الرئيسيةبحث

تتفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة المدثر

{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } * { قُمْ فَأَنذِرْ } * { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } * { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } * { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } * { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } * { وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ } * { فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ } * { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } * { عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } * { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } * { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } * { وَبَنِينَ شُهُوداً } * { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } * { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } * { كَلاَّ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً } * { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } * { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } * { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } * { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } * { ثُمَّ نَظَرَ } * { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } * { ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ } * { فَقَالَ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } * { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ } * { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } * { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } * { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } * { لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } * { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } * { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ } * { كَلاَّ وَٱلْقَمَرِ } * { وَٱللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ } * { وَٱلصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ } * { إِنَّهَا لإِحْدَى ٱلْكُبَرِ } * { نَذِيراً لِّلْبَشَرِ } * { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } * { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } * { إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ } * { فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ } * { عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ } * { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } * { قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ } * { وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ } * { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ } * { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } * { حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ } * { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } * { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } * { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ } * { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } * { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } * { كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ ٱلآخِرَةَ } * { كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } * { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } * { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ } تدثر: لبس الدثار، وهو الثوب الذي فوق الشعار، والشعار: الثوب الذي يلي الجسد،ومنه قوله ﷺ: الأنصار شعار والناس دثار . النقر: الصوت، قال الشاعر:

أخفضه بالنقر لما علوته     ويرفع طرفاً غير خاف غضيض

وقال الراجز:

أنـا ابـن ماويـة إذ جـد النقـر    

يريد النقر، فنقلالحركة، فالناقور فاعول منه، كالجاسوس مأخوذ من التجسس. عبس يعبس عبساً وعبوساً: قطب، والعبس: ما تعلق بأذناب الإبل من أبعارهاوأبوالها. قال أبو النجم:

كأن في أذنابهن الشوّل     من عبس الضيف قرون الإبل

بسر:قبض ما بين عينيه وأربد وجهه، قال:

صحبنا تميماً غداة الجفار     بشهباً ملومة باسره

وأهل اليمن يقولون: بسر المركب وأبسر إذا وقف، وقد أبسرنا، وتقول العرب: وجه باسر بين البسور، إذا تغيرواسود، لاحه البسر: غير خلقته، قال:

تقول ما لاحك يا مسافر     يا ابنة عمي لاحنى الهواجر

وقالآخر:

وتعجب هند إن رأتني شاحباًتقول لشيء لوحته السمائم    

وقال الأخفش: اللوح: شدة العطش، لاحه العطش ولوحهغيره. وقال الشاعر:

سقتني على لوح من الماء شربة     سقاها به الله الرهام الغواديا

ويقال:التاح، أي عطٰ. القسورة: الرماة والصيادون، قاله ابن كيسان؛ أو الأسد، قاله جماعة من اللغويين، قال:

مضمر تحدره الأبطال     كأنه القسورة الريبال

أو الرجال الشداد، قال لبيد:

إذا ما هتفنا هتفة في ندينا     أتانا الرجال الصائدون القساور

أو ظلمة أول الليل لا ظلمة آخره، قاله ابن الأعرابي وثعلب. {يأَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبّكَ فَٱصْبِرْ فَإِذَا نُقِرَ فِى ٱلنَّاقُورِ فَذَلِكَيَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداًثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ إِنَّهُ كان لاْيَـٰتِنَا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَقَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِسَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَـٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّمَلَـئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِيمَـٰناً وَلاَ يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم }. هذه السورة مكية، قال ابن عطية بإجماع. وفي التحرير، قال مقاتل: إلاآية وهي: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً }. ومناسبتها لما قبلها أن في ما قبلها { ذَرْنِى وَٱلْمُكَذّبِينَ } ، وفيه { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ } ، فناسب {رَّحِيمٌ يأَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ }، وناسب ذكر يوم القيامة بعد، وذكر بعض المكذبين في قوله:{ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً }. قال الجمهور: لما فزع من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض ورعب منه،رجع إلى خديجة فقال: زملوني دثروني، نزلت {رَّحِيمٌ يأَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ }. قال النخعي وقتادة وعائشة: نودي وهو في حال تدثره،فدعى بحال من أحواله. وروي أنه كان تدثر في قطيفة. قيل: وكان يسمع من قريش ما كرهه، فاغتم وتغطى بثوبهمفكراً، فأمر أن لا يدع إنذارهم وإن أسمعوه وآذوه. وقال عكرمة معناه: يا أيها المدثر للنبوة وأثقالها، كما قال فيالمزمل. وقرأ الجمهور: {ٱلْمُدَّثّرُ } بشد الدال. وأصله المتدثر فأدغم، وكذا هو في حرف أبي على الأصل. وقرأ عكرمة: بتخفيفالدال، كما قرىء بتخفيف الزاي في المزمل، أي دثر نفسه. وعن عكرمة أيضاً: فتح التاء اسم مفعول، وقال: دثرت هذاالأمر وعصب بك. {قُمْ فَأَنذِرْ }: أي قم من مضجعك، أو قم بمعنى الأخذ في الشيء، كما تقول: قام زيديضرب عمراً، أي أخذ، وكما قال:

عـلام قـام يشتمنـي لئيـم    

أي أخذ، والمعنى قم قيام تصميم وجد، {فَأَنذِرْ }: أيحذر عذاب الله ووقائعه، والإنذار عام بجميع الناس وبعثه إلى الخلق. {وَرَبَّكَ فَكَبّرْ }: أي فعظم كبرياءه. وقال الزمخشري: واختصربك بالتكبير، وهو الوصف بالكبرياء، وأن يقال: الله أكبر. انتهى. وهذا على مذهبه من أن تقديم المفعول على الفعل يدلعلى الاختصاص، قال: ودخلت الفاء لمعنى الشرط، كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره. انتهى. وهو قريب مما قدره النحاةفي قولك: زيدا فاضرب، قالوا تقديره: تنبه فاضرب زيداً، فالفاء هي جواب الأمر، وهذا الأمر إما مضمن معنى الشرط، وإماالشرط بعده محذوف على الخلاف الذي فيه عند النحاة. {وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ }: الظاهر أنه أمر بتطهير الثياب من النجاسات، لأنطهارة الثياب شرط في صحة الصلاة، ويقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة، والقول بأنها الثياب حقيقة هو قول ابن سيرينوابن زيد والشافعي، ومن هذه الآية ذهب الشافعي إلى وجوب غسل النجاسة من ثياب المصلي. وقيل: تطهيرها: تقصيرها، ومخالفة العربفي تطويل الثياب وجرهم الذيول على سبيل الفخر والتكبر، قال الشاعر:

ثم راحوا عبق المسك بهم     يلحفون الأرض هداب الأزر

ولا يؤمن من أصابتها النجاسة وفي الحديث: «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناحعليه فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من ذلك ففي النار». وذهب الجمهور إلى أن الثياب هنا مجاز. فقالابن عباس والضحاك: تطهيرها أن لا تكون تتلبس بالقذر. وقال ابن عباس وابن جبير أيضاً: كنى بالثياب عن القلب، كماقال امرؤ القيس:

فسلـي ثيابـي مـن ثيابـك تنسلـي    

أي قلبي من قلبك وعلى الطهارة من القذر، وأنشد قول غيلان بنسلمة الثقفي:

إني بحمد الله لا ثوب غادر     لبست ولا من خزية أتقنع

وقيل: كناية عنطهارة العمل، المعنى: وعملك فأصلح، قاله مجاهد وابن زيد. وقال ابن زيد: إذا كان الرجل خبيث العمل قالوا: فلان خبيثالثياب؛ وإذا كان حسن العمل قالوا: فلان طاهر الثياب، ونحو هذا عن السدي، ومنه قول الشاعر:

لا هم إن عامر بن جهم     أو ذم حجا في ثياب دسم

أي: دنسة بالمعاصي، وقيل: كنى عن النفس بالثياب،قاله ابن عباس. قال الشاعر:

فشككـت بالـرمـح الطـويـل ثيـابـه    

وقال آخر:

ثياب بني عوف طهارى نقية     وأوجههم بيض سافر غران

أي: أنفسهم. وقيل: كنى بها عن الجسم. قالت ليلى وقد ذكرت إبلاً:

رموها بأثواب خفاف فلا نرى     لها شبهاً إلا النعام المنفرا

أي: ركبوها فرموها بأنفسهم. وقيل: كناية عنالأهل، قال تعالى: { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } ، والتطهر فيهن اختيار المؤمنات العفائف. وقيل: وطئهن في القبل لا في الدبر، فيالطهر لا في الحيض، حكاه ابن بحر. وقيل: كناية عن الخلق، أي وخلقك فحسن، قاله الحسن والقرطبي، ومنه قوله:

ويحيـى ما يلائم سوء خلق     ويحيـى طاهر الأثواب حر

أي: حسن الأخلاق. وقرأ الجمهور: والرجزبكسر الراء، وهي لغة قريش؛ والحسن ومجاهد والسلمي وأبو جعفر وأبو شيبة وابن محيصن وابن وثاب وقتادة والنخعي وابن أبيإسحاق والأعرج وحفص: بضمها، فقيل: هما بمعنى واحد، يراد بهما الأصنام والأوثان. وقيل: الكسر للبين والنقائص والفجور، والضم لصنمين أسافونائلة. وقال عكرمة ومجاهد والزهري: للأصنام عموماً. وقال ابن عباس: الرجز: السخط، أي اهجر ما يؤدي إليه. وقال الحسن: كلمعصية، والمعنى في الأمر: اثبت ودم على هجره، لأنه ﷺ كان بريئاً منه. وقال النخعي: الرجز: الإثم.وقال القتبي: العذاب، أي اهجر ما يؤدي إليه. وقرأ الجمهور: {وَلاَ تَمْنُن }، بفك التضعيف؛ والحسن وأبو السمال: بشدالنون. قال ابن عباس وغيره: لا تعط عطاء لتعطي أكثر منه، كأنه من قولهم: منّ إذا أعطى. قال الضحاك: هذاخاص به ﷺ، ومباح ذلك لأمته، لكنه لا أجر لهم. وعن ابن عباس أيضاً: لا تقل دعوتفلم أجب. وعن قتادة: لا تدل بعملك. وعن ابن زيد: لا تمنن بنبوتك، تستكثر بأجر أو كسب تطلبه منهم. وقالالحسن: تمنن على الله بجدك، تستكثر أعمالك ويقع لك بها إعجاب، وهذه الأقوال كلها من المنّ تعداد اليد وذكرها. وقالمجاهد: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } ما حملناك من أعباء الرسالة، أو تستكثر من الخير، من قولهم: حبل متين: أي ضعيف.وقيل: ولا تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه. وقرأ الجمهور: تستكثر برفع الراء، والجملة حالية، أي مستكثراً. قال الزمخشري: ويجوز فيالرفع أن تحذف أن ويبطل عملها، كما روي: أحضر الوغى بالرفع. انتهى، وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه، لأنهلا يجوز ذلك إلا في الشعر، ولنا مندوحة عنه مع صحة الحال، أي مستكثراً. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة: بجزمالراء، ووجهه أنه بدل من تمنن، أي لا تستكثر، كقوله: { يُضَـٰعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ } في قراءة من جزم، بدلاً منقوله: { يَلْقَ } ، وكقوله:

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا     تجد حطباً جزًلا وناراً تأججا

ويكونمن المن الذي في قوله تعالى: { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَـٰتِكُم بِٱلْمَنّ وَٱلاْذَىٰ } ، لأن من شأن المان أن يستكثر ما يعطيأن يراه كثيراً ويعتد به؛ وأجاز الزمخشري فيه وجهين، أحدهما: أن تشبه ثرو بعضد فتسكن تخفيفاً؛ والثاني: أن يعتبر حالالوقف، يعني فيجري الوصل مجرى الوقف، وهذان لا يجوز أن يحمل القرآن عليهما مع وجود ما هو راجح عليهما، وهوالمبدل. وقرأ الحسن أيضاً والأعمش: تستكثر بنصب الراء، أي لن تحقرها. وقرأ ابن مسعود: أن تستكثر، بإظهار أن. {وَلِرَبّكَ فَٱصْبِرْ}: أي لوجه ربك أمره بالصبر، فيتناول الصبر على تكاليف النبوة، وعلى أداء طاعة الله، وعلى أذى الكفار. قال ابنزيد: على حرب الأحمر والأسود، فكل مصبور عليه ومصبور عنه يندرج في الصبر. وقال الزمخشري: والفاء في قوله: {فَإِذَا نُقِرَ} للتسبب، كأنه قيل: فاصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك عليه. وقالالزمخشري: والفاء في {فَذَلِكَ } للجزاء. فإن قلت: بم انتصب إذا، وكيف صح أن يقع يومئذ ظرفاً ليوم عسير؟ قلت:انتصب إذا بما دل عليه الجزاء، لأن المعنى: {فَإِذَا نُقِرَ فِى ٱلنَّاقُورِ }، عسر الأمر على الكافرين؛ والذي أجاز وقوعيومئذ ظرفاً ليوم عسير أن المعنى: فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير، لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر فيالناقور. ويجوز أن يكون يومئذ مبنياً مرفوع المحل بدلاً من ذلك، ويوم عسير خبر، كأنه قيل: فيوم النقر يوم عسير.فإن قلت: فما فائدة قوله: {غَيْرُ يَسِيرٍ }، وعسير مغن عنه؟ قلت: لما قال {عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } فقصر العسر عليهم،قال {غَيْرُ يَسِيرٍ } ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيراً هيناً، فيجمع بين وعيد الكافرين وزيادةغيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم. ويجوز أن يراد به عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً، كما يرجى بيسير العسير من أمورالدنيا. انتهى. وقال الحوفي: {فَإِذَا }، إذا متعلقة بأنذر، أي فأنذرهم إذا نقر في الناقورة، قال أبو البقاء: يجري علىالقول الأخفش أن تكون إذا مبتدأ والخبر فذلك والفاء زائدة. فأما يومئذ فظرف لذلك، وأجاز أبو البقاء أن يتعلق علىالكافرين بيسير، أي غير يسير، أي غير سهل على الكافرين؛ وينبغي أن لا يجوز، لأن فيه تقديم معمول العامل المضافإليه غير على العامل، وهو ممنوع على الصحيح؛ وقد أجازه بعضهم فيقول: أنا بزيد غير راض. {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُوَحِيداً }: لا خلاف أنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، فروي أنه كان يلقب بالوحيد، أي لأنه لا نظيرله في ماله وشرفه في بيته. والظاهر انتصاب وحيداً على الحال من الضمير المحذوف العائد على من، أي خلقته منفرداًذليلاً قليلاً لا مال له ولا ولد، فآتاه الله تعالى المال والولد، فكفر نعمته وأشرك به واستهزأ بدينه. وقيل: حالمن ضمير النصب في ذرني، قاله مجاهد، أي ذرني وحدي معه، فأنا أجزيك في الانتقام منه؛ أو حال من التاءفي خلقت، أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقي أحد، فأنا أهلكه لا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه. وقيل: وحيداًلا يتبين أبوه. وكان الوليد معروفاً بأنه دعي، كما تقدم في قوله تعالى: { عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } ، وإذا كانيدعى وحيداً، فلا يجوز أن ينتصب على الذم، لأنه لا يجوز أن يصدقه الله تعالى في أنه وحيداً لا نظيرله. ورد ذلك بأنه لما لقب بذلك صار علماً، والعلم لا يفيد في المسمى صفة، وأيضاً فيمكن حمله على أنهوحيد في الكفر والخبث والدناءة. {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً }، قال ابن عباس: كان له بين مكة والطائف إبلوحجور ونعم وجنان وعبيد وجوار. وقيل: كان صاحب زرع وضرع وتجارة. وقال النعمان بن بشير: المال المدود هو الأرض لأنهامدت. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو الريع المستغل مشاهرة، فهو مد في الزمان لا ينقطع. وقيل: هومقدار معين واضطربوا في تعيينه. فما قيل: ألف دينار، وقيل: ألف ألف دينار، وكل هذا تحكم. {وَبَنِينَ شُهُوداً }: أيحضوراً معه بمكة لا يظعنون عنه لغناهم فهو مستأنس بهم، أو شهوداً: أي رجالاً يشهدون معه المجامع والمحافل، أو تسمعشهادتهم فيما يتحاكم فيه؛ واختلف في عددهم، فذكر منهم: خالد وهشام وعمارة، وقد أسلموا؛ والوليد والعاصي وقيس وعبد شمس. قالمقاتل: فما زال الوليد بعد هذه الآية وبعد نزولها في نقص في ماله وولده حتى هلك. {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً}: أي وطأت وهيأت وبسطت له بساطاً حتى أقام ببلدته مطمئناً يرجع إلى رأيه. وقال ابن عباس: وسعت له مابين اليمن إلى الشام. وقال مجاهد: مهدت له المال بعضه فوق بعض، كما يمهد الفراش. {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ }:أي على ما أعطيته من المال والولد. {كَلاَّ }: أي ليس يكون كذلك مع كفره بالنعم. وقال الحسن وغيره: ثميطمع أن أدخله الجنة، لأنه كان يقول: إن كان محمداً صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي. {ثُمَّ يَطْمَعُ }، قالالزمخشري: استعباد لطمعه واستنكار، أي لا مزيد على ما أوتي كثرة وسعة، {كَلاَّ }: قطع لرجائه وردع. انتهى. وطمعه فيالزيادة دليل على مبشعه وحبه للدنيا. {إِنَّهُ كان لاْيَـٰتِنَا عَنِيداً }: تعليل للرّدع على وجه الاستئناف، كأن قائلاً قال: لملا يزاد؟ فقال إنه كان يعاند آيات المنعم وكفر بذلك، والكافر لا يستحق المزيد؛ وإنما جعلت الآيات بالنسبة إلى الأنعاملمناسبة قوله: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } إلى آخر ما آتاه الله، والأحسن أن يحمل على آيات القرآن لحديثه فيالقرآن وزعمه أنه سحر. {سَأُرْهِقُهُ }: أي سأكلفه وأعنته بمشقة وعسر، {صَعُوداً }: عقبة في جهنم، كلما وضع عليها شيءمن الإنسان ذاب ثم يعود، والصعود في اللغة: العقبة الشاقة، وتقدّم شرح عنيد في سورة إبراهيم عليه السلام. {إِنَّهُفَكَّرَ وَقَدَّرَ }: روي أن الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن وقال: إن له لحلاوة، وإنأسفله لمغدق، وإن فرعه لجناة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى، ونحو هذا من الكلام، فخالفوه وقالوا: هوشعر، فقال: والله ما هو بشعر، قد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه، قالوا: فهو كاهن، قال: والله ما هو بكاهن، لقدرأينا الكهان، قالوا: هو مجنون، قال: والله ما هو بمجنون، لقد رأينا المجنون وخنقه، قالوا: هو سحر، قال: أما هذافيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه. وروي هذا بألفاظ غير هذا ويقرب من حيث المعنى، وفيه: وتزعمون أنه كذب، فهلجربتم عليه شيئاً من الكذب؟ فقالوا: في كل ذلك اللهم لا، ثم قالوا: فما هو؟ ففكر ثم قال: ما هوإلا ساحر. أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ وما الذي يقوله إلا سحر يؤثره عن مثل مسيلمة وعنأهل بابل، فارتج النادي فرحاً وتفرّقوا متعجبين منه. وروي أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه، ثم سمع كذلكمراراً حتى كاد أن يقارب الإسلام. ودخل إلى بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مراراً، فجاءه أبو جهل فقال: ياوليد، أشعرت أن قريشاً قد ذمّتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة، وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه؟ وقد أبغضتكلمقاربتك أمر محمد، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولاً يرضيهم، ففتنه أبو جهل فافتتن وقال: أفعل.{إِنَّهُ فَكَّرَ }: تعليل للوعيد في قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً }. قيل: ويجوز أن يكون {إِنَّهُ فَكَّرَ } بدلاً من قوله:{إِنَّهُ كان لاْيَـٰتِنَا عَنِيداً }، بياناً لكنه عناده وفكر، أي في القرآن ومن أتى به، {وَقَدَّرَ }: أي في نفسهما يقول فيه. {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ }، قتل: لعن، وقيل: غلب وقهر، وذلك من قوله:

لسهميـك فـي أعـسار قـلب مقتـل    

أي مذلل مقهور بالحب، فلعن دعاء عليه بالطرد والإبعاد وغلب، وذلك إخبار بقهره وذلته، و{كَيْفَ قَدَّرَ } معناه: كيف قدرما لا يصح تقديره وما لا يسوغ أن يقدره عاقل؟ وقيل: دعاء مقتضاه الاستحسان والتعجب. فقيل ذلك لمنزعه الأول فيمدحه القرآن، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه، فيجري مجرى قول عبد الملك بن مروان: قاتل الله كثيراً، كأنه رآناحين قال كذا. وقيل: ذلك لإصابته ما طلبت قريش منه. وقيل: ذلك ثناء عليه على جهة الاستهزاء. وقيل: ذلك حكايةلما كرروه من قولهم: قتل كيف قدّر، تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره واستعظامهم لقوله، وهذا فيه بعد. وقولهم: قاتلهم الله، مشهورفي كلام العرب أنه يقال عند استعظام الأمر والتعجب منه، ومعناه: أنه قد بلغ المبلغ الذي يحسد عليه ويدعى عليهمن حساده، والاستفهام في {كَيْفَ قَدَّرَ } في معنى: ما أعجب تقديره وما أغربه، كقولهم: أي رجل زيد؟ أي ماأعظمه. وجاء التكرار بثم ليدل على أن الثانية أبلغ من الأولى للتراخى الذي بينهما، كأنه دعى عليه أولاً ورجىأن يقلع عن ما كان يرومه فلم يفعل، فدعى عليه ثانياً، {ثُمَّ نَظَرَ }: أي فكر ثانياً. وقيل: نظر إلىوجوه الناس، {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ }: أي قطب وكلح لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول. وقيل: قطب فيوجه رسول الله ﷺ. {ثُمَّ أَدْبَرَ }: رجع مدبراً، وقيل: أدبر عن الحق، {وَٱسْتَكْبَرَ }، قيل: تشارسمستكبراً، وقيل: استكبر عن الحق، وصفه بالهيئات التي تشكل بها حين أراد أن يقول: ما قال كل ذلك على سبيلالاستهزاء، وأن ما يقوله كذب وافتراء، إذ لو كان ممكناً، لكان له هيئات غير هذه من فرح القلب وظهور السروروالجذل والبشر في وجهه، ولو كان حقاً لم يحتج إلى هذا الفكر لأن الحق أبلج يتضح بنفسه من غير إكدادفكر ولا إبطاء تأمّل. ألا ترى إلى ذلك الرجل وقوله حين رأي رسول ﷺ، فعلمت أن وجههليس بوجه كذاب، وأسلم من فوره. وقيل: ثم نظر فيما يحتج به للقرآن، فرأى ما فيه من الإعجاز والإعلام بمرتبةالرسول ﷺ، ودام نظره في ذلك. {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ }، دلالة على تأنيه وتمهله في تأمّله، إذبين ذلك تراخ وتباعد. وكان العطف في {وَبَسَرَ } وفي {وَٱسْتَكْبَرَ }، لأن البسور قريب من العبوس، فهو كأنه علىسبيل التوكيد والاستكبار يظهر أنه سبب للادبار، إذ الاستكبار معنى في القلب، والإدبار حقيقة من فعل الجسم، فهما سبب ومسبب،فلا يعطف بثم؛ وقدّم المسبب على السبب لأنه الظاهر للعين، وناسب العطف بالواو؛ وكان العطف في فقال بالفاء دلالة علىالتعقيب، لأنه لما خطر بباله هذا القول بعد تطلبه، لم يتمالك أن نطق به من غير تمهل. ومعنى {يُؤْثَرُ }:يروي وينقل، قال الشاعر:

لقلت من القول ما لا يزا     ل يؤثر عني به المسند

وقيل:{يُؤْثَرُ } أي يختار ويرجح على غيره من السحر فيكون من الإيثار، ومعنى {إِلاَّ سِحْرٌ }: أي شبيه بالسحر. {إِنْهَـٰذَا إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ }: تأكيد لما قبله، أي يلتقط من أقوال الناس، ويظهر أن كفر الوليد إنما هو عناد.ألا ترى ثناءه على القرآن، ونفيه عنه جميع ما نسبوا إليه من الشعر والكهانة والجنون، وقصته مع رسول الله صلىالله عليه وسلم حين قرأ عليه أوائل سورة فصلت إلى قوله تعالى: { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـٰعِقَةً مّثْلَ صَـٰعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } ، وكيف ناشدة الله بالرحم أن يسكت؟ {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ }، قال الزمخشري: بدل من {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً }. انتهى. ويظهرأنهما جملتان اعتقبت كل واحدة، منهما فتوعد على سبيل التوعد العصيان الذي قبل كل واحدة منهما، فتوعد على كونه عنيداًلآيات الله بإرهاق صعود، وعلى قوله بأن القرآن سحر يؤثر بإصلائه سقر، وتقدّم الكلام على سقر في أواخر سورة القمر.{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ }: تعظيم لهولها وشدتها، {لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ }: أي لا تبقي على من ألقي فيها،ولا تذر غاية من العذاب إلا أوصلته إليه. {لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ }، قال ابن عباس ومجاهد وأبو رزين والجمهور: معناهمغيرة للبشرات محرقة للجلود مسوّدة لها، والبشر جمع بشرة، وتقول العرب: لاحت النار الشيء إذا أحرقته وسوّدته. وقال الحسن وابنكيسان: لوّاحة بناء مبالغة من لاح إذا ظهر، والمعنى أنها تظهر للناس، وهم البشر، من مسيرة خمسمائة عام، وذلك لعظمهاوهولها وزجرها، كقوله تعالى: { لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ } ، وقوله: { وَبُرّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } . وقرأ الجمهور: {لَوَّاحَةٌ } بالرفع، أي هيلوّاحة. وقرأ العوفي وزيد بن عليّ والحسن وابن أبي عبلة: لواحة بالنصب على الحال المؤكدة، لأن النار التي لا تبقيولا تذر لا تكون إلا مغيرة للإبشار. وقال الزمخشري: نصباً على الاختصاص للتهويل. {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ }: التمييز محذوف،والمتبادر إلى الذهن أنه ملك. ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه أن المراد ملك حين سمعوا ذلك؟ فقالأبو جهل لقريش: ثكلتكم أمّهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم، أيعجز كل عشرةمنكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي، وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشرفاكفوني أنتم اثنين، فأنزل الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَـٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَـئِكَةً } أي ما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون،وأنزل الله تعالى في أبي جهل { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ } . وقيل: التمييز المحذوف صنفاً من الملائكة، وقيل: نقيباً، ومعنى عليهايتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها، فالذي يظهر من العدد ومن الآية بعد ذلك ومن الحديث أن هؤلاء هم النقباء. ألاترى إلى قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ }، وقوله عليه الصلاة والسلام: يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ؟ وقد ذكر المفسرون من نعوت هؤلاء الملائكة وخلقهم وقوتهم، وما أقدرهمالله تعالى عليه من الأفعال ما الله أعلم بصحته، وكذلك ذكر أبو عبد الله الرازي حكماً على زعمه في كونهؤلاء الملائكة على هذا العدد المخصوص يوقف عليها في تفسيره. وقرأ الجمهور: {تِسْعَةَ عَشَرَ } مبنيين على الفتح علىمشهور اللغة في هذا العدد. وقرأ أبو جعفر وطلحة بن سليمان: بإسكان العين، كراهة توالي الحركات. وقرأ أنس بن مالكوابن عباس وابن قطيب وإبراهيم بن قنة: بضم التاء، وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح لتوالي خمس فتحات، ولايتوهم أنها حركة إعراب، لأنها لو كانت حركة إعراب لأعرب عشر. وقرأ أنس أيضاً: تسعة بالضم، أعشر بالفتح. وقال صاحباللوامح: فيجوز أنه جمع العشرة على أعشر ثم أجراه مجرى تسعة عشر، وعنه أيضاً تسعة وعشر بالضم، وقلب الهمزة منأعشر واواً خالصة تخفيفاً، والباء فيهما مضمومة ضمة بناء لأنها معاقبة للفتحة، فراراً من الجمع بين خمس حركات على جهةواحدة. وعن سليمان بن قنة، وهو أخو إبراهيم: أنه قرأ تسعة أعشر بضم التاء ضمة إعراب وإضافته إلى أعشر، وأعشرمجرور منون وذلك على فك التركيب. قال صاحب اللوامح: ويجيء على هذه القراءة، وهي قراءة من قرأ أعشر مبنياً أومعرباً من حيث هو جمع، أن الملائكة الذين هم على النار تسعون ملكاً. انتهى، وفيه بعض تلخيص. قال الزمخشري: وقرىءتسعة أعشر جمع عشير، مثل يمين وأيمن. انتهى. وسليمان بن قنة هذا هو الذي مدح أهل بيت رسول اللهصلى اللهعليه وسلم، وهو القائل:

مررت على أبيات آل محمد     فلم أر أمثالاً لها يوم حلت وكانوا ثمالاً ثم عادوا رزية لقد عظمت تلك الرزايا وجلت

{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَـٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَـئِكَةً }: أي جعلناهمخلقاً لا قبل لأحد من الناس بهم، {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ }: أي سبب فتنة، وفتنة مفعولثان لجعلنا، أي جعلنا تلك العدّة، وهي تسعة عشر، سبباً لفتنة الكفار، فليس فتنة مفعولاً من أجله، وفتنهم هي كونهمأظهروا مقاومتهم في مغالبتهم، وذلك على سبيل الاستهزاء. فإنهم يكذبون بالبعث وبالنار وبخزنتها. {لِيَسْتَيْقِنَ }: هذا مفعول من أجله، وهومتعلق بجعلنا لا بفتنة. فليست الفتنة معلولة للاستيقان، بل المعلول جعل العدّة سبباً لفتنة {ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ }، وهم اليهودوالنصارى. إنّ هذا القرآن هو من عند الله، إذ هم يجدون هذه العدّة في كتبهم المنزلة، ويعلمون أن الرسول لميقرأها ولا قرأها عليه أحد، ولكن كتابة يصدّق كتب الأنبياء، إذ كل ذلك حق يتعاضد من عند الله تعالى. قالهذا المعنى ابن عباس ومجاهد، وبورود الحقائق من عند الله يزداد كل ذي إيمان إيماناً، ويزول الريب عن المصدّقين منأهل الكتاب وعن المؤمنين. وقيل: إنما صار جعلها فتنة لأنهم يستهزئون ويقولون: لم لم يكونوا عشرين؟ وما المقتضى لتخصيص هذاالعدد بالوجود؟ ويقولون هذا العدد القليل، يقوون بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله تعالى إلىقيام الساعة. وقال الزمخشري: فإن قلت: قد جعل افتتان الكافرين بعدّة الزبانية سبباً لاستيقان أهل الكتاب وزيادة إيمان المؤمنينواستهزاء الكافرين والمنافقين، فما وجه صحة ذلك؟ قلت: ما جعل افتتانهم بالعدّة سبباً لذلك، وإنما العدّة نفسها هي التي جعلتسبباً، وذلك أن المراد بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ }: وما جعلنا عدّتهم إلا تسعة عشر؛ فوضع{فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } موضع تسعة عشر، لأن حال هذه العدّة الناقصة واحداً من عقد العشرين، أن يفتتن بها منلا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزىء ولا يذعن إذعان المؤمن، وإن خفي عليه وجه الحكمة، كأنه قيل: ولقد جعلنا عدّتهمعدّة من شأنها أن يفتتن بها لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين. انتهى، وهو سؤال عجيب وجواب فيه تحريف كتاب اللهتعالى، إذ زعم أن معنى {إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ }: إلا تسعة عشر، وهذا لا يذهب إليه عاقل ولا منله أدنى ذكاء؛ وكفى ردّاً عليه تحريف كتاب الله ووضع ألفاظ مخالفة لألفاظ ومعنى مخالف لمعنى. وقيل: {لِيَسْتَيْقِنَ } متعلقبفعل مضمر، أي فعلنا ذلك ليستيقن. {وَلاَ يَرْتَابَ }: توكيد لقوله {لِيَسْتَيْقِنَ }، إذ إثبات اليقين ونفي الارتياب أبلغ وآكدفي الوصف لسكون النفس السكون التام. و{ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ }، قال الحسين بن الفضل: السورة مكية، ولم يكنبمكة نفاق، وإنما المرض في الآية: الاضطراب وضعف الإيمان. وقيل: هو إخبار بالغيب، أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبلالزمان بالمدينة بعد الهجرة: {مَاذَا أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً }. لما سمعوا هذا العدد لم يهتدوا وحاروا، فاستفهم بعضهم بعضاًعن ذلك استبعاداً أن يكون هذا من عند الله، وسموه مثلاً استعارة من المثل المضروب استغراباً منهم لهذا العدد، والمعنى:أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب؟ ومرادهم إنكار أصله وأنه ليس من عند الله، وتقدّم إعراب مثل هذه الجملةفي أوائل البقرة. {كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَإِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ }. الكاف في محل نصب، وذلك إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدى، أي مثلذلك المذكور من الإضلال والهدى، يضل الكافرين فيشكون فيزيدهم كفراً وضلالاً، ويهدي المؤمنين فيزيدهم إيماناً. {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّهُوَ }: إعلام بأن الأمر فوق ما يتوهم، وأن الجزاء إنما هو عن بعض القدرة لا عن كلها، والسماء عامرةبأنواع من الملائكة. وفي الحديث: أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً . {وَمَا هِىَ }: أي النار، قاله مجاهد، أو المخاطبة والنذارة، أو نار الدنيا، أو الآيات التي ذكرت، أو العدّةالتسعة عشر، أو الجنود، أقوال راجحها الأول وهي سقر، ذكر بها البشر ليخافوا ويطيعوا. وقد جرى ذكر النار أيضاً فيقوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَـٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ * ٱلْمَلَـٰئِكَةَ }. {إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ }: أي الذين أهلوا للتذكر والاعتبار. {كَلاَّ}، قال الزمخشري: كلا إنكار بعد أن جعلها ذكرى، أن يكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون. انتهى. ولا يسوغ هذافي حق الله تعالى أن يخبر أنها ذكرى للبشر، ثم ينكر أن تكون لهم ذكرى، وإنما قوله: {لّلْبَشَرِ }عام مخصوص.وقال الزمخشري: أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذير. وقيل: ردع لقول أبي جهل وأصحابه أنهم يقدرون علىمقاومة خزنة جهنم. وقيل: ردع عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة. وقال الفراء: هي صلة للقسم، وقدرها بعضهم بحقاً، وبعضهم بألا الاستفتاحية،وقد تقدم الكلام عليها في آخر سورة مريم عليها السلام. {وَٱلْقَمَرِ * وَٱلَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ }: أي ولى، ويقالدبر وأدبر بمعنى واحد. أقسم تعالى بهذه الأشياء تشريفاً لها وتنبيهاً على ما يظهر بها وفيها من عجائب الله وقدرته،وقوام الوجود بإيجادها. وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وابن يعمر وأبو جعفر وشيبة وأبو الزناد وقتادة وعمر بنالعزيز والحسن وطلحة والنحويان والابنان وأبو بكر: إذا ظرف زمان مستقبل دبر بفتح الدال؛ وابن جبير والسلمي والحسن: بخلاف عنهم؛وابن سيرين والأعرج وزيد بن علي وأبو شيخ وابن محيصن ونافع وحمزة وحفص: إذ ظرف زمان ماض، أدبر رباعياً؛ والحسنأيضاً وأبو رزين وأبو رجاء وابن يعمر أيضاً والسلمي أيضاً وطلحة أيضاً والأعمش ويونس بن عبيد ومطر: إذا بالألف، أدبربالهمز، وكذا هو في مصحف عبد الله وأبيّ، وهو مناسب لقوله: {إِذَا أَسْفَرَ }، ويقال: كأمس الدابر وأمس المدبر بمعنىواحد. وقال يونس بن حبيب: دبر: انقضى، وأدبر: تولى. وقال قتادة: دبر الليل: ولى. وقال الزمخشري: ودبر بمعنى أدبر، كقبلبمعنى أقبل. وقيل: هو من دبر الليل النهار: أخلفه. وقرأ الجمهور: أسفر رباعياً؛ وابن السميفع وعيسى بن الفضل: سفر ثلاثياً،والمعنى: طرح الظلمة عن وجهه. {إِنَّهَا لإِحْدَى ٱلْكُبَرِ }: الظاهر أن الضمير في إنها عائد على النار. قيل: ويحتملأن يكون للنذارة، وأمر الآخرة فهو للحال والقصة. وقيل: إن قيام الساعة لإحدى الكبر، فعاد الضمير إلى غير مذكور، ومعنىإحدى الكبر: الدواهي الكبر، أي لا نظير لها، كما تقول: هو أحد الرجال، وهي إحدى النساء، والكبر: العظائم من العقوبات.وقال الراجز:

يا ابن المعلى نزلت إحدى الكبر     داهية الدهر وصماء الغير

والكبر جمع الكبرى،طرحت ألف التأنيث في الجمع، كما طرحت همزته في قاصعاء فقالوا قواصع. وفي كتاب ابن عطية: والكبر جمع كبيرة، ولعلهمن وهم الناسخ. وقرأ الجمهور: لإحدى بالهمز، وهي منقلبة عن واو أصله لوحدى، وهو بدل لازم. وقرأ نصر بن عاصموابن محيصن ووهب بن جرير عن ابن كثير: بحذف الهمزة، وهو حذف لا ينقاس، وتخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعلبين بين. والظاهر أن هذه الجملة جواب للقسم. وقال الزمخشري: أو تعليل لكلا، والقسم معترض للتوكيد. انتهى. وقرأ الجمهور:{نَذِيراً }، واحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار، كالنكير بمعنى الإنكار، فيكون تمييزاً: أي لإحدى الكبر إنذاراً، كما تقول: هيإحدى النساء عفافاً. كما ضمن إحدى معنى أعظم، جاء عنه التمييز. وقال الفراء: هو مصدر نصب بإضمار فعل، أي أنذرإنذاراً. واحتمل أن يكون اسم فاعل بمعنى منذر. فقال الزجاج: حال من الضمير في إنها. وقيل: حال من الضمير فيإحدى، ومن جعله متصلاً بقم في أول السورة، أو بـ: فأنذر في أول السورة، أو حالاً من الكبر، أو حالاًمن ضمير الكبر، فهو بمعزل عن الصواب. قال أبو البقاء: والمختار أن يكون حالاً مما دلت عليه الجملة تقديره: عظمتنذيراً. انتهى، وهو قول لا بأس به. قال النحاس: وحذفت الهاء من نذيراً، وإن كان للنار على معنى النسب، يعنيذات الإنذار. وقال علي بن سليمان: أعني نذيراً. وقال الحسن: لأنذر، إذ هي من النار. قال ابن عطية: وهذا القوليقتضي أن نذيراً حال من الضمير في إنها، أو من قوله: {لإِحْدَى }. قال أبو رزين: نذير هنا هو اللهتعالى، فهو منصوب بإضمار فعل، أي ادعوا نذيراً. وقال ابن زيد: نذير هنا هو محمد ﷺ، فهومنصوب بفعل مضمر، أي ناد، أو بلغ، أو أعلن. وقرأ أبيّ وابن أبي عبلة: نذير بالرفع. فإن كان من وصفالنار، جاز أن يكون خبراً وخبر مبتدأ محذوف، أي هي نذير. وإن كان من وصف الله أو الرسول، فهو علىإضمار هو. والظاهر أن لمن بدل من البشر بإعادة الجار، وأن يتقدم منصوب بشاء ضمير يعود على من. وقيل: الفاعلضمير يعود على الله تعالى، أي لمن شاء هو، أي الله تعالى. وقال الحسن: هو وعيد، نحو قوله تعالى: { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } . قال ابن عطية: هو بيان في النذارة وإعلام بأن كل أحد يسلك طريق الهدىوالحق إذا حقق النظر، إذ هو بعينه يتأخر عن هذه الرتبة بغفلته وسوء نظره. ثم قوى هذا المعنى بقوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }. وقال الزمخشري: {أَن يَتَقَدَّمَ } في موضع الرفع بالابتداء، و{لِمَن شَاء } خبرمقدم عليه، كقولك لمن توضأ: أن يصلي، ومعناه مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر. والمراد بالتقدموالتأخر: السبق إلى الخير والتخلف عنه، وهو كقوله: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ }. انتهى، وهو معنى لا يتبادرإلى الذهن وفيه حذف. قيل: والتقدم: الإيمان، والتأخر: الكفر. وقال السدي: أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها، أو يتأخر عنهاإلى الجنة. وقال الزجاج: أن يتقدم إلى المأمورات، أو يتأخر عن المنهيات، والظاهر العموم في كل نفس. وقال الضحاك: كلنفس حقيق عليها العذاب، ولا يرتهن الله تعالى أحداً من أهل الجنة، ورهينة بمعنى رهن، كالشتيمة بمعنى الشتم، وليست بمعنىمفعول لأنها بغير تاء للمذكر والمؤنث، نحو: رجل قتيل وامرأة قتيل، فالمعنى: كل نفس بما كسبت رهن، ومنه قول الشاعر:

أبعد الذي بالنعف نعف كويكب     رهينة رمس ذي تراب وجندل

أي: رمس رهن، والمعنى:أن كل نفس رهن عند الله غير مفكوك. وقيل: الهاء في رهينة للمبالغة. وقيل: على تأنيث اللفظ لا على الإنسان،والذي أختاره أنها مما دخلت فيه التاء، وإن كان بمعنى مفعول في الأصل كالنطيحة، ويدل على ذلك أنه لما كانخبر عن المذكر كان بغير هاء، قال تعالى: { كُلُّ ٱمْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } . فأنت ترى حيث كان خبراً عنالمذكر أتى بغير تاء، وحيث كان خبراً عن المؤنث أتى بالتاء، كما في هذه الآية. فأما الذي في البيت فأنثعلى معنى النفس. {إِلاَّ أَصْحَـٰبَ ٱلْيَمِينِ }، قال ابن عباس: هم الملائكة. وقال عليّ: هم أطفال المسلمين. فعلى هذين القولينيكون استثناء منقطعاً، أي لكن أصحاب اليمين في جنات. وقال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون، ليسوا بمرتهنين لأنهم أدواما كان عليهم، وهذا كقول الضحاك الذي تقدم. وقال الزمخشري: {إِلاَّ أَصْحَـٰبَ ٱلْيَمِينِ }، فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوهمن كسبهم، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق. انتهى. وظاهر هذا أنه استثناء متصل في جنات، أي هم {فِى جَنَّـٰتٍيَتَسَاءلُونَ }: أي يسأل بعضهم بعضاً، أو يكون يتساءل بمعنى يسأل، أي يسألون عنهم غيرهم، كما يقال: دعوته وتداعوته بمعناه.وعلى هذين التقديرين كيف جاء {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ } بالخطاب للمجرمين، وفي الكلام حذف، المعنى: أن أصحاب اليمين يسألبعضهم بعضاً، أو يسألون غيرهم عن من غاب من معارفهم، فإذا عرفوا أنهم مجرمون في النار قالوا لهم، أو قالتلهم الملائكة: هكذا قدره بعضهم، والأقرب أن يكون التقدير: يتساءلون عن المجرمين قائلين لهم بعد التساؤل: {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ}. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف طابق قوله: {مَا سَلَكَكُمْ }؟ وهو سؤال للمجرمين، قوله: {يَتَسَاءلُونَ * عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ}؟ وهو سؤال عنهم، وإنما كان يطابق ذلك لو قيل يتساءلون عن المجرمين ما سلككم؟ قلت: {مَا سَلَكَكُمْ } ليسببيان للتساؤل عنهم، وإنما هو حكاية قول المسؤولين عنهم، لأن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون:قلنا لهم {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ }، {قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلّينَ }، إلا أن الكلام جيء به على الحذفوالاختصار، كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه. انتهى، وفيه تعسف. والأظهر أن السائلين هم المتسائلون، وما سلككم على إضمارالقول كما ذكرنا، وسؤالهم سؤال توبيخ لهم وتحقير، وإلا فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار. والجواب أنهم لم يكونوا متصفينبخصائل الإسلام من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم ارتقوا من ذلك إلى الأعظم وهو الكفر والتكذيب بيوم الجزاء، كقولهم: { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } ، ثم قال: { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } . واليقين: أي يقيناً على إنكار يوم الجزاء، أي وقتالموت. وقال ابن عطية: واليقين عندي صحة ما كانوا يكذبون من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخر. وقال المفسرون: اليقين:الموت، وذلك عندي هنا متعقب، لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي. وإنما اليقين الذي عنوا في هذه الآيةالشيء الذي كانوا يكذبون به وهم أحياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت، وإنما يتفسر اليقين بالموت في قوله تعالى: { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } . {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَـٰعَةُ ٱلشَّـٰفِعِينَ }: ليس المعنى أنهم يشفع لهم فلا تنفع شفاعة من يشفعلهم، وإنما المعنى نفي الشفاعة فانتفى النفع، أي لا شفاعة شافعين لهم فتنفعهم من باب:

عـلى لاحـب لا يهتـدي بمنـاره    

أي: لا منار له فيهتدي به. وتخصيصهم بانتفاء شفاعة الشافعين يدل على أنه قد تكون شفاعات وينتفع بها، ووردت أحاديثفي صحة ذلك. {فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ }: وهي مواعظ القرآن التي تذكر الآخرة، {مُعْرِضِينَ }: أي والحال المنتظرة هذهالموصوفة. ثم شبههم بالحمر المستنفرة في شدة إعراضهم ونفارهم عن الإيمان وآيات الله تعالى. وقرأ الجمهور: {حُمُرٌ } بضم الميم؛والأعمش: بإسكانها. قال ابن عباس: المراد الحمر الوحشية، شبههم تعالى بالحمر مذمة وتهجيناً لهم. وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عنعاصم: {مُّسْتَنفِرَةٌ } بفتح الفاء، والمعنى: استنفرها: فزعها من القسورة؛ وباقي السبعة: بكسرها، أي نافرة نفر، واستنفر بمعنى عجب واستعجبوسر واستسخر، ومنه قول الشاعر:

أمسك حمارك إنه مستنفر     في إصر أحمرة عهدن لعرّب

ويناسب الكسر قوله: {فَرَّتْ }. وقال محمد بن سلام: سألت أبا سرار العتوي، وكان أعرابياً فصيحاً، فقلت: كأنهم حمر ماذامستنفرة طردها قسورة؟ فقلت: إنما هو {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ }، قال: أفرّت؟ قلت: نعم، قال: فمستنفرة إذن. قال ابن عباسوأبو موسى الأشعري وقتادة وعكرمة: القسورة: الرماة. وقال ابن عباس أيضاً وأبو هريرة وجمهور من اللغويين: الأسد. وقال ابن جبير:رجال القنص، وهو قريب من القول الأول، وقاله ابن عباس أيضاً. وقال ابن الأعرابي: القسورة أول الليل، والمعنى: فرّت منظلمة الليل، ولا شيء أشدّ نفاراً من حمر الوحش، ولذلك شبهت بها العرب الإبل في سرعة سيرها وخفتها. {بَلْيُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ }: أي من المعرضين عن عظات الله وآياته، {أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً }: أي منشورة غيرمطوية تقرأ كالكتب التي يتكاتب بها، أو كتبت في السماء نزلت بها الملائكة ساعة كتبت رطبة لم تطو بعد، وذلكأنهم قالوا لرسول الله ﷺ: لن نتبعك حتى يؤتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه: منرب العالمين إلى فلان بن فلان، يؤمر فيها باتباعك، ونحوه { لَن نُّؤْمِنَ * لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ } .وروي أن بعضهم قال: إن كان يكتب في صحف ما يعمل كل إنسان، فلتعرض تلك الصحف علينا، فنزلت هذه الآية.وقرأ الجمهور: {صُحُفاً } بضم الصاد والحاء، {مُّنَشَّرَةً } مشدّداً؛ وابن جبير: بإسكانها منشرة مخففاً، ونشر وأنشر مثل نزل وأنزل.شبه نشر الصحيفة بإنشار الله الموتى، فعبر عنه بمنشرة من أنشرت، والمحفوظ في الصحيفة والثوب نشر مخففاً ثلاثياً، ويقال فيالميت: أنشره الله فنشر هو، أي أحياه فحيـي. {كَلاَّ }: ردع عن إرادتهم تلك وزجر لهم عن اقتراح الآيات،{بَل لاَّ يَخَافُونَ ٱلاْخِرَةَ }، ولذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف. وقرأ الجمهور: {يَخَافُونَ } بياء الغيبة؛ وأبوحيوة: بتاء الخطاب التفاتاً. {كَلاَّ }: ردع عن إعراضهم عن التذكرة، {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ }: ذكر فيإنه وفي ذكره، لأن التذكرة ذكر. وقرأ نافع وسلام ويعقوب: تذكرة بتاء الخطاب ساكنة الذال؛ وباقي السبعة وأبو جعفر والأعمشوطلحة وعيسى والأعرج: بالياء. وروي عن أبي حيوة: يذكرون بياء الغيبة وشد الذال. وروي عن أبي جعفر: تذكرون بالتاء وإدغامالتاء في الذال. {هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ }: أي أهل أن يتقي ويخاف، وأهل أن يغفر. وروى أنس بن مالك رضيالله تعالى عنه أن النبي ﷺ فسر هذه الآية فقال: يقول لكم ربكم جلت قدرته وعظمته: أنا أهل أن أتقى، فلا يجعل يتقى إله غيري، ومن اتقى أن يجعل معي إلهاً غيري فأنا أغفر له . وقال الزمخشري:في قوله تعالى {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ }، يعني: إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه، لأنهم مطبوععلى قلوبهم معلوم أنهم لا يؤمنون إختياراً.