► | الجزء الأول | الجزء الثاني☰ |
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
الحمد لله الذي منّ على عباده بإرسال رسله، وختمهم بسيدهم محمد صلى الله وعليهم أجمعين، فأرسله بالهدى ودين الحق، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
هذا كتاب تثبيت دلائل نبوة نبينا محمد رسول الله صلوات الله عليه وسلامه، والأدلة على معجزاته وظهور آياته، والرد على من أنكر ذلك.
البدء بما في القرآن من إكفار الرسول للأمم والبراءة منهم وهو وحيد ضعيف
باب
فنبدأ من ذلك بما في القرآن، وبما يجرى مجراه مما يعلمه من سمع أخباره، كالعلم بالقرآن، فقد علم كلّ من أخباره ﷺ أنه ظهر بمكة، فأكفر اليهود وبرئ منهم، والنصارى والروم وبرئ منهم، والفرس والمجوس وبرئ منهم، والهند وبرئ منهم، وقومه من قريش والعرب وبرئ منهم، وعاب آلهتهم، وأكفر أسلافهم، وضلل أديانهم، وفرق آلافهم، وقال لهم: الله أرسلني واصطفاني من العالمين، وجعلني حجة على كل من بلغته دعوتي من الأولين والآخرين، وجعلني خاتم النبيين وآخر المرسلين، وإن ديني يظهر على الأديان كلها، وإن كلمتي وكلمة أتباعي تعلو، وإنهم هم الغالبون القاهارون المالكون.
وهو إذ ذاك فقير وحيد، أجير معيل، قد أغضبهم وغاظهم بهذه الدعوة، وألبسهم الذل مع وحدته، وبالغ في إسخاطهم، فنهوه وزجروه، بعد أن عاتبوه وعذلوه؛ ثم توعدوه بالاستئصال والبوار، بعد أن رغبوه. فغلبهم على أمره، وقال: إني قد قلت لربي حين أرسلني: إني إن قلت هذا لقريش رضخوا رأسي، فقال لي: قل، وبلغهم، فسيغضبهم ذلك، وسيبعثون مكروههم عليك، وسيتحزبون ويجلبون في عداوتك، ويجمعون العساكر لحربك، فأعصمك منهم، وأبعث جنودا لك منهم ومن غيرهم، فتكون العقبى لك، فقال هذا وما هو أشد منه.
يعلم ذلك كل من سمع أخباره ممن صدقه أو كذّبه، وهو لا يعتصم بمخلوق، ولا يصوب ملكا من ملوك عصره، ولا يلوذ بأحد من البشر.
بل قد رماهم كلهم عن قوس واحدة بالعداوة، وأسخطهم أجمعين، وبعثهم بهذا الصنيع على عداوته. ثم ما رضي أن يجعل ذلك قولا ثم صفحا، بل خلده ودوّنه، وجعله كتابا يقرأ، وقرآنا يتلى، يسمعه عدوه وقال: ربي قال لي، وربي وربكم أوحى به إليّ، فقال: {وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ} وقال: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
فإنهم زادوا غيظا عليه، وصاروا هم واليهود والنصارى والفرس والمجوس يدا واحدة في عداوته، وطلب نفسه، والحرص على قتله، وهم أشد الناس حقدا وأنفة وجبرية وطلبا بطائله، لا يقارّون من عاب خيولهم وجمالهم فكيف بمن عاب آلهتهم وآباءهم وعقولهم وضلل أديانهم، فعصمه الله منهم وهو رجل فريد بينهم، وهو في مثوبة الموت، وخندق الخوف، وذل اليتم، ووحشة الوحدة، لا يعتصم منهم بمخلوق، فصرفهم الله عنه وهذه حاله، فلو لم يكن من آياته ودلائل نبوته إلا هذا لكفى وأغنى وزاد على الكفاية، لأنه إخبار بغيوب كثيرة، لأنه قال لجميع قريش ولجميع العرب ولجميع اليهود ولجميع النصارى ولكل واحد منهم: لا تقتلونني، مع ما قد جاءهم به مما قد غاظهم وأغضبهم، وهو في هذا القول كالباعث لهم على نفسه، وكالحامل لهم على مكروهه، وهو يذكرهم بذلك، فسلم منهم مع هذه الأحوال، فهذا باب كاف شاف.
سلامته ﷺ مع حرصهم على إيذائه
باب آخر
وهذا مقام لا يقومه عاقل إلا أن يكون على غاية الثقة بالله عزّ وجل والسكون إلى وعد الله لأنه لو لم يكن كذلك لم تلبث أن تغضب أمم العرب والعجم لأديانهم، ويأنفوا لأنفسهم وآلهتهم، فيستأصلونه ويصطلمونه ويقتلونه ويمحون أثره. فلما سلم مع الحرص على قتله، وآلت الأمور إلى ما قال، علمت وتيقنت أنه من قبل الله، لأن مثله في هذا مثل من قال إني أخوض هذه النار المضرمة فلا تحرقني، أو كمن قال: أتردّى من شاهق على الأسنّة وأنا عريان فلا تنفذ فيّ، أو كمن قال: أدخل من هذه السباع الضارية الجائعة التي قد أغضبتها وقتلت أولادها وهي حريصة على افتراسي ومحتاجة إلى قتلي والراحة مني فأسلم منها ولا تقتلني، فهذا باب شاف.
وعده وهو في وحدته أنه سيكون في جماعات كثيرة
وباب آخر
وهو ما كان وعد وقال وهو في وحدته، إني سأصير في جماعات وعساكر، فكان كما قال وأخبر، لأنه حين دعاهم أنكروا قوله وأكفروه وتلقوه بالردّ والتكذيب، ثم ما زال والنفر بعد النفر يجيبونه، حتى صار في عساكر، فاعتقدوا بصدقه ونبوته، وصاررا له جندا مطيعين، وحزبا متفقين، ينفقون أموالهم ويسفكون دماءهم في طاعته، ويفرّون من آبائهم ويقتلون أبناءهم ويفارقون أوطانهم لأجله وامتثالا لأوامره، وأزكى الأعمال عندهم ما أرضاه بلا دنيا بسطها فيهم، ولا أموال دفعها إليهم، ولا لرئاسة كانت له عليهم، بل كان يتيما فقيرا وحيدا معيلا محتاجا.
ثم جاءهم مجيئا ما جاء نبي قبله في مثل حاله، فإن موسى ﷺ أتى قومه من بني إسرائيل، وهم أولاد الأنبياء قد اعتقدوا الربوبية وعرفوا الطريق إليها واعتقدوا النبوة وعرفوا الأنبياء قبل موسى، كآدم ونوح ثم إلى إبراهيم وإسحق ويعقوب والأسباط، وألفوا عبادة الله، واعتقدوا المعاد وعرفوه. ثم جاءهم في ذل وأسر وقهر في أيدي الجبابرة من القبط والفراعنة، يقتلون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، ويمنعونهم الصنائع الشريفة والاحتراف، ويقصرونهم على ضرب اللبن وقطع الأحطاب والأعمال الشاقة المؤلمة، فجاءهم موسى بما يعتقدون من الربوبية والنبوة، ثم أخرجهم من الذلّ إلى العزّ، ومن الشقاء إلى الرفاهية والدعة، ومن الفقر إلى الغنى. ثم جاءهم من بعد موسى من الأنبياء بما جاءهم به موسى، إلى أن انتهت النبوة إلى المسيح عيسى بن مريم ﷺ، فأتى بني إسرائيل بسنن موسى وشرائع التوراة. فقدم هو والأنبياء قبله على أمر ممهد مألوف معروف، وعلى قوم قد ألفوا وعرفوا.
وجاء محمد ﷺ قوما لا يعرفون الربوبية، ويعبدون الأصنام، وينكرون البعث والمعاد أشد الإنكار، لا يعرفون نبوة ولا طهارة ولا صلاة ولا صياما ولا زكاة، أشد الناس نخوة وجبرية وأنفة، قساة جفاة، معاشهم من شن الغارات، يسفكون دماءهم ويئدون ذريتهم فرارا من العار.
ودعاهم ﷺ إلى الربوبية، وإلى الإقرار بالنبوة والبعث والقيامة، وأخذهم بالصدق والوفاء وأداء الأمانة والخضوع للحق، وبالطهارة والصلاة والصيام والاعتكاف والزكاة، وصلات الأرحام، وقطع السارق، وجلد القاذف والزاني وشارب الخمر، ومساواة الموالي والفقراء والأعاجم والضعفاء في الدماء، وأخذهم بالبراءة من آلهتهم التي يعبدونها من دون الله ومن
آبائهم ومن أديانهم، وبالإقرار بضلالهم، والتدين بالبراءة منهم، وببذل دمائهم وأموالهم في طاعته، وبمجاهدة الأمم ومعاداة الجبابرة والملوك في طاعته؛ فأخذهم بكل شدة، وأخرجهم من الراحة إلى الكدّ ومن المسالمة إلى العداوة، وألزمهم ما لم يكونوا ألفوا ولا عاهدوا، وألزمهم الكلف والمؤن، فأجابوه بهذه الشرائط، فكان مجيئه على الوجوه التي قدمنا ذكرها من آياته ودلائل نبوته صلى الله عليه، ولم نجعل طاعة أصحابه له وتصديق القوم له ومصيره في عساكر وجماعات من دلائل نبوته إلا لأنه أخبر قبل ذلك أن هذا سيكون فكان كما أخبر وكما قال على تلك الوجوه التي شرحناها وبيّناها. لأنه دعاهم إلى أمور وشرائط ظاهر التدبير وموجب الرأي واقتضاء الحزم ألا يجيبوه ولا يتبعوه إلا أن يكون من قبل الله وواثقا بوعد الله، فإن سبيله في ذلك سبيل من قال: هذه النملة الضعيفة تهزم هذه العساكر المعدة، أو هذه الزجاجة الرقيقة ترض هذه الجبال الصلبة الشديدة، لأنه قد كان في الضعف والوحدة على ما قد علمه الناس، ثم دعاهم إلى ما يكرهون، وأخذهم بكل شدة، وفرض عليهم الأمور الغليظة الصعبة على ما تقدم من شرح ذلك، فعلمت وتيقنت أنه نور الله ومن قبل الله.
فإن قيل: أوليس قد أباحهم الغنائم، فما تنكرون أن تكون إجابتهم له لهذه العلة؟ قيل له: هذا لا يسأل عنه من يعقل ولا من يفكر، لأن القوم قد اعتقدوا صدقه ونبوته فكانت إجابتهم له لهذا وعلى هذا القربى إلى الله عن رضى بذلك، فمن ادعى غير هذا فقد أنكر المعلوم، أو يكون لم يسمع الأخبار. فهم إنما أجابوه على أن ينفقوا أموالهم ويسفكوا دماءهم ويقتلوا آباءهم وأبناءهم في طاعته ولأجله، فكيف يسوغ لعاقل فكّر وتدبّر أن يقول إنما أجابوه طلبا للدنيا ورغبة في الراحة والدعة والأمر بالضد من ذلك. وبعد فإن لم يكن تبعوه إلا للغارة وللغنائم لكانوا يقولون له: حاجتنا اليك في الغارة والغنائم ونحن أعلم بها منك، وهي صناعتنا نحن وعادتنا، وما الذي يدعونا إلى اتباعك وما معك وما تبعك إلا أن تبعثنا على الغارة والغنائم؟ أمن أجل سعة أموالك وكثرة كنوزك ومروج خيولك واصطبلات دولك أم لخزائن سلاحك؟ ومن أخذنا بأن نكفر آباءنا ونشهد بضلالهم ونسخف أجلاءهم، ونسوء اختيارهم، ونعادي الأمم وجبابرة الملوك، ونسفك دماءنا في طاعتك، ونقتل كل من عاداك وخالفك وإن كانوا آباءنا وأبناءنا أو إخواننا، ونفارق أوطاننا وأزواجنا، ونهجر اللذات من شرب الخمور ولبس الحرير وشفاء الغيظ بقتل من سبّنا أو عاب آباءنا كعاداتنا في ذلك، ثم لا نحصل إلا على شيء إذا غنمناه بقوتنا وغلبنا عليه بأسيافنا بعد المخاطرة بدمائنا أن نسلمه إليك فتعطينا بعضه، هذا لا يختاره بله النساء فكيف بالمهاجرين والأنصار الذين أجابوه فصار بهم في عز ومنعة، وصبروا على تلك الشرائط التي شرطها.
وبعد فإن لم يكن نبيّا فهم لا يدرون هل يصل إلى غنيمة، ولعله لا يتم له شيء مما يعدّ، فما كانوا ليتبعوه لما يظنه الخصم. ولولا أن هذا قد كان في أهل الذمة وطبقات الزنادقة، وتعدوا إلى قوم زعموا أنهم من المسلمين لما ذكرناه، ولكنه شيء يستزلون به المسلمين الذين لا ينظرون فيما هذا سبيله، ويغترون بالظاهر.
هؤلاء الذين ادعوا أنهم من المسلمين، وأنهم من خاصة الخاصة، وممن قد عرف ما لا يعرفه غيره، وأن للأمور غوامض وبواطن قد عرفها، فيعتقد من يسمعه في المهاجرين والأنصار الغافلة والبله وقلة العقل، ومن تدبّر يعلم أنهم أوفر عالم الله عقولا، وأحسنهم تحصيلا، وأسرعهم استدراكا لخفيات الأمور وغوامضها، لا فرق بين من رمى المهاجرين والأنصار بذلك، وبين من رمى رسول الله ﷺ بذلك. فإن آثار عقول المهاجرين والأنصار معروفة في أفعالهم، وتدبيرهم الدنيا، وسياسة أهلها، وترتيب خواصهم وعوامهم، وأخذها من أيدي دهاة الملوك وعقلاء الناس، وتفصيل ذلك يطول.
فإن قيل: ومن سلم لكم عقل صاحبكم حتى تقولوا إن من دفعنا عن عقول المهاجرين والأنصار كمن دفعنا عن عقل رسول الله ﷺ؟ قيل له: إن أعداءه لا يدفعونه عن ذلك، فإنهم قالوا: ما جمع المهاجرين والأنصار وهو فقير وحيد أجير معيل وقد دعاهم إلى ما قدمنا وعلى الشرائط التي ذكرنا إلا بعقل وافر، وحلم واسع، وبلطف في التدبير، وحسن تأتّ وعلم بالعواقب، وسعة في الفطن. وهذا قول عدوّه فيه.
فأما وليّه فيقول: هذا لا يبلغه عاقل بعقله، ولو كان أتم الناس عقلا، وأوسعهم علما وحلما، وأكثرهم مالا، ولا يكون هذا على تلك الشرائط إلا بتدبير الله عز وجل، الذي يملك العقول، ويقلّب القلوب، وبوحي منه عز وجل.
فإن زعم الأعداء أن الذي تم له كان مع قلة العقل وبالعجز فيه والخبط فقد خرجوا من كل معقول، وتبرؤوا من كل تمييز ومحصول، وجعلوا أنفسهم ضحكة وأحلوا بها المكاره، وأعطوا خصمهم أكثر مما طلب، وشهدوا بأن الله قد نقض له العادات أكثر مما نقضها لأحد من الناس كلهم ممن ادعى النبوة والحكمة وغيرهم لأنهم زعموا أنه تم له ما تم بتلك الشرائط وعلى تلك بعقل ضعيف وخلق سخيف وبالذهاب عن الحزم والحلم ومع طول الغافلة، فإذا تبيّن عقله لمن تفكر من عدوّه، علم أن عقول المهاجرين والأنصار مثل عقله أو قريب منه، وكذا عقول قريش ثم العرب؛ فإن العقلاء والحكماء يقولون: الأمم العاقلة هم: العرب والفرس والهند والروم، ثم قالوا: أعقل الأربع العرب والفرس، ثم اختلفوا أيهما أعقل وأحكم وأفطن، الفرس أم العرب؟ وخاضوا في ذلك، وذكروا ما لكل أمة من وصية وحكمة، وتدبير وسياسة، وهذا ما لا يدفعه العاقل المتفكر المتدبر.
فإذا كان عقل رسول الله ﷺ قد عرفه عدوه ووليّه، فمن هذا عقله لا يأتي تلك الأمم ويستقبلها بتلك المكاره التي فصلنا وحاله في الوحدة ما ذكرنا ثم يقول: لا تقتلونني مع حرصهم على قتله، ويقول: ستصيرون أنصاري مع شدة ما دعوتكم إليه، وهو غير واثق بما قال، ولا ساكن إلى ما أخبر، ثم لا يرضى، أو يجعل ذلك كتابا يقرأ، وقرآنا يتلى، ويجعله في يد عدوه فيقول: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}. يريد بالآفاق: ظهور الإسلام عليها، وبلوغ دعوته إليها، لأنه قد كان وعد بذلك وهو بمكة، وحين ادّعى النبوة، فكانوا يقولون: أيطمع محمد أن يظهر على الآفاق؟ لا، ولا على مكة، ولا على دار من دور مكة؛ {وفي أنفسهم} يريد: في إسلام من يسلم منهم بعد الردّ والتكذيب ومن يقيم على تكذيبه ويموت على شركه على ما لعلّه أن يرد تفصيله عليك.
وفي هذا المعنى قوله عز وجل: {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ، سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} لأنه ﷺ كان إذا ذكر ظهور دينه، وغلبة أصحابه، وقتلهم لأعدائه، استبعدوا هذا بل أحالوه، وقطعوا الشهادة بأن هذا لا يكون أبدا، فيقول في جواب ذلك: {خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون}.
وفي هذا المعنى قوله عز وجل: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْمًا لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ} يعني هؤلاء: مثل أبي جهل، وأبي لهب، وعقبة بن أبي معيط، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل وأشباههم وأمثالهم من أعداء رسول الله ﷺ. فعزّى الله نبيه وبشّره بقوم يطيعونه ويتبعونه، فيسّر له المهاجرين والأنصار كما وعده.
وقد أذكره بإنجاز هذا الوعد ووقوع الوفاء به، فقال عز وجل: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} لأن اجتماع المهاجرين والأنصار له، واعتقادهم نبوته، وإخلاصهم في طاعته على تلك الشرائط التي تقدم ذكرها، وعلى الوجوه التي قرر دعوته عليها لا يكون ولا يتم باتفاق جميع ما في الأرض، ولا يكون ذلك إلا بتدبير الله وصنعه، وهو من آياته التي نقض العادات بها.
ومثله قوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا. وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وهم قد كانوا عقلاء قد عرفوا هذا، ولا يجوز في العقل أن يقول رئيس قوم لأتباعه: قد كنتم أعداء يعادي بعضكم بعضا ثم صرتم إخوانا يخلص بعضكم لبعض المودة وبي هداكم الله وجمعكم وهو يعلم أنهم يعلمون أنه قد كذبهم؛ هذا في رئيس لا يدعي النبوة فكيف بمن يدعي الصدق والنبوة؟ وهذا قول قد سمعه عدو النبي ﷺ من اليهود والنصارى وقريش والعرب، وأخرسهم صدقه، وبهر عقولهم تمامه والوفاء به، لأنهم اجتمعوا له بتلك الشرائط التي قد تقدمت، وهو بخلاف اجتماع الاتباع لخطّاب الملك وطلاب الدنيا.
فإن قيل: أفليس عليّ بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله ﷺ، وابنه محمد وبنو محمد، كإبراهيم الإمام وإخوته، كأبي العباس، وأبي جعفر، وغيرهما، قد كانوا مقهورين ومغلوبين ببني أمية، فدعوا إلى أنفسهم بخراسان فأجيبوا، وصاروا في عساكر وجماعات، فغلبوا بني أمية على الملك، وقتلوهم وأخذوا كل ما في أيديهم إلا بلاد الاندلس من أرض المغرب، فلم لا يكون سبيل نبيكم وغلبته هذه السبيل؟ وإلا فقد لزمكم أن تقولوا بنبوة بني العباس كما قلتم بنبوة صاحبكم.
قيل له: قد فرغنا من هذا مرة وتبيّنا الجواب فيه، وهو أنا لم نقل بنبوة محمد ﷺ لأنه صارت له رئاسة وصار متبوعا وصارت له عساكر، ولكن لأنه أخبر بالأمور قبل كونها على غير مجرى العادة، بل على ما هو نقض للعادات، لأنه أتى الناس وهو وحيد فقير أجير، فأغضبهم وغاظهم وجادلهم وعادوه، وأخبر أنهم سيغلبون وأنه يغلبهم ويقهرهم، وقالوا: بل نحن نغلبك وندبرك، وكان موجب التدبير ومقتضى الحزم أن تكون الغلبة لهم لا له، إلا أن يكون من قبل الله ورسولا لله، لأنهم واليهود والنصارى والفرس والمجوس يد واحدة في عداوته والقصد
لقتله وإطفاء نوره ولمنع اتباعه، والرجال والكراع والسلاح مع عدوه لا معه، فآلت الأمور إلى ما قاله، وكما أخبر، وعلى ما فسر.
ولم تكن هذه سبيل بني العباس، فإنهم ما ادعوا نبوة ولا رسالة، ولا أتوا مثل ما أتى من الإخبار بالغيوب.
وأخرى أن بني العباس قصدوا المسلمين من أهل خراسان الذين قد اعتقدوا نبوة محمد ﷺ، فتدينوا بإقامة شريعته وحد حدوده، بإنكار ما أنكره وبإكرام من أكرمه، وإجلال من أجله، وبإهانة من ارتكب الكبائر، فشكوا إليهم ما نزل ببني هاشم خاصة ثم بالمسلمين عامة من بني أمية. وبنو هاشم إذ ذاك كلمة واحدة، ما اختلفوا ولا تباينوا. فكان ولد العباس وولد علي وولد جعفر وولد عقيل وسائر بني هاشم متفقين، وإنما اختلفوا بعد مصير الدولة والملك إلى بني العباس أيام أبي جعفر المنصور، فجرى بينه وبين بني عمه من ولد الحسن ما هو معروف، فحينئذ اختلفوا، فذكر بنو هاشم لأهل خراسان ما صنعه بسر بن أرطاة بعبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وأنه قصده وهو عامل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهرب من يده، ووجد له ابنين طفلين فقتلهما وقتل جماعة من أصحابه. وأذكروهم بقتل حجر بن عدي وأصحابه، وبكربلاء ومن قتل من بني هاشم بها، وبقتل مسلم بن عقيل، وبالحرة، وبعسكر التوابين من أهل عين الوردة، وبما أنزلوه بالكعبة في قتال آل الزبير، ثم بمن قتلوه من القراء أو الفقهاء الذين ثاروا مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث في الإنكار على الحجاج وعبد الملك بن مروان، وبقتل زيد بن علي ويحيى بن زيد، وبصنيع الوليد بن يزيد بن عبد الملك وما أتى من شرب الخمور والمجاهرة بذلك.
فأثار بنو العباس ودعاتهم أهل خراسان بذلك، فقدم بنو العباس على أمر ممهد وجند مجند، وعلى قوم مسلمين قد صدّقوا رسول الله ﷺ، ورضوا بما رضي رسول الله، وغضبوا مما يغضب منه رسول الله ﷺ. فبنو العباس إلى رسول الله نحوا، وبأمته والمصدقين به استجاروا، فالذي تم لهم فبرسول الله ﷺ تم، وبظله تفيئوا، وبه تستروا، وهذه سبيل كل من ادعى بعده ﷺ الإمامة من بني هاشم ومن جميع قريش أو ادعى أنه من قريش.
وكلهم برسول الله ﷺ تشبثوا، وبه تستروا واستعاذوا ولاذوا، ولأجله تم لهم ما تم. وأنت تجد ذلك في واحد واحد منهم في مشارق الأرض ومغاربها، وتعرف الحق منهم من المبطل، والدعي من الصريح، فأين هذا من دعوة رسول الله ﷺ وسبيلها ما قدمنا وشرحنا.
فإن قيل: أوليس مع ادعائه النبوة قد حمل السيف على من خالفه، وحارب بمن أطاعه من عصاه، فما تنكرون أن يكون الذي تم له من أوله إلى آخره إنما تم بالسيف وبالمكابرة، لا بالآيات والمعجزات؟
قيل له: ما أنكرنا أنه حمل السيف، وإنما كلامنا في الذين صاروا سيوفا له وعساكر وبهم استطال على عدوه، فإن هؤلاء قد أجابوه بلا دنيا ولا سيف كما قد قدّمنا وبينا، وبمصيرهم إلى طاعته صحت نبوته فظهرت دلائل رسالته، لأنه ما خلق قوما حملوا السلاح معه، وإنما أجابه المهاجرون والأنصار الذين هم من قريش وغيرهم من العرب وقد أتاهم بإكفارهم وإكفار آبائهم على ما شرحنا وبينا، وهو من الوحدة والفقر على ما ذكرنا، فمكث بمكة بعد ادعائه النبوة خمسة عشر سنة يدعو إلى دينه، فيجيبه النفر بعد النفر على خوف شديد، وقد تجردت قريش وغيرهم من أعدائه له ﷺ ولمن اتبعه وأطاعه، فيقصدونهم بالضرب والتعذيب الشديد، ويمنعونهم الأقوات، ويتعاهدون على أن لا يبايعوهم ولا يشاروهم ولا يناكحوهم، وقد كتبوا في ذلك الصحف، وقد قتلوا منهم قبل الهجرة رجالا ونساء، وكانوا يرصدون لرسول الله ﷺ ولدعاته إذا خرج إلى الموسم لدعاء الناس وإظهار ما معه وتلاوة القرآن، فيقولون للعرب: هذا منا وقد صبأ وهو ساحر كذاب، فلا تطيعوه ولا تسمعوا لما معه، فنحن أعلم به، وقد سفه أحلامنا، وضلل أدياننا، وأكفر آباءنا، وفرق آلافنا، وأفسد أحداثنا وعبيدنا ونساءنا.
ثم كان هو ﷺ يرجم ويضرب الضرب المبرح، ويداس ويطرح على رأسه الفرث والتراب، ويلقى من المكاره هو ومن اتبعه ما يطول شرحه. فلم يكن لأصحابه مع شرفهم وشرف أهلهم قرار، ولا أمكنهم المقام للشدائد التي تنالهم، حتى فروا بأديانهم في الأمصار والبلدان حتى عبروا البحار وصاروا إلى أرض الحبشة، فتعرف قريش أخبارهم والى أين توجهوا، فترسل في طلبهم وتغري بهم وتنفر عنهم وتنفق في ذلك الأموال. فأرسلوا إلى النجاشي ملك الحبشة وهو إذ ذاك نصرانيّ بمن ينفّره عن المسلمين الذين فرّوا بأديانهم إلى أرض الحبشة، وحملت إليه قريش هدايا ولاطفوه وقالوا له: إن هؤلاء قوم منا، وقد اتبعوا رجلا منا فأفسدهم، وهو عدونا وعدو النصارى، وهو يقول في المسيح: إنه عبد مخلوق، فسلموهم إلينا.
وكان هناك عثمان بن عفان ومعه امرأته رقية بنت رسول الله ﷺ، وجعفر بن أبي طالب ومعه أسماء ابنة عميس، وخالد بن سعيد بن أبي أحيمة، والزبير بن العوام، وعمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة، ونحو مائة من وجوه المهاجرين، وكانت لهم مع رسول قريش إلى النجاشي مجالس وخصومات طويلة، فصارت العقبى للمسلمين، وقامت حجتهم، وعرفها النجاشي ملك الحبشة فأسلم واستبصر.
وما زال رسول الله ﷺ يعرض نفسه على أهل المواسم إذا اجتمعت قبائل العرب، وخرج إلى الطائف يدعو إلى الله ويقول: أنا رسول الله فمن يجيرني حتى أبلغ رسالة ربي؟ وقريش تتبعه وتمنع من اتباعه. وقد عرض نفسه على القبائل، ومعه أبو بكر الصديق وعليّ بن أبي طالب، وعمه أبو لهب يقول لتلك القبائل: نحن أهله وأعلم به فلا تسمعوا منه ولا تقبلوا قوله، فتلقى تلك القبائل رسول الله بالجفاء، ويقولون له: قومك أعلم بك، ولو كان عندك خير لاتبعوك، فأمسك عنا، إلى أن انتهى إلى ربيعة والى ذهل بن شيبان، فكلمهم وتلا عليهم القرآن، فقالوا: إنا على هذا الماء من ذي قار، وقد أخذ علينا كسرى ألا نحدث حدثا، ولا نؤوي محدثا، وهذا الذي أتيت به ودعوت إليه تكرهه الملوك، فإن شئت أن نجيرك إلا من الملوك فعلنا، فقال ﷺ: ما أسأتم بالرد إذ أفصحتم بالصدق، إن هذا الدين لا يكون من أهله إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن أظهركم الله عليهم وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأفرشكم نساءهم أتطيعونه وتعبدونه حق عبادته؟ فتعجبوا من قوله ومن إقدامه على أن ملك كسرى يزول بدعوته ويصير ملكه لأصحابه، استبعادا لذلك واستعظاما لملك كسرى أن يزول بجبابرة الملوك الأقوياء الأغنياء، فكيف يزول بهذا الوحيد الفقير؟ ثم يقولون هذا عاقل، ولم يكن ليقول هذا ويعرّض نفسه للملوك إلا وهو على ثقة، ثم انصرف عنهم وما أجابوه.
وما زال يدعو ويعرض نفسه في المواسم إذا اجتمعت العرب، إلى أن لقيته الأنصار، فسمعت منه وأجابوه وأسلموا، وخرجوا إلى المدينة ودعوا إلى الإسلام، ثم عاد قوم آخرون في سنة أخرى وبايعوه وهو مقيم بمكة، ثم عادوا في سنة ثالثة مع آخرين فبايعوه ورجعوا إلى المدينة، وظهر الإسلام بها.
والأنصار رضي الله عنهم إنما هم قبيلتان عظيمتان من قبائل اليمن، ذو بأس وشدة وأموال، وذو شوكة شديدة وعدد وعدة، قد ترددوا إليه، وسمعوا دعوته واحتجاجه، فأجابوه على البراءة من أديانهم التي كانوا عليها، ومن آبائهم، وعلى أن يبذلوا أموالهم ودماءهم، وعلى معاداة ملوك العرب والعجم في طاعته وله ولأجله.
وكم قد أسلم وأجاب على هذه السبيل من قبائل العرب، كقبيلة أسلم، وكقبيلة غفار، وهما من قبائل خزاعة وكنانة، وكالذين أسلموا من عبد القيس وهم من فرسان ربيعة ورجالهم، ومن قبائل فزارة، ومن قبائل جهينة، على هذه السبيل. وكم أسلم من أهل اليمن من ملوكها من حمير وغيرهم، إلى من أسلم من ملوك عمان من ولد الجلندي بن كركر، وكم قد أسلم من العجم والأنباط بصنعاء الذين كانوا جنود كسرى، وأخرجهم مع سيف بن ذي يزن لينتصروا له من ملوك الحبشة الذين قتلوا أباه. ولعل قصتهم أن ترد عليك بأكثر من هذا الشرح.
فالذين أجابوه ﷺ وبهذه الشرائط وبلا حرب خلق كثير وأمم عظيمة هي مذكورة، يعرفها أهل العلم، ومن أراد أن يعرف ذلك حتى يصير في مثل حالهم قدر على ذلك ووجد السبيل إليه. فهؤلاء الذين أسلموا لله ومن خوف وتقربا إلى الله، وهم عساكره.
ولما نشأت بدعة الخارجية وهي أول بدعة نشأت في الإسلام، ثم بعدها وبعد دهر طويل نشأت بدعة الإرجاء، ثم بعدها بدهر طويل نشأت بدعة القدر، وبعد بدعة القدر بدهر طويل نشأت بدعة الرفض. فكان العلماء يقولون: لا تسبّوا أصحاب محمد ﷺ فإنهم أسلموا من خوف الله وأسلم الناس من خوف أسيافهم، وفاض الإسلام بالمدينة وفي هذه القبائل، وأقيمت فيها الصلاة، وأديت الزكاة، وأقيمت الجماعات والجمعة، وأقرئ القرآن، وصارت المدينة دار الهجرة؛ ورسول الله ﷺ مقيم بمكة محصور في الشعب يؤذى ويقصد بأنواع المكاره هو ومن اتبعه، إلى أن هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق الهجرة المعروفة.
فهؤلاء الذين أجابوا بلا حرب، وقبل الحرب احتججنا، وهو موضع دلالتنا في هذه الآية التي أخبر وهو في تلك الحال أنكم ستجيبونني، وإن كانت لنا في الحروب والمحاربين دلائل أخرى لعلنا نذكرها لك في كتابك هذا إن شاء الله.
فإن قيل: أوليس قد كان يدافع عنه عمه أبو طالب وإن كان على غير دينه، ويشفع إلى قريش فيه، ويعاتبهم في بابه، ويذكرهم بصدقه وأمانته وقد كان ﷺ معروفا فيهم قبل الرسالة بمحمد الأمين، ويسألهم الكف عنه وعن أذيته. وقد نصره أبو بكر الصديق وصدّقه وكاشف في بابه، وأنفق ماله في نوائب الإسلام وفي عتق المعذبين في الله واتبعه من أهل مكة جماعة. وأسلم عمر قبل الهجرة وكاشف، وقال: لا نعبد الله سرا، فكيف ادعيتم له الوحدة وعليه الغلبة وهو بمكة؟
قيل له: قد علمنا أنه حين دعا كان وحده والناس كلهم على خلافه، وليس في إجابة هؤلاء ومدافعة أبي طالب طعن فيما استدللنا، بل هو من الدلائل على ما قال صلى الله عليه قبل أن يجاب إنه يستجاب وينصر، ثم مع نصرة هؤلاء وإجابتهم له ﷺ ومدافعة أبي طالب، ما خرجوا ولا هو خرج من أن يكون ويكونوا بمكة مقهورين مغلوبين، حتى فروا من عدوهم بأديانهم.
فإن قيل: فإذا كان الله قد وعد هؤلاء الأنبياء بزعمك بالنصر والظهور فلم يفرّون من أعدائهم؟ فقد فرّ موسى من فرعون ببني إسرائيل ليلا وخفية ومنع من إبقاد النيران لئلا يراها فرعون وجنوده فيستدلوا بها عليهم ومعه الآيات والمعجزات، وفرّ عيسى من مكان إلى مكان بزعمكم وزعم النصارى، فإنها تقول في أخبارها وأناجيلها إن يوسف النجار فرّ بعيسى وأمه إلى مصر من بيت المقدس خوفا من هيريدس ملك بني إسرائيل، فأقاموا بها اثني عشر سنة ومعه بزعمكم وزعم النصارى الآيات والمعجزات، وفرّ صاحبكم من قريش وأقام بالغار ومعه أبو بكر ثلاثة أيام ومعه كما زعمتم الآيات والمعجزات.
قلنا: ليس في فرارهم طعن في أعلامهم، وما قالوا لا يفرّ ولا يتوقى فيكون في فرارهم تكذيب، فإن كل شيء وعدوا به وقالوه قبل أن يكون قد كان وتم على ما قالوه وشرطوه قبل أن يكون، وليس في فرارهم أيضا مقاربة لعدوهم ولا مداهنة، بل إنما احتاجوا إلى الفرار لترك المداهنة والمقاربة، ولشدة المكاشفة لعدوهم، والمبالغة في إسخاطه وإرغامه. ولو قاربوا العدوّ واتقوه لما احتاجوا إلى الفرار.
فاحفظ هذا فإنك محتاج إليه، فإن قوما زعموا أنهم اتباع الأنبياء من المسلمين، أجازوا على أنبياء الله وعلى من هو حجة الله على خلقه المداهنة والمقاربة للمشركين ولأعداء الدين، وأن الأنبياء يمدحون المشركين ويزكون أعداء الدين ويظهارون ذلك، ويذمون المؤمنين ويتبرؤون من الأنبياء والمرسلين خوفا من المشركين، ويزعمون أن حجتهم في ذلك فرار رسول الله ﷺ واستتاره في الغار ثلاثة أيام. وقد بيّنا أنه لا حجة لهم في ذلك، بل هو الحجة عليهم، وأن الذي أخرج الأنبياء إلى الفرار شدة المكاشفة وترك المقاربة. وقائل هذا لا يثق بأفعال الأنبياء وأقوالهم، ولا بتزكية من زكوه، ولا بلعن من لعنوه، لأنهم قد قالوا إنه قد يجوز أن يكون ظاهر الأنبياء بخلاف أسرارهم وضمائرهم، وأيضا فإن الأنبياء لا يجوز أن يكون ظاهرهم بخلاف باطنهم وإن خافوا وإن قتلوا، وهذا أصل كبير فاعرفه.
فإن قيل: ادعيتم أن أعداء نبيكم من قريش والعرب واليهود والنصارى حرضوا على قتله وهو بمكة، وهو في تلك الحال من الوحدة والذلة وضعف الاتباع، فمن أعطاكم هذا، ومن سلمه لكم؟
قيل له: إن من سمع أخباره وأخبار القوم معه يعلم ذلك علما لا يرتاب به، كما يعلم أنهم قد كذبوه وعادوه وأغضبهم ما أتاه وشرعه ودعا إليه، ولا فرق بين من قال: إنهم ما حرضوا على قتله، وبين من قال: ولا كذبوه ولا عابوه ولا برئوا منه، ولا أنكروا شيئا أتى، ولا خالفوه، وادعى أنه هو أيضا ما خالفهم، ولا عاب أديانهم وآلهتهم، ولا ادعى النبوة، ولا خالفهم في البعث والنشر.
وقد حرضوا أيضا على ذلك وهو بالمدينة، وأعداؤه فيها معه من العرب واليهود والنصارى وهم كثير ونزول بالمدينة وحولها في آطامهم وحصونهم محدقون بها كالإكليل، وقد غدروا به، وأرسلت قريش إليهم في ذلك، ودست غير واحد، وكان من عامر بن الطفيل وأزيد في الأحوال التي كان يكون فيها وحده فيصرفهم الله عنه بألوان الصرف، كما صرف أبا جهل وعقبة بن أبي معيط والذين كانوا بمكة، كما هو مذكور. وكم دسوا له السم في الطعام فصرفه الله عنه، وقد راموه منه في طول حياته، وقد كان معهم وهو بالمدينة في التبذل والتفرد والتطرح أكثر زمانه، على مثل حاله وهو بمكة. وإنما كان يكون في جماعة في أسفاره وفي حروبه، فأما بيوته وحجرات نسائه فمن جريد النخل، وقد علم أهل العقل والتحصيل الفتك بجبابرة الملوك في حصونهم وقصورهم وهم وراء الأبواب الحديد، وقد تحرزوا بصنائعهم المشاركين لهم في نعمهم بعبيدهم، كصنيع شيرويه بكسرى أبرويز، وقبله من ملوك فارس من كانت هذه سبيله. وكما جرى على المتوكل من المنتصر، ثم على ولده، إلى ما جرى من الفتك بمحمد بن المعتضد المسمى بالقاهر بالله، إلى المتقي، وإلى المستكفي، وإلى ما جرى بالأحساء على ذكيرة الأصفهاني من جنوده وأعوانه سنيّ نيف وخمسين وثلثمائة للهجرة في جوف داره وأحصن قصوره، وحوله وفي حجرته ومعه ممن له نوبة في حراسته وحفظه من الرجال المتسلحين أكثر من ألفين، فقتل وحده من بينهم ورفع رأسه. وليس في هؤلاء من أغضب الناس إغضاب رسول الله ﷺ، ولا من ادعى دعواه، ولا من أذكر عدوّه بعداوته وأيقظه وبعثه على قتله وخرج إليه بذات نفسه وما يريد أن يعمله مثل رسول الله ﷺ. فإنه أتاهم على الوجه الذي ذكرنا في الوحدة والفقر ورماهم بتلك العداوة، ثم قال: ولا تقتلوني، بل أنا أقتلكم وأسبيكم وأستبيح حصونكم، فكان كما قال.
فإن قيل: ومن سلم لكم أن المهاجرين والأنصار كانوا يعتقدون نبوته وصدقه، سيما وفي أهل ملتكم اليوم من طوائف الشيعة من يقول: إن أبا بكر وعمر وعثمان وتلك الجماعات والمهاجرين والأنصار ما آمنوا به قط ولا اعتقدوا صدقه ولا تعظيمه ولا إجلاله ولا توقيره، وما كانوا إلا زائرين عليه، معتقدين تكذيبه وافتعاله واحتياله، وإنما كان اتباعهم له هزءا به، واغتيالا له، وسخرية منه، وإرصادا لزلالته وإفساد أمره، ولإبطال تدبيره، ولمغالبته على الرئاسة، وأنهم ما أقاموا له وزنا قط. وإنما كان الذين يعتقدون ما ادعيتم فيه نفرا يسيرا، كانوا مغلوبين مقهورين بهذه الجماعات من المهاجرين والأنصار، وأنهم خرجوا من الدنيا على حال القهر والغلبة من هؤلاء المهاجرين والأنصار، ومعهم بذلك روايات وأقوال ونصوص يدعون أنها من صاحبكم، وتصنيفات قد ملأت الدنيا.
قيل له: إنا ما قلنا في أبي بكر وعمر وعثمان وتلك الجلة والوجوه من المهاجرين والأنصار إنهم قد اعتقدوا تبرئته وصدقه، لمجامعة من ادعيت من الشيعة لنا، وإنما قلنا ذلك بالتأمل لأحوالهم وبالاستنباط الذي قد ذكرنا لك. فلن يقدح ذلك في علومنا ولن يوحشنا خلاف من خالفنا كائنا من كان من خلق الله. وقد شرحنا كيف كانت دعوته وعلى أي شرط كان إجابة القوم له؛ وقد علمنا قبل العلم بنبوته وصدقه أنه ﷺ قد كان يحب أبا بكر وعمر وعثمان، وتلك الجماعة من المهاجرين والأنصار يحبونه، ويواليهم ويوالونه، وأنهم كانوا ثقاته وبطانته وأمناءه على نفسه ودينة وأهله، وأنه ﷺ كان أحب إليهم من أهلهم وآبائهم وأنفسهم؛ كما قد علمنا أن أبا جهل وأبا لهب والوليد بن المغيرة وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث بن كلدة والعاص بن وائل وابن العيطلة وأمية بن خلف وأبيّ بن خلف وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وأولئك الملأ من قريش، كانوا أعداءه، وكذلك الملأ من اليهود، وكبني قريظة، والنضير، وكبني القينقاع، وكخيبر، وتلك القبائل من ثقيف، وغيرها من العرب، كانوا أعداءه وكان عدوا لهم يبغضهم ويبغضونه، ويعتقدون كذبه وأنه مبطل، ولا فرق بين من ادعى في أبي بكر وعمر وعثمان وتلك الجماعات من المهاجرين والأنصار أنهم ما اعتقدوا نبوته، وبين من ادّعى فيمن ذكرنا من قريش والعرب واليهود والنصارى أنهم ما اعتقدوا بغضاءه ولا كذبه. ومن انتهى إلى هذا فقد بلغ الغاية في الجهل، ولا فرق بين ادّعى هذا على هؤلاء من المهاجرين والأنصار، ومن ادّعى أن الروم والفرس والهند الذين كانوا في زمانه وزمان نبوته ما اعتقدوا تكذيبه وإن كان قد ظهر منهم ما قد ظهر.
فإن قيل: فكيف صدت طوائف الشيع عن هذا؟
قيل له: هذا إنما يعرف بالتأمل والتدبر وإن كان يسيرا، فمن لم يتأمل ولم يتدبر ولم يستنبط يذهب ذلك عليه. ومما يزيدك علما بذلك، وأن باطن هذه الجماعة من المهاجرين والأنصار كظاهرهم، وسريرتهم كعلانيتهم، وأن رسول الله ﷺ كان أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، أنهم قد بقوا بعده وملكوا الأمر واستولوا عليه وامتدت أيديهم إلى ملوك الدنيا وممالكها، فجازوها وأنفقوها في إعزاز دينه وتأكيد شريعته وزهدوا في المباح المطلق، وحموا نفوسهم وأبناءهم منه، وأدخلوا الأمم من الفرس والروم والهند وغيرهم في دينه، وفرضوا عليهم تصديقه وإجلاله، ومن أبى القبول جعلوا دمه له، وأوطئوا أعداءه وشانئيه الذلّ والسيف في مشارق الأرض ومغاربها.
وقدم رحمك الله زهد رسول الله ﷺ، فقد كان أزهد الناس فيما تناحر الناس عليه وتطاعنوا فيه وتفانوا لأجله. فقد كان ﷺ ملك من أقصى اليمن إلى بحر عمان إلى أقصى الحجاز إلى عرار العراق، واستولى على جزيرة العرب وكانت مقسومة بين خمسة ملوك، لكل واحد منهم شأن عظيم. هاداه غير واحد من الملوك، وجبى ذلك كله فبذله، وحمى نفسه منه وأهله، وخيّر أزواجه على إرادة الله ورسوله والدار الآخرة، وعلى أن من أراد الحياة الدنيا وزينتها متعه وسرحه سراحا جميلا. وكان ﷺ مع هذا الملك العظيم أيبس الناس عيشا وأخشنهم لباسا.
واعتبر من ذلك ببرده الذي يلبسه خلفاؤنا من بعده وقيمته مقدار دانقين، وبقدحه وخاتمه، وجميع ما صار عند خاصة أهله وعامة أنصاره. ثم توفي ولم يترك عينا ولا دينارا ولا شيّد قصرا ولا غرس شجرا ولا شقّ لنفسه نهرا ولا استنبط لنفسه عينا. ورغب لأهله وأصحابه في مثل ذلك.
وملك بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه جميع ذلك، ونفذ فيه أمره، وامتدت يده إلى بني حنيفة وقوم مسيلمة، وغزا فارس، وافتتح الحيرة والقادسية وعين التمر وصاروا ذمة له، وجباهم الأموال العظيمة. وافتح الشام وأوائلها ونفذ أمره فيها، فكان حاله في الزهد تلك الحال التي كان عليها رسول الله ﷺ.
وقام بعده عمر رضي الله عنه فحوى ذلك كله، وافتتح إلى أقصى الشام وأخرج ملوك الروم منها واعتصموا منه بالخلجان والجبال، وافتتح مصر والصعيد الأعلى، وافتتح الجزيرة والعراق والسّواد وفارس وكرمان وسجستان وكورة الأهواز، وما سقته دجلة وما سقته الفرات وما سقاه النيل، وحملت إليه خزائن الملوك وذخائرهم، ومكث على ذلك عشر سنين ثم قبض وحاله في الزهد تلك الحال.
ثم قام بعده عثمان رضي الله عنه، فحوى تلك الممالك كلها، وافتتح خراسان عن أقصاها، وأخذ ملوكها وأصفهان من الجبال، وفي زمانه قتل المسلمون يزدجرد بن شهريار ملك فارس، وافتتح أذربيجان، وافتتح ارمينية، وجرجان وطبرستان وغير ذلك، واستولى على ملوكها وممالكها، وفتح المغرب وهي مسيرة سنين برا وبحرا وطولا وعرضا، وافتتح من جزائر البحر عدة جزائر عظيمة تكون مسيرة شهر طولا وعرضا، وجبى ذلك كله، ومكث على ذلك اثني عشر سنة، وكانت مدته أطول، وامتدت يده، وملك وحوى أكثر مما ملكه رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم نفض يده من جميع ذلك وزهد فيه مع قدرته عليه وتمكنه منه ونفوذ أمره فيه. وصار عند قوم عمرُ أزهد منه، لأنه رحمة الله عليه برّ أقاربه من مال وولّاهم، ولم يفعل ذلك عمر، فكان زهده يصغر في جنب زهد عمر.
ثم قام بعده عليّ رضي الله عنه، فحوى جميع ما حواه الخلفاء قبله وجباه ونفذ أمره فيه، إلا الشام، ومكث على ذلك نحو ست سنين، فنفض يده من جميعه وزهد فيه.
ثم اعتبر بزهد عمال أبي بكر وعمر والخاصة من أعوانهما، كعتبة بن غزوان وأبي عبيدة ومعاذ بن جبل وشرحبيل بن حسنة وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر وبلال والنعمان بن مقرن وإخوته، وغيرهم ممن يطول الكتاب بذكرهم وشرح أحوالهم، وهو مذكور في مواضعه. ولا يشك في زهد هؤلاء إلا من شك في زهد رسول الله ﷺ، ولا يبلغ ذلك إلا الجاهل القليل النظر البطيء التأمل.
فأما من نظر واعتبر وكان قصده التعرف والتبين، فإن ذلك يفضي به إلى العلم بأنه ما صحب نبيا قط قوم أزهد ولا أردع ولا أعلم من هؤلاء قبل أن يرجع إلى قوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}. فلو كان غرض رسول الله ﷺ وأصحابه الدنيا والملك لكانوا وإن ابتدأوا بذكر الزهد في أول أمرهم إذا ملكوا وقدروا عليها قد ساروا فيها سيرة طلاب الدنيا وملوكها وخطّابها، وما لبثوا أن تظهر سرائرهم وضمائرهم عند القدرة. بهذا جرت العادة، وهكذا أخرجت العبرة، فإن من تخلّق للناس وتصبّر خوفا منهم واتقاء لهم ومداراة لهم إذا قدر وتمكن تغير وزال عما كان وظهر مكنونه. فلما دام أمر رسول الله ﷺ وهؤلاء واتصل على طريقة واحدة، علم العامل المتأمل أن سريرتهم كعلانيتهم، وظاهرهم كباطنهم.
وقد رغب قوم منهم في المباح وفيما أحله الله لهم، ولا لوم عليهم ولا تعنيف. وإنما كان كلامنا فيمن زهد في المباح المطلق منهم. وقد ملك هؤلاء ما لم يملك إبراهيم وإسحق ويعقوب والأسباط وموسى وهارون وداود ومتى وعيسى، وإن كان الأنبياء خيرا منهم.
وإنما ذكرنا هذا لأن اليهود والنصارى والمجوس وأعداء رسول الله ﷺ يقولون جهارا بحضرة المسلمين وفي دواوين السلاطين وفي المحافل بحضرة الأمراء الأشراف: أما الإسلام فقد كفيناه ودفع بعضه بعضا، وقد كنا نقول سرا بيننا في أصحاب محمد ونفسه أشياء تقولها اليوم الشيعة جهارا وتزيد علينا فيه، من أن أصحاب هذا الرجل وأتباعه وأنصاره ما كانت لهم بصيرة في أمره ولا يقين مع الصحبة وطول المشاهدة ولا أقاموا له وزنا، وإنما طلبوا الدنيا والنهب والغارة. وقد بيّنا فساد ذلك، وفيه من البيان أكثر من هذا، وفيما ذكرناه كفاية.
فإن قيل: أفتستدلون على صحة دينكم بأن هؤلاء قد اعتقدوا بنبوّة صاحبكم وصدقه، وأن ظاهرهم فيه كباطنهم، وهاهنا قوم من اليهود والنصارى والمجوس والمنانية والهند هذه سبيلهم في أديانهم.
قيل له: ما ندفع هذا ولا نمنع منه، ولا نستدل على صحة الإسلام باعتقاد المهاجرين والأنصار بنبوّة محمد ﷺ وصدقه ونبوّته وزهده وزهدهم في الدنيا. وإنما نعرف صحة الإسلام وأنه دين الله بغير هذا. وإنما كان كلامنا على من ادّعى أن هؤلاء ما اعتقدوا صدقه ولا نبوته، فبيّنا فساد قولهم وبطلان اعتقادهم وأنه جهل، ثم صرنا إلى ذكر الدلائل والأعلام. فمن ذلك أشياء نزل القرآن بها قبل كونها.
فمن ذلك قصة أبي لهب، وقد كان من المؤذين لرسول الله ﷺ والمجردين في مكروهه وطلب نفسه وفي الصدّ عن اتباعه، فبشره الله بأن ذلك لا يضره ﷺ، ولا يغني عن أبي لهب فيما قصد ما كسب من جاه ومال وأهل وولد وصداقة وإخوان، وأنه يخسر ذلك كله، وأنه وامرأته يموتان على الكفر به ويصيران إلى النار. نزل ذلك بمكة وهما حيّان سليمان، فكان ذلك كله على ما قال وعلى ما أخبر وكما فصّل وفسّر. وهذه غيوب كثيرة لا يكون مثلها بالاتفاق ولا بالحدس ولا بالزرق، ولا يتفق لحذّاق المنجمين أقل القليل من هذا. ومن عجيب الأمور أنها نزلت بمكة، وتلاها رسول الله ﷺ، وسمعها أبو لهب وجميع أعداء رسول الله ﷺ من قريش والعرب وغيرهم وهم أعوان أبي لهب، فهاجهم هذا القول في عداوته، وزاد في غيظهم وحنقهم، وأذكرهم بنفسه وهو معهم وفي أيديهم وفي قبضتهم، فما ضره ولا تمّ لهم أمر في الظفر بقتله، ولا على زلة يتبين فيها كذبه وسقوط قوله. وهذا لا يقدم عليه العاقل إلا وهو على غاية الثقة بما يقول. ورسول الله ﷺ ممن لا يدفع عدوّه عقله. ومنذ نزلت هذه السورة وإلى هذه الغاية يحرص أعداء رسول الله ﷺ أن يجدوا في ذلك مطعنا فما وجدوا. وقد رجع بعضهم إلى بعض في ذلك وتشاوروا فيه وتعاضدوا وتعاونوا، فكان عليه ما انتهى إليه كيدهم أن قالوا: لما رأى عمه وامرأته قد صمما في تكذيبه وعداوته قال ذلك فيهما.
قيل لهم: قبل كل شيء قد تم ما قال على ما فسر وشرح، وحصل ذلك على وجه انتقضت العادة به، وظنونكم هذه لن تقدح في هذا العلم، وهذا كاف في جوابكم.
ثم قيل لهم: قد صنع مثل صنيع أبي لهب خلق كثير فما قال هذا فيه، ومنهم من أسلم. وأيضا فلو قال في أبي لهب إنه يسلم قبل إسلامه وأسلم لأمكن الخصم أن يقول: ما في هذا دلالة، لأن الرجل عمّه، وقد رأى إخوته حمزة والعباس وقد أسلما، وقد أسلم ولد أخيه أبي طالب جعفر وعلي، فكيف لا يسلم هو أيضا؟ فهذا كان أقرب وأظهر في الرأي والتدبير، فلم يقل ذلك وقال غيره وخلافه، لتعلم أن هذا قول علّام الغيوب وكلامه عز وجل.
وقالوا: لو أسلم لكان له أن يقول: إنما قلت إنه سيصلى النار إن لم يسلم وإن أقام على الكفر، كما قال: {إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة}.
قيل له: قبل كل شيء قد تمّ ما قال وما وجد له خلف، وحصل على وجه انتقضت العادة به كما بيّنا وقدّمنا، وأخذت أنت أيها الخصم تقول لو لم يكن هذا ويتم بأي شيء كان يعتذر، وحصلت على تدبير ما لم يكن، وجهلت أيضا اللغة وموضع العربية لأن قوله عز وجل:
{إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة} إنما هو جزاء، وليس بخبر عن أحد أنه سيفعل ذلك، وهذا كقول القائل: من سرق مالي قطعته، ليس بإخبار عن أحد أنه سيسرق ماله، ويجوز أن لا يسرق ماله أحد البتة مع هذا القول.
وقوله تبارك وتعالى في أبي لهب وامرأته إنه: {ما أغنى عنه ماله وما كسب} من تلك الأمور، وإنه سيصلى وامرأته نارا ذات لهب، إخبار عن أمور ستكون، فكانت كما قال، كقوله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ}، وكقوله:
{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}. وكقوله عز وجل فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ}. فهذا باب.
استرواح المشركين لأدنى غم يصيب الرسول
وباب آخر
وهو أن قريشا والعرب لما أعيتهم الحيل في أمر رسول الله ﷺ، كانوا يستروحون إلى أدنى غمّ يناله ﷺ. فمات ابنه إبراهيم وهو أكبر ولده وبه كان يكنى، ومات ابنه عبد الله، فسرت قريش بذلك، وقال بعضهم لبعض: أبشروا فقد انبتر محمد، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}. فانبترت ديانات قريش والعرب كلها وبطلت عن آخرها، ولم يبق على ذلك الدين عين تطرف، وتم أمره ﷺ وسطع نوره وعلا وقهر.
وفي هذا غيوب كثيرة أخبر بها قبل أن تكون؛ ثم وردت على وجه يغيظ ويغضب ويبعث على الوثوب به وعلى قتله وعلى إطفاء نوره، وقد حرضوا على ذلك فما تمّ. وهذا قول لا يورده العاقل على الوجه الذي أورده رسول الله ﷺ إلا وهو على غاية الثقة بالله والسكون إلى ما يوحيه إليه عز وجل. ورسول الله ﷺ ممن لا يدفع عدوّه عقله، وكانت قريش تقول فيه لما مات بنوه: محمد صنبور، أي منقطع الأصل منبتر الذكر.
وقيل لأعرابي: كيف نخلك؟ فقال: صنبر أسفله وعشش أعلاه، أي ضعف أصله وعشش أعلاه، فبطل كله وزال الانتفاع به.
والكوثر هو على وزن فوعل، كنوفل وحوقل، وهو الكثير من الجميز خاصة. فيريد عز وجل: إنا أعطيناك الكثير من التأييد والنصرة والحجة والعزّ والثواب والأجر.
وفيه دلالة على بطلان قول من قال: إن أبا بكر وعمر وعثمان وتلك الجماعات من المهاجرين والأنصار كانوا أعداء رسول الله ﷺ وشانئيه، وأنهم قصدوا تغيير القرآن وتبديل دين رسول الله ﷺ، وإماتة نصوصه، ودفع وصيته وخليفته، ففعلوا ذلك وقهروا وغلبوا وكانت الغلبة لهم، وخليفة رسول الله هو المغلوب المقهور، وهم الغالبون القاهارون، وأن خليفة رسول الله ﷺ ووصيّه ما تمكن إلى أن خرج من الدنيا.
قلنا: فلو كان الأمر كما قلتم لكان هذا قد كذب وكان يكون: إن شانئك هو الأقهر والأغلب والأظهر، وأنت الأبتر، فلو أنصفوا وتدبروا القرآن لما قالوا في المهاجرين والأنصار هذا القول.
عرض المشركين على الرسول أن يعبد آلهتهم ويعبدوا إلهه
وباب آخر
وهو أن قريشا لما حرصوا على قتل رسول الله ﷺ وإبادته وإطفاء نوره، وعلى التنفير منه والصدّ عنه والله تعالى يصرفهم بألطافه عنه مشوا إليه، وهم: الوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث بن كلدة، وأمية بن خلف، وعتبة بن خلف، والجماعة من قريش، قالوا: يا محمد، إنك قد سفهت أحلامنا، وكفّرت أسلافنا، وعبت آلهتنا وأدياننا، وشتّتّ كلمتنا، وقطّعت أرحامنا، فهلمّ إلى أمر يكون بيننا وبينك، فتعبد أنت آلهتنا التي نعبدها ونعبد إلهك، وتعبد آلهتنا التي كنا عبدناها ونعبد إلهك، ثم تعبد ما عبدنا ونعبد ما عبدت؛ فإن كان معنا خير كنت قد أصبت منه، وإن كان معك خير كنا قد أصبنا منه، وتكون كلمتنا سواء، وتسالمنا ونسالمك، وتكون لنا ونكون لك؛ فأنزل الله تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ، وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} فأخبر أنه لا يصير ولا يجيب إلى ما قالوا، ولا يقبلهم بهذا الشرط، ولا يكونون على هذا الوجه عابدين لله على الوجه الذي عبده، فكان كما قال. وفي هذا غيوب كثيرة مفصلة جاءت كما أخبر، وهذا لا يكون إلا من علّام الغيوب، ولو لم يكن من آياته إلا هذا لكفى وأغنى. فهذا
يدلّك على خضوع قريش واليهود والنصارى وجميع أعداء رسول الله ﷺ وانقطاعهم في يده، وأنه لا مطعن في آياته. ولهذا المعنى قال الله: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}، أي لو قاربتهم وأجبتهم إلى ما دعوك لأجابوك، ولو داهنتهم لداهنوك. فتأمل قوله:
{قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ} كيف يجبههم بالإكفار والتجهيل والتضليل، وهم أشد عالم الله أنفة ونخوة وجبرية ودفاعا عن أنفسهم، ومواثبة لعدوهم، وهو بمكة معهم وفي أيديهم وفي قبضتهم، والعزّة والغلبة والكثرة لهم لا له، فهيجهم على نفسه بهذا القول، وبعثهم على مكروهه، فنجاه الله منهم.
وهذا قول لا يقوله عاقل وحاله ما وصفنا إلا وهو على غاية الثقة بالله بدفعه عنه. ورسول الله ﷺ ممن لا يدفع عدوّه عقله. فمن أي شيء تعجب رحمك الله؟ أمن إقدامه، أم من مصير الأمر إلى قوله وحكمه.
فاعرف هذه القصة واحفظها فانها عظيمة جليلة، ولهذا قال رسول الله ﷺ: "من قرأ سورة {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ} فكأنما قرأ ثلث القرآن". وكان يقال في صدر الإسلام ل {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} المقشقشتان، أي هما براء من الشرك، يقال للجرح إذا برأ واندمل: تشقشش الجرح.
وقوم من الكتاب وعمال السلطان يعرفون ببني أبي البغل، يدعون أنهم من المسلمين ومن الشيعة وهم يميلون ميل القرامطة، ويلزمون صنعة النجوم، وبقاياهم بالبصرة في سكة قريش، ومنهم أبو محمد بن أبي البغل، وهذا خلقه وصنعته، وهو حيّ إلى هذه الغاية وهي سنة خمس وثمانين وثلثمائة، يقولون في {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ}: هي من البوارد ومن الأشياء التي لا معنى لها، ويتحدثون بذلك في دواوينهم ومحافلهم، ويضربون في ذلك الأمثال؛ وهذا لجهلهم بالأسباب، ولو كان لهم تحصيل وتدبير وقصدوا الإنصاف وطلبوا العلم من موارده لعلموا أن هذا من معجزاته. ولكن العجب قد شغلهم، وهم يعدون أنفسهم من الخاصة وهم أسقط من سقاط الغوغاء. ولولا أن هذا شيء قد شاع في الكتاب وأشباههم في جميع البلاد لما ذكرته لك، ولكنه شيء قد دار وصار أهل الذمة مع القرامطة يلقون به العامة والضعفاء من المسلمين، وليس للإسلام قيّم ولا ناصر، بل كل السيوف عليه، فالله المستعان.
وأخرى تبين لك جهل هؤلاء ونقضهم ونقض كل طاعن في القرآن، أن الذي جاء بهذا القرآن ادّعى أنه كلام الله وقوله، وأن الجن والإنس لا يأتون بمثله ولا بمثل سورة منه ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وأنه حجة الله على خلقه إلى يوم القيامة؛ وقد سمعه الناس كلهم منه، وقد طالبهم أن يأتوا بمثل سورة منه فلم يأتوا مع شدة الحاجة إلى ذلك، وقد بذلوا ما هو أعزّ وأعظم في دفعه وإبطال أمره من الأموال والأنفس والأولاد. وإذا كان هذا شأنه من السخف والركاكة، وفيه الكذب والتناقض على ما يدّعي هؤلاء، أعداء الإسلام، فكيف يحتج عاقل بما هذا سبيله؟ وكيف لم يقل أعداؤه له: تتحدّانا بشيء ركيك بارد غثّ متناقض؟ وكيف لم يقل أعداؤه له ذلك؟ وكيف يتبع ويطاع من هذا سبيله؟ وكيف لم يقل أعداؤه لأتباعه: يا ويحكم فارقتم دينكم، وأنفقتم أموالكم، وسفكتم دماءكم، وعاديتم الأمم، واتبعتم رجلا حجته هذا القرآن وفيه الكذب والتناقض؟ ومثل هذا لا يطاع ولا يتبع، بل يكون في سقوط المنزلة بمحل من يركب قصبة ويركض في الأسواق ويقول: أنا الملك، وأنا الأمير، ويشتم الملوك والأمم والرؤساء، ويتعادى خلفه الصبيان؛ ومثل هذا لا يعاديه أحد ولا يضربه ولا يسبه فضلا أن يقتله، لأنه لا يضرّ أحدا ولا يغضب عاقل من فعله وقوله وإن شتمه وتواعده. فلم غضب أولئك العقلاء من قريش والعقلاء من العرب والدهاة من اليهود والنصارى وطبقات الأمم والملوك منه ومن أفعاله، وبذلوا أموالهم وأولادهم ودماءهم في عداوته وفي الصدّ عنه والمنع من اتّباعه، ورحلوا إلى الملوك يشكونه ويضجّون منه، ويبعثونهم على قتله، ويخوفونهم سطواته وغلبته على ممالكهم؟ فقد رحلت قريش إلى النجاشي ملك الحبشة في هذا، ورحلت نصارى العرب إلى قيصر ملك الروم في هذا، وقد صار النضر بن الحارث بن كلدة إلى الفرس في هذا، وكان من كسرى أبرويز في هذا ما هو مذكور. ولعله أن يرد عليك. وهذا مع أنه جواب لكل عدو لرسول الله ﷺ، فهو كاف.
وعد الرسول أصحابه في حال ضعفهم أن الله سينصرهم
وباب آخر
وهو ما وعد أصحابه من المهاجرين والأنصار والمكيين في حال ضعفهم أن الله سينصرهم ويمكنهم ويقوّيهم ويظهرهم، فيقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وتكون العقبى لهم؛ وتلا بذلك القرآن وخلّده وأسمعه عدوّه ووليّه، فقال عز وجل:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} إلى قوله: {وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ}؛ فتمكن أصحابه وخلفاؤه، فأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وكانت العقبى لهم. وفي هذا غيوب كثيرة أخبر بها قبل أن تكون فكانت كما فصّل وكما أخبر وفسر. لتعلم أن هذا قول الله وكلامه، وأن محمدا رسوله. وهذا في سورة الحج وهي مكية، ولو كانت مدنية لكان فيها من الدلائل مثل ذلك، ولكنها إذا كانت مكية كانت آكد في الحجة لأن ضعفهم إذ ذاك أشد، {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ}، ولقولهم: {رَبُّنَا اللَّهُ}، ولكفرهم بديانات قريش والعرب، هم المهاجرون خاصة. وفي هذه الآية دلالة على صحة إمامة أبي بكر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم، وشهادة بأنهم أئمة هدى، وأن طاعتهم طاعة الله، لأنهم من المهاجرين والمكيين والتابعين ومن الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ لقولهم: {رَبُّنَا اللَّهُ}، وهم الذين تمكنوا وتولوا الأمر ودعوا إلى الله وفعلوا ما قال الله، كما هو مذكور في الآية.
ولو كانوا منافقين أو مشركين أو مرتدين كما تدعي ذلك عليهم طوائف الرافضة لكان هذا الخبر قد أخلف وكذب، ولكان الذي أتى به وتلاه ليس بنبي بل كذاب، لأن هؤلاء الذين تملكوا وتمكنوا وكان الأمر والسلطان والقهر والغلبة لهم؛ فزعمت الرافضة أنهم بدّلوا القرآن وأحرقوه، وغيروا النصوص، وعطلوا الدين، وغيروا الطهارة والأذان والمواقيت والصلاة والصيام والمناكح والطلاق، وأماتوا السنن، وأحيوا البدع، وكان خليفة رسول الله ﷺ ووصيه مغلوبا مقهورا يظهر ما يظهارون من الشرك، ويجوّز أحكامهم عليهم، فأين صدق هذه الآيات.
وقد كان ينبغي أن يكون على ما يدعيه الرافضة أن تكون التلاوة: "والذين إن مكناهم في الأرض عطّلوا الصلاة والزكاة وأماتوا النصوص وقهروا الوصي المنصوص عليه، وأمروا بالمنكر ونهوا عن المعروف" فتعلم أن هؤلاء قد ذهبوا عن القرآن وفارقوا الدين، وتعلم أن هؤلاء السلف على الحق، وأن الله تولى نصرهم كما وعدهم. والله لا ينصر إلا أولياءه وأحباءه وأهل طاعته. وقد كان المهاجرون يحتجون بهذا.
قال صعصعة بن صوحان -وقد كان رحل إلى عثمان في شأن قوم كانوا قد أساؤا، فسيرهم وحالهم معروفة-: ما رأيت أسرع جوابا من أمير المؤمنين عثمان، قلنا له: أخرجنا من ديارنا أن قلنا ربنا الله، فقال: كذبت ليست لك ولأصحابك ولكنها نزلت فينا معشر المهاجرين، أخرجنا من ديارنا أن قلنا ربنا الله، فمنا من مات بأرض الحبشة، ومنا من مات بالمدينة، فنصرنا الله ومكننا، وأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، وكانت العقبى لنا. وهذا لا يذهب على متأمل وإنما ذهب على أهل الغافلة.
إسراء الرسول من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى
باب آخر
وهو أنه ﷺ أسري به في ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عاد من ليلته إلى مكة، ومدة السفر في ذلك مقدار شهرين أي ذهابا وإيابا، وهذا لا يفعله الله إلا للأنبياء في زمن الأنبياء. ولما عاد رسول الله ﷺ تحدث بذلك في أهله، فقالت له أم هانئ بنت أبي طالب: لا تتحدث بهذا، فو الله لا صدّقك الناس، وليكفرنّ بك من آمن بك، وليكذبنّك من صدّقك. فقال ﷺ: إن ربي أمرني أن أخبر الناس بذلك وإن أبا بكر يصدقني ويشهد لي. فخرج وأخبر قريشا بذلك فسرّهم هذا، وقالوا: الآن يظهر كذبه وينقطع الناس عنه، قوموا بنا إلى صاحبه ابن أبي قحافة لنخبره بما قال صاحبه. وكان أبو بكر ثقيل الوطأة على قريش وأعداء رسول الله، فإنه كان يدعو إلى نبوته، ويخطب بآياته، وكان وجيها في الناس، عالما بقريش، باين الفضل فيهم، فكانوا يقصدونه بالمكاره لهذه الخصال التي كانت تضرهم. وقد استدعى خيارهم ووجوههم إلى الإسلام، وأنفق ماله في نوائب الإسلام ونصرته، وكانوا يطلبون شيئا يصدّه عن رسول الله ﷺ ويمنعه من اتباعه. فأتوه وقالوا له: يا أبا بكر، ما زال صاحبك حتى أتى بكذبة خرج بها من أقطارها. قال أبو بكر: حاشاه، وما هو؟ قالوا: زعم أنه أسري به في ليلة إلى بيت المقدس. فقال أبو بكر: إن كان قال ذلك فقد صدق. قالوا: يا أبا بكر، أتصدقه في هذا والعير تطرد في ذهابها شهرا وفي رجوعها شهرا، أيبلغه في ليلة واحدة؟ قال أبو بكر: إنه ليخبرني أن الخبر يأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة واحدة فأصدقه، وبعد السماء عن الأرض أكثر من بعد بيت المقدس من مكة؛ قوموا بنا إليه نسأله عن ذلك. فأتوه، فقال له أبو بكر: ما شيء بلغني عنك يا رسول الله أنك أتيت بيت المقدس في ليلتك؟ فقال: نعم يا أبا بكر، صلّيت بكم في هذا الوادي، فأتاني آت، فأيقظني وأخرجني وجاء بدابته فقال: اركب فأرفصت، فقال لها جبريل: اسكني، فما حملت خيرا منه. فسارت بي، وإذا حوافرها تقع مدى بصرها، وكنت إذا أتيت صعودا قصرت قوائمها، وإذا أتيت حدورا طالت قوائمها، فأتيت بيت المقدس؛ وذكر صلاته ودخوله إليه ورجوعه. فقال له أبو بكر: يا رسول الله، هل تستطيع أن تصف لنا بيت المقدس؟ فقال: نعم. فوصف مدخله والمسجد وسقوفه وما فيه شيئا شيئا، وكان إذ ذاك في أيدي الروم، وكان ملك الشام لهم وبعضه في أيدي اليهود، فقال أبو بكر: أتسمعون؟ وكان فعل أبو بكر ذلك ليعرف الناس صدق رسول الله ﷺ فيما ادّعى. فقالت قريش: فإن لنا عيرا بالشام عرفت خبرها؟ فقال: نعم، مررت بهم في ذهابي، وهم في موضع كذا، وقد ندّ لهم بعير من حسّ دابتي فدللتهم عليه، ورجعت عليهم وهم نيام وقدح فيه ماء وقد خمروه، فنزلت وكشفته وشربت وخمرته. ثم قال: وآية أخرى أنهم يردون عليكم يوم كذا وقت طلوع الشمس، وتقدم عيرهم من ثنية كذا، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان، إحداهما برقاء والآخرى سوداء. فأرصدت قريش لذلك اليوم، فقال قائلهم: هذه الشمس قد طلعت، وقال آخر: وهذه العير قد أقبلت وأمامها الجمل الأورق وعليه الغرارتان كما وصف. وسألوهم عن البعير الذي ندّ وعن القدح الذي كان فيه الماء فأخبروهم بذلك كما وصف، وأنهم وجدوا القدح فارغا بعد أن كان فيه ماء.
فتأمل ما في هذا من الآيات والمعجزات والعلامات الواضحات البينات التي لو لم تكن إلا هذه لكفت وأغنت في الدلالة على نبوته.
فمنها مصيره ورجوعه في ليلة واحدة، ومنها إخباره بالوقت التي ترد فيه عير قريش على أي سبيل ترد، فكم في هذا من الغيوب.
فإن قيل: ومن سلّم لكم أن هذا قد كان على ما وصفتم لنا، وكيف علمتم هذا، وما طريق العلم به؟
قيل له: قبل كل شيء قد علمنا أنه ﷺ قد احتج بالإسراء وجعله قرآنا يتلى، وقد سمع هذا جميع أعدائه من قريش واليهود والنصارى وهم معه وجيرانه وأشد الناس عليه وأحرصهم على عثرة تكون له أو عيب يكون فيه، وهنالك أصحابه ومن قد اعتقد صدقه ونبوته ولم يتبعه إلا لأنه نبي صادق وعاقل لا يحتج على عدوه ووليه بما لا يقوم برهانه، ثم لا يرضى أو يأتي في ذلك بقرآن يتلى ويضيفه إلى ربه ويستطيل بذلك على عدوه ووليه، وليس معه في ذلك إلا الدعوى الخالية من كل الحجج؟ هذا لا يفعله عاقل، وعقل رسول الله ﷺ عند عدوه فضلا عن وليّه فوق العقول.
وأخرى أن من فعل هذا على ما يدعيه الخصم لا يتبعه أحد ولا يصدقه أحد بل يرجع عنه من قد اتبعه، إذ ليس معه إلا الدعوى على ما يدعيه الخصم، وكل أحد يمكنه أن يدّعي أنه قد أسري به في ليلة واحدة من البصرة إلى بيت المقدس أو من العراق إلى بلاد الهند. وما تبينت بما هذه سبيله، فتعلم أن الحجة بذلك قد قامت واتضحت.
وأخرى ما جرى بين قريش وبين رسول الله ﷺ، وبين قريش وأبي بكر الصديق، وما كان في ذلك من طول المراجعة، ومن عني بذلك يعلم أن الأمر كما حكينا ووصفنا علما يقينا لا يرتاب به، كما يعلم فرار المهاجرين إلى أرض الحبشة، وإخراج قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بن المغيرة في طلبهم، وما كان لهم معهما مع النجاشي من المخاطبات والمراجعات، إلى أن صارت العقبى للمسلمين. وكما يعلم خروج رسول الله ﷺ إلى المواسم وعرضه نفسه على القبائل، وما كان له معهم من المحاورات والمراجعات والمخاطبات. وكما يعلم خروجه إلى الطائف وعرضه نفسه، وما كان له معهم من المراجعات والمخاطبات. وكما كان له مع قريش بمكة في حفل بعد حفل ومرة بعد مرة، وفي مشيهم إلى أبي طالب ليكفه عن مخالفتهم وتجهيلهم وذكر آلهتهم، وما تعاهدوا عليه من عداوته وعداوات أصحابه، ومن التجريد في قصدهم بالمكاره، وما كتبوه في ذلك. وفي ترك مبايعتهم ومناكحتهم ومعاملتهم، وما أشبه ذلك من الخطوب التي كانت منهم. فمن رسخ فيما هذا سبيله، عرف قصة الإسراء وما كان لرسول الله ﷺ في ذلك مما تقدم ذكره، ومن لم يكن هذه سبيله لم يعلم، ولكل أحد سبيل إلى أن يعلم ذلك.
فتأمل رحمك الله ما في ذلك، وقول أم هانئ، واحتجاج قريش في أن المسير في ذلك يكون في شهرين فكيف تم في ليلة واحدة، ومطالبتهم بالحجة في ذلك، ثم مسألتهم عن عيرهم التي بالشام، ثم مصيرهم إلى المكان في الوقت الذي ذكر رسول الله ﷺ أن العير ترد فيه وتفقدهم صورتها وما تقدمها، ثم مسألتهم أهل العير عن القدح لتعرف عقول قريش وشدة فطنتها وعنايتها بأمر النبي والتفقد لأحواله. وانظر كيف قد سألوا عن ذلك مما يمكن العاقل أن يسأل عنه ويتكلم فيه. وانظر إلى فطنة أم هانئ بنت أبي طالب وخوفها مما يخاف مثله، وأن هذا الأمر إن لم يقم على الدعوى به حجة لم يصدقه احد، بل يكذبه من صدّق به ويكفره من آمن به، لتعلم كذب الحداد وأبي عيسى الوراق والحصريّ وابن الراوندي، وهؤلاء علماء الإمامية ورؤساؤهم، وعليهم يعولون والى كتبهم يرجعون. ولكل هؤلاء كتب يطعنون فيها على الأنبياء، ويدّعون على قريش والعرب الجهل والبلادة والغباء وأن رسول الله ﷺ خدعهم وسخر منهم.
وهذه الكتب منقوضة قد نقضها غير واحد من المعتزلة. والمطاعن على الأنبياء كلهم إنما هي من جهة هؤلاء الشيع، والإمامية تواليهم وترجع إلى أقوالهم. فاعرف هذا فإنه من العجائب وبك إلى معرفته أشد الحاجة.
فمن كتب الحداد في هذا الشأن كتابه الجاروف وكتابه الأركان، وكتاب الحصري في تسوية أصحاب الكلام بالعوام، وكتاب الزمردة وكتاب غريب المشرقي، وكتاب أبي عيسى الوراق، وكتاب حنين "البهائم"، وكتاب التاج في القدم لابن الراوندي، و"الزمردة" و"الفريد" و"التصفح" وكتاب "نعت الحكمة" في الطعن في حكمة الله، وكتاب "الدامغ" يطعن فيه في القرآن وغير ذلك من كتبهم. وفضيحتهم في هذه الكتب واضحة، وليس لرسول الله ﷺ أعداء مثلهم. والشيع تتوالاهم لأنهم عملوا كتبا لهم في الطعن في المهاجرين والأنصار.
فمن هذا العجب أن قوما يدّعون أنهم من المسلمين يوالون هؤلاء ويرجعون إلى كتبهم. فتبين رحمك الله الحال في ذلك، لتعلم أنه لا يطعن على المهاجرين والأنصار إلا من يطعن على الأنبياء صلوات الله عليهم، وإنما تستّر هؤلاء الملحدة والزنادقة بالتشيع والإمامة ليستوي لهم الطعن على الأنبياء وتشكيك المسلمين في الدين. فاعلم ذلك.
ما نزل بمكة في رجال بأعيانهم أنهم يصرون على شركهم إلى أن يموتوا
وباب آخر
وهو ما نزل بمكة في رجال بأعيانهم أنهم يصرون على شركهم إلى أن يموتوا، وأن الله سيذيقهم من عاجل الخزي في الدنيا، وقد صنع مثل صنيعهم قوم علم الله أنهم يدخلون في الإسلام فلم يأت من عند الله فيهم ما أتى في أولئك.
فمن ذلك ما نزل في أبي جهل: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى. أَوْلى لَكَ فَأَوْلى}. فقال أبو جهل: لم يهددني رب محمد وأنا أعز أهل البطحاء وأكرمهم؟ فأنزل الله في استهزائه بالزقوم وقوله إنه التمر بالزبد فقال: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الْأَثِيمِ. كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ. خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} أي بزعمك. نزل هذا كله فيه وهو يومئذ حيّ سليم، فأذاقه الله حرّ الحديد ببدر، ومات على الكفر كما قال وكما أخبر.
ونزل في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة من قريش: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ. يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ. كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} فمات على كفره.
ومنهم النضر بن الحارث بن كلدة أخو بني عبد الدار، وكان شديد الرد على الله وعلى رسوله، شديد العداوة والإرصاد، وقد كان رحل في عداوة رسول الله ﷺ إلى فارس، وطلب ما يكيد به الإسلام والمسلمين، فوجد أحاديث رستم وأسفنديار والفرس، فاشتراها وقدم بها مكة فجعل يتحدث بها. وكان رسول الله ﷺ إذا قام من مقعده خلفه فيه النضر وحدثهم بتلك الأحاديث وقال: حديث محمد عن عاد وثمود والأمم من هذا، بل هذا أحسن. فأنزل الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُوًا أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ}، ونزل فيه غيرها أيضا. وقيل يوم بدر أصابته جراحة ذهبت بقحف رأسه، وحصل مع المسلمين في جملة المأسورين وقال: لا أذوق لهم طعاما ولا شرابا ما دمت في أيديهم، فمات من الضربة وصار إلى النار بعد أن أذاقه الله العذاب المهين في الدنيا كما قال وكما أخبر.
ومنهم الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان من الأشداء على المسلمين، فقال لقريش حين حضر الموسم: إن الناس قادمون عليكم وسائلوكم عن صاحبكم، يعني رسول الله ﷺ، فماذا تقولون؟ قالوا: نقول مجنون، قال: يكلمونه فلا يجدونه مجنونا، قالوا: نقول شاعر، قال: فهم أصحاب الشعر يقولونه ويروون بسيطه وهزجه فلا يجدونه شاعرا. قالوا: فنقول كاهن، قال: فقد رأوا الكهنة وتكلّفهم وكذبهم. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ ففكر وقدّر ونظر وعبس وبسر كما وصفه الله تعالى في سورة المدّثر، ثم قال: {إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}. وكان له عدة بنين، وكان ذا مال واسع، فكان بنوه يحضرون ويشهدون عقلاء، فأنزل الله فيه: {ذرني ومن خلقت وحيدا. وجعلت له مالا ممدودا. وبنين شهودا. ومهّدت له تمهيدا. ثم يطمع أن أزيد. كلا إنه كان لآياتنا عنيدا} إلى قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} فلم يزده الله مالا ولا ولدا بعد هذا كما أخبر، ثم مات كافرا كما قال الله. وقد كان عند نزول ذلك حيا سليما.
فانظر كم في ذلك من الآيات من الإخبار بالغيوب، ومن عجزهم عن القرآن أن يأتوا بمثله في الفصاحة والبلاغة والجزالة، فلم يتأتّ لهم ذلك مع حاجتهم إليه واجتهادهم فيه. وفصاحة القرآن وجزالته وبلاغته دلالة أخرى غير دلالة الإخبار بالغيوب.
ما كان بمكة من انشقاق القمر
باب آخر
وهو ما كان بمكة من انشقاق القمر. فإن رسول الله ﷺ مرّ بمكة في ليلة قمراء ومعه نفر من أصحابه، فاجتاز بنفر من المشركين، فقالوا له: يا محمد، إن كنت رسول الله كما تزعم فاسأل ربك أن يشقّ هذا القمر، فسأل الله ذلك فشقّه، فقال المشركون: ساحروا بصاحبكم من شئتم فقد سرى سحره من الأرض إلى السماء. فنزلت القصة في ذلك. وهذا من الآيات العظام والبراهين الكرام على صدقه ونبوته ﷺ.
فإن قيل: ومن أين لكم أن القمر قد انشقّ له كما ادّعيتم؟ أتعلمون ذلك ضرورة أم بدلالة؟ أوليس النظام قد شك في هذا وقال: "لو كان قد انشقّ لعلم بذلك أهل الغرب والشرق لمشاهدتهم له؟ وهذا شيء سيكون عند قيام الساعة ومن أشراط القيامة"، فبأي شيء تردّون قوله وتبيّنون غلطه إن كان قد غلط؟
قيل له: ما نعلم ذلك ضرورة ولكن نعلمه بدلالة، فمن استدلّ عرف، ومن لم يستدلّ لم يعرف. ومن قصر عن الاستدلال والنظر غلط كما غلط إبراهيم النظّام.
فوجه الدلالة على ذلك أن رسول الله ﷺ قد احتج بذلك على المسلمين والمشركين وتلا هذا القول عليهم من سورة القمر: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}. ولم يكن ليقدم ويحتج على العدو والوليّ بما لا حاجة فيه، ويشير إلى أمر ظاهر يشار إليه ويشاهده الناس، فلو أراد أن يكذّب ويردّ قوله ما زاد على هذا؛ هذا لا يقع من عاقل ولا يختاره محصل كائنا من كان، فكيف يقع ممن يدّعي النبوة والصدق وهو أشد حرصا بالناس كلهم على تصديقه واتباعه؟ فلو أراد أن يكذبوه ويردوا قوله ما زاد على هذا، وهذا لا يذهب على متأمل.
فإن قيل: فما تنكرون على من قال إنه ﷺ ما احتج بهذا على نبوته؟
قيل له: لا فرق [بين] من ادّعى ذلك أو ادّعى في جميع ما أتى به من القرآن وغيره أنه ما احتج بشيء من ذلك على صدقه ونبوته.
ومما يزيدك علما بذلك ويبين لك غلط النظّام وجهل كل من ذبّ عن ذلك قوله تبارك وتعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر. وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} فانظر كيف قال: اقتربت الساعة، وأخبر عن أمر قد كان ومضى، ثم قال على نسق الكلام: {وانشق القمر}، فجاء بأمر قد كان وانقضى ومضى، فنسق على الماضي بالماضي. ولو كان على ما ظنّ النظّام لقال: اقتربت الساعة وانشقاق القمر، أو كان يقول وسينشق القمر، فلما لم يقل ذلك وقال:
وانشقّ القمر، علمت أنه أخبر عن شيئين واقعين قد وقعا وكانا وحصلا.
ثم قال على نسق الكلام: {وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} فأخبر أنها آية مرئية وحجة ثابتة. ثم قال على نسق الكلام: {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر. حكمة بالغة فما تغني النّذر}، وهذا لا يقال فيما لم يقع ولم يكن. فتأمل هذا التقريع والتعنيف لتعلم أنه أمر قد كان، ولا يسوغ أن يقال في أمر لم يكن ولم يقع هذا القول.
وأيضا فإن ما يقع في القيامة وعند قيام الساعة لا يكون حجة على المكلفين ولا يعنّفون في ترك النظر والتأمل له، فإن التكليف حينئذ زائل مرتفع.
فأما قول النظّام: فلم لا يشاهد هذه الآية كل الناس، فليس هذا بلازم، لأن الناس لم يكونوا من هذا على ميعاد وإنما هو شيء حدث ليلا وما كان عندهم خبر بأنه سيحدث وسيكون في وقت كذا فينظرونه، وإذا كان كذلك فقد بطل ما ظنه.
يزيدك بيانا أن القمر قد ينكسف كله فلا يرى ذلك من الناس إلا الواحد بعد الواحد والنفر اليسير لنومهم، فكيف بانشقاق القمر الذي انشق ثم التأم من ساعته بعد أن رآه أولئك القوم الذين طلبوه. وأيضا فقد يجوز أن يحجبه الله عز وجل لمصالح العباد إلا عن أولئك القوم، لأنه قد يجوز أن يكون في بعض البلاد من المكذبين والمحتالين في تلك الساعة من لو رأى ذلك لقال: إنما انشق شهادة لي على صدقي، ولا يكون ما ذكره النظّام قد جاء في ذلك من هذا الوجه أيضا، وبطل ما توهمه.
ومدار الأمر أن يكون هذا أمرا قد كان، وقد ذكرنا الدلالة على كونه. فلا عذر لمن شك فيه.
ومن الدلالة أيضا أن ذلك قد كان أن الصحابة بعد رسول الله ﷺ قد تذاكروه فما فيهم من شك ولا ارتاب ولا توقف، بل وقع إجماع منهم على كونه ووقوعه. فلا معتبر بمن جاء بعدهم ممن خالفهم.
وقد ذكر انشقاق القمر علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وجبير بن مطعم، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وخطب الناس حذيفة بن اليمان بالمدائن وذكر فيه انشقاق القمر. وكانوا يقولون: خمس قد مضين: الروم والقمر والدخان والبطشة واللزام، يتذاكرون هذا بينهم رحمة الله عليهم.
وقد ذكرنا ما في العقل من الحجة في ذلك، وهي تلزم كل عاقل بلغته الدعوة، سواء كان من المسلمين أو من غيرهم، وفي ذلك أتم كفاية. ثم ذكرنا تذاكر الصحابة بذلك وهي دلالة أخرى، إذ لا يجوز أن يقول عاقل بحضرة جماعة، وقد أقبل على من يحدثه: قد كنا في وقت كذا حتى حدث كذا وكذا -وهو يستشهد بالذي حدث بحضرتهم ويدعى عليهم وما عندهم علم- فيمسكون عن تكذيبه والردّ عليه. ثم ذكرنا الاجماع السابق من الصحابة ليتأكد ذلك على كل من كان من أهل الصلاة.
ما كان بمكة من غلبة الفرس على أرض الجزيرة أدنى أرض الروم
باب آخر
مما كان بمكة. وهو أن الفرس غلبت الروم على أرض الجزيرة وهي أدنى أرض الروم وممالكها من سلطان فارس، فسرّ ذلك مشركي قريش لشدة فارس على الإسلام والمسلمين، وكانت الروم ألين كتفا على المسلمين لأنهم أهل كتاب، وكانوا يصغون إلى ما يرد عليهم من أخبار رسول الله ﷺ وما يدعو إليه وما يأمر به وما ينهى عنه وكيف سيرته، ويتعجبون من ذلك ويستحسنونه، ويكون من ملكهم ما لعله يرد عليك. وساء المسلمين ظهور فارس عليهم. فأخبر الله نبيه ﷺ أن الروم ستظهر على فارس بعد سبع سنين، وأن غمّ المسلمين سيعود فرحا، وأنزل بذلك قرآنا يتلى، فقال عز وجل: {ألم. غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين. لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} فلما نزلت هذه الآية تلاها رسول الله ﷺ على أبي بكر الصديق، وبشره وبشر المسلمين؛ فخرج أبو بكر إلى المشركين وأخبرهم بذلك وتوعدهم وجادلهم وأغضبهم وأغاظهم. فقال أبيّ بن خلف: والله لا تغلب الروم أهل فارس ولا تخرجنهم من أرضهم. فقال أبو بكر: بل تغلبهم وتخرجهم، فإن شئت بايعتك، فبايعه على تسع من الإبل إلى ثلاث سنين. ثم دخل أبو بكر على رسول الله ﷺ فأخبره الخبر، فقال له رسول الله ﷺ: إنها سبع سنين فزده في الخطر ومدّ في الأجل. فرجع أبو بكر إلى أبيّ بن خلف فاستقاله فأقاله، وقال: إن الذي يجيء به صاحبك باطل. فعاوده أبو بكر المبايعة وزاد في الأجل أربع سنين، وزاد في الخطر ثلاثا من الإبل، وأخذ أبي أبا بكر بكفيل، لأن أبا بكر على الهجرة مع رسول الله ﷺ، وقد كان يذكر هذا وقد بدأ في فرار المسلمين بأديانهم، فأقام له أبو بكر عبد الله ابنه كفيلا، وأخذ أبو بكر أبي بن خلف بذلك، فأقام له ابنا كفيلا، فأخرجت الروم فارس من أرضها يوم الحديبية، فأخذ عبد الله بن أبي بكر من أبي بن خلف، وكان الخطر إذ ذاك مباحا طلقا.
فانظر كم في هذا من دلالة وآية بينة، وأنه أخبر أن الروم ستغلب فارس، وأن ذلك سيكون بعد سبع سنين، فكان كما أخبر وعلى ما فصل وبيّن، والبضع فوق الثلاث ودون العشر، وانظر إلى هذا الإقدام وهذه الثقة من رسول الله، وانظر إلى قوله: {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله}، يريد بهذا النصر ظهور حجة رسول الله ﷺ وما أقدم عليه أبو بكر وجاهد المشركين وبايع، فهذا المراد بالنصر لا بظهور الروم على فارس لأن ذلك معصية، وفارس والروم كفار، والله لا ينصر الكفار بعضهم على بعض. وانظر إلى هذا التقريع والتوبيخ وتأكيده الوعد بقوله: {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون} وانظر كيف يستخف بهم ويستجهلهم وهم يسمعون وهو معهم وفي قبضتهم وفي أيديهم والغلبة لهم، وانظر كيف يقول له في آخر السورة: {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون}، فتأمل هذا البيان وهذا الإفصاح وهذه المكاشفة والاستظهار والعلوّ والاستطالة بالحجة والعلم بهذا، وأنه قد كان على ما ذكرنا وبيّنا يجري مجرى العلم بقصة المهاجرين إلى أرض الحبشة ونظائرها مما قدمنا في قصة الإسراء وغيرها، فاحفظه وارجع إليه.
وتأمل حال أبي بكر الصديق في الإسلام وإسلامه في أول الإسلام وفي حال ضعفه وقلة أهله وغلبة الشرك والمشركين عليهم، وفي الحال التي قد كان المستبصر فيها لا يظهر دينه ويخفي ما في نفسه، وانظر إلى بصيرة هذا الرجل ومكاشفته واستبداله بالمسالمة عداوة وبالراحة شقوة وبالغنى فقرا وبالكرامة هوانا، كل ذلك للإسلام. ثم كان لسان المسلمين وأكبر داعية للرسول وأجلّ أعضاده وأنبه أعوانه، لم يقم مقامه أحد من المسلمين ولا سدّ مسدّه ولا حلّ من رسول الله ﷺ محله. وانظر إلى مقامه في شأن الإسراء، وفي شأن الروم، وفي غير ذلك مما يطول شرحه. وإنما احتجنا إلى ذكر هذا والتنبيه عليه لأننا في زمان يقول الكثير من أهله إنه ما أسلم قطّ وما زال عدوا لرسول الله ﷺ وللمسلمين، وأن عداوته كانت أشد وأضر من عداوة أبي جهل وعقبة بن أبي معيط وأمثالهم، وأن القرآن كان ينزل على رسول الله ﷺ بإكفار أبي بكر وعمر وعثمان وسعد وسعيد وأبي عبيدة وعبد الرحمن والجماعة من المهاجرين والأنصار، وكان رسول الله ﷺ يتلوه في المحاريب ويسمعه الناس كلهم ويحفظهم إياه، وأنه مكث نيفا وعشرين سنة يفعل ذلك. وعند العلماء والفقهاء وأهل التحصيل والإنصاف إنه كان يتقدم المسلمين في الإسلام، وإنه كان أشدهم غنى، وإن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقدمه ويقدم عمر على نفسه ويفضلهما على منابره وهما من الأموات، حتى يقول أبو القاسم البلخي: ومن يفضل أمير المؤمنين لا يمكننا أن ندفع قوله، ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيّها أبو بكر وعمر، ولا يدفع هذا من له بالعلم بصيرة أو له فيه نصيب، ولكنه عندنا ما أراد نفسه. وقد كانت الشيعة الأولى تفضل أبا بكر وعمر عليه. قال: وقال قائل لشريك بن عبد الله: أيهما أفضل؟ أبو بكر أم علي؟ فقال: أبو بكر، فقال له السائل: أتقول هذا وأنت من الشيعة؟ فقال: نعم، إنما الشيعي من قال مثل هذا، والله لقد رقى أمير المؤمنين هذه الأعواد فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيّها أبو بكر وعمر، أفكنا نردّ قوله؟ أفكنا نكذبه؟ والله ما كان كذابا.
ذكر هذا أبو القاسم البلخي في النقض على ابن الراوندي إغراضه على أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، في كتابه "في نظم القرآن وسلامته من الزيادة والنقصان".
وينبغي أن تعلم أن الذين وضعوا هذا إنما قصدوا به رسول الله ﷺ وأهل بيته لشدة عداوتهم له وتستروا بالتشيع، وكان غيظهم على أبي بكر وعمر وعثمان وتلك الجماعة لأنهم هم الذين اشتملوا على رسول الله ﷺ في حياته ونصروه، ثم كانوا بعد وفاته أشد نصرة في دينه منهم في حياته، وأحدقوا بأبي بكر فغزاهم، وقتل مسيلمة، وأسر طليحة، ورد الردة، وغزا فارس والروم، وأذلّ أعداء رسول الله ﷺ بكل مكان. واستخلف عمر، فأزال ملك فارس وهو أشد الملوك وأدخل ملكه في الإسلام، وألحق ملوك الروم بجبال الروم وخلجانها وأخرجهم من الشام ومصر ومن الجزيرة وأدخل هذه الممالك في الإسلام، وقتل الشرك وأماته وأحيا الإسلام وبثّه ونشره وبسطه وبناه وشيّده وجعله عاليا على الأديان كلها وظاهرا على أمم الشرك جميعها. فغاظهم ذلك أشدّ الغيظ، ولم يمكنهم المكاشفة بشتم رسول الله ﷺ، فاشتفوا منه بشتم هؤلاء وغرّوا من لا يعرفهم وقالوا لهم: ما هذا القرآن بشيء، وهو مغيّر لا تقوم به حجة، والإسلام مبدّل، والفقهاء جهّال كفار، إلى غير ذلك مما هذا سبيله وشرحه يطول، فاغترّوا بهم وقبلوا منهم وصدّوهم عن الإسلام فأوردوهم ما أصدروهم. وأنت تجد كثيرا من ذلك في التفسير لأبي علي، وفي نقضه الإمامة على ابن الراوندي، وفي غيرهما من كتبه، وفي كتب غيره من المعتزلة. والله أعلم.
من أعلامه ﷺ انقضاض الكواكب بمكة
باب آخر
فمن أعلامه التي حدثت وهو ﷺ بمكة، انقضاض الكواكب وامتلاء السماء بها من كل جانب على وجه انتقضت به العادة وخرج عن المعتاد. وهذه آية عظيمة، وبيّنة جليلة، وواضحة جسيمة.
وقد نطق القرآن بها فقال حاكيا عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهابًا رَصَدًا}.
فإن قيل ومن أين لكم هذا وقد سبقكم زمانه ونحن لا نؤمن بكتابكم ولا نقرّ بنبيّكم؟ وخبرونا عن طريق معرفتكم بذلك هل هو ضرورة أم اكتساب؟
قيل له: العلم بذلك طريقه الاستدلال والاكتساب، ويتهيأ لكل عاقل من كافر ومؤمن أن يعرف ذلك ويجب عليه أن يعرف، وسبيله سهلة قريبة، فمن نظر واستدل عرف، ومن لم يستدل لم يعرف.
والدليل على أن ذلك قد كان، أن رسول الله ﷺ قد تلا هذه السورة واحتج بذلك على العدوّ والوليّ، فعلمنا أنه أمر قد كان ووقع، فإن الحجة به قد قامت وظهرت وقهرت، لأنه لا يجوز أن يقصد عاقل إلى قوم يدعوهم إلى صدقه ونبوته ويحرص في أجابتهم إلى طاعته والانقياد له ويريد منهم ذلك ثم يقول: من علامة نبوتي ودلائل رسالتي أن النجوم لم تكن تنقض وأنها الآن قد انتقضت وهو يعلم أنهم يعلمون أن هذا أمر لا أصل له وأنه قد كذب فيما ادعى. هذا لا يقع من عاقل كائنا من كان، فكيف بمن يدعي النبوة، وعقله العقل المعروف الراجح الموصوف، ثم يقصد إلى أمر ظاهر مكشوف في السماء البارزة للخلق أجمعين المشاهدة للأولين والآخرين، سيما والعرب أعلم الناس بالكواكب والأنواء ومطالعها وسيرها والثابت الراكد الذي لا يغيب منها. وقد كتب الناس عنهم علمهم بذلك، ودونوا منه شيئا كثيرا، وأكثرهم مأواه تحت السماء، هي تسقفهم، ورؤيتهم لها ولكواكبها أمر دائم متصل لا يفتر، وقد سبقوا رسول الله ﷺ في السن والزمان والعلم بالكواكب، فكيف يقدم على قوم هذه سبيلهم فيدعي هذه الدعوى وهم من العداوة له والطلب لعثراته وزلاته ولأمر ينفرون به أصحابه عنه على حال لا مزيد عليها؟ فأين كانوا عن هذا الكذب الظاهر الذي لا ينفع معه صدق يقدمه ولا صدق يكون بعده؟ ومن هذه سبيله لا يكون لها رئاسة، ولا يتبعه احد، ولا يكون له قدر. وقد يتبعه قوم عقلاء ألبّاء فضلاء لأنه نبي ولأنه صادق، وطاعة لله وتقربا إلى الله، واستبدلوا باتباعه بالعز ذلا وبالراحة كدا ابتغاء مرضات الله، وتكلفوا في إجابته بتلك الشدائد التي قد قدمنا شرحها، فكيف أقاموا عليه وهو يكذب هذا الكذب الظاهر. وهناك من أعدائه قريش والعرب واليهود والنصارى وكيدهم عظيم، كيف لم يوافقوا على هذا ويجمعوا الناس عليه؟ وكيف لم يقولوا لأصحابه وهم إخوانهم وأولادهم ومنهم: يا هؤلاء، فارقتم أديانكم، وجهلتم أسلافكم، وأكفرتم آباءكم وشهدتم عليهم بالفضيحة، طاعة لرجل فرض عليكم مجاهدة الأمم، وبذل دمائكم وأموالكم في ذلك، وألزمكم التكاليف الشديدة من شريعته، وهو يكذب هذا الكذب الظاهر البارز للعقول والأبصار؟ وفي تركهم لذلك دليل على صحة هذه المعجزة.
وأعجب الأمور أنه يتلو عليهم قول الله جل وعز: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي لا يجدوا بك كذابا ولا يجدون في قولك كذبا وإن حرصوا على ذلك واستفرغوا وسعهم، ولو قدروا أن يجدوا له عثرة أو ذلة أو أدنى شبهة لما واثبه قبل الناس كلهم إلا أصحابه ولا قبله إلا خاصته وثقاته وبطانته.
فإن قيل: فلعلهم لم يفعلوا هذا به وإن وقفوا على كذبه لئلا يفضحوا أنفسهم ويشمتوا عدوهم، ولئلا يقول الناس لهم خدعتم فامسكوا لهذا.
قيل له: هذا لا يسأل عنه مميز، لأنه إن كان قد كذب فأقاموا عليه وقد عرفوا كذبه، فقد تعجلوا الفضيحة بإقامتهم عليه وأشمتوا بنفوسهم الاعداء، [وخسروا الدنيا والآخرة ].
وجواب آخر: وهو أن هؤلاء الذين اتبعوا الاعلام التي كانت معه من القرآن وغيره وقد شهدوا على أنفسهم وآبائهم بأنهم كانوا في ضلال وباطل وفضائح وما استنكفوا من الرجوع عن ذلك، فلو حسوا بأدنى شبهة فضلا عن كذب لبادروا ورجعوا وكان ذلك أروح لهم وأخف عليهم وأبين في عذرهم وقيام حجتهم، فإن مراجعة الحق أولى من التمادي في الباطل.
وجواب آخر: وهو أنهم لو وقفوا على أمر يرتاب به لسألوه عنه وعنف بعضهم بعضا في الإقامة عليه وفي ترك قتله والبراءة منه، ولأذاعوه وأظهروه وإن ضرهم وغمهم وساءهم، فإن الجماعة الكبيرة لا يجوز أن تكتم ما قد عرفت وإن ساءهم وإن ضرّهم وإن ذهب برئاستهم وحطّ من أقدارهم. فاعرف هذا فإنه أصل كبير. هذا فيما يقفون عليه خاصة، فكيف بأمر الشهب وهو شيء يعرفه الناس عامة من وليّ وعدوّ، فتعلم أنها آية عظيمة وحجة ظاهرة.
وانظر كيف أوردها وأدلّ على العدوّ والولي واستطال بها فقال: {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا. وأنه تعالى جدّ ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا. وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا، وأنا ظننا أن لن تقول الانس والجن على الله كذبا. وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا. وأنهم ظنوّا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا. وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا. وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا. وأنا لا ندري أشرّ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} فانظر كيف ذكر هولها وعظمتها وارتياع الجن والإنس لحدوثها، وأنهم لا يدرون لأي شيء حدثت وهل حدوث ذلك لعذاب أهل الأرض بذنوبهم أم لموعظتهم وإرشادهم.
وقد جاء مع هذا أيضا أن الكواكب لما انتقضت أخذ الناس في الخروج من أموالهم، وقالوا: ما حدث هذا إلا لفناء الدنيا وانقضاء مدتها، فقال عبد نائلة بن عمر والثقفي لأهل ثقيف: أمهلوا فإن إفادة المال بعد اتلافه تشق وتصعب، فانظروا إلى الكوكب المنقضة، فإن كانت من الكواكب المعروفة المتقدمة فهو لفناء الدنيا، وإن كانت كواكب الآن حدثت والآن خلقت فهو لأمر. فحدثت إحدى الليالي، فنظروا فإذا هي كواكب الآن حدثت، فأمسكوا عن أموالهم وترقبوا ما يأتيهم من الأخبار، فإذا قد آتاهم أن رجلا من قريش بمكة قد زعم أن الله أرسله إلى خلقه لينذرهم، فقالوا: لعل هذا الانقضاض شاهد لهذا المنذر، وتبركوا برأي هذا الرجل المشير وصار مفخرا له ولولده من بعده، حتى يقولوا لثقيف أبونا الذي حبس عليكم أموالكم.
فإن قيل: أوليس قد ذكر أن في شعر الشراء الأولين ذكرا لانقضاض الكواكب، وفي كتب العجم ذكر لذلك.
قيل له: إن أبا علي وابنه أبا هاشم وأصحابهما قالوا: ما ننكر أن يكون قد كان قبل مبعث النبي شيء من انقضاض الكواكب، ولكنا قد علمنا بالدليل الذي قدمنا أنه قد حدث عند مبعث النبي شيء انتقضت به العادة وامتلأت السماء به، فتلك الزيادة على الأمر المعتاد هي الحجة؛ فصار ذلك بمنزلة الطوفان، فإن الماء قد كان قبل نوح عليه السلام يزيد زيادات كثيرة معروفة معتادة، فلما جاء نوح صلى الله عليه زاد الماء زيادة انتقضت به العادة وخرج عن الأمر المعتاد، فكانت تلك الزيادة هي الآية وهي الحجة. فليس في شعر الشعراء ولا فيما وجد في كتب القدماء مطعن في هذه الدلالة ولا تكذيب لهذا الخبر. وهذا جواب سديد شاف كاف، لأن النبي ﷺ إنما احتج بامتلاء السماء بالشهب لا بالأمر المعتاد، هذا لا يفعله عاقل ولا يقع منه كائنا من كان، فكيف بمن يدعى الصدق والنبوة ويريد من الناس كلهم تصديقه واتباعه، فلا يجوز أن يحتج عليهم بأمر قد عرفوه قبل أن يخلق ويخلق آباؤه فيقول: هذا من آياتي ومن أجلي حدث وبسبب تصديقي خلق، فيكون بمنزلة من قال: من الدلالة على نبوتي أن الشمس ما كانت تطلع عليكم وأنها الآن قد صارت تطلع.
فأما أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ رحمه الله، فإنه يذكر في كتاب "الحيوان" انقضاض الكواكب، وذكر ما فيه من الآية والحجة في النبوة، وذكر الشعر الذي ذكر في هذا المعنى لهؤلاء الشعراء، فقال هو وإبراهيم النظّام وغيرهما: إنه ليس في هذا الشعر أمر بيّن قد أراد به صاحبه انقضاض الكواكب ولكنه أمر محتمل. وذكروا في بعض هذا الشعر أنه مولد وقد قيل في الإسلام، قاله بعض الزنادقة ونسبه إلى الأوائل، وذكروا في بعضه أن قائله وإن كان كافرا جاهليا فقد أدرك المبعث وأوائل المبعث. فأبطلوا أن يكون في هذا متعلق أو يحتاج فيه إلى جواب.
واستبعد أبو عثمان أن يكون هذا أمر قد كان ظاهرا قبل الإسلام، قال: وإلا فأين كان القدماء من الشعراء، كامرئ القيس ومن تقدمه، وكنانة وزهير وشعراء القبائل القديمة، كيف لم يذكروا هذا في أشعارهم وهو أمر بارز لأبصارهم؟ وهم قد شبهوا بالحيات والعقارب والجعلان والخنافس والبراغيث وبالقمل وبكل شخص وبكل ما دب ودرج. وليس ببعيد ما قاله.
فأما جواب أبي علي وأصحابه: فما نبالي ولو كان الشعر ملء الدنيا للأوائل، فما له في هذا تأثير.
قال أبو عثمان: وأما ما يدّعى من ذكر الشهب في كتب العجم الأوائل فهو أمر لا سبيل إلى العلم به لأنها منقولة في الإسلام، وإنما نقلها الواحد بعد الواحد من أعداء الإسلام ومن هو أشد الناس حرصا على تكذيب النبي ﷺ وتشكيك المسلمين، فهو لو كان عدلا مسلما ما علم ذلك بخبره، فكيف وحاله ما وصفنا؟ وبعد فمن أين لنا أنه عليم باللغتين وبقصد واضعي الكتب حتى يوثق بنقله وبأخباره؟
وهو كما قال أبو عثمان، فإن هذه الكتب التي وضعت في الإسلام، ونسب بعضها إلى الهند، وبعضها إلى الروم، وبعضها إلى اليونانية، وبعضها إلى القبط، وبعضها إلى النبط، وبعضها إلى الفرس، فإنما وضعها الواحد بعد الواحد، وزعم أنه وجده لأهل تلك اللغة، وزعم أنه عالم بتلك اللغة فنقله، فهو أمر لا يقع به علم وليس معنا أكثر من دعوى هذا الواضع، فبمقدار ما يكتبه ويترجمه ويلقيه إلى الوراقين فيدور في أيدي الناس فيقول من لا علم له ولا عادة له بمجالسة المعتزلة ومن أخذ عنهم ومن لا سبيل له إلى طرق أهل العلم: هذا من كتب الأوائل؛ فاعرف هذا، فإنه باب كبير وكل أحد أمس الحاجة إليه. فإن الجهل وترك التأمل غالب على الناس، وأعداء الإسلام كثير، وهم بينهم يكيدونهم بأنواع الكيد من حيث لا يشعرون.
فمن ذلك خطب ورسائل ووصايا وحكم وضعت في أيام بني العباس ونسبت إلى أمم العجم، لا سبيل إلى العلم بما ادعوا واضعوها من أنهم وجدوها للأوائل، وإنما كان غرضه شغل الناس عن القرآن وعن عهود رسول الله ﷺ ووصايا السلف بعده، ولعله إنما أخذ ذلك وحصّل معانيه من القرآن ومن حديث رسول الله ﷺ، وغيّر اللفظ ونسبه إلى أمم العجم والعلماء. وأهل التحصيل يتهمون عبد الله بن المقفع فيما وضعه من "كليلة ودمنة" وكتاب "اليتيمة"، وما زعم أنه وجده للفرس، فقالوا: ما معنا في هذا أكثر من الدعوى، وهو رجل بليغ اللسان بليغ العلم، فارسي الأصل، قد جرى من المجوسية على عرق، فقد كان فيها طويلا، وهو كثير الرواية لآداب العرب وعلومها، متعصب لقومه، قد أسلم بعد الكبر، وكان متهما في دينه.
وهكذا قالوا في أبان بن عبد الحميد اللاحقي.
وقد وضع سهل بن هارون بن رهبونة الكاتب الفارسي صاحب المأمون، كتاب "ثغرة وثعلة"، يعارض به كتاب كليلة ودمنة، وجعله على ألسن الطير والبهائم، وذكر فيه حكم العرب كما صنع ابن المقفع في كليلة ودمنة عن هذا الذي سماه برزوي الطبيب، فقدمه في صدر الكتاب كأنه ما أراد إلا تشكيك أهل الديانات وأتباع الأنبياء صلى الله عليهم في أديانهم.
وقد دار في أيدى قوم من المنجمين كتاب زعموا أنهم وجدوه لجابان منجّم كسرى ملك فارس، وقد أخبر فيه بزعمهم أن نبوّة تحدث في العرب يكون مدة صاحبها كذا وكذا سنة. فذكر أيام رسول الله ﷺ، ثم أيام أبي بكر الصديق، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم، ولم يذكر أسماءهم، وفصل من أحوالهم وسيرهم وأعمالهم شيئا كثيرا. فافتتن به المنجمون حتى ظنوا أن صنعتهم حق، وأنها تؤدي إلى علم، وفتنوا بذلك خلقا كثيرا مما لا يدري من الأمراء والوزراء وطبقات الكتاب، وجعلوا ذلك شاهدا لصنعة النجوم ونفقوها، فجرى ذلك بحضرة رجل من علماء المعتزلة فقال للمنجم الذي احتج بذلك في صحة صنعة النجوم وهو إسحق بن فليت اليهودي أحد رؤساء المنجمين في زمانه ببغداد، وكان يتقدم عند كثير منهم على رؤساء منجمي زمانه ومن كان في عصره كابن زكريا النوبختي وكابن فرخان شاه النصراني وغلام زحل: من أين لك يا أبا الطيب أن هذا الكتاب وضعه جانان لكسرى؟ فقال هذا مشهور دائر بين المنجمين لا يشكون فيه، فقال له: عن هذا وصحته سألتك، هل هو أكثر من أنك وجدت كتابا مكتوبا منسوبا إلى جانان منجم كسرى؟ من أين أن هذا كما كتبه هذا الكاتب وأخبر به هذا المخبر وما معنا وما معكم أكثر من الدعوى؟ وإنما هذا رجل وجد كتابه في الإسلام وفي أيام بني العباس وفي زمان الديلم منها، وادعى فيه أنه قديم وجده فارسيا فنقله، وإنما وضعه بعد أن مضت أيام رسول الله ﷺ وأيام خلفائه وأيام بني أمية والصدر الكبير من بني العباس وعرف ذلك وتيقّنه، فوضع الكتاب بعد ذلك، وحذف أسماء القوم ليظن أنه قد وضعه قبل أن يخلقهم الله، فيدعي من يقرأ كتابه ممن لا علم له له الصدق والحذق، ولصنعة النجوم الصحة. وإلا فأرنا إن كان قد أخبر فيه عمّن يأتي من الخلفاء أو غيرهم، أو ذكر أيامهم وأعمارهم على التحقيق كما ذكرها عمن تقدم، حتى يكون لك في ذلك شبهة، فتحير ابن فليت من هذا بعد الخطاب الطويل، ولان بعد شدته، وسكن بعد نزوته، وقال: لعل الأمر أن يكون كما قلت، فقال له المعتزلي: ما أسرع ما رجعت عن تلك الدعاوى، فقال: أنا أخبرك، قد قرأت أربع نسخ من هذا الكتاب المنسوب إلى هذا الرجل، وكلها مختلفة، وقد ذكر فيها أن البيت يسقط حجّه وتعظيمه، وأنا أتوقع كل سنة وأسأل عن الحاجّ فإذا هو لا ينقطع حجّه. ولم يكن بنا قول ابن فليت ولا استدلاله فإنه ليس بشيء قوي، ويمكن الخصم أن يدّعي أن ذا سيكون، أو يشغب بغير هذا، ولكن الذي ذكره واضع الكتاب ليس في صنعة النجوم شيء منه ومن الإصابة على طريق التفصيل، وإنما تتفق لهم الإصابات عن غير علم كما تتفق للعّابين الخاتم والزوج والفرد، وللمتفائلين برؤية الثعلب، وللمتطيرين بالغراب والبوم، وما يتفق لهؤلاء من الإصابة أكثر وأحسن وأسرع لحذاق منجمي الملوك، وهذا يكفيك في بطلان صنعة النجوم.
ولم نكن في الرد عليهم، ولكن عرض هذا فذكرناه، وستجد في الرد عليهم أكثر من هذا. ولكن ذكر الكتاب المنسوب إلى جانان وأمثاله، يضعه أعداء الأنبياء ليشككوا في أخبارهم، وليجعلوا صوابهم جاريا مجرى إصابة المنجمين، ولينفقوا صنعة النجوم، وليرغبوا الناس في الفزع إليهم وفي التعويل عليهم ويستأكلوهم، ولتتم حيلتهم عليهم. وهذا الجنس يسميه المنجمون الهاذور، وأنت تجد هذا كثيرا، فيقولون: قال ما شاء الله ابن أبري اليهودي في القرانات كذا وكذا وقد صح، وقال الحسن بن سهل والفضل للمأمون: كذا وكذا قبل أن يكون فكان كذلك.
وربما وقع لبعض المؤرخين والأخباريين ممن لا علم له بصنعة الكلام مثل هذه الكتب والأخبار فيذكرها ويضمنها كتبه، فيقرؤها من لا علم له ولا سأل العلماء عنها فيتحير ويضل. وقد صنع الناس في الإسلام مثل هذا، فقصدوا إلى أمور قد كانت ووقعت فعملوا فيها أشعارا ونسبوها إلى قوم قد تقدموا وادعوا أنهم قد عرفوها قبل أن تكون، كما صنعوا في قصيدة نسبوها إلى رجل يقال له ابن أبي العقب ذكر فيها دولة بني العباس وكيف ابتداؤها، وذكر جماعة من خلفائهم وأين ماتوا وأين قبورهم، وادعوا أنه أخذ هذا عن الأئمة وعن الأوصياء. وهو أمر لا أصل له وكذب لا يشك فيه، وإنما سبيله ما ذكرنا، فاعرف ذلك فإنه باب كبير، والمخرق به والمشاكل به كثير، وللجهل به ضلت طوائف من هذه الأمة ممن خالف المعتزلة من طوائف الشيع وغيرهم.
وهذه سبيل الكتب المنسوبة إلى اليونانية كأفلاطن وأرسطاطالس وغيرهم، فإنها نقلت في الإسلام، وناقلوها ومدرسوها إنما هم الواحد بعد الواحد الذين لا يعلم بأخبار جماعتهم شيء، وهم مع هذا أعداء رسول الله ﷺ وأشد الناس حرصا على التشكيك في الإسلام وصدّ أهله عنه، وهم يتسترون بالنصرانية والنصارى لا يرضونهم ويشهدون عليهم بالإلحاد وتعطيل الشرائع والطعن في الربوبية وفي جميع النبوات، وقد حرموهم ونهوا عنهم، كقسطا بن آقا، وحنين بن إسحق وابنه إسحق، وقويرى، ومتى بن يونس، ويحيى بن عدي. وهؤلاء مع قلتهم ما جمعهم زمان واحد.
وكان يوحنا القس مدرس أقليدس والمجسطي وغيره يقول: قد حذف الذين نقلوا كتب هؤلاء كثيرا من ضلالهم وفاحش غلطهم عصبية لهم وإبقاء عليهم، وأعاروهم وأعطوهم ما ليس لهم من معاني الإسلاميين وبيانهم. والعدو إذا كان متدينا لم يؤمن حنقه، فكيف بمن لا يعتقد معادا، ولا يرجو حسابا، ولا يخاف عقابا.
ثم عدت إلى ما كتب عليه من ذكر الشهب.
وقد تصفح العلماء الكتاب المعروف بالعلوي المنسوب إلى أرسطالس، فإنه نقله بعض هؤلاء لبعض الخلفاء من بني العباس ليتحفه به، فما وجدوا فيه ذكرا مصرحا لانقضاض الكواكب، وإنما هو قول محتمل يتأوله بعضهم ويدعي أنه أراد به ذلك، وهو بأنه شيء يثور من الأرض ويرقى إلى الجو أشبه.
وقد كان هارون الرشيد ضغط الروم وحاصرهم في بلادهم وأذلهم إلى أن أجابوا إلى أداء الجزية واتقوه بها فأخذها منهم، وكتب إليهم كتابا بيّن لهم توحيد الله وانفراده بالقدم وصدق نبيّه ﷺ، وذكر فيه قطعة كافية حسنة من أعلام النبوة وأنفذه إلى ملك الروم مع رجل من المعتزلة إما معمّر أو غيره، والكتاب إنشاء أبي الربيع محمد بن الليث الكاتب القرشي، وهو موجود في رسائل تاج الاصفهاني لا أشك، وقد حدثني بعض أهل العلم أنه مذكور في "المنثور والمنظوم" لابن أبي طاهر. وقد ذكر في هذا الكتاب آية الشهب وانقضاض الكواكب واستوفى الحجة فيها، ولم ينفذ هذا الكتاب إلى ملك الروم إلا بعد تصفح كتب الأعاجم واستقصاء كل ما يمكن أن يقال، لتعلم صحة هذه الآية وخوض العلماء فيها قديما.
وقد قال أبو علي رحمه الله وأصحابه كما قد ذكرنا عنهم ما لا يضرنا ولو ذكر الأوائل كلهم الحجة في الزيادة الناقضة للعادة وامتلأ السماء به عند مبعثه. وقد جاء في الأثر أن كوكبا انقض فقال النبي ﷺ: ما كنتم تقولون في هذا في الجاهلية؟ فقال أصحاب أبي علي لأصحاب أبي عثمان: هذا يدل على أنه قد كان لانقضاض الكواكب أثر ثم زاد في المبعث زيادة انتقضت العادة به، فقال أصحاب أبي عثمان: إنما أراد النبي ﷺ بقوله لهم: ما كنتم تقولون في ذلك في الجاهلية، يريد قبل إسلامهم وقبل تصديقهم له. وعلى كلا القولين فالآية ثابتة والحجة قائمة، وليس في هذا خلاف في كونها ووقوعها.
وأما أرسطالس هذا فلا معول على ما يقوله. وإن كان أصحابه قد صدقوا عليه فهو غير كامل العقل، لأنهم حكوا عنه أن هذه الاجسام العلوية من الشمس والقمر والكواكب لا يجوز أن تنقسم ولا تتجزأ ولا تتبعض، وأن الشمس ليست حارة ومحال أن تكون حارة، وأن هذه الأجسام محال أن تكون حارة أو باردة، أو رطبة أو يابسة، أو ثقيلة أو خفيفة، أو لينة أو خشنة، ومحال أن تكون هذه الكواكب أكثر مما هي بكوكب واحد، أو ينقص منها كوكب واحد، ومحال أن تكون الشمس أكثر مما هي أو اقل، ومحال أن يكون لها لون أو ريح أو طعم.
وهذا الذي أحاله هذا الرجل جوازه قائم في العقل، يعلمه كل عاقل من عالم وجاهل، ونظار وغير نظار. فإن كان عاقلا وبلغ به المحل واللجاج إلى أن ركب هذه المجاحدة والمكابرة فيما هو في فطر العقول كلها وفي أوائلها، فمن يعده أو يعتد بقوله أو يذكره فيمن يرد عليه ويتتبع عوراته وهو عورة كله من أوله إلى آخره؟ ولو لم يكن له من الجهل والخروج من العقل إلا هذا لكفاه وأغناه، بل لو قسمت هذه الجهالة على جميع أهل الأرض، من أولهم إلى آخرهم لحطت منازلهم وأسقطت اقدارهم حتى لا يعدوا فيمن ينقض عليه ويرد قوله. كيف، وله من الجهالات المستخفة المسقطة غير هذا مما إن طلبته وجدته ووقفت عليه.
ومن جهله أنه اعتقد أن السماء والشمس والقمر والكواكب عاقلة مميزة سميعة بصيرة ضارة نافعة تحيي وتميت، وأن كل حادثة في هذا العالم من فعلها وتأثيرها. والعلم بأن السماء والشمس والقمر والنجوم جمادات وموات كالعلم بأن شعاع الشمس وشعاع القمر وضوء الكواكب والبرق والغيم والريح والمطر والبحر والماء والهواء والأرض والنار جماد موات. ولا فرق بين من ادعى في الأرض والنار والماء والهواء والنبات ذلك أو ادعاه في الكواكب، بل كانت دعواه في الطعام والشراب والهواء وأشباه ذلك أنها حية قادرة نافعة ضارة تحيي وتميت أجدر وأدخل في الشغب ممن ادعى ذلك في الشمس والقمر والسماء والكواكب، فيقول: وجدت الهواء حيث كان جاز أن يكون معه الحيوان، وحيث لا يكون لا يكاد يوجد حيوان، وإذا ركد مرض الأصحاء ونهك المرضى وتعفن عنده الثمار والطعام والنبات، فعلمت أنه حيّ سميع بصير قادر يحيي ويميت. ثم يصير إلى الماء فيقول: عند وجوده يوجد الحيوان والنبات وعند عدمه يتلف الحيوان والنبات، فعلمت أنه حي ناطق سميع بصير نافع ضارّ. ثم يصير إلى الأرض ومرافقها فيذكر منها مثل ذلك، لما فيها من النبات والمعادن. وكذلك في النار قال: ألا ترى أنها تعقد شيئا كالبيض وما أشبهه، وتحل شيئا كالنحاس والرصاص والذهب والفضة وما أشبه ذلك، وتبيض شيئا وتسود شيئا، فعلمت أن هذه الأشياء كلها حية ناطقة سميعة بصيرة فعالة.
وهذا قول ماني، حتى قال في أجسام العالم كلها وفي كل جزء منها، حتى قال ذلك في الحديد والحجارة والحطب. والمنانية تقول في الأصوات التي تسمع عند قلي السمسم والباذنجان وأصوات غليان القدور وأصوات الحطب عند التشقيق؛ هذا كله صراخ وضجيج منها، لما تجره من الآلام. والمنانية تزعم أن الفلاسفة عنها أخذت هذه المذاهب.
وإنما ذكرت لك بهذا المكان لتعرف مقدار عقول الزنادقة والملحدة. ولولا فتنة قوم من الرؤساء والكتاب والوزراء بهم لما ذكرناهم، ولكن هؤلاء لغافلتهم وسوء تمييزهم قد اغتروا بهم لما ذكرناهم. وصارت هذه الباطنية تدعو إليهم، وتضع الروايات الكاذبة عن أهل البيت فيهم، فوجب أن نذكرهم بما فيهم ويصدق عليهم، ليعرفهم الناس.
دعوة رسول الله على مضر وإمساك القطر عنهم
وباب آخر
ومن آياته ﷺ أنهم لما كذبوه وآذوه في نفسه وأصحابه دعا عليهم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، وابعث عليهم سنيّ كسنيّ يوسف» ﷺ.
فأمسك عنهم القطر حتى جفّ النبات والشجر وماتت الماشية، وحتى اشتووا القد وأكلوا العلهر، وتفرقوا في البلاد لشدة الحال. فوفد حاجب بن زرّارة إلى كسرى فشكا إليه ما نالهم، وسأله أن يأذن له في الرعي بالسواد ورهنه قوسه، وهي قصة معروفة نزل بها القرآن وجرى فيها الخوض، وهو قوله عز وجل: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ}. والدخان الجدب، ثم سمي دخانا لأن الغبار يرتفع في عام الجدب فيكون كأنه دخان، ولذلك سميت سنة الجدب غبراء لارتفاع الغبار فيها، وهذا شيء قد كان ومضى، ولا يجوز أن يكون هذا مما لم يأت، لأنه عز وجل يقول: {يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ}. ثم ورد على نسق {إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} يعني يوم بدر، وهذا كله يدل على أن الدخان قد انقضى ومضى، وأنه بدعائه، لأن العذاب في الآخرة لا يجوز أن ينكشف ولا يخف. وقد قال في هذا: {إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ} والعود إلى المعاصي في الآخرة لا يقع أيضا. وكان انكشاف العذاب عنهم بدعائه أيضا، فأتاهم الغيث وكثر، ثم عادوا إلى طغيانهم.
قال أصحاب عبد الله بن مسعود: كنا عند عبد الله جلوسا وهو مضطجع بيننا، فأتى رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن إن قاصّا عند أبواب كندة -يعني الكوفة- يقصّ، يزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام. فقال عبد الله -وجلس وهو غضبان-: أيها الناس اتقوا الله، ومن علم شيئا فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل الله أعلم، فإن الله قال لنبيه ﷺ: (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)، إن النبي ﷺ لما رأى من الناس إدبارا قال: اللهم سبعا كسنيّ يوسف صلى الله عليه، فأخذتهم سنة حصدت كل شيء حتى أكلوا الجلود المنتنة والجيف، وينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخانا من الجوع، فأتاه أبو سفيان بن حرب، فقال: يا محمد إنك جئت تأمر بالطاعة وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم. قال ابن مسعود: فكانت الدخان سنين كسنيّ يوسف عليه السلام فكشف عنهم، أما ترونه قال: (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ) بعد أن قال له: {فارتقب} فارتقب ﷺ ووقع، ثم دعا فكشف. والبطشة الكبرى يوم بدر. وقد مضت آية الروم وآية الدخان والبطشة واللزام.
باب
ومن آياته بمكة أنه ﷺ لما جمعهم ووعظهم ودعاهم إلى اتباعه ومفارقة ما هم عليه من ديانات آبائهم ردّوا قوله ومشى بعضهم إلى بعض وقالوا: (امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا) وتوعدوه بكثرتهم وعزهم وأموالهم، ووثقوا بذلك، وغرهم ما رأوا من ضعف رسول الله ﷺ ووحدته. وتوعدهم رسول الله وهو في تلك الحال، فأنزل الله: (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) فكان كما أخبر وكانت العقبى له.
فتأمل الأمر في ذلك تجده عظيما لأنه توعدهم بالحرب قبل الحرب وقبل الجماعة وفي حال الضعف، وهو معهم وفي أسرهم وفي قبضتهم، فبعثهم على قتله واستئصاله، وهيّجهم على بذل المجهود واستفراغ الوسع في مكارهه. وهذا لا يقع من عاقل إلا أن يكون واثقا بالله، ساكنا إلى تنزيله ووحيه.
واذا وفّيت النظر حقه لم تجد لرسول الله ﷺ في إخوانه من النبّيين والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين نظيرا في الضعف والوحدة، ومن خالف قومه تلك المخالفة وهاجهم وأسخطهم ذلك الإسخاط، وأخبرهم بما سيكون من قوته وغلبة الجبابرة من الأمم قبل أن يكون ذلك أو يكون له أمارة تقتضي، فصارت الأمور في القوة والظهور إلى ما قال، فابتدأ ابتداء الشمس وامتدّ امتداد النهار.
ما كان بمكة حين تلا الرسول عليهم قوله تعالى {اقتربت الساعة}
باب
مما كان بمكة، حين تلا عليهم سورة {اقتربت الساعة} وقص عليهم أمة أمة من الذين كذبوا الرسل، وما نزل بهم من النكال والبوار، إلى أن انتهى إلى قوله: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ. أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فكان إدلالهم بكثرتهم وكثرة من يساعدهم على عداوته ومحاربته، وأنه إن صارت له جماعة فجموعهم أكثر، والأموال والسلاح والكراع والعدة معهم لا معه، فكان ظاهر الرأي ومقتضى الحزم أن يكون لهم لا له، إلا أن يكون من الله عز وجل مالك القلوب وناقض العادات لأنبيائه، فكان كما قال، وكانت العقبى له.
ما نزل بمكة من قوله تعالى {فاستمسك بالذي أوحي إليك}
باب آخر
مما نزل بمكة قوله: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} أي شرف ونبل وجلالة، فهو عز ومعجز. ثم قال: {وسوف تسألون} أي عن شكر هذه النعمة، فكان كما أخبر وكما فسر. فإن القرآن بانت آياته، وظهرت بيناته، وقامت حجته، وكملت النعمة على رسول الله ﷺ وعلى صحابته به، فشرفوا وعزوا بمكانه، وذلك من الأمور البينة الواضحة. فانك تجد الفقهاء والعلماء قد أجلّوا القرآن ومن قرأ القرآن ومن عرف علوم القرآن، ولهذا قال عز وجل لقريش في ابتداء المبعث: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} يريد القرآن، وأنه عز ونبل وشرف، وستشرف به أمم ممن تمسك به ودعا إليه، وقد فاتكم ذلك لإعراضكم، فكان ذلك كما أخبر.
وفي هذا المعنى قوله عز وجل {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى} فتأمل ما في هذا، فإنه ﷺ ما عرف العزّ بالأبوين كما يعرف من رباه أبواه، فإن أباه مات وهو حمل، وماتت أمه وهو رضيع، فآواه الله أكرم إيواء، فلما كمل آتاه النبوة وعصمه وصانه، وأخبره أن الآخرة خير له من الأولى، فإنّ آخر أمره في عاجل الدنيا في النصرة والعزّ، وثواب الآخرة خير من الأولى؛ {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى}، أي ذاهبا عن النبوة لا تدري ما هي ولا تعرف القرآن.
وفي مثل هذا المعنى قوله عز وجل: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ. وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) فإن ذكره ارتفع بالصدق والوفاء وقيام الحجة، فما وجد له أعداؤه كذبة ولا ذلة ولا هفوة مع حرصهم على ذلك، وما بارت له حجة، ولا زلّت له قدم، ولا أسكته خصم، مع كثرة الخصوم له، وطلب العلل وطول المجادلة.
من أعلامه قوله عز وجل {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن}
باب آخر
من أعلامه، وهو قوله عز وجل {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} وفي هذا إخبار عن غيوب كثيرة، لأنه قال لكل واحد من الإنس والجن: إنك لا تأتي بمثل هذا القرآن ولا أحد يأتي بمثله في كل حال منفردين ولا مجتمعين، فما أتوا به مع حاجتهم إلى ذلك وشدة حرصهم عليه. أفمن هذا تعجب أم من إقدامه على الإخبار بذلك وهو لا يعرف العرب كلها ولا يحصى قبائلها ورجالها ونساءها، والفصاحة والبلاغة مثبوتة في رجالها ونسائها وعبيدها وإمائها وعقلائها ومجانينها، وقد علم ﷺ أنهم في اللغة والبلاغة قبله، وهو منهم تعلم، وهو عاقل. فلولا أنه قد تيقن أنهم لا يأتون بذلك لما أقدم على الإخبار بذلك، سيما والذي ادّعاه أمر عظيم وخطب جسيم، وهو النبوة والصدق والعصمة ونفاذ أمره في النفوس والأموال ووجوب طاعته على كل أحد إلى أن تقوم الساعة، وحجته في ذلك كله هذا القرآن. وهذه من الآيات التي نزلت بمكة، ولو نزلت بالمدينة أو أين نزلت لكانت الحجة بذلك قائمة لا تأثير للأماكن في ذلك ولا للأزمنة. وإنما نذكر الأماكن لأن الأعداء لما أفلسوا وافتضحوا، أخذوا في تشكيك الملوك والمترفين ومن يحب الرخص ومن لم ينظر ويتأمل ويسمع من العلماء أن هذا القول إنما قاله في آخر أمره وفي آخر عمره.
واعلم أن القرآن حجة من ثلاثة أوجه: فكل سورة منه حجة من طريق الفصاحة والبلاغة، وهو حجة لما فيه من الإخبار بالغيوب، وهو حجة لما فيه من التنبيه على دلائل العقول، فإن ذلك جاء على طريقة انتقضت به العادة. وقد مرّ بك طرف منه في المصباح، ولعل أكثر منه أن يرد عليك، فإنما أنت في ذكر الإخبار بالغيوب وما يجري مجراها، ثم نصير إلى البابين الآخرين وإلى مسائل الخصوم في ذلك والأجوبة عنه إن شاء الله.
من دلائله وإعلامه ﷺ، وهو إخباره عما في الكتب المنزلة وما تضمنته من خلق آدم صلى الله عليه، وما كان له مع الملائكة صلوات الله عليهم، ومع ولده، ومع إبليس، وما كان لنوح مع قومه، ثم إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، والأسباط، وعيسى، وأيوب، وموسى، وهارون، وغيرهم من النبيين صلوات الله عليهم أجمعين. وهو ما قرأ تلك الكتب ولا عرف ما فيها ولا اختلف إلى أهلها ولا اختلفوا إليه. فتعلم أنه ما علم ذلك إلا بوحي الله إليه وإطلاعه عليه، وهي أخبار كثيرة لا يقع الصدق فيها إلا بالوحي من الله عز وجل.
فإن قيل: أين لكم أنه ما قرأ الكتب ولا كان يختلف إلى أهلها ولا اختلفوا إليه، وأنتم ما أدركتم زمانه، وقد قال له عدوه: {وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} وقالوا: {إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}؟
قلنا: ما ادّعينا أن خصومه ما ادّعوا ذلك عليه، وليس دعواهم حجة عليه. بل لما انقطعوا وقامت حجته ادّعوا هذا عليه. ونحن وإن لم نكن في زمانه ﷺ، فقد علمنا أنه ما قرأ هذه الكتب ولا اكتتبها ولا اختلف إلى أهلها، ولا اختلفوا إليه، ولا تلقى ذلك عن أحد من الناس. لأنه ما من أحد يطلب فنا من الفنون إلا وله في ذلك تارات وطبقات؛ فأول ذلك أن يكون طالبا وسائلا عمن عنده هذا الأدب وهذا الفن من العلم والأدب، ثم يختلف إلى أهله ويصحبهم، فيكون تارة مبتدئا، ثم متوسطا ثم ماهرا متقدما. وكل هذه الأحوال معروفة معلومة لأهل زمانه، لا يجوز أن يذهب عليهم، ولا يجوز أن يخفى ولا يكتم عن أحد كائنا من كان. فلو كان قد تعاطاه ﷺ ثم اكتتم عليه، لكان ذلك من أكبر آياته وأعظم معجزاته، فإذا العادة قد انتقضت به، فقد أعطاه الخصم أكثر مما ادّعى، ولو جاز أن يخفى ذلك ويتستر على أحد من الناس، لما استتر ذلك على محمد ﷺ، لأن عدوّه وطالبه والمتتبع لأمره والمفتش عن أحواله من قريش والأقربين من أهله ومن دهاة اليهود والنصارى وغيرهم كثير، والطلب منهم شديد، ودعواه النفسية عظيمة، وقد ادّعى عليم الفرية والكذب ولنفسه الصدق، وحجته عليهم ألا يكذب في شيء ولا يناقض، ثم إن الذين اتبعوه [اتبعوه] لأنه نبي وصادق. وقد عرف عدوه ووليّه منشأه ومتقلبه ومثواه، ومعهم سافر، وبينهم تربى ونشأ، وأزواجه إنما هنّ بنات أعدائه وأوليائه الذين اعتقدوا صدق نبوته، وهن ممن يعتقد صدقه ونبوته، فمن هذه سبيله، يتعلم الكتابة بالقلم الواحد أو بالأقلام المختلفة، ويكتب ويقرأ، ويختلف إلى أهل هذه اللغات ويصحبهم ويأخذ عنهم، ويتستر ذلك على أهله ونسائه وعدوه ووليه؟ هذا لا يعتقده من تأمل الأمور وتدبرها. بل لو كان ذلك له ﷺ يوما واحدا أو ساعة واحدة، لعلم به الأولون والآخرون للأحوال التي اختص بها مما قدمنا ذكره. ولا فرق بين من ادّعى هذا عليه، أو ادعى أنه قد كان مرة تهوّد وأظهر اليهوديّة، وخرج فأقام مرة ببابك ومرة ببيت المقدس، وأنه كان مرة تنصّر ولبس المسوح وأقام في البيع، وخرج مرة وأقام ببلاد الروم وصام صوم النصارى وأقام أعيادهم وكان يحلق وسط رأسه كصنع الرهبان، وأن ذلك كله تم له وخفي على أهله ونسائه وعدوه ووليه.
فتأمل رحمك الله هذه الآية فإنها عظيمة جليلة، ولو لم يكن له إلا هي لكفت وأغنت. وانظر كيف يقول، قد اقتص قصة نوح عليه السلام ثم قال في آخرها: (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ. ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا. فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) وانظر كيف يقول له: إن هذا ليس من علمك ولا من علم قومك، والعدوّ والوليّ يسمع ذلك. وتأمل قوله عز وجل في قصة يوسف عليه السلام: (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) ثم عزاه وقال له: آياتك بيّنة وحجتك قائمة وإن عصوك، فما هاهنا شبهة في مخالفتك، ولا أمر يصدّ عن اتباعك، ولست أول من قامت حجته فلم يتبع، فقال له: {وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ. وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ}.
وانظر كيف يدل ويستطيل ويصول على العدو والولي بأن هذا إنما ناله بالوحي، وأنه ما قرأ كتابا ولا خط، وأنه قد كان في غفلة من هذا فقال: {وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ. وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ}.
وقال له في أول سورة يوسف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ}. ثم يقول في آخر السورة: {لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثًا يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
وتأمل قوله عز وجل في سورة القصص: {وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} إلى قوله: {وَما كُنْتَ ثاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} وانظر إلى هذا الاحتجاج بأنه ما نال هذا ولا عرفه إلا بوحي من الله.
وانظر إلى قوله في سورة طه: {وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ، أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى}. فتأمل هذا الاستعلاء على العدو والولي بأن من آياته وعلاماته ما في الصحف الأولى.
وكان مما طعن به ابن الراوندي في هذه الآية أن قال: إن كان معرفته بهذا دلالة على نبوته فمعرفة اليهود بذلك دلالة على نبوتهم. وهذا جهل من هذا الأحمق، لأن اليهود قد قرؤوا ذلك وكتبوه وأخذوه عن آبائهم وشاهدوه، فلا يكون حجة لهم؛ وهذا ما قرأه ولا كتبه ولا أخذه عنهم ولا عن أحد من الناس كما دلت عليه العقول، فهو حجة عليهم وعلى غيرهم. ولو أن إنسانا ادعى النبوة وجعل دلالته بأن أخبرك عن كتاب معك ما قرأه ولا وقف عليه وإنما وقفت أنت عليه فيما لا يقع بالاتفاق ولا بالحدس، لكان ذلك دلالة في نبوته ولم يكن دلالة لك، وكذلك إذا أخبرك عما أكلت وشربت وادخرت. ولكن اشتبه على هذا الملحد لفرط جهله وبعده من التحصيل. ولولا أن الأشعرية والرافضة والنصارى والزنادقة يرون هذا الرجل بعين المحصلين لما ذكرنا أسئلته لركاكتها، ولكنه صنف شيئا للمشبهة، وشيئا للمجبرة، وشيئا للرافضة، فسروا به لنقصهم، وشهدوا له بالحذق لفرط غباوتهم وأنهم لا يعرفون الإسلام وأهله، فمن أظهر لهم التصويب قبلوه لضعفهم وسوء أحوالهم، وقبله اليهود والنصارى وحذقوه، لأنه شتم محمدا رسول الله وأظهر تكذيبه، وهو فقد شتم إبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى وهارون ويحيى وعيسى وجميع النبيين صلوات الله عليهم أجمعين وكذبهم، ولكن اليهود والنصارى بلا حجة ولا بصيرة في مخالفتهم المسلمين، فمن عادى محمدا ﷺ تولوه وإن كان عدوا لأنبيائهم، كما لا بصيرة لأهل بدع الإسلام من المشبهة والمجبرة والرافضة. وهذه السور مثل القصص وهود ويوسف من المكيات فاعلم ذلك.
من أعلامه إخباره عن النصرانية ومذاهبها
باب آخر
من آياته وأعلامه، وهو إخباره عن النصرانية ومذاهب النصارى من هذه الطوائف الثلاث منهم، وهي الباقية القائمة الراهنة في قولهم إن المسيح عيسى ابن مريم هو الله، وإن الله ثالث ثلاثة؛ فإن هذه الطوائف الثلاث من الملكية واليعقوبية والنسطورية لا يختلفون في أن المسيح عيسى بن مريم ليس بعبد صالح ولا بنبي ولا برسول، وأنه إله في الحقيقة والله في الحقيقة، وأنه هو خلق السموات والأرض والملائكة والنبيين، وأنه هو الذي أرسل الرسل وأظهر على أيديهم المعجزات، وأنه للعالم إلها هو أب والد لم يزل، غير مولود، وأنه قديم خالق رازق، وإله هو ابن مولود، وأنه ليس بأب ولا والد، وأنه قديم حيّ خالق رازق، وإله هو روح قدس ليس بأب والد ولا ابن مولود وأنه قديم حيّ خالق رازق، وأن الذي هو ابن نزل من السماء، وتجسم من روح القدس ومن مريم البتول، وصار هو ابنها إلها واحدا ومسمى واحدا وخالقا واحدا ورازقا واحدا، وحبلت به مريم وولدته، وأخذ وصلب وألم، ومات ودفن، وقام بعد ثلاثة أيام وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه. فحكى قولهم في أن المسيح هو الله وأن الله ثالث ثلاثة.
وهكذا مذهبهم في الحقيقة، ولا يكادون يفصحون به، بل يدافعون عن حقيقته ما أمكنهم، حتى أن أرباب المقالات وأهل العناية به من المصنفين لا يكادون يحصلون مذهبهم، وإنك لتجد النظّارين منهم والمجادلين عنهم إذا سألتهم عن قولهم في المسيح قالوا: قولنا فيه إنه روح الله وكلمته مثل قول المسلمين سواء، أو يقول: إن الله واحد. وتجده ﷺ وقد حكى حقيقة مذهبهم، ولم يكن من المجادلين ولا من المتنبئين، ولا ممن يقرأ الكتب ويلقى أهلها، ولا من المتكلفين، ولا كانت مكة والحجاز إذ ذاك بلاد فيها شيء من هذا. فانتشر هذا عنه ﷺ، وفتش الناس عنه بعد ذلك فوجدوا الأمر كما قال وكما فصل، بعد الجهد وطول الاستقصاء في الطلب والتفتيش. وما أكثر ما تلقى منهم فيقول: ما قلنا في المسيح إنه الله، ولا قلنا إن الله ثالث ثلاثة، ومن حكى هذا عنا فقد أخطأ وكذب. ليعلم أن وقوف محمد ﷺ هذا إنما هو من قبل الله عز وجل، وأن ذلك من آياته.
فإن قيل: فإن قولهم في هذا وإن الله ثلاثة أقانيم جوهر واحد، كقول المسلمين بسم الله الرحمن الرحيم، وكقولهم في الله إنه حيّ قادر عالم.
قيل له: هذا غلط على النصارى، وليس قولهم في التوحيد من قول المسلمين بسبيل، وإنما يقول هذا من يروم المغالطة والفرار من فحش المقالة، لأن الله عند المسلمين هو الرحمن وهو الرحيم وهكذا العالم القادر، وهي ذات واحدة لها صفات كثيرة وأسماء كثيرة. وعند النصارى أن الله الوالد ليس هو الابن المولود، ولا يجوز أن يكون الأب الوالد ابنا مولودا، ولا الابن المولود أبا والدا، وكذا روح القدس. ومن قال غير هذا فليس من النصارى. فإن بليت منهم بمن هذه سبيله -أعني الجحود لهذه المقالة الفاحشة- فقل: إن كنت تريد أن هذا قولك وكذا تختار فما يدفعك عن هذا؟ فأما أن يكون هذا قولا للنصارى فهذا كذب وبهت، ولو أسلم نصارى عصرنا كلهم لما خرج هذا من أن يكون قولا لمن سبق وتقدم من هذه الطوائف الثلاث. فاعلم أن هذا هو مذهبهم في التثليث، قد حصل العلم به ولهم فيه ضرب أمثال، وذلك في تسابيحهم وأقاويلهم في عباداتهم. ألا ترى أنهم يقولون في تسبيحة القربان في الساعة التي يكونون فيها خاضعين يتوقعون بزعمهم نزول روح القدس لقبول فاتور القربان: ليتم علينا وعليكم نعمة الرب يسوع المسيح بن مريم ومحبة الله الأب ومشاركة روح القدس أبدا إلى دهر الداهرين.
ويقولون في تسبيحتهم التي يسمونها تسبيحة الإيمان التي وضعت بنيقية من بلاد الروم، وهذا كان بعد المسيح عليه السلام بنحو ثلاثمائة سنة، حين جمعهم قسطنطانوس بن فيلاطس ملك الروم، الذي أمه هيلانة الحرّانية الفندقية، جمعهم ليعملوا تقريرا في إيمانهم يحملون الناس عليه ويأخذونهم به، فمن أبى قتلوه، واجتمع عنده نحو ألفي رجل، فقرروا تقريرا ثم رفضوه، ثم اجتمع ثلثمائة رجل وثمانية عشر رجلا وهم يسمونهم الآباء، فقرروا هذا التقرير، وهم يسمونه سنهودس، فكان تقريرهم لهذه التسبيحة وهي أصل الأصول عند جميع هذه الطوائف لا يتم لأحد منهم عندهم إيمان إلا بها وهي: "نؤمن بالله الأب الواحد، خالق ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله بكر أبيه وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه الذي بيده اتقنت العوالم وخلق كل شيء، الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم البتول وصار إنسانا وحبلت به مريم البتول وولدته، وأخذ وصلب وقتل أمام فيلاطس الرومي، ومات ودفن وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن بالرب الواحد روح القدس، روح الحق الذي يخرج من أبيه، روح محييه، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قديسيّة سليحيّة جاثلقية، وبقيام أبداننا، وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين".
فتأمل هذا الشرح وهذا التفصيل والكشف في التثليث والتشبيه، وكيف يعتقدون في الله حقيقة المدبرين المصنوعين من النزول والصعود والولادة وغير ذلك.
فإن قالوا: فانا لا نقول إنها ثلاثة آلهة، فكيف يحكون عنا التثليث؟
قلنا لهم: إنكم قد أعطيتمونا معنى التثليث وأشعتموه واستوفيتم حقائقه، ومنعتم بعض العبارة عنه. ألا ترون أنكم تقولون إله هو أب والد حيّ قادر قديم عالم خالق رازق، وإله هو ابن مولود كلمة حي قديم خالق رازق ليس بأب ولا والد ولا يجوز أن يكون والدا ولا أبا، وإله روح قدس حي عالم قديم خالق رازق. ثم قلتم هي ثلاثة أقانيم، فقلتم في كل واحد منها أنه إله ورب وقديم، وامتنعتم من الإقرار بالجملة، وقد أعطيتم التفصيل. وما مثال ذلك إلا كمن قال: عبد الله العربي رجل وإنسان وجسم وشخص، وخالد الفارسي رجل وإنسان وجسم وشخص، وزيد الرومي رجل وإنسان وجسم وشخص، قلنا: فهؤلاء ثلاثة رجال، وثلاثة أناس، وثلاثة أشخاص، وثلاثة أجسام. فقلتم: لا، بل هم رجل واحد. قلنا: لا يؤثر امتناعكم من إطلاق هذه العبارة في شيء قد أشيعت حقيقته. وفيهم من يمتنع من أن يقول في كل واحد من هذه الثلاثة إنه غير صاحبه، ثم يقولون: ما شبّهنا ولا مثلنا. فكانوا كالمشبهة الذين يقولون: إله يصعد وينزل ويقعد على العرش، ثم يقولون: ليس كمثله شيء.
والذي يمنع النصارى من إطلاق القول بأنها ثلاثة آلهة متغايرة مختلفة وإن كانوا قد أعطوا معنى ذلك، إلا لأنهم صدقوا بكتاب الله عز وجل التي صدق بها المسيح عليه السلام، وهي مملوءة بتوحيد الله وتفرده بالقدم، وأنه لا يشبه الأشياء، وإنما هذه البدع ابتدعوها بعد المسيح، فأرادوا حمل بدعتهم في الشرك على ما في كتب الله فلم يتم ذلك وحصلوا على محض الشرك والتشبيه.
فإن قيل: قد لعمري صدقتم فيما حكيتم من التثليث، فإن الملكية تقول فيه: إنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وإن القتل والصلب والولادة وقعت عليه بكماله؛ واليعقوبية تقول: حبلت مريم بالإله، وولدت الإله، وقتل الإله، ومات الإله، فما عندكم في النسطورية؟ فإنهم قد قالوا في المسيح إنه مركب من نوعين وأقنومين وطبعين، من إله ومن إنسان، وإن الولادة والقتل إنما وقعتا بالإنسان، وهو الذي يسمونه الناسوت.
قيل له: لو كانت النسطورية تقول في المسيح كما يقول المسلمون لما قدح ذلك في الخبر ولا أثر في العلم لأن التثليث قد وقع، كيف والنسطورية ترجع إلى القول في المسيح إلى قول إخوانهم من الملكية واليعقوبية، فيقال للنسطورية: قد قلتم إنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وقلتم إنه إله تام من إله تام، ثم قلتم إن لاهوته مولود من قبل الأب وناسوته مولود من قبل الأم، والولادة قد أحاطت به من كل وجه ومن كل جهة؛ وأيضا فإنكم تمدحون الإله بالولادة كما يمدحه المسلمون بتنزيهه عن الولادة، وتقولون لو لم يكن والدا لكان عقيما، وكل حي لا يكون والدا فإنما ذاك لنقص وآفة وعاهة. فلا ينبغي أن تغالطوا عن حقيقة قولكم.
ثم يقال لهم: أخبرونا عن مريم هل حبلت بالمسيح في الحقيقة، وولدت المسيح في الحقيقة، وربت المسيح وأطعمت المسيح في الحقيقة، وهي أم المسيح في الحقيقة؟ فإن قالوا: ولدت ناسوت المسيح أو حبلت ناسوت المسيح، قلنا: لم نسألكم عن هذا، فإن ناسوت المسيح عندكم ليس هو المسيح، وإنما المسيح هو اللاهوت، ولاهوت المسيح عندكم ليس هو المسيح، إنما هما مجموعهما المسيح، أجيبونا، فإن كانت مريم قد ولدت المسيح في الحقيقة وحبلت بالمسيح في الحقيقة، فقد حبلت بالإله والإنسان وولدت الإله والإنسان، وهي أم الإله والإنسان، وقد قُتل الإله والإنسان، وألم الإله والإنسان، ومات الإله والإنسان؛ فقد تبين أن قولكم وقول الملكية واليعقوبية في ذلك سواء. وإن قالوا ما ولدت المسيح في الحقيقة، ولا هي أم المسيح في الحقيقة، قلنا لهم: فليس هذا قول أحد من النصارى ولا قول المسلمين أيضا، بل هو قول اليهود، فإنهم قالوا: إن مريم ما حبلت به.
وإن قالوا: نقول هي أم المسيح على المجاز، ومات المسيح في المجاز، قلنا لهم: لم نسألكم عن المجاز، إنما سألنا عن الحقيقة، فإنه على هذا التقدير ربما أيضا يكون حمل مريم من غير ذكر مجاز، وإحياؤه المؤتى مجاز، وجميع ما يدعونه له مجاز. وهذا لا سبيل إليه، لأنهم إن قسموا أفعاله من لاهوته وناسوته وجب ذلك كله، لأنه إذا احيا الموتى وأظهر الآيات فإنما ذلك فعل اللاهوت، واللاهوت وحده ليس بمسيح، واللاهوت ما رآه الناس فلا يجوز أن يقال رأى المسيح، وإذا أكل وشرب ونام واستيقظ فذلك فعل الناسوت، والناسوت وحده ليس بالمسيح، فقد وجب جميع ما قدمناه.
وهم لا يصيرون إليه ولا يلتزمونه. ومن صار إليه خرج عن النصرانية وعن جميع أقوال المثلثة. وقد علمت أن حقيقة قولهم ما في تسبيحة إيمانهم وهي أصل الأصول، وليس لأحد من طوائفهم عنها ولا عن شيء منها معدل، وإنما وضعت حين صار الملك إلى هذا القول وحين خالفهم آريوس، للإفصاح بالمذهب ولرفع التأويل والأوهام في المقالة.
وعند هذه الطوائف الثلاثة، إن المسيح صار مسيحا وإلها خالقا رازقا معبودا حين بشّر الملك أمه وساعة الحمل به، فاتحد به الإله فصار جميعا مذ ذاك مسيحا واحدا وإلها واحدا، وأن الاتحاد ما انتفض عندهم ولا بطل، ولا خرج عن المسيحية والإلاهية لا في حال الحبل ولا في حال الولادة ولا في حال النوم ولا في حال الأكل ولا في حال البول والتغوّط ولا في حال المرض ولا في حال القتل ولا في حال الموت، وأنه في جميع هذه الأحوال مسيح وإله ورب معبود وخالق ورازق ومدبّر. ويقولون: هو أحيا نفسه بعد الموت، لأنه محال عندهم أن يحيي الموتى غير المسيح، وقد علمت تسبيحة الإيمان وتفصيلها فارجع إليه، ففيه أتم كفاية لتعلم مغالطة النسطورية وجميع من يجادل عن النصرانية. وقد قال فولوص -وهو عندهم فوق الأنبياء وقد ذكر صنيع اليهود بالمسيح-: لو علموا لما صلبوا رب المجد الذي له الحمد والبركات أبد الدهر. وقال أيضا: الذي ليس بمعاين عوين، والذي ليس بمحسوس حُس، والعالي على الزمان ابتدئ، وابن الله صار ابن الإنسان، وألم الذي لم يكن يألم ووالده الله. فتأمل ما في هذا فإنه يفصح بأن الله لم يكن يعاين فصار يعاين، ولم يكن يحسّ فصار يحسّ ويدرك، وأنه كان قبل الزمان فابتدئ وصار في الزمان، وألم الذي لم يكن يألم، وابن الله صار ابن الإنسان، وصار ابن الإنسان ابن الله ووالده الله، وهذه صفات المسيح الذي هو عندهم الله وابن الله. قالوا: وقد قال الآباء -وقد ذكروا ما صنع فيلاطس الرومي واليهود-: إنهم لما صلبوا رب المجد عرفوه. قالت النصارى: هذه كلها أقاويلنا وفيها حقيقة مذهبنا.
قالوا: وقد قال الفاضل ياوانس: المساوي للأب جاء إلى العالم في الرحم البتول، وكان قبل أن يكون آباؤه إبراهيم وإسرائيل وداود، وهو ابن الله قبل أن يدعى ابن إبراهيم وداود. وقالوا: فهذه حقيقة ديننا، فإن جاء فيه أن الله إنسان أو من جنس الناس، أو أنه يتقلب في الصور والهيئات وينتقل ويتشكل لم ننفر من ذلك، ولم ندع ما أسسه الآباء والقدوة لما يوجب الجدل ويلزم في النظر.
فتأمل هذا، وقولهم: المساوي للأب جاء إلى العالم في الرحم البتول وكان قبل أن يكون آباؤه إبراهيم وإسرائيل وداود وهو ابن الله قبل أن يدعى ابن إبراهيم وداود، لتعلم أن اعتقادهم وقولهم إن هذا الذي ولدته مريم هو ابن الله وهو الله وأنه مثل الأب الذي في السماء على العرش عندهم، وأن هذا هو الذي لم يزل، وأن الذي حدث وتجدد ولادة مريم له، وأن إبراهيم وإسرائيل وداود إنما صاروا آباءه من قبل أمه لأنها من بني إسرائيل، وأنه كان ابن الله قبل أن يكون ابن إبراهيم وإسرائيل وداود.
قالوا: وقد قال علماؤنا ومن هو القدرة عند جميع طوائفنا: يسوع في البدء لم يزل كلمة، والكلمة لم تزل لدى الله، والله هو الكلمة. ويسوع هو عيسى بالسريانية. قالوا: فذاك الذي ولدته مريم وعاينه الناس وكان بينهم هو الله وابن الله وهو كلمة الله.
قالوا: وقد قال يوحنا السليح: إنا نبشركم بالذي لم يزل من قبل، وأنا رأيناه بأعيننا، وحسسناه بأيدينا.
قالوا: فما فيمن هو الحجة لجماعتنا إلا من يكشف الأمر كشفا لا يتعرض لتأويله إلا من يكابر عقله. فعندهم إن القديم الأزلي خالق السماوات والأرض هو الذي عاينه الناس بأبصارهم، ولمسوه بأيديهم. قالوا: وقد قال أرميا النبي وقد ذكر المسيح والبشارة به: هذا إلهنا ولا نعوذ معه غيره، وإنه في آخر الزمان تراءى على الأرض وتردد مع الناس. فتأمل هذا الكشف.
قالوا: وقد قال بطرس وهو بكر إيماننا وأصل بيعتنا لما سئل عن ابن الله لا عن ابن الناس، وعن كلمة الله لا عن كلمة الناس فقال: هو الذي كان بين الناس وتردد معهم، وأبرأ الذين نكأهم الشرير.
قالوا: وقد خاطب الناس من بطن أمه مريم، فقال للأعمى: أنت مؤمن بابن الله، قال الأعمى: ومن هو حتى أؤمن به؟ قال: قد رأيته وهو المخاطب لك، قال: آمنت يا سيدي، وخر ساجدا. قالوا: فما الذي بقي من الإفصاح بأن الذي حبلت به مريم وكان في بطنها هو الله وابن الله وكلمة الله.
قالوا: وقد قالت أم يحيى بن زكريا -وقد دخلت على مريم وهي حبلى بالمسيح، وأم يحيى حبلى به-: إن هذا الذي في بطني قد سجد للذي في بطنك. قالوا: فما الذي يبقى في البيان في أن الإله المعبود الذي هو الله وابن الله وكلمة الله هو الذي حبلت به مريم وولدته.
قالوا: ولما عمّده يوحنا في الأردن تفتحت أبواب السماء ونادى الأب: هذا ابني وحبيبي الذي سررت به نفسي. ونزل روح القدس في صورة حمامة ورفرفت على رأس المسيح. قالوا: فالمتعمد هو الله الابن، والمنادي هو الأب، والنازل هو روح القدس. وانظر كيف يفردون كل واحد منهم بصنع غير صنع صاحبه.
قالوا: وفي البشارة به حين قال جبريل لمريم: ها أنت تحبلين وتلدين، قالت له: كيف يكون هذا وما مسني رجل؟ فقال لها: ربنا معك، وإلهنا معك، وأيدي العلي تحلّ عليك، وروح القدس تأتيك، والذي يولد منك قدوس وابن الله يدعى، قالوا: فقد خبّرها بأنها تحبل بابن الله لا بابن الناس، وأنها تلد ابن الله لا ابن الناس، وأن الله معها. قالوا ولا نريد بقولنا معها ومع ابنها بمعنى التأييد والنصر والمعونة كما يكون الله مع الأنبياء والصالحين والمؤمنين، لأن المسيح عند طوائفنا الثلاث ليس بنبي ولا بعبد صالح، بل هو رب الأنبياء وخالقهم وباعثهم ومرسلهم وناصرهم ومؤيدهم ورب الملائكة؛ ولا هو معها ومع ابنها بمعنى الخلق والتدبير والتقدير كما يكون مع سائر إناث الحيوان من الناس والكلاب والحمير والخنازير بالخلق والصنع والتقدير، ولكنه معها لحبلها به ولاحتواء بطنها عليه، فلهذا فارقت جميع إناث الحيوان، وفارق ابنها جميع النبيين، فصار الله وابن الله الذي نزل من السماء وحبلت به مريم وولدته والمولود منها الها واحدا ومسيحا واحدا وربا واحدا وخالقا واحدا مذ وقت بشارة جبريل عليه السلام لها، لا يقع بينهما فرق، ولا يبطل الاتحاد بينهما بوجه من الوجوه، ولا في الحبل، ولا في الولادة، ولا في حال نوم، ولا مرض، ولا صلب، ولا موت، ولا دفن، بل هو متحد به في حال الحبل، فهو على تلك الحال: مسيح واحد، وخالق واحد وإله واحد، وفي حال الولادة كذلك، وفي حال الموت والصلب كذلك.
قالوا: فمنا من يطلق في لفظه وعبارته حقيقة هذا المعنى، فيقول: مريم حبلت بالإله، وولدت الإله، ومات الإله؛ ومنا من يمنع هذه العبارة ويعطي معناها وحقيقتها، فيقول: مريم حبلت بالمسيح في الحقيقة، وولدت المسيح في الحقيقة، وهي أم المسيح في الحقيقة، والمسيح إله في الحقيقة، ورب في الحقيقة، وابن الله في الحقيقة، وكلمة الله في الحقيقة، لا ابن لله في الحقيقة إلا هو، ولا أب للمسيح في الحقيقة إلا هو، ولا أم للمسيح إلا مريم. قالوا: فهؤلاء يوافقون في المعنى قول من قال فيها: إنها حبلت بالإله، وولدت الإله، وقتل الإله وألم الإله، ومات الإله، وإنما يمنعون اللفظ والعبارة فقط. قالوا: وإنما منعنا هذه العبارة التي أطلقها إخواننا لئلا يتوهم علينا إذا قلنا: حبلت بالإله، وولدت الإله، ومات الإله، وألم الإله، إن هذا كله حلّ ونزل بالإله الذي هو أب، ولكنا نقول: حلّ هذا كله ونزل هذا كله بالمسيح، والمسيح عندنا وعند طوائفنا إله تام، وإله حق من إله حق، من جوهر أبيه.
قالوا: لا نريد بأنه معنا على معنى النصر والتأييد ولا معنى الخلق والتدبير، لأنه مع جميع الأنبياء والصالحين كذلك، ومع جميع المخلوقات بالخلق والتدبير، وكان يكون قولنا وقول المسلمين واليهود واحدا في التوحيد.
قالوا: والآباء والقدوة منا يقولون: ابن الله يدعى ابن الإنسان، وابن الإنسان يدعى ابن الله، وآدم الجديد هو الإله الألم الذي قتل ومات.
قالوا: وعندنا أن المسيح قال: ابن البشر هو رب السبت. وقال أيضا: أنا بأبي وأبي بي، ولا يعرف أحد الأب إلا الابن، والابن لا يعرفه إلا الاب، وأنك إله بي وأنا بك. وقال: أنا في أبي، وابي فيّ. وقال:
أنا قبل إبراهيم، وقد رأيت إبراهيم وما رآني، فقال له اليهود: كذبت، كيف تكون قبل إبراهيم وأنت من أبناء ثلاثين سنة، فقال: أنا عجنت طينة آدم وبحضرتي خلق، وأنا اجيء واذهب واذهب واجيء. قالوا: وهذا القول عندنا للمسيح في الحقيقة، ولو كان قولا للإله الذي ليس هو المسيح لما كان له معنى. وعندنا أن المسيح بن آدم وربه وخالقه ورازقه وابن إبراهيم وربه وخالقه ورازقه، وابن إسرائيل وربه وخالقه ورازقه، وابن مريم وربها وخالقها ورازقها.
قالوا: وقد اعتل لنا من يناظر عنا بأن الله والد في الحقيقة وأن تولد ابنه منه كتولد ضياء الشمس من الشمس وكتولد الكلمة من العقل، ونحن فما قلنا: إنه والد وله ولد في الحقيقة بهذا الاعتلال، بل لما قدمنا من قول الآباء والقدوة. وعلى أن هؤلاء فروا بهذا القول من التشبيه لله بالمتناسلين المتناكحين من المخلوقين، فشبهوه بالموات والجماد، فوقعوا في شر ما هربوا منه ودفعوا الضرورة، لأن مريم قد ولدت المسيح إله الكل ولادة صحيحة في الحقيقة معقولة، ولادة الأحياء الناطقين بغير تناكح ولا تناسل، ومن قال إن مريم ما حبلت بالمسيح في الحقيقة، ولا ولدت المسيح في الحقيقة، ولا هي أم المسيح في الحقيقة، فليس من طوائف النصارى. وكذا من قال ليس المسيح إلها في الحقيقة، ولا ربا للخلائق في الحقيقة، فليس من الملكية ولا من اليعقوبية ولا من النسطورية.
قالوا: وقد قال القدوة عندنا: إن اليد التي سمّرها اليهود في الخشبة هي اليد التي عجنت طين آدم وخلقته، وهي اليد التي شبرت السماء، وهي اليد التي كتبت التوراة لموسى.
وقالوا: وقد وصفوا صنيع اليهود بالمسيح: إنهم لطموا الإله وضربوه على رأسه، وعجب لإله يضرب على رأسه. وتعالوا فانظروا إلى الإله يلطم ويضرب على رأسه.
قالوا: وفي بشارة الأنبياء: إن الإله يجيء، وتحبل به امرأة عذراء وتلده، ويؤخذ ويصلب ويقتل.
قالوا: ولنا سنهودس قد اجتمع عليه نحو سبعمائة من الآباء والقدوة، فيه أن مريم حبلت بالإله وولدته وأرضعته وسقته وأطعمته، وهذا دون ما في تسبيحة الإيمان من الولادة والقتل والألم والصلب والموت والدفن.
قالوا: وأقاويلنا كلها من أولها إلى آخرها التي ذكرناها لكم من أصل ديننا وحقيقة مفصحة بذلك، فهذه حقيقة ديننا وإيماننا ولنا من هذا المعنى من السرياني والعربي أكثر مما ذكرناه.
فهذا يرحمك الله كما ترى وتسمع. فلولا أن رأينا قوما عقلاء يقولون هذا وسمعناه منهم حين فتشنا عمّا قاله الله وحكاه عنهم فنطقوا به بعد الجهد وأخرجوه من غوامض أسرارهم، لما صدق الناس أن في الدنيا من قال هذا أو نطق به.
وإذا تأمل العاقل الأمور وفتش وطال بحثه وجهد، رأى الجهل في الأمم والأقاويل المشتملة على الحمق كانت في الأمم قبل الإسلام.
فالفلاسفة تدعي في هذه الاجسام الجماد والموات من الشمس والقمر والكواكب والسماء أنها حية عاقلة مميزة تخلق وترزق وكانوا لها عابدين. والنصارى كما قد علمت. والمجوس عندها أن الإله غالبه الشيطان ونزل إلى الأرض، وكانت الحرب بينهما ألف سنة، وأن الشيطان غلبه وحاصره في جنته مع ملائكته وأن الملائكة عند ذلك سعوا بينهما في الصلح ووقعت المهادنة بينهما على شرائط معروفة مذكورة عند من حكى المقالات، وشرحها يطول، ثم رجع عندهم بملائكته إلى سمائه، غير أنهم ما قالوا قتل كما قالت النصارى، ولا بلغوا إلى هذا وإن كانوا قد فحشوا في القول.
وقد كانت القبط تقول بإلاهية فرعون صاحب مصر. والمنانية من الزنادقة فقولها في نحو من قول المجوس. وأقاويل الهند في البدّ معروفة.
فلما جاء الإسلام بتلك الأنوار، وبأن من كان جسما ومحتاجا لا يكون إلها ولا يفعل جسما كما قدمت لك في المصباح، وهو أيضا مذكور في غيره. وكان من رحمه الله بخلقه أن سلطان الإسلام ظهر على الأديان كلها، وكان حملة السلاح هم الأتقياء والأولياء العلماء الفقهاء، فاستحيا أهل البدع منهم فانقبضوا وكانت لهم هيبة التقوى. فمات أولئك رضي الله عنهم وطال العهد، وصار بعدهم ملوك جبابرة غير أنهم كانوا حملة الإسلام.
ثم لم يزل الأمر يتناقص، فصارت السيوف كلها على الإسلام، ومات أهله. وصار في الزندقة والإلحاد السيف والملك فعادوا إلى ما كانوا عليه من الجاهلية.
ألا ترى أن من بالأحساء من القرامطة والباطنية لما غلبوا شتموا الأنبياء، وعطلوا الشرائع، وقتلوا الحجاج والمسلمين حتى أفنوهم، واستنجوا بالمصاحف والتوراة والإنجيل، وجاؤوا بذكيرة الأصفهاني المجوسي وقالوا هذا هو الإله في الحقيقة وعبدوه، وكان لهم معه ما هو مذكور معروف.
ومثل هذا صنع أبو القاسم الحسن بن حوشب بن زاذان الكوفي النجار حين ظهر بجبال لاعة من أرض اليمن، وكذا صنع من كان منهم بالجند وعدن من أرض اليمن، وسبوا العلويات. وكل هؤلاء كانوا في أول أمرهم يخدعون الناس بأنهم شيعة، وأن المهدي أرسلهم.
وكذا صنع من كان منهم برقّاده والقيروان من أرض المغرب، إلى أن قام أبو يزيد مخلد بن كدّاد بمن معه وحاربهم خمس سنين وضيق عليهم، كما صنع الأصفر بأهل الإحساء، فلما انكشف أمر أبي يزيد عمن بالمغرب كفوا عن المكاشفة للعامة بشتم الأنبياء وتعطيل الشرائع، وصاروا يخدعون الناس سرا وينقلونهم عن الإسلام بالحيل والأيمان من حيث لا يشعرون شيئا شيئا، وانبثوا وانبسطوا، وبثوا ذلك في ممالكهم، ويقصدون بدعوتهم الديلم والأعراب وكل من يقل بحثه ونظره وله رغبة في الدنيا وشغل بها. ثم يقطعونهم عن البحث والنظر بالعهود والأيمان المغلظة، ومن دخل بلدانهم وشاهد عساكرهم وتأمل سيرتهم يعرف ذلك من قصدهم، بل من سأل واستبحث يعلم ذلك وإن لم يصر إليهم. وقد صاروا حرما للملحدة والزنادقة والفلاسفة والدهرية وجميع أعداء الإسلام، فمن هاجر إليهم أمن في إلحاده وقال ما شاء كيف شاء، فيا لها مصيبة بذهاب الإسلام وموت أهله وقلة العارفين به وبحقوقه، فإن من بقي ممن يظن أنه من أهله فمنهم من يشبّه الله بخلقه، ومنهم من يجوّره في حكمه وإلى غير ذلك.
ما أشار إليه من اختلاف النصارى حول المسيح عليه السلام
وباب آخر
وهو أن هذه الطوائف الثلاث من النصارى أشد عالم الله تعظيما للمسيح وتحققا به وحبا له، يدّعون أنهم شيعته وأتباعه، وأنهم أطوع الناس له، وأن ما هم عليه عنه أخذوه، وبه اقتدوا فيه، وعلى وصاياه عملوا. وقال ﷺ: إن المسيح عبد الله ورسوله أتى الناس بما جاءهم الأنبياء قبله، من آدم ونوح وإبراهيم واسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وموسى وهارون وغيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، من الدعاء إلى عبادة الله وتوحيده وحده، والإخلاص له وحده بالعبادة والقدم والربوبية؛ وأن النصارى قد كذبوا عليه، وبدّلوا دينه، وعطلوا وصاياه، وأنهم ضاهوا بقولهم قول الذين كفروا من قبل، الذين اتخذوا المخلوقات آلهة وأربابا ودعوها وتضرعوا لها، كالفلاسفة والصابئين من أهل حرّان، فإنهم اعتقدوا في الشمس والقمر والكواكب والسماء ما قدمنا ذكره، كالقبط الذين قالوا في فرعون ما ذكرنا، وكغيرهم؛ فقد قال بربوبية المخلوقات والمخلوقين خلق كثير، وشرح أحوالهم يطول؛ وإن المسيح ﷺ عدوّ لهؤلاء النصارى وبريء منهم. فوجد الناس الأمر كما قال، وعلى ما شرح وفصّل. فكم في هذا من عجب، أنه رجل عربي أمي يخبر عن رجل قد سبقه بنحو ألف سنة، ولسانه غير لسانه، وبلده غير بلده، وقومه غير قومه، يخبر عنه بأمور كان عليها.
وقد وجد ﷺ أمما ممن كانوا قبله يدعون التحقيق بهذا الرجل وهم على منهاجه وطرائقه، فلو كان متقولا لتهيب الإقدام على ذلك، وكان لا يأمن أن يكون القوم الذين سبقوه في الزمان وتحققوا بهذا الرجل قد صدقوا عليه، وأنهم أتباعه كما ادعوا فلا يأمن أن يظهر كذبه، سيما وقد ادعى الصدق والنبوة والرسالة على أهل الأرض كلهم وعقله الذي لا يدفع. فانظر كيف يتعرض لعظيمات الأمور وجسيمات الخطوب.
وحكى عن ربه عز وجل أن النصارى ليسوا على شيء مما جاء به أحد من الأنبياء، فقال: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} فأقدم على أشياء قد تدبر بها العقلاء وجبابرة الملوك قبله وفيه فضائحهم وهتكهم، فيؤخذ الأمر كما قال، فلو لم يكن إلا هذا من أعلامه لكفى وشفى وأغنى.
فإن قيل لكم ومن اعطاكم أن دين المسيح خلاف دين النصارى، وأنهم قد خالفوه؟
قلنا: من تأمل الأمر وجدهم أشد الناس خلافا عليه وإطراحا لوصاياه في الأصول والفروع جميعا. فأما في الأصول فقد آمنوا وعبدوا ثلاثة آلهة وثلاثة أرباب كما قدمنا وتبيّنا، ولا يختلفون في أن المسيح عيسى ابن مريم ليس بنبيّ ولا عبد صالح، وأنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وأنه إله تام من إله تام، وأنه خالق السماوات والأرض والاولين والآخرين ورازقهم ومحييهم ومميتهم وباعثهم وحاشرهم ومحاسبهم ومثيبهم ومعاقبهم. وقد ذكرنا ما يقوله النسطورية من أنه إله مركب من نوعين وطبيعتين، وبيّنا ما يرومونه من المغالطة.
فإن قالوا: فإنا لا نفرد واحدا من هذه الآلهة بالعبادة بل نعبدها كلها بعبادة واحدة. قيل له: إن هذا لا يخرجكم من أن تكونوا قد أشركتم في القدم وأشركتم في العبادة، ولا يقدح فيما حكيناه عنكم، لأنه يصح أن نعبد مائة ألف معبود بعبادة واحدة. وعلى أنا نجدكم تفردونها وكل واحد منها بالإنعام والإيمان كما هو مذكور في تسبيحة الإيمان وتسبيحة القربان، وتفردونها أيضا بالصنع والأفعال والخلق والتدبير، كما قلتم فيما كان منها من الأفعال حين عمّده يحيى مما تقدم ذكره، وتقولون إن النازل من السماء حتى صار في بطن المرأة وصار هو وابنها بالاتحاد الذي فعله إلها واحدا ومسيحا واحدا، وإنه هو الذي أظهر الآيات في الأرض، وهو المقتول المصلوب، وهو الذي أحيا نفسه بعد الموت، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه. فهذه الأفعال كلها الابن فعلها لا الأب.
فإن قالوا: كل فعل من هذه الأفعال قد فعله الآلهة الثلاثة.
قيل لهم: هذا خلاف النصرانية وهو بيّن فيما قدمنا وذكرنا عنهم؛ وأيضا فإن فعلا واحدا لا يصح أن يفعله أكثر من حي واحد، ومقدورا واحدا لا يصح أن يقدر عليه أكثر من قادر واحد. وهو مبين في كتب العلماء، والنصارى لا تفهم ذلك ولا تحوجك إليه.
واعلم أن النصارى تعتقد أن الأب قد اختلع من ملكه كله وجعله لابنه، فهو يخلق ويرزق ويحيي ويميت، وقد سمعنا هذا ممن يحتج لهم ويخبر عنهم، وهو أيضا بين في تسبيحة إيمانهم. ألا تسمعهم يقولون: ونؤمن بالرب الواحد يسوع المسيح، ابن الله بكر أبيه، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق من جوهر أبيه، الذي بيده اتقنت العوالم وخلق كل شيء، إلى قولهم: وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الاموات والأحياء. ويقولون في عباداتهم وصلواتهم ومناجاتهم: أنت أيها المسيح يسوع تحيينا، وترزقنا، وتخلق أولادنا، وتقيم أجسادنا، إلى غير ذلك مما هذا سبيله ويطول ذكره. فبينا هم يفردون كل واحد منها بفعل، وبينا هم يقولون: إن الأمر كله قد رجع إلى الابن، وكله شرك.
فإن قيل: فما الذي عندكم عن المسيح مما يخالف هذا وما حكيتموه عن النصارى؟
قلنا: أما في الأصول فإنه قال لهم: "الله ربي وربكم، وإلهي وإلهكم" فيشهد على نفسه أنه عبد الله مربوب مدبر مصنوع، كما شهد عليهم أنهم كذلك، وأنه مثلهم في العبودية والضعف والحاجة، وذكر أنه رسول الله إلى خلقه، وأن الله أرسله كما أرسل الأنبياء قبله.
فذكر يوحنا في إنجيله أن يسوع المسيح قال في دعائه: "إن الحياة الدائمة إنما تجب للناس بأن يشهدوا أنك أنت الله الواحد الحق، وأنك أرسلت يسوع المسيح"، فانظر كيف يخلص التوحيد ويدعي النبوة.
وذكر يوحنا أنه قال لبني إسرائيل: تريدون قتلي وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله. وذكر أيضا أنه قال: إني لم أجئ لأعمل بمشيئة نفسي ولكن بمشيئة من أرسلني.
وقال عليه السلام: إن الكلام الذي تسمعونه مني ليس هو لي ولكن من الذي أرسلني، والويل لي إن قلت شيئا من تلقاء نفسي.
وكان عليه السلام يواصل العبادة في الصلاة والصوم ويتنفل، ويقول: ما جئت لأخدم وإنما جئت لأخدم. وقال: إني أنا لست أدين العباد ولا أحاسبهم بأعمالهم ولكن الذي أرسلني هو الذي يلي ذلك منهم. هذا في إنجيل يوحنا.
وفيه أيضا أن المسيح قال: إنهم يا رب قد علموا أنك أرسلتني وقد ذكرت لهم اسمك، وقال المسيح: إن الله الواحد رب كل شيء أرسل ابن البشر إلى جميع العالم لينقلوا إلى الحق. وقال أيضا: إن الاعمال التي أعملهن هن الشاهدات لي بأن الله أرسلني إلى هذا العالم. وقال أيضا: ما أبعدني إن أحدثت شيئا من قبل نفسي، ولكنني أتكلم وأجيب مما علمني ربي.
وقال أيضا: إن الله مسحني وأرسلني وإنما أعبد الله الواحد ليوم الخلاص.
وسألوه عن الساعة متى هي فقال: أنا لا اعلم متى ذلك ولا أحد من البشر، ولا يعلم ذلك إلا الله وحده. وقال: إن الله عز وجل ما أكل ولا يأكل، وما شرب ولا يشرب، ولم ينم ولا ينام، وما ولد ولا يلد ولا يولد، ولا رآه احد، ولا يراه أحد إلا مات.
وقال له رجل: يا أيها الخيّر علمني، فقال له المسيح: لا تقل لي هذا، فإنه لا خيّر إلا الله.
وقال له رجل: مر أخي يقاسمني تركة أبي، فقال: ومن جعلني عليكم قاسما.
وقال في دعائه لما سأل ربه أن يحيي الرجل الميت الذي يقال له إيلا عازر: يا إيل، أنا اشكرك وأحمدك أنك تجيب دعائي في هذا الوقت وفي كل وقت، فأسألك أن تحيي هذا الميت ليعلم بنو إسرائيل أنك أرسلتني وأنك تجيب دعائي.
وقال في دعائه وقد خاف الموت ولم يزل يواصل الصلاة والتضرع والدعاء والبكاء: يا إيل إن كان من مسرتك أن تصرف هذه الكأس المرة عن أحد فاصرفها عني، وليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت. وكان يرمي من فمه كعلق الدم جزعا من الموت ويعرق ويقلق.
وكان إذا ذكر البعث والقيامة والحساب يكون منه البكاء والقلق والجزع ما لا يكون من احد، ويكون من صلاته وصيامه وعبادته وخشوعه ما لا يكون من أحد من زمانه.
ومثل هذا من أقواله وأفعاله أكثر من أن يحصى، وهو معهم وفي أناجيلهم، حتى لقد أحصى أهل المعرفة والعلم، فوجدوا المسيح عليه السلام له من الإقرار على نفسه بالعبودية والضعف والحاجة والفقر والفاقة، ولله عز وجل بالغنى والربوبية، ما لم يكادوا يجدونه لأحد من الأنبياء والصالحين؛ ثم تقول فيه النصارى ما قد سمعت.
فإن قالوا: فقد حكى متى عنه في إنجيله أنه قال لتلامذته: سيروا في الأرض وعمّدوا العباد باسم الآب والابن وروح القدس. وحكوا عنه أنه قال: أنا كنت قبل إبراهيم، وما أشبه ذلك.
قيل له: ليس المسيح أول من كذب عليه. وأنتم تعلمون أن مانيّ القس يدّعي التحقيق بالمسيح، وأنه من أتباعه، وأنه ليس أحد على شريعته ووصاياه إلا هو وأتباعه، وأن الإنجيل الذي معه هو إنجيله. وهو يذكر عنه أنه كان يحرم على الناس كلهم وعلى نفسه النساء وذبائح الحيوان وأكل اللحمان، وأن هذا ما حلّ قط ولا يحل، ويلعن كل من أحلّه، وأنه كان تبرأ من إبراهيم وموسى وهارون ويوشع وداود، ومن كان يرى ذبح الحيوان وأذيته وأكل اللحمان وغير ذلك. ويستشهد على ذلك بمواضع من الأناجيل التي معكم. وعندكم أنه قد كذب على المسيح وافترى وأخطأ فيما تأول، وأن تزكية المسيح لهؤلاء الأنبياء أمر ظاهر لا ينصرف عنه التأويل.
قلنا: فهذه سبيلكم في دعاويكم على المسيح، وأنتم في هذا أشد فضيحة من المنانية، لأن تصديق المسيح للأنبياء وشهادته بما شهدوا به من توحيد الله وإفراده بالقدم والربوبية والحكمة أبين من كل بيّن وأوضح من كل واضح. والعقلاء يردّون المجهول بالمعلوم، وما التبس بما اتضح، وما يحتمل بما لا يحتمل. وقد بلغ الجهل بالنصارى في بدعهم هذه أنهم يقصدون إلى ألفاظ في التوراة وفي كتب الأنبياء محتملة، يحملونها على ظنونهم السيئة وبدعهم هذه الفاحشة، فيقولون: إنما أراد إبراهيم وموسى وهارون وسائر الأنبياء وهو ما أردناه من أن الله ثالث ثلاثة، وأن الأرباب جماعة، وأن الله يصعد وينزل ويولد ويقتل. فيقصدون إلى ما في التوراة من أن الله قال: نريد أن نخلق بشرا على صورتنا ومثلنا. فيقولون: هذا خطاب من جماعة، أما تسمعونه يقول: نريد، ولم يقل: أريد أن أخلق بشرا مثلي، لتعلموا أن الآلهة جماعة، وأنهم على صور وهيئات كهيئات الناس، وما أشبه هذا من الألفاظ المحتملة.
حتى تعدّوا إلى القرآن فقالوا: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، قالوا: فهذا خطاب من جماعة لا من واحد. وقالوا في قوله عز وجل {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ} قالوا فهذا أحد الآلهة والأرباب يقسم بالأرباب. وقالوا في قوله عز وجل: {وَوالِدٍ وَما وَلَدَ} قالوا: فإنما الإله يقسم بنفسه وولده. فيقولون: محمد قد جاء بالنصرانية وبمذهبنا، ولكن أصحابه لم يفهموا عنه. ويقولون في قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} قالوا فهذا الذي نقوله نحن: إنه من جوهر أبيه، ولا نريد بقولنا منه أنه بعضه ولكنه من جنسه ومثله. فيقصدون إلى أقوام كإبراهيم والأنبياء صلوات الله عليهم وأمثالهم قد عرفت مذاهبهم ومقاصدهم فينصرفون عنها بالتأويلات ومحتمل الألفاظ. ومذاهبهم قد تحصلت حصلا لا يحتمل التأويل، لأن العلم بأن المسيح كان في توحيده على منهاج إبراهيم وموسى وهارون وداود ومحمد صلى الله عليهم لا يرتاب به من عرف أخبارهم وسيرهم ودعوتهم قبل العلم بنبوّتهم. فاعرف هذا فإنه أصل كبير يعرفه من تأمل وأراد التبيّن. وقد اغتفل في مثله خلق كثير من العقلاء.
ثم هناك من الكذب على الأنبياء فضلا من التأول لما في كتبهم، كقولهم إن الأنبياء قالوا قبل مجيء المسيح: إن الله سيجيء وتحبل به امرأة عذراء، ويؤخذ ويصلب ويقتل ويموت ويدفن. هذا مما هو أكثر من أن يحصى.
ويقال للنصارى لا فرق بين من ادّعى على المسيح أنه ادّعى الربوبية وأن الله ولده وأنه ابنه على ما تعتقدون وتدّعون، وبين من ادّعى أنه هو وضع تسبيحة الإيمان وتسبيحة القربان، وأنه اتخذ البيعة، وجعل عيده يوم الأحد، وأخذ الناس في زمانه بأن يقولوا: يسوع المسيح إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وأنه كان يأخذهم بأن يتسموا بعبد يسوع وعبد المسيح، وأنه أحلّ الخنزير وأكله، وصلى إلى المشرق، وعطّل الختان والوضوء والطهارة وغسل الجنابة، وأخذ أصحابه بصيام الخمسين، وشرع ذلك ودعا إليه. ومن بلغ هذا فقد تناهى في المكابرة والمجاحدة، اللهم إلا أن لا يكون يعرف أخبار المسيح والنصارى في زمانه، والنصارى بعد موته ومضيه، ولا عني بذلك. فسبيل من ادعى عليه ما يدعي عليه هذه النصارى وما تحكيه عنه وتتأوله عليه كسبيل من ادّعى عليه الأمور التي قدمنا ذكرها.
وفي النصارى قوم استبصروا وأسلموا وتتبعوا المواضع والألفاظ التي تدّعيها النصارى على المسيح، وقالوا لهم: ما نعلم المسيح قال ذلك، ولو قاله لما ضاق مجازه وتأويله، كقولهم إنه قال: ابن البشر رب السبت، وإني قبل إبراهيم وإني بأبي وأبي بي، وما أشبه ذلك. فقالوا لهم: في التوراة أن موسى إله فرعون وإله هارون، وأن هارون رسول موسى إلى فرعون، وأن يوسف قال للمصريين: إن العزيز ربهم. وذكروا لهم عن إبراهيم ولوط وداود وسليمان وعن غيرهم من الأنبياء شيئا كثيرا، ولا حاجة بك إلى ذكره ومعرفته، ولو عرفته لم يكن به بأس، ولكن ارجع أبدا إلى أصل الدعوة والنحلة والمعروف من قول النبي، ورد المجهول بالمعلوم. وقد استغنيت عن التأويل كما تقدم لك.
ومثل هذا ما يدعيه المنجمون على على رسول الله ﷺ أنه كان يذهب إلى ما يذهبون، لأنه قال في كتابه: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ} وأنه قال: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} و {فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ} وغير ذلك. فقال لهم أهل العلم: قبل كل شيء قد عرفنا من دعوة هذا الرجل وقصده قبل المعرفة بنبوته أن ما يكون في غد لا يعلمه ملك مقرب ولا نبيّ مرسل، ولا يعلمه إلا الواحد المنفرد بالقدم، فلا وجه للتعليق عليه بظواهر الألفاظ وبالتأويل. هذا لا يفعله عاقل ولا يذهب الغلط فيه على محصّل، وإنما يخادع بهذا أهل الغافلة.
وكذا قالوا الباطنية ومن سلك سبيلهم في أن باطن الصلوات أشخاص وكذا العبادات، وأن لكل ظاهر باطنا، غير ما عليه الفقهاء والعامة؛ فقالوا لهم: ادّعيتم أنكم من المسلمين، وقد علمنا من دعوة هذا النبي ﷺ قبل العلم بنبوته أن ما حرّمه من الزنى واللّواط والربا والخمر والخنزير والأمهات والبنات والأخوات وغير ذلك محرم على كل عاقل بلغته دعوته كائنا من كان، وأنه على ما عليه الفقهاء والعامة، وأنه لا تأويل لذلك ولا باطن، وأن جميع ما أوجبه من الطهارات والصلوات والصيام والعبادات لا تسقط عن عاقل كائنا من كان، على ما عليه الفقهاء والعامة لا تأويل لذلك ولا باطن، وأن من قال: لهذه الأشياء باطن أو تأويل، فقد كفر وأشرك وخرج من الإسلام خروجا ظاهرا. ولا حاجة بنا إلى أن نبيّن لكم تأويل الآيات التي سألتم عنها، فقد علمنا من قصده ﷺ أن مراده في ذلك غير مرادكم، وقصده غير قصدكم. مثل هذا قالوا لمن قال من هشام بن الحكم وأتباعه حين قالوا: إن الله لا يعلم ما يكون قبل أن يكون، لأنه قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} وأنه يفعل الجور والظلم، ولمن قالوا: يأمر بالفسق لقوله: {أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها} فاعرف هذا فإنه أصل كبير.
ثم رجعنا إلى قولنا في النصارى.
فإن قيل: كل هذا [الذي] حكيتموه عن المسيح موجود في الكتب التي مع النصارى، فكيف جعلتم ما حكاه نبيكم عن المسيح وعنهم من معجزاته وآياته؟
قلنا: قد فرغنا من هذا غير مرة وبيّنا أن هذا النبي ﷺ ما قرأ الكتب ولا قرئت عليه، ولا اختلف إلى أهلها ولا اختلفوا إليه، ولا عرف ذلك إلا بوحي، وإن كان موجود في كتبهم. كما أنه لم يعرف قصة نوح وإبراهيم ويوسف وموسى وهارون إلا بالوحي، وإن كانت مذكورة في كتبهم.
فإن قيل: لعمري إن من عرف دعوة المسيح يعلم أن دعوته إلى توحيد الله كدعوة موسى وهارون ومحمد وأمثالهم من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وأنه بريء من دعوة هذه الطوائف من النصارى كبراءته من دعوة المنانية، وكبراءة محمد وموسى وهارون من ذلك أجمع. ولكن قد جاء عنه أنه كان يقول في الله أبوه، فيقول: أرسلني أبي، وقال لي أبي، ومثل هذا كثير، فما عندكم فيه؟
قيل له: إن كان قد قال هذا فلا حجة للنصارى فيه، لأنهم قد قالوا إنه قال لنا: "أنا أذهب إلى أبي وأبيكم، وربي وربكم" فلم يجعل لنفسه مزية عليهم، فإن وجب أن يكون هذا القول إلها وربا ومعبودا، وجب أن يكونوا هم كذلك. وقد قال بعض الناس: إن الابن في اللغة العبرانية التي هي لغة المسيح تقع على العبد الصالح المطيع الوليّ المخلص، وأن الأب قد تقع على السيد المالك المدبر. قالوا: وقد قال في التوراة: إن إسرائيل ابني وبكري وأولاده أبنائي؛ وعلى دعوى النصارى تجب لهم الإلهية. وقد قال ايشيعيا النبي عليه السلام في كتابه: إن الله أبو جميع العالم. وأنتم معشر النصارى تذكرون أن متى حكى في إنجيله عن المسيح أنه قال: طوبى لكم معشر المصلحين بين الناس فإنكم تسمّون أبناء الله. وقال متى في إنجيله: إن المسيح قال للناس: إن أباكم السماوي واحد فرد. وقالوا: أن المسيح كان يقول في صلاته التي كان يصليها ويعلمها الناس: قولوا يا أبانا الذي في السماء أنت قدوس اسمك، عزيز سلطانك، نافذ أمرك في السماوات والأرض، لا يعجزك ما طلبت، ولا يمتنع منك ما أردت، فاغفر لنا ذنوبنا وخطايانا ولا تعذبنا بالنار. فينبغي على قول النصارى أن تكون هؤلاء كلها آلهة وأربابا، لتعلم أن اسم الأب يقع في تلك اللغة على السيد والمالك.
وقال المسيح لبني إسرائيل: لو كنتم أبناء إبراهيم لأجبتموني فإني ابن إبراهيم. وقد علمنا أن بني إسرائيل كلهم أولاد إبراهيم، وإنما أراد أنكم لو كنتم أولياء إبراهيم.
وأيضا فإن النصارى تذكر عن بولص أنه ذكر في الرسالة فقال بأن الروح نفسها تشهد لأرواحنا أنا أبناء الله. وهم يقولون في الأشرار: إنهم أبناء الشياطين. ومثل هذا كثير في لغتهم، واستعمالهم في الابن بمعنى الوليّ المخلص، وفي الأب بمعنى السيد المالك الرفيع. ولهذا تقول النصارى في الجاثليق أبونا، فهذا كله في استعمالهم. ولكنهم لما اعتقدوا في الله عز وجل أنه رجل وإنسان وشخص وما هذه سبيله لم يرضوا أن يجعلوا له أبناء إلا بالحقيقة من طريق الولادة والتناسل كما تقدم بيان ذلك لك. وهم يقولون: إن الله الأب قال لابنه يسوع المسيح إني ولدتك قبل أن أخلق كوكب الصبح.
وليس في هذه الطوائف الثلاث من النصارى من يقول: إن المسيح ابن الله على طريق التشريف والمجاز، بل هو إله تام من إله بام، وإله حق من إله حق، من جوهر أبيه. فاعرف هذا.
ما جاء به الرسول حول الزعم بصلب المسيح واختلاف النصارى حول الأناجيل وتأثر المجتمعات النصرانية بعقائد الروم وأخلاقهم
باب آخر
من هذا الجنس، وهو أن هذه النصارى واليهود جميعا يدعون فيلاطس الرومي ملك الروم أخذ المسيح يتظلم اليهود منه وسلمه إليهم، فحملوه على حمار وجعلوا وجهه إلى عجز الحمار وجعلوا على رأسه إكليل شوك، وطوفوا به تنكيلا. وأنهم كانوا يقفدونه من ورائه ويأتونه من تلقاء وجهه فيقولون له: يا ملك بني إسرائيل من صنع هذا بك؟ سخرية منه. وأنه لما ناله من الكدّ والشقاء عطش واستجدى وقال لهم: اسقوني ماء، فأخذوا الشجر المر واعتصروه وجعلوا الخل في ذلك العصير وأعطوه، فأخذه وهو يظنه ماء فغبّ فيه فلما وجد مرارته مجه فسعطوه به وعذبوه يومه وليلته. فلما كان من الغد وهو يوم الجمعة الذي يسمونه جمعة جشا سألوا فيلاطس ضربه بالسوط فضربه، ثم أخذوه وصلبوه وطعنوه بالرماح وما زال يصيح وهو مصلوب على خشبة: "يا إلهي لم خذلتني يا الهي لم تركتني" إلى أن مات ونزلوا به ودفنوه. وادعى اليهود والنصارى العلم بذلك والمعاينة والمشاهدة، وأنهم قد تلقوا ذلك الجمهور عن الجمهور، والأمم عن الأمم، وصار النصارى خاصة يسخرون من المسلمين إذا قالوا ما كان هذا من شيء، ويقولون: أي فائدة لصاحبكم في مكابرة الأمم المجمعة على ذلك، وقد سبقوه وكانوا قبله، وهم أهل هذا الرجل وأصحابه، وبينهم ولد، ومعهم نشأ، وقد أجمع على ذلك عدوه من اليهود ووليه من النصارى، فأنكر نبيكم. وهل هذا إلا كما قيل: رضي الخصمان وأبى القاضي.
فنظر أهل العلم في قوله ﷺ، فإذا هو قد أخبر أنهم قد قالوا ذلك وهم لا يعلمونه، وما معهم علم به ولكنه ظن يظنونه، فإذا الأمر كما قال وكما أخبر، والعلم بأن الاعتقاد هو علم أو جهل أو ظن لا يعلمه إلا من قد صحب المتكلمين والنظارين وانقطع إلى صنعة الكلام ومهر فيها وكدّ، وهذا رجل متكلف، فيعلم أنه ما علم هذا إلا بالوحي من قبل الله. وهذا من آياته العجيبة.
وتأمل إلى إقدامه على أمتين عظيمتين من أهل التحصيل والعقل، قد أجمعوا على أمر وسبقوه في الزمان، وهو أشد الناس حرصا على تألفهم وإجابتهم واستمالتهم، فأكذبهم وردهم، ولو كان متقوّلا لتهيّب ولم يقدم على ذلك خوفا من أن يكون الأمر كما قالوا وكما ادّعوا فيبين كذبه ويرجع عنه من قد تبعه، لأن الأنبياء يجوز أن يقتلوا ويصلبوا، بل قد قتل قوم منهم.
وأيضا، فليس في قتل المسيح طعن عليه ولا قدح في أمره، وما به حاجة إلى مخالفتهم في ذلك، بل قد كان ينبغي أن يكون إلى تصديقهم في ذلك أحوج، ليكون تشنيعه على النصارى أقوى، لأنهم قد اعتقدوا فيه أنه إله ورب وقد رأوه أسيرا مقهورا في يد عدوه ومصلوبا ومقتولا، ويزيد شناعته على اليهود لأنهم قد قتلوا نبيا آخر مضافا إلى غيره من الأنبياء الذين قد قتلوهم قبل المسيح. فتجنب ﷺ هذا كله مع الحاجة إليه، وقال: قد ادعوا أنهم قد علموا ذلك وليسوا به عالمين ولا متفقين، وما معهم فيه إلا الظن فقال: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ. وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ. وَما قَتَلُوهُ يَقِينًا} أي ليس ثمّ يقين ولا سكون نفس، تقول العرب في الخبر المتيقن قتلته علما وقتلته يقينا. ثم قال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} أي صانه وعظمه أن تناله يد عدوه بالقتل والصلب، لأن الظن قد يصدق تارة، وقد تجتمع الجماعة الكبيرة فتصدق المخبر الواحد من طريق حسن الظن بخبره، ويكون قد صدق فيما أخبر، فيكونوا صادقين وإن لم يعلموا صدقه، وإن ظنوا أن اعتقادهم لذلك علم. فانظر إلى ذلك كيف بيّنه من كل وجه.
فإن قيل: ومن أين لكم أن الجماعات من أسلافهم ما شاهدوا ذلك ولا عاينوه كما ادّعوا؟
قيل له: من تأمل علم بعقله أن الأمر كما قال ﷺ لا كما قالوا، لأن تلك الجماعات لو قد كانت شاهدت ذلك وعلمته لكان من لقيهم وسمع منهم في مثل حالهم في العلم بذلك، فكان يكون كل من لقي النصارى واليهود وسمع ذلك منهم عالما بذلك، فكنا نكون في مثل حالهم في العلم بذلك. ألا ترى أنا لما أخبرناهم بقتل حمزة وجعفر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم شاركونا في العلم بذلك وصارت حالهم في ذلك مثل حالنا، فلما رجعنا إلى أنفسنا فلم نجدنا عالمين مع مخالطتنا لهم وكثرة سماعنا منهم، علمنا أنهم ليسوا بذلك عالمين، وأن اعتقادهم لذلك ليس بعلم. فبهذا الدليل علمنا صحة دعواه ﷺ وكذب دعواهم في أنهم بذلك عالمين.
وبهذا الاعتبار تعلم رحمك الله بطلان دعوى من ادّعى من اليهود أن موسى صلى الله عليه شافه أسلافه الذين كانوا معه وهم ستمائة ألف رجل شاب سوى المشيخة والنساء بأن شريعته مؤبدة إلى أن تقوم الساعة، وأنه لا يحل تغير شيء منها البتة، وأن من ادّعى خلاف ذلك فقد كذب وكفر. وادعت اليهود أنهم بذلك عالمون. فقلنا: لو كنتم بذلك عالمين، وكان اعتقادكم لذلك علما وقد حجكم من لقيتم من أسلافكم، لكنتم حجة على أهل زمانكم، وكان يعلم ذلك بقولكم وإخباركم كل من شرح ذلك منكم، فلما كنا بذلك غير عالمين فإن اعتقادكم لذلك ليس بعلم. ألا ترى أنّا وكل من يسمع منكم يعلم أن موسى عليه السلام كان يدّعي أنه رسول الله، وأن الله اصطفاه وأرسله، وأنه صلى الله عليه كان يحرم الأمهات والبنات والأخوات والميتة والخنزير وذبائح الوثنيين، إلى غير ذلك مما حرمه، وأنه كان يقيم السبت. فلو كان ما ادّعيتم من تأبيد شريعته لكان علمنا به كعلمنا بما قدمنا، بل كان يكون أقوى من العلم بذلك، فلما لم يكن كذلك علمنا وتيقنا أن موسى عليه السلام ما قال ذلك ولا دعا إليه ولا فرضه وأن الأمر لم يجر المجرى الذي ادّعيتموه.
يزيدك وضوحا لذلك أن رسول الله ﷺ لما عهد أن شريعته مؤبدة علم ذلك كل من سمع الأخبار ممن صدقه أو كذبه، فلو كان الأمر كما ادّعوا لعلمنا ذلك بإخبارهم كما علموا ذلك من شأن نبينا بإخبارنا إياهم وبسماعهم ذلك منا.
وهذا أصل كبير سبيلك أن تعنى به وتكبر مراعاتك له، فبه تعلم أيضا بطلان دعاوى النصارى في ادّعائهم قيام المسيح من قبره، وأنه عليه السلام أقام معهم بعد قيامه من قبره أربعين يوما ثم صعد إلى السماء وهم يرونه. وهم يؤكدون هذا الكذب بأن يجعلوا له عيدا في يوم بعينه.
وبمثل ذلك تعلم بطلان دعواهم أن الخشبة التي صلب عليها المسيح وضعت على ميت فإذا هو حيّ يسعى، وأن هذا كان ببيت المقدس جهارا في يوم شهدته النصارى واليهود والروم وأمم لم يحصها إلا الله لكثرتها. ولهذا نظائر من دعواهم.
وبه تعرف بطلان دعاوى المجوس لزرادشت المعجزات.
وبمثل هذا تعلم بطلان دعاوى الرافضة أن النبي ﷺ استخلف أمير المؤمنين عليا على أمته، وفرض طاعته عليهم أجمعين من الأحرار والعبيد والرجال والنساء وجعله حجة عليهم. وادّعوا أنهم قد علموا ذلك بإخبار جماعات أخبروهم بذلك، وأن اعتقادهم بذلك علم.
فقلنا: لو كنتم بذلك عالمين وكان اعتقادكم لذلك علما، لساويناكم في العلم بذلك لكثرة سماعنا منكم والخوض معكم فيه؛ فلما لم يكن كذلك، علمنا وتيقنا أن ذلك أمر لا أصل له.
والعلم ببطلان دعاوى الرافضة في ذلك أقوى وأظهر والأدلة عليه أكثر لقرب عهده وكثرة الخوض فيه، ولأن الذي ادعى ذلك لم يكن يدعيه ولا يذهب إليه، ولأمور كثيرة. والأدلة على ذلك أكثر من الأدلة على غيره.
والرافضة تسأل في ذلك عما تسأل عنه اليهود والنصارى والمجوس في الطعن على رسول الله ﷺ وفي نبوته. فيقولون لما اعتقدتم صدق محمد ونبوته فقال لكم: إن المسيح لم يصلب وإن موسى لم يقل إن شريعته مؤبدة وصار إقراركم بذلك ناقضا لقولكم ومفسدا لدينكم ومبطلا لأصولكم [ذهبتم عنه ] ولم تعترفوا به.
قيل لهم: قد عرفناكم أنا إنما عرفنا بطلان هذه الدعاوى بذلك الاستدلال والاعتبار الذي قدمنا وشرحنا قبل العلم بنبوته ﷺ وقبل المصير إلى قوله وقول أصحابه، حتى لو استدلت الملحدة كما استدللنا لعلمت من ذلك ما علمنا، وحتى لو لم يبعثه الله تبارك وتعالى حتى يعتبر معتبر ويستدل مستدل لعلم بطلان هذه الدعاوى، كلها لأنا وجدنا أمما أمثالنا وفي زماننا يدعون أمورا وعهودا قد كانت في العصور الخالية التي قد سبقتنا ادعوا العلم بها، فرجعنا إلى عقولنا واختبرنا فدلت العقول على أن اعتقادهم لذلك ليس بعلم، وأن خبرهم بذلك ليس بصدق، وأنه لم يكن هناك شيء مما ادعوه ينقل إليهم، وإنما هم قوم شبّه لهم فاعتقدوا أمورا تموهت عليهم فسموا اعتقادهم علما وخبرهم نقلا.
وأيضا، فلو كنا إنما نعترف بذلك خوف الفضيحة في بطلان ديننا فقد كان ينبغي أن نكون بذلك عالمين وإن لم نعترف، كما يعلم اللص أنه سرق وإن لم يعترف خوف الفضيحة.
وأيضا فإن كان الناس قد علموا أنّا قد علمنا فجحدنا وكابرنا فقد تعجلنا الفضيحة وعلم الناس جميعا ببهتنا ومكابرتنا فما سلمنا من الفضيحة المعجّلة. وهذا لا يذهب فساده على عاقل نظر وتدبر.
فإن قالوا: فأنتم بذلك عالمون وإن لم تعترفوا؛ قيل لهم: إنا إذا رجعنا إلى أنفسنا علمنا كذبكم على ضمائرنا، وكفى بذلك علما لنا بكذبكم علينا وبهتكم لنا، فإنا لا نعلم ذلك بل لا نعتقده، فضلا أن نعلمه. بل نعتقد ونعلم بطلان ذلك، كما نعلم أن للعالم صانعا وأنه واحد وأن محمدا ﷺ رسوله إلى خلقه.
وأيضا، فإن الجماعات الكبيرة لا تجوز أن تكتم ما قد رأته وسمعته وإن ضرها ذلك وإن ساءها، كما لم تجوز أن تفتعل ما لم يكن فتقول: قد كان ورأينا وسمعنا وإن كان ما رأت ولا سمعت وإن سرها ذلك ونفعها، وهذا في الكتمان أقوى وأظهر وأبين، لأن الكتمان أثقل، والصبر عليه أشد، والحفظ له أصعب، والناس إلى القول أسرع، وهم عليه أخف، ولهم فيه فرح واسترواح، وعلتهم في الكتمان كالكرب والألم، فيستروحون بإذاعته وينفرجون بالقائه، حتى أنهم ليتحدثون بما فيه زوال نعمهم وسفك دمائهم، وحتى لقد ادعينا أن ينكتم ما بين السلطان ووزيره وأمثال ذلك ممن يجوز عليهم الكتمان، فإن الكتمان قد يجوز على الواحد والاثنين والنفر اليسير. وكذا الافتعال وإن كان الافتعال أمكن من الكتمان. ولهذا يتواصى العقلاء بالصمت والكتمان ما لا يتواصون بالقول، ويحذرون منه ما لا يحذرون من القول، حتى أن الصمت والكتمان لا يجوز إلا في عقلاء الرجال وفي أفراد الناس، وهو فيهم أقل من القليل.
فاعرف هذا فإن هؤلاء الملحدة كأبي عيسى الوراق، والحداد، وابن الراوندي، لما لم يجدوا في رسول الله مطعنا ادعوا أنه قد كانت له فضائح وأكاذيب وحيل وقف عليها أصحابه وأهله وكتموا ذلك لحبهم له ولئلا يفتضحوا باتباع كذاب. وإنما يجوز أن ينكتم ما يكون بين اثنين من النفر اليسير مدة ما ثم يظهر، فأما ما يكون بين الجماعة فإنه لا ينكتم ولا يطمع العاقل في كتمانه ولا يحدث نفسه به وإن ضره وإن ساءه. ألا ترى أن النبي ﷺ جاء بإكفار اليهود والنصارى والمجوس، وبالبراءة منهم، وسفك دمائهم، وسبي ذريتهم، واستباحة أموالهم، وبأخذ الجزية من أهل عهدهم، إلى غير ذلك مما شرعه من مكارههم، وكل ذلك قد ضرهم وساءهم وذهب برئاستهم وأسقط من أقدارهم، وقد ودوا أن ذلك لم يكن قط، وأن الله قد رفعه من قلوبهم ومن قلوب الخلق أجمعين، وهذا علموه حين نطق به النبي ﷺ وقاله وشرعه وهو وحيد ضعيف فقير، وهم قد نقلوا ذلك وأذاعوه ونشروه وتحدثوا به مع ما عليهم فيه، والدولة والعزّ والغلبة إذ ذاك لهم لا له.
وهذا حال أمير المؤمنين مع معاوية وبني أمية فإنهم قد كرهوا عقد أهل المدينة له بعد عثمان، وكرهوا ما دعا إليه من تضليلهم وما فرضه من مجاهدتهم وقتالهم وما بيّنه من نقضهم وتسفيههم، وودّوا أن ذلك لم يكن، وما طمعوا في كتمان شيء من ذلك ولا فيما كان له من الفضائل، وأنه صلى الله عليه من البدريين والسابقيين، ومن الفقهاء والزهاد والأولياء، ومن العشرة ومن أهل الشجرة ومن أهل الشورى، وقد ساءهم كل هذا فما أمكنهم مع الملك والدولة أن يدفعوه عن شيء منه مع محبتهم لدفعه عنهم ومع كراهتهم لكونه، ولا أن يدخلوا معاوية وهو سيدهم ورئيسهم في المهاجرين ولا في الأنصار، وقد ودوا أن ذلك قد كان، ولا أمكنهم أن يخرجوه من أن يكون من الطلقاء وأبناء الطلقاء.
وانظر إلى الشعراء الذين هجوا رسول الله ﷺ من قريش ومن غيرهم، ومن الكتب التي وضعها الملحدة وطبقات الزنادقة، كالحدّاد، وأبي عيسى الوراق، وابن الراوندي، والحصري، وآمالهم في الطعن في الربوبية وشتم الأنبياء صلوات الله عليهم وتكذيبهم، فإنهم وضعوها في أيام بني العباس وفي وسط الإسلام وسلطانه والمسلمون أكثر مما كانوا إذ ذاك وأشد ما كانوا ولهم القهر والغلبة والعز، والذين وضعوا هذه الكتب أذلّ ما كانوا، وإنما كان الواحد بعد الواحد من هؤلاء يضع كتابه خفيا وهو خائف يترقب، ويخفي ذلك عن أهله وولده، ولا يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد ممن هو في مثل حاله في الخوف والذل والقهر، ثم ينتشر ذلك في أدنى مدة ويظهر حتى يباع في أسواق المسلمين، ويعرفه خاصتهم وعامتهم، ويتحدثون به ويتقولونه ويذكرونه وقد غمّهم ذلك وساءهم، وودوا أن ذلك لم يكن.
وكذا ما كان بالبحرين من أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي وولده، وما كان من أبي القاسم الحسن بن الفرح بن حوشب بن زاذان النجار الكوفي بجبال لاعة وعدن لاعة من أرض اليمن، وما كان من أبي الحسين محمد بن الفضل بجيشان والجند والمذيخرة من أرض اليمن، وما كان لعبيد المتسمي بعبيد الله المهدي بأرض المغرب، وما كان بمن بعده من هذه الطوائف، فإنهم كلهم لما تمكنوا وقد كانوا في أول أمرهم يتسترون بالتشيع، فلما ظهروا وصاروا في جماعات وعساكر أغاروا على من جاورهم وقرب منهم، فشتموا الأنبياء واستنجوا بالمصاحف، وسبوا المسلمات والعلويات، وغزوا مكة. وكان غزو مكة لقرامطة البحرين خاصة من ولد أبي سعيد، وغدروا بالحجاج بعد أن أمنوهم، ولهم في قصد الإسلام ومكاره المسلمين ما هو معلوم ومكتوب. وكل ذلك مما قد ضرّ المسلمين وكرهوه، وودوا أن ذلك لم يكن، ثم هم يذكرون ذلك ويتقولونه ويدونونه، فتعلم أن الدول والممالك والقهر والغلبة لا تغطّي على الأمور التي قد كانت ووقعت، وأن العقلاء لا يحدثون أنفسهم بكتمان معايبهم التي قد كانت وتحصلت وعلم بها الناس مرة واحدة، ولا يحدثون أنفسهم بكتمان مناقب أعدائهم وإن ساءهم وغمهم.
يزيدك علما بذلك أن للفرس والروم والهند محاسن ومناقب لا يسترها أعداؤهم من المسلمين ولا يكتمونها وإن ساءتهم، وكذا ما للمسلمين والعرب من المحاسن والمناقب لا يدفعها أعداؤهم من هذه الأمم، ولملوك بني أمية مساوئ وهفوات كانت مذكورة متداولة في أيامهم وفي سلطانهم، وكذا لملوك بني العباس. ولملوك بني أمية محاسن لا يدفعها أعداؤهم من ملوك بني العباس.
فاعرف هذا الباب وأطل فكرك فيه لتعرف غلط الملحدة، وتعرف بطلان دعاوى الشيع أن الصدر الاول من المسلمين غيروا النصوص والقرآن، فبدّلوا ووضعوا ما لم يكن، ونسبوه إلى النبي ﷺ، وأخذه عنهم التابعون، وصار فيمن بعدهم من العلماء وطبقات المتكلمين والفقهاء فظنوه دينا وليس كذلك، وأن هذه الحيلة قد تمت على المعتزلة والفقهاء وعلى أصحاب الحديث والمرجئة والخوارج، وخفي عليهم موضع الحيلة في ذلك، وأن سلطان أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم غطّى ذلك ومنع من ذكره، وأن عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه لما ملك سلك سبيل الخلفاء وقبله وما أمكنه إظهار تضليلهم إلى أن خرج من الدنيا، لأن أعوانه وجنده كانوا شيعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلو أومئ إلى تضليلهم لقتلوه وأبادوه. فالحجة في بطلان دعاويهم هذه كالحجة على الملحدة وجميع أعداء رسول الله ﷺ. على أن هذا الطعن على السلف إنما وضعه لهم الملحدة الذين قدمنا ذكرهم فلكلهم كتب في نصرة دعاوى الرافضة على المهاجرين والأنصار، وهم خدعوهم ولقنوهم هذه المطاعن لفرط عداوتهم لرسول الله ﷺ، فتمت حيلتهم عليهم وهم لا يشعرون. على أنهم لا ينفصلون عن مطاعن الملحدة على رسول الله ﷺ ما أقاموا على بدعهم هذه، والحجة عليهم أكثر منها على كل مبتدع، كما أن الحجة على الشيع أكثر من هذا.
ثم عدت إلى اليهود والنصارى فيما ادعوه من الصلب وغيره مما [قدمنا]، فقيل لهم: إذا كان العلم بذلك قد شاع في الأمم وعلمه العقلاء الذين سمعوا به [لكان] محمد ﷺ ومن كان في زمانه من الأمم [الذين] صدّقوه واعتقدوا نبوته قد علموا ذلك لا محالة؛ فكيف ادعى أن ذلك لم يكن، وهل يفعل هذا عاقل كائنا من كان، فكيف بعاقل يدعي النبوة والصدق ويريد من الأمم كلها تصديقه واتباعه وهو أشد الناس حرصا على إجابتهم، وكيف اتبعته تلك الجماعات من قريش والأوس والخزرج واليهود والنصارى مع كثرتهم في جزيرة العرب، وهم يسمعونه يكذب ويبهت، وهو يعلم أنهم يعلمون أنه قد كذب في ذلك، وهذا لا يكون مثله ولا يقع من العقلاء. ومن تدبر الأمور يعلم جهل من ادعى علم اليهود والنصارى بما قدمنا بأدنى تأمل، وكيف لم يجر في هذا قول معه فيقول له أعداؤه من قريش وغيرهم: ادعيت الصدق والنبوة ثم كذبت الكذب الظاهر وبهتّ الأمم البهت المكسوف، فقلت: المسيح لم يقتل ولم يصلب، وهذه الأمم كلها تعلم ذلك علما لا يرتاب به كما تعلم أن موسى وعيسى كانا في الدنيا. ومن كانت هذه سبيله لم يصدقه عاقل ولم يكن له رئاسة، وكيف لم يقولوا لمن اتبعه: يا هؤلاء، أكفرتم آباءكم، وضللتم أسلافكم، وأنفقتم أموالكم، وعاديتم ملوك الأرض وجبابرتها وجميع الأمم، وسفكتم دماءكم في طاعة كذاب قد عرفتم كذبه وبهته.
وقد قيل لبعض مجادلي اليهود ونظارهم ممن قد قرأ الكتب، واكثر الاختلاف إلى العلماء وكتب كتبهم، وادعى أنه يتقدم على علمائهم من أهل عصره: أليس إنما يعرف الأخبار من تأخر عمن تقدم؟ فقال: بلى، قالوا له: أليس اليهود الذين كانوا مع محمد ﷺ وفي زمانه قد علموا أن موسى قد قال إن شريعته مؤبدة؟ فقال: بلى، فقيل له: فلم لم يقولوا لمحمد أنت قد زكيت موسى وصدقته ووثقته وهو قد قال ووصى بأن شريعته مؤبدة؟ وفي هذا كفاية في كذبك وبطلان قولك، وهذا أمر ظاهر بيّن يستدركه رعن النساء فضلا عن عقلاء الرجال، فأين كانوا عنه وقد خرجوا معه وفي عداوته إلى شدائد الأمور، من شتمه وهجوه والغدر به ومساعدة قريش في محاربته وبذل الأموال والمهج في مكارهه؟ فقال: قد قالوا ذلك له وأقاموا الحجة به عليه، فقيل له: من أين لك العلم بهذه الدعوى؟ فقال: قد علمت ذلك، فقيل له: فلم لم يعلمه خصومك كما علمته؟ فقال: مجّته الأسماع، فقيل له: ما تزيد على الدعاوى، فإنك ادعيت أن ذلك قد كان، فقيل لك من أين لك العلم به ولم لا علمه خصومك؟ فادعيت أن الاسماع مجّته، فانتقلت من الدعوى إلى دعوى، وقرنت الدعوى بدعوى، ولا فرق بين دعواك هذه وبين دعوى من ادعى أن اليهود حين قالوا هذا له أحيا الله موسى وهارون وأظهر على أيديهما الآيات والمعجزات فكاشفا محمدا وشافهاه وأقاما الحجة عليه بمشهد من اليهود ومن أصحابه، وأن ذلك قد كان وعلم ولكن مجّته الأسماع، فما أتى بشيء.
واعلم أن أقوى حجج اليهود هو دعواهم أن موسى نص على ذلك ووصى به وقد مر لك الكلام عليه من غير وجه فما يحتاج في الرد على اليهود أكثر منه.
فإن قيل: فأنتم قد طالبتم هذه الطوائف التي ادعت هذه الدعاوى وادعت العلم بها، فقلتم لليهود والنصارى: لو كان علمكم بالصلب لهذا الشخص قد حصل لكم بإخبار جماعات كثيرة شاهدت ذلك لعلمنا ذلك بخبركم وبسماعنا منكم كما علمتم بإخبارنا لكم قتل جعفر وحمزة وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وقلتم: لو نصّ موسى النص الذي تدعونه وكنتم قد علمتم ذلك بإخبار الجماعات لكم لعلمنا ذلك بخبركم كما علمتم بإخبارنا إياكم عن نبينا أن شريعته مؤبدة. وقلتم للإمامية وطبقات الرافضة: لو كان النبي نص على ما تدعون ووصى أمته بذلك وفرضه عليهم وكان اعتقادكم لذلك علما حصل لكم من قبل الجماعات التي أخبرتكم بذلك، لعلمنا ذلك بأخباركم إيانا وسماعنا منكم كما علمتم وعلمنا نص عمر على أهل الشورى، وكما علمتم وعلمنا نص أهل المدينة على الإمام علي رضي الله عنه بالخلافة بعد عثمان، وكما علمتم وعلمنا نص أبي بكر على عمر، ونصّ معاوية على يزيد، ونص عبد الملك على الوليد، ونص المنصور على المهدي، فلم لا علم اليهود والنصارى والرافضة أن هذه الأمور لم تكن كما علمتم؟
قيل له: لو كانت، لجاءت مجيء أمثالها مما ذكرناه وتحصّل العلم بها لنا كحصوله في تلك الأمور، وإنما يعلم أن ذلك لم يكن بما يستدل به كما استدللنا، ومن لم يستدل جاز أن يعتقد أن ذلك قد كان وإن لم يكن لتركه النظر والاستدلال، ويكون اعتقاده لذلك ليس بعلم وخبره ليس بصدق وإن ظنه علما وصدقا.
ولسنا ندّعي على هذه الطوائف إنها كلها قد علمت وكابرت، وهذا يكون الأصل فيه أن يخبر به الواحد والاثنان أو النفر القليل، فيقولون: أخذنا هذا عن جماعات كثيرة فيصدقهم من سمعهم ويحسن الظن بهم، ويأتي من بعد هؤلاء فيصدقهم، ويكثر من يعتقد ذلك، ويقول: من قبلي قد أخذ هذا عن جماعات، فتكثر أهل هذه الدعاوى بعد ذلك ويغترون بكثرتهم. وربما كان أصل المقالة تأويل آية من كتاب أو من قول من يقتدى به فيعتقد التالي له أنه نص فيقول: قد نص موسى أو عيسى أو محمد صلى الله عليهم على كذا في آية كذا في يوم كذا ويذكر ذلك القول. وذاك القائل ما أراد بقوله ما أراده هذا المتأول ولا قصد قصده. مثل ما أولت القرامطة في قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا} قالوا: فقد أخبر أن من دخل مكة يأمن من القتل والخوف ونحن نرى الناس فيه يخافون ويقتلون، فقد ظهر كذبه، فإنا قد قتلنا المسلمين فيه، ولكن أتباع محمد ﷺ حمير لا يعقلون. والله تبارك وتعالى ما أراد ما ظنوا، ولا هذا خبر وإن كان لفظه لفظ الخبر، وإنما هو أمر بأن من دخله فينبغي أن يؤمن ولا يخاف ولا يحل لأحد أن يخيفه. وهذا مثل قوله: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} وما أشبهه، فإن ظاهر هذا الخبر ومعناه الأمر، أي يجب على المطلقة أن تتربص، وعلى الوالدة أن ترضع. ولكن الباطنية يقصدون البوادي والعجم ومن لم يشتغل بالعلم فيخدعونه بأنواع الخدائع، ويحلفونهم على كتمان ما يسمعون، فيغترون بهم. وهم أفسدوا من بالبحرين، وكان ابتداء أمرهم معهم التشيع، ثم رقوهم درجات إلى أن جاؤوهم وجاهروهم بتكذيب الأنبياء، فصار بتلك النواحي عداوة الإسلام متأكدة إلى هذه الغاية. ولإفراط جهل هؤلاء ما تم عليهم. وإلا ففي نصّ القرآن جواز القتل في المسجد الحرام. أما تسمع قوله عزّ وجل {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} فأي شأن أبين من هذا. ومثله قوله عز وجل: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} وقد قتل قوم ممن آمن بالنبي ﷺ قبل الهجرة وقتل فيه منهم قبل الفتح، وقد قتل هو ﷺ يوم الفتح فيه قوما، والأمر في ذلك ظاهر، ولا يذهب مثل هذا إلا على الغاية في الغافلة. فإن كان الأمر على ما ظنه هؤلاء الجهال، فكيف لم تقل قريش والعرب واليهود والنصارى وأعداء رسول الله الذين كانوا معه وهم في طلب عثرة تكون له مثل ما قاله هؤلاء الجهال وأنكروا عليه ذلك.
ومما قاله هؤلاء الزنادقة أيضا: إن محمدا قد رجع عما كان يدّعيه من اليقين في أمره وأظهر الشك بقوله في كتابه: {وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} وقال: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ}.
فقيل لهم: إن كان أفاد بهذا الذي ظننتم، فلم لا كان أعداؤه من قريش والأعراب واليهود والنصارى أنكروا ما أنكرتم؟.
وكذا نقول لمن قال: إن أصحاب محمد صلى الله عليهم وسلم ارتدوا بعده، فقيل له: من أين لك هذا؟ قال من نصّ القرآن لأنه قال: {أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ}، فيقال له: أنت أسوأ حالا في هذا من أولئك، لأن هذا ليس بخبر ولا ظاهره الخبر، وإنما ظاهره الاستفهام، والله لا يستفهم لأنه بكل شيء عليم، وإنما المراد به التثبيت والتنبيه كما قال: {وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ} أي لا يخلدون ولا ينبغي لهم الخلود. وكذلك أولئك لا يرتدون ولا ينبغي لهم أن يرتدوا. ولما قال بعض المبتدعة بالتشبيه، وتأولوا النصوص قلنا لهم هذا.
وقد كثرت البدع والكذب على الأنبياء بما لم يقولوه ولا أرادوه، ويدعون المبتدعة أن لهم سلفا أمثالهم حتى يتصلوا بالأنبياء فتغرهم كثرتهم وتغرهم زعماؤهم.
على أن النصارى لو رجعت إلى أخبارها والى ما في أناجيلها الأربعة لعلمت أن المقتول المصلوب غير المسيح، إذا كانت هذه الأناجيل معولهم. لأنهم لما انتهوا إلى ذكر المقتول المصلوب والصلبوت قالوا: إن اليهود قصدوا في خميس الفسح إلى هيريدس صاحب فيلاطس ملك الروم، وقالوا: هاهنا رجل منا قد أفسد أحداثنا وغرّهم ولنا عليك في الشرط أن تمكننا ممن هذه سبيله لننفذ حكمنا فيه؛ فقال لأعوانه: اذهبوا مع هؤلاء فهاتوا خصمهم، فخرج الأعوان مع اليهود فصاروا بباب هذا السلطان، فأقبل اليهود على الأعوان فقالوا لهم: هل تعرفون خصمنا؟ فقالوا: لا، فقال اليهود ولا نحن نعرفه، ولكن امشوا معنا فإنا لا نعدم من يدلنا عليه. فمشوا، فلقيهم يهوذا سرخوطا وكان أحد خواص المسيح وثقاته وكبار أصحابه واحد الاثني عشر، فقال لهم: أتطلبون يسوع الناصري؟ قالوا: نعم، قال: فما لي عليكم إن أنا دللتكم عليه؟ فحلّ بعض اليهود عن دراهم كانت معه فعد ثلاثين درهما وسلمها إليه وقال: هذه لك. فقال لهم: هو كما قد علمتم صديقي وأستحي أن أقول هذا هو، ولكن كونوا معي وانظروا إلى الذي أصافحه وأقبّل رأسه، فإذا أرسلت يدي من يده فخذوه. فساروا معه وقد كثر الناس ببيت المقدس واجتمعوا إليه لإقامة هذا العيد من كل مكان، فصافح يهوذا سرخوطا رجلا وقبّل رأسه وأرسل يده من يده وغاص في الناس، فأخذه اليهود والأعوان، فقال المأخوذ: ما لكم ولي؟ وجزع جزعا شديدا؛ فقالوا له: السلطان يريدك، فقال: ما لي وللسلطان؟ فجاؤا به فأدخلوه على هيريدس وقد طار عقله خوفا وجزعا وهو يبكي فما يملك نفسه، فرحمه هيريدس لما رأى به من الخوف، فقال لهم: خلوا عنه، واستدناه وأقعده وبسطه وسكّن عنه وقال له: ما تقول فيما يدّعي هؤلاء عليك من أنك المسيح ملك بني إسرائيل، هل قلت هذا أو دعوت إليه؟ فأنكر أن يكون قال هذا أو ادعاه، ومع هذا فما يسكن قلقه، وهيريدس يسكّنه ويقول له: اذكر ما عندك [من حجة ] إن كان لك، فلا يزيد على إنكاره وأنه لا يقول ذلك، وأنهم هم الذين يقولون ذلك لا هو، وأنهم قد ظلموه بهذه الدعوى وتقوّلوا عليه، فقال هيريدس لليهود: ما أراه يوافقكم ولا يقول ما تدعونه وما أراكم إلا متقولين عليه ظالمين له، هاتم الطست والماء لأغسل يدي من دم هذا الرجل. ووجه فيلاطس ملك الروم الكبير إلى هيريدس يقول له: بلغني أن اليهود رفعوا اليك خصما لهم فيه أرب ومعرفة فأنفذه الي لأفاتحه وأنظر ما عنده، فأنفذه إليه؛ فأدخل على فيلاطس وهو في حالة من الجزع والخوف والقلق، فسكّنه الملك وسأله عما ادعاه عليه اليهود من أنه المسيح، فأنكر أن يكون فال ذلك ولم يزل يسائله ويباسطه ليذكر ما عنده وما معه وليسمع منه حكمة أو يستفيد منه أدبا أو وصية فما وجد عنده شيئا، ولا زاده على القلق والخوف والجزع والبكاء والانتحاب، فرده إلى هيريدس وقال له: ما وجدت في هذا الرجل ما قيل فيه وما عنده خير، ونسبه إلى النقص والغباء، فقال هيريدس: الآن هو الليل فاذهبوا به إلى الحبس، فذهبوا به. فلما كان من الغد بكر اليهود وأخذوه وشهروه تلك الشهرة، وعذّبوه ونالوه بأنواع العذاب، ثم ضربوه في آخر النهار بالسوط، وجاؤوا به إلى مبطخة ومبقلة وصلبوه وطعنوه بالرماح ليموت بسرعة، وما زال يصيح بأعلى صوته وهو مصلوب على خشبة: "يا إلهي أخذلتني؟ يا إلهي لم تركتني؟ " إلى أن مات. وأن يهوذا سرخوطا لقي اليهود وقال لهم: ماذا صنعتم بالرجل الذي أخذتموه أمس؟ قالوا: صلبناه، فتعجب من هذا واستبعده، فقالوا له: قد فعلنا، وإن أردت أن تعلم ذلك فصر إلى المبطخة الفلانية، فصار إلى هناك، فلما رآه قال: هذا دم بريء، هذا دم زكيّ، وشتم اليهود، وأخرج الثلاثين درهما الذي أعطوه دلالة فرمى بها في وجوههم وصار إلى بيته فخنق نفسه.
فانظر كم في هذا من عجب: منها إقرار اليهود والروم أنهم ما عرفوه، وأخرى أن الذي دلّ عليه لو كان ظاهر العدالة لما عرف بخبره ولا بشهادته شيء، وأخرى جزعه وقلقه وإنكاره، ولو كان هو المسيح لأخبر بذلك ولقال: أنا هو الذي بشّر بي الأنبياء، وإنني كذا وكذا، سيما والحاكم بينه وبين اليهود ملك الروم وهم أعداء اليهود، وكان قد أقام الحجة عليهم، هذا لو كان نبيا، فكيف وهو عند النصارى إله، فإن الأنبياء يبدؤون الدعوى والحجة عند من لم يسأل ذلك فكيف بمن يسأل ويرغب إليهم. وأخرى أن يهوذا سرخوطا قال: هذا دم بريء، وبرئ منهم ورد الدراهم ورجع إلى بيته وقتل نفسه ندما على ما كان منه. فقلنا للنصارى: فكم في هذا من دلالة على أن المقتول المصلوب غير المسيح، فأنتم لا إلى حجج العقول ترجعون، ولا إلى ما كتبتم وسطرتم تتدبرون، ولا على ما نعلم تعولون، ولكنكم تمشون مكبّين على وجوهكم.
وفي الإنجيل معهم أن المسيح أخذ صندوقا يخزن فيه الذهب والفضة وكان خازنه يهوذا سرخوطا الساعي به، وأن امرأة زانية أهدت إليه طيبا قيمته ثلثمائة دينار، وجعلت تمسح به قدميه وتمسح شعرها بأسفل قدميه، وأن شمعن جاء وأنكر ذلك عليه، وقال: هذا سرف وفساد، وكان ينبغي أن تتصدق بثمن هذا على الفقراء.
ولهذا ما قالت طائفة من اليهود أن يسوع بن مريم هذا الذي يعتقد المسلمون والنصارى ربوبيته الذي صلب وقتل هو ابن يوسف النجار، وهو رجل من اليهود برّ تقيّ صارت له رئاسة في اليهود، فحسده بعضهم للرئاسة وسعى به وأذلّه إلى أن قتل مصلوبا. وهو ما ادّعى ما يقوله النصارى ولا ما يقوله المسلمون من أنه المسيح وأنه نبي. قالوا: ألا ترون أنه قد سئل عن ذلك عند هيريدس وعند فيلاطس وأنكر ذلك كله، ولو كان نبيا لاحتج بحجة وآيات والبشارات به وأنه مولود من غير ذكر.
قالوا: ومما يؤكد هذا، أن النصارى قد كتبت في أناجيلهم أن يسوع هذا قال لأصحابه: ما يقول الناس فيّ؟ قالوا: منهم من يقول: إنك إليّا ومنهم من يقول: إنك يوحنا الصائغ، قال: فأنتم أصحابي ما تقولون فيّ ومن أنا عندكم؟ قالوا: الذي عندنا أنك المسيح، قال: لا تقولوا هذا.
قالت هذه الطائفة من اليهود: أما ترونه قد نهاهم أن يقولوا إنه المسيح، فما الذي يبقي بعد هذا من البيان. قالوا: وقد خاصمه اليهود ثلاث سنين، ورفعوه إلى الملوك فما حصل عليه إقرار أنه ادّعى أنه المسيح ولا أنه نبيّ، ولا شهد عليه بذلك وليّه ولا عدوّه. والآيات والمعجزات التي تدعيها النصارى له لا أصل لها، ما ادعاها هو ولا أحد من أصحابه في زمانه ولا في الفرق الذين يلونهم، وإنما ادعي له ذلك بعد مضيه ومضيّ أصحابه بالأزمان والأحقاب، كما ادعت النصارى ذلك لبولص اليهودي وهو معروف الحال والحيل والكذب والسقوط، وكما ادّعوا ذلك لجورجس والابامرقس، وكما يدّعونه في كل زمان لرهبانهم ورواهبهم، وكله لا أصل له.
فاحفظ رحمك الله هذا فإنه يؤكد الحال في أن المسيح لم يصلب، وأن المصلوب غيره صلى الله عليه، وهو شديد على النصارى من كل وجه.
وفي الإنجيل أن المسيح كان قائما في ناحية في موضع الصلب، وأن مريم أم المسيح جاءت إلى الموضع فنظر إليها المصلوب فقال لها وهو على الخشبة: هذا ابنك، وقال للمسيح: وهذه أمك، وأن مريم أخذت بيده ومضت من بين الجماعة.
وفي الإنجيل أيضا أن المسيح مات من غير أن يمسه شيء. وفيه أن امرأة سامرية قالت للمسيح: أنت رجل يهودي ونحن لا نسقي اليهود الماء، فقال لها: صدقت أيها المرأة في جميع ما قلت.
وفيه أن المسيح قال لأصحابه: إن الكهنة والربانيين جلسوا على كرسي موسى وهم يفتونكم فاقبلوا منهم فتياهم ولا تعملوا مثل أعمالهم، فإنهم يقولون وما يعملون.
وفيه أن مريم المجدلانية ومريم الأخرى إنما امتنعتا من بعثة الطيب لسيدنا المسيح يوم السبت للسنة في حفظ السبت.
وفيه أن المسيح قال: شبهت جلوس هذه القبيلة السوء بصبيان جلوس في السوق يناديهم أصحابهم: غنينا لكم فلم ترقصوا ونحنا لكم فلم تبكوا، أتاكم يحيى لا يأكل ولا يشرب فقلتم: لا يأكل ولا يشرب، وأتاكم من البشر أكول شروب فقلتم: أكول شروب يدخل بيوت الزناة ويجالس الخطائين.
وفيه أنه مرّ على شمعون الصفا فقال له: يا شيطان.
وفيه أنه قال لبني إسرائيل: يا حيّات، أولاد الأفاعي، تقرؤون الكتاب ولا تعقلون، تغسلون خارج الإناء وداخله مملوءة قذرا، تطلبون البر والبحر والسهل والجبل صاحبا لكم، فلو أوجدتموه علّمتموه طرائقكم حتى يصير شرا منكم، فلا أنتم دخلتم ملكوت السماء، ولا تركتم الناس يدخلون ملكوت السماء إذ لم تدخلوا.
فإن قال قائل: لعمري قد تبيّن أن النصارى قد قالت في عيسى بن مريم عليه السلام: إنه ليس بنبي ولا رسول لله ولا بعبد صالح، وإنه إله ورب وخالق ورازق، وإن الله ثالث ثلاثة، وإنه قتل وصلب. وقد قال صاحبكم في كتابكم: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فقالت النصارى: فهذا كذب، فإنا وإن قلنا فيه إنه إله فما قلنا في أمه أنها إله.
قيل له: ما خبر عنهم أنهم قالوا ذلك، وما هاهنا خبر فيقع فيه صدق أو كذب، وإنما قال: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وليس هذا خبرا، ولا من لا يعرف من العربية قليلا ولا كثيرا. وإنما ظاهر هذا القول الاستفهام والاستعلام، والله جل ثناؤه لا يجوز عليه ذلك، لأنه إنما يستعلم ويستفهم من لا يعلم ما استفهم وسأل عنه، وإنما معناه التقرير لاستخراج الجواب من المسؤول. وهذا كقوله لموسى صلى الله عليه: {وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى} وهو عز وجل أعلم بذلك من موسى. ولقوله لإبليس: {ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} و {إذ آمرك}، وهو عز وجل أعلم من إبليس بالمانع له. فقال للمسيح: هل قلت هذا في نفسك أو في أمك الوالدة لك وهي أخص الناس بك وأوجبهم حقا عليك وأجلهم عندك، لتتبين براءة ساحته عليه السلام من كل وجه. فقد بطل ما ظنه السائل من أن هذا خبر وهذا جواب شاف كاف.
وأيضا ففي النصارى من قد قال بمعنى هذا وإن لم يصرح بلفظه، لأنهم قالوا إن مريم صَفَت حين قبلت الجوهر الإلهي وولدته، وكل جوهر لا يقبل إلا ما في جوهره وسنخه ولا يلد إلا ما في جوهره، وهذا جواب ثان بين نير أن فيهم من قد صرح بذلك. وهذا بين في كتب البيعة الموجودة بكور الأهواز وغيرها من كور العراق بالقلم السرياني، وقد ترجم منه في رسالة كتبها عبد يسوع بن بهرين أسقف حران والرقة والمصيّر بعد ذلك مطرانا على الموصل والجزيرة إلى قس يعقوبي يقال له بادوس: أنت لا تنكر أن البتول الطاهرة إله كما تراه أنت، بل إنسان كما نراه نحن. وهذا تصريح من هؤلاء بأن مريم إله والنسطورية تخالفهم في ذلك وتجادلهم، وهذا بيّن وإنما ينكره من لا يعرف أقاويل النصارى وحقيقة النصرانية.
وعلى أن هذه الطوائف الثلاث منهم من يقول في مريم إنها أم المسيح ابن الله في الحقيقة ووالدته في الحقيقة، لا أم لابن الله الإلهي، ولا والدة لابن الله غيرها، ولا أب لابنها إلا الله، ولا والد لابنها إلا الله، وأن الله اختارها لنفسه ولولادة ولده وابنه من سائر النساء، ولو كانت كسائر النساء لما ولدت إلا عن وطء الرجال لها، وإنما اختصت بهذا لأنها حبلت بابن الله وولدت ابن الله الذي لا ابن له في الحقيقة إلا هو ولا ولد له إلا هو، وأنها على العرش جالسة عن يسار الرب والد ابنها، وابنها عن يمينه. وهم يدعونها ويسألونها سعة الرزق وصحة البدن وطول العمر وغفران الذنوب، وأن تكون لهم عند ابنها ووالد ابنها سورا وسندا وذخرا وشفيعا وركنا. فلو أن إنسانا عظّم إنسانا عشر هذا التعظيم وقال فيه عشر هذا القول لجاز في لغة العرب بل في كل لغة أن يقال قد اتخذه إلها. ألا ترى إلى قول الله تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهم ما صاموا لهم ولا صلوا ولكن قلدوهم، فحرموا عليهم الحلال فحرموه، وأحلوا لهم الحرام فاستحلوه، وهذا دون ما قالوه في مريم.
وفي هذا المعنى قوله ﷺ: تعس عبد الدنيا وتعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة. لما غلب عليه حب ذلك وشغفه به صار كالعبد له، فلو لم يكن معنا تلك النصوص فيمن قال منهم إنها إله فكان معنا خبر ونص أنهم ما قالوا إنها إله لجاز مع هذا التعظم أن يطلق، فكيف وما أخبر أنهم ما قالوا إنها إله، ولقد عظموها ورفعوها على الملائكة والأنبياء وقالوا فيها ما يقال في الإله، وسألوها ما يسأل الإله من العافية والكفاية في الدنيا والآخرة كما قد تقدم لك ذلك، حتى أن اليعقوبية لتقول في مناجاتها لمريم عليه السلام: يا مريم يا والدة الله كوني لنا سورا وسندا وذخرا وركنا، والنسطورية تقول: يا والدة المسيح كوني لنا كذلك، ويأنفون مسألة اليعقوبية ويقولون لليعقوبية: لا تقولوا يا والدة الله وقولوا يا والدة المسيح، فتقول اليعقوبية لهم: فالمسيح عندنا وعندكم إله في الحقيقة فأي فرق بيننا وبينكم في معنى هذا، ولكنكم أردتم أن تمخرقوا عند من لا يعرف هذا من قولنا وقولكم فتوهمونه أنكم تتنزهون عن هذا وأنكم تقاربون المسلمين في التوحيد.
واعلم أن أفجاج النصارى يعتقدون أن الله اختار مريم لنفسه ولولده وتحظّاها كما يختار الرجل المرأة ويتحظاها لشهوته لها، وقد حكاه النظّام والجاحظ، وقال: إنما يفصحون بهذا عند من يثقون به. وقد قال ابن الأخشيد هذا عنهم في المعونة وقال: إليه يشيرون، ألا ترى أنهم يقولون لو لم يكن والدا لكان عقيما والعقم آفة، وهذا قول جميعهم وإلى البضاع يشيرون. وأنت تجد ذلك في كتاب المعونة وفي كتاب الجاحظ على النصارى، وأظن أبا جعفر الإسكافي قد ذكر هذا في كتابه على النصارى، وكل من خالط الرهبان وأرباب البيع وطاولهم وأنسهم عرف ذلك منهم.
فإن قال قائل: ادعيتم أن هذه الطوائف قد خالفت المسيح في الأصول والفروع وقد عرفنا بما ذكرتم مخالفتهم له في الأصول فمن أين لكم أنهم قد خالفوه في الفروع؟
قيل له: كان المسيح يتدين بالطهارة، وبغسل الجنابة، وبوجوب غسل الحائض، وهذه الطوائف لا تختلف بأن ذلك ليس بواجب، وأن للإنسان أن يصلي وهو غير مطهر وغير مستنج، ويصلي وهو جنب، ولا يختلفون في أن الجنابة والبول والغائط وغير ذلك لا يقطع الصلاة، وأن المصلي له أن يصلي وهو يبول وهو يتغوط وهو يجامع وإن كان الجماع في زنى، فما هذا شيء يقطع الصلاة ولا يفسدها بل الأفضل عندهم أن يصلي وهو جنب وهو يتغوط ويبول ويضرط، لأن ذلك أبعد من صلاة المسلمين واليهود، وكل هذا خلاف صلاة المسيح.
وكان المسيح يقرأ في صلاته ما كان الأنبياء وبنو إسرائيل قبله وفي زمانه، وفي زمانه يقرؤون من كلام الله ومن قول الله من التوراة ومن زبور داود، وهذه الطوائف من النصارى إنما تقول في صلاتها كلاما قد لحنه لهم الذين يتقدمون ويصلون بهم، فجرى مجرى النوح والأغاني فيقولون: هذا قداس فلان، ينسبونه إلى الذين وضعوه.
وهم يصلّون إلى المشرق وما صلى المسيح إلى أن توفاه الله إلا إلى المغرب وبيت المقدس، وقبله داود والأنبياء بنو إسرائيل. وقد اختتن المسيح وأوجب الختان كما أوجبه من قبله موسى وهارون والأنبياء.
وما صام هو وأصحابه إلى أن خرج من الدنيا إلا اليوم الذي صامه بنو إسرائيل. فأما هذه الخمسون يوما التي تصومها النصارى، وصوم نينوى، وصوم العذارى، فما صام شيئا منها قط، ولا أكل في الصوم ما يأكلونه، ولا حرّم فيه ما يحرمونه.
ولا اتخذ يوم الأحد عيدا قط، ولا بنى بيعة قط، ولا عطل يوم السبت ساعة واحدة، ولا أكل خنزيرا قط، بل حرمه ولعن أكلته كما فعل الأنبياء قبله. والنصارى تزعم أنه رقى مريم المجدلانية فأخرج منها سبع شياطين، وأن الشياطين قالت له: أين نأوي؟ فقال لها: اسلكي هذه الدابة النجسة، يعني الخنازير.
وحرّم ذبائح من ليس من أهل الكتاب وحرم مناكحتهم، وسار في المناكح والطلاق والمواريث والحدود سيرة الأنبياء قبله. وليس عند هؤلاء النصارى على من زنى أو لاط أو افترى أو سكر حدّ البتة ولا عذاب في الدنيا ولا في الآخرة.
وفي الجملة إن المسيح جاء لإحياء التوراة وإقامتها، وقال: "إنما جئتكم لأعمل بالتوراة وبوصايا الأنبياء قبلي، وما جئت ناقضا بل متمما، ولأن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أن تنقض شيئا من شريعة موسى، ومن نقض شيئا من ذلك يدعى ناقصا في ملكوت السماء". وما زال هو وأصحابه كذلك إلى أن خرج من الدنيا وقال لأصحابه: اعملوا كما رأيتموني اعمل ووصوا الناس بما وصيتكم به، وكونوا معهم كما كنت معكم، وكونوا لهم كما كنت لكم. وما زال أصحابه بعده على ذلك وكذلك، ثم الذين بعد القرن الأول من أصحابه، ثم من بعدهم بالدهر الطويل. ثم أخذوا في التغيير والتبديل، والبدع في الدين، وطلب الرئاسة، والتقرب إلى الناس بما يهوون، ومكايدة اليهود وشفاء الغيظ منهم، وإن كان فيه ترك الدين.
وهذا بين في الأناجيل التي معهم وإليها يرجعون، وفي كتابهم المعروف بكتاب أفراسكس، فإن فيه أن قوما من النصارى خرجوا من بيت المقدس وأتوا انطاكية وغيرها من الشام؛ فدعوا الناس إلى سنة التوراة، والى تحريم ذبائح من ليس من أهلها، وإلى الختان، وإلى إقامة السبت، وإلى تحريم الخنزير، وإلى ما حرمته التوراة. وأن ذلك شق على الأمم واستثقلوه، فاجتمع النصارى ببيت المقدس، وتشاوروا فيما يحتالون به على الأمم ليجيبونهم ويطيعونهم، فأوجب رأيهم مداخلة الأمم والترخص لهم والانحطاط في أهوائهم، وترك مخالفتهم، والاختلاط بهم، والأكل من ذبائحهم، والتخلق بأخلاقهم، وتصويبهم فيما هم عليه. وأنشؤوا في ذلك كتابا. وقد قال بولس في الكتاب الذي يسمونه السليح: أنا قلت لهم إلى كم تهودون الناس؟ وقال في السليحين: "كنت مع اليهودي يهوديا ومع الرومي روميا، ومع الارمائي ارمائيا". وبولس هذا عندهم أجلّ من موسى وهارون وداود وجميع الأنبياء، وإذا قُرئت رسائله وكلامه في البيعة قاموا قياما إعظاما وإجلالا له ولكلامه؛ ولا يفعلون ذلك بالتوراة التي هي عندهم كلام المسيح وهو كتبها لموسى وأرسله إلى خلقه وخلق له البحر وقلب له العصا حية، ولا في الأناجيل وفيها كلام المسيح. وهو يقول لليهود: التوراة سنة حسنة لمن عمل بها، ويقول للروم وغيرهم من أعداء موسى والأنبياء: التوراة مهبجة للبشر، وإذا وضع عن الناس شرائع التوراة فقد كمل بر الله وتمّ فضله، هذا كله مع النصارى وأعظم منه وأفحش. وقد عملوا عمل المسيح بالتوراة ووصيته الناس بالعمل بها.
انظر كيف ينسلخ الناس من العمل بشرائع الأنبياء الذين يدعون أنهم عليها ويخرجون منها، واعتبر وكن على حذر. فقد بدت هذه السيرة في هذه الأمة، فكم فيهم ممن قد عطل وصايا النبي ﷺ ونبذ سنته وهجر كتابه لأنه زعم أنه مغير مبدل، وآخر يقول له باطن غير ما عليه الفقهاء والعلماء، إلى غير ذلك من أنواع البدع التي قد نشأت في الإسلام وغلب أهلها بالكثرة أهل الحق فيبدعونهم ويسبونهم وينفروا عنهم، وهكذا تتغيّر ملل الأنبياء عليهم السلام ويموت العلم، كما قال رسول الله ﷺ: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من صدور الرجال، ولكن يموت العلم بموت العلماء، فإذا ماتوا اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. ثم المستأكلة ومن تكسب بالدين، وقد قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله} فهؤلاء العباد وهؤلاء العلماء، وقد عرفك الله حال كثير منهم، فكيف بمن ليس بعالم ولا عابد. فاحذر كما حذرك الله، واقبل وصية رسول الله عليه السلام.
واعلم أن دين المسيح وديانات الرسل عليهم السلام لم تتغير ولم تتبدل جملة واحدة ولكن شيئا بعد شيء، وفي كل عصر وفي كل حين حتى تكامل تغيرها، وما زال أهل الحق فيها يقلون وأهل الباطل يكثرون حتى غلبوا ومات بهم الحق. فكان أصحاب المسيح بعده مع اليهود وبني إسرائيل في كنائسهم يقيمون صلاتهم وأعيادهم في مكان واحد وبينهم الخلاف في شأن المسيح، وكانت الروم تملكهم، وكانت النصارى تشكو اليهود إلى ملوك الروم وتبدي لهم الضعف الذي فيهم وتسترحمهم فيرحمونهم، وكثر هذا فكانت الروم تقول لهم: بيننا وبين اليهود عهد أن لا نغير أديانهم، فلو خرجتم من أديانهم وفارقتموهم وصليتم إلى المشرق كما نصلي وأكلتم ما نأكل واستبحتم مما نبيح نصرناكم وأعززناكم، ولم يكن لليهود عليكم سبيل بل صرتم أعز منهم. قالوا: نفعل. قالوا فاذهبوا فهاتوا أصحابكم وهاتوا كتابكم. فجاؤا بأصحابهم فأخبروهم بما كان بينهم وبين الروم، وقالوا لهم هاتوا الإنجيل وقوموا حتى نصير إليهم، فقال أولئك لهم: بئس ما صنعتم ولا يحل لنا أن نمكن الروم الأنجاس من الإنجيل وقد خرجتم أنتم من الدين بإجايتكم الروم، ولا يحل لنا مخالطتكم، بل وجبت البراءة منكم ومنعكم من الإنجيل والوصول إليه. فوقع بينهم الخلاف الشديد. وعادوا أولئك إلى الروم وقالوا لهم: أعدونا على أصحابنا هؤلاء قبل اليهود، وخذوا لنا منهم كتابنا، فاستتر أولئك من الروم وفروا في البلاد. فكتب الروم فيهم إلى عمالهم بنواحي الموصل وبجزيرة العرب. فطلبوا، فوقع منهم قوم فأحرقوا وقوم فقتلوا، واجتمع الذين أجابوا الروم وتشاوروا فيما يعتاضون عن الإنجيل إذ قد فاتهم، فتقرر رأيهم على أن ينشئو إنجيلا. وقالوا إنما التوراة موالد الأنبياء وتواريخ أعمارهم فنبني الإنجيل على ذلك، ويذكر كل واحد منا ما حفظه من ألفاظ الإنجيل ومما تحدث به النصارى عن المسيح. فكتب قوم إنجيلا. ثم أتى من بعدهم قوم وكتبوا إنجيلا، وكتبوا عدة أناجيل، وسقط عنهم الكثير مما في الأصل. وكان فيهم الواحد بعد الواحد ممن يعرف أمورا كثيرة في الإنجيل الصحيح فأمسكوا عنها لتتم رئاستهم، ولم يكن في ذاك ذكر الصليب ولا الصلبوت، وهم يزعمون أنها كانت ثمانين إنجيلا، فلم تزل تقل وتختصر حتى بقي منها أربعة أناجيل لأربعة نفر عمل كل واحد في عصره إنجيلا، وجاء من بعده فرآه مقصرا فعمل إنجيلا هو عنده أصح من إنجيل غيره وأقرب إلى الصحة. ثم ليس فيها إنجيل بلغة المسيح التي كان يتكلم بها هو وأصحابه وهي العبرانية لغة إبراهيم الخليل وسائر الأنبياء، بها تكلموا وبها نزلت كتب الله على هؤلاء وغيرهم من بني إسرائيل، وبها خاطبهم الله، فتركها هؤلاء. وقد قالت العلماء لهم: عدولكم معشر النصارى عن اللغة العبرانية وهي لغة المسيح والأنبياء قبله عليهم السلام إلى سائر اللغات حتى ما من نصراني يتلو هذه الأناجيل في فرض من فروضه بلغة العبراني حيلة ومكيدة وفرارا من الفضيحة. فقال الناس لهم: إنما وقع العدول عنها لما قصده أصحابكم الأولون من الادّغال في المقالات، واحتيالا في تدليس ما وضعوه من الأكاذيب وسترا لما احتالوا طلبا للرئاسة، وذلك أن العبرانية هم كانوا أهل الكتاب وأهل العلم في ذلك الزمان، فغيّر هؤلاء النفر اللغة بل عدلوا عنها كلها لئلا يفهم أهل العلم مذهبهم وقصدهم لسترها فيفتضحوا قبل تمكن مذهبهم ولا يتم لهم. فعدلوا إلى لغات كثيرة ما تكلم المسيح وأصحابه بها، وليس أهلها من أهل الكتاب، ولا لهم علم بكتب الله وشرائعه، كالروم والسريانيين والفرس والهند والأرمن وغيرهم من الأعاجم، وتلبيسا واحتيالا لستر العورة وتمام البغية في طلب الرئاسة من أولئك القوم القليل الذين طلبوها بالدين. ولولا ذلك للزموا لغة إبراهيم وولده والمسيح الذين بهم قامت البيّنة، وعليهم أنزلت الكتب، وكان ذلك أولى بإثبات الحجة على بني إسرائيل وكفرة اليهود إذا ادعوا بلسانهم، ونوظروا بلغتهم التي لا يمكنهم دفعها. فاعرف هذا فإنه أصل كبير.
واعلم رحمك الله، أن هذه الطوائف الثلاث من النصارى لا تعتقد أن الله أنزل على المسيح إنجيلا ولا كتابا بوجه من الوجوه، بل عندهم أن المسيح خلق الأنبياء وأنزل عليهم الكتب، وأرسل إليهم الملائكة. وإنما معهم أربعة أناجيل لأربعة نفر، كتب كل واحد منهم إنجيله في زمانه، وجاء من بعده فما رضي إنجيل غيره، وكان إنجيله أولى. وهم يتفقون في مواضع ويختلفون في مواضع، وفي بعضها ما ليس في بعض، وهي حكايات قوم رجال ونساء من اليهود والروم وغيرهم أنهم قالوا كذا، وفعلوا كذا. وفيها من المحال والباطل والسخف والكذب الظاهر والتناقض البيّن شيء كثير. وقد تتبعه الناس وأفردوه، وإذا قرأه المتأمل عرف ذلك. وفيها شيء من كلام المسيح ووصاياه وأخباره قليل. فإنجيل منها عمله يوحنا، وإنجيل منها عمله متى، ثم جاء بعدهما مرقس فما رضي بإنجيليهما، ثم جاء بعدهم لوقا فما رضي بتلك الأناجيل فعمل إنجيلا آخر، وكان عند كل واحد من هؤلاء أن صاحبه الذي تقدم وعمل إنجيلا أنه قد ضبط أشياء وأخل بأشياء، وغيره أعرف وأضبط. ولو كان من قبله قد ضبط وأصاب لما احتاج أن يعمل هو إنجيلا آخر غير إنجيل صاحبه، وليس أحد هذه الأناجيل شرحا للآخر، كما يشرح من تأخر كتاب من تقدم فيحكي كلامه على وجهه ثم يشرحه، فاعرف هذا، وإنما وضعه لأن غيره قد قصر.
وعند هؤلاء الطوائف من النصارى أن هؤلاء الأربعة أصحاب المسيح وتلاميذه، وهم لا يعلمون ولا يدرون من هم ولا معهم في ذلك إلا الدعوى فقط، بل قد ذكر لوقا في إنجيله أنه ما رأى المسيح، فقال لوقا مخاطبا للذي عمل له إنجيله وهو آخر من عمل من الأربعة: "عرفت رغبتك في الخير والعلم والأدب فعملت هذا الإنجيل لمعرفتي ولأني كنت قريبا إلى الذين خدموا الكلمة ورأوها". فهو قبل كل شيء قد أفصح بأنه ما رأى الكلمة -يعنون بالكلمة المسيح- ثم ادعى أنه رأى من رأى المسيح، وليس هاهنا إلا دعوى بأنه رآهم، ولو كان ثقة لما علم بخبره شيء، ومع هذا فقد ذكر أن إنجيله أولى من إنجيل غيره. فلو تأمل النصارى لعلموا أنهم ليسوا على شيء من هذه الأناجيل التي معهم، ولا معهم علم مما يدعيه أربابها والواضعون لها، وأن الأمر في ذلك على ما ذكرنا. وهو معلوم مذكور في انصرافهم عن ملة المسيح إلى مذاهب الروم وتغريرهم وتعجلهم المنافع بسلطانهم وأموالهم.
وقد كان بولص هذا يهوديا خبيثا شريرا، ساعيا في الشر، ومعينا للأشرار، وثائرا في الفتن، طالبا للرئاسة والدولة، محتالا فيها بكل وجه، وكان يقال له وهو يهودي: شاؤول، وكان يعين على النصارى. ثم خرج عن بيت المقدس وغاب غيبة طويلة، وعاد إلى بيت المقدس وأخذ يعين النصارى على اليهود ويقول لهم: قولوا كذا، واصنعوا كذا، وفارقوهم وقاربوا الأمم التي تعادي اليهود. فقال له اليهود: كيف صرت نصرانيا وما الذي دعاك إلى هنا؟ فقال: الله تبارك وتعالى دعاني إلى ذلك، وكان من قصتي أني خرجت من بيت المقدس أريد دمشق، فأدركني الليل بظلمته وهبت ريح عظيمة وذهب بصري، وناداني الرب وقال لي: يا شاؤول أتلاطم الأشقاء تؤذي أصحاب ابني؟ فقلت: يا رب قد تبت، فقال لي: إن كان كما تقول فاذهب إلى حاييم اليهودي الكاهن ليرد اليك بصرك، فذهبت إليه وخبرته، فمسح يده على بصري فسقط منه مثل قشور البيض وفلوس السمك، وأبصرت كما كنت، وأن الله استدعاني إليه إلى السماء، فأقمت عنده في السماء أربعة عشر يوما، ووصاني بأشياء كثيرة، وقال لي: فيكم أمورا قبيحة لا أقولها لكم. فسخر منه اليهود وتعجبوا من حمقه وقحته، وصاروا به إلى صاحب قيصر ملك الروم عليهم، وكانوا إذ ذاك مغلوبين مع الروم. فقالوا له: أما تعرف شاؤول هذا؟ فقال: بلى، أعرفه بالشر وهو يجيئنا في السعايات بالناس. فقالوا له: إنه قد ادعى كذا وكذا، وذكروا له ما قال. فاغتاظ الرومي منه وأمر به فبطح ليضرب، فقال له: أتضرب روميّا؟ فقال: أورومي انت؟ قال: نعم، أنا على دين قيصر ملك الروم، وبرئ من اليهودية، فكف عنه لدخوله في دين الملك، وقال له: هاهنا مركب يأخذ إلى القسطنطينية وأنت رومي وعلى دين الروم، فكن هناك إن كنت كما تقول، فقال: افعل، أنفذني إلى بلاد الروم. فصار إلى القسطنطينية، وتردد إلى الروم، ولزم باب الملك وأغرى الروم باليهود، وذكرهم عداوتهم لهم وما صنع بنو إسرائيل بهم، ومن قتلوا منهم، وخوّفهم شر اليهود، وأنهم لا يأمنون دولتهم والكرّة عليهم، وذكر لهم كثرة أموالهم. ومن عادة الروم لا تحتجب نساؤهم عن الرجال، وتركب امرأة الملك في موكب الملك مكشوفة الوجه، وتخاطب الناس، وتأمر وتنهي، فتقرب بولس هذا إليها وخاطبها في شأن اليهود. ومن عادة الروم أن لا يحل للرجل أن يتزوج بأكثر من امرأة واحدة ثم لا يفرق بينهما طلاق ولا هرم ولا عيب من العيوب بوجه ولا سبب، ولا يحل له غيرها إلى أن تموت. ونساء الروم تبغضن ديانات الأنبياء من بني إسرائيل لما فيها من إباحة الطلاق وأن للرجل أن يتزوج ما أطاق المؤونة. فقيل لشاؤول: أنت من أمة هذا سبيلها؟ فقال: لا، وما يحل للرجل أكثر من امرأة واحدة على أحكام الروم، فنفق على النساء بهذا وقرب من امرأة الملك، فخاطبت الملك في غزو بني إسرائيل، وذكرت له ما يقول شاؤول، وسألته أن يسمع منه ففعل. وتقرب إليهم بأن تسمي بولص وهو من أسماء الروم، والروم تكره الختان شديدا في الرجال والنساء، وتبعض الأمم الذي تفعله. فقالوا لبولص في ذلك، فقال: نعم، هو ما ترون، وما يجب عليكم ختان، وإنما يجب على بني إسرائيل فإنها أمة قلفتها في قلوبها. والروم تأكل الخنزير، فقال: ما هو حرام وما يحرم على الإنسان شيء يدخل جوفه وإنما يحرم عليه الكذب الذي يخرج منه، وبنو إسرائيل لا تأكل ذبائح الوثنيين ومن ليس من أهل الكتاب والروم ليس كذلك، فصوّبهم بولص في هذا، ونفق عندهم بكل شيء وما خالفهم في شيء، وكانت ديانات الروم إذ ذاك منتشرة أكثرهم يعظم الكواكب ويعتقد فيها أنها تحيي وتميت وتنفع وتضر ولهم عندها هياكل وقرابين، ومنهم من كان على دين اليونانين من أن هذه الكواكب حية ناطقة رازقة وهي الأرباب، ويعتقدون صحة السحر، بالجملة إن دياناتهم كلها باطلة ضعيفة فاسدة.
وكان بولص يذكر لهم فضل المسيح وزهده وأنه كان مجاب الدعوة وكان يحيي الموتى، فكانوا يجتمعون إليه ويستمعون منه، وكان محتالا خبيثا، وكان الروم تصلي إلى مشرق الشمس ولا ترى وجوب الوضوء ولا غسل الجنابة ولا الحائض ولا التوقي من البول والغائط والدم ولا تراه فحشا، وأن الروم تزوج الوثنيين وسائر الأمم وبنو إسرائيل لا تفعل ذلك، فقالت الروم لبولص في ذلك، فقال: تزوج المؤمنة بالكافر فإنها تطهره ولا ينجسها والولد بينهما طاهر، وقال: هذا إنما تحرمه التوراة، والتوراة شر كلها وإذا وضع عن الناس شرائع التوراة فقد كمل برّ الله وتم فضله. فاختلع بولص من ديانات المسيح وصار إلى ديانات الروم. فإذا تبينت الأمر وجدت النصارى تروموا ورجعوا إلى ديانات الروم ولم تجد الروم تنصروا.
ثم قبل الملك سعايات بولص باليهود وأخذ برأيه فيهم، فصار إليهم وقتل منهم القتل العظيم وأخذ أموالهم واستصفاهم وعاد من عندهم بالرغائب، فقامت سوق بولص فيهم وازدادوا له حبا، وهذا الملك الذي غزا بني إسرائيل يقال له ططّس. وقد كان للروم ملك يقال له بيلاطس خرج إلى الشام بعد المسيح عليه السلام وبعد أصحابه بالمدد الطويلة، وكانت له امرأة ببلاد الروم فماتت، فأراد أن يتزوج امرأة مكانها، ومن عادة الروم أن يعترض الرجل المرأة إذا أراد التزويج ويقلبها ويستقصي تفتيشها فإن صلحت له تزوجها، وإن لم تصلح تركها. فوصف لبيلاطس امرأة بحران يقال لها هيلانة تكون في فندق بحرّان-والفندق هو الخان- فأشخصها وقلبها وارتضاها وتزوجها -وكانت نصرانية- فحظيت عنده، وسألته إعزاز النصارى والإحسان إليهم، فقال لها: إن اليهود يزعمون أن أصحابك هؤلاء أصحاب حيل وطلاب دنيا ورئاسة، فقالت: كذبوا، وإنما أجيئك بهم لتراهم. فأنته بجماعة من الرهبان وقالت له: انظر إليهم وإلى مسكنتهم وضعفهم لتعلم كذب اليهود عليهم. فرحمهم ورقّ لهم وظن الجميل بهم، فأعزهم وصانهم ومكّن لهم في ممالكه بالشام وبلاد الروم، وأحسن إليهم، فانبسطوا وكثروا واستطالوا على اليهود. وكان لهذا الملك أولاد من المرأة التي كانت قبل هيلانة، وولد له من هيلانة هذه ابن يقال له قسطنطينوس.
وقد كان أمر بولص عظم ببلاد الروم مع العامة والغوغاء واستهواهم بما يجري مجرى الرقى والطب والشعبذة والسحر، والروم الأرمن تصدق بهذا كله وهي أمة مفرطة الجهل بعيدة مما يستدرك بالفكر والنظر، يغلب عليها الفدامة والبلادة سيما في العامة فهي لا تعرف إلا المهن والصنائع، وإن كانت ملوكها تتقدم في ظاهر الحياة الدنيا وتدبير الملك. ففطن بعض ملوكهم لبولص وتصفج أحواله وحصّله وعلم أنه محتال ممخرق طالب دنيا ورئاسة، فأحضره وسأله عن الختان فذمه وذم أهله ومن يفعله، فسأله عن المسيح هل اختتن وهل كان مختونا؟ وهل كان أصحابه من الحواريين كذلك؟ قال: نعم، ثم كشف عنه فإذا هو مختون، ووجده قد ساعد الروم في دياناتها وهي خلاف ديانات المسيح وأصحابه وأنها كفر وضلال عند المسيح وأصحابه، وقد كان أصحاب بولص في رجله داء الفيل وهو يدعي أنه يطبّ ويبرئ فأمر الملك به فصفع وحلقت لحيته وصلب. فقال لهم: لا تصلبوني طولا كما صلب ربنا المسيح، ولكن أصلبوني عرضا. والملك الذي صنع هذا ببولص يقال له بيرن، ففترت النصرانية ببلاد الروم وانكسروا. وملك أولاد بيلاطس بعده، وانتهى الملك إلى ابنه قسطنطينوس، وكان ظاهره على ديانات الروم غير أن والدته هيلانة هذه قد غذته بحب الصليب، وعودته عادة النصارى وما يقولونه في المسيح، وظهر في جسمه برص وكانت الروم لا تملّك عليها من به برص، بل كان محرما عندها تمليك البرص. فغمّه ذلك وأهمه وكتمه وانطوى على قمع الروم وصرفها عن هذا الرأي في كراهة تمليك البرص، وكانت تغزوهم أمم فاتفق غزو السرجان والبربر إياهم فعبّأ عساكره على هياكل الكواكب، وقصد إلى مشيخة الروم والراسخين في ديانات الروم وأنفذهم إلى العدو، ولم يستظهر لهم على عدوهم بالمكائد والجواسيس كما يفعل الملوك ومن يدبر العساكر فتم عليهم ما يكرهون من القتل وانهزام من بقي فكان يظهر الحزن والكآبة ويقول: قد استظهرنا وعبّأنا على هياكل الكواكب التي تعظمها وقد عظمتها آباؤنا قبلنا وقربنا لها القرابين، وما نراها تنفعنا ولا تغني عنا، وما زال يدبرهم بهذا التدبير ويقول هذا القول، وأنه ما ينبغي أن يعبد أحد ما لا ينفعه، وهذا وقت الحاجة وأوان الشدة فما تدفع هذه الكواكب عنا، فينبغي أن يستبصر الإنسان ويعبد ما ينفعه ويدفع عنه. ثم قال: هاهنا امرأة رأت في منامها قائلا يقول لها استنصروا بهذا، وأخرج إليهم صليبا. واتفق موت أمير الجند الذي غزاهم فانصرفوا عنهم، فقال هو ومن كان على رأيه وهواه: هذا ببركة الصليب. وكانت عادة الروم أن تجعل على راياتها الأهلة وما هو على صورة الهلال تبركا بالقمر والنجوم ولأن القمر أخف الكواكب سيرا، فحطوها وجعلوا مكانها الصلبان فهم على هذا إلى هذه الغاية.
ثم ابتدأ في التدبير في نقل الروم عن تعظيم الكواكب إلى تعظيم الصلبان، وكان الفلاسفة في بلدهم كثيرين، وكانوا يعظمون الكواكب ويدعون أنها حية ناطقة، ويستطيلون على الناس، ويدلون على الملوك، ويدعون أنهم أخص الخاصة، ولا يتكسبون، ويعتادون البطالة، ويعولون على أموال الناس، ويفسدون الأحداث ومن يصغي إليهم من ملك أو سوقة، ويدعون العزائم والطلسمات وأنهم ينفعون بها ويضرون، وأنهم يدركون علم المغيبات بصنعة النجوم، ويهولون بالهندسة والأشكال. وكان قسطنطينوس هذا خبيثا مفكرا صبورا متصفحا أمر هؤلاء الفلاسفة وما يدعونه في النجوم والطلسمات فوجده باطلا كله، وجد القوم محتالين ممخرقين ومفسدين، فابتدأ في قتلهم على طبقاتهم، وفي إحراق كتبهم وإبطال هياكلهم. فمكث على ذلك حتى خلت أبنيته منهم. وكانت مدينة الفلاسفة فما بقي منها إلا حرّاث ودبّاغ وصبّاغ، وجعل الهياكل التي كانت للكواكب بيعا، وأسكنها الرهبان وقال: هؤلاء المساكين أرجى من أولئك الجهال الممخرقين الكذابين، وسلط الرهبان والعامة عليهم في كل مكان، لا يظهارون بكتاب طب ولا هندسة إلا أحرق وبادر على من كان على رأي الفلاسفة فتبرأ منهم وأعان عليهم. وانبسطت أمه هيلانة في ذلك، وبسطت الرهبان والنصارى واستعدتهم من كل مكان فجعلتهم أصحاب أخبار لابنها وأعوانا، واستظهرت بهم، وأظهر هو تعظيم المسيح والصليب، وأقام ديانات الروم على حالها كما كانت من الصلاة إلى المشرق وغيرها مما تقدم ذكره، فما أزال إلا عبادة الكواكب وما زاد إلا تعظيم المسيح والقول بربوبيته وتعظيم الصليب. ولم يكن هذا بالبعيد عن الروم لأن من اعتقد في الكواكب وهي جماد موات أنها أرباب وتنفع وتضر لم يبعد عنهم أن يقولوا في إنسان حي عاقل مميز قد قيل لهم إنه كان يحيي الموتى، وإنه إله، وإنه وأبوه وزوجته خلقوا الكواكب. وكان هذا سهلا على أهل المغرب. ألا ترى أن القبط ومن بمصر كانوا يعتقدون إلهية فرعون وأنه لا إله لهم غيره. وسار قسطنطينوس هذا إلى الجزيرة فقصد حرّان وأعمالها وكانوا في تعظيم الكواكب أشدّ مما كان بأثينية وبلاد الروم، فوضع فيهم السيف حتى أبادهم، وهرب من هرب منهم في الجبال فطلبهم بنفسه، وكانوا يعيبون البرص فكان له فيهم فضل حرص، فقال له قواده: لا تبعث في طلبهم فإن الثلج الذي في هذه الجبال سيهلكهم، فإن بقيت منهم بقية جعلناهم حجامين للروم وجميع النصارى وأصحاب الصوامع والرهبان ليعرف منهم حقيقة النصرانية وما ينبغي أن يقرر مما يؤخذ الناس به فلا يتجاوزونهم، وأن من تجاوزه قتل. فاجتمع عنده نحو ألفين من رؤسائهم وقرّر أشياء من تسبيحة الإيمان، وكان فيهم من يخالف أولئك ويقول: كلمة الله مخلوقة وإن المسيح كلمة الله. وكان هناك إيرلس ومقدنيوس، وأونامس، وأولو فريانوس وأصحابهم، ممن يقول: الكلمة مخلوقة وكلام الله وقوله خلق من خلقه، فشغبوا عليهم ووقف الأمر وبطل ذلك التقرير.
ثم اجتمع بعد ذلك ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا بنيقية من بلاد الروم وعملوا تسبيحة إيمانهم التي قد ذكرت، فأتوا بها قسطنطينوس فأخذها وعمل عليها وأخذ الناس بها، فمن لم يقبلها قتله. فاحتاج أولئك أن يظهروا قبولها خوف السيف، وأبطل ما سواها عن التقرير، وحصل من كان على دين المسيح في كل مكروه. وأخذوا بتعظيم الصليب وأكل الخنزير وديانات الروم، وكان من لا يأكله يقتل.
وكان في الصابئين من أهل حران من لا يأكل الباقلاء، ويزعم أنه عدو للفلك لأنه مكعّب والفلك كروي، فكان يطبخ الباقلاء في أبواب البيع ويجمع الناس إليها ويقال لهم: اخرجوا ولا يبقى منكم أحد إلا أكل الباقلاء ومن لم يأكله قتل ورمي برأسه، وهناك سيّافة قد جردوا سيوفهم فمن لم يأكله قتلوه.
ولم يزل قسطنطينوس في الملك خمسين سنة مشغولا بقتل من لم يعظم الصليب ولم يقل بربوبية المسيح حتى تأكد ذلك وتمكن، وأوصى الملوك بعده بذلك وأكد عليهم وعهد فيه إليهم وقال: هو أولى من تعظيم الكواكب وآراء الفلاسفة، وأوثق هذا العهد على أولاده وقواده وأوليائه وجعل الملك في أولاده. والروم يصفونه بالحزم والشهامة وأنه فيهم كأردشير بن بابل ملك فارس في الفرس.
وقام أولاده بعده في الملك فأكدوا عهوده وقرروا في كل حين شيئا بعد شيء في النصرانية إلى أن جاء ملك منهم فرأى أن يجعل يوم الأحد عيدا لهم يجتمعون فيه كما لليهود يوم السبت، وكان هذا بعد قسطنطينوس بالدهر الطويل. وعملوا لذلك سنهودس، وكان للروم واليونان عيدا يسمونه ميلاد الزمان وهو عند رجوع الشمس في كانون، فجعلوه ميلاد المسيح وزادوا ونقصوا، وهو عيد لهم عظيم وهو الذي يقيمه النصارى ويسمونه الميلاد وليلة الميلاد وهذا سببه وأصله، وما كانت النصارى في زمن المسيح وأصحابه من بعده يعرفون هذا العيد ولا يقيمونه. وكان للروم والصابئين أيام يصومونها تجرى مجرى التقرب إلى الكواكب يمسكون فيها عن أكل اللحم، فلما صاروا إلى القول بإلهية المسيح أقاموها ثم زادوا فيها من أشياء ونقصوا، وهم اليوم يصومونها خمسين يوما إلى زوال الشمس ثم يفطرون في بعض الأيام، هكذا يصومون ببلاد الروم.
والروم هم الأصل في هذه الطوائف الثلاثة من النصارى، ثم تفرعت منهم اليعقوبية أصحاب يعقوب، ثم من بعد اليعوبية النسطورية وهم أصحاب نسطورس، وهم يختلفون في الصيام، فإن هؤلاء الذين بالعراق لا يصومون في كل يوم نصفه كما تصوم الروم، ولهم أيام، أعني الذين ببلاد الإسلام، ينظرون فيها بعد صلاة العصر يتحسون الخمر في البيعة وهو القربان عندهم، وقد قال بولص: إن دم هذا الشراب هو دم الرب وهذا البرشان هو لحم الرب فمن ارتاب في أن هذا لحم الرب ودمه فلا يأخذه ولا يذقه وأن ذلك لا يحلّ له. والبرشان هي أقراص تخبز وتحمل إلى البيعة وتثرد في الخمر وتؤكل تقربا.
والمسيح عليه السلام ما صام هو وأصحابه إلا الصوم الذي صامه بنو إسرائيل.
قالت هذه الطوائف من النصارى: إن كان المسيح ما صام هذه الأيام الخمسين فقد صام حين أسره الشيطان أربعين يوما بلياليها فجعلناها نحن خمسين يوما؛ قلنا: هبنا صدقناكم في ذلك فمن أين وجب عليكم مثل ذلك وأنتم تقولون إن موسى صام ثمانين يوما بلياليها فلم يطعم فيها شيئا البتة وكان ذلك في دفعتين، وزعمتم أن إيليا صام أربعين يوما بلياليها فما وجب على قوم موسى الصيام الذي صامه موسى ولا عليكم صيام ذلك. وبعد، فقد عاد المسيح إليكم حين أطلقه الشيطان وبقي معكم فما صام صومكم هذا ولا أمركم به ولا صام هو وأصحابه إلا صوم بني إسرائيل، فعطلتم الصوم الذي تعلمونه يقينا وصمتم صوما ما صامه ولا أمركم به.
وفي إنجيلهم أن الشيطان أسر المسيح وحصره أربعين يوما ليمتحنه، وأن المسيح أمسك عن الأكل والشرب خوفا من أن تتم عليه حيلة الشيطان، وأنه قال له وهو معه وفي يده: إن كنت ابن الله فقل لهذه الصخور تصير خبزا، فقال له المسيح مجيبا أن مكتوب أن حياة الإنسان لا تكون بالخبز بل بكل كلمة تخرج من الله. ثم ساقه الشيطان إلى مدينة بيت المقدس فأقامه على قرنة الهيكل وقال له: إن كنت ابن الله فارم نفسك من هاهنا فإنه مكتوب أن الملائكة توكل بك فلا تعثر رجلك بالحجر، قال المسيح: ومكتوب لا تجرب الله إلهك. ثم ساقه إلى جبل عال فأراه جميع ممالك الدنيا وزخرفتها وقال له: إن خررت على وجهك لي ساجدا جعلت هذه الدنيا كلها لك كما جعلتها لمن قبلك، فقال له المسيح: اغرب أيها الشيطان فإنه مكتوب اسجد للرب إلهك. ثم بعث الله ملكا اقتلع الشيطان من مكانه ورماه إلى البحر وأطلق السبيل للمسيح.
فهذا من الجهل الذي خبرتك أنه مكتوب في أناجيلهم وهو زعموا حجتهم في صومهم، فهل سمعت بشيطان يأسر إلهه ويحصره وينقله من مكان إلى مكان ويطمع في إلهه أن يستعبده والشيطان لا يقدر أن يأخذ حمار اليهودي، وعند النصارى أنه قد أخذ ربه إلى أن جاء الملك فخلصه وفك أسره. وعند النصارى أن المسيح لما ظهر ربط الشيطان عن الخلق وأطفأ ثائرته وأزال أذاه وشرّه، وهاهنا يقولون أشد ما كان قوة عليه وتسلطا عليه وهو ربه وإلهه، ففكر واعجب.
وكان للروم والصابئين دخن وبخورات في الهياكل للكواكب والأصنام، وهي قائمة عند النصارى ما عطلوها، وهي في البيع يسمونها دخنة مريم وبخور مريم، وما عرفته مريم ولا المسيح ساعة قط ولا أصحابه ولا استعملوا ذلك. فجعلوا هذا بخور مريم كما جعلوا صومهم للمسيح، وكما جعلوا الخمر والقربان لحمه ودمه.
وكانت الروم مع عبادتها الكواكب تعظم الأصنام وتصورها في الهياكل، فبقيت على ذلك بعد إجابتها إلى تعظيم الصليب، وما كان منهم في ذلك قصور، والمسيح وأمه وأصحابه عوضا من تلك الأصنام. ثم تركوها شيئا شيئا على الأيام والدهور.
وهم كانوا يستبيحون الزنا ولا يمتنعون منه فبقوا على ذلك بعد تعظيم المسيح فهو مبثوث بينهم وفي مدنهم وأسواقهم منتشر، يقولون: المرأة إذا لم يكن لها زوج ولم تختر الزواج وآثرت الزنى فهي أملك بنفسها ولها أن تفعل ذلك، والملك يسعر ذلك، ويقيم له الحكام والولاة، فلكل إنزالة تكون من الرجل فلس واحد، وكل أربعة أفلس قيمتها دانق فضة. وللقحاب في بلدانهم أسواق كثيرة، ولهن دكاكين، تفتح حانوتها وتتزين وتجلس على بابه بارزة مكشوفة. وليس عندهم في كشف السوءة والعورة من الرجال والنساء تحريم ولا خطر، بل المرأة الحرة منهم تزف إلى زوجها راكبة فتمر بالناس في الأسواق مكشوفة الوجه والرأس، وقد أرسلت ضفائرها وتجدلت بها وأبدت محاسنها كلها لينظر كل أحد إليها. ويقال إن الغالب على ذوات الأزواج العفاف، فأما من ليست بزوج فحالها كما وصفنا، وربما كانت تزني في بيت أبويها، ومن جاء من هؤلاء الزواني بولد حملته إلى البيعة إن شاءت وسلمته إلى البطرك والمطران والقس، وقالت: قد وهبت هذا للمسيح ليكون خادما له وقيّما في البيعة، فيجزونها خيرا ويقولون لها: قديسة طاهرة مباركة، هنيئا لك رضى المسيح وثوابه، ويدعو الناس لها ويهنئوها بالثواب. وهناك من المرضعات والكاملات لمثل أولاد الزنا هؤلاء جماعة.
وهم يأبون الختان، ويخصون الاطفال. وإذا سبوا المسلمين نظروا إلى أطفالهم فخصوا منهم القطعان الكبيرة وألقوهم، فيموت منهم الكثير. وهم يدّعون الرأفة والرحمة. وكانوا في أول الإسلام يحترزون على الأسارى لقوة الإسلام وضعفهم ليفادوا بهم، فلما ساءت سيرة ملوك الإسلام وقلت مبالاتهم به، وصار يغزوهم مثل علي بن حمدان سيف الدولة، ومن بمصر أعداء المسلمين يقبضون أوقاف الثغور، هان المسلمون على الروم، وهم يقولون دولة الإسلام قد زالت منذ نحو ثمانين سنة، وأنت اليوم في نحو سنة خمس وثمانين وثلثمائة.
ثم عدت إلى ذكر سيرة النصارى. وليس الخصاء من شريعة التوراة ولا إباحة الزنا، لتعلم أن الروم ما تنصرت ولا أجابت المسيح، بل النصارى ترومت وارتدّت عن دين المسيح وعطلت أصوله وفروعه وصارت إلى ديانات أعدائه، وهو ما عليه هذه الطوائف الثلاث من النصارى، فعلوا هذا طلبا للرئاسة وعاجل الدنيا كما قد وجدته في كتبهم وفي إقرارهم مما تقدم ذكره لك. وهذا التثليث الذي للنصارى قد كانت فلاسفة الروم تنحو نحوه من أن العقل والعاقل والمعقول تصير شيئا واحدا، ويقولون: هو من المثلث، وهو من فيلسوف قديم.
وقد قال رسول الله ﷺ: "حب الدنيا رأس كل خطيئة" وقال كعب بن مالك الأنصاري سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" وقال ابن عمر: قال رسول الله ﷺ: "ما ذئبان ضاريان في حظيرة وثيقة يأكلان ويفريان بأسرع هلاكا من حب الشرف والمال في دين المرء المسلم".
ومثل صنيع بولص مع الروم في مساعدتهم على دينهم ومفارقة دين المسيح صنع ماني القس، وهو رئيس المنانية، وهذا كان بعد بولص بالدهر الطويل، وكانت له الرئاسة، وصار مطرانا على النصارى بالعراق في مملكة الفرس بعد أن كان قسّا، واختلط بالفرس، ومدح الأنوار وذم الظلام على ما يذهب إليه المجوس، ومدح زرادشت نبيّ المجوس، وقال: النور اختاره وأرسله إلى المشرق، وأرسل المسيح إلى الغرب. وذم إبراهيم وإسماعيل والأنبياء الذين صدقهم المسيح، وكانت الفرس تبرأ منهم، فساعدهم ماني وتقرب إليهم بذمهم وقال: الشيطان أرسلهم، وكان يكتب: "من ماني عبد اليسوع" كما كان بولص يكتب، وكان يتشبه به ويقفو أثره. وأخذ الآبستاق وهو كتاب زرادشت نبيّ المجوس، وهو كتاب ليس بلغة الفرس ولا بلغة من اللغات البتة ولا يدري أحد ما هو وهو الزمرمة، وإنما يحكون لفظه وإن كانوا لا يدرون ما هو. فادعى ماني القس أنه قد وقف عليه وعلم ما هو، وادعى ماني أنه رسول النور، فوضع لهم جهالات، وقال: هذا تفسير الآبستاق، واستهووا العامة وقامت سوقه فيهم وأطاعوه، وادعوا له بالمعجزات والآيات.
فأخذه بعض ملوك الفرس ليمتحنه، وفتش عن أحواله، فإذا هو كذاب وممخرق طالب رئاسة يتقرب إلى الفرس والمجوس بما يهوونه لينفق عليهم مما ليس هو من دين المسيح، فقتله كما فعل ذلك الملك ببولص. وبقي أصحاب ماني بعده يدّعون نبوته ويقررون رسائله وإنجيله، ولعل رسائله تزيد على السليحين ورسائل بولص، وكثير من هذه الطوائف الثلاث يعتقد مذهبه وما يكاد يظهره خوفا من النصارى ومن المسلمين ممن منهم في بلاد الإسلام، لأنه لا ذمة للمنانية عند المسلمين.
ومن سيرتهم أن النساء الديرانيات العابدات ومن انقطع الي البيع والعبادة، يطفن على العزاب والرهبان، ويخرجن إلى الحصون التي فيها الرجال العزاب يبيحون لهن أنفسهن ابتغاء وجه الله والدار الآخرة والرحمة بالعزاب، ومن فعل هذا منهن كان عندهن مشكورا محمودا على هذا الفعل ويدعا له، ويقال لها: لا ينسى لك المسيح هذه الرأفة والرحمة.
وعندهم أنه لا يحل للرجل أكثر من امرأة واحدة، ولا يحل له أن يتسرى ولا يطأ بملك اليمين، فإن صادق امرأة أو خادمة لم يكن بذلك بأس ولا عار، وهذا مشهور ببلاد الروم كشهرة الزنى.
ولقد تحدث مصبح الطائي، وأبو عبد الله الحسين بن الصقر، وعبد الرحمن صاحب ابن الزيات وغيرهم من الغزاة، وممن أقام بالقسطنطينية السنين الكثيرة في الأسر وغير الأسر، فإنهم لطول الشقاء وعدم من بعثت المسلمين في فداء أو غزو، أظهروا النصرانية تقية، وانتشروا بينهم، واختلطوا بهم. فحدث من حدث منهم بعض من تنصر من الشجعان بعد الشدة وطول الشقاء، قال: فأعطاني الملك وأجزل وقال لخدمه وأعوانه: انظروا لهؤلاء المتنصرة نساء من ذوي اليسار يتزوجون بهن لتحسن أحوالهم، فقال رجل منهم: فلانة قد مات أبوها، ولها ضيعة ومواش وأموال كثيرة نزوجها بهذا، وأشار اليّ، فزوجوني بها. فإذا هناك جمال ومال كثير فأقمت معها مسرورا، ثم ضرب الملك بعثا على جماعة أنا منهم ليخرج إلى مكان فيه زرع مستحصد يخاف عليه العدو أن يمنعهم منه، ويكون مقامنا أربعين يوما، ثم يأتي بعدنا عسكر يقوم مقامنا ونرجع إلى أهلنا. فخرجنا، وأقمنا هذه المدة، ثم جاء العسكر فسألت بعض الواردين عن أهلي ومنزلي، فقال لي: قد تزوجت امرأتك بعد خروجك، فاستثبتّ ذلك جيدا ممن ورد فأخبرت بهذا، فأخذني ما أقامني وأقعدني؛ فلما رجعت إلى البلد عدلت عن منزلي ونزلت سوق الدواب، فسأل أهلي عن الواردين من أهل عسكرنا فأخبروهم بسلامتي وورودي، فتعرفوا مكاني فإذا أم امرأتي قد جاءتني ومعها موكب عظيم من نساء الجيران عليهن البزة الفاخرة والحلي، فقالت لي حماتي: ما لك عدلت عن منزلك وأهلك ونزلت هاهنا ونحن نتعرف أخبارك ونشتاقك، فقلت: وما أصنع بامرأة غبت عنها فتزوجت بعدي، أنا عليّ أن أدخل على الملك وأكسر بحضرته سيفي وأقطع زناري وأعرفه ما جرى عليّ. فقالت لي: أخطأ من قال هذا، ما تزوجت امرأتك وكيف تتزوج رومية بزوجين، إنما ذلك صديقها، لما غبت جاء ونزل عندها، فلما علمنا بقدومك حمل فراشه وانصرف. واستشهدت بأولئك النسوة والجيران، فشهدن أنه ليس بزوج وإنما هو صديقها، وإذا ليس عندهم أن بهذا بأسا ولا عارا. ثم أقبلت حماتي تقول لي: قم إلى بيتك فانظر إلى المكنوز والنبيذ وما خلفته تجده لم ينقص بل هو محفوظ موفر، وإذا هي تبشرني أن صديق امرأتي قد كفاني مؤونتها في غيبتي وتسرني بهذا أو تمن به عليّ. وقال أولئك النساء وهن حليلات وأزواج كبار الناس: قم عافاك الله إلى بيتك، فما هاهنا شيء يكره ولا ينكر. فقمت وحملت أثقالي وصرت إلى منزلي وأنا مقيم على امرأتي، وما أجد شيئا، وزالت الغيرة. ثم قال: يا أبا الفتح، ما يدخل أحد بلاد الروم إلا وقد طابت نفسه باتخاذ امرأته الأصدقاء، وزال عما كان عليه وانمحت الغيرة من قلبه، وزال عن الحمية وما كان عليه وهو مسلم.
فإن قالوا: مبتدع في دين النصرانية كما مثل ذلك مبتدع في الإسلام، قيل له: إن الروم قد كانت قبل التنصر تأكل الخنزير، وتستعمل الخصاء، وتغزو الأمم، وتسبي وتقتل وتسترقّ، وترى في الزنا ما قد ذكرنا، وتسير السيرة التي وصفنا. ولما تنصرت دامت على تلك السيرة فما زايلتها ولا زالت عنها، فمتى كان هذا الابتداع. ولا فرق بين من ادّعى هذا وادعى أن الروم كانت على خلافه ورجعت إليه لما تنصرت، ومن انتهى إلى هذا فقد جحد وكابر وليس مع المكابرة مناظرة.
ومما يحتج به النصارى -وهو أكبر شبههم في دينهم وأجل ما يلجئون إليه وهو عمدة الخواص والعوام منهم- أن يقولوا: النصرانية دين صعب ضيق، قد أجابت إليه الأمم الكبيرة والملوك بلا إكراه ولا سيف ولا قهر ولا غلبة، وما كانوا ليجيبوا إلى ذلك إلا بالآيات والمعجزات التي ظهرت على أيدي الدعاة إليها من الرهبان والرواهب.
قيل له: قد بيّنا وعرف تبديل النصارى لدين المسيح وميلهم إلى ملوك الروم، وقد شرحنا ذلك وعرفناه، فلا نجد إلا النصارى ترومت ولم تتنصر الروم. وأصل طوائفكم هم الروم، فهذا شاف كاف. ولو لم نعلم هذا وكيف الحيلة فيه من أوله إلى آخره لما كان يشكل علينا أيضا بطلان هذا الاحتجاج وفساده، وأن أهل هذا الدين لا يظهر الله على أيديهم معجزة، ولا ينقض على يد أحد منهم عادة. كيف والمعجزات لا تكون إلا للأنبياء عليهم السلام وفي زمانهم.
ثم يقال للنصارى: إنكم ادّعيتم الصحة لدينكم بالكثرة والملوك الذين تدينوا بدينكم، والكثرة لا تكون دلالة في صحة الديانة، وإنما يدل على صحة الديانة الحجة والبرهان لا غير ذلك، سواء كان أهل ذلك الدين قليلا أو كثيرا. وقد كان المسيح ومن اتبعه قليلا والروم واليهود هم الأكثر وأصحاب الملك، فيدل هذا على قياسكم أنه لم يكن له معجزة. ثم يقال لهم: أنتم تدّعون المعجزات والآيات لرهبانكم ورواهبكم ورؤسائكم في كل زمان وأنها لا تنقطع ولا ترتفع، وها أنتم قد أجبتم إلى هذه الديانة ولم تروا معجزة ولا آية، فكذا من قبلكم قد أجاب على هذه الصفة. وفي هذا أتم كفاية لمن أراد الحق.
وهم في كل حين يجتمعون إذا أرادوا أمر تحليل شيء أو تحريمه، ويكون لهم فيه سنهودس، وتفسيره الاجتماع للتقرير، فيفعلون ذلك، فإذا تقادم عهده قالوا: هذا ما حرّمته تلك الجماعة إلا بظهور آية أو معجزة، ألا ترى أن الجثلقة والمطرنة قد كانت جائزة عندهم فيمن له الأهل والولد، فصار الجثالقة والرؤساء يجعلون الرئاسة في أولادهم ويوصون بها في ذريتهم، فاجتمع النصارى وعقدوا تحريمها فيمن له أهل وولد وعرف التزويج، فصار ذلك دينا لهم فاجتمعوا عليه وعملوا به من غير آية ولا معجزة.
وقد كان تزويج الأختين بالأخوين مباحا عندهم، فجرى من أختين كانتا عند أخوين عداوة أدت إلى معاداة بين الأخوين، فاجتمعوا وحرموا ذلك، وصار لهم دينا يعملون به وإن لم يروا فيه آية ولا معجزة.
وقد كان تزويج بنت الأخ عندهم مباحا فجرى فيه نسب استنصر به بعضهم، فاجتمعوا وحرموا ذلك، فصار لهم دينا بغير آية ولا معجزة. وهذا منه ما فعلوه قريبا وفي الإسلام في دولة بني العباس. ومثل ما فعل مطران سمرقند فإنه حرم على أهلها الفراخ وزعم أن روح القدس تنزل في هذه الحمامة، فقبلوا ذلك منه وصيروه دينا.
واذا اختلطت بهم وفتشتهم ودخلت بينهم ولابست الجثالقة والرهبان وجدت هناك من الكذب والجهل والحرص على الدنيا وطلب الرئاسة والجمع والمنع أمورا كثيرة، فإن الواحد منهم يترهب وما معه شيء ويصير كلا على غيره، وما تمر الأيام حتى صار ذا مال كثير حتى ربما مات عن عشرات ألوف.
ثم يقال لهم: أنتم طوائف كثيرة وبينكم خلاف كبير في أصل الديانة، تضلل فيه الملكية اليعقوبية، وكذا النسطورية لا ترضى مذاهب الملكية واليعقوبية، وكل هذه الطوائف تدعي لرهبانها ورواهبها ورؤسائها المعجزات والآيات، وكذا المنانية، فعلى قياسهم الحق في طائفة واحدة والباقية كذبت فيما تدعيه لهم.
وقد قال بعض الحكماء ها هنا ديانات ومقالات تعرف كذب أهلها بأدنى تأمل:
منها النصرانية، فإنهم يدعون الآيات لكبرائهم وأنها لا تنقطع في زمان من الأزمنة، وأن الذين أجابوا إلى النصرانية إنما أجابوا بالمعجزات، فيقال لهم: أنتم أجبتم إليها ولم تروا آية ولا معجزة.
ومنها أصحاب النجوم، فإنهم يمخرقون ويدعون بالإصابات لأوائلهم، فيقولون: حكم جانان لكسرى بالدول وانتقالها، وللملوك في مواليدها، فما أخطأ في حرف واحد، وكذا كنكه منجم الهند لملوك الهند، وكذا ذوروثيوس لملوك الروم، وبطليموس لملوك القبط. وربما عملوا بذلك كتبا، وقصدوا إلى دول وممالك قد كانت ووجدت، وعرفت الحوادث فيها وأعمار ملوكها الخاصة والعامة، فيذكرون الجمل منها ولا يفصحون بأسماء ملوكها، لئلا يعرف فيه كذبهم. فيقرأ هذه الكتب والدفاتر الغرّ الغافل عن احتيال المحتالين أو تقرأ عليه، فيظن أن هذا قد ذكره المنجمون في سالف العصر قبل أن يكون، فيعتقد في أحكام النجوم الصدق، وأن أهلها قد تكلموا بعلم.
فيقال لهم: إن الكواكب والسماء ما ارتفعت ولا زالت ولا انتقضت، وهي كما كانت، فهاتوا وأخبرونا عما سيكون، أو عما قد كان ووجد مما تشاهدونه بعيونكم وتلمسونه بأيديكم، فإنا نعمد إلى دفتر ضخم مكتوب فيه فنقول لحذاقكم: خذوا طوالعكم وأخبرونا كم ورقة هو، وكم سطر في كل ورقة، فإنا نجد كذبكم فيه عيانا وحسا، وما تحتاجون إلى الإخبار عن نجم يطلع بعد سنة أو عشرين سنة وتخبرونا عن تلك الحوادث، فإنا قد قربنا الأمر عليكم لتعلموا أن هذه الدعاوى كذب ومخاريق وحيل على الناس، ولتعلموا بكذب أولكم وآخركم.
فإن قالوا: لم تقتصرون منا على العلم بورق هذا الدفتر دون الأسطر والحروف التي فيه؟ قلنا: إن مثل هذا وأكبر منه قد يصيب فيه الصبيان والجهال الذين يلعبون بالخاتم والزوج والفرد بالاتفاق، فهاتوا ما يتجاوز إصابات الصبيان والجهال والمجانين إن كنتم صادقين وإن كان صنعتكم حقا؛ وهذا ما لا سبيل لكم إليه، وفضيحتكم فيه كفضيحة النصارى.
فإن قالوا: قد يكون لنا إصابات في مواليد ومسائل؟ قلنا: قد يكون ذلك في قليل من كثير تخطئون فيه، وفي جمل دون تفصيل. والذي يأتي به الأنبياء فلا يخطئون في شيء منه مع كثرته، والذي يتفق لكم من ذلك كما يتفق للّعّاب الذين ذكرنا، وكما يتفق لأصحاب الفأل ولمن يضرب بالحصا والبصير بالنظر في الكف وبزجر الطائر، وما يتفق لهؤلاء من الإصابة أكثر من الذي يتفق لكم، وهم فيه أسرع، وأحوالهم فيه أكشف، وكما يتفق لبعض من يلقى الثعلب من السعادة، ولمن يلقى البوم من المحنة، وكما يتفق في رقى الهند والنصارى والمعزّمين من العافية والإفاقة، فيدعي أولئك أن هذا إنما كان عن رقاهم وعزائمهم، وأن ما هم عليه حقّ، وأنهم قد نطقوا بعلم.
ومنها أصحاب الطلسمات، فإنهم يمخرقون ويقولون: إن الاسكندر شكا إلى أرسطوطاليس بعد الماء عنه وعن عسكره عند لقاء عدوه، فعمل له طلسما سار الماء بمسيره ووقف بوقوفه، وأنه قال له وقد ورد على بحر إن تشاغل بعبوره أبطأ عليه وفاته إدراك عدوه، فقال له: أيما أحب اليك أيها الملك، أن أعمل طلسما تسير بعسكرك على وجه الماء كما تسير على وجه الأرض، أو أجمع بين الشطين لتعبره، فقال: تجمع بين الشطين فإنه أقرب في المسافة، فجمع له بين الشطين فعبر. وأن غير واحد قد عمل طلسما للقطعان من البقر والغنم وأمثالها من الحيوان، فتبعته وسارت بمسيره. وأنهم يعملون الطلسمات للبق والعقارب والجراد وغير ذلك، فيصرفونها عن بلد [إلى] بلد؛ وأن من عرف صنعة النجوم تأتى له ذلك.
فقيل لهم: هذه كلها مخاريق، وإذا أردتم أن تعرفوا كذب أوائلكم فاعرفوه بكذبكم في زمانكم، فإن الكواكب ما بقيت ولا زالت، فهاتوا شيئا من هذا، وفي تعذره عليكم دلالة على كذبكم وكذب أوائلكم.
فإن قالوا: بلاد حمص لا يكون بها عقرب، وإن دخلت إليها عقرب ماتت وإنما هذا طلسم عمل لها؛ قلنا: قد بيّنا كذبكم حسا كما بيّنا كذب النصارى والمنجمين، فإن كانت حمص لا يعيش بها عقرب فإن هذا من فعل الله تبارك وتعالى، قد يميت بعض الحيوان إذا صار في بعض الأماكن لتدبير له عز وجل هو أعلم به ولمصلحة فيه. ألا ترى أن بلاد الروم لا تكاد تبقى بها الجمال مع حرصهم في بقائها، حتى قال من لا يعلم: إن هذا لشدة البرد، فقيل له: فبلاد الترك أشدّ بردا وبها الجمال، والأتراك بالري إذا قطنوا بها فما يكادون يبقون بل يتماوتون، والأصفهاني إذا أراد السفر إلى الري أوصى. وما هذا الطلسم، وأرض مصر وغيرها من مواضع شتى لا يكاد يكون بها مطر. وما ذاك الطلسم، وأرض العراق مع كرمها وطيب مائها لا ينبت بها الفلفل، ولا الدارفلفل، ولا العود ولا الزنجيل ولا الدارصيني، ولا الزعفران، ولا سنبل الطيب، ولا يكون في أنهارهم العنبر. أوترى هذه الطلسمات وضعت بالعراق وأناث البغال لا تكاد تحمل بل لا تكاد تهيج. أفترى هذا الطلسم وأودية العراق لا يكون فيها التمساح، وهو بمصر كثير. أفترى هذا الطلسم وضع بالعراق لئلا يكون فيه هذا، أو وضع بمصر حتى لا يفارقها. وهذا التمساح في نيل مصر، وهو في بعض المواضع بها دون بعض، وبأرض الكوفة والبصرة وواسط وبغداد وسر من رأى ومصر والقيروان، وهذه كلها أمصار إسلامية، ووضعت في الإسلام، وخطت في الإسلام، فحدثت أمور كثيرة في أحوال الحيوان أبدع مما يدعونه لحمص وغيرها بلا طلسم.
والمجوس تدّعي أن لهم منتظرا حيا باقيا مهديا من ولد بشتاسف بن بهراسف يقال له أبشاوثن، وأنه في حصن عظيم من خراسان والصين، ومعه كثير، كلهم ثقات أمناء أخيار، لا يكذبون ولا يعصون الله، ولا يقع منهم خطيئة صغيرة ولا كبيرة، وأن دعوتهم مجابة، ولهم دلالات وآيات ومعجزات، وأنهم صاروا إلى ذلك المكان عند زمن زرادشت الذي تدعي نبوته، وأنهم أنوار ساطعة، وأنهم من الجمال والحسن والنظارة على أمر عظيم، وأنهم لا يبكون ولا يهرمون ولا يموتون، وأن أبشاوثن لا يحتاج إلى أكل ولا إلى شرب ولا يكون منه بول ولا غائط ولا شيء من الأذى. هذا الذي أتيقنه مما قد ذكره أذرباذ بن أميذ الموبذ في وصفه أبشاوثن، أنه لا يأكل ولا يشرب ولا يبول ولا يتغوط. فأما أصحابه فلست أتيقن أنه وصفهم بأنهم لا يأكلون ولا يشربون، ويغلب على ظني أنه قد وصفهم بذلك. فأما العصمة وأن أصحابه بمثابته، فما أشك فيه.
فقيل للمجوس: إذا شئتم أن تعرفوا أول أمركم فاعتبروه بآخره تجدون بطلانه واضحا بينا، كما يجدونه النصارى والمنجمون وأصحاب الطلسمات. فإنكم تدّعون أن قوما في زماننا هذه صفاتهم وأحكامهم، وعليكم في هذا فضل مزية في الباطل، فإنكم أمم كبيرة قديمة تخبرون بكون هؤلاء في الدنيا معنا وفي زماننا، وأنهم يخرجون مع ابشاوثن هذا فيكلمون الأرض كلها، ويعيدون المجوسية وديانات الفرس وملكها الذي أزاله الإسلام كما كانت. فقد كان ينبغي إن كان هذا في الدنيا هاهنا قوم يدعونه أن نعلمه بخبركم، وفي عدم العلم بذلك دليل على أنه أمر لا أصل له، وما في الدنيا إنسان يدعي هذا، ولكنه شيء وضعه لكم الواحد والاثنان والنفر اليسير، فصدقتموه وأحسنتم الظن بهم، وأنتشر فيكم، وهو كذب وأنتم لا تعلمون أنه كذب، كما أصاب النصارى وغيرهم ممن كانت هذه سبيله.
وكذا لمن ادعى أن معنا وفي زماننا إماما معصوما قد أقيم لنا وهو الحجة علينا وعلى أهل الأرض بأسرهم، قيل لهم: أنتم أمم كثيرة عظيمة بالعراق وبالشام وبفارس وبمصر والمغرب والحجاز واليمن والبحرين وكور الأهواز وبالجبال والديلم وخراسان وكلكم يخبرنا بأن في الدنيا رجل هذه سبيله ويدعو إلى نفسه، وكلكم أصحابه وينتظره ويدعو إليه. وتصنيف الكتب في ذلك قد ملأت الدنيا. ونخاصم في ذلك، فلو كان في الدنيا إنسان هذه سبيله لعلمنا ذلك بخبركم وبما نسمعه منكم وإن لم نصدقه فيما ادعى ولم نقبل قوله ولم نر شخصه وإن لم نسمع كلامه. ألا ترى أن نبينا محمدا ﷺ لما ادعى أنه رسول الله إلى الخلق أجمعين وأنه الحجة عليهم علم ذلك من دعواه كل من بلغه خبره ممن صدقه أو كذبه، ومن رآه ومن لم يره، وكذا العلم بمسيلمة وما ادعاه وإن كذبه الناس كلهم. بل لو أخبر جماعة عن امرأة من وراء حجاب بصلاح أو طلاح لعلم الناس ذلك بخبرهم إذا كانوا عالمين بما أخبروا. فكيف وأنتم أمم كثيرة عظيمة قد طبقت الأرض والبر والبحر والسهل والجبل، تعتقدون ذلك وتخبرون به وتدعون إليه، وتزعمون أنكم أصحاب هذا الرجل وأتباعه، فلا يزداد من تأمل ونظر واعتبر إلا علما بأن ليس في الدنيا إنسان يدعي ذلك ولا يدعو إليه. فلو نظرتم وأنصفتم لعلمتم أن أول امركم مثل آخره في الباطل، وأن النبي ﷺ ما تدين بما تدعون ولا دعا إليه، لا هو ولا أحد من أصحابه.
فإن قيل: فلو قال لكم قائل وأنتم أيضا أول امركم مثل آخره، إذ ليس في زمانكم من معه معجزة ولا آية، فأولكم هذه سبيله، ما كان يكون جوابكم؟
قيل له: لا سؤال علينا في هذا، لأنا نمنع أن يكون مع أحد بعد نبينا آية أو معجزة، وما ندعي أنه آية ومعجزة فهو ما علمه كل من سمع الأخبار، وهو هذا القرآن وما جاء مجيء القرآن، ونقول: لا حجة على الخلق إلا رسول الله ﷺ وحده، فعرفت الفصل بيننا وبين من ذكرنا. وجواب آخر، وهو أن كل من سمع أخبار النبي عليه السلام فمن صدقه أو كذبه يعلم باضطرار أنه كان يدعي النبوة ويدّعي أن معه آيات ودلالات ومعجزات.
فإن قالت النصارى: نحن أولنا المسيح وهو سلفنا، وأنتم تقرون أن معه آيات ومعجزات، فكيف قلتم إن أولنا مثل آخرنا؟
قيل لهم: ومن سلم لكم أن المسيح عليه السلام سلفكم، ونحن فقد دفعناكم عن هذا، وبيّنا أنكم قد خالفتم المسيح عليه السلام في أصوله وفروعه، ونقضتم عهوده، وعطلتم وصاياه بيانا لا يمكنكم دفعه. ونحن فما علمنا أن المسيح نبيّ وأنه قد كان معه آيات ومعجزات بقولكم، ولا بنقلكم ولا بدعواكم، وإنما علمنا ذلك بقول نبينا صلى الله عليه. ولكن ادعيتم أن هذه الأمم ما أجابت إلى النصرانية إلا بالآيات والمعجزات التي ظهرت على بولص وجورجس وأبامرقس وأمثالهم، ودونتم ذلك في كتبكم كما دونته المنانية والمجوس وغيرهم، وادّعيتم ذلك في كل زمان، والناس معكم ويشاهدونكم فلا يرون لذلك أصلا ولا أثرا، ولا يرون إلا السيف والقهر والعسف، وأن أول هذا الأمر ما كان إلا بالسيف والقهر كما قد بيّنا، وهو قائم باق ما زال ولا حال بل زاد. ونحن فقد وجدناكم نزلتم على أهل المصيّصة، وعين ذربة، وجزيرة اقريطش، وجزيرة قبرس، وجزيرة أرواد، والثغور الشامية، والثغور الجزيرية، وثغور أرمينية، وأذربيجان، وما يكثر إحصاؤه، وما قد قدره أهل الخبرة إلى هذه الغاية، ومقداره ألف فرسخ منائر وعمارته متصلة، ومقدار السبي والأسر نحو عشرين ألف ألف إنسان، لا يقرون على الإسلام، بل يدخلون في النصرانية كرها، بالرهبة والرغبة. وكذا من دخل في ذلك من البرغر والبرجان كله بالإكراه والسيف، وإن طالت مدته وتناسى الناس كيف جرى ذلك.
وادّعيتم أن هؤلاء إنما دخلوا في النصرانية بالآيات والمعجزات، وأن البطرك وافى من بلاد الروم، فنزل وجنده وعليه الجوذبا والكتين والودار وعلى رأسه القبع وفي يده الكرار، فأقام موتاهم من المقابر، فقاموا بأسرهم من تلقاء أنفسهم وصاروا إلى بلاد الروم. ووافى ميخائيل الراهب إلى أهل المصيصة فقلب سيحون زيتا، وجعل أغنامهم كلها خيلا، فقاموا كلهم من تلقاء أنفسهم فقبّلوا الصليب، وصاروا إلى بلاد الروم. وكذا أهل سميصاط وحصن منصور. فليس عندهم في الكذب والبهت شيء، وهم قوم يكذب لهم رؤساؤهم فيقبلون ذلك الكذب عنهم، وقلّ مصر من هذه الأمصار وثغر من هذه الثغور إلا وقد ترددت إليه ملوك الروم السنين الكثيرة، ونزلوا عليه الأعوام المتوالية، ورعوا زروعهم وحصروهم ومنعوهم الأقوات، حتى أكلوا الكلاب والسنانير والميتة، وقتلوهم جوعا وعطشا، وقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذريتهم، وقادوهم بالسلاسل والحبال، وأنزلوا بهم من المكاره ما يطول شرحه، وكذا أمرهم من أوله إلى آخره. وليس سيف حمل بباطل في جميع الأزمان مثل سيف النصرانية كما قد بيّنا ذلك. وحيث لا يكون لهم ملك ولا سيف فإن من أسلم منهم يمنعونه أهله، ويبطلون ديونه، ويذمونه بكل فاحشة، ويسعون في كل ما يقدرون عليه من مكارهه وإضراره، وهذا أيضا ضرب من الإكراه.
ثم يقال لهم: هذه المنانية قد غلبت على المشرق، وليس معهم سيف ولا مال، ويدّعون أن دينهم أضيق الأديان وأصعبها، وأنهم لا يأكلون اللحوم ولا يؤذون شيئا من الحيوان، ولا يأكلون إلا ما أنبتته الأرض. وعبادتهم من الصوم والصلاة كثيرة عظيمة، ولا يدخرون الأموال، ويدّعون أن المعجزات اضطرتهم إلى هذا الدين، وهم يدّعون أن المستبصرين من رهبانكم ورؤوسائكم منهم، ويدعون هرابذة المجوس. قالوا: ولكن ليس لنا عند المسلمين ذمة كما لليهود والنصارى والمجوس، ومتى أظهرنا لهؤلاء ديننا قتلونا. قالوا: وكذا يصنع بنا ملوك الروم. ويذكرون من آيات ماني ومعجزاته أنه كان نورا خالصا كله وأنه لم يكن له في الشمس ظل، وأن الملائكة كانت تأتيه وتحتمله حتى تصعد به إلى الشمس فيصير فيها، وأصحابه يشاهدونه، وأنهم نقلوا ذلك الجمهور عن الجمهور والجماعات عن الجماعات، ويدّعون لأتباعه المعجزات، ويدّعون مع ذلك أنهم أصحاب المسيح وعلى دين المسيح، وأن الإنجيل الذي معهم هو الحق دون ما معكم، فينبغي أن يكونوا على قياسكم محقين، وأن ذلك إنما تم لهم بايات ومعجزات كما ادّعيتم ذلك، ولهم كتب مدونة في آياته ومعجزاته، ولعلها أكثر من السليحين الذي لكم ومن الآيات التي تضيفونها إلى جميع من دعا إلى النصرانية مذ كانت النصرانية.
وهذه الهند، وهي أمم عظيمة لعلها تزيد على أمم النصارى، ولهم العقول والحكم التي لا تكاد تدانيها عقول الأرمن والروم، يعبدون البددة قبل تنصر الروم بالدهور الكثيرة، وليس يدعون الناس لاتباعهم لا بسيف ولا برغبة ولا بالرهبة، ومن دخل فيه لم يمنعوه، وهم يدّعون أن أصنامهم تكلمهم وتأمرهم وتنهاهم، وتبدرهم بالأمور قبل كونها، وتأتيهم بالأمطار وما يسألونها من الرخاء والنعم، وتدفع عنهم السوء، وتشفي مرضاهم. ويحملون زمناهم على الجنائز إلى سوق الاصنام فينقهون ويرجعون على أقدامهم، ويدّعون أنها تحيي الموتي، ولهم رقى يدعون أنها تشفي وتحيي، فينبغي أن يكون هؤلاء محقين صادقين.
والمجوس تدعي لزرادشت من المعجزات والآيات أكثر مما يدعيه النصارى لمن دعاهم إلى النصرانية، ويقولون: نحن لا نكره أحدا على الدخول في ديننا ولا نرغبه فيه، وهو دين خصنا الله به، فمن دخل فيه لم نمنعه. وإنما نقاتل ونحمل السيف على الأمم لتأدية الخراج والدخول في الطاعة فقط، فأما لأجل الدين فلا نحارب. وعقول الفرس وحكمتها وتحصيلها قد عرفه الناس، وكثرة وسع ممالكها فوق ممالك الروم بطبقات. فينبغي على قياسكم أن يكونوا محقين وصادقين.
فإن قلتم لهم: لكم ملوك عتاة جبابرة هم أدخلوكم بالقهر والسيف والرغبة والرهبة في هذا الدين، قالوا لكم: أما الدين فما تعرضوا لإدخال الناس فيه ولا اشتغلوا به، وإنما كان أخذهم للناس بالسمع والطاعة والخضوع للملك، وهذا معروف.
والعيان والموجود من دين النصرانية وما عليه هذه الطوائف لهم القهر والغلبة والسيف مذ كانت إلى هذه الغاية، وما هاهنا سيف حمل بباطل إلا سيف النصرانية من أول أمرها إلى هذه الغاية.
وقد دعا واحد من اليهود الخزر وهم أمم كثيرة فأجابوه ودخلوا في دينه عن قرب وفي أيام بني العباس ودولتهم. ولو أراد مريد أن يدعي أنهم إنما أجابوا إلا بالآيات والمعجزات كما يدعي النصارى لمن تنصر لأمكنه ذلك وكان أولى بالشغب من النصارى، فإن هذا رجل واحد قصد إلى ملك عظيم الشأن وإلى قوم أولى بأس شديد فأجابوه بلا غلبة ولا سيف، وتحملوا ما في شريعة التوراة من الشدة بالختان والوضوء وغسل الجنابة وتحريم الأعمال في السبت والأعياد وتحريم ما في هذه الشريعة من الحيوان، إلى غير ذلك.
ولعل اليهود تدعى لهذا الداعي الآيات والمعجزات، فمنهم من يجيزها للصالحين منهم. وهذا أولى بالشبه مما تدعيه النصارى، ولكن النصارى أكذب وأشد جرأة على ادعاء ما لم يكن.
ثم يقال للنصارى: ادعيتم لدينكم الضيق والصعوبة، وقلتم: هذا أحد الأدلة على صحته وعلى أن الأمم لم تقبله ولم تدخل فيه إلا بالآيات، فقد عرفنا من قولهم في الآيات، ولو كان ضيقا صعبا شديدا لما دل ذلك على صحته فإن دعواهم هذه كدعواهم المعجزات. وليس يدل على صحة الدين ضيقه وصعوبته، بل ربما احتال الممخرق والمبطل على صحة ما يدعو إليه بالتصوف والتقشف وكثرة العبادة والمضايقة فيما يدعو إليه إلى أن يتمكن، ثم يظهر مساوئه، ويكون ذلك له شبهة على من يرى ذلك ويسمعه، والنفوس ترحم المتصوف والمتقشف المواصل الصلاة والصيام وإن كان مبطلا ويحسن ظنهم فيه ويسرعون إلى القبول منه قبل النظر في حاله، ويكتفون بما يظهر منه عن البحث عن حاله، وفي النظر والبحث شدة ومشقة، وتنفر نفوسهم عن حامل السيف وإن كان محقا.
وعلى أن ديانات المنانيّة أضيق من ديانات النصرانية لأنهم يحرمون أكل جميع الحيوان وركوبه وأذيته بكل وجه، حتى أنهم يحرمون قتل السباع والحيات والعقارب ويصبرون على أذيتها، ويحرمون ادخار الأموال، ويوجبون من الصوم والصلاة أكثر مما توجبه النصارى، ويحرمون المناكح كلها ولذات النفوس. فينبغي أن يكون دين هؤلاء هو أصح من النصرانية بألف طبقة.
والهند لها عبادات كثيرة وزهد عظيم لا يدانيه ما يفعله أزهد رهبان النصارى. وتوجب في دينها قتل أنفسها، وتحرق أنفسها بالنيران وهم أحياء، وإذا مات رئيسهم أحرقوه وأحرقوا معه أحبابه وأصدقاءه وخاصته وزوجته، يفعل ذلك بها أبوها وأمها وأهلها. وليس في دين النصرانية شيء من هذا، فينبغي أن يكون دين المنانية هذا أصح من مذاهب هذه الطوائف النصرانية.
على أنا لا نعرف دينا أوسع ولا أرخص ولا أسهل من دين النصارى، إذ ليس فيه زاجر مخوف كالحدود المكتوبة، ولا النار، ولا عذاب الآخرة، وأن أشد العذاب في الآخرة أن المعاند الذي قد عرف الحق وتركه يلحقه غمّ مدة ثم ينجلي وينقضي، فأما من لم يعاند، وإن اخطأ وإن كان مع اعتقاده مخالفا لدين النصارى فليس عليه خوف ولا عقاب إذا كانت نيته سليمة واعتقد الشيء على أنه حق وإن كان باطلا. وأما النصارى فليس عليهم خوف ولا يؤخذون بذنب من الذنوب، وقالوا لأن الرب الذي هو الأب إنما أرسل ابنه ليصلب ويقتل ليحمل خطايانا ويغفر ذنوبنا. فليس دين يغري بالقبيح ويبعث على ارتكاب الفواحش ويهيج على الفساد أكثر من دين النصرانية. وهم يدعون فيه الضيق قحة منهم ومباهتة، وهو كما ترى. وإنما يدّعون لأهله ولمن دعا إليه المعجزات لأنه ليس فيه حجة ولا على صحته دلالة.
ثم نقول للنصارى: اعندكم أن من حمل السيف كان مبطلا؟ فإن قالوا: نعم، قلنا: فالمسيح أول المبطلين، لأنه عندكم أرسل موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء بالسيف وقتل الرجال والنساء المخالفين له، وأحلّ له في بعض الحروب قتل الرجال وكل امرأة ضاجعت رجلا واستبقاء الأبكار، وأحل له الغنائم وأخذ الأموال ودفعها إلى بني إسرائيل، وكذا سائر الأنبياء الذين تتولونهم وتقولون إنهم على الحق، إلى أن جاء المسيح وظهر للناس، وقال: ما جئت مخالفا لموسى ولا للتوراة وإنما جئت متمما، ولأن تسقط السماء على الأرض أيسر عند الله من أن يحلّ شيء مما عقده موسى، ومن حل [شيئا من ذلك] وأخذ من ناموس موسى يدعى ناقصا في ملكوت السماء.
ثم ليس عند هؤلاء أخذ الجزية ممن ملكوه وقدروا عليه ولا إقراره على دينه، وليس إلا الإجابة إلى الدين أو القتل، وهذا أعظم وأشد وأغلظ من دين الإسلام وشريعته.
ونراكم تدعون للمسيح الرأفة والرحمة وتنزيهه عن فعل الألم والشدائد والمضار والهموم، وهو عندكم قد شرع التوراة وأحكامها وحدودها، وغرق أهل الأرض في طوفان نوح. وعندكم أن هذا الموت والجذام والبرص والعمى والصمم وإنزال الجرب والأسقام وأنواع الألم بالبهائم التي ما عصت من فعله، ثم أباح ذبحها وأكل لحومها وإيلامها بالكد والركوب والحمل عليها إلى غير ذلك مما قد فعلوه. فأين الرأفة والرحمة، وأين هذا ما أباحه نبينا محمد ﷺ من قتل من كفر بالله وأفسد في الأرض، هذا ولو كنتم ترون المسيح نبيا مرسلا لما وجب أن تعيبوا حمله السيف لأنه قد جاء وصوب حمل الأنبياء قبله للسيف وإباحة الحيوان، وأن الامراض والأسقام من الله ومن قبل الله، فكيف وأنتم [تدعون أن الفاعل لذلك جميعه هو المسيح]. فما سمع بقوم هم أجهل وأوقح وأبهت من النصارى، إذ هذا قولهم وهم يعيبون حمل محمد ﷺ السيف على من كفر بالله وعبد الاوثان والكواكب والنيران من دون الله وكذب هم، وبهتهم أكثر من هذا.
فإن قالوا: إن هؤلاء الأنبياء حملوا السيف بأمر الله، قيل لهم: فقد بطل أن يكون حمل السيف باطلا من كل وجه على ما ذهبتم إليه، ووجب أن يراعي حامله، فإن كان قد حمله بحجة كان محقا. فينبغي أن ينظروا في أعلام محمد ﷺ ومعجزاته وآياته، ويعلموا أنه مثل من تقدمه من الأنبياء.
وتدعون التصوف والتقشف وطول الصيام والصلاة والنهي عن حمل السيف. وليس في دين النصارى والمنانية والديصانية وأشباههم حجة، فهم يخدعون الناس بلبس الصوف وإظهار الزهد.
ومثل هذا من جهلهم ومخاريقهم أنهم يعيبون محمدا ﷺ باتخاذه النساء، وهم يعلمون أن آدم ونوحا وإبراهيم ولوطا وإسحق ويعقوب والأسباط وموسى وهارون وداود ويوشع وغيرهم ممن يقولون بنبوته ويشهدون بصواب مذهبه قد اتخذوا من الأزواج والسراري مثل ما اتخذ هؤلاء، بل فيهم من قد اتخذ في ذلك أضعافا مضاعفة كما كان لداود وأمثاله. والروم هم أصل النصرانية ولكنهم لم يجدوا في رسول ﷺ مغمزا فعابوه بحمل السيف واتخاذ الأزواج، وهم يعيبون هذا منه صلى الله عليه ويدعون أن الله قد اتخذ مريم أما لولده واتخذ الولد لنفسه وإن لم يسموا مريم زوجة.
ومن عجيب ديانتهم أن المذنب منهم يقول للقس والراهب: اعمل لي مغفرة وتوبة وتحمل ذنوبي، ويجعل له على ذلك جعالة على مقداره في الغنى والفقر، فيبسط القس كساءه ويأخذ الجعالة ثم يقول للمذنب: هات الآن واذكر لي ذنوبك ذنبا ذنبا حتى أعرفها وأتحملها. فيبتدئ ذلك المذنب رجلا كان أو امرأة ملكا أو سوقة فيذكر ما قد فعله شيئا شيئا، حتى يقول: هذه هي كلها، فيقول له القس: إنها عظيمة ولكن قد تحملتها وغفرت لك، فأبشر. وربما جمع الكساء من أطرافه ووضعه على ظهره وقال: ما أثقل ما في هذا الكساء من الذنوب.
ومن المأثور عنهم والشائع عليهم أن المرأة تقرّ عند القس بذنوبها، فتقول: أصابني رجل في يوم كذا فيستفهمها كم مرة فتقول: كذا وكذا، فيقول لها: أخبريني هذا الرجل نصراني أو مسلم، فربما قالت: مسلم، فيستعظم هذا، ويستزيدها في الجعالة، فإن زادته، وإلا غضب وانطلق وهو يقول: قد زنى بها المسلمون وتريد أن أغفر لها وإنما اعطتني كذا وكذا، فتردّه وتزيده وترضيه.
هذا من دينهم الذي الذي يدعون ضيقه، ويدعون أنه على دين المسيح، وهذا لا يجوز أن يكون دينا له صلى الله عليه.
وقد قيل لبعض قسوسهم: ما هذا من التوبة؟ فقال: وما وجه تركنا لهم لا نسألهم عن ذنوبهم ونطمعهم في غفرانها، فإنا لو لم نفعل ذلك ونأخذ المال منهم لافتقرت البيع.
وقلّ ما تجد منهم من يخاف عذاب الآخرة، لأنهم يعتقدون أن المسيح إنما قتل نفسه ليقيهم من الذنوب والعذاب وأنه جالس على يمين أبيه، وأمه جالسة مما يلي يساره فهي تتلقى الذنوب إذا طلعت وتقول لابنها: سل يا بنيّ أباك الرب غفرانها، فهو عندهم يغفرها ويسأل أباه غفرانها.
والملوك بمصر والشام والعراق والجزيرة وفارس وما والى ذلك يعوّلون على النصارى في الكتابة والوزارة والجهبذة. فلهم الرئاسة على المسلمين، يجبون أموالهم ويأخذونها منهم بالضرائب الموضوعة على كل شيء مما لم ينزل الله به سلطانا؛ فيذلون بها الإسلام، وينفقونها في مكاره المسلمين.
وللفرس أيضا مثل هذه الفضائح التي تقدمت للنصارى. وهو أن زرادشت قد شرع لهم تطهير الحائض والنفساء والتي قد مات جنينها في بطنها ببول البقر، يتولى ذلك منها الهربذ بعد أن يجردها ويعريها ويباشر ذلك منها بيده ورأي عينيه، فيبركها ويغسل ذلك المكان بيده، وربما جزعها منه جزعا وأخذ على ذلك الجعالة على مقدارها. وأول ما يأخذ الخلعة التي عليها إذا جردها للتطهير، وأقل ما يأخذ على أفقر فقير أربعة مثاقل فضة. وزعم الفرس والمجوس أنه كان يرتفع لموبذان موبذ في أيام ملكهم من هذا الوجه أربعة ألف ألف دينار ينفقها على الهرابذة، وشرع لهم بالإنجاب على زوج المرأة إذا غاب عن امرأته أو عجز عن بضاعها أن يوكل في نيكها من يختاره من أصدقائه وثقاته ورفقائه.
ولم نكن في الرد على المجوس ولا النصارى، إنما قصدنا البيان أنهم مخالفون للمسيح ودينه في الأصول والفروع.
فهذا يرحمك الله أصل مذهب النصرانية، ومذهب القراء والزهاد منهم.
فأما أهل الجدل والنظر ومن يتجرد في نصرة النصرانية ويضيف الكتب في ذلك فكلهم ملحدة وزنادقة، ويكذبون المسيح وجميع الأنبياء عليهم السلام، ويستجهل الشرائع ومن يعمل بها فلا تكاد تجد فيهم إلا من هذه سبيله، مثل: قسطا بن لوقا، وحنين بن إسحق، وابنه إسحق، وقويرى، ومتى الجرمقاني وهو المكنى أبو بشر بن يونس الذي فسر كتب الملحدة، وهلك في سنيّ نيف وعشرين وثلثمائة، وبعده يحيى بن عدي، وعنه أخذ هؤلاء الملحدة الذين في زمانك، ومذهبهم لا يقوم بالجدل.
واذا قيل لهم، قالوا: حجتنا في ذلك على لسان أرسطاطالس ومن قوله ومن أصوله، وأرسطالس لا يؤمن بكتاب ولا نبي ولا شريعة، وينكر فلق البحار، وانقلاب العصا حية، وإحياء الموتى، وولادة مريم من غير ذكر. ويرى أن التصديق بذلك جهل وحمق وقلة عقل. فانظر من أولى بقلة العقل، هو أو من يجعله حجه لدينه ويأخذ عنه. فما بعد هذا في فضيحتهم شيء.
فاعرف هذا من طريقتهم، فقد تبين لك أن ديانات هؤلاء النصارى خلاف ديانات المسيح ووصاياه وعهوده. وعلمت علم محمد ﷺ بذلك، وأن علمه به من قبل الله، وأنه من معجزاته.
والنصارى تقول: لعمري إن المسيح ما عمل طول حياته بشيء مما نحن عليه، وكذا تلاميذه من بعده فما لزموا [إلا] شريعة التوراة، ولكن من أتى بعدهم نقلونا وقالوا لنا قد قال المسيح: اعملوا بعدي بما ترون. قلنا: قد صدقتموهم في دعاويهم وهم قد جاؤوا بالرئاسة عليكم والتحكم فيكم وفي أموالكم.
فإن قالوا: إننا لم نقبل منهم إلا بالمعجزات، فقد فرغنا منها وبيّنا كيف كان الأصل من قسطنطينوس ابن هيلانة وبيّنا أن المسيح وصاهم بشريعة موسى عليه السلام، وأن يعملوا بما رأوه يعمل طول حياته بما قدمناه، من تجريد التوحيد، وتنزيه الله عز وجل، وبإقامة الشريعة كما بينا.
وحديث انتقالهم في كتابهم المعروف بأفراسكس وفي السنهودس الذي لهم. وإنما هم ينهون من لا يعرف، ويقولون: نحن على شريعة المسيح، فإذا وافقهم العارف بذلك، قالوا: قد انتقلنا بالآيات والمعجزات، فإذا عرفهم حال قسطنطينوس بن هيلانة وما فعله وجميع هذا الذي بيناه، قالوا: نهينا عن الجدل والبحث والتفتيش.
ومن عجيب أمورهم أن معهم وفيما حفظوه عن المسيح أنه عليه السلام قال لهم: إنكم تأتوني يوم القيامة، وليحشرنّ إليّ سكان الأرض فيقومون عن يميني وشمالي، فأقول لأبناء الشمال: لقد كنت جائعا فما أطعمتموني، وعريانا فما كسوتموني، ومريضا فما عدتموني ولا داويتموني، ومحبوسا فما زرتموني، فيكون من جوابهم أن يقولوا لي: متى كنت يا سيدنا مريضا أو عريانا أو جائعا أو محبوسا؟ ألم نكن باسمك نتنبأ وباسمك نشفي المرضى ونقيم الزمنى، وباسمك نطعم الجياع، ونكسو العراة، ونداوي المرضى، وباسمك نأكل ونشرب؟ فأقول لهم: قد كنتم تذكرون اسمي ولا تشهدون عليّ بالحق، ابعدوا عني يا عاملي الإثم. ثم أقول لأبناء اليمين: هلمّ أيها الصالحون إلى رحمة الله وإلى الحياة الدائمة.
وليس هاهنا من يطعم ويكسو أو يداوي المرضى ويأكل ويشرب باسم المسيح ويفعل ذلك للمسيح إلا هؤلاء الطوائف من النصارى. فهذا نصّ واضح ببراءته منهم وعداوته لهم.
والروم تأكل الخنزير وجميع الحيوان وذبائح الناس كلهم، فتبعوا الروم في هذا كما تبعوهم في غيره. فإذا قيل لهم في ذلك، قالوا: إن شمعون الصفا رأى في المنام، وإذا ثوب مربوط بأربعة أطرافه وهو ينزل من السماء إلى الأرض، فيه كل الدواب ذوات الأربع القوائم وزخارف الأرض، وطير السماء، وحيوان الماء. وسمع صوتا يقول: قم يا شمعون، قم اذبح وكل، فقال شمعون: حاشا لي يا رب، فإني منذ قط لم آكل شيئا نجسا، فعاد الصوت المرة الثانية يقول له: لا تنجس ما طهره الله. وهذا عندهم رآه شمعون بعد موت المسيح ورفعه.
قلنا: فقد شهد شمعون أن هذا مما حرمه المسيح ونجسه، فقد أكد فضيحتكم إذ هو ما جاء إلا بالتمام لا بالتغيير والنسخ.
والعجب أن معهم في أشعيا النبي: أن شر الأمم وأنجس الأمم وأخبث الأمم هذه الأمة ذات القلفة الآكلة للخنزير وكل البهائم. وهذا هو صفتهم.
وفي النصارى من يزيد في الكذب والمخرقة ويقول: إنما قتل اليهود المسيح لأنه أحيا الموتى وأقام الزمنى في يوم السبت، وهذا دليل على أنه أحل السبت، ونسخ ما في التوراة.
قلنا: قد بينا ما في الأناجيل وفي أفراسكس من وصايا المسيح بالتوراة، وما عمله، مما فيه بطلان هذه الدعاوي. ومما يزيد في البيان عن كذبهم قول متى في إنجيله: "إن المسيح كان يتمشى بين الزروع يوم السبت، وكان تلامذته قد جاعوا، فجعلوا يفركون السنبل ويأكلون، فلما رأى الأحبار ذلك قالوا له: إن تلاميذك هو ذا يفعلون ما لا يحل لهم فعله في السبت، فقال المسيح: فما قرأتم ما صنع داود إذ جاع، كيف دخل بيت الله وأكل من خبز مائدة الرب الذي لم يكن يحل له أكله، ما خلا الكهنة فقط. وقال لهم أيضا: وما قرأتم في التوراة أن الكهنة في الهيكل يحلّون الهيكل وليس عليهم لوم".
فانظر كيف بيّن أن هؤلاء ما حلّوا السبت ولا ما في التوراة، وأنهم إنما عملوا بما يحل في التوراة. ولكنكم أنتم جهلتم. فلو كان قد نسخها لقال لهم: إنما فركوا السنبل في السبت لأن الله قد نسخ ذلك على يدي، ولم يحتج إلى تبيين حال الاضطرار.
وذكر متى في إنجيله أن المسيح لما أبرأ الرجل الأمثل قالت له اليهود: هل يحل الإبراء في السبت؟ فقال لهم: إذا وقع لأحدكم كبش في البئر أما تستخرجونه، فالإنسان أفضل من الكبش، وأنه قد يجوز أن يفعل الفعل الجميل في السبت. فلو كان حل السبت لقال ذلك وأظهره ولم يحتج. وقد قال لوقا في إنجيله: إن المسيح كان يعلّم في يوم السبت في بعض الكنائس، وكان هناك امرأة بها مرض منذ ثمانية عشر سنة، وكانت منحنية، ولم تك تستطيع أن تبسط قامتها، فلما رآها المسيح قال لها: أيتها المرأة قد أطلقت من مرضك، فعوفيت من ساعتها. فقال رئيس اليهود: إن الأيام التي يجوز فيها العمل ستة أيام ففيها تعالجون لا في السبت، فقال له المسيح: أما يطلق أحدكم ثوره أو حماره عن المعلف في يوم السبت ويذهب به ويسقيه الماء، فهذه التي هي بنت إبراهيم عليه السلام وقد ربطها الشيطان منذ ثمانية عشر سنة لا يجب أن تطلق عن الأسر. فلو كان كما قال هذا الكذاب، لقال: السبت منسوخ، وكل الاعمال فيه جائزة مباحة.
وذكر متى في إنجيله أن المسيح خبّر ببلاء ينزل بأصحابه وجلاء، ثم قال لهم: صلّوا لله وارغبوا إليه أن لا يكون هربكم وجلاؤكم في يوم السبت ولا في الشتاء. وهذا قاله لهم عند فراقه إياهم ووداعه لهم، لتعلم تأكيده لإقامة السبت من بعده والتمسك بشرائع التوراة، وإنما أمرهم مسألة الله ألا يكون هربهم في يوم السبت، لأنه لا يحل لهم أن يحملوا في يوم السبت شيئا من أمتعتهم وأموالهم، وإنما يحل النجاة بالنفس لا غير. وكل هذا بين رفض النصارى لدين المسيح.
واذا قيل لهم: لم تصلّون إلى المشرق وقد علمتم أن المسيح لم يزل يصلي إلى بيت المقدس إلى أن خرج من الدنيا، وإنما المشرق قبلة الروم؟ قالوا: لأن الله خاطب الأنبياء من قبل المشرق، وبعضهم يقول: إن المسيح لما صلب أمال وجهه إلى المشرق فلهذا صلينا إلى المشرق. فقيل لهم: فمن أعلم بالمصالح أنتم أم المسيح، وقد علمتم وتيقنتم أنه ما صلى إلى المشرق، ولكنكم صرتم إلى ديانات الروم وفارقتم دين المسيح.
وفي الإنجيل: سألته السامرية: أرى أنك نبيّ أنت، آباؤنا إنما سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون: إن الموضع الذي يجب السجود فيه إنما هو أورشليم؟ قال لها يسوع: أيتها المرأة صدقت. أما [أن] بين أتباعه [من] لا يسجدون للرب لا في هذا الجبل ولا في اورشليم.
فانظر إلى الافصاح والبيان في هذا، أن المسيح إنما كان يصلّي إلى أورشليم وهو بيت المقدس، ليعلم أنهم خالفوا ما كان عليه.
وقد ذكرت لك أنه ما قصدنا بيان فساد النصرانية، إنما قصدنا البيان عن مفارقتهم لدين المسيح ومخالفتهم له في الأصول والفروع جميعا مع شدة تحققهم به، وأن علم محمد ﷺ بذلك إنما هو من قبل الله عز وجل، وأن ذلك من معجزاته وآياته، وإن كان قد اتفق من حكايات أقوالهم والرد عليهم ما لا يكاد يوجد في كتاب، سيما حكاية تسابيحهم وأقاويل رؤسائهم.
فاحتفظ بذلك فإنك لا تكاد تجده في كتاب، وبك إلى حفظه أمس الحاجة.
فأما المسألة لهم والرد عليهم فكثير.
فمن ذلك، كتاب الجاحظ، وكتاب آخر له يعرف بالرسالة العسلية، ولأبي جعفر الاسكافي، ولأبي بكر أحمد بن علي بن الأخشيد قطعة حسنة في كتاب المعونة. ولأبي عيسى الوراق كتاب عليهم، ولأبي علي كتاب عليهم، ولأبي هاشم مسألة في البغداديات، وفي أصول ابن خلاد وفي شرحه، وفي الإيضاح لأبي عبد الله البصري، رحمة الله عليهم أجمعين، كلام عليهم.
وليس عندهم أن المسيح تكلم في المهد، ولا أتى ببراءة ساحة أمه. وأكثر ما عندهم أن مريم عليها السلام كانت مملكة بابن عم لها يقال له يوسف [بن] يعقوب النجار، وأنها كانت عنده، وأن الناس كانوا يرون أن المسيح ابن يوسف، إلى أن عمّده يوحنا في الأردن، وجاء الصوت من السماء: هذا ابني الذي سررت به نفسي. قالوا: فعلمنا أنه ابن الله -تعالى الله- لا ابن يوسف النجار. قالوا: وكان هذا بعد أن أتى على المسيح ثلاثون سنة، وكان الناس لا يشكون أنه ابن النجار إلى أن جاء هذا الصوت بزعم النصارى. فأي سخف وضعة وطعن في حكمة الله أعظم من هذا، وهو عندهم رب العالمين، وقد خلّى عباده يقذفون أمه.
وفريق منهم وهم الخاصة يذهبون إلى أن ربهم يهودي بن يهودي، مولود من يهودية، وأن أمه امرأة يهودية، وقال متى في إنجيله: لما ظهر الحمل بالمسيح بمريم البتول همّ يوسف النجار بطلاقها، فأتاه الملك في المنام فقال له: يا يوسف النجار لا تَرتب بحليلتك مريم فإن الحالّ فيها من روح القدس، فأمسك عن طلاقها.
فانظر كيف يشهد بأنها حليلة يوسف النجار وزوجته، وأنه هم بطلاقها واتهمها بالزنى وأراد طلاقها فرارا من العار.
وبعضهم يذكر في ترجمة إنجيله: هذا ميلاد يسوع بن يوسف النجار، ومتىّ يقول في إنجيله: هذا ميلاد يسوع المسيح. وقال: يعقوب والد يوسف رجل مريم التي منها ولد يسوع المسمى مسيحا، فانظر كيف يحققون أن يوسف زوجها. وفي الإنجيل أن المسيح لما ولد ختن بعد ثمانية أيام، وأن يوسف النجار أخذه مع أمه وخرج بهما إلى مصر فأقام اثني عشر سنة، ثم أخذهما وردهما إلى بيت المقدس. وفيه أن يوسف دخل بيته فقال لمريم: أين الصبي، يعني عيسى المسيح، فقالت له: ظننته معك، فقال: وأنا ظننته في البيت عندك ومعك، فقلقا لذلك وخافا عليه الضياع، فخرجا جميعا في طلبه، فقال يوسف النجار لمريم: خذي أنت طريقا وآخذ أنا طريقا آخر، فلعل واحدا منا يجده. فمشيا متحرقين، فلقيته مريم أمه فقالت: يا بني، أين تكون؟ ظننتك مع أبيك وظنك أبوك عندي فلما لم يرك قلقنا فأخذ أبوك في طريق وأخذت أنا هذا الطريق، فأين كنت، ومع من كنت وأبوك متحرق عليك؟ فقال: كنت في بيت المقدس أتعلم.
وذكر متى في إنجيله: أن المسيح اجتمع مع اليهود وضرب لهم الأمثال، فلما فرغ المسيح من هذه الأمثال تحول فدخل مدينته، وكان يعلم في كنائسهم فكانوا يتعجبون ويقولون: من أين لهذا هذه الحكمة، أليس هذا ابن يوسف النجار، أليس أمه التي تسمى مريم وإخوته يعقوب وشمعون ويهوذا وأخواته كلهن أليس هن عندنا، من أين لهذا هذا كله، وجعلوا يحتقرونه ويأثمون فيه ويقذفونه، والمسيح يقول لهم: ليس من نبيّ إلا ويحتقر في مدينته.
والنصارى توافق المسلمين في أن المسيح ولد من غير ذكر، ثم يقولون في أناجيلهم: إن يوسف النجار زوج مريم أم المسيح، ورجل مريم، وأبو المسيح، وأنه كان يُدعى بذلك ويعرف به غير متناكر بينهم، وأنه كان له إخوة وأخوات.
وفي أناجيلهم وأخبارهم أنه لما طُلب جاءته أمه مريم ومعها أولادها يعقوب وشمعون ويهوذا، فوقفوا حذاءه، فقال لها وهو على الخشبة: خذي أولادك وانصرفي. فما الذي بعد هذا في البيان أن مريم ولدت بعد المسيح من يوسف النجار هؤلاء الجماعة وكانوا إخوة المسيح من أمه، فأي فضيحة تكون أبشع من هذا.
ومن عجيب أمر النصارى أن أصحاب الأناجيل الأربعة قد قصدوا إلى ذكر نسب يوسف النجار خاصة، وليس في ذلك نسب للمسيح إذ كان مولودا من غير ذكر، وإنما يتصل نسبه إلى سليمان بن داود عليهما السلام من قبل أمه لا من قبل أحد من الرجال، وهذا تخليط بيّن وجهل ظاهر. ولذلك وجد اليهود السبيل إلى الطعن في المسيح.
ولتعلم رحمك الله أن هذه الطوائف من النصارى أجهل عالم الله بالمسيح وأخباره وأخبار أمه، وأن كل واحد من أصحاب هذه الأناجيل إنما تلفظ ما كتبه بعد المسيح بالدهر الطويل وبعد مضي أصحابه عمن لا يعرف ولا يحصل. وفيها من الاختلاف والتناقض لما هم عليه ما يطول شرحه.
وفي أناجيلهم أن المسيح أتاه قوم من اليهود يسألونه آية فقذفهم وقال مجيبا لهم: إن القبيلة الخبيثة الفاجرة تطلب آية ولن تعطى آية خلا آية يونان النبي. هذا على قولهم يدل أنه ما معه آية بهذا الإفصاح، وأنه ما ادعى ذلك عند الحاجة إليه.
والنصارى لا تعرف الربوبية ولا تفرق بينها وبين الإنسانية. ولا يقوم على أحد حجة بنقلهم وادعائهم إلا بآيات للمسيح. ولولا شهادة رسول الله ﷺ للمسيح عليه السلام بالنبوة لما عرف أحد ذلك.
ومن أكبر كيد رؤساء النصارى ادعاء المعجزات لأنفسهم ولأمثالهم ممن سلف من رؤسائهم، والنصارى تقبل ذلك منهم بغير برهان ولا حجة، فإذا مات ذلك الرئيس من راهب أو قس أو مطران أو جاثليق قعد راهب وقال: أنا كنت أخدمه فرأيت منه العجائب، فترحموا عليه معشر النصارى، وتوسلوا إلى الله به فإنه شاهد، فاشهدوا قبره وأكثروا زيارته. فيقول النصارى له: يا رباني حدثنا بما رأيت منه فيمتنع ويقول: أعفوني من الشرح، وكلما تمنع لجّوا في مطالبته، فيقيم على الامتناع فيزدادون حرصا في استخباره، فيقول: إنه في حياته ما تحدث به فما أحبّ أنا أن أتحدث به بعده، وإنما ذكرت لكم فضله لتتوسلوا إلى الله به، فإن صدقتموني فافعلوا وإلا فدعوا فما يضرني وليس هي أعجوبة وآية لي وإنما هي له، فيزدادون حرصا، فيقول: قد كان انقطع بنا الزيت في البيعة، وكان لا يطلب الزيت من أحد ولا يدعني أطلبه، فإذا كان الليل أشعل القنديل وقام إلى جرة له فيها خل فيصبه في القنديل فيصير من ساعته زيتا فيصطبح به كذا وكذا شهرا، وقد كان في الجرة أكثر من خمسين رطلا خلًّا وهو في الجرة نأكله عند الإفطار، وفي الليل إذا قلبه في القنديل صار زيتا.
ويتحدث آخر عن راهب صحبه، يقال له أبامرقس، وأنه كان كثير العبادة، وأنه توكل على الله وألقى نفسه في البحر، وقال: يفعل الله بي ما شاء، إن شاء غرقني وإن شاء نجاني وألقاني حيث شاء من أرضه. قال: فما جسرت أن افعل مثل ما فعله، وأقمت بمكاني بعده على ما فيّ من وحشة فراقه مدة طويلة، ثم دعاني ما فيّ من الوحشة له أن افعل مثل فعله، فإما أن أغرق فأستريح من الوحدة. ففعلت وبقيت في البحر مدة، ثم ألقاني الله إلى أرض لا أعرفها ولا بها ينبوتة يأكل منها حيوان؛ فأقبلت أمشي فيها فوقعت عيني على شخص قائم يصلي فقصدت نحوه فإذا هو أبامرقس صاحبي، فقلت له: ربّاني، مذ كم أنت هاهنا؟ قال: مذ فارقتك ألقاني الله إلى هذه الأرض، فقلت له: من أين تعيش وليس هنا ينبوتة يأكلها حيوان؟ فقال: إذا كان العشاء التفت من صلاتي فأجد سمكة مشوية حارّة في طبق رغيفين وسكرجة عسل، فأفطر على ذلك ويرتفع الطبق ولا أرى من يرفعه ولا من يضعه. فقلت له: هذا المقدار هو قوتك أنت وإن شاركتك فيه ضيقت عليك، فكيف أعمل أنا وهذه أرض قفر ما بها نبات ولا بها يبس، فقال: ما أدري وإن شئت أن تقيم وتشاركني فيما يجيئني فافعل. فأقمت، فلما كان العشاء إذ بطبقين وسمكتين ورغيفين وسكرجتين، أحدهما لي، والأخرى له. فقال لي: قد جاءك من الرزق مثل ما جاءني، فأقمت معه كذا وكذا سنة، فمرض ووصاني بدفنه وأمرني [أن] أنصرف بعد دفنه إليكم لأعرفكم خبره لتزدادوا بصيرة في دينكم، ولولا وصيته لما فارقت المكان.
ويقول آخر من الرهبان لهم: أبشروا معشر النصارى، فإن دينكم الحق، فقد رأيت من العجب ما عرفت صحته. فيقولون له: مثل أي شيء رأيت؟ فيقول: ليس هو شيء لي وإنما هو لغيري، وهو أني كنت في جملة الجاثليق فلان، فقال لي: يا أخي بلغني عن مطران خراسان أنه يأكل اللحم، فامض إليه وقل له: أما علمت أن المطران لا ينبغي له أن يأكل اللحم؟ فمضيت إليه فاتفق دخولي عليه وبين يديه مقلى مملوء عصافير قد قليت وهي حارة، وهو يأكل، فقال لي: كل، فقلت له: أبونا الجاثليق أرسلني اليك يقول لك: أما علمت أن المطران لا ينبغي له أن يأكل اللحم، فقال لي: هكذا قال لك أبونا؟ فقلت: نعم، فرفع يده وقال لي: نعمل ما قال أبونا، وقال لتلك العصافير التي في المقلى: كش، فتطايرت كلها، ورفع المقلى. فيصدقونه ويدونون ذلك ويكتبونه. ويطرأ على من بالعراق منهم وما والى العراق راهب لا يعرفونه، فيقولون له: وقد دخل البيعة: رباني، من أنت، ومن أين جئت؟ فيقول: دعوني وأعفوني، فيراجعونه فيقول: ذنبي عظيم وفضيحتي فاحشة فلا تسألوني عن شيء، فيلحون في سؤاله فيقول: بشرط أنكم تسترون عليّ، فيقول: أنا كنت رجلا يهوديا شديد البغض للنصارى والمسيح، وسمعتهم يقولون في الإنجيل إن المسيح قال: من كان نصرانيا خالصا وقال للشجرة قفي على أمواج البحر ولا تبرحي، فإنها تقف. وكنت لا أصدق بهذا فجئت إلى الملك وقلت له: أنا رجل يهودي، وقد قلتم إن المسيح قال لكم كيت وكيت، فإن صح هذا ورأيته بعيني تنصرت من ساعتي. فوجه الملك إلى السواد فجاؤوه بشيخ ضعيف البنية وعليه المسوح، فقال له: هذا رجل يهودي، وقد قال كذا وكذا، فهات ما عندك في هذا، فأقبل الشيخ عليّ وقال: يا هذا اتق الله، إن كنت متعنتا فامض بسلام ولا تؤذنا، وإن كان ما تقوله حقا وعن نية صادقة فعرفني، فحلفت له على صدق نيتي، فقال لي: اذهب إلى الصحراء فانظر أي شجرة شئت فعلّم عليها وارجع إليّ فعرفني العلامة، فذهبت وأعلمت على شجرة عظيمة ورجعت إليه فعرفته، فقال لي: تجيئني في غد حتى أريك شجرتك على موج البحر كما اقترحت. فجئته من غد وأخذ بيدي وجاء بي إلى البحر فأراني الشجرة التي أعلمت عليها قائمة منتصبة على موج البحر فتنصرت، فأنا أسيح في الأرض وأبكي على ذنوبي وذهاب أيامي. فيصدقونه ويكتبون ما قاله، ويكون مما يدرس في البيعة ويسمعه الرجال والنساء.
ويجيئهم آخر من الرهبان فيبكي، فيقولون له: من أنت، وما يبكيك؟ فيقول: دعوني فإن مصيبتي عظيمة، فيقال له: اذكرها يا بني، فيقول: ما أعقل أمري، وما أدري ما أقول، فيقولون له: على كل حال اذكر مصيبتك وعرفنا حالك، فيقول: أوليس قد مات أبونا جورجس؟ فيقال له: ومن جورجس؟ فيقول: صاحب البلا الفلاني والصومعة الفلانية، فيقولون: ما نعرفه، وربما فيهم واحد يقول: قد سمعت به، فيقول: فهل بلغتكم آياته ومعجزاته، فيقولون: حدثنا بها واذكرها لنا. فيقول: ما لي أذكرها لكم، ما أنتم نصارى بل أنتم خلاف النصارى، ولو كنتم نصارى لعرفتموه وعرفتم آياته ودلالاته. فيسألونه ذكرها فيأبى ويتمنع، فلا يزالون يراجعونه فيخبرهم أن الملك الفلاني أرسل فأشخصه وقال له: ارجع عن هذا الدين وأنا اعطيك وأكرمك وأشاركك في ملكي، فأبى، فحبسه في محبس وثيق ضيق، ثم طلبه من السجان فما وجده في السجن، فلحق السجان من الملك كل ما يكره، وقال له: أنت أطلقته، وبث الرسل في طلبه فوجدوه في صومعته فأتوا به الملك فقال له: أخبرني عن السجان، أهو الذي اطلقك؟ فيقول: لا، المسيح أخرجني، وفتح الأبواب لي، وحجب الأبصار عني، فقال له الملك: أنا الآن أحبسك في محبس، فقل للمسيح يطلقك. فحبسه في حبس وثيق من وراء أبواب حديد مقفلة، ثم طلبه فما وجده. فأرسل إلى صومعته فإذا هو فيها، فجاء به، وقال له:
من اطلقك فقال له المسيح: فرده إلى الحبس وقيده وثقله بالحديد وزاد في التوثق، ثم طلبه فما وجده في الحبس، والأبواب والأقفال كما كانت، ووجد القيود؛ فأرسل في طلبه فوجده في صومعته فجاؤوا به وقد اغتاظ الملك مما يتم له، ومن تخجيله له مرة بعد أخرى، فأمر فضربت عنقه ودفن فلما كان من غد يوم دفنه وجدوه في صومعته، وقيل ذلك للملك، فبعث وأحضره وقطعه إربا وحمل ودفن فلما كان من غد وجده في صومعته، وقيل ذلك للملك، فأرسل وجاء به وقطعه إربا، ودعا بنار فأحرقه وأمر برماده فألقي في البحر، فلما كان من الغد وجدوه في صومعته، فأرسل الملك وجاء به واعتذر إليه وتنصر. فيقول الراهب: وكل هذا كان منه وأنا معه وأشاهده منه وما فعله الملك به، فمثل هذا لا أبكي عليه ولا تعظم مصيبتي به. وأشد من هذا جهلكم وغفلتكم حتى كأنكم ما أنتم نصارى ولا سمعتم بالنصرانية، ويبكي. فيصدقونه ويعتذرون إليه من غفلتهم وجهلهم بهذا الرجل وبما كان معه، ويجتمعون، رجالهم ونساؤهم وصبيانهم، ويسألونه ذكر ذلك لهم، فيعيده على فوج بعد فوج، فينصرفون عنه وقد صدقوه. وينبثون ويتحدثون بذلك سرورا به، ويخالدون ذلك، ويجعلون لمثل هذا أعيادا، ويجعلون له أياما معلومة يقيمون هذه الأعياد فيها، ويعيدون حديثهم ليتطرّا ذكرها وليسمعها من يشاء من ذراريهم، ويسمون ذلك ذكران؛ فيقولون: هذا ذكران جورجس وهذا ذكران أبامرقس، وهذا ذكران فلان.
ويجيبهم آخر، فيقول: تدرون معشر النصارى لم صار في العرب والقبط والحبشة والفلانيين نصارى؟ فيقولون: لا، [فيقول ] ولكنني أدري، ولو كنتم نصارى لدريتم، فيسألونه فيخبرهم. فيقول: إن الآباء الأوائل باتوا ليلة لسانهم واحد، فأصبحوا وقد نطق كل واحد منهم بلسان أمة من الأمم، فانطلق كل واحد منهم إلى تلك الأمة التي نطق بلسانها، فدعاهم بلسانهم، وأظهر لهم الآيات والمعجزات، وإلا فقولوا لنا: لم تنصرت الأرمن والعرب والقبط والحبشة؟ فيقولون له: صدقت، هذا برهان نيّر. فيكتبون هذا ويدونونه ويجعلون له عيدا وذكرانا، وهذا أصله ومخرجه وأوله. فإذا تخلد وانبثّ ومرّت عليه الدهور وأتت عليه الأعصار، ادعوا أنه شيء كان أصله بمشاهدة الأمم لأن الكذب فيما تقادم عهده أمكن. وإنما يجعلون له ذكرانا وعيدا ويوما بعينه لتتم الحيلة فيه، وليظن من يسمع أنه ما جعل له عيد ويوم معلوم وتاريخ مؤقت محدود إلا وهو حق وله أصل ليتأكد الكذب ويتم التمويه، وليتصل البر والصدقات على الرهبان في هذه الأعياد. والفطناء من النصارى يقولون: هذه الآيات والمعجزات إنما هي من احتيالات الجثالقة والرهبان ومن يبغض العمل ويفر من الكد، ويسمونهم بلغتهم السريانية "عازق معناثا" معناه أنه ترهّب ولزم الدين ليأكل من غير ماله ويستريح من الكد. والرهبان إذا ما تشاحنوا على ما يأخذون يقول أحدهم لصاحبه: النصارى يفضلونك علينا، ويعطونك أكثر مما يعطونا، وما لك من فضل علينا، كلنا قد فر من العمل، وإنما نحن نصلي للنصارى. ولهم من المكاشفات ما يطول شرحه، ولكن ليس متأمل ولا متخرق على الإسلام ولا متفقد.
وربما ورد الراهب على النصارى بمثل ما قدمنا، فيقبل الرهبان بعضهم على بعض بالقول فيما بينهم: تأملوا هذا الفار من العمل بأي شيء قد جاء يخدع النصارى، وانظروا هل يكون له بخت. وربما جاء الراهب إلى الجاثليق بمثل هذ لينفق عنده، فيقول له الجاثليق: عزمت على الهرب من العمل، أنت عازق معناثا، فربما بكى، وقال له: أبونا ما يحل لك أن تقول لي هذا، فيقول الجاثليق: يا أخي ما ينبغي أن تعمل معي هذا فأنا أعرف بالصنعة، هبنا خدعنا غيرنا، بعضنا يعرف بعضا والصنعة واحدة، وأنا عازق معناثا مثلك، فلا تبك.
ومثل هذا رحمك الله تجد كثيرا من القسيسين والرهبان، إذا رأوا راهبا أو جاثليقا أو قسا أو مطرانا قد ادّعيت له المعجزات ونفق على النصارى، يقول بعضهم لبعض: انظروا بأي شيء نفق هذا على النصارى الجهال ونفذت حيلته فيهم واستوت له عليهم الرئاسة.
وكان متى بن يونس القس صاحب المنطق يقول عند مثل هذا: هذا بخت النغول.
وعلماء النصارى يسرعون إلى الإلحاد كما تقدم ذكره لك. ومما يدنيهم من هذا الأمر أن موضوع النصرانية أن الآيات والمعجزات تكون في عبادتهم في كل عصر لا تنقطع، تدعي ذلك الملكية لعبادها، كما يدعيه باقي طوائفهم، ويدّعون المشاهدة في كل زمان وأوان، مع إكفار بعضهم لبعض. وليس فيهم أحد رأى شيئا من ذلك، وليس إلا الدعاوى التي تقدم ذكرها والذكران والأعياد. فيلحدون ويظنون بما يدّعى لموسى وهارون وعيسى عليهم السلام بمثل ما يدّعى للرهبان.
ومما يؤثر أن النصارى جلسوا في ذكران جورجس وما جرى عليه من القتل مرة بعد مرة وهو يعود ويقوم من قبره إلى الصومعة. فيقول قائل منهم: لو صدقنا أنفسنا لعلمنا أن هذا كذاب لا أصل له، المسيح صاحب جورجس ذاق مرّ الحديد مرة واحدة فما عاد ولا تعرض لمثلها، فكيف بتعرض لها جورجس وهو دونه في الصبر والبصيرة، فأضحكهم.
وأكثر ما عند أهل البصائر منهم أن يقولوا: سبيلنا أن نسلم للرؤساء ونقنع في الدين بالتقليد ولا نطلب فيه البرهان، فليس أمر الشريعة والبيعة من أمر الطبيعة في شيء. وهذا شيء ألقاه لهم هؤلاء الرؤساء الذين يستأكلونهم ويسخرون منهم، وأكثرهم ملحدة كما قدمنا. وهم يريدون بالطبيعة ما يقوله أرسطاطاليس وأمثالهم من الملحدة: في أن الشمس والقمر وسائر أجساد السماء لا يجوز أن تتصدع ولا تتفرق، ولا أن تكون حارة ولا باردة ولا رطبة ولا يابسة ولا حلوة ولا حامضة ولا ثقيلة ولا خفيفة، وما أشبه ذلك من جهالاتهم التي تزيد على جهالات النصارى أضعافا مضاعفة. ويدعون أنهم قالوا ذلك ببرهان. وأن الربوبية والنبوات والشرائع لا يقوم عليها برهان. فخاصة النصارى ورؤساؤهم أجهل من عامتهم بطبقات.
والقبط تبغض بني إسرائيل لما جرى عليهم وعلى فرعون من موسى.
فلما غلبت الروم على بني إسرائيل وملكت مصر والشام والجزيرة، وأخذت الناس بهذا الدين بالرغبة والرهبة كما بيّنا وكما ترى وتشاهد، أسرعت القبط إلى ذلك. وخالطت الروم قبائل العرب من غسان وغيرها بالشام فدعتها إلى النصرانية، وبذلت لها الملك، وذكروا لهم دين المسيح وما يذهبون إليه من المعجزات التي ذكرناها، فسهل ذلك عليهم، وهم كانوا عبّاد أصنام، فلم يبعد عليهم ذلك.
وقد صار في هذه الأمة من يسلك هذا السبيل، ويؤكد دعواه بادّعاء الآيات والمعجزات والتواريخ والأيام، كادّعاء الحنبلية أن المعتصم بن الرشيد لما ضرب أحمد بن حنبل انحل عنه مئزره فخرجت كف فشدت مئزره، وأن المعتصم وتلك الجماعة من القضاة والفقهاء والمحدثين لما رأوا ذلك راعهم وخلى المعتصم ضربه وخضع له وسأله بعد أن اعتذر إليه أن يحله فأجابه أحمد إلى ذلك، فخلع عليه وكرمه وسأله أن يدعو له وصرفه إلى منزله.
ويدّعون لمعروف الكرخي وغيره ما قد علمت.
وادّعى آخرون أن رسول الله ﷺ استخلف على أمته رجلا بعينه، وأن أمته أجابته إلى ذلك وأظهرت السمع والطاعة، فلما قبض رسول الله ﷺ عطلوا ذلك كلهم وارتدوا بأسرهم. وهذا قول الكاملية، ورئيس هذه المقالة أبو كامل معاذ بن الحصين النبهاني الكوفي. وقال هشام بن الحكم: قد ارتدوا كلهم إلا نفرا يسيرا، فإنهم أقاموا على اعتقاد هذا النص بضمائرهم وقلوبهم دون الإظهار بألسنتهم. قالوا: وهذا اليوم هو يوم الغدير، وحين ظهروا هذه الطائفة في سني نيف وخمسين وثلثمائة للهجرة عيّدوا في ذلك اليوم ليؤكدوا كذبهم في المهاجرين والأنصار في أنهم ارتدوا. فاعرف ذلك.
والحنبلية والإمامية يحتجون بكثرتهم وأن مقالتهم قد غلبت على البلدان، وقد تقدم لك القول إن الكثرة لا تدل على صحة النحلة، وإنما يدل عليها قيام الحجة وإن قلّ عدد العاملين. بل لو كان القائل بالحق رجلا واحدا، وقامت له الحجة، لكان أولى بالحق ولو خالفه جميع أهل الأرض. وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله.
وقد كانت الحنبلية تحتج على خصومهم من الرافضة بالكثرة وتقرع الرافضة بالقلة، والرافضة تحتج بأن الله قد ذم الكثرة ومدح القلة وتتلو ما في من القرآن، فلما اتفقت لهم منذ سني ونيف وخمسين وثلثمائة للهجرة احتجوا بالكثرة، وكتب رؤسائهم القدماء مملوءة بذكر ذم الكثير ومدح القليل، فاعرف ذلك.
ثم يقال للإمامية: إن النص الذي ادعيتموه من النصوص التي تلزم الكافة من الرجال والنساء والأحرار والعبيد والمسافرين والمقيمين والخاصة والعامة، لو كان له أصل لكان العلم به عند كل عاقل سمع الأخبار كالعلم بأمثاله من نصوص الكافة وإن لم يعرف اليوم الذي كان فيه ولا المكان ولا عين اللفظ به، لأن قول النبي ﷺ: فلان خليفتي عليكم وحجة الله بعدي عليكم، كقوله: أنا رسول الله اليكم وحجة الله عليكم. وقد عرف هذا من نصوصه عليه السلام كل عاقل سمع الأخبار ممن صدقه أو كذبه، وإن لم يعرف الوقت الذي قال هذا فيه ولا المكان، فإن عرفه كان من الفضل.
وهذا بيّن كاف، بل نصوص الإمامة والرئاسة الصحيحة منها والفاسدة إذا وقعت حصل العلم بها عند كل من سمع ذلك الخبر. ألا ترى أن نص عمر على علي بن أبي طالب رضي الله عنهما بالإمامة والخلافة في الشورى قد عرفه كل من سمع الأخبار، وكذا نص أهل المدينة عليه بعد عثمان، ونص أبي بكر على عمر، ونص الصحابة على أبي بكر، ونص معاوية على يزيد، ونص مروان على عبد الملك، ونص عبد الملك على ابنه الوليد، ونص المنصور على المهدي. فلو كان النبي ﷺ قد نص على رجل من أصحابه بأي لفظ كان لكان العلم به أقوى من العلم بهؤلاء، لأنه ليس في هؤلاء أحد يعتقد في نصه وفرضه ما يعتقده المسلمون في نصوص رسول الله ﷺ وأوامره. وفي فقد العلم بذلك دليل على أنه أمر لا أصل له بوجه من الوجوه. وبمثل هذا يعلم أن أمير المؤمنين ما نص على ابنه الحسن رضي الله عنهما. وبمثل هذا نستدل على فساد قول أهل التناسخ وما يدعونه على العقلاء من الأكوار والأدوار. وبمثله يعرف بطلان قول الملحدة في دعواهم في النفس ونزولها من عالم العقل إلى عالم الحس.
فإن قيل: إن هذا قد حسد الناس صاحبه ونافسوه عنه ودفعوه ومنعوه من استعماله وذكره.
قيل له: إنك لم تطعن في الدلالة، بل تركت ذلك وادّعيت دعوى أخرى، فدعواك الحسد والمنافسة كدعواك النص، وهذا فيه أتم كفاية على بطلان قولك.
ثم يقال له: إن هذا الدليل قد دل على أن ليس هناك من رسول الله ﷺ نص على رجل بعينه ينافس فيه أو يحسد لأجله، فلو أراد أصحاب رسول الله ﷺ أن يعصوا الله بتعطيل نصه على أمير المؤمنين لما قدروا على ذلك ولا وجدوا سبيلا إليه، لأنه شيء ما كان قط ولا وجد.
ثم يقال له: لو كان هناك نص حتى ينافس صاحبه أو يحسد لما قدح ذلك في العلم به، ولما زادته المنافسة إلا قوة. ألا ترى أن أهل المدينة لما نصوا عليه بعد عثمان قد نافسه معاوية ودفعه عن الخلافة فما أثر ذلك في العلم بعقد أهل المدينة عليه، بل زاده قوة ونشرة وبسطه. وقد عقد أهل الكوفة للحسن بعد أبيه رضي الله عنهما، فدفعه معاوية ونافسه وزاحمه وغالبه وغلبه، فما أثر ذلك في العلم بالعقد له بل زاده قوة. وقد ترشح سعد بن عبادة الأنصاري للخلافة بعد رسول الله ﷺ ورأى نفسه أهلا لذلك، فدفعه أبو بكر الصديق عن ذلك ومنعه منه.
وقد ادعى مسيلمة النبوة فدفعه أبو بكر الصديق عن ذلك ومنعه وقتله. وادعى طليحة ذلك فمنعه أبو بكر ودفعه وأسره، فما أثر ذلك في العلم بما ادعى هؤلاء ودعوا إليه بل زاده قوة وعرف الناس الدعوى والمدعى، والرافع والمرفوع، والمانع والممنوع. هذا وليس لسعد أحد يقول بإمامته ولا يخاصم فيها، ولا يضع فيها الكتب، ولا يسير فيها الأشعار، ولا يقيم فيها المناحات. وكذا ما ادعاه مسيلمة وطليحة، فعلمت أن هذا شيء ما فعله رسول الله ﷺ ولا ادعاه، ولا ادعاه أمير المؤمنين ولا دعا إليه، ولا كان أحد من الصحابة يتديّن بذلك، ولا يذهب إليه حرّ ولا عبد، ولا ذكر ولا أنثى.
يزيدك وضوحا بذلك أن أمير المؤمنين لما عقد له أهل المدينة كان قوم معه وقعد قوم عنه فلم يكونوا معه ولا عليه وكانوا في المدينة معه، كأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وسعد بن مالك، وغيرهم. ثم رجع قوم ممن كانوا معه فصاروا عليه، وهناك قوم لم يكونوا معه بل كانوا في جميع الأحوال عليه. ويعلم بذلك كل عاقل سمع الأخبار.
وهؤلاء زعموا أن رسول الله ﷺ قام بهذا النص الشامل العام، وعرف الناس هذا الفرض وقدره عندهم، وأداه إليهم بحسب عمومه وشموله، وأعلمهم أنه شيء يلزم كل واحد منهم، من حر وعبد وذكر وأنثى ومسافر ومقيم وعليل وصحيح، وأنهم أظهروا له القبول والرضا. فلما مات ارتدوا كلهم ورجعوا عن هذا النص. وقال هشام: ارتدوا كلهم إلا ستة نفر منهم.
قلنا: فقد كان ينبغي أن يكون العلم بهذا عند كل من سمع الأخبار، وأن يكون أقوى وأقهر وأغلب من العلم بالذين قعدوا عن أمير المؤمنين فلم يكونوا معه ولا عليه، ومن العلم بالخوارج الذين كانوا معه ثم صاروا عليه، ومن العلم بما كان بينه وبين معاوية، ومن العلم بالتحكيم. وإلا فكنا نكون كمن قال: ترون الحصاة وهي على أبي قبيس، ولا ترون أبا قبيس وهو مكان الحصاة، لأن ذاك العقد من رسول الله ﷺ أعظم، وفرضه أعم وأشمل من النص على القبلة، وعلى صيام شهر رمضان، وعلى الجمعة وغسل الجنابة. ألا ترى أن فرض القبلة يسقط عمن خفيت عليه الدلالة وعن المتأنف وعن المسافر في التطوع، ولا يسقط عنه اعتقاد الإمامة وطاعة الإمام، وقد تسقط الجمعة عن المسافرين والمرضى والنساء والعبيد ولا يسقط عن أحد منهم اعتقاد الإمامة وطاعة الإمام، وقد يسقط الصوم عن المسافرين والمرضى والحيض ولا يسقط عن أحد منهم اعتقاد الإمامة وطاعة الإمام. فلو كان كما ادعوا لكان العلم بذلك عند كل عاقل سمع الأخبار أقوى وأقهر وأغلب من العلم بالقبلة وبصيام شهر رمضان وبالجمعة وبغسل الجنابة. ومثله في النصوص، نص النبي ﷺ على أنه رسول الله إلى الناس جمعا، ألا ترى أن العلم بذلك حاصل عند كل عاقل سمع الأخبار، ممن صدقه أو كذبه، فلو كان لهذا النص أصل لكان يعلمه كل عاقل سمع الأخبار وإن لم يقبله وإن لم يتدين به. كما علم اليهود والنصارى والمجوس أنه عليه السلام نص على أنه رسول الله إليهم، وأن طاعته عليه السلام تلزمهم وتجب عليهم.
وفي عدم العلم بذلك دليل على أن هذا شيء ما فعله رسول الله ﷺ ساعة قط، ولا كان منه فيه إشارة ولا إيماء بوجه من الوجوه. ولسنا نقول: إنه لو فعله لقبلوه وعملوا به، بل نقول: كان العلم يحصل به عند كل من سمع الأخبار وإن لم يعملوا به، وإن اجمعوا على تعطيله كما اجمعوا على تعطيل إمامة سعد بن عبادة ونبوة مسيلمة وطليحة. فاعرف ذلك.
ومما يزيدك بيانا أن النبي ﷺ قد نصّ على أشياء، فلما قبض ارتدت العرب عن ذلك بألوان الردة، فادعى مسيلمة النبوة في ربيعة بأرض اليمامة، وادعى مثل ذلك طليحة في بني أسد، ورجعت قبائل كثيرة من فزارة وقضاعة وغيرهم ممن هو معلوم عن الشريعة كلها، واستثقلوا ما حرّم عليهم من الخمر والزنا والربا والسرقة والغارة وغير ذلك، وارتد من بالبحرين وبنو يربوع وغيرهم لمنع الزكاة، وقالوا لأبي بكر: نشهد الشهادتين، ونقيم الصلاة، ونجاهد معك العدو؛ فإن أبيت ذلك لحقنا بالعدو وحاربناك. وأقام أبو بكر والمهاجرون والأنصار على الإسلام، وجاهدوا المرتدين كلهم. فحصل العلم بذلك عند كل من سمع الأخبار. فلو كان لما ادعاه هؤلاء القوم أدنى إشارة، لكان العلم بذلك مثل العلم بهذه الأمور، بل قد كان ينبغي أن يكون أقوى واقهر، وإنما هذا شيء ادعاه أبو كامل وهشام بعد انقراض الصحابة، والتابعين وتابعي التابعين وتابعي تابعي التابعين.
وعلى أن قوله عليه السلام: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»، «ومن كنت مولاه فعلي مولاه»، وما أشبه ذلك مما يجعلونه حجة في دعاويهم، ليس من ألفاظ النصوص والاستخلاف والوصايا في لغة ولا في عقل ولا في شريعة، وإنما هي فضائل أدخلها هؤلاء في هذه الدعاوي، وأنه أمر لا تقوم به حجة، ولا يجدون فيه حيلة، فلجئوا إلى التعلق بهذه الفضائل، وقالوا: هي نصوص. فلو لم يدلك على فساد قولهم إلا تعلقهم بهذه الاشياء لكفاك وأغناك. وقد رفع الله قدر رسول الله ﷺ أن تكون نصوصه ووصاياه بمثل هذه الألفاظ.
يزيدك بيانا أنه عليه السلام قد نص على خلق كثير بالولاية والإمارة، فقال في غزاة مؤتة للجيش الذي أنفذه: أميركم زيد بن حارثة، فإن هلك فجعفر بن أبي طالب، فإن هلك فعبد الله بن رواحة. ومثل ذلك في الأمراء ولعلهم نحو ألف أمير، ما فيه نص بهذه الألفاظ التي يدعونها هؤلاء.
وقد استخلف أبو بكر عمر بن الخطاب، وعمر أهل الشورى، فليس فيهم من قال: من كنت مولاه ففلان مولاه، وكذا سائر من عهد إلى أحد لم يذكر هذا اللفظ، وهم عرب وفصحاء وفي دعوة الإسلام وينتمون إلى رسول الله ويؤكدون عقودهم بكل ما يقدرون عليه مما هو مستعمل في اللغة والشريعة. وهم لا يعرفون هذا اللفظ في العقود، وإنما هذه فضائل لا مدخل لها في النصوص والوصايا والعقود. وقد قال رسول الله ﷺ في رجال كثير ما هو آكد وأشف من هذا وأوضح؛ ألا ترى أنه قال: «اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر»، وقال عليه السلام: "هما كالملائكة والأنبياء" في قصة أسارى بدر، لما أشار عليه أبو بكر بالعفو عنهم واستبقائهم، وأشار عليه عمر بقتلهم واستئصالهم، فقال رسول الله ﷺ: "إن لأبي بكر وعمر إخوة من الملائكة والنبيين تشبههما، فأبو بكر كميكائيل في الملائكة ينزل بالعفو والرأفة والرحمة، وهو كإبراهيم الخليل إذ يقول: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وهو كالمسيح إذ يقول: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. ومثل عمر مثل جبرائيل ينزل بالعقوبة والنعمة، ومثله في الأنبياء كنوح إذ يقول: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا}، وكموسى إذ يقول: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ}. وإن الله ليشدّ في هذا الدين قلوبا فيجعلها كالحجارة، ويلين فيه قلوبا فيجعلها ألين من اللبن".
وشبّه عثمان بلوط عليه السلام، فإنه لما أسلم آذته قريش، فهرب بدينه إلى أرض الحبشة ومعه امرأته رقيّة بنت رسول الله ﷺ ودعهما رسول الله ﷺ وعانق عثمان وقال: "إنه لأول من هاجر بدينه مع أهله بعد لوط" وقال عليه السلام: «من أحب أن يسمع القرآن غضا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد»، وقال عليه السلام: «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد» "وكرهت لها ما كرهه ابن أم عبد"، وقال للأنصار: إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع، و «لو سلك الناس شعبا وواديا وسلكت الأنصار شعبا وواديأ لسلكت شعب الأنصار وواديهم»، وقال: «الأنصار كرشتي وعيبتي» و «لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار»
وقال في عمه العباس وفي تفضيله وتفضيل ولده الأقوال الكثيرة. وقال في معاذ، وفي عبد الرحمن، وأبي عبيدة، وغيرهم من المهاجرين والأنصار ما هو معروف مكشوف لا يشك فيه. فقد كان ينبغي على ما يدعي هؤلاء أن تكون هذه الفضائل نصوصا إذا كانت الألفاظ على خلاف ما يعرف منها في اللغة العربية.
وهؤلاء يقولون: أنتم لستم من العرب ولا تعرفون العربية، فلهذا ذهب عليكم أن قوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه»، و «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» [يعني الاستخلاف].
قلنا: قد فرغنا من هذا مرة وبينا أن هذا ليس من ألفاظ الاستخلاف البتة، لا في عقل، ولا في لغة، ولا في شريعة.
وأيضا، فلو كان هذا من ألفاظ الاستخلاف لكان أولئك القوم الذين سمعوا هذا من رسول الله ﷺ قد عرفوا صدقه وقصده، فكان من بعدهم يعرف ذلك كما عرفوا وإن لم يكن من العرب ولا يعرف العربية، لأن مدار الأمر في ذلك وأشباهه على المعاني لا على الألفاظ. ألا ترى أن رسول الله ﷺ لما دعا ونصّ أني رسول الله إلى الناس كافة، وأنه حجة الله على كل ما يأتي إلى يوم القيامة، وأنه لا شيء معه ولا بعده، وجميع ما دعا إليه وحرمه من المحرمات، علم ذلك من قصده وما عناه وأراده كل عاقل سمع أخباره من العرب والروم والفرس والهند والقبط والأرمن، ممن يحسن العربية وممن لا يحسنها ولا يدور لسانه بها، ولا يحسن [التلفظ] بقول رسول الله، ولا يحسن يتلفظ بشيء من المحرمات؛ كلّ قد عرف ذلك من قصده بإشارة الخرس الذين بلغتهم الدعوة من المؤمنين والكافرين. فيعلم بطلان هذه الدعاوى.
بل لو تكلم ﷺ بما لا يعرفونه في اللغة، وقصد به معنى من المعاني، ونقلهم عما يعرفون في لغتهم لعرفوا قصده ومراده. ألا ترى أن الوضوء في اللغة إنما هو التنظيف، فجعله اسما لغسل هذه الأعضاء الأربعة فعرفوا قصده، وإن لم يكن قبل ذلك في اللغة. والصلاة في اللغة الاتباع والدعاء، لا يعرفون إلا هذا، فجعل ﷺ هذا اسما للتوجه إلى القبلة بعد الوضوء مع الركوع والسجود، فعرفوا قصده وإن لم يكن ذلك في لغتهم. وكذا الزكاة، إنما هي في اللغة اسم للزيادة والنماء في المال، فجعله اسما لما يؤخذ من أموالهم، فعرفوا قصده، وعرف من بعدهم ممن بلغه خبرهم مثل ما عرفوا. فيعلم أن رسول الله ﷺ ما عنى بالأخبار التي يروونها عنه ما ظنوه وعنوه.
وقد دعا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى نفسه، وفرض على الناس طاعته، وابتلي بمن خالفه، وبمن قعد عنه، وبمن ضلله، وبمن ارتد عنه من أصحابه؛ فما احتج على مخالفيه إلا بالاختيار، وأن طاعته قد وجبت لأنه قد بايعه الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان. وقد احتج لنفسه، واحتج عنه ولده وشيعته وأهل بيته، وكاتب معاوية وراسله. ثم صار إلى الشام، واحتج على أهل الشام وأهل البصرة وأهل النهر هو وأصحابه؛ فما احتجوا في مكاتبة ولا في مراسلة ولا في مشافهة إلا بأنه قد بايعه الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وأنه لا تحل مخالفته كما لم يحل مخالفتهم. ولا يذكرون في احتجاجهم كما يذكر هؤلاء من الآيات ولا من الأخبار، ولا قوله «من كنت مولاه»، ولا «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»، مما يحتجون به. فلو كانوا هؤلاء شيعته رضي الله عنه لسلكوا سبيله واقتفوا اثره؛ فقد بلي من هذا الأمر، ومن خلاف الناس عليه، ومن رجوع أصحابه عنه، ومن إكفارهم له، ما لم يبتل به أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا أحد من أهل الشورى والبدريين. وقد بالغ في إقامة الحجة عليهم وكلهم من أهل القبلة وأهل الصلاة والى القرآن يرجعون، وبأحاديث رسول الله ﷺ يحتجون، والحجة من قبله يطلبون؛ فما قال قط ولا ولده ولا من يحتج عنه من أهل بيته: إن رسول الله ﷺ قد قال فيّ: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» ولا «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»، وهذا نص منه على استخلافي، وهذا شيء تأويله النص، وباطنه الاستخلاف.
ولا قال هو ولا أحد من أصحابه ومن يحتج له: لم تكفرونني وتضللوني والنبي قد استخلفني ونص عليّ وشهد بعصمتي، وأني لا أخطئ ولا أزل ولا أضلّ ولا يقع مني معصية لله. وهو رضي الله عنه أعلم بدين الله وبالحجة، وأفقه وأبصر وأشجع. فلو كان لذلك أدنى إشارة من رسول الله ﷺ لاحتج بها وبيّنها، قبلوا ذلك منه أو لم يقبلوا. وفي هذا أتم بيان وأوضح حجة.
واعلم أن هؤلاء يحتجون مذ زمن ابن الراوندي أن رسول الله ﷺ نص عليه نصا مكشوفا لا يحتمل التأويل، فقال: عليّ بن أبي طالب الخليفة عليكم من بعدي، وقال لهم: {سلموا عليه بإمرة المؤمنين. وأن رسول الله ﷺ قام فيه في مقام بعد مقام، وفي عام بعد عام، نحو مائة مقام مذ بعثه الله بمكة والمدينة والسفر والحضر، إلى أن توفاه الله. فينبغي أن لا تكلمهم إلا في هذا النص المكشوف المعروف وتقول لهم: المصير إلى الأمر المكشوف والحجة الواضحة أولى بنا وبكم من المصير إلى المشكل الملتبس الذي يحتمل التأويل، فإن الكلام عليهم حينئذ يكون أوضح وأقصر؛ فيجري هذا مثل نصه عليه السلام على النبوة.
وهم يفرّون شديدا من هذا النص المكشوف مع من يعلم ويحصل. فإن ابتليت منهم بمن يقول: لا أتكلم في النص المكشوف بهذا؛ فقل له: إن كنت لا تتكلم فيه فسلم لنا بطلانه وكذب من ادعاه وادّعى نقله. فإن قال: لا أسلم، قيل له: ليس يخلو من أن يكون حقا وصدقا فينبغي أن تصير بنا إليه، أو كذبا وباطلا فينبغي أن تتبرأ منه وتخطئ من احتج به.
فإن قال: كذلك أفعل، قيل له: فهذا شيء قد ادّعته أمم عظيمة وادّعت معرفته ونقله. فإن قال: هم كذاك يدّعون، وإنما وضعه لهم واحد من الناس وقال لهم إن هذا قد قاله النبي ﷺ ونقلته عنه الأمم فأحسنوا به الظن وصدّقوه وإن كان لا أصل له. قيل له: وكذلك ما تدعيه أنت من التأويل في الآيات والأحاديث التي تحتج بها، ما أراد رسول الله ﷺ ولا أمير المؤمنين بها ما تعنيه أنت وتعتقده، وإنما هي فضائل، ولكن هشام بن الحكم قال هي نصوص والنبي ﷺ أراد بها الاستخلاف، فأحسن به قوم الظنّ فقبلوا ذلك منه واعتقدوه وادّعوا أنهم ومن قبلهم قد نقل ذلك عن رسول الله ﷺ، وليس هناك شيء ينقل ولا يكتب، ولكنهم قوم سمّوا اعتقادهم نصا ودعواهم نقلا، كما يدّعي اليهود أن موسى عليه السلام نصّ لهم على تأبيد شريعته، وكما يدعون هم والنصارى من الصلب وكما يدعي النصارى خاصة قيامه من قبره وأنه عليه السلام أقام معهم أربعين يوما ثم صعد إلى السماء وهم يرونه، وكما ادعوا أن هيلانة الحرانية وقع إليها [الخشبة] التي صلب عليها المسيح مع خشب غيرها فلم تعرفها وأشكلت عليها فامتحنت ذلك بجنازة مرت بها فجعلت تضع عليها خشبة بعد أخرى من خشب المصلين، فلم يقم الميت إلا بآخر خشبة، قالوا: فعلمت أنها هي الخشبة التي صلب عليها المسيح. فقالوا: وقد شهد هذا الأمم الكثيرة ببيت المقدس من اليهود والروم غير أن اليهود كتموا ذلك، ويسمّون هذا اليوم عيد الصليب، ويوم قيام المسيح من قبره بزعمهم عيد السلامة. ولهم مثل ذلك كثير، وهذا أمر لا أصل له، وإنما هو موضوع لهم أحسنوا به الظن كما أصاب هؤلاء الرافضة من أصحاب النص.
على أن هشام بن الحكم قد أقر بذلك فقال: قد أدركت الشيعة في الصدر الأول وهم يتولون أبا بكر وعمر وعثمان ويصوبونهم، ويقولون: هؤلاء ما دفعوا أمير المؤمنين عن حقه ومقامه، وإنما دفعه المنافقون الذين كان القرآن يهتف بهم، فنظر هؤلاء فإذا ليس أحد أحق بالإمامة بعد علي منهم، فقاموا ذلك المقام بحق.
وقال هشام بن الحكم: ومنهم من قال: لما رأى الوصي علي بن أبي طالب المنافقين قد أزالوه عن موضعه، قدّم أبا بكر واستخلفه ليكون بمكانه إلى أن يتمكن فيزيله.
قال هشام: وهذا كله تلزيق وتلفيق دعاهم إليه الجبن من الإقدام على التبرؤ من أبي بكر وعمر وعثمان والمهاجرين والأنصار، ولو عرفوهم كما عرفتهم أنا لأقدموا على البراءة منهم.
وقد ذكر هذا أيضا ابن الراوندي في كتابه "الإمامة" الذي نصر فيه قول الرافضة في البراءة من المهاجرين والأنصار، وحكاه عن هشام.
فهذا ما أقرّ به الخصم فكيف ما لم يقر به. ولو لم يقر به لعلمنا أن الأمر كذلك. وهشام إنما كان في أيام بني العباس وهلك في دولة هارون الرشيد، لتعلم أن الذي ادّعى النص وجرّأ الناس على شتم أبي بكر وعمر وعثمان والمهاجرين والأنصار هشام بن الحكم، وهو ابتدأه ووضعه، وما ادعى هذا النص والاستخلاف أحد قبله.
ولو كان هشام من أهل القبلة، لما كان دعواه ودعوى مائة ألف معه مثله حجة، فكيف به وليس من أهل القبلة، وهو معروف بعداوة الأنبياء. وقد أُخذ مع أبي شاكر الديصاني صاحب الديصانية وكان معروفا به وبصحبته، فادعى أنه من الشيعة، فخلصه بعض أصحاب المهدي حين ادعى أنه يتشيع لبني هاشم فلم يصلبه مع أبي شاكر.
وقد ذكره العلماء بالمقالات بمذهب الديصانية، وذكره الحسن بن موسى النوبختي في كتابه في الآراء والديانات حين نقض عليه مذهبه في أن الله جسم ونور يتحرك؛ فقال له الحسن: هذا مذهب المانوية نعوذ بالله من موافقتهم. وإنما ذكرنا الحسن بن موسى لأنه من الرافضة.
وقد حكى عن هشام أيضا أبو عيسى الوراق وابن الراوندي وأبو سهل بن نوبخت. وهؤلاء كلهم رافضة.
والذين حكى هشام عنهم من الشيعة أن المنافقين أزالوا أمير المؤمنين عن مقامه، فقد غلطوا أيضا. فإنه قد بيّنا أن رسول الله ﷺ ما كان منه نص في ذلك فيزيله أحد من الناس. وأيضا، فإن الغلبة بعد موت رسول الله ﷺ لم تكن للمنافقين وإنما كانت للبدريين والمهاجرين والأنصار الذين يعتقدون نبوته صلى الله عليه وصدقه وإقامة نصوصه وإحياء شريعته وإذلال عدوه وإعزاز وليّه، وهم الذين ردّوا إلى الإسلام من ارتد من العرب، وغزوا من أعداء رسول الله ﷺ ملوك الفرس والروم والهند والترك وسائر الأمم المشركين وأدخلوهم في دينه وأدخلوا بلدانهم في ممالكه ﷺ. وإنما يدّعي أن الغلبة كانت للمنافقين من لا علم له ولا تحصيل عنده.
وكان هشام يقول: لعمري إن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ما احتج في إمامته بنصّ النبي ﷺ ولا بوصيته في الأمة إليه، وإنه كتم ذلك خوفا من المهاجرين والأنصار، فأمسك وسكت.
قيل له: قد فرغنا من هذا وبينا أن ليس هناك نص ولا وصية ولا شيء يكتم ولا ينقل.
وأيضا، فإن أمير المؤمنين ما سكت ولا أمسك، بل تدين بالاختيار وأظهره وجعله الحجة على من خالفه وقال: وجبت طاعتي وإمامتي لأنه بايعني أهل دار الهجرة الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، فوجبت طاعتي وإمامتي كما وجبت طاعتهم، وحرمت مخالفتي كما حرمت مخالفتهم. وأعاد هذا وأبداه في خطبه وكتبه وجعله الحجة. فمتى سكت وأمسك.
وأيضا، فلم يكن سلطان أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ سلطانا يخاف فيه محقق ولو كانت امرأة أرملة ذمية، فضلا عن غيرها. ألا ترى أن الأنصار قد تكلموا مع سعد بن عبادة والعباس وبني هاشم وأبي سفيان وبني عبد مناف في الإمامة بما ارادوا، وكلموا أبا بكر ونابذوه إلى أن أقام الحجة. وعارضوه في إنفاذ جيش أسامة بن زيد وقالوا له: ليس علينا في هذا الوقت من الروم خوف، ولا حاجة بنا إلى غزوهم في هذا الوقت والعرب قد ارتدت وأحاطت بنا، فدع هذا الجيش يكون لنا. فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه: إن رسول ﷺ يقول والوحي ينزل عليه: أنفذوا جيش أسامة، ونقول نحن لا نرى ذلك برأينا. فقال له قوم: فأقم على جيشه أميرا مكانه أحسن منه فإنه حدث وفي جيشه المشيخة والكهول، فقال: أيوليه رسول الله ﷺ وأنزعه أنا، لا يحل هذا.
ولما جاء الذين منعوا الزكاة ونزلوا على المهاجرين وقالوا لهم: قولوا لخليفة رسول الله ﷺ يعفينا من الزكاة فإنا نقيم الصلاة ونجاهد معكم، فإن لم يفعل صرنا مع العدو وحاربناكم. فمشوا إلى أبي بكر رضي الله عنه وسألوه أن يقبل ذلك منهم، فقال: لا أفعل، ولا يحل لي هذا ولا لكم، قالوا: فنحن في قلة والعرب قد ارتدت، فمن نقاتل ومن ندع، لا طاقة لنا بقتال الناس كلهم، فاقبل منهم إلى أن تنكشف هذه الفتن فإنا قد خفنا على المدينة وعلى أثقال رسول الله ﷺ وأثقالنا، فقال: ما كنت لأفعل ولو بقيت وحدي، إني إن قبلت رأيكم نقضت الإسلام عروة فعروة، أيها الناس، إن مات رسول الله نبيكم ﷺ، وكثر عدوكم، وقل عددكم، ركب الشيطان هذه منكم، والله ليظهرنّ الله دينه على الدين كله ولو كره المشركون، وليستخلفنكم في الأرض كما وعدكم، وتلا قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} وقوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
وقالوا له: أفتقاتلهم وتقتلهم وقد قالوا: لا إله إلا الله؟ قال: إنها غير مقبولة منهم لأنهم منعوا الزكاة. قالوا: فتقتلهم على ابن لبون وعلى الحقة والشاة وقد قال رسول الله ﷺ: «أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم» فقال أبو بكر فإن فيه: «إلا بحقها»، وهذا من حقها. فطال ما بينهم في ذلك. فحين أقام الحجة صاروا إلى قوله.
ولما فتح الفتوح وواتته الأموال من كل وجه سوّى بين الناس في العطاء، فعارضوه في ذلك وقالوا: سويت بين من أسلم الآن وبين من سبق وبين من نصر وهاجر، فقال: هؤلاء عمال الله وأجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ، والله لو شئتم معشر الأنصار أن تقولوا: طُردتم فآويناكم وخذلتم فنصرناكم وأفقرتم فواسيناكم، واني لأجد مثلنا ومثلكم في قول طفيل الغنوي:
جزى الله عنا جعفرا حين شرفت ** بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يحلونا ولو أن أمنا ** تلاقي الذي يلقون منا لملت
فذو الحظ موفور وكل مقسم ** لدى حجرات اثفات أظلّت
وراسلته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وعليها وقالت: ما بالك خليفة رسول الله ورثت رسول الله دوننا، فقال: ما ورثته، قالت: فأين نصيبنا من أمواله بخيبر وفدك، فقال: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "هذا المال لمحمد وآله حياته، فإذا متّ فهو إلى والي الأمر بعدي" فإن كان معك من رسول الله ﷺ عهد صرت إلى قولك، والله ما أريد شاهدا معك غيرك. فرجع الرسول فقال: تقول لك فاطمة: لا والله ما معي عهد من رسول الله ﷺ، ولكن رسول الله دخل علينا وهو يتلو: {ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ}، فقال: ابشروا آل محمد بالغنى. قال أبو بكر: إن كان بكم الغنى ولكم الغنى. ثم صار إليها أبو بكر وسألها عن عهد من رسول الله ﷺ، فقالت: ما معي أكثر مما قلت، فقال: إذا لم يكن معك عهد من رسول الله ﷺ فما كنت لأدع ما أسمعه من رسول الله ﷺ بقول أحد. وكلمه العباس في ذلك وطالبه بالحجة، فذكر ما سمعه من رسول الله ﷺ وقال: أنا أوجه هذا المال في الوجوه التي كان رسول الله ﷺ يجعلها فيها، ورد أبو بكر هذه الأموال إلى علي بن أبي طالب وقال له: افعل فيها ما كان رسول الله ﷺ يفعله. وكذا فعل أمير المؤمنين رضي الله عنه حين صارت إليه الخلافة بعد عثمان، وهو فعل الخلفاء الأربعة وجميع الصحابة والتابعين بعدهم، فاعرف ذلك.
وعارضوه حين شاروهم في استخلاف عمر، فقال له قوم: هو الخيرة بعدك غير أن فيه شدة وهو مهيب، وفي الناس الأرملة والضعيف وذو الحاجة، فاستعمل علينا من هو ألين منه كنفا. وكانت لهم معه في ذلك مطالبات ومراجعات وعمر يسمعها ويعلمها، إلى أن قال لهم أبو بكر: إنما أستعمله عليكم لأنه أقواكم عليكم وأنفعكم لكم وأردّكم عليكم، شهيدي الله ما أردت إلا ذلك، وقد خاب من تزوّد من أعمالكم بظلم، إن عمر ليس ولدي ولا من أهلي، وإنما أردت الخير لكم، وإني قد رمقته فكنت إذا لنت في الشيء أراني فيه الشدة، وإذا أشددت أراني فيه اللين، ولو قد وليكم للان واشتد. ثم قال إن عمر لا يأنف من التعلم. فحين أقام الحجة سلموا ورضوا. ثم عهد تلك العهود المعروفة، وكم من شيء قد عارضوه فطالبوه بالحجة مما هو أكثر من هذا.
ومعارضتهم لعمر في أمر السواد، وفي فتوح الشام، وفي تأمير الأمراء، وفي الفتوى والقضاء، حتى كان يعارضه في ذلك المرأة والبدوي فضلا عن المهاجرين مما هو معروف إلى أن يقيم الحجة أو يرجع إلى قول من معه الحجة.
وعثمان، فقد عارضوه في إتمام الصلاة بمنى، وفي الحمى، وفي الحكم بن أبي العاص، وفيمن ولاه من أهله، وأخذوه بإقامة الحدود عليهم، وبإقامة الحجة فيما يأتيه بما هو معلوم.
وعليّ رضي الله عنه قد عارضوه في تولية أقاربه وفي الحكم الذي أنفذه بما هو معلوم.
حتى كان يجري على هؤلاء الخلفاء الأربعة من صغار رعيتهم في الفروع وفي صغار الأمور ما هو معروف. فكيف يجوز أن يتوهم عاقل تدبر أمورهم وعرف سيرهم أنه قد كان أقل من الناس فخافهم أن يذكر لهم الحق أو ينطق بحضرتهم أو يتوقى أن يذكر أن يذكر لهم عهدا من رسول الله (ﷺ) أو وصية لرسول الله (ﷺ)؛ هذا لا يظنه إلا أجهل الناس بهم وبأحوالهم، أو عاقل بقيس أحوالهم بأحوال من رأى وسمع من الجبابرة وولاة الجور. فاعرف هذا.
وإنما ألقى هذا إلى الإمامية فيما صنفوه لهم قوم من أعداء الأنبياء ادعوا التشيع وتستروا بالرفض لينفروا الناس عمن شيد الإسلام وبناه ونصر الرسول في حياته وبعد موته، ليخرجهم من الإسلام من حيث لا يشعرون. وكما صنفوا في تهمة المهاجرين والأنصار فقد صنفوا أيضا في تهمة الأنبياء وشتمهم وتكذيبهم، وأنهم قد كانوا يتكلمون بالكذب وبالبهت بحضرة أممهم فيسكتون عنهم خوفا منهم. وهذا فعله بالأنبياء عمر بن زياد الحداد، وأبو الوراق، وأبو الحسين بن الراوندي، وأبو سعيد الحسن بن علي الحصري، وجابر بن حيان، وهشام بن الحكم، وأمثالهم، كما قد عرفه العلماء. وكل هؤلاء الذين طعنوا على أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار لفضل غيظهم على رسول الله ﷺ، ولأن هؤلاء قاموا بأمره ونصروه في حياته وقاموا بدينه بعد وفاته وبثوه في مشارق الأرض ومغاربها وقتلوا أعداءه ﷺ من العرب وملوك الفرس وملوك الروم وملوك القبط وملوك الهند والترك وأمم الشرك وأدخلوا أممهم في دينه ﷺ. فهذا ذنبهم عند علماء الرافضة، ولكن عوامهم لا يفطنون. ولهذا قالت العلماء حين حدثت هذه البدع: لا تسبّوا أصحاب محمد ﷺ، فإنهم أسلموا من خوف الله وأسلم الناس بعدهم من خوف أسيافهم.
ثم يقال لهؤلاء: قد وجدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه مكاشفا بالحق في جميع أحواله، لا يخاف من أحد من المخلوقين وإن كان وحده والناس عليه، فإن رسول الله ﷺ خلّفه بمكة وهي إذ ذاك دار كفر فما خافهم ولا فارقهم مع وحدته وتفرده. وقد كاشف معاوية وهو في مائة ألف سيف، ولعنه بلسانه، وقنت عليه في صلاته، وضربه بسيفه، وبيّن له وإن علم أنه لا يقبل، وقد كاشف الخوارج وبرئ منهم وإن علم أنهم لا يقبلون وهم كانوا أصحابه وبهم صال على عدوه واستطال، وأقام على مخالفتهم وإن فرقوا عنه أصحابه وإن قتلوه، فما قاربهم في كلمة، لأنهم قالوا له: إن تبت من الحكومة رجعنا لك كما كنا وقاتلنا عدوك، وإن أبيت أقمنا على حربك وقاتلناك حتى نقتلك أو تقتلنا، فقال لهم: أنتم دعوتموني إلى الحكومة، قالوا: صدقت فقد تبنا وما كان لنا أن ندعوك وما كان لك أن تجيبنا ولا تحكم الرجال في دين الله، فقال: بل كان لي أن احكم، فلو كان ذلك معصية لما أجبتكم إليه، ومن زعم أن الحكومة ضلال فهو أضل، ومن زعم أني ارجع عنها فقد كذب. فصبر رضي الله عنه على ذلك ولم يقاربهم في لفظة تحتمل التأويل، لأنه لو قال: "أنا تائب إلى الله من كل ذنب وخطيئة" وهو يعني غير الحكومة لكان اللفظ يحتمل ويتلافاهم ويردّهم، ويكون بهم في عسكر عظيم كما كان قبل رجوعهم عنه ويصول بهم على عدوه. فلم يفعل، وأقام على حربهم، إلى أن قتلهم وقتلوه رضي الله عنه. فما لان في كلمة تحتمل التأويل، ليبيّن للأولين والآخرين أمر الدين، فما داراهم ولا قاربهم مع حاجته إليهم وخوفه من أسيافهم. فهو ما كان يخاف الجبابرة والأحياء الذين هم في عساكر ويخافهم الناس، فكيف يخاف من أبي بكر وعمر وعثمان في حياتهم وبعد مماتهم، وهم في حياتهم وسلطانهم ما خافهم محق قط وإن كان عبدا أو امرأة أرملة ذمية. وإنما يقول هذا من لا يعرف عليا ولا أبا بكر ولا عمر ولا عثمان؛ فعليك بالمعرفة فإنها حياة، والذهاب عن طلبها موت. وقد علم أهل المعرفة والعناية أن عليا كان في زمن أبي بكر وعمر وعثمان في علو الكلمة ونفاذ الأمر مثله في سلطانه، وأنه كان في سلطان هؤلاء أنفذ أمرا وأعلا قولا وأبسط لسانا منه في زمن رسول الله ﷺ وفي حياته. ولا فرق بين من ادّعى أن عليا كان يخاف من هؤلاء الخلفاء أو أن رسول الله ﷺ كان يخافهم أيضا، وأنه من خوفهم كان يشهد لهم بالجنة ويزكيهم. وهذا لازم لهم، بل هو قول الرافضة لأنهم قالوا: إن عليّ بن أبي طالب حجة الله على خلقه كما كان رسول الله ﷺ، وإنه معصوم كعصمة الأنبياء. وقالوا مع هذا: قد زكى أبا بكر وعمر وعثمان، وصاهر بعضهم، وصلى خلفهم، وحج معهم، ودخل الشورى وعمل بالاختيار، وصلى خلف صهيب كما وصّى عمر، وأطاع عمر كما وصّى أبو بكر، وعمل لهم أعمالا كثيرة، وأظهر تزكيتهم، ومدحهم بإيمانهم وإن كانوا كفارا، كل هذا خوفا منهم وممن بعدهم من شيعتهم، فما تبين الحق إلى أن خرج من الدنيا.
قلنا: فإذا كان هذا هو الحجة والمعصوم والقائم مقام الرسول فعل هذا بغير حق، لم نأمن أن يكون كل من صاهر النبي ومدحه ونص عليه وشهد له بالجنة وأمر الناس بطاعته أن لا يكون هذا حاله، وأنه فعل مثل فعل هذا الحجة. وهذا ما لا حيلة لهم فيه، وفيه فساد الديانات كلها. وإلى هذا قصد هشام بن الحكم حين وضع هذه البدعة فاعرف ذلك.
إكفار الرسول ﷺ للعرب وسائر الأمم الأخرى وإسخاطها وكيف عصمه الله من إذاهم
باب آخر
قد علمت الحال التي أبداها رسول الله ﷺ حين ادعى النبوة ودعا إلى الله، فإنه أكفر الأمم كلها وتبرأ منها وأسقطها وأسخطها وأغضبها، فما اعتصم بمخلوق كما قد تقدم ذكر ذلك. فكانت العرب واليهود والنصارى وقريش وغيرهم يدا واحدة في عداوته وطلب عثراته والحرص على قتله، وهو بينهم على وحدته، فيصرفهم الله عن ذلك بوجوه لا هو يعرفها ولا هم، وبوجوه يعرفها ويعرفونها. غير أنهم قد كانوا ينالونه بالشتم والضرب ويلقونه بالأرض ويدوسونه بأقدامهم ويلقون الفرث والتراب على رأسه. ثم صار الواحد بعد الواحد والنفر بعد النفر يجيبونه وهذه حاله، فيلقون معه الضرب والهوان ويعذبون ويجاعون ويحصرون في الشعاب، ومنهم من يقتل، ولا يمكنهم المقام معه بمكة فيهربون بأديانهم ويعبرون البحار، والنبي ﷺ مقيم بمكة معه أبو بكر ونفر يسير.
وكان يخرج في المواسم إلى العرب، ويتلو القرآن، ويدعو إلى الله، ويقيم الحجة؛ وقريش من أهل بيته يخرجون إلى العرب يقولون لهم: لا تسمعوا منه فإنه ساحر كذاب ونحن أهل بيته وأعرف به، ويقولون: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} ويمنعونه ﷺ من البيان والاستيفاء، وربما شغلوه بالضرب، يتولى ذلك منه عمه أبو لهب وأشباهه، فيقول له العرب: أهلك أعلم بك، ما نجيبك، فاذهب عنا فقد عاديتنا وخالفتنا وأسمعتنا في آلهتنا وآبائنا وأنفسنا ما لا نحب، وتستجيب له القبيلة بعد القبيلة من قبائل طيء وقبائل أسلم. وتسامعت به قبائل عبد القيس من ربيعة فأتوه وسمعوا منه وأسلموا طوعا بهذه الشرائط، وتسامعت به بنو قيلة من قبائل الأوس والخزرج فأتوه وسمعوا منه القرآن والحجة فأسلموا ورجعوا إلى قومهم فجاؤوا بهم إليه عاما بعد عام فأسلموا وبايعوه، ورجعوا إلى قومهم وهم قبائل كثيرة فأسلم أكثرهم طوعا بهذه الشرائط.
وهاجر أصحابه إلى المدينة بعد الذين هاجروا إلى أرض الحبشة، وقال الأنصار للنبي ﷺ: إنا كثرة ونمنع منك ونجاهد الأمم كلها معك ونطيعك في المحيا وبعد المحات ولا تأخذنا في الله لومة لائم، فأخذ ذلك عليهم وانصرفوا. ثم صار إليهم مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وصار في عز ومنعة وفي عسكر، ودعا إلى الله. وكانت له غزوات ووقائع، وما زال أمره يقوى حتى ذلت اليهود والنصارى في جزيرة العرب وهم قبائل كثيرة، حتى أدوا إليه الجزية، وحتى صار من لا يعتقد نبوته في جزيرة العرب لا يمكنه إظهار ذلك لكثرة المهاجرين والأنصار وأمثالهم ممن يعتقد نبوته وصدقه، وحتى غزا الروم غزاة تبوك وهي آخر غزواته في ثلاثين ألفا غير من خلفه من عماله وأصحابه في جزيرة العرب، وهي أوسع من بلاد الروم.
وقبض ﷺ بالمدينة والغلبة فيها لمن يعتقد صدقه ونبوته من المهاجرين والأنصار وأتباعهم وأمثالهم، وهم الذين أحاطوا بأبي بكر وأقاموه خليفة، وغزوا من ارتد عن دين رسول الله ﷺ حتى غلبوهم وأذلوهم وقتلوهم، وغزوا فارس والروم وأمم الشرك وجميع أعداء رسول الله ﷺ وأذلوهم وقتلوا ملوكهم وأدخلوهم طوعا وكرها في دين رسول الله وفي شريعته وأدخلوا بلدانهم في بلدان الإسلام، ولم يكن لهم شغل إلا إعزاز دينه وإقامة نصوصه وإحياء شريعته وبثها ونشرها وإظهارها وإعزاز من اقام بدينه وإذلال من تعرض لإماتة شيء منه.
وكانوا بعد وفاته أشد بصيرة منهم في حياته، لأنهم كانوا في حياته يتكلمون على تدبيره، فلما مات وصار الأمر إليهم، زاد تيقظهم، فرفضوا كل راحة، وهجروا كل لذة، وقصدوا لإقامة نصوصه وإحياء شريعته إلى أن يلقوا الأرض كلها بذلك، وما عندهم عمل أزكى من هذا.
وإنما يظن أن نصوصه كانت تبدل وأن كتابه كان يغير وأن بننه كانت تلطم الذي لم ينظر ولم يتدبر، وهو كمن قال إنه ﷺ كان بالمدينة يضرب ويشتم ويداس بحضرة المهاجرين كما كان بمكة، وهذا لا يظنه إلا الغاية في الجهل بشأن المهاجرين والأنصار.
فإن قيل: أوليس قوم موسى قد عبد قوم منهم العجل في حياته وحياة أخيه هارون، فلم أنكرتم أن يرتد المهاجرون والأنصار عن دين محمد ﷺ، أوليس قد كانوا على ذلك قادرين؟
قيل له: إن هذا السؤال لا يسأل عنه من فهم ما قلنا، لأنا لم نقل إن هؤلاء ما ارتدوا من طريق التزكية لهم، ولا من طريق حسن الظن بهم، ولا محاباة لهم، ولا لأنهم ما قدروا على ذلك؛ بل قد كانوا على ذلك قادرين ولكنهم ما اختاروا ذلك ولا فعلوه، كما علمنا أن صاحبهم رسول الله ﷺ ما رجع عما كان عليه وإن كان على ذلك قادرا، وإن كان عدوه قد ادعى عليه أنه رجع وأظهر الشك في أمره بقوله: {ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} وبقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ}. وهذا قد ادعاه عليه رؤساء الرافضة الذين قدمنا ذكرهم.
ولا تكون الردة بالقياس فيقال: كما ارتد قوم موسى ينبغي أن يرتد قوم محمد ﷺ؛ هذا لا يظنه إلا الغاية في الجهل والبله والنقص. وهؤلاء قالوا: كما قتل يزيد بن معاوية الحسين فينبغي أن يكون أبو بكر قد ضرب فاطمة وقتل الحسن.
فالعلم بأنه عليه السلام ما رجع عن دينه وأن أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار ما رجعوا عن دينه بعده قبل العلم بنبوته وصدقه وأنه دعا إلى حق، والعلم بإقامة أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار على دينه عليه السلام كالعلم بإقامته هو على ذلك، والعلم بذلك قبل العلم بنبوته.
وما منزلة من ادّعى عليهم ذلك إلا كمن قال لنا: كنت بالقسطنطينة من بلاد الروم فوجدتهم يشتمون بولص ويبرؤون منه ويبسقون على الصليب، فقلنا له: كذبت، فقال: ولم كذبتموني وما كنتم معي، أوليس بولص كافر يستحق الشتم ويجب أن يبسق على الصليب ولا يعظم؟ قلنا: وإن لم نكن معك فعقولنا معنا، وعلمنا أن الغلبة هناك لمن يعظم الصليب وبولص. أو بمنزلة من قال لنا: كنت بالأندلس فوجدتهم يلعنون معاوية ويبرؤون منه ومن مروان بن الحكم وولده كما يفعل ذلك بالكوفة والمدينة، لقلنا: كذبت، فقال: أنتم لم تكونوا معي فصدقوني أو شكوا في خبري، قلنا: وإن لم نكن معك فعقولنا معنا، وقد علمنا أن الغلبة هناك لمن يقول بإمامة معاوية ومروان وولده.
فهذه سبيل من ادّعى على أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار ما يدّعيه الرافضة.
ومن عجيب أمورهم قولهم هذا كعبادة قوم موسى العجل، فيجعلون الردة والكفر والإيمان بالقياس، والذي أخبرنا أن قوم موسى عبدوا العجل هو الذي عرّفنا بعقولنا أن أصحاب محمد ﷺ أقاموا على دينه، والذي عرفنا بالخبر أن يزيد بن معاوية قتل الحسين وأشخص ذريته إلى الشام هو الذي عرفنا بعقولنا أن أبا بكر ما ضرب فاطمة ولا قتل المحسن. وهذا في القياس كمن قال: إذا كان يزيد بن معاوية قد غزى المدينة ومكة واستباحهما أن يكون أبو بكر قد فعل مثل ذلك، وإذا كان معاوية قد قتل عمار بن ياسر أن يكون أبو بكر قد قتل العباس بن عبد المطلب، وإذا كان معاوية قد قتل ولدين لعبد الله بن العباس أن يكون أبو بكر قد قتل أربعة أولاد من ولد العباس، وأن يكون عمر وعثمان قد فعلا مثل ذلك؛ أو كمن قال إذا كان بنو إسرائيل قتلوا الأنبياء أن يكون أصحاب محمد ﷺ قد فعلوا ذلك.
وقيل أيضا للرافضة: إذا كان أبو بكر قد ضرب فاطمة وقتل المحسن فقد كان ينبغي أن يحصل العلم بذلك عند كل من سمع الأخبار وأن يكون العلم بذلك مثل العلم بقتل يزيد الحسين، ومثل قتل معاوية حجر بن عدي، وعبيد الله بن زياد مسلم بن عقيل. بل كان ينبغي أن يكون العلم بما ادعيتم أقوى من العلم بهؤلاء القتلى، لأن هذه الحادثة التي ادعيتموها على أبي بكر كانت بالمدينة، وقد شهدها العباس وولده وعليّ بن أبي طالب وولده وعقيل وولده وجميع بن هاشم ومواليهم ونسائهم، وجميع المهاجرين والأنصار وأولادهم ونسائهم؛ وقد كان بالمدينة حين توفي رسول الله ﷺ أكثر من مائة ألف إنسان، فكان يكون العلم بهذا أقوى مما كان بكربلاء. ولكن دعاوى الرافضة في ضرب فاطمة عليها السلام وقتل ولدها وأمر أبي بكر خالد بن الوليد بقتل عليّ بن أبي طالب، كدعواهم على رسول الله ﷺ النصوص التي يدّعونها. وكل من تأمل أمرهم تبين له بطلان ذلك ووضح له وضوح الشمس.
ومما يزيدك بيانا بشأن هؤلاء الخلفاء والمهاجرين والأنصار ولزومهم لوصايا رسول الله ﷺ أن عثمان بن عفان لما أتم الصلاة بمنى أنكر عليه للوقت علي بن أبي طالب بحضرة الناس كلهم فقال له: ألم تصل مع رسول الله ﷺ هاهنا ركعتين؟ قال: بلى، قال: أفلم تصل مع أبي بكر ها هنا ركعتين؟ قال: بلى، قال: أفلم تصل مع عمر ها هنا ركعتين، قال: بلى، قال: أفلم تصل بنا هاهنا شطر خلافتك ركعتين؟ قال: بلى، قال: فلم أتممت وما عذرك في ذلك؟ قال: نكحت امرأة بمكة وسمعت رسول الله ﷺ يقول: من تأهل بأرض فهو من أهلها، ولي مال بالطائف نويت مطالعته، وبعد، فقد بلغني عن طغام من أهل اليمن أنهم قالوا: صلاة المقيم ركعتان، هذا أمير المؤمنين عثمان يصلي ركعتين.
ولما نهى عثمان عن القران وأمر الناس بإفراد الحج بلغ ذلك عليا، فدخل عليه فقال له: بلغني أنك نهيت عن القران، ثم قال عليّ: لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة، فقال له عثمان: لم فعلت هذا وقد نهينا عنه؟ قال: ما كنت لأدع شيئا أجازه رسول الله ﷺ لقول أحد.
ولما ادّعى على الوليد بن عقبة عامل عثمان على الكوفة وأخوه لأمه شرب الخمر، قال له عليّ أشخصه فاسمع الشهادة، فأشخصه وسمع الشهادة، فجلده عليّ بيده. والوليد من أشراف قريش، وقد كان رسول الله ﷺ يستعمله، واستعمله عمر وعثمان، وهو كثير الفتوح في الإسلام، وهو أخو أمير المؤمنين، فما تهيبه.
ولما تكلم من تكلم في عثمان لأنه ولىّ أقاربه وآثرهم، وقالوا لعليّ إن عمر لم يفعل مثل هذا بأقاربه، فقصده عليّ وقال له: ورائي قوم وقد كلموني فيك وما أدري ما أقول لك، ما نعرف شيئا تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه، ما سبقناك إلى أمر فنبلغكه، ولا خلونا بأمر فنخبرك به، ولا خصصنا بأمر دونك، وإنك لتعلم ما نعلم. والله ما ابن أبي قحافة بأولى من عمل الحق منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك، أنت أقرب إلى رسول الله ﷺ رحما وقد نلت من صهره ما لم ينالاه، فالله الله في أمرك فإنك والله ما تعلم من جهل، ولا تبصر من عمى، وإن الحق لواضح بيّن، وإن اعلام الدين لقائمة. فقال له عثمان: لقد علمت ليقولن الذي قلت، ولو كنت مكاني ما عتقتك ولا أسلمتك ولا جئت منكرا أن وصلت رحما، وسددت خلة، وآويت ضائعا، ووليت شبيها بمن كان عمر يولي. أنشدك الله يا عليّ، هل علمت أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال: نعم، قال: فهل علمت أن عمر كان يوليه؟ قال: نعم، قال: فلم تلومني أنت أن وليت ابن عامر مع رحمه وقرابته؟ فقال له عليّ: سأخبرك، إن عمر كان من ولّاه فإنما يطأ على سماخه، إن بلغه حرف جلبه وبلغ منه الغاية، وأنت لا تفعل ذلك، ضعفت ورفقت على أقاربك. فقال له عثمان: وهم أقاربك أيضا، فقال له عليّ: أجل، إن قرابتهم مني لقريبة ولكن الفضل في غيرهم، قال له عثمان: هل تعلم أن عمر استخلف معاوية؟ قال: نعم، قال: فقد استخلفته كما استخلفه، قال له عليّ: أنشدك الله، هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من أرفا غلام عمر من عمر؟ قال عثمان: نعم، قال له عليّ: فإن معاوية لا يخافك ويقتطع الأمور دونك، ويقول للناس: هذا أمير المؤمنين عثمان.
وكان عليّ يعنفه في أقاربه، ويقول له في وجوههم: لا يغلب عليك مروان والوليد وسعيد، لا تطعهم، فيقول أهله له: هذا قوله لك في وجهك ووجوهنا، فكيف بما يقوله للناس من ورائك وأنت إمامه وابن عمه؛ فيقول لهم عثمان: هو أنصح لي منكم.
وكان عليّ رضي الله عنه يوافقه على صغار الأمور وكبارها ويدبر أمره، فإذا لم يقبل منه في أمر من الأمور عنفه ولامه وقعد عنه، فيرسل إليه عثمان ويجيء به، فيقول له: قعدت عني وكنت لأبي بكر وعمر أنصح، وأنا أولى بذلك منك، وأنا إمامك وابن عمك، فيقول له عليّ: كانا يقبلان ولا تقبل، أكون معك على أمر فيجيئك مروان وسعيد والوليد فيزيلانك عنه. ثم يقول عليّ رضي الله عنه للناس: من عذيري من هذا؟ أكون معه على أمر فيدع رأيي ويأخذ برأي مروان والوليد، فإن قعدت عنه يشكوني ويقول: قطعت رحمي ولم تقض حق بيعتي.
فانظر كيف يصنع به الأمور الصغار التي غيرها أولى ويأخذه بما هو أفضل، ويشير عليه أن يسير بالمسلمين سيرة أبي بكر وعمر، وأن يأخذ بالفضل ولا يترخص ولا يزول من سيرتهما. فأي عاقل تدبر وفكر يقع له أن هؤلاء كانوا يظلمون بنت رسول الله ﷺ ويبدلون القرآن ويعطلون النصوص ويغيرون الشريعة فيسكت عنهم.
وبمثل هذا كانت تشير عليه عائشة رضي الله عنها وتحذره مخالفة سيرة أبي بكر وعمر. وبهذا كتبت إليه أم سلمة: أي بني، ما لي أرى رعيتك عنك مزورين، وعن جنابك نافرين، لا تعف سبيلا كان رسول الله ﷺ لحبها، ولا تقدح بزند كان أكباها،، وتوخ حيث توخى صاحباك فإنهما ثكما الأمر ثكما ولم يظلما، والسلام. فأجابها بالجواب المعروف.
وعتب قوم عليه أن حمى الحمى، وما رآه في خمس إفريقية لما فتحها، وفيمن سيره من اللعابين بالحمام والرامين بالجلاهق، فيما كان في الكتاب المنسوب إليه في شأن محمد بن أبي بكر الصديق والنفر المصريين؛ وهي كانت الطامة في السخط عليه والنكير له، وما أقر بأنه كتب الكتاب ولا قامت عليه بينة. فقالوا: كاتبك كتبه، فما أقر كاتبه، وقال لهم: الخط قد يشبه الخط. فلم يزل الإنكار عليه في هذه الأمور إلى أن اغتيل بالسحر وقتل.
وليس في هذه تعطيل نص ولا تبديل قرآن ولا تغيير شريعة، وإنما هي أمور من طريق الرأي والاجتهاد كان له أن يفعلها فجرى عليه هذا كله في شيء هذه سبيله، وهو الخليفة والسلطان والملك، وإليه السوط والعصا، وبيده الضر والنفع، مع شرف رهطه وقرب قرابته وظهور ثروته وكثرة عدوه وأعوانه ومن تعصب له. فكيف يتوهم عاقل تدبر أن النصوص كانت تعطل والقرآن يغير والشريعة تبدل وهم سكوت.
وهذا علي بن أبي طالب مع فضله وزهده وعلمه وسوابقه وآثاره الجميلة في الإسلام وقريب قرابته، قد أنكروا عليه أن ولى اقاربه، فقيل له: علام قتل عثمان بالأمس؟ أي لأنه ولى أقاربه، فقال لهم: ما علمت إلا خيرا، فإن أنكرتم فأنكروا. ولما بعث الحكم ارتدوا عنه وقالوا: ضعفت وحكمت الرجال في دين الله وما كان ذلك لك وشككت في نفسك، فتب إلى الله وإلا قاتلناك وجاهدناك، أو تقتلنا أو نقتلك. فقال لهم: لو كانت الحكومة معصية لما جئت إليها، وكان لي أن أحكم وقد أمر الله بالحكومة في شقاق يكون بين المرأة وزوجها وفي أرنب تصاب في الحرم تساوي ربع درهم فقال عز وجل: {يحكم به ذوا عدل منكم}، فكيف بإمامة قد أشكلت على المسلمين، فقاتلوه وقاتلهم، وقتلهم وقتلوه، في أمر ليس فيه تعطيل نص ولا تغير قرآن، وإنما هو شيء من طريق الاجتهاد، وكان له رضي الله عنه أن يفعله. وقد بلغوا في الإنكار عليه هذا المبلغ. فكيف بتغيير القرآن والنصوص وظلم ابنة رسول الله ﷺ. لتعلم فحش غلط هؤلاء القوم، وأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم لو راموا بأجمعهم تعطيل نص لرسول الله، أو تغير آية واحدة من كتاب الله، أو ظلم امرأة أرملة ذمية لقتلوا بأجمعهم. وقد عرف أهل العلم والتحصيل أن أهل البصائر ومن يعتقد دين محمد ﷺ ونبوته وصدقه وإجلال من أجل وتعظيم من عظم وإهانة من أهان في زمن أبي بكر وعمر أكثر وأوفر، والغلبة لهم، والأمر بأيديهم، وهم كانوا الظاهرين القاهرين، وهم ولّوا أبا بكر وعظموه وأجلوه وقدموه تقربا إلى الله، لأن رسول الله قد كان يقدمه ويعظمه ويجله ويكرمه. ولهذا كان يقول الرؤساء في ذلك الزمان من أقارب رسول الله ﷺ، وقد رأوا تعظيم المهاجرين والأنصار أبا بكر وطاعتهم له وتنفيذهم وصاياه ووصايا خليفته بعده: كان والله حلوا في أفواههم، جليلا في أعينهم، مهيبا في صدورهم، على سكون ريحه ولين جانبه. فلا تظن ما يقول طوائف الإمامية والرافضة فيهم إلا الغاية في الغافلة وترك النظر. وتعليل الرجال هو الذي يوقع الناس في الضلال.
الإخوة والمودة التي كانت قائمة بين الصحابة
وباب آخر
إن بين أبي بكر وعمر وتلك الجماعة وبين بني هاشم مع إخوة الإسلام فضل مودة وصداقة، يمدح بعضهم بعضا ويزكّي بعضهم بعضا، ويتصاهارون، ويرى بعضهم بعضا أهلا للإمامة والولاية، وينصح بعضهم بعضا. ألا ترى أنهم بايعوا أبا بكر وصلّوا خلفه وغزوا معه، ونفذوا وصيته بعد موته في عمر، فاجتمعوا كلهم في طاعته. ونفذوا وصايا عمر بعد موته. وصلّوا خلف صهيب، ورجعوا إلى عبد الرحمن كما وصّى. فغزا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع أبي بكر رضي الله عنهما الربذة وإلى ذي القصّة.
ولما همّ أبو بكر بالخروج عن المدينة والمسير إلى أصل الردة أخذ أمير المؤمنين علي بعنان فرسه وقال له: أقول لك كما قال لك رسول الله ﷺ يوم أحد: سمّ سيفك، وارجع مكانك، ومتعنا بنفسك، وأنا أقول لك: أنفذ جيشك وارجع إلى المدينة، فإنك إن هلكت لم يكن للإسلام بعدك نظام. فقبل رأيه ورجع.
وقد غزا غير واحد من بني هاشم في زمن عمر. وفي غزواته هلك الفضل بن العباس بالشام في طاعون عمواس في خلافة عمر، وقد خرج العباس معه إلى الشام وغيره من بني هاشم، وخلف عليا أميرا على المدينة في بعض خرجاته إلى الشام، فإنه خرج إليها أربع مرات، فدخلها في بعضها، وفي بعضها لم يدخل، وزوجه أمير المؤمنين عليّ ابنته أم كلثوم وأمها فاطمة بنت رسول الله ﷺ، وكان له منها زيد ورقية.
وقبل ذلك ما زوج رسول الله ﷺ أبا بكر الصديق أسماء بنت عميس الخثعمية، وكانت تحل من رسول الله ﷺ محل ابن الأخوات وتختص به وبنسائه وتكون في بيوته. وكانت من المهاجرات بدينها إلى أرض الحبشة وإلى المدينة، وكانت قبل ذلك امرأة جعفر بن أبي طالب، وكان له منها غير واحد من الأولاد، فجعل رسول الله ﷺ أبا بكر كافل بني هاشم ومربي أبنائهم. فربّى أولاد جعفر بن أبي طالب وكفلهم وأدبهم، منهم عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وأخوه محمد. وكان عبد الله بن جعفر يذكر من برّ أبي بكر بهم ورأفته وتأديبه لهم ما يطول شرحه. وخلف أمير المؤمنين علي وعمر على المدينة في خروجه إلى جسر مهران، وأشار عليه حين تكاتبت الأعاجم بإخراج المسلمين من ديارهم؛ وكان يزدجرد بن شهريار ملك فارس الذي أخرجه عمر من ملكه حيّا مقيما عند خاقان ملك الترك وقد صاهره يستعينه على المسلمين، فراسل أهل مملكته بإخراج المسلمين من ديارهم، وأنه يوافيهم في الجيوش ويسير إلى المدينة فيقتل عمر ويستأصل الإسلام، فكتب المسلمون الذين في ممالك الفرس إلى المسلمين بالكوفة بهذا، وكتب أهل الكوفة إلى أمير المؤمنين عمر، فخطب الناس وقال: أيها الناس، إن الشيطان قد جمع جموعه، وإن الأعاجم من أهل جرجان وطبرستان والريّ وأصفهان وهمدان ونهاوند قد تكاتبوا وتعاهدوا في إخراج المسلمين من ديارهم وقصدهم إلى بلادكم، وهذا يوم له ما بعده، فأشيروا عليّ.
فقام طلحة بن عبد الله، فقال، فجزاه خيرا ثم أمره بالجلوس، ثم قال: أشيروا عليّ، فقام عثمان بن عفان، فقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل اليمن فيسيروا اليك من يمنهم، وإلى أهل الشام فيسيروا اليك من شامهم، وتسري بأهل هذين الحرمين وأهل المصرين الكوفة والبصرة، وتلقي العدوّ بنفسك، فإذا رآك في جموعك وعساكرك هاله أمرك، وقل هو وجيوشه في أعين المسلمين، ففعلت وفعلت، فجزاه خيرا وأمره بالجلوس، ثم قال: أشيروا عليّ، فقام علي بن أبي طالب، فقال له: يا أمير المؤمنين، أما ما كرهته من مسيرهم فإن الله عز وجل لذلك أكره، وإنك يا أمير المؤمنين إن سيّرت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ديارهم، وإن سيّرت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ديارهم، وإن سرت بأهل الحرمين انتقضت العرب عليك، فكان ما وراءك أهم لك مما بين يديك، وإن رآك العدو ازداد كلبه عليك وقال لأصحابه هذا واحد العرب فإن قطعتموه قطعتم العرب كلها. ولكن أرى أن تكتب إلى أهل اليمن، فيكون ثلثهم في أهل عهدهم وثلثهم في ثغورهم ويسير منهم الثلث إليك، وتكتب إلى أهل الشام بمثل ذلك، وتقيم بمكانك وتنفذ أميرا يلقاهم، فإن هلك أنفذت أميرا مكانه، فقد علمت أنا كنّا في زمن رسول الله ﷺ نقاتل بالبصيرة لا بالكثرة، فجزاه خيرا وأمره بالجلوس، ثم قال: هذا والله هو الرأي، إن أنا أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ديارهم، وإن سيّرت أهل الشام من شامهم سارت الروم إليهم، هذا والله هو الرأي إن ساعدتموني عليه، فقالوا: نساعدك، فعمل على ذلك، وأنفذ الجيش، وأقام على ما أشار عليه عليّ. وكم له معه مثل هذا، وشرحه يطول.
وكم قد أشار عليه العباس ونصح له مما هو مذكور معروف عند العلماء، وكم قد أشارا جميعا على عثمان وغيرهما من بني هاشم، وكم قد غزا الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن العباس وغيرهم من بني هاشم مع أمراء عثمان إلى خراسان وغيرها. وكم كان يقول عمر على المنبر: أقضانا عليّ، ويقول: لا تكون نازلة لا يشهدها علي بن أبي طالب. وولاه القضاء بالمدينة، وتولى فكان يقضي ويفتي. واستسقى بالعباس، وألحق الحسن والحسين في العطاء بالبدريين، ولما دوّن الدواوين كتبوا اسمه في أول الديوان، فقال لهم: لم فعلتم هذا؟ فقالوا له: أنت أمير المؤمنين، فقال: ابدؤوا بطرفي رسول الله ﷺ: هاشم وزهرة، وضعوا عمر وآل عمر حيث وضعهم الله. وأدخل عليا في الشورى.
وكان لعليّ في أولاده من يسمى أبا بكر وعمر وعثمان كما يسمي الرجل أولاده بأسماء أحبابه وأئمته. وقد كان للحسين عليه السلام ولد يقال له أبو بكر قتل معه بكربلاء. وكان لعلي بن الحسين ولد اسمه عمر. وقد كان في أولادهم مثل هذا كثير. وشرح هذا يطول، وكذلك شرح ما كان بينهم من المودة والصداقة وحراسة بعضهم لبعض ومدح بعضهم لبعض يطول. وللعلماء فيه كتب مفردة مخلدة، أنت تجدها إذا طلبتها. ولكن طال العهد وغلب الجهل، فظن من لا علم له أنهم كانوا متباعدين متباغضين، وأن الذي كان بينهم من العداوة والبغضاء أشد مما كان بينهم وبين معاوية وولده ومروان بن الحكم وولده، كما ظنت المنانية ومن ذهب مذهبها أن عيسى بن مريم عليه السلام كان عدوا لموسى وهارون وداود وسليمان، وأنه كان يحرم أكل اللحمان وذبح الحيوان، وكما يظن من لا يعلم أن هذه الطوائف من النصارى على دين المسيح وفي طاعته.
وللبغضاء رحمك الله حال مبينة، وللمحبة آثار وأعلام. ألا ترى أن معاوية وآل أبي سفيان وآل مروان، لمّا ابغضوهم وعادوهم، ما ذكروهم في الإمامة ولا رجعوا إليهم في القضاء والفتوى، بل لعنوهم وحاربوهم وقتلوهم، ووصوا أولادهم بذلك، وكذا فعل بنو هاشم من ولد العباس وولد أبي طالب ببني أمية.
فإن قالت الرافضة: إنما صنع أبو بكر وعمر هذا ببني هاشم حيلة وخديعة وليخرجوهم من الرئاسة؛ قيل لهم: من الحيلة والخديعة أن لا يدخلوهم في الشورى ولا ينبهوا عليهم في الرئاسة ولا يستسقوا بهم ولا يستشفعوا إلى الله بجاههم ومكانهم ولا يشهدوا لهم بالجنة ولا يسيروا إليهم بالعلم والمعرفة. ألا ترى أن معاوية لما عاداهم ما جعلهم أهلا للخلافة ولا ذكرهم للرئاسة، ولا استسقى بهم، ولا استفتاهم، ولا استقضاهم، ولا شهد لهم بالجنة، بل كانت سيرته فيهم ما قد علم الناس. ولا فرق بين من ادعى هذا، أو ادعى أن ما كان من مدح رسول الله ﷺ لأهله وأصحابه إنما كان على طريق المداراة والخديعة، أو ادعى أن ما كان من معاوية [مع] آل بني هاشم إنما كان على طريق الرأفة والرحمة.
وبعد فما لأبي بكر وعمر على قولكم إلى مداراة الناس وخديعتهم في بني هاشم، وعندكم أن الناس قد علموا أن رسول الله ﷺ قد استخلف عليا ونص عليه، وعرف الكافة أنه الحجة على العالم، ثم إن أبا بكر دعاهم إلى خلاف ذلك فأجابوه بأسرهم على قول بعضكم وهم الكاملية، وعلى قول الهشامية أجابوه إلا نفرا يسيرا كانوا مغلوبين. ودعاهم هو وعمر بعده وعثمان بعدهما إلى تغيير القرآن والشريعة، من الطهارة والأذان والصلاة ومواقيتها والصيام ومواقيته والمواريث والمناكح والطلاق والعتاق، إلى غير ذلك، فأجابوهم إليه.
وما سمع الناس بأعجب من أمر هؤلاء القوم في دعواهم على أبي بكر وعمر، أنهم إنما زكوا بني هاشم مثل العباس وعلي وغيرهما وأدخلوهم في الشورى وقدموهم في القضاء والفتوى والرئاسة، للنقص منهم والحيلة عليهم. وهو كمن قال: إن أبا بكر وعمر وعثمان أخذوا الروم والعجم وملوك العرب بالدخول في دين النبي ﷺ وإدخال أممهم في دينه والشهادة برسالته وإقامة شرائعه وموالاة أوليائه ومجاهدة أعدائه، إنما فعلوا ذلك عداوة له صلى الله عليه وللحيلة عليه واخراجه من الرئاسة والنبوة ولإماتة ذكره. وكل أمرهم عجب وخروج عما يعقل ويفهم.
فإن قالوا: إنما أدخله عمر في الشورى وقال يصلح للخلافة والرئاسة ليمحو نصّ النبي عليه واستخلافه له؛ قلنا: فإن ذلك قد أمحي على قولكم وأجابه الناس إلى محوه وإزالته، فما حاجته إلى إدخاله في الشورى لولا محبته له والتنبيه على فضله، ولو أراد أن يخرجه من الرئاسة لما أدخله في الشورى، ولا قال إنه يصلح للخلافة والرئاسة؛ وإنما الشورى وضعها عمر ليطلب الناس من يصلح في دين رسول الله ﷺ للقيام بأمر أمته عليه السلام، وليرجعوا إلى وصاياه وعهوده فيمن يصلح لذلك في دينه وشريعته. فلو كان هناك منصوص عليه، أو من فيه أدنى اشارة، لما أدخله عمر في الشورى والرئاسة إن كان يريد أن يميت ذلك على ما يدعونه عليه. وهذا لا يظنه عاقل، وهو كمن قال إنما استسقى بالعباس واستشفع إلى الله به ليميت ذكره وليخرجه من الفضل والرئاسة ومن استخلاف النبي له ونصّه عليه. فإن الراوندية من شيعة بني العباس تدّعي أن النبي ﷺ نص على العباس واستخلفه وجعله وارث مقامه، وأن الخلافة تكون في ولده إلى يوم القيامة، كما تدعي ذلك الرافضة في أمير المؤمنين.
وبعد فإن كان الذي صنعه عمر في الشورى حيلة على أمير المؤمنين ليخرجه من الرئاسة، فلم دخل هو وقبله، وصلى خلف صهيب، ورجع إلى عبد الرحمن في الاختيار. فكيف شعرتم أنتم بهذا وخفي عليه.
فإن قالوا: فعل هذا خوفا وتقية؛ فقد بينا أن سلطان هؤلاء الخلفاء الأربعة ما كان سلطانا يخافه محقّ ولو كان عبدا أو ذميا، وكشفنا ذلك من غير وجه.
واعلم أن الكلام إذا انتهى إلى مثل هذا فليس إلا السكوت. فإن شرح المشروح والمجاذبة في أمر المكشوف عناء وإدخال له فيما يغمض ويخفى. فارجع رحمك الله إلى ما كان من أبي بكر وعمر وقول بعضهم في بعض وصنع بعضهم ببعض تجدهم أولياء وإخوانا وأصدقاء، وقد تقدم لك في صدر هذا الكتاب أن أبا بكر وعمر وتلك الجماعة من المهاجرين والأنصار كانوا أحباب رسول الله ﷺ، وكان يحبهم ويودهم، ويوجب على الناس مجبتهم، ويفرض عليهم مودتهم. وكانوا يحبونه، وهو أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، ويحبون من أحبّ، ويبغضون من أبغض. وإن العلم بذلك قبل العلم بنبوته، فارجع إليه.
أفعال رسول الله وأقواله تشهد بأنه ما عهد لرجل بعينه
وباب آخر
وهو أن أفعال رسول الله ﷺ وأقواله ووصاياه وعهوده تشهد بأنه ما عهد في رجل بعينه، وأن الأمر في الخلافة بعده إلى خواصه وأصحابه ليختاروا من يرون، وأن الخلفاء بعده يجوز عليهم الخطأ والزلل. ألا تسمع قوله ﷺ: «أنفذوا جيش أسامة» وقوله: "لا تتركوا بعدي في جزيرة العرب دينين، ولا تجمعوا فيها دينين وقوله: "استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإن لم يستقيموا لكم فخذوا سيوفكم على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم، وإلا فكونوا أشقياء حرّاثين تمشون خلف أذناب البقر وتأكلون كدّ أيديكم. أطيعوهم ما أطاعوا الله ورسوله، فإذا عصوا الله ورسوله فلا طاعة لهم عليكم"، «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». وقوله: هذا الأمر في قريش ما إذا استرحموا رحموا وإذا حكموا عدلوا وإذا قسموا أقسطوا، وإذا عاهدوا وفوا، فإن لم يفعلوا ذلك فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منهم صرف ولا عدل.
ومثل هذا من أقواله كثير، ويعلم هذا من دينه، كما يعلم من دينه أن الولد للفراش وللعاهر الحجر، وأن اليمين على المنكر والبينة على المدعي، والنفقة على الزوج دون المرأة، وما أشبه ذلك من شريعته. وهذه الوصايا منه إنما هي لأصحابه وخاصته، فمن أشكل عليه بعد هذا أنه ما نص على رجل بعينه وأن الخلفاء بعده يجوز أن يقع منهم الخطأ والزلل، وأنه ليس فيهم من يؤمن منه ذلك، فقد أشكل عليه الواضح من شريعة رسول الله ﷺ وجلي سيرته والمكشوف عن شريعته ووصاياه.
فإن قيل: كيف أشكل هذا على هؤلاء القوم؟ قيل له: ليس يعرف هذا بكمال العقل وإن كان واضحا، وإنما يعرف بكثرة السماع وحسن ال‘صغاء والتأمل وجودة التحصيل وصحة النقل. ألا ترى أن في هؤلاء من يقول إن في القرآن زيادة، وفيهم من يقول فيه نقصان، وفيهم من يقول: للطهارة والصلاة والصيام وسائر الشريعة باطن يخالف ما عليه الفقهاء والعامة، وإلى ما يذهب أهل التناسخ وقوم من الصوفية. وكل من جالس العلماء وكثر سماعه وجاد تحصيله، يعلم علما يقينا أن هذا خلاف دين النبي ﷺ. وقد عرف أصحابه من سيرته جواز الاختيار في الأئمة والأمراء، وعملوا بذلك في حياته ﷺ. ألا ترى أنه لما أنفذ عسكرا لغزو الروم قال لهم: أميركم زيد بن حارثة، فإن هلك فجعفر بن أبي طالب، فإن هلك فعبد الله بن رواحة. فهلك هؤلاء الامراء الثلاثة فاستعمل الجيش بعدهم خالد بن الوليد المخزومي أميرا عليهم، فدبرهم وساسهم ولقي العدو بهم، فما أنكر النبي ﷺ ذلك بل صوبهم وسمى خالد بن الوليد سيف الله. وقد كان النبي ﷺ أنفذ عما لأبي موسى الاشعري أميرا على جماعة فهلك، فاستعملوا بعده أبا موسى، فما أنكر رسول الله ﷺ ذلك بل صوبهم. بل إنهم إنما فعلوا هذا لأنهم قد عرفوه من سيرته.
وقد ولى رسول الله ﷺ أبو العلاء بن الحضرمي البحرين، وأنفذه في جماعة، وعهد إليه عهدا معروفا، وقال ﷺ في هذا العهد: وأنا أشهد الله على رجل وليته أمرا من أمور المسلمين فلم يعدل فيه قليلا كان أم كثيرا فإنه لا طاعة له، وهو خليع مما ولتيه، وإني قد برأت المسلمين الذين معه من عهدهم وأيمانهم منه ومن ولايته، فليستخيروا عند ذلك الله ثم ليستعملوا عليهم أفضلهم في أنفسهم. وأشباه هذا في وصاياه وعهوده وسيره كثيرة. وأنت تجده متى طلبته. وفيما معك أتم كفاية.
كيف خاض الصحابة في أمر الإمارة ولم يذكروا أنه نص على أحد بعينه
باب آخر
وهو أن الصحابة قد خاضوا في باب الإمارة في مرض رسول الله ﷺ وقبل ذلك في أزمان مختلفة، وجرى لهم من الخوض في ذلك أكثر مما جرى لهم من كل شيء في كبار الأمور وصغارها. فأقوالهم وأفعالهم أفعال من لا عهد عنده في رجل بعينه، وأن الائمة بعد رسول الله ﷺ يجوز أن تقع منهم المعاصي والخطايا.
فمن ذلك، أن الصحابة سألوا عليا في مرض رسول الله ﷺ فقالوا: كيف أصبح رسول الله يا أبا الحسن؟ فقال: أصبح رسول الله بحمد الله بارئا، فقال له العباس: أحلف بالله لقد عرفت الموت في وجه رسول الله ﷺ كما أعرفه في وجوه بني عبد مناف، وإني لأرى رسول الله ﷺ سيتوفى في وجعه هذا، فانطلق بنا إلى رسول الله ﷺ نسأله، فإن كان هذا الأمر فينا علمنا، وإن كان في غيرنا أمرناه فوصى الناس بنا. فقال له علي: ما كنت لأسألها رسول الله ﷺ، فإنا إن سألناه فقال ليست فيكم منعناها الناس وقالوا رسول الله ﷺ قال ليست فيكم، والله لا سألتها أبدا.
فانظر كم في هذا من بيان على صحة ما قلنا. فهذا العباس، وهذا علي، وهؤلاء الصحابة. فلو كان النبي ﷺ قد نص لما جاز أن يذهب علمه عنهم، أو لو قال قولا يحتمل تأويله هذا المعنى لما ذهب عنهم، فإن البحث والنظر والخوض يخرج خفيات الأمور ويذكر بغوامضها وبما قد تقدم عهده وزمانه. فكيف بالشيء الواضح القريب العهد، ورسول الله ﷺ حي بينهم، فكيف لم يقل علي للعباس: يا عم، أما تعلم أن رسول الله ﷺ قد نص عليّ وجعلني حجة على العالم واستخلفني وولدي على أمته إلى يوم القيامة، وكيف نسيت مع قرب العهد، أوليس قد قال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه»، و «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»، وهذا نص واستخلاف. فإن كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه نسي أن النبي ﷺ استخلفه كما نسي العباس فكيف لم يذكرهما الصحابة وهم يسمعون ما يجري، وهذا لا يخفى على متأمل. فقد وجدت رحمك الله عليا والعباس والصحابة قد أطبقوا على أن رسول الله ﷺ ما نص ولا استخلف رجلا بعينه، ولا قال قولا قصد به هذا المعنى.
فإن قيل: ومن سلم لكم أن هذا قد جرى بين علي والعباس رضي الله عنهما؟ قيل له: إن هذا كالذي جرى في السقيفة وفي الشورى، لا يرتاب بذلك أهل العلم. والعجب أنكم تقولون إن النبي ﷺ قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه» وتنكرون مثل هذا، وهو أصح والعلم به أقوى. وما زال ولد العباس وولد علي من قديم الدهر يتذاكرون هذا الذي جرى من آبائهما في أنهما أصوب رأيا، ويخوض أهل العلم في ذلك، كالشعبي وعبد الرزاق. وإنما يذهب مثل هذا على معاند أو من لا نصيب له في العلم.
وفي هذا الباب، أن النبي ﷺ لما مرض جزع أصحابه لمرضه، فكانوا معه وحوله ومسجده بهم مثل الرمانة، وعنده في بيته أزواجه وعماته وبناته، فكان إذا وجد خفّا خرج فصلى بهم، فاشتد به يوما مرضه فقالوا: الصلاة يا رسول الله، فقال: ما أستطيع الخروج، صلوا، قالوا: يا رسول الله من يصلي قال: «يؤذن بلال ويصلي أبو بكر».
ففي قولهم: من يصلّي، دليل على أنه ما استخلف رجلا بعينه، لأنه لو كان فعل ذلك لما قالوا من يصلي ولا خفي عليهم مكانه، كما لا تخفى عليهم القبلة وقد فرغ لهم منها، فلا يقولون إلى أين نصلي. وأكد ذلك أيضا بقوله: يصلي بكم أبو بكر، ولو كان قد استخلف رجلا بعينه لقال: أوليس قد استخلفت عليكم عليا، فكيف نسيتم مع قرب العهد، ولأمر عليا بالصلاة.
فإن قيل: ومن سلم لكم هذا، وإنما عائشة قالت له لا رسول الله، وإن رسول الله ﷺ لما أحس به خرج وصرفه.
قيل لهم: إنه ليس لرسول الله عهد أوثق ولا عهد أوضح من عهده إلى أبي بكر في الصلاة بالناس في مرضه، فإنه عقد كان منه في بيته وبحضرة أصحابه الذين صفتهم على المحافظة على دينه الصفة التي قدمنا. والعلم بذلك يجري مجرى مرضه في بيت عائشة ودفنه فيه، ومجرى العلم بأن أبا بكر وعمر دفنا عنده. والعجيب ممن يقول: قد علمنا أن رسول الله ﷺ قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه» و «علي مني بمنزلة هارون من موسى»، وقال: «أنفذوا جيش أسامة»، وينكر أمر أبي بكر في الصلاة بالناس. وهذا من العناد الشديد والجهل الفائض، وهو كمن قال: إن رسول الله ﷺ ما اختار أبا بكر للهجرة معه ولا كان معه في الغار، ولا اختصه بأن يكون معه في العريش يوم بدر دون الناس كلهم، ولا كان معه في بيعة الرضوان، ولا أقامه مقام نفسه في الحج بالناس في سنة تسع ولم يقدم غيره في ذلك، وهو أول أمير حج بعده ﷺ في حياته من المدينة.
ولقد أمر أبو بكر بالصلاة، فصلى بجميع أصحابه وأهل بيته كالعباس وعلي وجميع بني هاشم ومواليه، وهو ينظر إليهم من بيته وفي مسجده وهم يصلون خلف أبي بكر، فصلى بهم أبو بكر [عدة] أيام. ففي بعض تلك الأيام يخرج رسول الله ويصلي معهم، وفي بعضها يخرج وقد فرغ أبو بكر فيجلس معهم، وفي بعضها يحس به أبو بكر فيتنحى ويقدمه ويصلي بهم. لا يتدافع أهل العلم من الصحابة والتابعين والذين يلونهم والذين يلونهم في ذلك. ولقد صلى بهم أبو بكر الظهر في اليوم الذي مات فيه رسول الله ﷺ قبل دفنه وقبل البيعة له بذلك العهد الذي كان من رسول الله ﷺ لا ينازعه في ذلك احد.
وقد روى هذا الحديث وأمر رسول الله ﷺ لأبي بكر بالصلاة علي بن أبي طالب، ذكر ذلك في خلافته وعلى منبره مرات كثيرة. ورواه العباس وابنه عبد الله. وذكره عمر على منبره في خلافته. ورواه أبو عبيدة وعبد الله بن مسعود وأنس بن ملك والبراء بن عازب وسالم بن عبد الله وعبد الله بن زمعة، ومن لا يحصى كثرة من المهاجرين والأنصار. وإنما كان سبب ذكرهم له لأنهم كانوا يذكرون مرض رسول الله وكيف صنع. وإنما يظن أن أبا بكر تقدم فصلى بالمهاجرين والأنصار بغير عهد من رسول الله ﷺ من لا يعرف المهاجرين والأنصار وشدة بصائرهم وإعظامهم لمقام رسول الله ﷺ أن يقوم فيه أحد مقامه سيما في خاصته بغير أمره.
وبعد، فإن مسجده في بيته ونصب عينيه، يسمع وهو في بيته صوت من في مسجده ويراهم، وأمره لأبي بكر بالصلاة بحضرة أصحابه، ويسمع ذلك جميع أزواجه وبناته وعماته، فقد كنّ في مرضه هذا اجتمعن كلهنّ عنده في بيت عائشة. وكان أمره له بذلك مرة بعد مرة، فإن الصحابة كانوا يدخلون في أوقات الصلاة فإن وجد خفّا خرج معهم، وإلا قال لهم: يصلي بكم أبو بكر. وكان في أول أمره أمر بذلك قالت عائشة: يا رسول الله، إن أبي رجل أسيف لا يستطيع أن يسمع الناس، فلو أمرت غيره، فأبى رسول الله ﷺ ذلك ولم يجبها إليه، فاستعانت ببعض أزواجه عليه ليشفعها ويأمر غير أبي بكر بالصلاة، فردّهن رسول الله وغضب وقال: «يأبى الله والمؤمنون غير أبي بكر» إليكن عني صويحبات يوسف. فهذا الذي كان من عائشة فادعوا عليها ما لم يكن، وهذا شأنهم. ولقد قيل لعائشة لم كرهت أن يصلي أبوك بالناس في مرض رسول الله ﷺ وراجعت رسول الله ﷺ في ذلك حتى غضب؟ قالت: ظننت بحداثة سني أنه لا يطيق ذلك وأن المسلمين يتشاءمون به.
وقد قال بعض العلماء في قول رسول الله ﷺ: إليكن عني صويحبات يوسف، أن أولئك النساء ظنن أن يوسف عليه السلام إذا دفع إلى شدة يضعف ويجيب إلى المعصية فلم يكن كما ظنن، فأراد رسول الله أن أبا بكر سيدفع إلى شدائد فيصبر ويحتمل.
ثم يقال لهم: وكيف طمع أبو بكر أن يتقدم بأصحاب رسول الله ﷺ وقد علم أن رسول الله ﷺ قد استخلف عليا وعرفهم أنه حجة الله عليهم وعلى رسول الله وجميع الصحابة حضور شهود، كيف يتوهم عاقل هذا؟
وبعد، فكيف أقرّ رسول الله ﷺ عائشة في أزواجه وأقام عليها وقد ارتدت بهذا الصنيع، وقد قال الله عز وجل: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ} فادعيتم أن أبا بكر اغتصب هذا المقام، وأن ذلك بلغ رسول الله ﷺ وأنه غضب من ذلك وأنكره، وخرج وعزل أبا بكر، وأنكر على الصحابة طاعتهم لأبي بكر في الصلاة خلفه؛ هذا أمر عظيم، ومراجعات كثيرة، إذ لو كانت لكان العلم بها أقوى من العلم بما كان من المراجعة لرسول الله ﷺ من المراجعة والمناقلة يوم الحديبية مع سهيل بن عمرو وما أشبه ذلك. ولكن مذاهبكم مقصورة على دعاويكم. ومن العجب كونكم ما ادعيتم أن رسول الله ﷺ لما غضب وخرج وعزل أبا بكر أن يكون قد قدم عليا فصلى بالناس ليتم بهتكم، بل لو كنتم صادقين في دعوى النص عليه لكان هذا وقت تقديمه والغضب لأجله. لو ادعيتم أن رسول الله ﷺ لم يختر بيت عائشة لمرضه ودفنه والموت فيه وإنما اختار بيت ابنته فاطمة ولكن أبا بكر مضى واغتصبه وحمله وجاء به إلى بيت عائشة. فهذا رحمك الله من الأدلة التي تشهد أن رسول الله ﷺ ما استخلف عليا ولا نص عليه كما يدعي هؤلاء وإنما ينكرون الأخبار.
فإن قالوا: لو كان رسول الله ﷺ ما استخلفه لعلمنا باضطرار أنه لم يستخلفه.
قيل لهم: ما لم يفعله رسول الله ﷺ لا يعلم بالاضطرار، إنما يعلم بالاستدلال. فمن استدل علم ومن لم يستدل جاز أن يظن أنه قد فعل. ولو كان فعل شيئا أو فرض شيئا على الأمة من سائر أحكام الشريعة لجاء مجيء العلم كما جاء غيره. وهذا هو الأصل كما شرحنا وقدمنا.
كيف فكر الأنصار بالإمارة ثم عدلوا عن ذلك بعد تبين الحق
باب آخر
من هذا، أن الأنصار لما قبض رسول الله ﷺ حزنوا لفراقه، فاشتد حزنهم وعظمت مصيبتهم، فقالوا هدانا الله به، وجمع إلفتنا بدعوته، وعظمت علينا بركاته. فرجع بعضهم على بعض فقالوا: احمدوا الله فقد قبض وهو عنكم راض، فقالوا: الحمد لله، ولكن قد وترنا الأمم، وقد قبض رسول الله ﷺ ولم يستخلف، ولا بد لنا من أمير نقيمه فنغزوا معه ونجاهد، فقال قائل منهم: لا بد لكم من هذا، فأقيموا رجلا منكم.
فانظر كيف أفصحوا بأنه لم يستخلف، ولو كان كما يدّعون هؤلاء لقيل لهم ذلك ورد عليهم هذا القول والنبي ﷺ لم يدفن بعد، وكيف لم يستدل عليهم بالآيات والأحاديث التي تروونها وتستدلون أنتم بها. فلو لم يكن إلا هذا لكفى في الدلالة على بطلان ما يدعونه هؤلاء وما يدعيه العباسية والبكرية.
فإن قيل: فالنبي ﷺ قد قال: «الأئمة من قريش» في الجماعات الكثيرة وقد ذهب هذا على الأنصار، فما تنكرون أن يكون قد نص على علي والعباس وأبي بكر وذهب عنهم؟
قلنا: لا ندعي أن رسول الله ﷺ قال: «الأئمة من قريش» في الجماعات الكثيرة ولا قام فيهم خطيبا كما تقولون في دعواكم لعلي، ولا أخذه على الناس. ولا هو أيضا من فرض الكافة، وإنما هو من فرض الفقهاء والخاصة، فيعقده أربعة نفر أو خمسة لواحد، وهو يجري مجرى قوله عليه السلام: «لا وصية لوارث»، و «أهل ملتين لا يتوارثون»، و «الخراج بالضمان». وليس كذلك ما يدّعونه من أنه نص على رجل بعينه وفرض طاعته على جميع أمته وجعله الحجة عليهم بعده، فأوجب على الرجال والنساء والأحرار والعبيد والمقيمين والمسافرين طاعته، وأعلمهم هذا الغرض وأداه إليهم بحسب وجوبه وشمول عمومه، فجرى في الغرض مجرى قوله: أنا رسول الله اليكم وحجة الله عليكم. فهذا لا يذهب على النفر اليسير ممن هو دون الأنصار في الرتبه والاختصاص برسول الله ﷺ، وهو يقول: «الأنصار كرشي وعيبتي»، يريد بذلك أنهم موضع سرّي وخاصتي. فأين فرض هذا من قوله: «الأئمة من قريش»، ومع كون هذا من فرض الخاصة، فعند الحاجة ذكر وقبله الأنصار كلهم وعملوا به، فلو كان دعواكم أنتم أيضا كذلك لكان قيل وعمل به مثل هذا.
رفض علي ما عرض عليه من المبايعة بالإمارة بعد وفاة الرسول
وباب آخر
من هذا أن العباس وبني هاشم بلغهم قول الأنصار وما عزموا عليه، فما أنكروا قولهم إن رسول الله ﷺ قبض ولم يستخلف، وأن الإمامة تجب بالاختيار، بل مدحهم العباس وأثنى عليهم وأقبل على علي وقال له: قد كنت قلت لك ورسول الله ﷺ حيّ عليل انطلق بنا إليه نسأله فيمن يكون هذا الأمر فإن كان فينا لم تنازع فلم تفعل، والآن فامدد يدك أبايعك فيقال: هذا عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله فلا يختلف عليك اثنان.
فتأمل رحمك الله هذا البيان وهذا الإفصاح من الجميع أن رسول الله ﷺ ما نص ولا استخلف، فكيف لم يقل علي لعمه: كيف تقول إنك لو بايعتني ما اختلف عليّ اثنان ورسول الله قد عقد لي وجعلني الحجة وقد خالفوني. وإنما كان قوله رضي الله عنه للعباس لما قال له امدد يدك: هذا أمر المسلمين، وما كنت لأفتات عليهم بأمر، فإن أرادوني فقد عرفوا مكاني. فقيل له: اقبل فإنهم لا يخالفونك ولا يكرهونك، وقال له أبو سفيان: اقبل يا أبا الحسن ما يقول أبو الفضل وأنا أبايعك، فقال له العباس: اقبل فهذا شيخ بني عبد مناف يبايعك أيضا، فقال أبو سفيان: عليّ بنو عبد مناف كلها، بل عليّ قريش أن تبايع ولا تخالف، فقال له العباس: افعل، فقال: لا يا عم إلا عن ملأ من المسلمين.
فانظر كيف بين رضي الله عنه أمر الإمامة للمسلمين وباختيارهم، وأنه لا يبادر إلى القبول لئلا يظن به الحرص على الإمارة. فقال له قائل من بني هاشم: فأخبر الناس أن رسول الله ﷺ جعلها في بني هاشم، فقال رضي الله عنه: والله لئن كنت أول من آمن به فلا أكون أول من كذب عليه.
ومقام آخر، وهو أن العباس خرج إلى أبي بكر وهو في المسجد فأخبره بما بلغه عن الأنصار، وسأله أن يمضي إليهم ويبين لهم لعلم العباس بعظم قدر أبي بكر في المهاجرين والأنصار. فنهض أبو بكر وتبعه عمرو وأبو عبيدة، وصاروا إلى الأنصار، فأنكر عليهم أبو بكر ما عزموا عليه، فعجبوا من إنكاره وقالوا: لم تنكر أن تكون الإمارة فينا فقد مضى رسول الله ﷺ وما استخلف، وقد قال فينا كذا، ومدحنا بكذا، فقال أبو بكر: صدقتم، وقد قال رسول الله ﷺ: «ولو سلك الناس شعبا وواديا وسلكت الأنصار شعبا وواديا لسلكت شعب الأنصار وواديهم» ثم قال أبو بكر ولكن هذا الأمر ينبغي أن يكون في الحيّ من المهاجرين من قريش، فلا تنفسوا عليهم الإمارة: أسلمنا قبلكم، وقدّمنا الله في القرآن عليكم، وما كان في قريش نفاق.
فقال الحباب بن المنذر بن الجموح: فإن أبيتم فمنا أمير ومنكم أمير. ثم أقبل على قومه من الأنصار فقال لهم: البلاد بلادكم، والبادية باديتكم، وأنتم شعب الإسلام الذي لجأ إليه، وإنما عزّ الإسلام بأسيافكم، فإن أبى هؤلاء [أن] يكون منا أمير ومنهم أمير فأخرجوهم من بلادكم، ثم أقبل على المهاجرين وقال: إن شئتم اعدناها جذعة، أنا عزيقها المرجّب وجذيلها المحكك. فقال أبو عبيدة: الله الله معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر فلا تكونوا أول من بدل وغير، وقال أبو بكر لسعد بن عبادة: قد علمت يا سعد أن رسول الله ﷺ قال: «الناس تبع لقريش، فخيار الناس تبع لخيارهم، وشرارهم تبع لشرارهم» قال: صدقت، فقال بشير بن سعد الأنصاري: والله لئن كنا أولي فضيلة في جهاد عدونا فما أردنا بذلك إلا رضاء ربنا والكدح لأنفسنا، وما ينبغي أن نستطيل على الناس، فالمنة لله ورسوله علينا. ورجع الأنصار عما كانوا عليه، وأقبلوا على أبي بكر وقالوا: من ترضى لنا يا أبا بكر، فقال: رضيت لكم عمرو أبا عبيدة، إن رسول الله أتاه قوم فقالوا: ابعث معنا أمينا حق أمين، فبعث معهم أبا عبيدة، وقد قال في عمر كذا وكذا، فقال عمر: أما أنا فلأن اضجع فأذبح في غير مأثم أحب إلي أن أتقدم قوما فيهم أبو بكر، ولكن أنت يا أبا عبيدة إن شئت بايعتك، فقال أبو عبيدة لعمر: ما سمعت منك فهة في الإسلام قبلها، أتقول هذا لي وفيكم الصديق و {ثاني اثنين إذ هما في الغار} وخليفة رسول الله، وقد أمّنا حياة رسول الله ﷺ. فقال عمر: معشر الأنصار، قد علمتم أن رسول الله ﷺ قدم أبا بكر وأقامه مقامه في الصلاة بالناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم على من قدمه رسول الله ﷺ؟ قالوا: معاذ الله أن نتقدم أبا بكر، فقال بشير بن سعد الأنصاري ثم الخزرجي: قوموا إلى خليفة رسول الله ﷺ فبايعوه، فانثالوا على أبي بكر ومدّوا يده فقبضها وقال: بايعوا عمر أو أبا عبيدة، ودفعهم عن نفسه بجهده، وقبص يده فمدها عمر، فقال له أبو بكر: أنت أنت يا عمر، أنت أقوى وأشد، فقال عمر: شدتي لك أنت أحق، أنت خليفة رسول الله ﷺ، رضيك لنا. فما زالوا به حتى بايعوه.
فانظر إلى طول هذه المراجعة بين المهاجرين والأنصار وهم يطلبون ويفتشون ما يجوز في دين رسول الله ﷺ، ويرجعون إلى أفعاله ووصاياه ويبتغون مرضاته. هل تجد أحدا منهم يذكر عن رسول الله ﷺ نصا على رجل بعينه أو ما يشبه النصّ أو ما تأويله النص من أنه كتاب الله أو من حديث عن رسول الله ﷺ، والعهد قريب وهو يوم موته، ولم يدفن بعد، وهذا موضع الحاجة إلى ذكر ذلك. والمناظرة والمباحثة تذكّر بالأمور البعيدة وتخرج الغوامض فكيف بالأمر الواضح مع العهد القريب؟ وما أراد الأنصار بالبدار إلى إقامة أمير يكون على الناس إلا الله وإلا إحياء الإسلام وقمع أعداء رسول الله ﷺ، لينضبط الأمر ولا ينشر. فقد كان معهم وحولهم اليهود وقبائل العرب من النصارى، وقد كانوا راسلوا ملوك الروم وأطمعوهم في الإسلام، ومسيلمة مقيم على حربهم وكذا طليحة، وقد ارتد من ارتدّ. فكان الصواب في المبادرة إلى إقامة أمير. فلما قيل لهم: إن رسول الله ﷺ قد قال: «الأئمة من قريش» سمعوا وأطاعوا، وقصدوا إلى أفضل قريش في أنفسهم فعقدوا له وقاتلوا بين يديه كما كانوا يقاتلون بين يدي رسول الله، وتفانوا في طاعته. ولو أرادوا الملك والدنيا لما أطاعهم المهاجرون ولا غيرهم، فإن البلاد بلادهم، والبادية باديتهم، والبأس والنجدة والكثرة لهم وفيهم. وإنما المهاجرون ضيفانهم ونزال عليهم، وبهم عزّوا، وبهم صار رسول الله ﷺ في عساكر وجماعات، وبهم غزا العدو. وقد كان ﷺ وهو مقيم بمكة منذ دعا إلى النبوة خمسة عشر سنة يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب ويتلو القرآن ويدعو إلى الله؛ فسمعته قبائل الأوس والخزرج، وأصغوا إلى دعوته، وأجابوه إلى معاداة ملوك الأمم وجبابرة الأرض في طاعته، وأن ينفقوا أموالهم ويسفكوا دماءهم في نصرة دينه، وأن يطيعوه حيا وميتا. فلما أجابوه إلى ذلك أمر أصحابه بالهجرة إليهم، فقبلوهم وأظهروا الإسلام في المدينة وفي قبائلهم وبواديهم، فهاجروا إليهم فوفوا بجميع ذلك، وكان باطنهم في الإيمان كظاهرهم، فلهذا أسماهم الله الأنصار، وكذا المهاجرون.
ولهذا قال الله: {لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} فأخبر عزّ وجل عن صحة نياتهم وصدق ضمائرهم وشهد لهم بالصدق. ثم ذكر الأنصار وقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، لأن الأنصار كانوا بالمدينة قبل المهاجرين، فلما جاءهم المهاجرون أحباب رسول الله ﷺ آثروهم على أنفسهم بمنازلهم وشاطروهم أموالهم بطيب من أنفسهم، فشهد لهم بالفلاح. وفرض على من جاء من بعدهم مولاتهم والاستغفار لهم فقال: {والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}، وأمرهم بالتعوذ من بغضهم وعداوتهم، فهؤلاء الذين قاموا بدين رسول الله ﷺ بعده، وهم الذين اختاروا أبا بكر. والقرآن مملوء بمدحهم والثناء عليهم، وأنت تحفظه. فارجع إلى ما في سورة بعد سورة من ذلك وتدبره، فذكر جميعه يطول ولا يحتمله هذا الموضع.
فهم لما بايعوا أبا بكر سكنت نفوسهم وباتوا وكأن رسول الله ﷺ لم يمت ولم يفقد من بينهم، فهذا الذي قصدوا بالبدار، وهم كانوا أعلم بما يباشرونه ويقولونه، وقد علموا أنهم قد وتروا الأمم كلها في طاعة رسول الله ﷺ. فقد خلفهم ولا أمير عليهم، فخافوا أن يبيتوا وقد فقدوا نبيهم وليس عليهم أمير فينشر أمرهم. فلشدة اهتمام هؤلاء بحراسة الإسلام بادروا إلى من يعقدون له. وإنما ذكرت لك هذا لتعرف الحال فإن من لا يعلم ومن همه الطعن في الإسلام يدعي عليهم أنهم إنما فعلوا ذلك حبا للدنيا ولسرورهم بموت رسول الله ﷺ ولاغتباطهم بالراحة. وأنت تجدهم وقد شهدت أفعالهم بأنهم بعد موته أشد حبا له وأشد بصيرة في دينه.
ثم إن أبا بكر عاد من السقيفة وقام خطيبا وأخبر المهاجرين بما كان وقال: والله ما أردت الإمارة ولا نويتها، ولا تمنينها في يوم ولا ليلة ولا رغبت فيها، ولقد حرصت أن أجعلها في عمر فما تركت، وإنما قبلتها خشية الفتنة، ولأنه لم يكن علي أمير، وقد رجعت أموركم إليكم فاقيلوني وولوا من شئتم. فقال له عليّ: والله لا يقيلونك ولا يستقيلونك، رضيك رسول الله لديننا فرضيناك لدنيانا، قدّمك رسول الله فمن ذا يؤخرك. فصوّب الصحابة جميعهم قوله واستحسنوه.
وانظر اعترافهم أن رسول الله ﷺ قد أعطى أبا بكر أكثر مما أعطوه، وعجب علي رضي الله عنه من طمع الأنصار في الإمارة وقال: أما سمعوا قول رسول الله ﷺ: «أوصيكم بالأنصار خيرا، اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم»، فلو كانوا هم الأمراء لكانت الوصية لهم لا فيهم، ولكن نتجاوز لهم كما وصّى رسول الله ﷺ، والله يرحم الأنصار.
فإن قال إنهم لم يعارضوا أبا بكر خوفا وتقية؛ فقد بيّنا غير مرة أن سلطان هؤلاء الخلفاء الأربعة لم يكن سلطانا يتقيه محق.
وقيل: إن أبا سفيان لقي علي بن أبي طالب بعد البيعة لأبي بكر فقال له: يا أبا الحسن، ما بال هذا الأمر في أقل حيّ من قريش، إنما هي بنو عبد مناف، إن شئت ملأتها على أبي بكر خيلا ورجلا، فقال له علي: ما أريد ذلك، إنا رأينا أبا بكر لها أهلا، واني لأعد بيعتي له من جهادي مع رسول الله ﷺ. ثم أتى أبو سفيان العباس وبني هاشم فقال: ما لنا ولأبي فضل، إنما هي بنو عبد مناف، يا بني عبد مناف ذبوا عن مجدكم وانصحوا عن سؤددكم، ولا تخلعوا تاج الكرامة إذ ألبسكم الله فضلها، إنها عقب نبوة، من قصر عنها اتبع، ومن ذبّ عنها اتبع. فقال العباس: إن الإسلام قيد الفتك وأخذ بعنان الباطل، فأمهل نراجع الفكر، فإن يكن لنا من الأمر مخرج نبسط أكفا للجد لا نقبضها أو نبلغ المدى، وإن تكن الأخرى فلا لقلة في العدد ولا وهن في الأيد. فأنكر علي قول أبي سفيان ونهى بني هاشم عن الخلاف، وقال لهم: عرجوا عن طريق المنافرة وحطوا تيجان المفاخرة. وقال لأبي سفيان: يا أبا سفيان، إن المسلمين قوم نصحة وإن تباعدت أنسابهم، وإن المنافقين قوم غششة وإن تقاربت انسابهم، يا أبا سفيان، طالما عاديت الإسلام وأهله فلم يضره ذلك شيئا، إنا وجدنا أبا بكر لها أهلا، ولو لم نره أهلا لما وليناه.
وقد ذكر من هذا أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بعد مضي عثمان في رسالته إلى معاوية إذ يقول له في فصل منها: وقد كان أبوك اتاني حين وليّ أبو بكر رحمه الله الناس، فقال أنت أحق بهذا الأمر بعد محمد ﷺ فهلم أبايعك وأنا بذلك على من خالفك، فكرهنا ذلك مخافة الفرقة، فكان أبوك أعرف بحقنا منك، فإن تعرف منه ما كان يعرف تصب رشدك، وإلا فسيغني الله عنك.
وقد ذكر معاوية هذا المعنى لابن عباس وبني هاشم حين أخذ الأمر من الحسن، فقالوا له: اغتصبت وأخذت ما ليس لك، فقال لهم: إن كان أمر الخلافة يستحق بالقرابة دون الرضا والإجماع فما منع العباس منها وهو عم رسول الله ﷺ وقد ضمن له أبو سفيان بني عبد مناف؟ فكان جوابهم أن ذاك أمر رضيه المهاجرون والأنصار وأجمع عليه المسلمون، وأنت فما رضيناك.
وما كنا في صحة إمامة أبي بكر، وإنما كنا في أن الصحابة في كل زمان وأوان يخوضون فيمن يصلح للإمامة ولا يذكرون عهدا من رسول الله ﷺ في إنسان بعينه مع حاجتهم إلى ذلك، بل يجمعون على العمل بالاختيار، فعرض لنا ما كان بين بني عبد مناف، فذكرنا قول بني هاشم، وأن أبا سفيان أحب أن تكون الخلافة في بني هاشم لأنهم أهله وأقاربه من بني عبد مناف، ولأن السؤدد والرئاسة كانت فيهم قبل الإسلام.
ولهذا قال خالد بن سعيد بن العاص عامل رسول الله ﷺ على اليمن وقد قدم بعد وفاته وقد بايع الناس أبا بكر، فعجب من كون الخلافة في أبي بكر دون العباس أو علي أو عثمان، فهؤلاء أعمام رسول الله ﷺ وبنو أعمامه، فقال لعثمان وعلي وقد أتياه ليسلما عليه حين قدم من سفره: أرضيتم بني عبد مناف أن يلي أمركم بنو تيم، فقال علي: رضينا، فقال خالد: أنتم الشجر الطوال ذوات الظلال فإذا رضيتم رضيناه.
فولاية أبي بكر وتقدمه على أهل رسول الله وأعمامه وبني أعمامه وهم كثرة وفي عزة ومنعة وفيهم اليسار وليس لأبي بكر شيء من ذلك من العجائب. ولهذا قال أبو قحافة وقد جال الناس جولة وهو بمكة: ما هذا؟ قالوا: مات رسول الله ﷺ، قال: فما صنع الناس بعده؟ قالوا: أقاموا ابنك مقامه، قال: أفرضيت بنو عبد مناف؟ قالوا: نعم، قال: أفرضيت بنو المغيرة؟ فقالوا: نعم، قال: ودانت لرجل من تيم؟ قالوا: نعم، قال: فلا مانع لما أعطى الله.
فعجب أبو قحافة من تقدم ابنه، والسيادة والرئاسة إنما كانت في بني عبد مناف وبني المغيرة من بني مخزوم دون بني تيم، فلما قدّم المهاجرون والأنصار ومن كان على دين رسول الله ﷺ ابنه أبا بكر علم أن ذلك الإسلام ومن قبل الله، وأن ابنه قد كان أولى بالحسد والإبعاد، ولكن القوم رجعوا في توليته إلى الدين والإسلام دون الأحساب والأنساب.
ولما بلغ أهل اليمن والبحرين وعمان قالوا لعمال رسول الله ﷺ: هذا الذي بايعه الناس بعد رسول الله ﷺ ابنه أو اخوه؟ فقيل لهم: لا، قالوا: فأقرب الناس منه؟ قيل: لا، قالوا: فما شأنهم؟ قيل: اختاروا أخيرهم فأمّروه عليهم، قالوا: لن يزالوا بخير ما صنعوا هذا.
فتأمل رحمك الله حال القوم لتعرف حقيقتها وتعلم أنها بالضد مما قاله هؤلاء. فقد طال العهد وقل التأمل.
وباب آخر
وهو أن أبا بكر غزا اليمامة، ومسيلمة، وربيعة، وطلحة، وبني أسد، وتلك القبائل المرتدة، ومانعي الزكاة مع إذعانهم بإقامة الصلاة، وأنكر رضي الله عنه تغيير دين رسول الله ﷺ، وأنه لا يقرهم على ترك خصلة واحدة من دينه ولا تعطيل شيء منه، وقد غزاهم بالمهاجرين والأنصار ونكل بهم كل التنكيل، وقتلهم ألوان القتل، وصنع بالرجال والنساء منهم من النكال ما يطول شرحه لأنهم غيروا دين رسول الله ﷺ وعطلوا حدوده، فما استطاعوا أن يقولوا لأمراء أبي بكر لم تنكرون علينا هذا وأنتم قد عطلتم نصوص صاحبكم، وغيرتم دينه، وبدلتم كتابه، وانصرفتم عن وصيه وعمّن استخلفه، وضربتم ابنته، وقتلتم جنينها في بطنها. وهذا موضع حاجة هؤلاء إليه، ولو كان لذلك أدنى اشارة لعوّلوا عليه واستراحوا إليه، فعلمت أن ما يدّعيه هؤلاء لا أصل له. ولو كان بدا منهم شيء لكان العلم به أقوى مما كان بين أمير المؤمنين وأهل النهر، وبينه وبين أهل الشام وغيرهم.
طلب أبي بكر من المسلمين إقالته ورفضهم ذلك
وباب آخر
أن أبا بكر لما قتل مسليمة، وأسر طلحة، ورد أهل الردة، واستولى على جزيرة العرب الإسلام وأنفذ جيوشه إلى العراق واستظهر المسلمون، قام في المسلمين خطيبا فقال: إن أموركم قد عادت اليكم وبحمد الله استظهرتم على عدوكم فأقيلوني فقد تقلدت أمرا ما لي فيه راحة ولا يدان إلا بمعونة الله، فقال له عليّ رضي الله عنه: ما يقيلونك ولا يستقيلونك، وما منك بدل ولا بدل عنك حول. ومشى في الناس ثلاثا يستقيل فما أقالوه.
تمني أبي بكر أن لا يكون قد ولي إمرة المسلمين
وباب آخر
أن أبا بكر لما مرض مرض موته قال: يا ليتني يوم ظلة بني ساعدة قد كنت وليت عمر أو أبا عبيدة، فكنت أكون وزيرا خيرا من أن اكون أميرا، وليتني حين بعثت خالدا إلى الشام كنت بعثت عمر إلى العراق فكنت قد بسطت يميني وشمالي. ثم عزم على استخلاف خليفة يكون بعده وأخذ يشاور في ذلك، فقال لرهط من المسلمين: إن وليت عليكم رجلا منكم أترضون؟ فقال عليّ بن أبي طالب: لا إلا أن يكون عمر، فأمسك؛ ثم خلا بعبد الرحمن بن عوف وشاوره في عمر وأخذ رأيه فيه ثم قال له: اكتم يا أبا محمد ما كان بيننا إلى أن أقوله لك، ثم شاور عثمان بن عفان، ثم شاور أسيد بن حضير في رهط من الأنصار في ذلك، فقال له أسيد: ما أعلمه إلا الخيرة بعدك لولا ما فيه من شدة، فقال له أبو بكر: يا أبا يحيى إني قد رمقته، فكنت إذا شددت في الشيء أراني فيه اللين، وإذا لنت في الشيء أراني فيه الشدة، ولو قد وليكم للان واشتد. ثم أظهر أبو بكر الأمر للناس وذكر لهم رأيه في عمر، فقال طلحة وغيره: إن عمر رجل مهيب، له هيبة وليس بخليفة، فكيف إذا صار خليفة؟ فاعدل بنا عنه إلى رجل هو أخفض جناحا وألين جانبا، فكان جواب أبي بكر ما قد تقدم.
فكيف يظن عاقل تدبر الأمور أن هناك رجلا قد أقامه رسول الله ﷺ وفرغ لهم منه، وكلهم ومعهم ذلك الرجل الذي يدّعي هؤلاء، يطلبون رجلا يصلح في دين رسول الله وعند رسول الله للقيام بأمر أمته؟ وهل هذا إلا كقائل قال في جماعة كثيرة قيام في الشمس وهم يطلبون الشمس ويسألون عن الشمس. وتأمل الحال، وكيف ينطق كل واحد بما عنده وبما يراه، غير راهب ولا خائف من الأنصار ومن المهاجرين ومن أبي سفيان ومن بني هاشم ومن خالد بن سعيد لتعلم سلطان هؤلاء الخلفاء كيف كان.
فكان المسلمون يفرغون إلى أبي بكر في كل صغير وكبير، فيقول لهم: أتظنون أنكم تجدون عندي ما كنتم تجدونه عند رسول الله ﷺ، لا تجدون ذلك، إن رسول الله ﷺ كان يأتيه الوحي، وإنما أنا مثلكم، فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني. ويسأل عن مسألة فيقول: أقول فيها برأي، فإن يك صوابا فمن الله، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان. فيستحسن المسلمون هذا منه ويحمدونه عليه، ولا يقول قائل كيف يزيغ إمام المسلمين وكيف يخطئ. وعند الإمامية أن إمام المسلمين لا يخطئ ولا يزل.
وقد قال عمر أيضا مثل قول أبي بكر مرات كثيرة، وقال عثمان مثل ذلك.
وما بلي به علي وما قاله في هذا الباب فأكثر مما ابتلي به أبو بكر وعمر وعثمان، فإنه ابتلي من أهل زمانه ومن أصحابه طول خلافته بالإضلال والإكفار، فما احتج هو لنفسه بالنص ولا بالعصمة، ولا احتج له من في زمانه ممن كان يخاصم عنه من ولده وأهل بيته وشيعته بشيء من ذلك. وكانوا وكان هو أيضا لا يأبون أن يجوز عليه ما يجوز على أهل الشووى وعلى الخلفاء قبله. وكان ما يتدين به من الاختيار أكثر وأشهر مما كان من الخلفاء قبله.
ولهذا قالت العلماء: إن العلم بأن رسول الله ما نص على علي ولا استخلفه أقوى من العلم بأنه ما نصّ على بلال، أو عمار، وأبي ذر، أو ابن مسعود، فإنه رضي الله عنه قد بقي بعد الخلفاء خليفة وإماما معه مائة ألف سيف تطيعه، وقد نازعه خلق كثير في الإمامة وناظروه، وادّعوا عليه الخطأ والضلال والإكفار، فما ادّعى النص ولا العصمة ولا احتج في مشافهة ولا مراسلة ولا مكاتبة بشيء من ذلك، بل كان يحتج بأن طاعتي وجبت لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، فوجبت طاعتي كما وجبت طاعتهم. ومن نعمة الله على المسلمين أن بقاءه رضي الله عنه بعد الخلفاء خليفة وإماما وسلطانا ومعه مائة ألف سيف تطيعه، فما سار في تركات رسول الله ﷺ إلا سيرة أبي بكر وعمر وعثمان، ولا حبا السواد ومصر وفارس وأرمينية وأذربيجان وخراسان إلا ما حباه الخلفاء قبله، ولا قرأ إلا المصحف، ولا أقرأ أولاده والناس إلا هذا المصحف، وملك الأرض كان كله بيده إلا كرة فلسطين، وأقام التراويح بنفسه وأقامه عماله في ممالكه كلها، وكان يقيم إماما للنساء في التراويح، وأثنى على الخلفاء قبله بما يطول شرحه وقد ماتوا وبلوا، وهو يلعن معاوية ويبرأ منه وهو حي ومعه أكثر من مائة ألف سيف، وكذا صنع بالخوارج. فهو لا يخاف الجبابرة الأحياء، وعند الإمامية أنه قد خاف الموتى وهو سلطان عظيم الشأن. وقد بيّنا أن هؤلاء في حياتهم وسلطانهم ما كان يخافهم محق.
فإن قيل: ومن سلم لكم أنه كان يقيم التراويح، بل يقول إنه قد نهاهم عنها، فقالوا: واعمراه، فلما قالوا ذلك، أقامها لهم.
قيل له: لا فرق بين من ادعى هذا، أو ادعى أنه قد كان نهاهم عن هذا المصحف فقالوا وامحمداه، أو قال: قد كان نهاهم عن هذه الصلاة وقال لهم: لها باطن وهي شخص، ألا تسمعونه يقول: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا ينهى إلا الشخص كما يدعيه عليه الاسماعيلية فصاحوا وامحمداه، أو كمن ادعى أنه كان يعيّد في آخر ذي الحجة ويقول: هذا اليوم الذي نص عليّ فيه رسول الله ﷺ واستخلفني كما يفعل الإمامية ذلك في زماننا ببغداد، وأنه كان يقيم المناحات بالشعر على فاطمة وابنها المحسن الذي زعم الإمامية أن عمر قتله، كما يفعل الإمامية ذلك ببغداد والكوفة. وبأي شيء يعلم العاقل المتأمل أن العباس وولده وبنو هاشم كانوا يقيمون التراويح إلا والعلم الذي يعلم به أن عليا كان يقيمها بنفسه وعامله قرظة بن كعب بالكوفة وعامله بالبصرة وبمكة والمدينة وسائر بلدان الإسلام التي في ملكه وسلطانه أقوى وأقهر.
ولو ادّعى مدّع أن ابن مسعود بالكوفة وأبا عبيدة ومعاذ بن جبل بالشام كانوا لا يرونها ولا يقيمونها، هل كانت الدلالة على بطلان دعواه إلا ظاهرة، والدلالة على بطلان من ادّعى ذلك على أمير المؤمنين أقوى وأقهر.
والعجب أن رؤساءهم والذين لقنوهم هذا المذهب قد قالوا: إنه اقام التراويح. وإذا قيل لهم: هبكم أنكم ادعيتم أنه كان في زمن أبي بكر وعمر وعثمان كان مغلوبا مقهورا، فما باله حين مات هؤلاء [و] صارت الخلافة إليه وصار السلطان بيده والفيء يجبى إليه فيعطيه من يرى وهو في العساكر والجيوش لم يدّع النص وتعطيل التراويح ويظهر المصحف الذي تدعون ويسير في أموال رسول الله ﷺ ما تدعون ويظهر البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان سيما وقد ماتوا، كما أظهرها في معاوية والخوارج وهم أحياء وفي عساكر؟
قالوا: ما فعل ذلك ولا قدر عليه لأن جنده وأعوانه من المهاجرين والأنصار والتابعين بعدهم كانوا أولياء أبي بكر وعمر، فلو اتهموه ببغضهم لقتلوه، فما زال مظهرا لنصرتهم وموالاتهم إلى أن خرج من الدنيا. قالوا: وكذا فعل الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين. والآن يدعي هذا المدعي في هذا الزمان أنه كان قد نهى عن التراويح، فلما صاحوا واعمراه خافهم فتقدم وأقامها لهم، فما يجري كلامهم على تحصيل ولكن كما يسنح لهم.
ومما كان ينبغي أن يقدم قبل هذا، ما كان من عهد عمر حين جرحه فيروز النصراني، فإنه ورد على علي والمهاجرين والأنصار وجميع المسلمين من ذلك ما ذهلت له عقولهم أسفا عليه. فإنه قد كان دوّخ ملوك الفرس والروم وأذلهم، وغلب على ممالكهم، وألجأهم إلى الهرب، وبلغت خيوله إفريقية وأوائل خراسان وأوائل الهند، فذلّ الشرك كله به، وغزا الإسلام بمكانه وسلطانه. فخاف المسلمون أن تكرّ ملوك الشرك عليهم بفقده، فاجتمعوا وانفردوا عنه مفكرين، وأملوا أن يبتدئ ويستخلف عليهم. فدخل عليه أهل الامصار فقالوا له: أوصنا يا أمير المؤمنين، قال: أوصيكم بالقرآن فتمسكوا به، فيه هدى الله نبيكم وهداكم من بعده، وفيه نجاتكم، قالوا: أوصنا، قال: أوصيكم بالمهاجرين والأنصار وذكر فضلهم، قالوا: أوصنا، قال: أوصيكم بالعرب فإنهم مادة الإسلام، قالوا: أوصنا، قال: أوصيكم بذمتكم فإنهم ذمة نبيكم وقوت عيالكم، قالوا: أوصنا، قال: قوموا عني وإلا قمت عنكم. فلما رآه أصحاب رسول الله ﷺ لا يذكر أحدا للخلافة دخلوا عليه وابتدأ ابن عباس يسأله الاستخلاف؛ وافتتح الكلام، فقال: قد توليتها حياتي واجتهدت لكم رأيي ونصحت لكم جهدي ومنعت نفسي وأهلي، وأرجو أن أنجو منها كفافا لا عليّ ولا لي، فأثنوا، وابتدأ علي يبشره عن رسول الله ﷺ بالجنة، وقال له: وأشار إلى ابن عباس يشهد على رسول الله ﷺ بمثل ما شهدت، وشيع غيرهما ذلك وسألوه الاستخلاف، فقال: ما أحب أن أتحملها حيا وميا، قالوا: بل تفعل، ولك في ذلك الأجر؛ انظر يا أمير المؤمنين لأمة محمد ﷺ، فقال: دلوني على من أستخلف، فقال له المغيرة: أنا أدلك عليه، عبد الله بن عمر. فقال له عمر: والله ما أردت بذلك الله، فقال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين، وما يمنعك من إخوانك، وأشار إلى عليّ وعثمان وعبد الرحمن وتلك الجماعة، فقال عمر: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني -يعني أن رسول الله ما استخلف وأن أبا بكر استخلف- ثم قال: هي في واحد من هؤلاء الستة الذين شهد لهم رسول الله بالجنة وقبض وهو عنهم راض: علي وعثمان ابنا عبد مناف، وسعد وعبد الرحمن خالا رسول الله ﷺ، والزبير حواري رسول الله ﷺ، وطلحة وقاية رسول الله. ثم حذر كل واحد منهم من خلق كرهه له. وقال لعلي: إن وليت هذا فاعدل ولا تحمل بني هاشم على رقاب الناس، وقال لعثمان مثل ذلك، وقال له: لا تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، ثم أقبل على عمار ومقداد في أن يكونا في ثلاثين من المهاجرين، وقال لأبي طلحة الأنصاري: إن الله لم يزل يعزّ هذا الإسلام بقومك فكن في خمسين منهم، فإذا متّ فليصلّ عليّ صهيب، وليصلّ بالناس إلى أن يقيموا خليفة، وكونوا عليهم رقباء لئلا يستبدّ مستبد، وقال: لا يأتي اليوم الثالث إلا وقد أقمتم أحدا من هؤلاء الستة خليفة، وجدّوا في أمركم، وجاهدوا عدوكم.
فلما قبض أنفذوا وصيته كما رسم. فكم في هذا من شاهد على بطلان دعاوي هؤلاء القوم، وما حاجة الصحابة أن يختار لهم عمر خليفة وقد فرغ لهم من ذلك رسول الله ﷺ وهو قائم العين نصب أعينهم. وأعجب من هذا قول عمر وهم يسمعون أن رسول الله ﷺ ما استخلف، وأعجب منه أن الذي يدّعون أن رسول الله استخلفه معهم في أن رسول الله ما استخلف، وأن الخلافة بالاختيار لا بالنص، وأنها في واحد منهم وفيهم الهاشمي والأموي والزهري والتيمي والأسدي، ففيمن كانت منهم كان صوابا، لا ينكر ذلك أحد من المسلمين. وأعجب من هذا قوله لعلي: إن ولوك فاعدل ولا تحمل بني هاشم على رقاب الناس. فكيف لم يقل له: ما أحتاج إلى توليتهم لي، ولاني رسول الله واختارني وشهد بعصمتي، وكيف تقول هذا لي، وكيف تقول إن رسول الله ﷺ ما استخلف؟
كيف رد المسلمون الأمر إلى عبد الرحمن بن عوف
وباب آخر
أن عليا والجماعة ردّوا الأمر إلى عبد الرحمن ليختار واحدا منهم للخلافة وعليهم الرضا بحكمه، فقال لهم: تكلموا فأخبروا الناس بذلك، فتكلموا، وقام أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم قال: لو عهد إلينا رسول الله ﷺ عهدا لجالدنا عليه حتى نموت، أو قال لنا قولا أنفذنا قوله على رغمنا، لن يسرع أحد قبلي إلى صلة رحم ودعوة حق، والأمر إليك يا ابن عوف وعلي صدق اليقين وجهد النصح وأستغفر الله لي ولكم. فلم يقل رضي الله عنه إن رسول الله ﷺ ما ولّاه ولا ولّى عليه.
ثم انظر في باب آخر في أمر عثمان وما لحقه في آخر أمره من الإعراض والخصومة، حتى تجرأ عليه العبيد والنساء والصغير والكبير، هل قرّعه أحد من خصومه وأعدائه بأنه جلس في غير مجلسه؟ وقد بالغوا في التشنيع عليه، وهو كان يسمى الخليفة المستضعف. فكيف لم يتقدم الخليفة المنصوص عليه فيأخذ الأمر من هذا الذي قد قهر وحصر. وأعجب من هذا أن المصريين أتوه رضي الله عنه بعد أن مضى عثمان فقالوا: امدد يدك نبايعك، فقال: ليس هذا اليكم، هذا للمهاجرين والأنصار، من أمّره أولئك فكان أميرا. فانظر كم يقول إن هذا أمر المسلمين وأنه بالاختيار. ثم إن المصريين انصرفوا عنه، فجاءه المهاجرون والأنصار، فقالوا: امدد يديك نبايعك، فقال لهم: اختاروا غيري تبايعونه وأبايعه، فلأن أكون لكم وزيرا خير من أن اكون أميرا، فدفعهم عن نفسه فعاودوه فقال لهم: إن عمر كان رجلا مباركا وقد جعلها شورى، قالوا: فأنت من الشورى وقد رضيناك، فقال: اختاروا غيري، فدفعهم فعادوا فقال: قد علمتم أني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، قالوا: قد رضيناك، فدفعهم ومشى إلى طلحة والزبير فعرضها عليهما، وقال: من شاء منكما بايعته، فقالا: لا، الناس بك أرضى، فترددوا إليه وهو يأبى ويقول: اختاروا غيري، فيقال إنهم اختلفوا إليه بعد مضي عثمان ثمانية أيام، ومنهم من يقول ... يوما وهو يقول: اختاروا غيري أبايعه وتبايعونه. هذا وقد مات أبو بكر وعمر وعثمان وما هناك سلطان ولا خليفة. فأين ما ادعيتموه؟
ثم إنه لما اتوا وألحوا عليه فقال بعد الحمد والثناء والصلاة: أيها الناس، أن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأتقاهم لله، ولا يحل بعد إلا برضى المهاجرين والأنصار، فإذا رضوا لم يكن الخيار، فإن شغب شاغب استتيب، فإن أبى قوتل حتى يفيء إلى أمر الله.
فانظر إلى هذا البيان والكشف، وأن الإمامة بالاختيار، وأنها إلى المهاجرين والأنصار، فقالوا: نبايعك على كتاب الله وسنة رسول الله، فإن لم تف فلا بيعة لك، قال: نعم.
ثم خطبهم فقال بعد الحمد والثناء والصلاة على النبي ﷺ مقدار نعم الله على الخلائق برسول الله ﷺ، ثم قال: إن الله يعلم أني كنت كارها للولاية على أمة محمد عليه السلام حتى اجتمع رأيكم على ذلك لأني سمعت رسول الله ﷺ يقول: أيما وال ولي الأمر بعدي أقيم على حد الصراط، ونشرت الملائكة صحيفته، فإن كان عادلا أنجاه الله بعدله، وإن كان جائرا انتفض به الصراط انتفاضة حتى تتزايل ما بين مفاصله ثم تتحرق به الصراط فيكون أول ما يتقي به النار أنفه وحر وجهه، ولكن لما اجتمع رأيكم لم يسعني ترككم. أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.
فانظر إلى هذا ففيه أتم كفاية، وانظر إلى بيانه أن الإمام يجور ويخطئ ويزل.
وخطبته المشهورة بالعراق التي لا يستطاع دفعها: أيها الناس، إنه لما توفي رسول الله ﷺ بايعتم أبا بكر فبايعت ورضيت، ثم بايعتم عمر فبايعت ورضيت، ثم بايعتم عثمان فبايعت ورضيت، حتى إذا مضى عثمان تداككتم عليّ كتداك عرف الصبع، فمددتم يدي فقبضتها وقلت: اختاروا لأنفسكم فأبيتم إلا مبايعتي، حتى إذا كثر الجمع ووطئ الحسبان وشق عطافه فأبيت إلا أن تكون بيعتي ظاهرة مكشوفة على منبر رسول الله ﷺ وفي مسجده، فبايعني كلّ، لا أرى منكرا، فلما قلدتمونيها نكث ناكثون ممن بايعني وقسط قاسطون، فلم أجد إلا قتال من بغى ومحاكمة من اعتدى إلى كتاب الله؛ وليس يجب إنكار إمامة من عقدت له الإمامة إلا أن يجور في حكم أو يعطل حدا أو يضعف عن القيام بها؛ فوالله ما عطلت لكم حدا، ولا جرت عليكم في حكم، ولا ضعفت عن القيام بالإمامة، فأوجبوا لي على أنفسكم مثل ما أوجبتموه لمن تقدمني من أبي بكر وعمر وعثمان يرحمهم الله.
فانظر كيف يذكرهم ببيعة الخلفاء قبله ورضاه بهم، ويجعلهم إجماعا وحجة على الأمة، ويذكر أنه صار إماما ببيعتهم له، وأنهم هم قلدوه إياها، وأنه لا يحل انكار إمامة الإمام إلا أن يجور في حكم أو يعطل حدا أو يضعف عن القيام بها، وأن هذا جائز على كل امام بعد رسول الله ﷺ. وهو رضي الله عنه أعلم بنفسه وبدينه وأفقه في دين الله. فينبغي الرجوع إلى قوله لا إلى قول هؤلاء. وقد قال في خطبة له بالمدينة وهو يأمر الناس بتفقد أفعاله وأحكامه: رحم الله رجلا رأى حقا فأعان عليه، ورأى جورا فردّه، وكان عونا بالحق على من خالفه.
وقد قال الحسن ابنه رضي الله عنهما لأهل الكوفة حين استنفرهم إلى أبيه: يا أيها الناس، إن أمير المؤمنين يقول إني خرجت مخرجي هذا ظالما أو مظلوما، وإني أذكر الله رجلا رعى الله حقا إلا نفر، فإن كنت مظلوما أعانني، وإن كنت ظالما أخذ مني.
ومن مقاماته بالبصرة يوم الجمل بعد انقضاء الحرب فقال: أين مثوى القوم؟ قالوا: صرعى حول الجمل، فقام خطيبا فقال بعد حمد الله والثناء: توفي رسول ولم يعهد إلينا في الإمارة عهدا فنتبع أثره، ولكنا رأيناها من تلقاء أنفسنا، فإن يك صوابا فمن الله، وإن يك خطأ فمنا ومن الشيطان. استخلف أبو بكر ويرحم الله أبا بكر فاستقام وأقام، ثم استخلف عمر ويرحم الله عمر فاستقام وأقام، ثم ضرب الدين بحرانه، يرحم الله من يشاء ويعذب من يشاء.
ثم القول الذي كان يقوله ويعيده ويبديه ويذكر أيام الإلفة والاستقامة وما حدث بعد ذلك من الخلاف في آخر أيام عثمان: "سبق رسول الله ﷺ، وصلى أبو بكر، وثلّث عمر، ثم خبطتنا فتنة فما شاء الله". قوله ما شاء الله على طريق الاستغاثة بالله لأن الله يشاء نصرة الحق ولا يشاء الله الباطل، أي اللهم افعل ما تشاء. قد قال الحسن البصري فيما حكاه الله عن أحد الرجلين: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ} أي ما شاء الله من شكره وحمده والرجوع إليه.
ولما فرغ أمير المؤمنين من أمر البصرة وبلغه خلاف معاوية وندب الناس إلى حربه، دخل عليه ابن الكوّاء وقيس بن عباد اليشكري وهناك أصحابه فقالا له: أخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت تضرب الناس بعضهم ببعض ليتبين الناس أمورهم فتستولي بها عليهم، أمن رأي رأيته حين تفرقت الأمة واختلفت الدعوة أنك أحق الناس بهذا الأمر، فإن كان رأيا رأيته أجبناك في رأيك، وإن كان عهدا عهده إليك رسول الله ﷺ فأنت الموثوق به والمصدق المأمون على رسول الله فيما حدثت عنه، قالوا: فتشهّد أمير المؤمنين وحمد الله وقال: لأنا والله أول من صدقه فلا أكون أول من كذب عليه، أما أن يكون عندي عهد من رسول الله ﷺ فلا والله، ولو كان عهد من رسول الله ما تركت أخا تيم بن مرة ولا ابن الخطاب على منبره ولو لم أجد إلا يدي هذه، ولكن نبيكم نبي الرحمة لم يقتل قتلا ولم يمت فجأة، مرض ليالي وأياما، يأتيه بلال يؤذن بالصلاة فيقول له: ائت أبا بكر-وهو يرى مكاني- فلما قبض الله نبيه عليه السلام نظرنا في أمرنا، فإن الصلاة أعظم الإسلام وقوام الدين فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله ﷺ لديننا، فولينا أبا بكر أمورنا، فأقام بين أظهرنا، الكلمة جامعة والأمر واحد، لا يختلف عليه منا اثنان، ولا يشهد أحد منا إلى صاحبه بالشرك ولا يقطع منه البراءة، فكنت والله آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بيدي هذه الحدود بين يديه. فلما قبض أبو بكر ظن أن عمر أقوانا عليها وأحمل لها منا فولاها عمر، فأقام عمر بين أظهرنا، الكلمة جامعة والأمر واحد، لا يختلف عليه منا اثنان ولا يشهد أحد منا على صاحبه بالشرك، فكنت والله آخذ إذا اعطاني وأغزو إذا أغزاني، وأضرب هذه الحدود بين يديه. فلما حضرت عمر الوفاة ظن أنه إن يستخلف خليفة فيعمل ذلك الخليفة بخطئه إلا لحقت عمر في قبره، فأخرج منها ولده وأهل بيته وجعلها في ستة رهط من قريش، وكان فينا عبد الرحمن بن عوف فقال: هل لكم إلى أن ادع لكم نصيبي منها على أن أختار لله ولرسوله والمسلمين، فقلنا: نعم، فأخذنا ميثاقه على ذلك وأخذ ميثاقنا على أن نسمع ونطيع لمن ولاه أمرنا، فضرب بيده على يد عثمان، فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا ميثاقي لغيري في عنقي، فأديت إلى عثمان حقه، وكنت أضرب بين يديه الحدود. فلما قتل عثمان رحمه الله، نظرت فإذا الخليفتان اللذان أخذاها من رسول الله ﷺ بالعهد في الصلاة قد هلكا ولا عهد لهما، وإذا الخليفة الذي أخذها بمشورة المسلمين قد قتل وخرجت ربقته من عنقي وقتل ولا عهد له. فلما قتل، بايعني أهل هذين الحرمين مكة والمدينة، وأهل هذين المصرين البصرة والكوفة؛ فجاء معاوية يقاتلني مع أهل الشام وكنت أحق بالأمر منه؛ كنت مهاجرا وكان أعرابيا، وكنت سابقا وكان طليقا، وكان لي الصحبة. قالوا: صدقت، أنت أحق من معاوية.
فتأمل هذا الشرح والكشف وحصّل ما فيه، فلو لم يكن معك غيره لكان فيه أتم كفاية. وإنما سألوه هل معه في ذلك عهد من رسول الله ﷺ ألقاه إليه وحده كما سأل عمران بن حصين وأبو الأسود الدؤلي عائشة وطلحة والزبير كل واحد منهم على انفراده، هل معه العهد من رسول الله في مسيره، فكلهم قال: لا.
فإن قيل: قد علمنا أنه كان يأخذ إذا اعطوه، ويقيم الحدود بين أيديهم ويعينهم، فمن أين لنا أنهم غزوه؟ قلنا: لو لم يكن معنا خبر بأنهم قد غزوه إلا هذا لكفى وأغنى.
وكان رضي الله عنه قد أنكر من معاوية تبسطه في زمن عثمان فتنكر له، وأشار عليه بعض أصحابه فقال: أنت بقية الناس ولك حق الطاعة، فأقر ابن عامر ومعاوية وغيرهما فإنهم يبايعون لك الناس، ويهدئون البلاد ويسكنونهم. فقال له: والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي ولا وليت هؤلاء ولا مثلهم يولى، والله لا أداهن في ديني ولا أعطي الدني في أمري. وكان المغيرة هو الذي أشار عليه بهذا، فلما قدم ابن عباس من مكة استشاره أمير المؤمنين فقال: ما ترى فقد أشار المغيرة بإقرار معاوية، فقال: قد نصح لك يا أمير المؤمنين فافعل واقبل، فقال: والله ما أشك أن ذلك خير في عاجل الدنيا لأصحابها، وما الذي يلزمني من الحق والمعرفة ألا أولي منهم أحدا، فإن قبلوا ذلك فخير لهم، وإن أدبروا بذلت لهم السيف، وما علي إلا الاجتهاد. فقال له ابن عباس: خله أوله ثم انزعه من غير نقصان ولا إثم، فقال: لا أفعل، ما كنت متخذ المضلين عضدا، أخاف أن يظلم مسلما أو معاهدا فأجده في صحيفتي، لا أوليه ساعة واحدة. فراجعه ابن عباس فقال: لا يظلم، فقال: لا أشرك في أمانتي إلا من أرضاه.
فانظر إلى هذه المكاشفة بالحق في جميع أموره لتعلم فرية من نسبه إلى الخوف من المخلوقين وقولهم إنه كان يقي نفسه بدينه. وكان رضي الله عنه إذا سئل المداراة وخوّف من الخلاف يقول: أبالموت تخوفونني، فوالله ما أبالي سقطت على الموت أم سقط الموت عليّ. وكان يقول: عليّ آنس بالموت من الطفل بثدي أمه، ومذ أمره الله ونهاه ما رأى منكرا قط ولا سمعه إلا ردّه وأنكره، ولا رأى معروفا إلا شيده وقوّاه ونصره. وكان ظاهره كباطنه، وسره كعلانيته. وكان لا يخاف الجبابرة الطغاة الذين يخافهم البشر، فكيف [يخاف] أبا بكر وعمر وعثمان، ولا يخاف سلطانهم محق ولو أنه عبد أو امرأة أو ذمي كما تقدم شرح ذلك. لتعلم أن معونته لهم ونصرته لسلطانهم وطاعته لهم في حياتهم وتنفيذه وصاياهم بعد موتهم لأنهم أئمة هدى.
وقد كتب رضي الله عنه إلى معاوية: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان. أما بعد، فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم على ما بويعوا عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما كان ذلك رضى لله، فإن خرج من أمرهم ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على ابتغائه {غير سبيل المؤمنين} وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. فما دخل معاوية فيما دخل فيه المسلمون. فإن أحب الأمر إلي فيك العافية إلا أن تتعرض للبلاء، فإن تعرضت قاتلتك واستعنت بالله عليك، فقد أكثرت في قتلة عثمان يرحمه الله. فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم على الحق وعلى كتاب الله، فأما تلك التي تريدها فهي خدعة الصبي عن اللبن. ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان رضي الله عنه. واعلم يا معاوية أنك من الطلقاء الذين لا يحل لهم الخلافة ولا يعرض فيهم الشورى، وقد آتاك ومن قبلك جرير بن عبد الله، وهو من أهل الإيمان والهجرة فبايع، ولا قوة إلا بالله.
فانظر هل يحتج إلا بالاختيار وبالشورى وبالاجماع وبسنة الخلفاء قبله، فهم عنده حجة وقدوة. وكم يقول ويبين أن الإمامة إلى المهاجرين والأنصار فمن بايعون وعقدوا له كان إماما، فهو يحتج بأن طاعته طاعة الخلفاء قبله. وعند الإمامية أن التدين بالاختيار وبالشورى والاقتداء بأبي بكر وعثمان شرك وكفر، وهم مع هذا يدّعون أنهم شيعة لأمير المؤمنين. فهل سمعت بأعجب من هذا.
وانظر مكاشفته بالحق لمعاوية، وقوله في كل إنسان ما فيه، وقوله له إنك أظهرت الطلب بدم عثمان وما ذاك قصدك ونيتك، وإنما نيتك وقصدك وضميرك الملك والدنيا، ولم يكن لك سابقة في الدين تحل لك بها الخلافة، فما تأخذه رضي الله عنه لومة لائم ولا يتقي أحدا من المخلوقين.
وكان يقول: أيها الناس، إنما أهلك من كان قبلكم خبث أعمالهم حين لم ينههم الربانيون والأحبار فيأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، فإن ذلك لن يقدم من أجل ولن يؤخر رزقا. وكان يقول: لا خير في قوم لا يرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضا، ولا خير في قوم يأمن بينهم أهل المعاصي ويعملون بينهم بالكبائر. وكان يقول: قال لي رسول الله ﷺ: اقرب الشهداء مني وأفضلهم عندي بعد حمزة وجعفر من قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله.
وكم له رضي الله عنه مثل هذا الكتاب إلى معاوية، يمدح فيه الخلفاء قبله ويذم معاوية. وكم له من الرسل إليه في هذا المعنى. وما رضي من إنكار المنكر حتى سافر إلى أهله بعد المكاتبة فشافههم به. فسار إلى معاوية ونزل بصفين، وأقام نحو الشهرين لا يحارب ولا يقاتل، ويقيم الحجة على معاوية ويبين براءته من دم عثمان ومن خذلانه، وأنه قد بذل لعثمان النصرة فأباها عثمان وكره القتال، وأراد أن ينصرف القوم عنه راضين بغير قتال، وأنه ما ظن ولا ظن عثمان أنه يقتل، وأن القوم اغتالوه وتسلقوا عليه وقتلوه ليلا. ويستشهد على ذلك المهاجرين والأنصار، ثم يحلف بعد هذا ويقول: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله ولا رضيت ولا هويت، ويلعن قتلة عثمان ويقول: اللهم العن قتلة عثمان في الليل والنهار والبر والبحر، ويرفع يديه بذلك حتى يبين ما تحت منكبيه. وقد فعل مثل ذلك بالبصرة، فقال معاوية: نحن نصدقه، ولكن في عسكره شناة عثمان وغزاته يسلمهم إلينا. إلى أن قال أهل الشام: تخلّي معاوية على الولاية وهو يسمع لك ويطيع، فقال: لا أفعل، وسألوه في ذلك فما أجاب. فأتاه وفد أهل الشام وفيهم رجل يقال له حوشب ذو ظليم له قدر ونباهة، فقام فقال: ألا ترى يا علي أن الله قد قسم لك قسما حسنا فخذه بشكر، إن لك قدما في الإسلام وسابقة وقرابة من رسول الله ﷺ وصهرا وتجربة وسنا، فإن تتلف بيننا غدا فإنه لبوار العرب وضيعة الحرمات، ولكن انصرف راشدا وخلّ بيننا وبين شامنا واحقن دماءنا ودماء أصحابك. فقال له رضي الله عنه: إنك لم تأل عن النصيحة بجهدك، ولو علمت أن ذلك يسعني في ديني أجبتك ولكان أهون عليّ من المؤونة، ولكن الله لم يرض لأهل القرآن أن يعمل بمعاصي الله في أكناف الأرض وهم سكوت لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، واعلم يا حوشب أني قد ضربت الأمر ظهره وبطنه وأنفه وعينه، حتى لقد منعني من نوم الليل، فما وجدته يسعني إلا قتالهم أو الكفر بما جاء به محمد ﷺ، فكان معالجة القتال أهون من معالجة الأغلال، وكانت مؤونات الدنيا أهون علي من النار.
فتأمل ما في هذا القول من الأنوار والحجج الشاهدة ببطلان دعاوي هؤلاء القوم، فإنهم زعموا أنه مكث خمسا وعشرين سنة مع أبي بكر وعمر وعثمان وقد كفروا وارتدوا لا ينكر عليهم، بل كان أكبر اعوانهم، وهو يقول هذا القول. وكان أصحابه يقولون لأهل الشام -مثل عمار بن ياسر وقيس بن سعد وشريح بن هانئ وعدي بن حاتم وصعصعة بن صوحان والأشتر-: إن عليا إذا ظهر سار فيكم سيرة أبي بكر وعمر، وإن معاوية لا يفعل ذلك، إنما يريد العاجلة ويطلب الدنيا، وإن صاحبنا كان يتقدم عند أبي بكر وعمر ويرجعان إلى رأيه، وقولهم إن صاحبنا من البدريين والمهاجرين وليس صاحبكم كذلك. فانظر بأي شيء يمدحونه وبأي شيء يحتجون له، لتعرف بطلان دعاوي هؤلاء القوم. فإنهم يقولون: الحجة في إمامته نصّ النبي عليه، وظهور المعجزات عليه بعد النبي ﷺ. وهو رضي الله عنه لا يذكرها هو ولا يحتج بها ولا يعرفها، ولا أحد من ولده وأهل بيته وشيعته في زمانه.
ولما رفع أهل الشام المصاحف وقالوا: بيننا وبينكم ما جاء به رسول الله ﷺ، ردونا إليه فقد رضينا به، وهذا كتاب الله؛ فما قال لهم هو ولا أصحابه: فرسول الله قد نص عليّ وقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه»، وهذا نصّ أو تأويله النص أو معناه النصّ، أو آية كذا أو حديث كذا، فما احتج عليهم لا هو ولا شيعته الذين قتلوا بين يديه بشيء مما يذكره هؤلاء.
ولما قال له أصحابه: ضعفت وسكنت في نفسك حتى حكمت الرجال في أمرك، وأي حاجة كانت بك إلى هذا وقد بايعك المهاجرون والأنصار، وما أحوجنا واياك إلى إمام مثل عمر يسوسنا ويسوسك، وقد كفرت بما صنعت. فما احتجّ عليهم لا هو ولا من كان يحتج عنه مثل ابن عباس وصعصعة بأني معصوم ولا أخطئ ولا أعصي، وأن النبي ﷺ قد نص عليّ وقد رأيتم المعجزات أو قد بلغتكم؛ وما احتج عليهم إلا بما قد تقدم لك في كل وقت وكل حال.
وكان يقول: والله لتخضبن هذه من هذه، ويشير إلى لحيته وهامته، فيقول له أصحابه: لو علمنا من ذلك لأبدنا وأبرنا، فيقول: كيف تقتلونه ولم يقتلني، فيقولون: يا أمير المؤمنين أوص واستخلف، فيقول: ما أوصى رسول الله فأوصي ولا استخلف رسول الله ﷺ فأستخلف، فيراجعونه فيرجع عليهم بمثل ذلك ثم يقول: إن ادع فقد ترك من هو خير مني، وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني. ولما ضربه ابن ملجم الملعون دخلوا عليه فقالوا: استخلف، فقال: لا، إنا دخلنا على رسول الله ﷺ فقلنا يا رسول الله: استخلف فقال: لا، أخاف أن تفرقوا عنه كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون، ولكن إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يخر لكم. قال أمير المؤمنين: فعلم [الله والله] في قلوبنا خيرا فاختار لنا أبا بكر، ثم أقبل على صعصعة بن صوحان وكان في القوم فقال: ولكن يا صعصعة، إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يخر لكم. فتركوه ثم عاودوه فما فعل، وسألوه أن يشير عليهم بأحد فما فعل، فقالوا له: إن فقدناك يا أمير المؤمنين فلا نفقدك أن نبايع الحسن، فقال لا آمركم ولا أنهاكم. فعادوا القول فقال كذلك أنتم أبصر، وكان آخر عهدهم به، وقبض صلوات الله عليه، فلم يقل غير هذا.
فإن قالوا: فإنا لا نقبل هذه الأخبار، قلنا: لو قلتم إنه ما جرى بينه وبين العباس ما قلنا، ولا كان من الأنصار في السقيفة ما ذكرنا، ولا كان من أبي بكر والصحابة في استخلاف عمر ما قلنا، ولا دخل علي في الشورى، ولا صلى خلف صهيب، ولا رجع إلى عبد الرحمن، ولا سأل القوم عمر أن يستخلف عليهم، ولا قال إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، بل ما وضع عمر شورى أصلا؛ وهذا كله كذب، ما كان عندنا في ذلك إلا ما عندنا في إنكاركم ما كان من أمير المؤمنين. وكذا لو قلتم ما كاتب معاوية، ولا رفع معاوية المصاحف، ولا كان من أمير المؤمنين وبين أصحابه الذين صاروا خوارج ما ذكرنا. ولكنكم لو سلمتم هذا لبطل مذهبكم، ولو أنصفتم لتركتموه وصرتم إلى مذاهب أمير المؤمنين وهي هذه التي قد ذكرناها. وما شأنكم إلا إنكار ما قد كان وادعاء ما لم يكن، وما لو كان له أصل لكان العلم به قد قهر. وفي أقل قليل مما كتبت دليل على بطلان دعاويهم. وإنما ذكرنا لك هذا في هذا الموضع لأنك طلبته وذكرت حاجتك إليه.
وكثيرا تسأل الإمامية عما كان من عثمان في تولية أقاربه وغير ذلك وفي سير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة، وما ذاك إلا لضعفهم وانقطاعهم، لأن عثمان ولو لم يول اقاربه ولم يصنع ما صنع لكان كافرا مشركا عندهم بادعائه الإمامة لنفسه ولأبي بكر وعمر، ولو كان طلحة والزبير وعائشة في عسكر أمير المؤمنين وفي المحاربين معه ما كانوا إلا مشركين باعتقادهم إمامة أبي بكر وعمر وعثمان. فكلام الإمامية في هذا الكلام مسلم لو كلم اليهود في وجوب النية في الطهارة، أو كلم النصارى في استحلالهم الخمر. وإنما يكلم في هذا من قال: لا ذنب لعثمان إلا ما أتاه من الحمى وتولية الأقارب ولولا ذلك لكان مثل عمر، ومن قال: لا ذنب لطلحة والزبير وعائشة إلا مسيرهم إلى البصرة ولولا ذلك لكانوا مثل أبي عبيدة وعبد الرحمن وابن مسعود.
فاعرف هذا ولا تكلمهم فيه البتة، وكلمهم فيما يدعونه من النص فهو الأصل. وأما طلحة والزبير وعائشة فإنهم إنما سلموا علينا لأنهم سلموا على أمير المؤمنين، وتوليناهم وزكيناهم لأنه زكاهم وتولاهم ومدحهم وترحم عليهم بعد [ما] كان منهم بالبصرة وبعد موتهم، فلو عاديناهم لكنا قد خالفناه وسرنا بغير سيرته وسلكنا غير سبيله. ونحن لا نرى خلافه، بل هو إمامنا وسيدنا والقدوة عندنا، وهو الذي ظاهره كباطنه وسريرته كعلانيته.
وهذا كلام مع الخوارج فيقال لهم: علي بن أبي طالب إمام هدى، وإنما برئتم منه وادعيتم أنه كفر بالتحكم، وقبل ذلك كان مرضيا، وقد زكى هؤلاء قبل التحكيم، وقد وجب عليكم الاقتداء به. فإن قالوا: ومتى كان هذا منه؟ قلنا: قد كان يتصفح القتلى بعد انقضاء الحرب، فمر بطلحة وهو صريع فنزل إليه وأخذ رأسه في حجره ومسح التراب عنه وقال: يرحمك الله يا أبا محمد، يعزّ عليّ أن اراك قتيلا تحت نجوم السماء وفي أودية الأرض، ثم انشد:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ** إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
وأمر بجمع القتلى وصلى عليهم وأمر بدفنهم. ودخل عليه ولد طلحة فأدناه وقربه وقال له: يا ابن اخي، خذ كتابي إلى قرظة بن كعب الأنصاري ليرد عليكم أموالكم وما أخذ منها، فما أمرته بإدخال يده فيها، إنما أردت قبضها لئلا تمتد إليها أيدي السفهاء وليحفظها عليكم، اتبسط يا ابن اخي في الحاجة تكون لكم فاني أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله: {وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوانًا عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ}.
ولما قيل له رضي الله عنه: قاتل الزبير بالباب يستأذن، انزعج هو وأولاده حزنا عليه وإنكارا لقتله، وصار عندهم مأتم ومصيبة عظيمة، وقال: كيف قتله وليس من اقرانه؟ قالوا: اغتاله ومعه سيفه، فقال: خذوا السيف منه وبشروه بالنار، فأخذ السيف منه، فما زال أمير المؤمنين يقلب السيف ويقول كم كربة كشفها صاحب هذا السيف عن وجه رسول الله ﷺ، ولم يأذن له في الدخول عليه. ثم دخل عليه بعد ذلك مع الناس فقال: نحن أهل البلاء فلم نجفا؟ قال: من تكون؟ قال: قاتل الزبير، قال أمير المؤمنين: بفيك الحجر، بفيك الحجر، ليلج قاتل الزبير النار، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لكل نبي حواري وحواري الزبير» وسمعته يقول: «الزبير في الجنة وطلحة في الجنة»، فقال ابن جرموز: إنما قتلته أبتغي بقتله عند عليّ الزلفة فبشرني بالنار، وندم على قتله، وصار ينكر أن يكون قتله.
وجهز عائشة بكل ما تحتاج إليه، وشيعها هو وأولاده، وقال لأخيها ومن خرج معها: بلغوها، ووصّى بإكرامها، وكان يقول لها: يا أمّه، وأمّ المؤمنين سائرة، فمن أراد المسير معها ممن قدم بقدومها فليسر، وقال: أيها الناس، إنها أمكم وزوجة نبيكم في الدنيا وزوجته في الجنة، وردها إلى سدانة قبر رسول الله وإلى بيتها، وأعطاها ما كان يعطيها من قبله من الخلفاء.
ولا يحل لامرأة زعم هؤلاء أنها كافرة يردها أمير المؤمنين إلى قبر رسول الله ﷺ [وتعطى] ما يعطى أمهات المؤمنين، سيما والمدينة في ملكه وسلطانه وفيها عماله، وليس به في أمرها حاجة إلى المداراة والمداهنة بعد مقاتلتها كما كان بزعمهم يفعل مع من تقدم من الخلفاء.
وكم كان يركب إليها هو وأولاده وابن عباس وعبد الله بن جعفر، ويجلسون إليها ويعظمونها، وقد استغفرت واستغفر لها أمير المؤمنين. وقد سمع عمار ابن ياسر رجلا ينال منها والحرب قائمة فقال له: اسكت مقبوحا منبوحا، والله إنا لنقاتلها وإنا لنعلم أنها زوجة نبيكم ومعه في الجنة، ولكن الله ابتلانا بها ليعلم إياه نطيع أم إياها. وشرح إكرامه لها وإكرام أولاده وهم بالبصرة يطول. وكانت هي تلعن أصحابه الذين ارتدوا عنه ولعنوه وصاروا خوارج وتبرأ منهم، وتروي عن رسول الله ﷺ تصويبه وتضليلهم، وتقول: أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد فسبّوهم، وتسميهم كلاب النار. ولما بلغها موته استرجعت وقالت: ذهب والله من لم يسفهه الملك ولا أطغته الدنيا، لتصنع العرب ما شاءت فما بقي بعد ابن أبي طالب من يكفّها ولا يردعها، ثم انشدت:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ** كما قر عينا بالإياب المسافر
وكم قد طعنت على معاوية وواجهته بالتخطئة لما ورد المدينة ودخل عليها، حتى أخجلته وهو جبار قد غلب، وكم فعل ذلك به أخوها عبد الرحمن بما يطول شرحه. ولا يرد هذه الأخبار إلا معاند أو من قال إنه كان يلعنها كما يلعن معاوية ولم يردّها إلى المدينة، ومن قال هذا فقد أتى في البهت على ما لا فيه حيلة.
والإمامية تقول: قد فعل هذا ولكن على طريق حسن العشرة وعلى سبيل التكرم والتفضل، قيل لهم: هو ﷺ أجل قدرا وأشد ورعا من أن يرد امرأة كافرة أو فاسقة إلى قبر رسول الله ﷺ ويمكنها منه، ويعطيها ما يعطي أمهات المؤمنين ويسميها أم المؤمنين، ويشهد لها بما قلنا، ويترحم على كافرين، ويرد الأموال ويشهد لهما بالجنة؛ هذا لا يحل في دين الله ولا يفعله مثله ﷺ بوجه من الوجوه. وإنما قوله: «بشر قاتل ابن صفية بالنار»، وقوله: ليلج قاتل الزبير النار على طريق التزكية له كقول رسول الله ﷺ: «تقتل عمار الفئة الباغية» على طريق التزكية لعمار.
فإن قالوا: لم لم يقتل قاتل الزبير؟ قلنا: لم يكن ذلك له وإنما هو لولد الزبير، فإن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا عفوا.
ومن عجيب الأمور أن عبد الله بن الزبير قام بعد معاوية ودعا إلى نفسه لإمرة المؤمنين، وغلب على الأرض بسبع سنين إلا كورة فلسطين، وانبثّ عماله في الامصار، وعمرو بن جرموز حيّ بالبصرة فما تعرضوا له. ولقد قرئت جريدة أهل البصرة على مصعب بن الزبير بالبصرة، فقرأ الكاتب عمرو بن جرموز، فقال قائل لمصعب أصلح الله الأمير وعمرو بن جرموز وقد ساح في الأرض وسار في البلاد، فقال مصعب: أوظن ابن جرموز اني أقيده بأبي عبد الله، ليظهر ابن جرموز آمنا وليأخذ عطاءنا مسلما، فظهر وأخذ وأمن وترفع ولد الزبير عن قتله وقد كان لهم ذلك، وهو إليهم. فكيف يتعجب عاقل من عفو أمير المؤمنين عنه وليس القود له.
وكان عمرو بن جرموز بعد الذي سمعه من أمير المؤمنين شديد الندم على قتله، كثير الاستغفار، شديد الإشفاق. وقد بقي بعد زوال آخر آل الزبير ومصير الملك إلى عبد الملك، فكان الحجاج يقول له: أنت قتلت الزبير؟ -لشدة عداوة الحجاج وبني أمية لآل الزبير- فيقول ابن جرموز: ما قتلت أحدا، فيقول له الحجاج: وما عليك في قتله، وقتله خير لك من جزاء وتدبير حسنات، يشجعه الحجاج لينصرف عن الغم والندم بما قاله أمير المؤمنين له في دخول النار بقتل الزبير، لتعلم رحمك الله شهرة انكار أمير المؤمنين على من اعترف بقتل الزبير. ولكن طال الأمر وقل الطالب المتأمل.
فإن قيل: فكيف سبيل تلك الدماء التي كانت بينهم يوم الجمل؟ قيل له: إن أمير المؤمنين رضي الله عنه أعلم بذلك وأفقه في الدين وأشد في الورع، ولم يكن ليقول في هؤلاء وفي غيرهم ما لا يحل ولا يجوز في الدين، فقد كفانا حكمه عن البحث والطلب، وإن كان العلماء قد ذكروا اتفاق رأي أمير المؤمنين وطلحة والزبير وعائشة على الصلح ووضع الحرب واستقبال النظر في الأمر، وأن من كان في العسكر من أعداء عثمان كرهوا ذلك وخافوا أن تتفرغ الجماعة لهم، وقالوا: لنشغلهم عنا بنفوسهم، فدبروا في إلقاء الحرب بينهم ما هو مذكور فتم لهم ذلك، وما بك حاجة هاهنا إلى ذكره، وأفعال أمير المؤمنين تغنيك، فإن أردته وجدته في كتب العلماء.