس والروس والروم، وهم نصارى؛ وكل طائفة تسكن محلة على حدة فيها، أسواقها والتجار والغرباء من أهل العراقين ومصر والشام وغيرها، ساكنون بمحلة عليها سور، احتياطا على أموال التجارة. وقصر السلطان بها يسمى ألطون طاش، وألطون بفتح الهمزة وسكون اللام وضم الطاء المهمل وواو مد ونون ومعناه الذهب وطاش بفتح الطاء المهمل وشين معجم ومعناه حجر وقاضي هذه الحضرة بدر الدين الأعرج من خيار القضاة.

صفحة : 177

وبها من مدرسي الشافعية الفقيه الإمام الفاضل صدر الدين سليمان اللكزي، أحد الفضلاء، وبها من المالكية شمس الدين المصري، وهو ممن يطعن في ديانته. وبها زاوية الصالح الحاج نظام الدين، أضافنا بها وأكرمنا، وبها زاوية الفقيه الإمام العالم نعمان الدين الخوارزمي، رأيته بها، وهو من فضلاء المشايخ، حسن الأخلاق كريم النفع شديد التواضع شديد السطوة على أهل الدنيا، يأتي إليه السلطان أوزبك زائرا في كل جمعة فلا يستقبله ولا يقوم إليه، ويقعد السلطان بين يديه ويكلمه ألطف كلام ويتواضع له، والشيخ بضد ذلك. وفعله مع الفقراء والمساكين والواردين خلاف فعله مع السلطان، فإنه يتواضع لهم ويكلمهم بألطف كلام ويكرمهم، وأكرمني جزاه الله خيرا، وبعث إلي بغلام تركي، وشاهدت له بركة. كرامة له: كنت أردت السفر من السرا إلى خوارزم، فنهاني عن ذلك، وقال لي: أقم أياما وحينئذ نسافر فنازعتني النفس، ووجدت رفقة كبيرة آخذة في السفر. فيهم تجار أعرفهم، فاتفقت معهم على السفر في صحبتهم، وذكرت له ذلك فقال لي: لا بد لك من الإقامة. فعزمت على السفر فأبق لي الغلام، وأقمت بسببه. وهذه الكرامات الظاهرة.

صفحة : 178

ولما كان بعد ثلاث وجد بعض أصحابي ذلك الغلام الآبق بمدينة الحاج ترخان، فجاء به إلي فحينئذ سافرت إلى خوارزم وبينها وبين حضرة السرا صحراء مسيرة أربعين يوما، لا تسافر فيها الخيل لقلة الكلأ، وإنما تجر العربات بها الجمال، فسرنا من السرا عشرة أيام فوصلنا إلى مدينة سراجوق وجوق بضم الجيم المعقود وواو وقاف، ومعنى جوق صغير. فكأنهم قالوا: سرا الصغيرة، وهي على شاطئ نهر كبير زخار، يقال له: ألوصو بضم الهمز واللام وواو وضم الصاد المهمل وواو، ومعناه الماء الكبير، وعليه جسر من قوارب كجسر بغداد. وإلى هذه المدينة انتهى سفرنا بالخيل التي تجر العربات، وبعناها بحساب أربعة دنانير دراهم للفرس وأقل من ذلك لأجل ضعفها ورخصها بهذه المدينة، واكترينا الجمال لجر العربات. وبهذه المدينة زاوية لرجل صالح معمر من الترك يقال له أطا بفتح الهمز والطاء المهمل، ومعناه الوالد، أضافنا بها ودعا لنا. وأضافنا أيضا قاضيها، ولا أعرف اسمه. ثم سرنا منها ثلاثين يوما سيرا جادا لا ننزل إلا ساعتين: إحداهما عند الضحى، والآخرى عند المغرب. وتكون الإقامة قدر ما يطبخون الدوقي ويشربونه، وهو يطبخ من غلية واحدة، ويكون معهم الخليع من اللحم، يجعلونه عليه، ويصبون عليه اللبن. وكل إنسان إنما ينام أو يأكل في عربته حال السير. وكان لي في عربتي ثلاث من الجواري. ومن عادة المسافرين في هذه البرية الإسراع، لقلة أعشابها.

والجمال التي تقطعها يهلك معظمها، وما يبقى منها لا ينتفع به إلا في سنة أخرى، بعد أن يسمن. والماء في هذه البرية في مناهل معلومة بعد اليومين والثلاثة، وهو ماء المطر والحسيان. ثم لما سلكنا هذه البرية وقطعناها كما ذكرناه، وصلنا إلى خوارزم، وهي أكبر مدن الأتراك وأعظمها وأجملها وأضخمها، لها الأسواق المليحة والشوارع الفسيحة والعمارة الكثيرة والمحاسن الأثيرة. وهي ترتج بسكانها لكثرتهم، وتموج بهم موج البحر. ولقد ركبت بها يوما ودخلت السوق، فلما توسطته وبلغت منتهى الزحام في موضع يقال له الشهور بفتح الشين المعجم وإسكان الواو، لم أستطع أن أجوز ذلك الموضع لكثرة الازدحام، وأردت الرجوع فما أمكنني لكثرة الناس فبقيت متحيرا، وبعد جهد شديد رجعت. وذكر لي بعض الناس ان تلك السوق يخف زحامها يوم الجمعة. وتوجهت إلى المسجد الجامع والمدرسة. وهذه المدينة تحت إمرة السلطان أوزبك. وله فيها أمير كبير يدعى قطلودمور، وهو الذي عمر هذه المدرسة وما معها من المواضع المضافة. وأما الجامع فعمرته زوجته الخاتون الصالحة ترابك بضم التاء المعلوة وفتح والف وبك بفتح الباء الموحدة والكاف، وبخوارزم مارستان له طبيب شامي يعرف بالصهيوني، نسبة إلى صهيون من بلاد الشام. ولم أر في بلاد الدنيا أحسن أخلاقا من أهل خوارزم، ولا أكرم نفوسا، ولا أحب في الغرباء. ولهم عادة جميلة في الصلاة لم أرها لغيرهم. وهي أن المؤذنين بمساجدها يطوف كل واحد منهم على دور جيران مسجده معلما لهم بحضور الصلاة، فمن لم يحضر الصلاة مع الجماعة ضربه الإمام بمحضر الجماعة. وفي كل جامع درة معلقة برسم ذلك، ويغرم خمسة دنانير تنفق في مصالح الجامع، أو تطعم للفقراء والمساكين. ويذكرون أن هذه العادة عندهم مستمرة على قديم الزمان. وبخارج خوارزم نهر جيحون أحد الأنهار الأربعة التي من الجنة وهو يجمد في أوان البرد كما يجمد نهر أتل. ويسلك الناس عليه، وتبقى مدة جموده خمسة أشهر. وربما سلكوا عليه عند أخذه في الذوبان فهلكوا. ويسافر فيه أيام الصيف بالمراكب إلى ترمذ، ويجلبون منها القمح والشعير، وهي مسيرة عشر للمنحدر. وبخارج خوارزم زاوية مبنية على تربة الشيخ نجم الدين الكبري، وكان من كبار الصالحين. وفيها الطعام للوارد والصادر، وشيخهم المدرس سيف الدين بن عضبة، من كبار أهل خوارزم، وبها أيضا زاوية شيخها الصالح المجاور جلاب الدين السمرقندي، من كبار الصالحين، أضافنا بها. وبخارجها قبر الإمام العلامة أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، وعليه قبة. وزمخشر قرية على مسافة أربعة أميال من خوارزم.

صفحة : 179

ولما أتيت بهذه المدينة نزلت بخارجها، وتوجه بعض أصحابي إلى القاضي الصدر أبي حفص عمر البكري، فبعث إلي نائبه نور الإسلام فسلم علي، ثم عاد إليه. ثم أتى القاضي في جماعة من أصحابه فسلم علي، وهو فتي السن، كبير الفعال، وله نائبان: أحدهما نور الإسلام المذكور. والآخر نور الدين الكرماني من كبار الفقهاء، وهو الشديد في أحكامه، القوي في ذات الله تعالى. ولما حصل الاجتماع بالقاضي قال لي: إن هذه المدينة كثيرة الزحام، ودخولكم نهارا لا يتأتى، وسيأتي إليكم نور الإسلام لتدخلوا معه في آخر الليل، ففعلنا ذلك. ونزلنا بمدرسة جديدة ليس بها أحد. ولما كان بعد صلاة الصبح أتى إلينا القاضي المذكور، ومعه من كبار المدينة جماعة منهم، مولانا همام الدين، ومولانا زين الدين المقدسي، ومولانا رضي الدين يحيى، ومولانا فضل الله الرضوي، ومولانا جلاب الدين العمادي، ومولانا شمس الدين السنجري إمام أميرها. وهم أهل مكارم وفضائل، والغالب على مذهبهم الاعتزال، لكنهم لا يظهرونه، لأن السلطان أوزبك وأميره على هذه المدينة قطلودمور من أهل السنة. وكنت أيام إقامتي بها أصلي الجمعة مع القاضي أبي حفص عمر المذكور بمسجده، فإذا فرغت الصلاة ذهبت معه إلى داره، وهي قريبة من المسجد، فأدخل معه إلى مجلسه، وهو من أبدع المجالس فيه الفرش الحافلة، وحيطانه مكسوة بالملف، وفيه طيقان كثيرة، وفي كل طاق منها أواني الفضة المموهة بالذهب، والأواني العراقية. وكذلك عادة أهل تلك البلاد أن يصنعوا في بيوتهم، ثم يأتي بالطعام الكثير، وهو من أهل الرفاهية والمال الكثير والرباع. وهو سلف الأمير قطلودمور، متزوج بأخت امرأته، واسمها جيجاأغا. وبهذه المدينة جماعة من الوعاظ والمذكرين، أكبرهم مولانا زين الدين المقدسي، والخطيب مولانا حسام الدين المشاطي الخطيب المصقع أحد الخطباء الاربعة الذين لم اسمع في الدنيا أحسن منهم.

أمير خوارزم

هو الأمير الكبير قطلودمور، وقطلو بضم القاف وسكون الطاء المهمل وضم اللام ، ودمور بضم الدال المهمل والميم وواو مد وراء ، ومعنى اسمه الحديد المبارك. لأن قطلو هو المبارك ودمور هو الحديد. وهذا الأمير ابن خالة السلطان المعظم محمد أوزبك، وأكبر أمرائه، وهو واليه على خراسان. وولده هارون بك متزوج بابنة السلطان المذكور التي أمها الملكة طيطغلي المتقدم ذكرها، وامرأته الخاتون ترابك صاحبة المكارم الشهيرة. ولما أتاني القاضي مسلما علي كما ذكرته، قال لي: إن الأمير قد علم بقدومك، وبه بقية مرض يمنعه من الإتيان إليك. فركبت مع القاضي إلى زيارته وأتينا داره، فدخلنا مشورا كبيرا أكثر بيوته خشب، ثم دخلنا مشورا صغيرا فيه قبة خشب مزخرفة، قد كسيت حيطانها بالملف الملون، وسقفها بالحرير المذهب، والأمير على فرش له من الحرير، وقد غطى رجليه لما بهما من النقرس، وهي علة فاشية في الترك، فسلمت عليه، وأجلسني إلى جانبه، وقعد القاضي والفقهاء. وسألني عن سلطانه الملك محمد أوزبك، وعن الخاتون بيلون، وعن أبيها، وعن مدينة القسطنطينية، فأعلمته بذلك كله. ثم أتي بالموائد فيها الطعام من الدجاج المشوي والكراكي وأفراخ الحمام وخبز معجون بالسمن يسمونه الكليجا والكعك والحلوى، ثم أتي بموائد أخرى فيها الفواكه من الرمان المحبب في أواني الذهب والفضة، ومعه ملاعق الذهب. وبعضه في أواني الزجاج العراقي ومعه ملاعق الخشب، ومن العنب والبطيخ العجيب. ومن عوائد هذا الأمير أن يأتي القاضي في كل يوم إلى مشوره، فيجلس بمجلس معد له ومعه الفقهاء وكتابه، ويجلس في مقابلة أحد الأمراء الكبار، ومعه ثمانية من كبراء أمراء الترك وشيوخهم، يسمون الأرغجية بارغوجي، ويتحاكم الناس إليهم. فما كان من القضايا الشرعية حكم فيها القاضي، وما كان من سواها حكم فيها أولئك الأمراء. وأحكامهم مضبوطة عادلة. لأنهم لا يتهمون بميل ولا يقبلون رشوة، ولما عدنا إلى المدرسة بعد الجلوس مع الأمير بعث إلينا الأرز وزالدقيق والسمن والأبزار وأحمال الحطب. وتلك البلاد كلها لا يعرف بها الفحم، وكذلك الهند وخراسان وبلاد العجم. وأما الصين فيوقدون فيها حجارة تشتعل فيها النار كما تشتعل في الفحم، ثم إذا صارت رمادا عجنوه بالماء وجففوه بالشمس وطبخوا بها ثانية كذلك حتى يتلاشى.

صفحة : 180

حكاية ومكرمة لهذا القاضي والأمير

صليت في بعض أيام الجمع على عادتي بمسجد أبي حفص، فقال لي: إن الامير أمر لك بخمسمائة درهم، وأمر أن يصنع لك دعوة ينفق فيها خمسمائة درهم أخرى. يحضرها المشايخ والفقهاء والوجوه. فلما أمر بذلك قلت له: أيها الأمير تصنع دعوة يأكل من حضرها لقمة أو لقمتين، لو جعلت له جميع المال كان أحسن له للنفع. فقال: أفعل ذلك. وقد أمر لك بالألف كاملة، ثم بعثها الأمير صحبة إمامه شمس الدين السنجري في خريطة يحملها غلامه، وصرفها من الذهب المغربي ثلاثمائة دينار. وكنت قد اشتريت ذلك اليوم فرسا أدهم اللون بخمسة وثلاثين دينارا دراهم، وركبته في ذهابي إلى المسجد، فما اعطيت ثمنه إلا من تلك الألف. وتكاثرت عندي الخيل بعد ذلك، حتى انتهت إلى عدد لا أذكره خيفة مكذب يكذب به، ولم تزل حالي في الزيادة حتى دخلت أرض الهند. وكانت عندي خيل كثيرة،، لكني كنت أفضل هذا الفرس وأوثره وأربطه امام الخيل. وبقي عندي إلى انقضاء ثلاث سنين. ولما هلك تغيرت حالي، وبعثت إلي الخاتون جيجاأغا امرأة القاضي مائة دينار دراهم. وصنعت لي أختها ترابك زوجة الأمير دعوة جمعت لها الفقهاء ووجوه المدينة بزاويتها التي بنتها، وفيها الطعام للوارد والصادر، وبعثت إلي بفروة سمور وفرس جيد، وهي من أفضل النساء وأصلحهن وأكرمهن جزاها الله خيرا.

حكاية

ولما انفصلت من الدعوة التي صنعت لي هذه الخاتون وخرجت عن الزاوية، تعرضت لي بالباب امرأة عليها ثياب دنسة، وعلى رأسها مقنعة، ومعها نسوة لا أذكر عددهن. فسلمت علي، فرددت عليها السلام، ولم أقف معها ولا التفت إليها. فلما خرجت أدركني بعض الناس وقال لي: إن المرأة التي سلمت عليك هي الخاتون. فخجلت عند ذلك، وأردت الرجوع إليها فوجدتها قد انصرفت. فأبلغت إليها السلام مع بعض خدامها واعتذرت عما كان مني لعدم معرفتي بها.

ذكر بطيخ خوارزم

وبطيخ خوارزم لا نظير له في بلاد الدنيا شرقا ولا غربا، إلا ما كان من بطيخ بخارى، ويليه بطيخ أصفهان، وقشره أخضر، وباطنه أحمر. وهو صادق الحلاوة، وفيه صلابة. ومن العجائب أنه يقدد وييبس في الشمس. ويجعل في القواصر، كما يصنع عندنا بالشريحة وبالتين المالقي. ويحمل من خوارزم إلى أقصى بلاد الهند والصين. وليس في جميع الفواكه اليابسة أطيب منه. وكنت أيام إقامتي بدهلي من بلاد الهند متى قدم المسافرون بعثت من يشتري لي منهم قديد البطيخ. وكان ملك الهند إذا أتي اليه بشيء منه بعث إلي به لما يعلم من محبتي فيه. ومن عادته أن يطرف الغرباء بفواكه بلادهم،: ويتفقدهم بذلك.

صفحة : 181

حكاية

كان قد صحبني من مدينة السرا إلى خوارزم شريف من أهل كربلاء يسمى علي بن منصور، وكان من التجار، فكنت أكلفه أن يشتري لي الثياب وسواها، فكان يشتري لي الثوب بعشرة دنانير. ويقول: اشتريته بثمانية، ويحاسبني بالثمانية، ويدفع الدينارين من ماله، وأنا لا علم لي بفعله، إلى أن تعرفت ذلك على ألسنة الناس، وكان مع ذلك قد أسلفني دنانير. فلما وصل إلي إحسان أمير خوارزم رددت اليه ما أسلفنيه، وأردت أن أحسن بعده إليه مكأفاة لأفعاله الحسنة فأبى ذلك، وحلف أن لا أفعل. وأردت أن أحسن إلى فتى كان له اسمه كافور، فحلف أن لا أفعل، وكان أكرم من لقيته من العراقيين. وعزم على السفر معي إلى بلاد الهند. ثم إن جماعة من أهل بلده وصلوا إلى خوارزم برسم السفر إلى الصين، فأخذ في السفر معهم. فقلت له في ذلك. فقال: هؤلاء أهل بلدي، يعودون إلى أهلي وأقاربي، ويذكرون أني سافرت إلى الهند برسم الكدية، فيكون سبة علي، لا أفعل ذلك، وسافر معهم إلى الصين فبلغني بعد، وأنا بأرض الهند أنه لما بلغ إلى مدينة المالق، وهي آخر البلاد التي من عمالة ما وراء النهر وأول بلاد الصين، أقام بها، وبعث فتى له بما كان عنده من المتاع، فأبطأ الفتى عليه. وفي أثناء ذلك وصل من بلده بعض التجار، ونزل معه في فندق واحد. فطلب منه الشريف أن يسلفه شيئا بخلال ما يصل فتاه، فلم يفعل، ثم أكد قبح ما صنع في عدم التوسعة على الشريف بأن أراد الزيادة عليه في المسكن الذي كان له في الفندق، فبلغ ذلك الشريف، فاغتم منه، ودخل إلى بيته، فذبح نفسه، فأدرك وبه رمق، واتهموا غلاما كان له بقتله. فقال: لا تظلموه، فإني أنا فعلت ذلك. ومات من يومه غفر الله له.

وكان قد حكى لي عن نفسه أنه أخذ مرة من بعض تجار دمشق ستة آلاف درهم قراضا، فلقيه ذلك التاجر بمدينة حماة من أرض الشام، فطلبه بالمال، وكان قد باع مااشترى به من المتاع بالدين، فاستحيا من صاحب المال، ودخل إلى بيته، وربط عمامته بسقف البيت، وأراد أن يخنق نفسه. وكان في أجله تأخير، فتذكر صاحبا له من الصيارفة فقصده، وذكر له القضية، فسلفه مالا دفعه للتاجر. ولما أردت السفر من خوارزم اكتريت جمالا واشتريت محارة، وكان عديلي بها عفيف الدين التوزري، وركب الخدام بعض الخيل، وجللنا باقيها لأجل البرد، ودخلنا البرية التي بين خوارزم وبخارى، وهي مسيرة ثمانية عشر يوما في رمال لا عمارة بها إلا بلدة واحدة. فودعت الأمير قطلودمور، وخلع علي خلعة، وخلع على القاضي أخرى، وخرج مع الفقهاء لوداعي. وسرنا أربعة أيام ووصلنا إلى مدينة ألكات، وليس بهذه الطريق عمارة سواها، وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون اللام وفتح الكاف وآخره تاء مثناة، وهي صغيرة حسنة. نزلنا خارجها على بركة ماء قد جمدت من البرد. فكان الصبيان يلعبون فوقها، ويزلقون عليها. وسمع بقدومي قاضي ألكات، ويسمى صدر الشريعة، وكنت قد لقيته بدار قاضي خوارزم. فجاء إلي مسلما مع الطلبة وشيخ المدينة الصالح العابد محمود الخيوفي. ثم عرض على القاضي الوصول إلى أمير تلك المدينة. فقال له الشيخ محمود: القادم ينبغي له أن يزار، وإن كانت لنا همة نذهب إلى أمير المدينة ونأتي به، ففعلوا ذلك. وأتى الأمير بعد ساعة في أصحابه، وخدامه فسلمنا عليه. وكان غرضنا تعجيل السفر، فطلب منا الإقامة وصنع دعوة، جمع لها الفقهاء ووجوه العساكر وسواهم، ووقف الشعراء يمدحونه. وأعطاني كسوة وفرسا جيدا، وسرنا على الطريق المعروفة بسيباية. وفي تلك الصحراء مسيرة ست دون ماء. ووصلنا بعد ذلك إلى بلدة وبكنة وضبط اسمها بفتح الواو وإسكان الباء الموحدة وكاف ونون ، وهي على مسيرة يوم واحد من بخارى بلدة حسنة ذات أنهار وبساتين. وهم يدخرون العنب من سنة إلى سنة، وعندهم فاكهة يسمونها العلو الآلو بالعين المهملة وتشديد اللام فييبسونه، ويجلبه الناس إلى الهند والصين، ويجعل عليه الماء، ويشرب ماؤه. وهو أيام كونه أخضر حلو، فإذا يبس صار فيه يسير حموضة، ولحميته كثيرة. ولم أر مثله بالأندلس ولا بالمغرب ولا بالشام.

صفحة : 182

ثم سرنا في بساتين متصلة وأنهار وأشجار وعمارة يوما كاملا، ووصلنا إلى مدينة بخارى التي ينسب إليها إمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. وهذه المدينة كانت قاعدة ما وراء نهر جيحون من البلاد، وخربها اللعين جنكيز التتري، جد ملوك العراق. فمساجدها الآن ومدارسها وأسواقها خربة إلا القليل، وأهلها أذلاء، وشهادتهم لا تقبل بخوارزم وغيرها، لاشتهارهم بالتعصب ودعوى الباطل وإنكار الحق. وليس بها اليوم من الناس من يعلم شيئا من العلم ولا من له عناية به.

ذكر أولية التتر وتخريبهم بخارى وسواها

كان تنكيز خان حدادا بأرض الخطا، وكان له كرم نفس وقوة وبسطة في الجسم، وكان يجمع الناس ويطعمهم. ثم صارت له جماعة فقدموه على أنفسهم، وغلب على بلده وقوي واشتدت شوكته واستفحل أمره، فغلب على ملك الخطا، ثم على ملك الصين. وعظمت جيوشه، وتغلب على بلاد الختن وكاشغر والمالق، وكان جلال الدين سنجر بن خوارزم شاه ملك خوارزم وخراسان وماوراء النهر، له قوة عظيمة وشوكة، فهابه تنكيز وأحجم عنه ولم يتعرض له. فاتفق أن بعث تنكيز تجارا بأمتعة الصين والخطا من الثياب الحريرية وسواها إلى بلدة أطرار بضم الهمزة، وهي آخر عمالة جلال الدين. فبعث إليه عامله عليها، معلما بذلك، واستأذنه ما يفعل في أمرهم، فكتب إليه يأمره أن يأخذ موالهم ويمثل بهم ويقطع أعضائهم ويردهم إلى بلادهم، لما أراد الله تعالى من شقاء أهل بلاد المشرق ومحنتهم رأيا فائلا وتدبيرا سيئا مشئوما. فلما فعل ذلك، تجهز تنكيز بنفسه في عساكر لا تحصى كثرة برسم غزو بلاد الإسلام. فلما سمع عامل أطرار بحركته بعث الجواسيس ليأتوه بخبره، فذكر أن أحدهم دخل محلة بعض أمراء تنكيز في صورة سائل، فلم يجد من يطعمه. ونزل إلى جانب رجل منهم فلم ير عنده زادا، ولا أطعمه شيئا. فلما أمسى أخرج مطرانا يابسة عنده، فبلها بالماء، وفصد فرسه وملأها بدمه وعقدها وشواها بالنار، فكانت طعامه. فعاد إلى أطرار، فأخبر عاملها بأمرهم، وأعلمه أن لا طاقة لأحد بقتالهم. فاستمد مليكه جلال الدين، فأمده بستين ألفا زيادة على من كان عنده من العساكر. فلما وقع القتال هزمهم تنكيز، ودخل مدينة أطرار بالسيف، فقتل الرجال وسبى الذراري، وأتى جلال الدين بنفسه لمحاربته، فكانت بينهم وقائع لا يعلم في الاسلام مثلها. وآل الأمر إلى أن تملك تنكيز ما وراء النهر، وخرب بخارى وسمرقند وترمذ، وعبر النهر، وهو نهر جيحون، إلى مدينة بلخ فتملكها، ثم إلى الياميان الباميان فتملكها، وأوغل في بلاد خراسان وعراق العجم. فثار عليه المسلمون في بلخ، وفي ما وراء النهر. فكر عليهم، ودخل بلخ بالسيف، وتركها خاوية على عروشها.

ثم فعل مثل ذلك في ترمذ، فخربت، ولم تعمر بعد، لكن بنيت مدينة على ميلين منها هي التي تسمى اليوم ترمذ. وقتل أهل الياميان الباميان وهدمها بأسرها إلا صومعة جامعها، وعفا عن أهل بخارى وسمرقند، ثم عاد بعد ذلك إلى العراق. وانتهى أمر التتر حتى دخلوا حضرة الاسلام ودار الخلافة بغداد بالسيف، وذبحوا الخليفة المستعصم بالله العباسي رحمه الله. قال ابن جزي: أخبرنا شيخنا قاضي القضاة أبو البركات ابن الحاج أعزه الله قال: سمعت الخطيب أبا عبد الله ابن رشيد يقول: لقيت بمكة نور الدين بن الزجاج من علماء العراق، ومعه ابن أخ له، فتفاوضنا الحديث، فقال لي: هلك في فتنة التتر بالعراق أربعة وعشرون ألف رجل من أهل العلم، ولم يبق منهم غيري وغير ذلك، وأشار إلى ابن أخيه.

صفحة : 183

قال، ونزلنا من بخارى بربضها المعروف بفتح أباد حيث قبر الشيخ العالم العابد الزاهد سيف الدين الباخرزي، وكان من كبار الأولياء. وهذه الزاوية المنسوبة لهذا الشيخ حيث نزلنا عظيمة، لها أوقاف ضخمة يطعم منها الوارد والصادر، وشيخها من ذريته، وهو الحاج السياح يحيى الباخرزي. وأضافني هذا الشيخ بداره، وجمع وجوه أهل المدينة وقرأ القراء بالأصوات الحسان، ووعظ الواعظ، وغنوا بالتركي والفارسي على طريقة حسنة. ومرت لنا هنالك ليلة بديعة من أعجب الليالي، ولقيت بها الفقيه العالم الفاضل صدرالشريعة، وكان قد قدم من هراة، وهو من الصلحاء الفضلاء. وزرت ببخارى قبر الإمام العالم أبي عبد الله البخاري مصنف الجامع الصحيح، شيخ المسلمين رضي الله عنه، وعليه مكتوب: هذا قبر محمد بن إسماعيل البخاري، وقد صنف من الكتب كذا وكذا. وأيضا على قبور علماء بخارى أسماؤهم وأسماء تصانيفهم. وكنت قيدت من ذلك كثيرا، وضاع مني في جملة ما ضاع لي، لما سلبني كفار الهند في البحر. ثم سافرنا من بخارى قاصدين معسكر السلطان الصالح المعظم علاء الدين طرمشيرين، وسنذكره. فمررنا على نخشب، البلدة التي ينسب إليها الشيخ أبو تراب النخشبي. وهي صغيرة، تحف بها البساتين والمياه. فنزلنا بخارجها، بدار لأميرها، وعندي جارية قد قاربت الولادة، وكنت أردت حملها إلى سمرقند لتلد بها. فاتفق أنها كانت في المحمل، فوضع المحمل على الجمل، وسافر أصحابنا من الليل، وهي معهم والزاد وغيره من أسبابي. وأقمت أنا حتى أرتحل نهارا مع بعض من معي. فسلكوا طريقا، وسلكت طريقا سواها. فوصلنا عشية النهار إلى محلة السلطان المذكور، وقد جعنا، فنزلنا على بعد من السوق، واشترى بعض أصحابنا ما سد جوعتنا. وأعارنا بعض التجار خباء بتنا به تلك الليلة. ومضى أصحابنا من الغد في البحث عن الجمال وباقي الأصحاب، فوجدوهم عشيا، وجاءوا بهم. وكان السلطان غائبا عن المحلة في الصيد، فاجتمعت بنائبه الأمير تقبغا، فأنزلني بقرب مسجده، وأعطاني خرقة خركاه وهي شبه الخباء، وقد ذكرنا صفتها فيما تقدم، فجعلت الجارية في تلك الخرقة، فولدت تلك الليلة مولودا، وأخبروني أنه ولد ذكر. ولم يكن كذلك، فلما كان بعد العقيقة، أخبرني بعض الأصحاب أن المولد بنت. فاستحضرت الجواري فسألتهن فأخبروني بذلك. وكانت هذه البنت مولودة في طالع سعد، فرأيت كل ما يسرني ويرضيني منذ ولدت. وتوفيت بعد وصولي إلى الهند بشهرين، وسيذكر ذلك. واجتمعت بهذه المحلة بالشيخ الفقيه العابد مولانا حسام الدين الياغي بالياء آخر الحروف والغين المعجمة، ومعناه بالتركية الثائر. وهو من أهل أطرار، وبالشيخ صهر السلطان.

ذكر سلطان ما وراء النهر

وهو السلطان المعظم علاء الدين طرمشيرين وضبط اسمه بفتح الطاء المهمل وسكون الراء وفتح الراء وكسر الشين المعجم وياء مد وراء مكسور وياء مد ثانية ونون، وهو عظيم المقدار كثير الجيوش والعساكر ضخم المملكة شديد القوة عادل الحكم، وبلاده متوسطه بين أربعة من ملوك الدنيا الكبار، وهم ملك الصين وملك الهند وملك العراق والملك أوزبك. وكلهم يهابونه، ويعظمونه ويكرمونه. وولي الملك بعد أخيه الجكطي وضبط اسمه بفتح الجيم المعقودة له الكاف والطاء المهمل وسكون الياء. وكان الجكطي هذا كافرا، وولي بعد أخيه الأكبر كبك، وكان كبك هذا كافر أيضا، لكنه كان عادل الحكم منصفا للمظلومين، يكرم المسلمين ويعظمهم.

حكاية

يذكر أن هذا الملك كبك كان تكلم يوما مع الفقيه الواعظ المذكر بدر الدين الميداني فقال له: أنت تقول: إن الله ذكر كل شيء في كتابه العزيز. قال: نعم. فقال: أين اسمي فيه ? فقال هو في قوله تعالى في أي صورة ماشاء ركبك فأعجبه ذلك. وقال: يخشي، ومعناه بالتركية جيد. فأكرمه إكراما كثيرا، وزاد في تعظيم المسلمين.

صفحة : 184

حكاية

ومن أحكام كبك ما ذكر أن امرأة شكت له بأحد الأمراء، وذكرت أنها فقيرة ذات أولاد وكان لها لبن تقوتهم بثمنه، فاغتصبه ذلك الأمير وشربه. فقال لها: أنا أوسطه. فإن خرج اللبن من جوفه مضى لسبيله، وإلا وسطتك بعده. فقالت المرأة: قد حللته ولا أطلبه بشيء. فأمر به فوسط فخرج اللبن من بطنه. ولنعد لذكر السلطان طرمشيرين، ولما أقمت بالمحلة، وهم يسمونها الأردوا أياما، ذهبت يوما لصلاة الصبح بالمسجد على عادتي، فلما صليت ذكر لي بعض الناس أن السلطان بالمسجد. فلما قام عن الصلاة تقدمت للسلام عليه، وقام الشيخ حسن، والفقيه حسام الدين الياغي، وأعلمه بحالي وقدومي منذ أيام. فقال لي بالتركية: خش ميسن يخشي ميسن قطلو يوسن، ومعنى خش ميسن في عافية أنت، ومعنى يخشي ميسن جيد أنت، ومعنى قطلو يوسن مبارك قدومك. وكان عليه في ذلك الحين قباء قدسي أخضر، وعلى رأسه شاشية مثله. ثم انصرف إلى مجلسه راجلا، والناس يتعرضون له بالشكايات، فيقف لكل مشتك منهم صغيرا أو كبيرا ذكرا او انثى. ثم بحث عني فوصلت إليه وهو في خرقة، والناس خارجها ميمنة وميسرة، والأمراء منهم على الكراسي، وأصحابهم وقوف على رؤوسهم، وبين أيديهم، وسائر الجند قد جلسوا صفوفا، وأمام كل واحد منهم سلاحه. وهم أهل النوبة يقعدون هنالك إلى العصر، ويأتي آخرون فيقعدون إلى آخر الليل. وقد صنعت هنالك سقائف من ثياب القطن يكونون بها. ولما دخلت إلى الملك بداخل الخرقة، وجدته جالسا على كرسي شبه المنبر، مكسو بالحرير المزركش بالذهب، وداخل الخرقة ملبس بثياب الحرير المذهب، والتاج المرصع بالجوهر واليواقيت معلق فوق رأس السلطان، بينه وبين رأسه قدر ذراع. والأمراء الكبار على الكراسي عن يمينه ويساره، وأولاد الملوك بأيديهم المذاب بين يديه، وعند باب الخرقة النائب والوزير والحاجب وصاحب العلامة. وهم يسمون آل طمغى وآل بفتح الهمزة معناه الأحمر وطمغى بفتح الطاء المهمل وسكون الميم والغين المعجم المفتوح ومعناه العلامة. وقام إلي أربعتهم حين دخولي ودخلوا معي، فسلمت عليه وسألني، وصاحب العلامة يترجم بيني وبينه، عن مكة والمدينة والقدس شرفها الله، وعن مدينة الخليل عليه السلام، وعن دمشق ومصر والملك الناصر، وعن العراقين وملكهما، وبلاد الأعاجم. ثم أذن المؤذن بالظهر فانصرفنا. وكنا نحضر معه الصلوات، وذلك أيام البرد الشديد المهلك. فكان لا يترك صلاة الصبح والعشاء في الجماعة، ويقعد للذكر بالتركية بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس. ويأتي إليه كل من في المسجد فيصافحه ويشد بيده على يده. وكذلك يفعلون في صلاة العصر. وكان إذا أوتي بهدية من زبيب أو تمر، والتمر عزيز عندهم، وهم يتبركون به، يعطي منها بيده لكل من في المسجد.

صفحة : 185

حكاية

ومن فضائل هذا الملك أنه حضرت صلاة العصر يوما، ولم يحضر السلطان. فجاء أحد فتيانه بسجادة ووضعها قبالة المحراب حيث جرت عادته أن يصلي، وقال للإمام حسام الدين الياغي: إن مولانا يريد أن تنتظره بالصلاة قليلا ريثما يتوضأ. فقام الإمام المذكورة وقال: نماز، ومعناها الصلاة، براي حد او براي طرمشيرين، أي الصلاة لله أو لطرمشيرين. ثم أمر المؤذن بإقامة الصلاة. وقد جاء السلطان، وقد صلي منها ركعتين، فصلى الركعتين الأخريين حيث انتهى به القيام، وذلك في الموضع الذي تكون فيه أنعلة الناس عند باب المسجد، وقضى ما فاته، وقام إلى الإمام ليصافحه وهو يضحك، وجلس قبالة المحراب، والشيخ الإمام إلى جانبه، وأنا إلى جانب الإمام. فقال لي: إذا مشيت إلى بلادك، فحدث أن فقيرا من فقراء الاعاجم يفعل هكذا مع سلطان الترك. وكان هذا الشيخ يعظ الناس في كل جمعة، ويأمر السلطان بالمعروف، وينهاه عن المنكر وعن الظلم، ويغلظ عليه القول، والسلطان ينصت لكلامه ويبكي. وكان لا يقبل من عطاء السلطان شيئا، ولم يأكل قط من طعامه، ولا لبس من ثيابه. وكان هذا الشيخ من عباد الله الصالحين. وكنت كثيرا ما أرى عليه قباء قطن مبطن بالقطن محشوا به، وقد بلي وتمزق، وعلى رأسه قلنسوة لبد يساوي مثلها قيراطا، ولا عمامة عليه. فقلت له في بعض الأيام: يا سيدي، ما هذا القباء الذي أنت لابسه ? إنه ليس بجيد. فقال لي: يا ولدي ليس هذا القباء لي، وإنما هو لابنتي، فرغبت منه أن ياخذ بعض ثيابي، فقال لي: عاهدت الله منذ خمسين سنة أن لا أقبل من أحد شيئا، ولو كنت اقبل من أحد لقبلت منك.

ولما عزمت على السفر بعد مقامي عند هذا السلطان أربعة وخمسين يوما، أعطاني السلطان سبعمائة دينار دراهم، وفروة سمور تساوي مائة دينار، طلبتها منه لأجل البرد. ولما ذكرتها له أخذ أكمامي وجعل يقبلها بيده تواضعا منه وفضلا وحسن خلق، وأعطاني فرسين وجملين. ولما اردت وداعه أدركته في أثناء طريقه إلى متصيده. وكان اليوم شديد البرد جدا. فوالله ما قدرت على أن أنطق بكلمة لشدة البرد، ففهم ذلك وضحك، وأعطاني يده وانصرفت. وبعد سنتين من وصولي إلى أرض الهند بلغنا الخبر بأن الملأ من قومه وأمرائه اجتمعوا بأقصى بلاده المجاورة للصين، وهنالك معظم عساكره، وبايعوا ابن عم له اسمه بوزن أغلي وكل من كان من أبناء الملوك فهم يسمونه أغلي بضم الهمزة وسكون الغين المعجمة وكسر اللام وبوزن بضم الباء الموحدة وضم الزاي، وكان مسلما إلا أنه فاسد الدين سيء السيرة. وسبب بيعتهم له وخلعهم لطرمشيرين أن طرمشيرين خالف أحكام جدهم تنكيز اللعين الذي خرب بلاد الإسلام، وقد تقدم ذكره. وكان تنكيز ألف كتابا في أحكامه يسمى عندهم اليساق بفتح الياء آخر الحروف والسين المهمل وآخره قاف، وعندهم أنه من خالف أحكام هذا الكتاب فخلعه واجب. ومن جملة أحكامه أنهم يجتمعون يوما في السنة يسمونه الطوى ومعناه يوم الضيافة ويأتي أولاد تنكيز والأمراء من أطراف البلاد، ويحضر الخواتين وكبار الأجناد، وإن كان سلطانهم قد غير شيئا من تلك الأحكام يقوم إليه كبراؤهم فيقولون له: غيرت كذا وغيرت كذا وفعلت كذا، وقد وجب خلعك. ويأخذون بيده ويقيمونه عن سرير الملك، ويقعدون غيره من أبناء تنكيز، وإن كان أحد الأمراء الكبار أذنب ذنبا في بلاده حكموا عليه بما يستحقه. وكان السلطان طرمشيرين قد أبطل حكم هذا اليوم، ومحا رسمه، فأنكروه عليه أشد الإنكار، وأنكروا عليه أيضا كونه أقام أربع سنين فيما يلي خراسان من بلاده، ولم يصل إلى الجهة التي توالي الصين. والعادة أن الملك يقصد تلك الجهة في كل سنة، فيختبر أحوالها وحال الجند بها، لأن أصل ملكهم منها. ودار الملك هي مدينة المالق.

صفحة : 186

فلما بايعوا بوزن أتى في عسكر عظيم، وخاف طرمشيرين على نفسه من أمرائه، ولم يأمنهم، فركب في خمسة عشر فارسا، يريد بلاد غزنة، وهي من عمالته، وواليها كبير أمرائه، وصاحب سره برنطيه؛ وهذا الأمير محب في الإسلام والمسلمين، قد عمر في عمالته نحو أربعين زاوية، فيها الطعام للوارد والصادر. وتحت يده العساكر العظيمة، ولم أر قط فيمن رأيته من الآدميين بجميع بلاد الدنيا أعظم خلقه منه. فلما عبر نهر جيحون وقصد طريق بلخ، رآه بعض الأتراك من أصحاب ينقي ابن أخيه كبك. وكان السلطان طرمشيرين المذكور قتل أخاه كبك المذكور، وبقي ابنه ينقي ببلخ. فلما أعلمه التركي بخبره قال: ما فر إلا لأمر حدث عليه. فركب في أصحابه وقبض عليه وسجنه. ووصل بوزن إلى سمرقند وبخارى فبايعه الناس، وجاءه ينقي بطرمشيرين، فيذكر أنه لما وصل إلى نسف، بخارج سمرقند، قتل هنالك ودفن بها، وخدم تربته الشيخ شمس الدين كردن بريدا. وقيل: إنه لم يقتل، كما سنذكره. وكردن بكاف معقودة وراء مسكن ودال مهمل مفتوح ونون ومعناه العنق، وبريدا بضم الباء الموحدة وكسر الراء وياء مد ودال مهمل معناه المقطوع. ويسمى بذلك لضربة كانت في عنقه، وقد رأيته بأرض الهند، ويقع ذكره فيما بعد. ولما ملك بوزن هرب ابن السلطان طرمشيرين، وهو بشاي أغل أغلي، وأخته وزوجها فيروز إلى ملك الهند، فعظمهم وأنزلهم منزلة عليه بسبب ما كان بينه وبين طرمشيرين من الود والمكاتبة والمهاداة، وكان يخاطبه بالأخ. ثم بعد ذلك أتى رجل من أرض السند، وادعى أنه هو طرمشيرين، واختلف الناس فيه. فسمع بذلك عماد الملك سرتيز غلام ملك الهند، ووالي بلاد السند، ويسمى ملك عرض. وهو الذي تعرض بين يديه عساكر الهند، وإليه أمرها، ومقره بملتان قاعدة السند. فبعث إليه بعض الأتراك العارفين به، فعادوا إليه وأخبروه أنه هو طرمشيرين حقا. فأمر له بالسراجة، وهي أفراج. فضرب خارج المدينة، ورتب له ما يرتب لمثله، وخرج لاستقباله، وترجل له وسلم عليه، وأتى في خدمته إلى السراجة، فدخلها راكبا كعادة الملوك. ولم يشك أحد أنه هو. وبعث إلى ملك الهند يخبره، فبعث إليه الأمراء يستقبلونه بالضيافات. وكان في خدمة ملك الهند حكيم ممن خدم طرمشيرين فيما تقدم، وهو كبير الحكماء بالهند. فقال للملك: أنا أتوجه إليه، وأعرف حقيقة أمره، فإني كنت عالجت له دملا تحت ركبته وبقي أثره، وبه أعرفه. فأتى إليه ذلك الحكيم، واستقبله مع الأمراء، ودخل عليه ولازمه لسابقته عنده، وأخذ يغمز رجليه، وكشف عن الأثر فشتمه. وقال له: تريد أن تنظر إلى الدمل الذي عالجته? هاهو ذا وأراه أثره. فتحقق أنه هو، وعاد إلى ملك الهند فأعلمه بذلك. ثم إن الوزير خواجه جهان أحمد بن إياس وكبير الأمراء قطلوخان معلم السلطان أيام صغره دخلا على ملك الهند، وقالا له: يا خوند عالم، هذا السلطان طرمشيرين قد وصل. وصح أنه هو. وها هنا من قومه نحو أربعين ألفا وولده وصهره. أرأيت إن اجتمعوا عليه ما يكون من العمل? فوقع هذا الكلام بموقع منه عظيم. وأمر أن يؤتى بطرمشيرين معجلا. فلما دخل عليه أمر بالخدمة كسائر الواردين، ولم يعظم. وقال له السلطان: بامادر كاني، وهي شتمة قبيحة، كيف تكذب وتقول: إنك طرمشيرين ? وطرمشيرين قد قتل. وهذا خادم تربته عندنا. والله لولا المعرة لقتلتك. ولكن أعطوه خمسة آلاف دينار. واذهبوا به إلى دار بشاي أغلي وأخته ولدي طرمشيرين، وقولوا لهم: إن هذا الكاذب يزعم أنه والدكم. فدخل عليهم فعرفوه. وبات عندهم والحراس يحرسونه وأخرج بالغد. وخافوا أن يهلكوا بسببه فأنكروه. ونفي عن بلاد الهند والسند. فسلك طريق كبج ومكران، وأهل البلاد يكرمونه ويضيفونه ويهادونه، ووصل إلى شيراز، فأكرمه سلطانها أبو إسحاق، وأجرى له كفايته. ولما دخلت عند وصولي من الهند إلى مدينة شيراز. ذكر لي أنه باق بها. وأردت لقاءه، ولم أفعل، لأنه كان في دار لا يدخل إليه أحد إلا بإذن من السلطان أبي إسحق. فخفت مما يتوقع بسبب ذلك، ثم ندمت على عدم لقائه.

صفحة : 187

رجع الحديث إلى بوزن: وذلك أنه لما ملك، ضيق على المسلمين، وظلم الرعية، وأباح للنصارى واليهود عمارة كنائسهم، فضج االمسلمون من ذلك وتربصوا به الدوائر، واتصل خبره بخليل ابن السلطان اليسور المهزوم على خراسان، فقصد ملك هراة، وهو السلطان حسن ابن السلطان غياث الدين الغوري، فأعلمه بما كان في نفسه، وسأل منه الإعانة بالعساكر والمال على أن يشاطره الملك إذا استقام. فبعث معه الملك حسين عسكرا عظيما. وبين هراة وترمذ تسعة أيام. فلما سمع أمراء السلطان بقدوم خليل تلقوه بالسمع والطاعة والرغبة في جهاد العدو. وكان أول قادم عليه علاءالملك خداوند زاده صاحب ترمذ، وهو أمير كبير شريف حسيني النسب. فأتاه في أربعة آلاف من المسلمين، فسر به وولاه وزارته، وفوض إليه أمره، وكان من الأبطال. وجاء الأمراء من كل ناحية واجتمعوا على خليل والتقى مع بوزن. فمالت العساكر إلى خليل، وأسلموا بوزن وأتوا به أسيرا. فقتله خنقا وبأوتار القسي. وتلك عادة لهم أنهم لا يقتلون من كان من أبناء الملوك إلا خنقا. واستقام الملك لخليل، وعرض عساكره بسمرقند، فكانوا ثمانين ألفا، عليهم وعلى خيلهم الدروع. فصرف العسكر الذي جاء به من هراة، وقصد بلاد المالق. فقدم التتر على أنفسهم واحدا منهم، ولقوه على مسيرة ثلاث من المالق، وبمقربة من أطراز طراز. وحمي القتال، وصبر الفريقان. فحمل الأمير خداوند زاده وزيره في عشرين ألفا من المسلمين حملة لم يثبت لها التتر، فانهزموا واشتد فيهم القتل. وأقام خليل بالمالق ثلاثا. وخرج إلى استئصال من بقي من التتر، فأذعنوا له بالطاعة. وجاز إلى تخوم الخطا والصين، وفتح مدينة قراقرم ومدينة بش بالغ. وبعث إليه سلطان الخطا بالعساكر، ثم وقع بينهما الصلح. وعظم أمر خليل، وهابته الملوك. وأظهر العدل، ورتب العساكر بالمالق، وترك بها وزيره خداوند زاده. وانصرف إلى سمرقند وبخارى. ثم إن الترك أرادوا الفتنة، فسعوا إلى خليل بوزيره المذكور، وزعموا أنه يريد الثورة، ويقول، إنه أحق بالملك، لقرابته من النبي ﷺ وكرمه وشجاعته. فبعث واليا إلى المالق عوضا عنه، وأمره أن يقدم عليه نفر يسير من أصحابه. فلما فدم عليه قتله عند وصوله من غير تثبت. فكان ذلك سبب خراب ملكه. وكان خليل، لما عظم أمره، بغى على صاحب هراة الذي أورثه الملك وجهزه بالعساكر والمال. فكتب إليه أن يخطب في بلاد باسمه، ويضرب الدنانير والدراهم على سكته، فغاظ ذلك الملك حسينا، وأنف منه وأجابه بأقبح جواب. فتجهز خليل لقتاله، فلم توافقه عساكر الإسلام ورأوه باغيا عليه. وبلغ خبره إلى الملك حسين فجهز العساكر مع ابن عمه ملك رونا، والتقى الجمعان. فانهزم خليل وأتى به إلى الملك حسين أسيرا، فمن عليه بالبقاء، وجعله في دار، وأعطاه جارية، وأجرى عليه النفقة. وعلى هذا الحال تركته عنده، وفي أواخر سنة سبع وأربعين عند خروجي من الهند.

صفحة : 188

ولنعد إلى ما كنا بسبيله: لما عاد السلطان طرمشيرين، سافرت إلى مدينة سمرقند. وهي من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالا. مبنية على شاطئ واد يعرف بوادي القصارين، عليه النواعير تسقى البساتين. وعنده يجتمع أهل البلد بعد صلاة العصر للنزهة والتفرج. ولهم عليه مساطب ومجالس يقعدون عليها، ودكاكين تباع بها الفاكهة وسائر المأكولات. وكانت على شاطئه قصور عظيمة، وعمارة تنبئ عن علو همم أهلها. فدثر أكثر ذلك. وكذلك المدينة خرب كثير منها، ولا سور لها ولا أبواب عليها. وفي داخلها البساتين. وأهل سمرقند لهم مكارم وأخلاق ومحبة في الغريب. وهم خير من أهل بخارى. وبخارج سمرقند قبر. قثم بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عن العباس وعن ابنه، وهو المستشهد حين فتحها. ويخرج أهل سمرقند كل ليلة اثنين وجمعة إلى زيارته. والتتر يأتون لزيارته، وينذرون له النذور العظيمة، ويأتون إليه بالبقر والغنم والدراهم والدنانير، فيصرف ذلك في النفقة على الوارد والصادر. ولخدام الزاوية والقبر المبارك. وعليه قبة قائمة على أربع أرجل، ومع كل رجل ساريتان من الرخام، منه الخضر والسود والبيض والحمر. وحيطان القبة بالرخام المجزع المنقوش بالذهب، وسقفها مصنوع بالرصاص. وعلى القبر خشب الأبنوس المرصع، مكسو الأركان بالفضة. وفوقه ثلاثة من قناديل الفضة. وفرش القبة بالصوف والقطن. وخارجها نهر كبير يشق الزاوية التي هنالك، على حافتيه الأشجار ودوالي العنب والياسمين. وبالزاوية مساكن يسكنها الوارد والصادر. ولم يغير التتر أيام كفرهم شيئا من حال هذا الموضع المبارك. كانوا يتبركون به، لما يرون له من الآيات. وكان الناظر في كل حال من هذا الضريح المبارك وما يليه حين نزولنا به الأمير غياث الدين محمد بن عبد القادر ابن عبد العزيز بن يوسف ابن الخليفة المستنصر بالله العباسي، قدمه لذلك السلطان طرمشيرين لما قدم عليه من العراق، وهو الآن عند ملك الهند، وسيأتي ذكره. ولقيت بسمرقند قاضيها المسمى عندهم صدر الجهان، وهو من الفضلاء ذوي المكارم. وسافر إلى بلاد الهند بعد سفري إليها فأدركته منيته بمدينة ملتان قاعدة بلاد السند.

صفحة : 189

حكاية

لما مات هذا القاضي بملتان كتب صاحب الخبر بأمره إلى ملك الهند، وأنه قدم برسم بابه، فاخترم دون ذلك فلما بلغ الخبر إلى الملك، أمر أن يبعث إلى أولاده عدد من آلاف الدنانير، لا أذكره الآن، وأمر أن يعطى لأصحابه ما كان يعطى لهم لو وصلوا معه وهو بقيد الحياة. ولملك الهند في كل بلد من بلاده، صاحب الخبر يكتب له بكل ما يجري في ذلك البلد من الأمور، وممن يرد عليه من الواردين. وإذا أتى الوارد كتبوا من أي البلاد ورد، وكتبوا اسمه ونعته وثيابه وأصحابه وخيله وخدامه وهيئته من الجلوس والمأكل، وجميع شؤونه وتصرفاته وما يظهر منه من فضيلة أو ضدها، فلا يصل الوارد إلى الملك إلا وهو عارف بجميع حاله، فتكون كرامته على مقدار ما يستحقه. وسافرنا من سمرقند فاجتزنا ببلدة نسف. وإليها ينسب أبو حفص عمر النسفي، مؤلف كتاب المنظومة في المسائل الخلافية بين الفقهاء الأربعة رضي الله عنهم، ثم وصلنا إلى مدينة ترمذ التي ينسب إليها الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي مؤلف الجامع الكبير في السنن. وهي مدينة كبيرة حسنة العمارة والأسواق تخترقها الأنهار. وبها البساتين الكثيرة والعنب، والسفرجل بها متناهي الطيب، واللحوم بها كثيرة، وكذلك الألبان. وأهلها يغسلون رؤوسهم في الحمام باللبن عوضا عن الطفل. ويكون عند كل صاحب حمام أوعية كبار مملوءة لبنا. فإذا دخل الرجل الحمام أخذ منها في إناء صغير فغسل رأسه، وهو يرطب الشعر ويصقله. وأهل الهند يجعلون في رؤوسهم زيت السمسم، ويسمونه الشيرج، ويغسلون الشعر بعده بالطفل، فينعم الجسم، ويصقل الشعر ويطيله. وبذلك طالت لحى أهل الهند ومن سكن معهم. وكانت مدينة ترمذ القديمة مبنية على شاطئ جيحون، فلما خربها تنكيز، بنيت هذه الحديثة على ميلين من النهر. وكان نزولنا بها بزاوية الشيخ الصالح عزيزان، من كبار المشايخ وكرمائهم، كثير المال والرباع والبساتين، ينفق على الوارد والصادر من ماله. واجتمعت قبل وصولي إلى هذه المدينة بصاحبها علاء الملك خداوند زاده. وكتب لي إليها بالضيافة، فكانت تحمل إلينا أيام مقامنا بها في كل يوم. ولقيت أيضا قاضيها قوام الدين، وهو متوجه لرؤية السلطان طرمشيرين، وطالب للإذن له في السفر إلى بلاد الهند، وسيأتي ذكر لقائي له بعد ذلك. ولأخويه ضياءالدين وبرهان الدين بملتان، وسفرنا جميعا إلى الهند، وذكر أخويه الآخرين عمادالدين وسيف الدين، ولقائي لهما بحضرة ملك الهند، وذكر ولديه وقدومهما على ملك الهند بعد قتل أبيهما، وتزويجهما ابنتي الوزير خواجه جهان، وما جرى في ذلك كله إن شاء الله تعالى. ثم جزنا نهر جيحون إلى بلاد خراسان. وسرنا بعد انصرافنا من ترمذ وإجازة الوادي يوما ونصف يوم في صحراء ورمال لا عمارة بها إلى مدينة بلخ، وهي خاوية على عروشها غير عامرة. ومن رآها ظنها عامرة لإتقان بنائها. وكانت ضخمة فسيحة ومساجدها ومدارسها باقية الرسوم حتى الآن، ونقوش مبانيها مدخلة بأصبغة اللازورد. والناس ينسبون اللازورد إلى خراسان، وإنما يجلب من جبال بدخشان التي ينسب إليها الياقوت البدخشي، والعامة يقولون: البلخش، وسأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. وخرب هذه المدينة تنكيز اللعين، وهدم من مسجدها نحو الثلث، بسبب كنز ذكر له أنه تحت سارية من سواريه. وهو من أحسن مساجد الدنيا وأفسحها. ومسجد رباط الفتح بالمغرب يشبهه في عظم سواريه. ومسجد بلخ أجمل منه في سوى ذلك.

صفحة : 190

حكاية

ذكر لي بعض أهل التاريخ، أن مسجد بلخ بنته امرأة كان زوجها أميرا ببلخ لبني العباس، يسمى داود بن علي. فاتفق أن الخليفة غضب مرة على أهل بلخ لحادث أحدثوه. فبعث إليهم من يغرمهم مغرما فادحا. فلما بلغ إلى بلخ أتى نساؤها وصبيانها إلى تلك المرأة التي بنت المسجد، وهي زوج أميرهم، وشكوا حالهم وما لحقهم من هذا المغرم. فبعثت إلى الأمير الذي قدم برسم تغريمهم بثوب لها مرصع بالجوهر قيمته أكثر مما أمر بتغريمه، فقالت له: اذهب بهذا الثوب إلى الخليفة، فقد أعطيته صدقة عن أهل بلخ لضعف حالهم. فذهب به إلى الخليفة وألقى الثوب بين يديه وقص عليه القصة، فخجل الخليفة وقال: أتكون المراة أكرم منا ? وأمره برفع المغرم عن أهل بلخ، وبالعودة إليها ليرد للمرأة ثوبها، وأسقط عن أهل بلخ خراج سنة. فعاد الأمير إلى بلخ، وأتى منزل المرأة وقص عليها مقالة الخليفة ورد عليها الثوب. فقالت له: أوقع بصر الخليفة على هذا الثوب? قال: نعم. قالت: لا ألبس ثوبا وقع عليه بصر غير ذي محرم مني، وأمرت ببيعه. فبني منه المسجد والزاوية ورباط في مقابلته مبني بالكذان، وهو عامر حتى الآن. وفضل من ثمن الثوب مقدار ثلثه. فذكر أنها أمرت بدفنه تحت بعض سواري المسجد، ليكون هنالك متيسرا إن احتيج إليه. خرج فأخبر تنكيز بهذه الحكاية، فأمر بهدم سواري المسجد، فهدم منها نحو الثلث، ولم يجد شيئا، فترك الباقي على حاله. وبخارج بلخ قبر يذكر أنه قبر عكاشة بن محصن الأسدي صاحب رسول الله ﷺ تسليما، الذي يدخل الجنة بلا حساب. وعليه زاوية معظمة بها كان نزولنا، وبخارجها بركة ماء عجيبة، عليها شجرة جوز عظيمة. ينزل الواردون في الصيف تحت ظلالها. وشيخ هذه الزاوية يعرف بالحاج خرد، وهو الصغير من الفضلاء، وركب معنا وأرانا مزارات هذه المدينة. منها قبر حزوقيل النبي عليه السلام، وعليه قبة حسنة. وزرنا بها أيضا قبورا كثيرة من قبور الصالحين، لا أذكرها الآن. ووقفنا على دار إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه، وهي دار ضخمة مبنية بالصخر الأبيض الذي يشبه الكذان. وكان زرع الزاوية مقترنا بها، وقد سدت عليه فلم ندخلها، وهي بمقربة من المسجد الجامع. ثم سافرنا من مدينة بلخ، فسرنا في جبال قوةاستان قهستان سبعة أيام. وهي قرى كثيرة عامرة بها المياه الجارية والأشجار المورقة وأكثرها شجر التين، وبها زوايا كثيرة فيها الصالحون المنقطعون إلى الله تعالى. وبعد ذلك كان وصولنا إلى مدينة هراة، وهي أكبر المدن العامرة بخراسان. ومدن خراسان العظيمة أربع: اثنتان عامرتان وهما هراة ونيسابور، واثنتان خربتان وهما بلخ ومرو. ومدينة هراة كبيرة عظيمة كثيرة العمارة، ولأهلها صلاح وعفاف وديانة. وهم على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وبلدهم طاهر من الفساد.

ذكر سلطان هراة

وهو السلطان المعظم حسين ابن السلطان غياث الدين الغوري، صاحب الشجاعة المأثورة. والتأييد والشجاعة ظهر له من إنجاد الله تعالى وتأييده في موطنين اثنين ما يقضي منه العجب، أحدهما عند ملاقاة جيشه للسلطان خليل الذي بغى عليه، وكان منتهى أمره حصوله أسيرا في يديه، والموطن الثاني عند ملاقاته بنفسه لمسعود سلطان الرافضة. وكان منتهى أمره تبديده وفراره وذهاب ملكه. وولي السلطان حسين الملك بعد أخيه المعروف بالحافظ، وولي أخوه بعد أبيه غياث الدين.

صفحة : 191

حكاية الرافضة

كان بخراسان رجلان: أحدهما يسمى بمسعود والآخر يسمى بمحمد. وكان لهما خمسة من الأصحاب، وهم من الفتاك، ويعرفون بالعراق بالشطار، ويعرفون بخراسان بسرابداران سربداران، ويعرفون بالعراق بالصقور. فاتفق سبعتهم على الفساد وقطع الطرق وسلب الأموال، وشاع خبرهم، وسكنوا جبلا منيعا بمقربة من مدينة بيهق، وتسمى أيضا مدينة سيزار سيزوار. فكانوا يكمنون بالنهار. ويخرجون بالليل والعشي، فيضربون على القرى، وبقطعون الطرق، ويأخذون الأموال. وانثال عليهم أشباههم من أهل الشر والفساد، فكثر عددهم واشتدت شوكتهم وهابهم الناس، وضربوا على مدينة بيهق فملكوها، ثم ملكوا سواها من المدن، واكتسبوا الأموال وجندوا الجنود وركبوا الخيل، وتسمى مسعود بالسلطان. وصار العبيد يفرون عن مواليهم إليه. فكل عبد فر منهم يعطيه الفرس والمال. وإن ظهرت له شجاعة أمره على جماعة، فعظم جيشه واستفحل أمره وتمذهب جميعهم بمذهب الرفض، وطمحوا إلى استئصال أهل السنة بخراسان، وأن يجعلوها كلمة واحدة رافضية. وكان بمشهد طوس شيخ من الرافضة يسمى بحسن، وهو عندهم من الصلحاء، فوافقهم على ذلك، وسموه بالخليفة وأمرهم بالعدل فأظهروه. حتى كانت الدراهم والدنانير تسقط في معسكرهم فلا يلتقطها أحد حتى يأتي ربها فيأخذها. وغلبوا على نيسابور، وبعث إليهم السلطان طغيتمور بالعساكر فهزموه، ثم بعث إليهم نائبه أرغون شاه فهزموه وأسروه ومنوا عليه، ثم غزاهم طغيتمور بنفسه في خمسين ألفا من التتر فهزموه، وملكوا البلاد، وتغلبوا على سرخس والزاوه وطوس، وهي من أعظم بلاد خراسان. وجعلوا خليفتهم بمشهد علي بن موسى الرضا، وتغلبوا على مدينة الجام، ونزلوا بخارجها وهم قاصدون مدينة هراة، وبينها وبينهم مسيرة ست. فلما بلغ ذلك الملك حسينا جمع الأمراء والعساكر وأهل المدينة واستشارهم، هل يقيمون حتى يأتي القوم أو يمضوا إليهم فيناجزوهم. فوقع إجماعهم على الخروج إليهم، وهم قبيلة واحدة يسمون الغورية. ويقال: إنهم ينسبون على غور الشام، وإن أصلهم منه. فتجهزوا أجمعون، واجتمعوا من أطراف البلاد، وهم ساكنون بالقرى، وبصحراء مرغيس بدغيس، وهي مسيرة أربع، لا يزال عشبها أخضر. ترعى منه ماشيتهم وخيلهم. وأكثر شجرها الفستق، ومنها يحمل إلى أرض العراق. وعضدهم أهل مدينة سمنان، ونفروا جميعا إلى الرافضة، وهم مائة وعشرون ألفا ما بين رجاله وفرسان، يقودهم الملك حسين. واجتمعت الرافضة في مائة وخمسين ألفا من الفرسان. وكانت الملاقاة بصحراء بوشنج. وصبر الفريقان معا. ثم كانت الدائرة على الرافضة، وفر سلطانهم مسعود، وثبت خليفتهم حسن في عشرين ألفا حتى قتل، وقتل أكثرهم، وأسر منهم نحو أربعة آلاف. وذكر لي بعض من حضر هذه الوقعة أن ابتداء القتال كان في وقت الضحى، وكانت الهزيمة عند الزوال. ونزل الملك حسين بعد الظهر فصلى، وأتي بالطعام، فكان هو وكبراء أصحابه يأكلون، وسائرهم يضربون أعناق الأسرى. وعاد إلى حضرته بعد هذا الفتح العظيم، وقد نصر الله السنة على يديه، وأطفأ نار الفتنة. وكانت هذه الوقعة بعد خروجي من الهند عام ثمانية وأربعين. ونشأ بهراة رجل من الزهاد والصلحاء الفضلاء واسمه نظام الدين مولانا، وكان أهل هراة يحبونه، ويرجعون إلى قوله. وكان يعظهم ويذكرهم، وتوافقوا معه على تغيير المنكر، وتعاقد معهم على ذلك خطيب المدينة المعروف بملك ورنا، وهو ابن عم الملك حسين، ومتزوج بزوجة والده، وهي من أحسن الناس صورة وسيرة. والملك يخافه على نفسه، وسنذكر خبره. وكانوا متى علموا بمنكر، ولو كان عند الملك غيروه.

حكاية

ذكر لي انهم تعرفوا يوما أن بدار الملك حسين منكرا، فاجتمعوا لتغييره، وتحصن منهم بداخل داره. فاجتمعوا على الباب في ستة آلاف رجل. فخاف منهم. فاستحضر الفقيه وكبار البلد، وكان قد شرب الخمر فأقاموا عليه الحد بداخل قصره، وانصرفوا عنه.

صفحة : 192

حكاية هي سبب قتل الفقيه نظام الدين المذكور

كانت الأتراك المجاورون لمدينة هراة الساكنون بالصحراء، وملكهم غيتمور الذي مر ذكره. وهم نحو خمسين ألفا، يخافهم الملك حسين، ويهدي لهم الهدايا في كل سنة، ويداريهم. وذلك قبل هزيمته للرافضة. وأما بعد هزيمته للرافضة تغلب عليهم. ومن عادة هؤلاء الأتراك التردد إلى مدينة هراة، وربما شربوا بها الخمر، وأتاها بعضهم وهو سكران. فكان نظام الدين يحد من وجد منهم سكران. وهؤلاء الأتراك أهل نجدة وبأس، ولا يزالون يضربون على بلاد الهند، فيسبون ويقتلون، وربما سبوا بعض المسلمات اللاتي يكن بأرض الهند ما بين الكفار، فإذا خرجوا بهن إلى خراسان يطلق نظام الدين المسلمات من أيدي الترك. وعلامة النسوة المسلمات بأرض الهند ترك ثقب الأذن. والكافرات آذانهن مثقوبات. فاتفق مرة أن أميرا من أمراء الترك يسمى تمور ألطي سبى امرأة، وكلف بها شديدا، فذكرت أنها مسلمة، فانتزعها الفقيه من يده. فبلغ ذلك من التركي مبلغا عظيما، وركب في آلاف من أصحابه، وأغار على خيل هراة، وهي في مرعاها بصحراء مرغيس بدغيس، واحتملوها. فلم يتركوا لأهل هراة مايركبون ولا مايحلبون، وصعدوا بها إلى جبل هنالك لا يقدر عليهم فيه. ولم يجد السلطان ولا جنده خيلا يتبعونهم بها، فبعث إليهم رسولا يطلب منهم رد ما أخذوه من الماشية والخيل، ويذكرهم العهد الذي بينهم. فأجابوا بأنهم لا يردون ذلك حتى يمكنوا من الفقيه نظام الدين. فقال السلطان: لا سبيل إلى هذا. وكان الشيخ أبو أحمد الجستي حفيد الشيخ مودود الجستي له بخراسان شأن عظيم، وقوله معتبر لديهم، فركب في جماعة خيل من أصحابه ومماليكه. فقال: أنا أحمل الفقيه نظام الدين معي إلى الترك ليرضوا بذلك ثم أرده. فكأن الناس مالوا إلى قوله. ورأى الفقيه نظام الدين اتفاقهم على ذلك. فركب مع الشيخ أبي أحمد ووصل إلى الترك. فقام إليه الأمير تمور ألطي وقال له: أنت أخذت امرأتي مني، وضربه بدبوسه فكسر دماغه، فخر ميتا. فسقط في أيدي الشيخ أبي أحمد، وانصرف من هنالك إلى بلده، ورد الترك ما كانوا أخذوه من الخيل والماشية. وبعد مدة قدم ذلك التركي الذي قتل الفقيه على مدينة هراة، فلقيه جماعة من أصحاب الفقيه، فتقدموا إليه كأنهم مسلمون عليه، وتحت ثيابهم السيوف فقتلوه. وفر أصحابه. ولما كان بعد هذا، بعث الملك حسين ابن عمه ملك ورنا الذي كان رفيق الفقيه نظام الدين في تغيير المنكر رسولا إلى ملك سجستان. فلما حصل بها بعث إليه أن يقيم هنالك ولا يعود إليه. فقصد بلاد الهند ولقيته وانا خارج منها بمدينة سيوستان من السند، وهو أحد الفضلاء. وفي طبعه حب الرياسة والصيد والبراز والخيل والمماليك والأصحاب واللباس الملوكي الفاخر، ومن كان على هذا الترتيب فإنه لا يصلح حاله بأرض الهند. فكان من أمره أن ملك الهند ولاه بلدا صغيرا. وقتله به بعض أهل هراة المقيمين بالهند بسبب جارية. وقيل: إن ملك الهند دس عليه من قتله بسعي الملك حسين في ذلك، ولأجله خدم الملك حسين ملك الهند بعد موت ملك ورنا المذكور، وهاداه ملك الهند، وأعطاه مدينة بكار من بلاد السند. ومجباها خمسون ألفا من دنانير الذهب في كل سنة. ولنعد إلى ما كان بسبيله فنقول سافرنا من هراة إلى مدينة الجام، وهي متوسطة حسنة، ذات بساتين وأشجار وعيون كثيرة وأنهار، وأكثرها التوت. والحرير بها كثير. وهي تنسب إلى الولي العابد الزاهد شهاب الدين أحمد الجامي، وسنذكر حكايته، وحفيده الشيخ أحمد المعروف بزاده الذي قتله ملك الهند. والمدينة الآن لأولاده، وهي محررة من قبل السلطان. ولهم بها نعمة وثروة. وذكر لي من اثق به أن السلطان أبا سعيد ملك العراق قدم خراسان مرة ونزل على هذه المدينة وبها زاوية الشيخ، فأضافه ضيافة عظيمة، وأعطى لكل خباء بمحلته رأس غنم، ولكل أربعة رجال رأس غنم، ولكل دابة بالمحلة من فرس وبغل وحمار علف ليلة، فلم يبق في المحلة حيوان إلا وصلته ضيافته.

صفحة : 193

حكاية الشيخ شهاب الدين

الذي تنسب إليه مدينة الجام

يذكر أنه كان صاحب راحة مكثرا من الشراب، وكان له من الندماء نحو ستين، وكانت لهم عادة أن يجتمعوا يوما في منزل كل واحد منهم، فتدور النوبة على أحدهم بعد شهرين، وبقوا على ذلك مدة. ثم إن النوبة وصلت يوما إلى الشيخ شهاب الدين، فعقد التوبة ليلة النوبة، وعزم على إصلاح حاله مع ربه، وقال في نفسه: إن قلت لأصحابي إني قد تبت قبل اجتماعهم عندي، ظنوا ذلك عجزا عن مؤونتهم. فأحضر ما كان يحضر مثله قبلا من مأكولات ومشرب، وجعل الخمر في الزقاق، وحضر أصحابه. فلما أرادوا الشرب فتحوا زقا، فذاقه أحدهم فوجده حلوا ثم فتح ثانيا فوجده كذلك ثم ثالثا فوجده كذلك. فكلموا الشيخ في ذلك، فخرج لهم عن حقيقة أمره وصدقهم سر فكره، وعرفهم بتوبته، وقال لهم: والله ماهذا إلا الشراب الذي كنتم تشربونه فيما تقدم. فتابوا جميعا إلى الله تعالى، وبنوا تلك الزاوية، وانقطعوا بها لعبادة الله تعالى. وظهر لهذا الشيخ كثير من الكرامات والمكاشفات، ثم سافرنا من الجام إلى مدينة طوس، وهي أكبر بلاد خراسان، وأعظمها بلد الإمام الشهير بأبي حامد الغزالي رضي الله عنه وبها قبره. ورحلنا منها إلى مدينة مشهد الرضا، وهو علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. وهي أيضا مدينة كبيرة ضخمة كثيرة الفواكه والمياه والأرجاء الطاحنة. وكان بها الطاهر محمد شاه، والطاهر عندهم بمعنى النقيب عند أهل مصر والشام والعراق، وأهل الهند والسند وتركستان يقول السيد الأجل. وكان أيضا بهذا المشهد القاضي الشريف جلال الدين، لقيته بأرض الهند والشريف علي وولداه أمير هندو ودولة شاه، وصحبوني من ترمذ إلى بلاد الهند. وكانوا من الفضلاء، والمشهد المكرم عليه قبة عظيمة في داخل زاوية، تجاورها مدرسة ومسجد. وجميعها مليح البناء مصنوع الحيطان بالقاشاني. وعلى القبر دكانة خشب ملبسة بصفائح الفضة، وعليه قناديل فضة معلقة، وعتبة باب القبة فضة. وعلى بابها ستر حرير مذهب. وهي مبسوطة بأنواع البسط. وإزاء هذا القبر قبر هارون الرشيد أمير المؤمنين رضي الله عنه، وعليه دكانة يضعون عليها الشمعدانات التي يعرفها أهل المغرب بالحسك والمنائر. وإذا دخل الرافضي للزيارة ضرب قبر الرشيد برجله، وسلم على الرضا. ثم سافرنا إلى مدينة سرخس، وإليها ينسب الشيخ الصالح لقمان السرخسي رضي الله عنه. ثم سافرنا منها إلى مدينة زاوة، وهي مدينة الشيخ الصالح قطب الدين حيدر، وإليه تنسب طائفة الحيدرية من الفقراء، وهم الذين يجعلون حلق الحديد في أيديهم وأعناقهم وآذانهم، ويجعلون أيضا في ذكورهم حتى لا يتأتى لهم النكاح. ثم رحلنا منها فوصلنا إلى مدينة نيسابور، وهي إحدى المدن الأربع التي هي قواعد خراسان. ويقال لها: دمشق الصغيرة، لكثرة فواكهها وبساتينها ومياهها وحسنها. وتخترقها أربعة من الأنهار.وأسواقها حسنة متسعة، ومسجدها بديع، وهو في وسط السوق، ويليه أربع من المدارس يجري بها الماء الغزير، وفيها من الطلبة خلق كثير، يقرأون القرآن والفقه. وهي من حسان مدارس تلك البلاد، ومدارس خراسان والعراقين ودمشق وبغداد ومصر. وإن بلغت الغاية من الإتقان والحسن، فكلها تقصر عن المدرسة التي عمرها مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله المجاهد في سبيل الله عالم الملوك واسطة عقد الخلفاء العادلين أبو عنان، وصل الله سعده ونصر جنده، وهي التي عند القصبة من حضرة فاس حرسها الله تعالى، فإنها لا نظير لها سعة وارتفاعا ونقش الجص بها لا قدرة لأهل المشرق عليه. ويصنع بنيسابور ثياب الحرير من النخ والكمخاء وغيرها. وتحمل منها إلى الهند. وفي هذه المدينة زاوية الشيخ الإمام العالم القطب العابد قطب الدين النيسابوري أحد الوعاظ العلماء الصالحين: نزلت عنده فأحسن القرى وأكرم، ورأيت له البراهين والكرامات العجيبة.

صفحة : 194

كرامة له: كنت قد اشتريت بنيسابور غلاما تركيا، فرآه معي فقال لي:هذا الغلام لا يصلح لك، فبعه. فقلت له: نعم، وبعت الغلام في غد ذلك اليوم، واشتراه بعض التجار. وودعت الشيخ وانصرفت. فلما حللت بمدينة بسطام كتب إلي بعض أصحابي من نيسابور، وذكر أن الغلام المذكور قتل بعض أولاد الأتراك وقتل به. وهذه كرامة واضحة لهذا الشيخ رضي الله عنه. وسافرت من نيسابور إلى مدينة بسطام التي ينسب إليها الشيخ العارف أبو يزيد البسطامي الشهير، رضي الله عنه. وبهذه المدينة قبره، ومعه في قبة واحدة أحد أولاد جعفر الصادق رضي الله عنه. وببسطام أيضا قبر الشيخ الصالح الولي أبي الحسن الخرقاني. وكان نزولي من هذه المدينة بزاوية الشيخ أبي يزيد البسطامي رضي الله عنه. ثم سافرت من هذه المدينة على طريق هندخير إلى قندوس وبغلان. وهي قرى فيها مشايخ وصالحون، وبها البساتين والأنهار. فنزلنا بقندوس على نهر ماء به زاوية لأحد شيوخ الفقراء من أهل مصر، يسمى بشير سياه، ومعنى ذلك الأسد الأسود، وأضافنا بها والي تلك الأرض وهي من أهل الموصل ببستان عظيم هنلك. وأقمنا بخارج هذه القرية نحو أربعين يوما لرعي الجمال والخيل، وبها مراع طيبة وأعشاب كثيرة، والأمن بها شامل بسبب شدة أحكام الأمير برنطية. وقد قدمنا أن أحكام الترك في من سرق فرسا أن يعطي معه تسعة مثله، فإن لم يجد ذلك أخذ فيها أولاده، فإن لم يكن له أولاد ذبح ذبح الشاة. والناس يتركون دوابهم مهملة دون راع، بعدو أن يسم كل واحد دوابه في أفخاذها. وكذلك فعلنا في هذه البلاد. واتفق أن تفقدنا خيلنا بعد عشر من نزولنا بها ففقدنا منها ثلاثة أفراس. ولما كان بعد نصف شهر جاءنا التتر بها إلى منزلنا، خوفا من أنفسهم من الأحكام. وكنا نربط في كل ليلة إزاء أخبيتنا فرسين، لما عسى أن يقع بالليل. ففقدنا الفرسين ذات ليلة، وسافرنا من هنالك. وبعد اثنتين وعشرين ليلة جاءوا بهما إلينا في أثناء طريقنا. وكان أيضا من أسباب إقامتنا خوف الثلج. فإن بأثناء الطريق جبلا يقال له هندو كوش، ومعناه قاتل الهنود. لأن العبيد والجواري الذين يؤتى بهم من بلاد الهند يموت هنالك الكثير منهم لشدة البرد وكثرة الثلج وهو مسيرة يوم كامل. وأقمنا حتى تمكنا من دخول الحر، وقطعنا ذلك الجبل من آخر الليل، وسلكنا به جميع نهارنا إلى الغروب. وكنا نضع اللبود بين أيدي الجمال تطأ عليها، لئلا تغرق في الثلج. ثم سافرنا إلى موضع يعرف بأندر. وكانت هنالك فيما تقدم مدينة عفي رسمها. ونزلنا بقرية عظيمة فيها زاوية لأحد الفضلاء ويسمى بمحمد المهروي، ونزلنا عنده وأكرمنا. وكان متى غسلنا أيدينا من الطعام يشرب الماء الذي غسلناها به لحسن اعتقاده وفضله. وسافر معنا إلى أن صعدنا جبل هندو كوش المذكور.

صفحة : 195

ووجدنا بهذا الجبل عين ماء حارة فغسلنا منها وجوهنا فتقشرت وتألمنا لذلك، ثم نزلنا بموضع يعرف ببنج هير، ومعنى بنج خمسة وهير هو الجبل، فمعناه خمسة جبال، وكانت هنالك مدينة حسنة كثيرة العمارة على نهر عظيم أزرق، كأنه بحر ينزل من جبال بدخشان. وبهذه الجبال يوجد الياقوت الذي يعرفه الناس بالبلخش، وخرب هذه البلاد تنكيز ملك التتر، فلم تعمر بعده. وبهذه المدينة مزار الشيخ سعيد المكي، وهو معظم عندهم، ووصلنا إلى جبل بشاي وضبطه بفتح الباء المعقودة والشين المعجم والف وياء ساكنة، وبه زاوية الشيخ الصالح أطا أولياء وأطا بفتح الهمزة، معناه بالتركية الاب وأولياء باللسان العربي، فمعناه أبو الأولياء، ويسمى أيضا سيصد صاله، وسيصد بسين مهمل مكسور وياء مد وصاد مهمل مفتوح ودال مهمل، ومعناه بالفارسية ثلاثمائة، وصاله بفتح الصاد المهمل واللام معناه عام. وهم يذكرون أن عمره ثلاثمائة وخمسون عاما. ولهم فيه اعتقاد حسن ويأتون لزيارته من البلاد والقرى. ويقصده السلاطين والخواتين. وأكرمنا وأضافنا، ونزلنا على نهر عند زاويته، ودخلنا إليه فسلمت عليه، وعانقني، وجسمه رطب لم أر ألين منه، ويظن رائيه أن عمره خمسون سنة. وذكر لي أنه في كل مائة سنة ينبت له الشعر، والأسنان، وأنه رأى أباهم الذي قبره بملتان من السند. وسألته عن رواية حديث فأخبرني بحكايات، وشككت في حاله، والله أعلم بصدقه. ثم سافرنا إلى برون وضبطها بفتح الباء المعقودة وسكون الراء وفتح الواو وآخرها نون، وفيها لقيت الأمير برنطية وضبط اسمها بضم الباء وضم الراء وسكون النون وفتح الطاء المهمل وياء آخر الحروف مسكن وهاء، وأحسن إلي وأكرمني، وكتب إلى نوابه بمدينة غزنة في إكرامي، وقد تقدم ذكره، وذكر ما أعطي من البسطة في الجسم، وكان عنده جماعة من المشايخ والفقراء أهل الزوايا. ثم سافرنا إلى قرية الجرخ وضبط اسمها بفتح الجيم المعقود وإسكان الراء وخاء معجم، وهي كبيرة، لها بساتين كثيرة، وفواكهها طيبة. قدمناها في أيام الصيف ووجدنا بها جماعة من الفقراء والطلبة، وصلينا بها الجمعة. وأضافنا أميرها محمد الجرخي، ولقيته بعد ذلك بالهند. ثم سافرنا إلى مدينة غزنة، وهي بلد السلطان المجاهد محمود بن سبكتكين الشهير الاسم، وكان من كبار السلاطين يلقب بيمين الدولة وكان كثير الغزو إلى بلاد الهند، وفتح بها المدائن والحصون. وقبره بهذه المدينة عليه زاوية وقد خرب معظم هذه البلدة. ولم يبق منها إلا يسير، وكانت كبيرة. وهي شديدة البرد، والساكنون بها يخرجون عنها أيام البرد إلى مدينة القندهار، وهي كبيرة مخصبة، ولم أدخلها، وبينهما مسيرة ثلاث. ونزلنا بخارج غزنة في قرية هنالك على نهر ماء تحت قلعتها، وأكرمنا أميرها مرذك أغا ومرذك بفتح الميم وسكون الراء وفتح الذال المعجم، ومعناه الصغير، وأغا بفتح الهمزة والغين المعجم ومعناه الكبير الأصل، ثم سافرنا إلى كابل، وكانت فيما سلف مدينة عظيمة، وبها الآن قرية يسكنها طائفة من الأعاجم يقال لهم الأفغان. ولهم جبال وشعاب وشوكة قوية وأكثرهم قطاع الطريق، وجبلهم الكبير يسمى كوه سليمان. يذكر أن نبي الله سليمان عليه السلام صعد ذلك الجبل، فنظر إلى أرض الهند وهي مظلمة فرجع ولم يدخلها، فسمي الجبل به. وفيه يسكن ملك الأفغان. وبكابل زاوية الشيخ إسماعيل الأفغاني تلميذ الشيخ عباس من كبار الأولياء. ومنها رحلنا إلى كرماش. وهي حصن بين جبلين تقطع به الأفغان. وكنا حين جوازنا عليه نقاتلهم وهم بسفح الجبل ونرميهم بالنشاب فيفرون. وكانت رفقتنا مخفة ومعهم نحو أربعة آلاف فرس، وكانت لي جمال انقطعت عن القافلة لأجلها، ومعي جماعة بعضهم من الأفغان، وطرحنا بعض الزاد، وتركنا أحمال الجمال التي أعيت بالطريق، وعادت إليها خيلنا بالغد فاحتملتها، ووصلنا إلى القافلة بعد العشاء الآخرة، فبتنا بمنزل ششنغار، وهي آخر العمارة مما يلي بلاد الترك. ومن هنا دخلنا البرية الكبرى، وهي مسيرة خمس عشرة، لا تدخل إلا في فصل واحد وهو بعد نزول المطر بأرض السند والهند، وذلك في أوائل شهر يوليه. وتهب في هذه البرية ريح السموم القاتلة التي تعفن الجسوم. حتى أن الرجل إذا مات تتفسخ أعضاؤه. وقد ذكرنا أن هذه الريح تهب أيضا في البرية بين هرمز وشيراز. وكانت تقدمت

صفحة : 196

أمامنا رفقة كبيرة فيها خداوند زاده قاضي ترمذ، فمات لهم جمال وخيل كثيرة. ووصلت رفقتنا سالمة بحمد الله تعالى إلى بنج آب وهو ماء السند، وبنج بفتح الباء الموحدة وسكون النون والجيم ومعناه خمسة وآب بهمزة مفتوحة ممدودة وباء موحدة ومعناه الماء، فمعنى ذلك الأودية الخمسة، وهي تصب في النهر الأعظم، وتسقي تلك النواحي، وسنذكرها إن شاء الله تعالى. وكان وصولنا لهذا النهر سلخ ذي الحجة. واستهل علينا تلك الليلة هلال المحرم من عام أربعة وثلاثين وسبعمائة. ومن هنالك كتب المخبرون بخبرنا إلى أرض الهند، وعرفوا ملكها بكيفية أحوالنا. وها هنا ينتهي بنا الكلام في هذا السفر. والحمد لله رب العالمين.ا رفقة كبيرة فيها خداوند زاده قاضي ترمذ، فمات لهم جمال وخيل كثيرة. ووصلت رفقتنا سالمة بحمد الله تعالى إلى بنج آب وهو ماء السند، وبنج بفتح الباء الموحدة وسكون النون والجيم ومعناه خمسة وآب بهمزة مفتوحة ممدودة وباء موحدة ومعناه الماء، فمعنى ذلك الأودية الخمسة، وهي تصب في النهر الأعظم، وتسقي تلك النواحي، وسنذكرها إن شاء الله تعالى. وكان وصولنا لهذا النهر سلخ ذي الحجة. واستهل علينا تلك الليلة هلال المحرم من عام أربعة وثلاثين وسبعمائة. ومن هنالك كتب المخبرون بخبرنا إلى أرض الهند، وعرفوا ملكها بكيفية أحوالنا. وها هنا ينتهي بنا الكلام في هذا السفر. والحمد لله رب العالمين.