الرئيسيةبحث

بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية

بغية المرتاد
في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية
  ► ☰  


بغية المرتاد
في الرد على
المتفلسفة والقرامطة والباطنية


سئل شيخ الإسلام علم العلماء الأعلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني رحمهم الله تعالى

ما تقول السادة العلماء أئمة الدين في الحديث المروي الذي لفظه

أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب والعقاب
والحديث الآخر الذي لفظه كنت كنزا لا أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني فبي عرفوني
والحديث الثالث الذي لفظه كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان

هل هذه الأحاديث صحيحة أم سقيمة أو بعضها صحيح وبعضها سقيم وما الصحيح منها وهل فيها زيادة الراوي العدل أم لا وما معناها على الإطلاق

وكان بخط الكاتب في الحاشية وما نصه رواية الشيخ

والمقصود بيان ما بنى على هذه الأحاديث من مقالات القائلين بوحدة الوجود وما يتصل بذلك من أقاويل الفلاسفة والقرامطة الباطنية ونحو ذلك وبيان الحق من الباطل وبالله تعالى التوفيق

أجاب رضي الله عنه وأرضاه

الحمد لله رب العالمين أما الحديث الأول فهو باللفظ المذكور قد رواه من صنف في فضل العقل كداود بن المحبر ونحوه واتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ضعيف بل هو موضوع على رسول الله

وقد ذكر الحافظ أبو حاتم البستي وأبو الحسن الدارقطني والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي وغيرهم أن الأحاديث المروية عن النبي في العقل لا أصل لشيء منها وليس في رواتها ثقة يعتمد

فقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي في كتابه المعروف عن هذه الأحاديث الموضوعات عامة ما روي في العقل عن النبي وروى القزاز عن الحافظ أبي بكر الخطيب حدثني محمد بن علي الصوري سمعت عبد الغني بن سعيد الحافظ يقول أنا أبو الحسن علي بن عمر يعني الدارقطني كتاب العقل وضعه أربعة أولهم ميسرة بن عبد ربه ثم سرقه منه داود بن المحبر فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسره وسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء فركبه بأسانيد أخر

ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي فأتى بأسانيد أخر

قال وهو على ما قال الدارقطني، وقد رويت في العقل أحاديث كثيرة ليس فيها شيء يثبت منها ما يرويه مروان بن سالم وإسحاق بن أبي فروة وأحمد بن بشير ونصر بن طريف وابن سمعان وسليمان بن عيسى وكلهما متروكون وقد كان بعضهم يضع الحديث ويسرقه الآخر ويغير إسناده فلم نر التطويل بذكرها

قلت ومع هذا فقد روى أبو الفرج هذا الحديث من طريق سيف بن محمد عن سفيان الثوري عن الفضل بن عثمان عن أبي هريرة عن النبي أنه قال لما خلق الله العقل قال له قم فقام ثم قال له أدبر فأدبر ثم قال له أقبل فأقبل ثم قال له أقعد فقعد فقال ما خلقت خلقا هو خير منك ولا أكرم علي منك ولا أحسن منك بك آخذ وبك أعطي وبك أعرف وبك الثواب وعليك العقاب

قال أبو الفرج هذا حديث لا يصح عن رسول الله

وقال يحيى بن معين الفضل رجل سوء

وقال ابن حبان وحفص بن عمر يروي الموضوعات لا يحل لأحد الاحتجاج به وأما سيف فكذاب بإجماعهم

ورواه أيضا من كتاب أبي جعفر العقيلي من حديث سعيد بن الفضل القرشي حدثنا عمر بن أبي صالح العتكي عن أبي غالب عن أبي أمامة قال قال رسول الله لما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال وعزتي ما خلقت خلقا هو أعجب إلي منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب

قال أبو الفرج هذا حديث لا يصح عن رسول الله وذكر أن سعيدا وعمرا مجهولان

قال وقد روى من طريق علي وأبي هريرة وليس فيها شيء يثبت

قال أحمد بن حنبل هذا الحديث موضوع ليس له أصل

قال العقيلي لا يثبت في هذا الباب شيء فهذا اتفاق أهل المعرفة على بطلان هذا الحديث مع أن أكثر ألفاظه لما خلق العقل قال له وهذا بمنزلة قوله أول ما خلق الله العقل بالنصب لكن هذا اللفظ يمكن هؤلاء الملحدون أن يغيروا إعرابه بخلاف ذلك اللفظ فإنه لا حيلة لهم في إعرابه

ثم إنه من العجب أن هذا الحديث قد جعله عمدتهم في أصول الدين والمعرفة والتحقيق من يروم الجمع بين الشريعة الإلهية والفلسفة اليونانية المشائية وكل هؤلاء غيروه وإن كان موضوعا فرووه أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل وجعلوا هذا حجة وموافقا لما يقوله الفلاسفة المشاؤون أتباع أرسطو من قولهم أول الصادرات عن واجب الوجود هو العقل الأول

وقد شاع هذا في كلام كثير من المتأخرين بعد أن رأوه في كتب رسائل إخوان الصفا فإن هذه الرسائل هي عمدة لهؤلاء، ووجدوا نحو هذا في كلام أبي حامد في مواضع وإن قيل إنه رجع عن ذلك

ثم وقع بعده في كلام من سلك هذه السبيل من الجهمية والمتفلسفة من القائلين بوحدة الوجود وغيرهم وهذا باطل من وجوه كثيرة أحدها أن هذا الحديث بهذا اللفظ والإعراب لم يروه أحد من رواة الحديث لا بإسناد صحيح ولا سقيم بل الحديث المروي وإن كان بإسناد سقيم لفظه أول ما خلق الله العقل بنصب أول والعقل وذلك لا حجة فيه على أن العقل أول مخلوق خلق إذ لفظه أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل فهو نصب على الظرف إذ ما هي المصدرية وهي والفعل بتأويل المصدر الذي يجعله ظرفا كما يقال أول ما لقيت فلانا سلمت عليه أي في أول أوقات لقيه سلمت عليه

وإذا كان معناه أنه قال له في أول أوقات خلقه هذا القول لم يدل على أنه أول مخلوق بل هو دليل على أنه خلق قبله غيره

إذ قد قال له في أول أوقات خلقه ما خلقت خلقا أكرم علي منك وإن كان قد تحذلق من تحذلق من الجهميين القائلين بوحدة الوجود وغيرهم ففسروا الإقبال والإدبار بما لا يدل عليه اللفظ واختلفوا في ذلك حتى أن صاحب البيد يفسر الإقبال والإدبار بما يرجع محصوله إلى أصله الفاسد من أن وجوده وجود الحق

فمعلوم أن هذا ليس هو قول هؤلاء الفلاسفة ولكن أرسطو حكى عن بعض قدماء الفلاسفة أنه كان يقول الوجود واحد ورد ذلك عليه

فقول هؤلاء يواطئ هذا القول الذي لم يرضه هؤلاء الفلاسفة وقد كان صاحب البيد يقول عن صاحب الفصوص والفتوحات المكية إن كلامه فلسفة مخموجة أي عفنة فيكون كلامه هو فلسفة منتنة وسواء كان قولهم أو لم يكن فمعلوم أن اللفظ المذكور لا يدل على ما فسره به بوجه من وجوه دلالات اللفظ ولكن هؤلاء سلكوا مسلك القرامطة الباطنية وهم من المتفلسفة المنتسبين إلى الإسلام وكان ابن سينا يقول كان أبي من أهل دعوتهم ولذلك قرأت كتب الفلاسفة ومعلوم أن مقالات هؤلاء من ابعد المقالات عن الشرع والعقل فإنهم يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات فيحرفون الكلم عن مواضعه أعظم من التحريف الذي عيب به اليهود والنصارى إلا من تقرمط من الأميين من متفلسفيهم فإنه شبيه بهم

وقد علم بالاضطرار أن ما يفسرون به كلام الله تعالى ورسوله بل وكلام غيرهما ليس داخلا في مرادهم فضلا عن أن يكون هو المراد بل غالب تفاسيرهم منافية لما أراده الله تعالى إما من ذلك اللفظ وإما من غيره وإن كان طوائف من المشهورين بالفقه والتصوف يطلقون هذه العبارات الإسلامية بالتفاسير الفلسفية القرمطية فقد صرحوا بأن ذلك مأخوذ عن هؤلاء كما ذكر أبو حامد في كتابه معيار العلم لما تكلم على الحدود

قال:

ولكنا أوردنا حدودا مفصلة لتحصل الدربة بكيفية تحرير الحد وتأليفه فإن الإمتحان والممارسة للشيء تفيده قوة عليه لا محالة

والثاني لأن يقع الإطلاع على معاني أسماء أطلقها الفلاسفة وقد أوردناها في كتاب تهافت الفلاسفة إذ لم يمكن مناظرتهم إلا بلغتهم وعلى حكم اصطلاحهم وإذا لم نفهم ما أوردناه في اصطلاحهم لا يمكن مناظرتهم

فقد أوردنا حدود ألفاظ أطلقوها في الإلهيات والطبيعيات وشيئا قليلا من الرياضيات فلتؤخذ هذه الحدود على أنها شرح الاسم

فإن قام البرهان على أن ما شرحوه هو كما شرحوه اعتقد حدا وإلا اعتقد شرحا للاسم وإنما قدمنا هذه المقدمة لتعلم أن ما نورده من الحدود شرح لما أراده الفلاسفة بإطلاق لا حكم بأن ما ذكروه على ما ذكروه فإن ذلك إنما يتوقف على النظر في موجب البرهان عليه

قال والمستعمل في الإلهيات أربع عشرة لفظة وهو الباري تعالى وهو المسمى بلسانهم المبدأ الأول

والعقل

والنفس

والعقل الكلي

وعقل الكل

والنفس الكلي

ونفس الكل

والملك

والعلة

والمعلول

والإبداع

والخلق

والإحداث

والقديم

إلى أن قال

العقل الكلي وعقل الكل والنفس الكلي ونفس الكل وبيانه أن الموجودات عندهم يعني الفلاسفة ثلاثة أقسام:

أجسام وهي أخسها

وعقول فعالة وهي أشرفها لبرائتها عن المادة وعلاقة المادة حتى أنها لا تحرك المواد أيضا إلا بالشوق

وأوسطها النفوس وهي التي تنفعل عن العقل وتفعل في الأجسام فهي واسطة، ويعنون بالملائكة السماوية نفوس الأفلاك فإنها حية عندهم، وبالملائكة المقربين العقول الفعالة

فالعقل الكلي يعنون به المعنى المعقول المقول على كثيرين مختلفين بالعدد من العقول التي لأشخاص الناس ولا وجود لها في القوام بل في التصور فإنك إذا قلت الإنسان الكلي أشرت به إلى المعنى المعقول من الإنسان الموجود في سائر الأشخاص الذي هو في العقل صورة واحدة تطابق سائر أشخاص الناس ولا وجود لإنسانية واحدة هي إنسانية زيد وهي بعينها إنسانية عمرو ولكن في العقل نحصل صورة الإنسان من شخص واحد مثلا وتطابق سائر أشخاص الناس كلهم فيسمى ذلك الإنسانية الكلية فهذا ما يعني بالعقل الكلي

وأما عقل الكل فيطلق على معنيين لأن الكل يطلق على معنيين

أحدهما وهو الأوفق للفظ أن يراد بالكل جملة العالم فعقل الكل على هذا المعنى بمعنى شرح اسمه أنه جملة الذوات المجردة عن المادة من جميع الجهات التي لا تتحرك لا بالذات ولا بالعرض ولا تتحرك إلا بالشوق وآخر رتبة هذه الجملة هو العقل الفعال المخرج للأنفس الإنسانية في العلوم القلية من القوة إلى الفعل وهذه الجملة هي مبادئ الكل بعد المبدأ الأول

والمبدأ الأول هو مبدع الكل

وأما الكل بالمعنى الثاني فهو الجرم الأقصى أعني الفلك التاسع الذي يدور في اليوم والليلة فيتحرك بحركته كل ما هو حشوه من السموات كلها فيقال لجرمه جرم الكل ولحركته حركة الكل وهو اعظم المخلوقات وهو المراد بالعرش عندهم فعقل الكل بهذا المعنى جوهر مجرد عن المادة من كل الجهات وهو المحرك لحركة الكل على سبيل التشويق لنفسه ووجوده أول وجود مستفاد عن الأول ويزعمون أنه المراد بقوله عليه الصلاة والسلام أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل الحديث إلى آخره

قال وأما النفس الكلي فالمراد به المعنى المقول على كثيرين مختلفين بالعدد في جواب ما هو أي التي كل واحد منها نفس خاصة لشخص كما ذكرنا في العقل الكلي ونفس الكل على قياس عقل الكل جملة الجواهر الغير جسمانية التي هي كمالات مدبرة للأجسام السماوية المحركة لها على سبيل التشويق والاختيار العقلي، ونسبة نفس الكل إلى عقل الكل كنسبة أنفسنا إلى العقل الفعال

ونفس الكل هو مبدأ قريب لوجود الأجسام الطبيعية ومرتبته في نيل الوجود بعد مرتبة عقل الكل ووجوده فائض عن وجوده

وقد قال أبو حامد قبل هذا:

وأما العقول الفعالة فهي نمط آخر

والمراد بالعقل الفعال كل ماهية مجردة عن المادة اصلا فحد العقل الفعال أما من جهة ما هو عقل أنه جوهر صوري ذاته ماهية مجردة عن ذاتها لا بتجريد غيرها عن المادة وعن علائق المادة بل هي ماهية كل موجود

فأما من جهة أنه فعال فإنه جوهر بالصفة المذكورة ومن شأنه أن يخرج العقل الهيولاني من القوة إلى الفعل بإشراقه عليه، وليس المراد بالجوهر المتحيز كما يريده المتكلمون بل هو قائم بنفسه لا في موضوع

والصوري احتراز عن الجسم وما في المواد

وقولهم لا بتجريد غيره احتراز عن المعقولات المرتسمة في النفس من أشخاص الماديات فإنها تتجرد بتجريد العقل إياها لا بتجريدها بذتها إذ العقل الفعال المخرج لنفوس الآدميين بالعلوم من القوة إلى الفعل فنسبته إلى المعقولات والقوة العاقلة كنسبة الشمس إلى الإبصار والمبصرات والقوة الباصرة إذ يخرج الإبصار من القوة إلى الفعل

وقد يسمون هذه العقول الملائكة

وفي وجود جوهر على هذا الوجه يخالفهم المتكلمون إذ لا وجود لعالم بنفسه غير متحيز إلا الله وحده

والملائكة عندهم أجسام لطيفة متحيزة عند أكثرهم

وتصحيح ذلك بطريق البرهان وما ذكرناه شرح الاسم ثم قال حد النفس هو عندهم اسم مشترك يقع على معنى يشترك فيه الإنسان والحيوان والنبات وعلى معنى آخر يشترك فيه الإنسان والملائكة السماوية عندهم

فحد النفس بالمعنى الأول عندهم أنه كمال جسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة

وحد النفس بالمعنى الآخر أنه جوهر غير جسم وهو كمال للجسم متحرك محرك له بالاختيار عن مبدأ قطعي أي عقلي بالفعل أو بالقوة

فالذي بالقوة هو فصل للنفس الإنسانية

والذي بالفعل هو فصل للنفس الملكية

قلت قوله عنهم إن نفس الكل هو مبدا قريب للأجسام الطبيعية فيه كلام بينهم من جهة أن أكثرهم يقولون أن العقل نفسه هو المبدأ للأجسام

وكذلك قوله العقول الفعالة فيه كلام من جهة أن المسمى بالعقل الفعال عندهم هو الآخر العاشر كما قد بينه أنه هو الذي يخرج نفوس الآدميين من القوة إلى الفعل

وما ذكره عنهم من الفرق بين العقول والنفوس وبين الأجسام بأن تلك مجردة عن المادة والأجسام في المادة منبئ على أن للجسم مادة هي جوهر قائم بنفسه وهو من أعظم الباطل

وما ذكروه من التجريد واحترازهم عن المعقولات بقوله: لا بتجريد غيره يقتضي الاشتراك في مسمى العقل، وهذا العقل عرض من الأعراض وذاك جوهر قائم بنفسه

ولا ريب أن كلامهم في إثبات ذلك وإن كان مهيبا عند من لم يمعن النظر فيه فهو عند التحقيق في غاية الفساد والتناقض والاضطراب كما قد أوضحناه في غير هذا الموضع

وكذلك ما ذكره عن المتكلمين في المتحيز فإن لهم في ذلك نزاعا وفيه تفصيل ليس هذا موضعه

لكن ليس المقصود هنا إلا أن أبا حامد وأمثاله يقرون بأن جعل هذه المعاني الفلسفية مسميات بهذه الأسماء النبوية هو من كلام هؤلاء المتفلسفة

فإذا وجد مثل ذلك في كلام واحد من هؤلاء علم أنه احتذى حذوهم لئلا يغتر بذلك من قد ينازع في ذلك أو يرتاب فيه أو لا يخطر بقلبه لحسن ظنه بمن يتكلم بالعبارات الإسلامية النبوية أنه لا يريد بها ما يعنيه هؤلاء المتفلسفة وما أحسن ما قال شيخ الإسلام الهروي فيمن هو أحسن حالا من هؤلاء من أهل الكلام قال أخذوا مخ الفلسفة فلبسوه لحاء السنة

وبسبب هذا ضل طوائف ممن لم ينكشف لهم حقيقة مقاصد الناس فلا يفهمون ما يقصده الأنبياء والرسل ولا ما يقصده هؤلاء حتى يقابلوا بين هذه المعاني وتلك فيعلمون هل هي متفقة متشابهة ام مختلفة بل متضادة بل قد يحرفون كلام أئمتهم إذا ظهر المسلمون فيصرفونه إلى ما يقبله المسلمون وكذلك ذكر الكاشفون لأسرار القرامطة والهاتكون لاستارهم كالقاضي أبي بكر الطيب والقاضي أبي يعلى وطوائف كثيرة ما وجدنا مصداقه في كتب القرامطة من أنهم وضعوا لأنفسهم اصطلاحات روجوها على المسلمين ومقصودهم بها مقصود الفلاسفة الصابئين والمجوس الثنوية كقولهم السابق والتالي يعنون به العقل والنفس

ويقولون هو اللوح والقلم

وأصل دينهم مأخوذ من دين المجوس والصابئين

وكذلك السهروردي الحلبي المقتول كلامه في الباطن يأخذه من مادة الفلاسفة الصابئين والمجوس وبهذه المعاني يتميز عن غيره من الفلاسفة المشائية ولهذا يعظم الأنوار وهؤلاء الذين سلكوا مسلك فارس والروم هم من الداخلين في قوله في الحديث الصحيح: لتأخذن مآخذ الأمم قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا يا رسول الله فارس والروم قال ومن الناس إلا هؤلاء

وقد بسطنا ما يتعلق بهذا في غير هذا الموضع

ثم إنهم مع إقرارهم بأن جعل هذه المعاني الصابئية الفلسفية هي مسميات هذه الأسماء النبوية او التي يقال إنها نبوية هو من كلام هؤلاء المتفلسفة يقطعون بذلك في مواضع أخر بل فيما يجعلونه من أشرف العلوم والمعارف حتى إنهم يجعلونه من العلوم التي يضن بها على غير أهلها ومن العلم المكنون الذي ينكره أهل الغزة بالله ولا يعرفه إلا أهل العلم بالله وهذا موجود في مواضع كثيرة كما في كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة لما ذكر أن الكفر هو تكذيب الرسول في شيء مما جاء به وقيل مع ذلك أن التصديق أنه ينظر أن الخبر وحقيقته الاعتراف بوجود ما أخبر الرسول بوجوده إلا أن للوجود خمس مراتب ذاتي وحسي وخيالي وعقلي وشبهي

والكلام على هاتين المقدمتين وما في الأولى من التفريط والتقصير عن الحق وما في الثانية من العدوان والزيادة على الحق له مواضع غير هذا لكن المقصود أنه قال: وأما الوجود العقلي فأمثله كثيرة

إلى أن قال:

المثال الثاني قوله عليه الصلاة والسلام إن الله تعالى خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا

فقد أثبت لله تعالى يدا ومن قام عند البرهان على استحالة يد الله تعالى هي جارحة محسوسة أو متخيلة يثبت لله تعالى يدا روحانية عقلية أعني أنه يثبت معنى اليد وحقيقتها وروحها دون تصورها إذ روح اليد ومعناها ما يبطش به ويفعل ويعطي ويمنع والله تعالى يعطي ويمنع بواسطة الملائكة كما قال عليه السلام اول ما خلق الله العقل فقال بك أعطي وبك أمنع

ولا يمكن أن يكون المراد بذلك العقل عرضا كما يعتقده المتكلمون إذ لا يمكن أن يكون العرض أو مخلوق بل يكون عبارة عن ذات ملك من الملائكة سمي عقلا من حيث يعقل الأشياء بجوهره وذاته من غير حاجة إلى تعلم

وربما يسميها قلما باعتبار أنه ينقش به حقائق العلوم في ألواح قلوب الأنبياء والأولياء وسائر الملائكة وحيا وإلهاما فإنه روى من حديث أن أول ما خلق الله القلم فإن لم يرجع ذلك إلى العقل تناقض الحديثان ويجوز أن يكون لشيء واحد أسماء كثيرة باعتبارات مختلفة فسمي عقلا باعتبار ذاته وملكا باعتبار نسبته إلى الله تعالى في كونه واسطة بينه وبين الخلق وقلما باعتبار إضافته إلى ما يصدر منه من نقش العلوم بالإلهام والوحي كما سمي جبريل روحا باعتبار ذاته وأمينا باعتبار ما أودع من الأسرار وذا قوة باعتبار قدرته وشديد القوى باعتبار كمال قوته ومكينا عند ذي العرش باعتبار قرب منزلته ومطاعا باعتبار كونه متبوعا في حق بعض الملائكة

وهذا القائل يكون قد أثبت قلما عقليا لا حسيا وخياليا لا كونيا وكذلك من ذهب إلى أن اليد عبارة عن صفة لله تعالى إما القدرة وإما غيرها كما اختلف فيه المتكلمون

فقد جعل في تأويل هؤلاء اليد والقلم والعقل عبارة عن شيء واحد وجعله هو المراد بذلك عندهم في هذه الأسماء الواردة في الكتاب والسنة

وكذلك قال في كتاب مشكاة الأنوار لما تكلم على المشكاة والمصباح والزجاجة والشجرة والزيت والنار وجعل المشكاة هو الروح الحسي والزجاجة الروح الخيالي والمصباح العقل والشجرة الروح الفكري والزيت الروح القدسي النبوي الذي يختص به الأنبياء وبعض الأولياء وهذا الكتاب كالعنصر لمذهب الاتحادية القائلين بوحدة الوجود وإن كان صاحب الكتاب لم يقل بذلك بل قد يكفر من يقول بذلك لكن ذاك لما فيه من الإجمال تارة ومن التفلسف وإبراز مقاصد الفلاسفة في الألفاظ النبوية وتأويلها عليها تارة ومن المخالفة لما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع تارة بل ومن المخالفة لما علم بالعقل الصريح تارة ولما فيه من الأمور التي يقولون إنها تستلزم قولهم

ولهذا عظم إنكار أئمة الاسلام لهذا الكتاب ونحوه حتى جرت في ذلك فصول يطول وصفها

وقد جعل الكتاب ثلاثة فصول

الفصل الأول في بيان أن النور الحق هو الله تعالى وأن اسم النور لغيره مجاز محض لا حقيقة له وعاد كلامه إلى أن النور بمعنى الوجود وقد سلك ابن سينا قبله نحوا من ذلك مما جمع به بين الشريعة والفلسفة وكذلك سلك الاسماعيلية الباطنية في كتابهم الملقب برسائل إخوان الصفا وكذلك فعل ابن رشد بعده

وكذلك الاتحادية يجعلون ظهوره وتجليه في الصور بمعنى وجوده فيها

والكلام على هذا واسع مذكور في غير هذا الموضع إذ الغرض هنا بيان ما يعلم به من كلامهم من متابعتهم للمتفلسفة الصابئين

والتعبير عن تلك المعاني بألفاظ الأنبياء والمرسلين مع العلم من كل من اوتي العلم والإيمان بل من كل مؤمن بأن ما في هؤلاء من مخالفة كتاب الله تعالى ورسله ودينه أعظم مما في اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل

ثم قال الفصل الثاني في بيان مثال المشكاة المصباح والزجاجة والشجرة والزيت والنار، ومعرفة هذا تستدعي تقديم قطبين يتسع المجال فيهما إلى غير حد محدود

الأول في بيان سر التمثيل ومنهاجه ووجه ضبط أرواح المعاني بقوالب الأمثلة

والثاني في بيان مراتب الأرواح البشرية النورانية إذ بمعرفتها تعرف أمثلة القرآن

وأما الفصل الثالث ففي معنى قوله إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره

وفي بعض الروايات سبعمائة وفي بعضها سبعين ألفا

قلت وقد بسطنا الكلام على هذه الآية واسم الله النور والحجب وما يتعلق بذلك في غير هذا الموضع وتكلمنا على ما ذكره هو وأبو عبد الله الرازي وأمثالهما في ذلك وبينا أن هذا الحديث بهذا اللفظ كذب على رسول الله باتفاق أهل المعرفة بالحديث لا يوجد في شيء من دواوين الحديث وذكرنا الحديث الذي في الصحيح حديث أبي موسى عن النبي أن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه وذكرنا الأحاديث والآثار في الحجب وكلام السلف والأئمة في ذلك وبينا مخالفة الجهمية من المتفلسفة وغيرهم وأشباههم للنصوص المتواترة في ذلك مع مخالفتهم للعقل الصريح ولكن من لم يكن له عناية تامة باتباع المرسلين واقتفاء آثارهم والاهتداء بأعلامهم ومنارهم واقتباس النور من مشكاة أنوارهم فإنه يجعل الحديث الصحيح ضعيفا والضعيف صحيحا والمعنى الحق باطلا والباطل حقا صريحا كما يوجد في كلام سائر الخارجين عن منهاج السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان المبتدعين فيما فارقوا به طريق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة وهم الطائفة المهدية المنصورة إلى قيام الساعة كما قال رسول الله لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة

ولما تكلم صاحب مشكاة الأنوار على طريق هؤلاء في الباطن بألفاظ الكتاب والسنة في الظاهر وإن كان قد روى أنه رجع عن ذلك كله ومن الناس من يطعن في إضافة هذه الكتب إليه والمقصود التنبيه على ما في هذه الكتب المخالفة للكتاب والسنة من الضلال لئلا يغتر بها وبنسبتها إلى المعظمين أقوام جهال

قال القطب الأول في سر التمثيل ومنهاجه اعلم أن العالم عالمان روحاني وجسماني وإن شئت قلت حسي وعقلي وإن شئت قلت علوي وسفلي والكل متقارب وإنما يختلف باختلاف العبارات فإن اعتبرتهما في أنفسهما قلت جسماني وروحاني وإذا اعتبرتهما بالإضافة إلى العين المدركة لهما قلت حسي وعقلي وإذا اعتبرتهما بإضافة أحدهما إلى الآخر قلت علوي وسفلي وربما سميت احدهما عالم الملك والشهادة والآخر عالم الغيب والملكوت ومن يطلب الحقائق من الألفاظ ربما تحير عند كثرة الألفاظ وتخيل كثرة المعاني والذي تنكشف له الحقائق يجعل المعاني أصلا والألفاظ تبعا وأمر الضعيف بالعكس منه إذ يطلب الحقائق من الألفاظ وإلى الفريقين الإشارة بقوله تعالى أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم

وإذا عرفت معنى العالمين فاعلم أن العالم الملكوتي عالم غيب إذ هو غائب عن الأكثرين والعالم الحسي عالم شهادة إذ تشهده الكافة والعالم الحسي مرقاة إلى العالم العقلي ولو لم يكن بينهما اتصال ومناسبة لا نسد طريق الترقي إليه ولو تعذر ذلك لتعذر السفر إلى الحضرة الربوبية والقرب من الله تعالى فلن يقرب من الله أحد ما لم يطأ بحبوحة حظيرة القدس والعالم المرتفع عن إدراك الحس والخيال وهو الذي نعنيه بعالم القدس وإذا اعتبرنا جملته بحيث لا يخرج منها شيء ولا يدخل فيها ما هو غريب منه سميناه حظيرة القدس وربما سميناه الروح البشري الذي هو مجرى لوائح القدس الوادي المقدس ثم هذه الحظيرة فيها حظائر بعضها أشد إمعانا في معاني القدس ولكن لفظ الحظيرة يحيط بجميع طبقاتها فلا تظنن أن هذه الألفاظ معقولة عند غير أرباب البصائر

واشتغالي الآن بشرح كل لفظ مع ذكره يصدني عن المقصد فعليك بالتشمير لفهم الألفاظ فأرجع إلى الغرض فأقول

لما كان عالم الشهادة مرقاة إلى عالم الملكوت فكان سلوك الصراط المستقيم عبارة عن هذا الترقي وقد يعبر عنه بالدين وبمنازل الهدى ولو لم يكن بينهما مناسبة واتصال لما تصور الترقي من احدهما إلى الآخر فجعلت الرحمة الإلهية عالم الشهادة على موازنة عالم الملكوت فما من شيء من هذا العالم إلا وهو مثال لشيء في ذلك العالم وربما كان الشيء الواحد مثالا لأشياء من عالم الملكوت وربما كان للشيء الواحد من الملكوت أمثلة كثيرة من عالم الشهادة وإنما يكون مثالا إذا ماثله نوعا من المماثلة وطابقه نوعا من المطابقة وإحصاء تلك الأمثلة يستدعي استقصاء جميع موجودات العالمين بأسرها ولن تفي به القوة البشرية فغايتي أن أعرفك فيها أنموذجا لتستدل باليسير منها على الكثير وينفتح لك باب الاستبصار بهذا النمط من الأسرار فأقول

إن كان في عالم الملكوت جواهر نورانية شريفة عالية يعبر عنها بالملائكة منها تفيض الأنوار على الأرواح البشرية ولأجلها قد تسمى أربابا ويكون الله تعالى رب الأرباب لذلك ويكون لها مراتب في نورانيتها متقاربة فالبحري أن يكون مثالها في عالم الشهادة الشمس والقمر والكواكب والسالك للطريق أولا ينتهي إلى ما درجته درجة الكواكب فيتضح له إشراق نورها وينكشف له أن العالم الأسفل بأسره تحت سلطانه وتحت إشراق نوره ويلوح له من كماله وعلو درجته ما يبادر فيقول هذا ربي ثم إن اتضح ما فوقه مما رتبته رتبة القمر رأى أفول الأول في مغيب الهوى بالإضافة ألى ما فوقه فقال لا لا أحب الآفلين وكذلك يترقى حتى ينتهي إلى ما مثاله الشمس فيراه أكبر وأعلى فيراه قابلا للمثال بنوع مناسبة له معه والمناسبة مع ذي النقص نقص وأفول أيضا فمنه يقول وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا ومعنى الذي إشارة مبهمة لا مناسبة لها إذ لو قال قائل ما مثال مفهوم الذي لم يتصور إن يجاب عنه فالمنزه عن كل مناسبة هو الأول الحق

إلى أن قال

فأقول علم التعبير يعرفك أيضا منهاج ضرب الأمثال لأن الرؤيا جزء من النبوة أما ترى أن الشمس في الرؤيا تعبيرها السلطان لما بينهما من المشاركة والمماثلة في معنى روحاني وهو الاستيلاء على الكافة مع فيضان الآثار على الجميع والقمر تعبيره الوزير لإفاضة الشمس نورها بواسطة القمر على العالم عند غيبتها عنه كما يفيض السلطان آثاره بواسطة الوزير على من يغيب عن حضرة السلطان وأن من رأى في يده خاتما يختم به أفواه الرجال وفروج النساء فتعبيره أنه مؤذن يؤذن قبل الصبح في رمضان وأن من يرى أنه يصب الزيت في الزيتون فتعبيره أن تحته جارية هي أمه وهو لا يعرف وباستقصاء ابواب التعبير تزيدك أنسا بهذا الجنس فلا يمكن اشتغال بعددها بل أقول كما أن في الموجودات العالية الروحانية ما مثاله الشمس والقمر والكواكب فكذلك فيما له أمثلة أخرى إذا اعتبرت منه أوصاف أخر سوى النورانية فإن كان في تلك الموجودات ما هو ثابت لا يتغير وعظيم لا يستصغر ومنه تتفجر إلى أودية القلوب البشرية مياه المعارف ونفائس المكاشفات فمثاله الطور وإن كان ثم موجودات تتلقى تلك النفائس أولا بعضهم بعد البعض فمثاله الوادي وإن كانت تلك النفائس بعد اتصالها بالقلوب البشرية تجري من قلب إلى قلب فهذه القلوب أيضا أودية ومفتتح الوادي قلوب الأنبياء ثم العلماء ثم من بعدهم فإن كانت هذه الأودية دون الأول ومنه تغترف فبالحري أن يكون الأول هو الوادي الأيمن لكثرة يمنه وبركته وعلو درجته وإن كان الوادي الأدون يتلقى من آخر درجات الوادي الأيمن فمغترفه شاطئ الوادي الأيمن دون لجته وبيدائه وإن كان روح النبي سراجا منيرا أو كان ذلك الروح مقتبسا بواسطة وحي كما قال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا فما منه الاقتباس مثاله النار وإن كان المتلقنون من الأنبياء بعضهم على محض التقليد لما يسمعه وبعضهم على حظ من البصيرة فمثال حظ المقلد الخبر ومثال خظ المستبصر الجذوة والقبس والشهاب فإن صاحب الذوق مشارك للنبي في بعض الأحوال ومثال تلك المشاركة الاصطلاء وإنما يصطلي بالنار من معه النار لا من يسمع خبرها وإن كان أول منازل الأنبياء الترقي إلى العالم المقدس عن كدورة الحس والخيال فمثال ذلك المنزل الوادي المقدس وإن كان لا يمكن وطء ذلك الوادي المقدس إلا بإطراح الكونين أعني الدنيا والآخرة والتوجه إلى الواحد الحق وكانت الدنيا والآخرة متقابلتين متحاذيتين وهما عارضان للجوهر النوراني البشري يمكن إطراحهما مرة والتلبس بهما مرة أخرى

فمثال إطراحهما عند الإحرام للمتوجه إلى كعبة القدس خلع النعلين بل يترقى إلى الحضرة حضرة الربوبية مرة أخرى ونقول إن كان لتلك الحضرة شيء بواسطته تنتقش العلوم المفضلة من الجواهر القابلة لها فمثاله القلم وإن كان في تلك الجواهر القابلة لها ما بعضها سابقة التلقي ومنها ما ينتقل إلى غيرها فمثاله اللوح المحفوظ والكتاب والرق المنشور وإن كان فوق الناقش للعلوم شيء هو مسخر فمثاله اليد وإن كان لهذه الحضرة المشتملة على اليد واللوح والقلم والكتاب ترتيب منظوم فمثاله الصورة الأنسية وإن كان يوجد للصورة الأنسية نوع ترتيب على هذه المشاكلة فهي على صورة الرحمان وفرق بين أن يقال على صورة الرحمان وبين أن يقال على صورة الله لأن الرحمة الإلهية هي التي صورت الحضرة الإلهية بهذه الصورة ثم أنعم على آدم فأعطاه صورة مختصرة جامعة لجميع أصناف ما في العالم حتى كأنه كل ما في العالم فهو نسخة من العالم مختصرة

وصورة آدم أعني هذه الصورة مكتوبة بخط الله تعالى وهو الخط الالهي الذي ليس برقم وحروف إذ تنزه خطه عن أن يكون رقما وحروفا كما تنزه كلامه عن أن يكون صوتا ولفظا وقلمه عن أن يكون خشبا أو قصبا ويده عن أن تكون لحما وعظما ولولا هذه الرحمة لعجز الآدمي عن معرفة ربه إذ لا يعرف ربه إلا من عرف نفسه فلما كان هذا في آثار الرحمة كان على صورة الرحمان لا على صورة الله فإن حضرة الإلهية غير حضرة الرحمة وغير حضرة الملك وغير حضرة الربوبية ولذلك أمر بالعياذ بجميع هذه الحضرات فقال قل أعوذ برب الناس مالك الناس إله الناس

ولولا هذا المعنى لكان قوله إن الله خلق آدم على صورة الرحمان غير منظوم لفظا بل كان ينبغي أن يقول على صورته واللفظ الوارد في الصحيح الرحمان ولأن تمييز حضرة الملك من حضرة الربوبية يستدعي شرحا طويلا فلنتجاوزه ويكفيك من الأنموذج هذا القدر فإن هذا بحر لا ساحل له وإن وجدت في نفسك نفورا عن هذه الأمثال فآنس قلبك بقوله تعالى أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها الآية وأنه كيف ورد في التفسير أن الماء هو المعرفة والقرآن والأودية القلوب

ثم قال خاتمة واعتذار

لا تظنن من هذا الانموذج وطريق ضرب المثال رخصة مني في رفع الظواهر واعتقادا في إبطالها حتى أقول مثلا لم يكن مع موسى نعلان ولم يسمع الخطاب بقوله فاخلع نعليك حاشا لله فإن إبطال الظواهر رأي الباطنية الذين نظروا بالعين العوراء إلى أحد العالمين ولم يعرفوا الموازنة بينهما ولم يفهموا وجهه

كما إن إبطال الأسرار مذهب الحشوية فالذي يجرد الظاهر حشوى والذي يجرد الباطن باطني والذي يجمع بينهما كامل لذلك قال عليه السلام للقرآن ظاهر وباطن وحد ومطلع وإنما نقل هذا عن علي بن أبي طالب موقوفا عليه بل أقول فهم موسى من الأمر بخلع النعلين إطراح الكونين فامتثل الأمر ظاهرا بخلع النعلين وباطنا بإطراح العالمين فهذا هو الاعتبار أي العبور من الشيء إلى غيره ومن الظاهر إلى السر وفرق بين من سمع قول رسول الله لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب فيقتني الكلب في البيت ويقول ليس الظاهر مرادا بل المراد تخلية بيت القلب عن كلب الغضب فإنه يمنع المعرفة التي هي من أنوار الملائكة إذ الغضب غول العقل وبين من يمتثل الأمر في الظاهر ثم يقول الكلب ليس كلبا لصورته بل لمعناه وهو السبعية والضراوة وإذا كان حفظ البيت الذي هو مقر الشخص والبدن واجبا عن صورة الكلب فلأن يجب حفظ بيت القلب وهو مقر الجوهر الحقيقي الخاص عن شر الكلبية أولى فأنا أجمع بين الظاهر والسر جميعا فهذا هو الكامل وهو المعنى بقولهم الكامل من لا يطفئ نور معرفته نور ورعه ولذلك ترى الكامل لا تسمح نفسه بترك حد واحد من حدود الشرع مع كمال البصيرة وهذه مغلطة بسببها وقع بعض السالكين في إباحة وطى بساط الأحكام ظاهرا حتى أنه ربما ترك أحدهم الصلاة وزعم أنه دائما في الصلاة بسره وهذا أسوأ بغلطه من الحمقى الإباحية الذين تأخذهم الترهات كقول بعضهم إن الله غني عن عملنا وقول بعضهم إن الباطن مشحون بالخبائث وليس يمكن تزكيتها ولا مطمع في استئصال الغضب والشهوة لظنه أنه مأمور باستئصالهما وهذه حماقات

وقد أبطلنا جميع ذلك في كتاب الجام العوام ومنشأ الرسالة في أحكام الزيغ والضلالة

وأما ما ذكرناه فهو كبوة جواد وهفوة سالك جره الشيطان فدلاه بحبل غرور وأرجع إلى حديث النعلين فأقول ظاهر خلع النعلين منبه على ترك الكونين فالمثال في الظاهر حق وأداؤه إلى السر الباطن حقيقة ولكل حق حقيقة وأهل هذه المرتبة هم الذين بلغوا درجة الزجاجة كما سيأتي معنى الزجاجة لأن الخيال الذي من طينته يتخذ المثال صلب كثيف يحجب الأسرار ويحول بينك وبين الأنوار ولكن إذا صفى حتى صار كالزجاج الصافي صار غير حائل عن الأنوار بل صار مع ذلك حافظا للأنوار عن الانطفاء بعواصف الريح وسيأتيك قصة الزجاجة

فاعلم أن العالم الكثيف الخيالي السفلي صار في حق الأنبياء زجاجة ومشكاة للأنوار ومصفاة للأسرار ومرقاة إلى العالم الأعلى وبهذا تعرف أن المثال الظاهر حق ووراءه سر وقس على هذا الطور والنار وغيرهما

قلت ليس المقصود هنا الكلام المفصل على ما في هذا الكلام وأمثاله فإن علماء المسلمين قد بينوا من ذلك ما فيه كفاية

وقد تكلمنا في غير هذا الموضع على ما شاء الله تعالى من ذلك

والكلام الجملي إن مثل هذا الكلام يشتمل على أمور باطلة من جهة النقل كقوله إن في الصحيح إن الله خلق آدم على صورة الرحمان وقوله على صورته ليس في الصحيح فهذا من أبين الباطل فإن اللفظ الذي في الصحيح من غير وجه على صورته

وأما قوله على صورة الرحمان فيروى عن ابن عمر وفيه كلام قد ذكرناه مع ما قاله عامة طوائف الناس في هذا الحديث في غير هذا الموضع ويشتمل على أمور باطلة وهي في أنفسها مخالفة للشرع والعقل مثل ما فيه من أن ملكا من الملائكة وهو العقل الفعال مبدع لجميع ما تحته من المخلوقات أو أن الملائكة يسمونها العقول والنفوس أبدع بعضها بعضا أو أن عالم الشهادة هو المحسوسات وعالم الغيب المعقولات أو أن تفسير القرآن هو مثل تعبير الرؤيا وأمثال ذلك مما ليس هو من قول المسلمين واليهود والنصارى بل من أقوال الملاحدة من الصابئين والفلاسفة والقرامطة

وفيها ما هو من جنس الإشارة والاعتبار الذي سلكه الفقهاء والصوفية كما في قوله إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب فإذا قيس على تطهير القلب عن الأخلاق الخبيثة كان هذا من جنس إشارات الصوفية وقياس الفقهاء

ومنه ما هو من جنس القياس الفاسد كما ذكر من أن موسى أمر مع خلعه للنعلين بخلع الدنيا والآخرة وأن ما ينزل على قلوب أهل المعرفة من جنس خطاب تكليم موسى وتكليمه بهذا باطل باتفاق سلف الأمة وأئمتها وهو مبسوط في غير هذا الموضع وما فيه من تعظيم الأمر والنهي وقتل من يبيح المحرمات كلام حسن فإن أبا حامد هو في علم المعاملة والأمر والنهي كلامه من جنس كلام أمثاله من أهل التصوف والفقه وأما ما سماه هو علم المكاشفة فكلامه فيه ألوان فتارة يذكره بصوت أهل الفلسفة وتارة بصوت الجهمية وتارة بصوت هو من تصويت أهل الحديث والمعرفة وتارة يطعن على هؤلاء وتارة يذكر ما هو غير ذلك

وكلامنا في هذا الجواب إنما كان على فساد ما احتجوا به في قوله أول ما خلق الله العقل فبينا فساد كلامهم من وجوه

الأول أن كلام ابن الجوزي على حديث العقل قد تقدم حيث بدأنا بالحديث وذكرنا ما قال فيه أئمة العلم وانقضى

الثاني أن هؤلاء لا يجعلون العقول والنفوس التي يثبتها الفلاسفة من عالم الخلق بل يفسرون عالم الخلق بعالم الأجسام بناء على أن الخلق التقدير وأن الأجسام هي ذوات المقدرات

ويقولون بناء على أصل هؤلاء الفلاسفة والذين وافقهم عليه هؤلاء أن العقول والنفوس ليست أجساما بل هي عالم الأمر عندهم كما يقولون ما يذكره أبو حامد في مواضع الفرق بين عالم الملك والملكوت والجبروت

ويفسرون عالم الملك بعالم الأجسام، وعالم الملكوت بعالم النفوس لأنها باطن للأجسام، وعالم الجبروت بالعقول لأنها غير متصلة بالأجسام ولا متعلقة بها ومنهم من يعكس

وقد يجعلون الإسلام والإيمان والإحسان مطابقا لهذه الأمور ومعلوم أن ما جاء في الكتاب والسنة من لفظ الملكوت كقوله تعالى بيده ملكوت كل شيء

وقوله في ركوعه سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة لم يرد به هذا باتفاق المسلمين ولا دل كلام أحد من السلف والأئمة على التقسيم الذي يذكرونه بهذه الألفاظ وهم يعبرون بهذه العبارات المعروفة عند المسلمين عن تلك المعاني التي تلقوها عن الفلاسفة وضعا وضعوه ثم يريدون أن ينزلوا كلام الله تعالى ورسوله على ما وضعوه من اللغة والاصطلاح وهذا لو كانت تلك المعاني التي يذكرها الفلاسفة صحيحة ما جاز بل كان من الكذب على الله تعالى وعلى رسوله أنه يقال أنه أرادها فكيف وأكثر تلك المعاني باطلة ومضطربة وما يذكرونه من الأقيسة العقلية على ثبوتها أقيسة ضعيفة بل فاسدة وقد اعترف أساطين الفلاسفة بأنها لا تفضي إلي اليقين وكل منهم يعبر عن المعاني الفلسفية بعبارات إسلامية ومنهم من لا يبين لأكثر الناس أن مراده ذلك ومنهم من يزعم أن تلك المعاني حصلت له بطريق الكشف والمشاهدة كما يزعمه صاحب الفتوحات المكية وأشباهه وقد يقول عن الملائكة أنوار في أنوار وأنوار في ظلال وأنوار في ظلمه

والأول هي العقول

والثاني هي النفوس الفلكية

والثالث النفوس الطبيعية

ومعلوم أن الملائكة الذين وصفهم الله تعالى في الكتاب والسنة لا ينطبقون على هذه العقول العشرة والنفوس التسعة التي يذكرونها كما قد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع

ولهذا يؤول بهم الأمر إلى أن يجعلوا الملائكة والشياطين أعراضا تقوم بالنفس ليس أعيانا قائمة بنفسها حية ناطقة ومعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما أخبرت به الرسل واتفق عليه المسلمون وإن كان قد يعني بالشيطان العاتي المتمرد من كل نوع وقد يعني به بعض الناس عرضا

وهذا كما يجعلون كلام الله ما يفيض على نفس النبي من غير أن يثبتوا لله تعالى كلاما خارجا عما في نفس النبي وعند التحقيق فلا فرق عندهم بين الفيض على نفس النبي وسائر النفوس إلا من جهة كونها أصفى وأجمل وحينئذ فيكون القرآن كلام النبي وهذا حقيقة قول الوحيد الذي قال في القرآن إن هذا إلا قول البشر كما قد بينا في غير هذا الموضع

ولهذا يقولون إنه لم يسجد لآدم إلا الملائكة الأرضية ويعنون بالسجود انقياد هذه القوى للبشر كما في جواهر القرآن

قال وأما الأفعال فبحر متسع أكنافه ولا ينال بالاستقصاء أطرافه بل ليس في الوجود إلا الله وأفعاله فكل ما سواه فعله لكن القرآن اشتمل على الخلق منها الواقع في عالم الشهادة كذكر السموات والكواكب والأرض والجبال والبحار والحيوان والنبات وإنزال الماء الفرات وسائر أصناف النبات والحيوان وهي التي ظهرت للحس وأشرف أفعاله وأعجبها وأدلها على جلالة صانعها مالا يظهر للحس بل هو من عالم الملكوت وهي الملائكة الروحانية والروح والقلب أعني العارف بالله تعالى من جملة أجزاء الآدمي فإنها أيضا من جملة عالم الغيب والملكوت وخارج عن عالم الملك والشهادة ومنها الملائكة الأرضية الموكلة بجنس الإنسان وهي التي سجدت لآدم عليه السلام

ومنها الشياطين المسلطة على جنس الإنسان وهي التي امتنعت عن السجود لآدم

ومنها الملائكة السماوية وأعلاهم الكروبيون وهم العاكفون في حظيرة القدس لا التفات لهم إلى الآدميين بل لا التفات لهم إلى غير الله تعالى لاستغراقهم بجمال الحضرة حضرة الربوبية وجلالها فهم قاصرون عليه لحاظهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا تستبعد أن يكون في عباد الله من يشغله جلال الله تعالى عن الالتفات إلى آدم وذريته ولا يستعظم الآدمي إلى هذا الحد فقد قال رسول الله إن لله أرضا بيضاء تسير الشمس فيها ثلاثين يوما هي مثل أيام الدنيا ثلاثين مرة مشحونة خلقا لا يعلمون أن الله تعالى خلق آدم وإبليس رواه ابن عباس فاستوسع مملكة الله تعالى

قلت فهذا الكلام سيعظمه في بادئ الرأي أو مطلقا من لم يعرف حقيقة ما جاء به الرسول ولم يعلم حقيقة الفلسفة التي طبق هذا الكلام عليها وعبر عنها بعبارات المسلمين

فأما قول القائل إن القرآن اشتمل على الخلق وهي التي ظهرت للحس وأشرف أفعال الله ما لم يظهر للحس يعني ولم يشتمل القرآن عليه فهذا مع ما فيه من الغض بالقرآن وذكر اشتماله على القسم الناقص دون الكامل وتطرق أهل الإلحاد إلى الاستخفاف بما جاءت به الرسل هو كذب صريح يعلم صبيان المسلمين أنه كذب على القرآن

فإن في القرآن من الأخبار عن الغيب من الملائكة والجن والجنة والنار وغير ذلك ما لا يخفى على أحد وهو أكثر من أن يذكر هنا وفي القرآن من الأخبار بصفات الملائكة وأصنافهم وأعمالهم ما لا يهتدي هؤلاء إلى عشره إذ ليس عندهم من ذلك إلا شيء قليل مجمل بل الرسول إنما بعث ليخبرنا بالغيب والمؤمن من آمن بالغيب

وما ذكره من المشاهدات فإنما ذكره آية ودلالة وبينة على ما أخبر به من الغيب فهذا وسيلة وذلك هو المقصود

ثم يقال إنه إنما ذكر الوسيلة يا سبحان الله إذا لم يكن الإخبار عن هذا القسم في هذا الكتاب الذي ليس تحت أديم السماء كتاب أشرف منه وعلم هذا لا يؤخذ عن الرسول الذي هو أفضل خلق الله تعالى في كل شيء في العلم والتعليم وغير ذلك أيكون ذكر هذا في كلام أرسطو وذويه وأصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثال هؤلاء الذين يثبتون ذلك بأقيسة مشتملة على دعاوى مجردة لا نقل صحيح ولا عقل صريح بل تشبه الأقيسة الطردية الخالية عن التأثير وتعود عند التحقيق إلى خيالات لا حقيقة لها في الخارج كما سننبه عليه

وكذلك روح الإنسان وقلبه في الكتاب والسنة من الإخبار عن ذلك ما لا يكاد يحصيه إلا الله تعالى

ثم قوله بعد ذلك ومنها الملائكة الأرضية الموكلة بجنس الإنسان وهي التي سجدت لآدم وزعم أن ملائكة السموات والكروبيين لم يسجدوا لآدم هو أبعد قول عن أقوال المسلمين واليهود والنصارى فإن القرآن قد أخبر أنه سجد الملائكة كلهم أجمعون فأتى بصيغة العموم ثم أكدها تأكيدا بعد تأكيد

فليت شعري إذا أراد المتكلم الأخبار عن سجود جميع الملائكة هل يمكنه أبلغ من هذه العبارة لكن من يفسر الملائكة بقوى النفوس لا يستبعد أن يقول مثل هذا والملائكة السماوية عندهم هي النفوس الفلكية، والكروبيون على اصطلاحهم هم العقول العشرة

ومعلوم أن هذا كله ليس من أقوال أهل الملل اليهود والنصارى فضلا عن المسلمين

وقول القائل إن اولئك لا يلتفتون إلى الادميين هو من أقوال الفلاسفة الضالين

والمشهور عند أهل السنة والجماعة أن الأنبياء والأولياء أفضل من جميع الملائكة

وقد قال عبد الله بن سلام ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد فقيل له يا أبا يوسف ولا جبرائيل ولا ميكائيل فقال يا ابن أخي أو تعرف ما جبرائيل وميكائيل إنما جبرائيل وميكائيل خلق مسخر مثل الشمس والقمر ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد

وثبت بالإسناد الذي على شرط الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه قال قالت الملائكة يا ربنا قد جعلت لبني ادم الدنيا ياكلون منها ويشربون فاجعل لنا الاخرة كما جعلت لهم الدنيا فقال لا افعل ثم اعادوا عليه فقال لا افعل ثم اعادوا عليه فقال وعزتي لا اجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان

وروى هذا عبد الله بن احمد في كتاب السنة عن النبي باسناد مرسل والمرسل يصلح للاعتضاد بلا نزاع وقد تكلمت عن هذه المسألة بكلام مبسوط كتبناه من سنين كثيرة

وأما قوله ومنها الشياطين المسلطة على جنس الإنسان وهي التي امتنعت عن السجود فغلط ايضا فأنه لم يؤمر بالسجود من جنس هؤلاء الا إبليس ولم يؤمر بالسجود لادم إحد من ذريته فكيف يوصفون بالامتناع المذكور

وإذا كان رب العباد يسمع كلام عباده ويجيب دعاءهم عند المسلمين فأي نقص على الملائكة إذا استغفروا لهم، بل كان من قولهم إن الله لا يجيب داعيا ولا يقدر على تغيير ذرة في العالم وإنما دعاء العباد تصرف نفوسهم في هيولى العالم وأن العالم لازم لذاته لا يمكنه دفعه عن هذا اللزوم بل أئمتهم على أنه لا يشعر بأعيان خلقه وإذا كانوا كذلك لم يستنكر لهم أن يقولوا في ملائكته هذا

وأما قوله مستغرقون بجمال الحضرة وجلالها، فهذا الكلام من جنس الطامات فإن هذا من جنس ما يسميه بعض الصوفية الفناء وهو استغراق القلب في الحق حتى لا يشعر بغيره ومعلوم باتفاق الناس أن حال البقاء أكمل من الفناء وهذه حال الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين

ومعلوم أن الرسل أفضل الخلق وهم يدعون العباد إلى الله تعالى ويعلمونهم ويجاهدونهم ويأكلون الطعام ويمشون في الأسواق فلو كانت تلك الحال أكمل لكان من لم يرسل أكمل من الرسل

وهذا خلاف دين المسلمين واليهود والنصارى لكنه يوافق دين غالية الصابئة من المتفلسفة الذين يفضلون الفيلسوف على النبي والرسول وحال الجهمية الاتحادية الذين يفضلون الولي أو خاتم الأولياء على الرسل ومعلوم أن هذا باطل وكفر عند المسلمين

وأما قوله ولا تستبعد أن يكون في عباد الله تعالى من يشغله جلال الله تعالى عن الالتفات إلى آدم وذريته فهذا ليس صفة كمال بل الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون وهم مع ذلك يدبرون من أمر الخلق ما أمروا بتدبيره وقد أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس

وقد أخبر النبي أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهم أهل الدنيا النفس

ومعلوم أن النفس لا يشغل الإنسان عما يزاوله من الأعمال فحينئذ كان التسبيح والمشاهدة لجلال الله تعالى لا يشغلهم عن التدبير الذي وكلوا به وهذا الجمع أكمل لا سيما وهم يقولون كمال الإنسان التشبه بالإله على حسب الطاقة وقد وافقهم هؤلاء على هذا المعنى

وكذلك قولهم في الملأ الأعلى وإذا كان ذلك فمعلوم أن الله تعالى لا يشغله ما يفعله عن معرفته ولمه وذكره شيء بل هو سبحانه لا يشغله ما سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بالحاح الملحين

وإن كان قولهم في الله تعالى موافقا لقول المسلمين في علمه وقدرته ومشيئته فالكلام مع من يذكر مطابقة الكتاب والسنة لقولهم وهذا لا يكون إلا مسلما فلا يمكن ذكره المطابقة مع المخالفة لأصول المسلمين

وأما مع من لا يبالي بدين الرسول أو يفضل الفيلسوف على النبي فهذا لكلامه مقام آخر يستقصي فيه هذا الاستقصاء كما بسط تناقض أقوالهم على أصولهم وفسادها على كل أصل في غير هذا الموضع وقد قال الله تعالى الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم الآيتين

ومعلوم أن حملة العرش ومن حوله من أعظم المقربين من الملائكة بل قد ذكر من ذكر من المفسرين أن الملائكة المقربين هم حملة العرش والكروبيون من الملائكة مشتقون من كرب إذا قرب فالمراد وصفهم بالقرب لا بالكرب الذي هو الشدة كما يظن ذلك طوائف من هؤلاء ويفرقون بين الكروبيين والروحانيين بأن أولئك في عالم الجلال وهؤلاء في عالم الجمال فإن هذا توهم وخيال لم يقله أحد من علماء أهل الملل المتلقين ما يقولونه عن الرسل صلى الله عليهم وسلم أجمعين والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة ليس هذا موضع ذكرها

والحديث الذي ذكره عن ابن عباس من الموضوعات المكذوبات باتفاق أهل العلم ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة وإنما يوجد هذا الكلام أو نحوه في جزء فيه التفكر والاعتبار لابن أبي الدنيا

وأيضا فهؤلاء يعتقدون من جهة علم الهيئة أن هذا الحديث باطل فإذا كان هؤلاء يفسرون عالم الخلق بعالم الأجسام وعالم الأمر بعالم العقول والنفوس ويزعمون أنها ليست أجساما وعندهم هذا العالم لا يقال فيه أنه مخلوق بل هو مبدع بطل قولهم إن أول مخلوق هو العقل

وإن كان هذا التقسيم هو خلاف إجماع المسلمين إذ هم مجمعون على أن الله تعالى خالق كل شيء وأن كل ما سواه فهو مخلوق وصفاته ليست خارجة عن مسمى اسمه بل القرآن كلام الله غير مخلوق

وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم

وإن كان بعضهم قد نازع في بعض الأعراض كما في أفعال العباد التي تنازع فيها القدرية ولم ينازعوا في الأعيان والملائكة من الأعيان لا من الأعراض فهي من المخلوقات باتفاق المسلمين وليس بين أهل الملل خلاف في أن الملائكة جميعهم مخلوقون ولم يجعل أحد منهم المصنوعات نوعين عالم خلق وعالم أمر بل الجميع عندهم مخلوق

ومن قال إن قوله تعالى ألا له الخلق والأمر أريد به هذا التقسيم الذي ذكره فقد خالف إجماع المسلمين

وأما نظارهم الذين يتكلمون بلفظ الجوهر والجسم والعرض فمتفقون على أن جميع الملائكة أجسام بل متفقون على أن كل ممكن إما أن يكون جسما أو عرضا مع تنازعهم في الجسم هل هو منقسم إلى الأجزاء التي لا تنقسم أو غير منقسم وممتنع عندهم وجود قائم بنفسه وليس بجسم وهم متنازعون في الوجود مطلقا

ومن ذكر من المتأخرين كالشهرستاني والرازي والآمدي ونحوهم أنهم تكلموا في حدوث الأجسام ولم يعتمدوا دليلا على نفي ما ليس بجسم كالعقول والنفوس التي تثبتها الفلاسفة بل سكتوا عن ذلك فليس الأمر كما ذكروا بل قد صرح أئمة المتكلمين بأن نفي ذلك معلوم بالضرورة المستغنية عن الدليل وكثير منهم يقول إن كل موجودين فإما متباينان وإما متحايثان وأن هذا معلوم بالضرورة

وأما الممكنات فمتفقون على أن هذا التقسيم ثابت فيها بالضرورة وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع

فإذا قيل لفظ الخلق مشترك في اصطلاحهم كما ذكره أبو حامد عنهم فقال وحد الخلق هو اسم مشترك قد يقال خلق لإفادة وجود كيف كان وكذلك قد يقال خلق لإفادة وجود حاصل عن مادة وصورة كيف كان وقد يقال خلق هذا المعنى الثاني لكن بطريق الاختراع من غير سبق مادة فيها قوة وجوده وإمكانه

وإذا كان لفظ الخلق مشتركا عندهم بين مطلق الإيجاد وبين الإيجاد المختص بالأجسام العنصرية أمكن أن يحمل قوله أول ما خلق الله العقل على المعنى الأول

وما ذكروه من نفي الخلق عن العقول والنفوس فهو على الاصطلاحين الآخرين اللذين قد تكلم بهما أبو حامد تارة ذاكرا وتارة أثرا

قيل لا ريب أن القوم لهم أوضاع واصطلاحات كما لكل أمة ولكل أهل فن وصناعة ولغتهم في الأصل يونانية وإنما ترجمت تلك المعاني بالعربية ونحن نحتاج إلى معرفة اصطلاحهم لمعرفة مقاصدهم وهذا جائز بل حسن بل قد يجب أحيانا كما أمر النبي زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود وقال لا آمنهم

قال البخاري في صحيحه وقال خارجة بن زيد عن زيد بن ثابت أن النبي أمره أن يتعلم كتاب يهود حتى كتبت للنبي كتبه وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه فإذا كان هذا في كتب الأعاجم بألسنتهم ومعرفتنا بلغات الناس واصطلاحاتهم نافعة في معرفتنا مقاصدهم ثم نحكم فيها كتاب الله تعالى فما وافقه فهو حق وما خالفه فهو باطل كما قال الله تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

والاختلاف نوعان

نوع في جنس اللغة كالعربية والفارسية والرومية واليونانية ويقال هي ونوع في أصنافهم إذ قد يكون في الألفاظ العرفية العامة والاصطلاحية الخاصة نظير ما في لغة العرب

ولغة هؤلاء المصنفين منهم كانت من هذا النمط فأما الألفاظ التي أنزل الله بها القرآن الذي تلاه رسول الله على المسلمين وأخذوا عنه لفظه ومعناه وتناقل ذلك أهل العلم بالكتاب والسنة بينهم خلف عن سلف فهذه لا يجوز أن يرجع في معانيها إلى مجرد أوضاعهم ولا ريب أن القوم أخذوا العبارات الإسلامية القرآنية والسنية فجعلوا يضعون لها معاني توافق معتقدهم ثم يخاطبون بها ويجعلون مراد الله تعالى ورسوله من جنس ما أرادوا فحصل بهذا من التلبيس على كثير من أهل الملة ومن تحريف الكلم عن مواضعه ومن الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته ما الله به عليم ولهذا قد يوافقون المسلمين في الظاهر ولكنهم في الباطن زنادقة منافقون

وهذا كما جاءوا إلى لفظ المحدث وفي القديم فقالوا

الإحداث هو مشترك يطلق على وجهين

أحدهما زماني

والآخر غير زماني

فمعنى الإحداث الزماني الإيجاد للشيء بعد أن لم يكن له وجود في زمان سابق

ومعنى الإحداث غير الزماني هو إفادة الشيء وجودا وذلك الشيء ليس له في ذاته ذلك الوجود لا بحسب زمان دون زمان بل بحسب كل زمان

وغرضهم بهذا الوضع حتى يطلقوا بين المسلمين أن السماوات والأرض وما بينهما محدث مخلوق فيظن الظان أنهم لا ينازعون في كون ذلك محدثا مخلوقا مع العلم الضروري أن قولهم فيها ليس ما أخبرت به الرسل واتفق عليه أهل الملل

وكذلك أيضا قولهم إن الإبداع رسم مشترك لمفهومين أحدهما ما ينشؤه الشيء لا عن شيء ولا بواسطة شيء

والمفهوم الثاني أن يكون للشيء وجود مطلق عن سبب ترتب بلا متوسط وله في ذاته أن لا يكون موجودا وقد أفقد الذي في ذاته إفقادا تاما

قالوا وبهذا المفهوم العقل الأول مبدع في كل حال لأنه ليس وجوده من ذاته فله في ذاته العدم وقد أفقد ذلك إفقادا تاما

ومعلوم أن هذا المعنى ليس هو المعروف من لفظ الإبداع في اللغة التي نزل بها القرآن كما في قوله تعالى بديع السماوات والأرض ونحو ذلك ولفظ الخلق أبعد عن هذا المعنى فإن مثل هذا المعنى يعلم بالاضطرار أنه ليس هو المراد بلفظ الخلق في القرآن والسنة

وقد فسروا لفظ الخلق بثلاثة معان ليس فيها واحد هو المراد في كلام الله تعالى ورسوله والمؤمنين فإن ما يذكرونه من إفادة وجود الملائكة بالمعنى الأول وما يذكرونه في اختراع الأفلاك والعناصر بالمعنى الثاني لم يرد واحدا منها الأنبياء والمؤمنون وذلك معلوم بالاضطرار والتواتر والإجماع

أما المعنى الثالث فكذلك فليس في كلام الرسل ما يثبت أن الخلق حاصل في أجسام هي مادة وصورة بل كلامهم ينفي ذلك وهذا بين فقد تبين أن أهلل الملل المتفقين على أن الله تعالى خلق الملائكة لا يريدون خلقهم بالمعنى الأول وهو الذي يريده الفلاسفة كما في قوله تعالى فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون وقوله تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم سنكتب شهادتهم ويسألون وقوله تعالى جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير وقد أخبر الله تعالى في كتابه أن من أعمال الملائكة وعبادتهم وحركاتهم وكلامهم وأصنافهم ما ينافي أصولهم ويبطلها وكذلك قول النبي في الحديث الصحيح خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من نار وخلق آدم مما وصف لكم

وقد بين في غير هذا الموضع أن قولهم بصدور العقول والنفوس عنه هو نظير قول من جعل له بنين وبنات كما قال تعالى وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير

وتبين أيضا أن قولهم بتولد ذلك عنه هو كقول من يقول يتولد الملائكة أو المسيح عنه وقد قال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فيسحشرهم إليه جميعا وقال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا الآية وقال تعالى وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون في عبادته ولا يستحسرون وقال تعالى ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون

وهذا باب واسع ليس هذا موضعه قد بسطناه في غير هذا الموضع وأما خلق السماوات والأرض فقد نص القرآن والتوراة أنه خلق ذلك في ستة أيام وتواترت بذلك الأحاديث ثم اتفق عليه أهل الملل فكيف يجوز أن يفسر بالاختراع اللازم لذاته من غير سبق مادة كما ذكروه في المعنى الثالث

ولفظ الخلق المذكور في القرآن يتضمن معنيين كلاهما يناقض قولهم يتضمن الإبداع والإنشاء المعروف ويتضمن التقدير،

وعندهم العقول والنفوس ليس لها مقدار ولا هي أيضا مبدعة الإبداع المعروف

والسماوات ليست مبدعة الإبداع المعروف وقد قال تعالى وخلق كل شيء فقدره تقديرا

فذكر لفظ الخلق لكل شيء وذكر أنه قدر كل شيء تقديرا والملائكة عندهم لم تقدر بل ولم تخلق الخلق المعروف عند المسلمين وهذا يدل على مناقضتهم للرسل أيضا مع كثرة أدلة ذلك باللغة التي خوطبوا بها فهذا أصل

الأصل الثاني أن يقال لفظ الخلق المذكور في القرآن ليس مشتركا بالضرورة والاتفاق ولم يقل أحد من المسلمين أن قوله خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم يدل على معاني متباينة كلفظ العين والقرء ونحو ذلك

فإن زعموا أن لفظ الخلق في القرآن والسنة متضمن للتقدير حتى يفرقوا بين عالم الخلق والأمر بطل قولهم أول مخلوق العقل فإنه على هذا الاصطلاح لا يكون مخلوقا

وإن زعموا أنه يتضمن الإيجاد كيفما كان بطل تقسيمهم لعالم الخلق وعالم الأمر ومنعهم أن تكون الملائكة مخلوقة مع أن فساد هذا معلوم بالاضطرار من دين المسلمين فإنه ليس لأحد أن يقول أن الملائكة ليست مخلوقة ولا يقبل منه تفسير ذلك بحال مع النفي وهذا يدل على مناقضتهم للرسل مع كثرة أدلة ذلك

الوجه الثالث

أن هؤلاء يدعون أن العقل الأول صدر عنه جميع ما تحته فصدر عنه عقل ونفس وفلك وعن العقل عقل ونفس وفلك إلى العقل الفعال فإنه صدر عنه جميع ما تحته من المواد والصور ويسمون هؤلاء الأرباب الصغرى والآلهة الصغرى

ومعلوم بالاضطرار من جميع أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى أن شيئا من الملائكة ليس هو فاعلا لجميع المصنوعات ولا أنه مبدع لجميع ما تحت فلك القمر

بل قال الله تعالى: ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون

وقال الله تعالى: وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى

وقال تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا

وقال الله تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير

وقال تعالى: لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا وقال الله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين

وقال الله تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا

ولأن ما اتفق عليه أهل الملل من أن الملائكة سجدوا لآدم يبطل قول هؤلاء إن أضعف العقول التي هي الملائكة عندهم هو مبدع جميع البشر ورب كل ما تحت فلك القمر

الوجه الرابع

إن من تدبر الكتب المصنفة في العقل لأهل الآثار تبين له تحريف هؤلاء مع ضعف الأصل ومن أشهرها كتاب العقل لداود بن المحبر وهو قديم في أوائل المائة الثالثة روى عنه الحارث بن أبي أسامة ونحوه وكذلك مصنفات غيره رووا فيها عن ابن عباس أنه دخل على أم المؤمنين عائشة فقال يا أم المؤمنين أرأيت الرجل يقل قيامه ويكثر رقاده وآخر يكثر قيامه ويقل رقاده أيهما أحب إلى الله قالت سألت رسول الله عما سألتني عنه فقال أحسنهما عقلا فقلت يا رسول الله إنما أسألك عن عبادتهما فقال يا عائشة إنهما لا يسئلان عن عبادتهما إنما يسئلان عن عقولهما فمن كان أعقل كان أفضل في الدنيا والآخرة

ورووا فيها عن البراء بن عازب قال قال رسول الله إن لكل إنسان سبيل مطية وثيقة ومحجة واضحة وأوثق الناس مطية وأحسنهم دلالة ومعرفة بالحجة الواضحة أفضلهم عقلا

ورووا فيها عن ابن عمر قال قال رسول الله إن الرجل ليكون من أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الحج وأهل الجهاد فما يجزىء يوم القيامة إلا بقدر عقله

وعن علي قال قال رسول الله والله لقد سبق إلى جنات عدن أقوام ما كانوا بأكثر الناس صلاة ولا صياما ولا حجا ولا اعتمارا ولكنهم عقلوا عن الله تعالى مواعظه فوجلت منه قلوبهم واطمأنت إليه النفوس وخشعت منهم الجوارح ففاقوا الخليفة بطيب المنزلة وحسن الدرجة عند الناس في الدنيا وعند الله في الآخرة

فهذه الأحاديث ونحوها هي مما روي بالأسانيد في العقل

وف ضمن هذه الأحاديث ونحوها رووا الحديث المتقدم أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل وقال له أدبر فأدبر فقال وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب

فهل يشك من سمع هذه الأحاديث أن المراد بذلك عقل الإنسان ليس المراد ما هو أعظم المخلوقات الموجودات بعد الباري عندهم وهو عندهم أبدع كل ما سواه وأن الاستدلال بهذا الحديث ونحوه على إرادة هذا المعنى من أعظم الضلال وأبعد الباطل والمحال هذا لعمري لو كان ذلك ثابتا عن رسول الله وقد قال أبو حاتم بن حبان البستي لست أحفظ عن رسول الله خبرا صحيحا في العقل لأن أبان بن أبي عياش وابن وردان وعمير بن عمران وعلي بن زيد والحسن بن دينار وعباد بن كثير وميسرة بن عبد ربه وداود بن المحبر ومنصور بن سقير وذويهم كلهم ضعفاء هذا مع أن أبا حاتم هذا مع فضيلته وبراعته وحفظه كان يتهم بأن في كلامه من جنس الفلسفة أشياء حتى جرت له بسبب ذلك قصة معروفة عند العلماء بحاله

وقد تقدم كلام سائر أهل المعرفة في أحاديث العقل واتفاقهم على ضعفها كما قال أبو الفرج بن الجوزي

وقد قال أبو الفرج بن الجوزي في ذم الهوى وغيره المنقول عن رسول الله في فضل العقل كثير إلا أنه بعيد الثبوت

وقال أبو جعفر العقيلي لم يثبت في هذا المتن شيء من هذا النحو وهذا الذي قالاه هما ونحوهما معروف لمن كان له خبرة بالآثار

بل لفظ العقل اسم ليس له وجود في القرآن وإنما يوجد ما تصرف منه لفظ العقل نحو يعقلون وتعقلون وما يعقلها إلا العالمون وفي القرآن الأسماء المتضمنة له كاسم الحجر والنهي والألباب ونحو ذلك

وكذلك في الحديث لا يكاد يوجد لفظ المصدر في كلام النبي في حديث صحيح إلا في مثل الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال خرج رسول الله في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار فقلن وبم يا رسول الله فقال تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن قلن وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله فقال أليس شهادة المرأة نصف شهادة الرجل قلن بلى قال هذا من نقصان عقلها قال وإذا حاضت لم تصل ولم تصم قلن بلى قال فهذا من نقصان دينها وهذا الحديث ونحوه لا ينقض ما ذكره الحافظ أبو حاتم وأبو الفرج والعقيلي وغيرهم إذ ليس هو في فضل العقل وإنما ذكر فيه نقصان عقل النساء

وذلك أن العقل مصدر عقل يعقل عقلا إذا ضبط وأمسك ما يعلمه

وضبط المرأة وإمساكها لما تعلمه أضعف من ضبط الرجل وإمساكه ومنه سمي العقال عقالا لأنه يمسك البعير ويجره ويضبطه وقد شبه النبي ضبط القلب للعلم بضبط العقال للبعير فقال في الحديث المتفق عليه استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها

وقال مثل القرآن مثل الإبل المعقلة إن تعاهدها صاحبها أمسكها وإن أرسلها ذهبت

وفي الحديث الآخر أعقلها وأتوكل أو أرسلها بل قال اعقلها وتوكل

فالعقل والإمساك والضبط والحفظ ونحو ذلك ضد الإرسال والإطلاق والإهمال والتسييب ونحو ذلك وكلاهما يكون بالجسم الظاهر للجسم الظاهر ويكون بالقلب الباطن للعلم الباطن فهو ضبط العلم وإمساكه وذلك مستلزم لاتباعه فلهذا صار لفظ العقل يطلق على العمل بالعلم كما قد بسطنا الكلام على مسمى العقل وأنواعه في غير هذا الموضع

إذ الغرض هنا بيان كذب هؤلاء على الله تعالى وعلى رسوله

الوجه الخامس

أن العقل في لغة المسلمين كلهم أولهم عن آخرهم ليس ملكا من الملائكة ولا جوهرا قائما بنفسه بل هو العقل الذي في الإنسان ولم يسم أحد من المسلمين قط أحدا من الملائكة عقلا ولا نفس الإنسان الناطقة عقلا بل هذه من لغة اليونان ومن المعلوم أن حمل كلام رسول الله أو كلام الله تعالى على ما لا يوجد في لغته التي خاطب بها أمته ولا في لغة أمته وإنما توجد في لغة أمة لم يخاطبهم بلغتهم ولم تتخاطب أمته بلغتهم فهذا يبين أن الذين وضعوا الأحاديث التي رويت في ذلك ليس المراد بها عند واضعيها ما أثبته الفلاسفة من الجوهر القائم بنفسه فهؤلاء المستدلون بهذه الأحاديث على قول المتفلسفة لم يفهموا كلام الكاذبين الواضعين للحديث بل حرفوا معناها كما حرفوا لفظها فإذا كان هذا حالهم في الحديث الذي استدلوا به فكيف في غيره فتبين أن استدلالهم باطل قطعا

الوجه السادس

أن العقل في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والأئمة لا يراد به جوهر قائم بنفسه باتفاق المسلمين وإنما يراد به العقل الذي في الإنسان الذي هو عند من يتكلم في الجوهر والعرض من قبيل الاعراض لا من قبيل الجواهر

وهذا العقل في الأصل مصدر عقل يعقل عقلا كما يجيء في القرآن

وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون

أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها

ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون

وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير

وهذا كثير وهذا مثل لفظ السمع فإنه في الأصل مصدر سمع يسمع سمعا وكذلك البصر فإنه مثل الإبصار ثم يعبر بهذه الألفاظ عن القوى التي يحصل بها الإدراك فيقال للقوة التي في العين بصر والقوة التي يكون بها السمع سمع وبهذين الوجهين يفسر المسلمون العقل

ومنهم من يقول العقل هو من جنس العلم كما يقوله القاضي أبو بكر بن الباقلاني وأبو الطيب الطبري وأبو يعلى بن الفراء وغيرهم

ومنهم من يقول هو الغريزة التي بها يتهيأ العلم كما نقل ذلك عن الإمام أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي ويدخل ذلك في العقل العملي وهو العمل بمقتضى العلم

وأما تسمية الشخص العاقل عقلا أو الروح عقلا فهذا وإن كان يسوغ نظيره في اللغة فقد يسمون الفاعل الشخص بالمصدر فيسمى عدلا وصوما وفطرا فليس هذا من الأمور المطردة في كلامهم فلا يسمون الآكل والشارب أكلا وشربا ولو كان ذلك مما يسوغ في القياس بحيث يسوغ أن يسمى كل فاعل باسم مصدره فهذا إنما يسوغ في الاستعمال لا في الاستدلال فليس لأحد أن يضع هو مجازا لنفسه يحمل عليه كلام الله تعالى ورسوله وكلام من تكلم قبله إذ المقصود بالكلام هو فهم مراد المتكلم سواء كان لفظه يدل على المعنى وهو الحقيقة أو لا يدل إلا مع القرينة وهو المجاز

فليس لأحد أن يسمى الجوهر القائم بنفسه عقلا ثم يحمل عليه كلام النبي

ومعلوم بالاضطرار لمن يعرف لغة النبي والمسلمين الذين يتكلمون بلغته أن هذا ليس هو مراد النبي في اسم العقل فليس هذا مراد المسلمين باسم العقل ولا يوجد ذلك في استعمال المسلمين وخطابهم

وإذا كان كذلك لم يجز أن يتمسكوا بشيء من كلام الرسول الذي فيه لفظ العقل لو كان ثابتا على إثبات الجوهر الذي يسمونه عقلا

ومن تدبر ما يوجد من كلام المسلمين عامتهم وخاصتهم سلفهم وأئمتهم وفقهائهم ومحدثيهم وصوفيتهم ومفسريهم ونحاتهم ومتكلميهم لم يجد في كلام أحد منهم لفظ العقل مقولا على ما يزعمه هؤلاء من المتفلسفة ولا على ما يقال أنه ملك من الملائكة

ولا يسمون أحدا من الملائكة عقلا ولا الله تعالى عقلا إلا من أخذ ذلك عن الفلاسفة

هذا مع أنه مذكور في كتب الأصول والكلام في ذلك فيه من النزاع أقوال كثيرة تنازع فيها أهل الكلام وأهل النظر المنتسبين إلى الإسلام ثم إن قول المتفلسفة عندهم قول آخر

واعلم أن المقصود في هذا المقام أن لفظ العقل لا يعبر به عن جوهر قائم بنفسه لا عن ملك ولا غيره في عبارة رسول الله وأصحابه والتابعين وسائرعلماء المسلمين فلا يجوز أن يحمل شيء من كلامهم المذكور فيه لفظ العقل على مراد هؤلاء المتفلسفة بالعقول العشرة ونحو ذلك فينقطع دابر من يجعل لهم عمدة في الشريعة من هذا الوجه

ثم بعد هذا النزاع بين الناس في فرعين

أحدهما أن العقل الذي هو الإنسان ما هو

الثاني أن ما يعنيه المتفلسفة بلفظ العقل هل له وجود أم لا

وقد ذكروا في كتب الأصول النزاع في ذلك جملة كما يذكره القاضي أبو بكر الباقلاني والقاضي أبو الطيب والقاضي أبو يعلى وأبو الوفاء بن عقيل وأبو المعالي الجويني وأبو الخطاب وأبو الحسن بن الزاغوني والقاضي أبو بكر بن العربي المعافري وأكثر أهل الكلام

فإن هؤلاء يختارون أن العقل الذي هو مناط التكليف هو ضرب من العلوم الضرورية كالعلم باستحالة اجتماع الضدين وكون الجسم في مكانين ونقصان الواحد عن الاثنين والعلم بموجب العادات فإذا أخبره مخبر بأن الفرات يجري دراهم لا يجوز صدقه ومن أخبر بنبات شجرة بين يديه وحمل ثمرة وإدراكها في ساعة واحدة لا ينتظر ذلك ليأكل منها وإذا أخبر بأن الأرض تنشق ويخرج منها فارس بسلاح يقتله لا يهرب فزعا فإذا حصل له العلم بذلك كان عاقلا ولزمه التكليف

ثم قد نقل عن طوائف من الأئمة والعلماء ما يقتضي أنه القوة التي يعقل بها، وعن طوائف ما يقتضي أنه قد يكون مكتسبا فروى أبو الحسن التميمي في كتاب العقل عن محمد بن أحمد بن مخزوم عن إبراهيم الحربي عن أحمد بن حنبل أنه قال العقل غريزة والحكمة فطنة والعلم سماع والرغبة في الدنيا هوى والزهد فيها عفاف

وقد فسر القاضي أبو يعلى ذلك بأن قوله غريزة أنه خلق لله ابتداء وليس باكتساب

وذكر عن أبي محمد البربهاري أنه قال ليس العقل باكتساب إنما هو فضل من الله

وذكر عن أبي الحسن التميمي أنه قال في كتاب العقل ليس بجسم ولا صورة ولا جوهر وإنما هو نور فهو كالعلم

وعن بعضهم أنه قال هو قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات

وعن أبي بكر بن فورك أنه قال هو العلم الذي يمتنع به من فعل القبيح

وعن بعضهم أنه ما حسن معه التكليف

ثم قال القاضي ومعنى ذلك كله متقارب ولكن ما ذكرناه أولى لأنه مفسر خلافا لما حكي عن قوم من الفلاسفة أنه اكتساب وقال قوم هو عرض مخالف لسائر العلوم والأعراض وعن قوم هو مادة وطبيعة

وقال آخرون هو جوهر بسيط

قلت وبعض هذه الأقوال التي خالفها هي نحو من الأقوال التي جعلها متقاربة

فإن من قال هو العلم الذي يمتنع به من فعل القبيح لم يحد العقل الذي هو مناط التكليف الذي يفرق به بين العاقل والمجنون الذي حدوه هم وجعلوه ضربا من العلوم الضرورية بل هذا العقل هو من مناط النجاة والسعادة وهو من العقل الممدوح الذي صنفت الكتب فضل في فضيلة

والذي حدوه أولا قد يفعل صاحبه أنواع القبائح ويكون ممن قيل فيه لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير

وهذا العقل الممدوح قد يكون اكتسابا

وأيضا من قال هو عرض مخالف لسائر العلوم والأعراض فقوله موافق لقول من قال هو قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات وقول أحمد هو غريزة يتناول هذه القوة ولهذا فرق بين ذلك وبين العلم

وأبو الحسن التميمي قال هو كالعلم ولم يقل هو من العلم فهنا أمور

أحدها علوم ضرورية يفرق بها بين المجنون الذي رفع القلم عنه وبين العاقل الذي جرى عليه القلم فهذا مناط التكليف

والثاني علوم مكتبسة تدعو الإنسان إلى فعل ما ينفعه وترك ما يضره فهذا أيضا لا نزاع في وجوده وهو داخل فيما يحمد بها عند الله من العقل ومن عدم هذا ذم وإن كان من الأول وما في القرآن من مدح من يعقل وذم من لا يعقل يدخل فيه هذا النوع وقد عدمه من قال لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير

الثالث العمل بالعلم يدخل في مسمى العقل أيضا بل هو من أخص ما يدخل في اسم العقل الممدوح

وهذان النوعان لم ينازع الأولون في وجودهما ولا في أنهما يسميان عقلا ولكن قالوا كلامنا في العقل الذي هو مناط التكليف للفرق بين العاقل والمجنون وهذان لا يدخلان في ذلك فالنزاع فيهما لفظي

الأمر الرابع

الغريزة التي بها يعقل الإنسان فهذه مما تتوزع في وجودها فأنكر كثير من الأولين أن يكون في الإنسان قوة يعلم بها غير العلم أو قوة يبصر بها غير البصر أو قوة يسمع بها غير السمع وجعلوا إثبات ذلك من جنس قول الفلاسفة والطبائعية الذين يجعلون في الإنسان قوى يفعل بها وقد بالغ في ذلك طوائف منهم القاضي أبو بكر بن العربي في العواصم والقواصم وأصل ذلك تقريرهم أن الله خالق كل شيء ولا خالق غيره وهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة وهو أحسن ما امتاز به الأشعري عن طوائف المتكلمين وبالغ في ذلك حتى جعل أخص أوصاف الرب القدرة على الاختراع وزعم أن هذا معنى الإلهية وفي الأصل رد على القدرية القائلين بأن الله تعالى لم يخلق أفعال الحيوان وعلى الفلاسفة وأتباعهم من أهل النجوم والطبع القائلين بفاعل غير الله لكن زاد من زاد منهم في ذلك أشياء ليست من السنة بل تخالف السنة حتى ردوا بدعة ببدعة فدخل بعضهم في إثبات الجبر الذي أنكره السلف والأئمة حتى توسل بذلك قوم إلى إسقاط الأمر والنهي والوعد والوعيد وأنكر من أنكر منهم ما جعله الله تعالى من الأسباب حتى خرجوا عن الشرع والعقل وقالوا إن الله يحدث الشبع والري عند وجود الأكل والشرب لا بهما وكذلك يحدث النبات عند نزول المطر لا به ونحو ذلك وهذا خلاف ما جاء به الكتاب والسنة قال الله تعالى وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات وقال الله تعالى وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وقال تعالى وأحيينا به بلدة ميتا وقال تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وقال يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ومثل هذا كثير ونفى هذه الأسباب أن تكون أسبابا في الأمور المخلوقة هو شبيه بنفي طوائف من المتصوفة ونحوهم لما يأمرون به من أعمال القلوب وغيرها من الأمور المشروعة نظرا إلى القدر ودعوى التوكل كما بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع

ولهذا قال من نظر إلى هذين الانحرافين كابي حامد وابي الفرج بن الجوزي وغيرهما في كتاب التوكل اعلم أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا تغيير في وجه العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع

والسلف والأئمة متفقون على إثبات هذه القوى فالقوى التي بها يعقل كالقوي التي بها يبصر والله تعالى خالق ذلك كله كما أن العبد يفعل ذلك بقدرته بلا نزاع منهم والله تعالى خالقه وخالق قدرته فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله

والحول اسم لكل تحول من حال إلى حال والقوة عام في كل قوة على الحول فنفي القوة كنفي الحول وقد بسطنا الكلام في غير هذا الموضع فيما يقع من الاشتباه والنزاع في قدرة العبد هل هي مؤثرة في الفعل أو في بعض صفاته أو غير مؤثرة بحال

وقد وقع تسمية هذه القوة عقلا في كلام طوائف منهم أبو المعالي الجويني ذكر في أصول الفقه أن العقل معنى يدرك به العلم وجملة صفات الحي وكان يقول في التعليق أنه تثبيت سمة إدراك النفس

وقد خالفه صاحبه أبو القاسم الأنصاري وقال هذا فيه نظر فاعلموه وقال المحققون من أئمتنا العقل هو العلم بدليل أنه يقال عقلت وما علمت أو علمت وما عقلت وإن كان فرق بين اللفظين ففي إطلاق أهل العرف وتقييدهم وهذا كما أن العالم في الحقيقة ذو العلم سواء كان العلم علم الشريعة والدين أو غيره من العلوم وإذا أطلق مطلق فقال رأيت العلماء أو جاءني عالم فلا يفهم من إطلاقه أصحاب الحرف والصناعات بل لا يفهم منه إلا علماء الشريعة

وكذلك العقل إذا أطلق فإنما يراد به عقل التكليف وهو ما به يمكن التمييز والاستدلال على ما وراء المحسوس ويخرج به صاحبه عن حد المعتوهين وتسمية العقلاء عاقلا وهذا قول أبي الحسن وإنما قاله لأن النحل تراه ينسج أشكالا مسدسة يعجز عنها كثير من العقلاء وكذلك غير النحل من البهائم والجعل فلهذا قال العاقل من تسميه العقلاء عاقلا

والعقل المقيد يتناول جنس العلم فلهذا قال الشافعي رحمة الله عليه الحمام أعقل الطائر عنى به أكيس الطير

وقد ذكر أبو بكر بن فورك عن الأئمة في العقل أقوالا ثم زيفها وحملها على محامل

فنقل عن الشافعي وأبي عبد الله بن مجاهد أنهما قالا العقل آلة التمييز

وحكى عن أبي العباس القلانسي قال العقل قوة التمييز

وعن الحارث المحاسبي أنه قال العقل أنوار وبصائر

ثم قال الوجه أن لا يصح ما ينقل عن هؤلاء الآئمة فإن الآلة تستعمل في الأجسام المبنية واستعمالها في الأعراض مجاز على أنا نقول كل حاسة من الحواس آلة التمييز وليس عقلا ولا المؤمنون بها عقلاء والكفار معهم عقول ومعهم آلة التمييز ثم لا يميزون بين الحق والباطل

فإن قالوا أردنا بذلك انه يصح بها التمييز والاستدلال والكفار يصح منهم ذلك

قلنا هذا يبطل بالدليل والنظر وقول الرسول والمفتي فإن كان واحد ممن ذكرناه يميز به بين الأحكام وليس ذلك من العقل في شيء فإن صحت هذه الحكاية فإن المعنى بها ما يقع به التمييز ويمكن معه الاستدلال على ما وراء المحسوس والخلاف يرجع إلى العبارة

قال والشافعي رحمه الله تعالى لم يسلك مسالك المتكلمين ولم يراع ما راعوه وكذلك لا يعقل من القوة إلا القدرة

والقلانسي أطلق ما أطلقه توسعا في العبارة وكذلك المحاسبي إذ العقل ليس ببصيرة ولا نور ولكن يستفاد به الأنوار والبصائر

قال أبو القاسم الأنصاري ولا اختلاف بين أصحابنا في المعنى فقد سمى الله تعالى الإيمان نورا فقال أفمن شرح الله صدره للأسلام فهو على نور من ربه

وشيخنا الإمام يعني أبا المعالي أطلق ما أطلقه توسعا ولو كان العقل معنى يدرك به العلم فما العلم الذي يدرك به العقل وكيف يتميز أحدهما عن الآخر لا سيما والعلم عنده خارج عن قبيل الاعتقاد

قلت لا يخفى ما في هذا الكلام من الغض عن الأئمة الذين هم أحق بالحق منهم وكلامهم سديد فإن القوة التي جعل الله بها العلم والعمل لم ينكرها من العقلاء إلا من وافق هؤلاء على نفيها

وقول الشافعي وأحمد والمحاسبي ومن وافقهم قول واحد وإنما رد قولهم بالباطل

فأما قوله إن الآلة إنما تستعمل في الأجسام وهي من الأعراض مجاز فيقال له هذا ممنوع ثم الشافعي إنما استعملها مقيدة بالإضافة، فلو كانت عند الإطلاق لا تتناول إلا جسما لكانت مع الإضافة التي ذكرها كقولهم أبرة الذراع وأرنبة الأنف وإنسان العين وقلب الأسد وقلب العقرب ونحو ذلك مما أحدثت فيه الإضافة فمن الناس من يقول هذا مجاز

والمحققون يعلمون أن هذا وضع جديد لم يستعمل فيه اللفظ في غير موضوعه إذ هذا المضاف لم يكن موضوعا لغير هذا المعنى ثم هب أن ذلك مجاز فأي عيب في ذلك إذا ظهر المقصود ومن الذي قال إن الحد والدليل لا يستعمل فيهما المجاز المقرون بما يبين معناه دع ما ليس حدا

وأما قوله فعلى طريقة من يفرق بين الحد والرسم وأما من يجعل المقصود بالحد هو التمييز بين المحدود وغيره كما هو مذهب المتكلمين فالجميع يسمى عنده حدا

وأما قوله كل حاسة من الحواس آلة التمييز فليس كذلك لأن الحاسة لا يميز بها بين الأشياء بل مجرد السمع الذي يدرك الصوت لا يميز بين الصوت وغيره بل يحس الصوت

ثم الحكم على الصوت بأنه غير اللون يعرف بغير الحاسة وهو العقل وبه يعرف غلط الحس إذا الأحول يرى الوحد اثنين والممرور يجد الحلو مرا لكن العقل به يميز سلامة الحس من فساده إذ قد استقر عنده ما يدرك بالحس السليم فإذا رأى من له عقل حسا يدرك به خلاف ذلك علم فساده ونظر في سبب فساده وكذلك المجنون قد يرى أحمر وأحمر وأبيض وأبيض ولا يميز بين الدينار وبين الدرهم وغيره ولا بين الأيام ولا بين ثوبه وثوب غيره وفعله وفعل غيره مع وجود حسه

وأما الكفار فلهم التمييز الذي يصح معه التكليف الذي به فارقوا المجنون وليس من شرط عقل الكل تمييز كل حق من كل باطل بل هذا لا يوجد لعامة الخلق

وأما نقضه بالدليل والنظر فذلك يميز به شيء بعينه ليس هو آلة لكل تمييز والعقل آلة لكل تمييز فيه يميز بين دليل ودليل ونظر

وأما قول أبي القاسم لو كان العقل معنى يدرك به العلم فبم يميز العلم عنه فقول ضعيف

فإنه إذا كان يميز بين أنواع العلم فيميز بين الضروري وغيره وما يحصل بالحواس وغيره فكيف لا يميز بينه وبين القوة التي بها يحصل كما يميز بين الإبصار وقوة البصر فإنا نعلم أن في العين قوة فارقت بها قوة اليد حتى كأن هذه يرى بها وهذا لا يرى بها

ونعلم أن في العاقل قوة فارق بها المجنون حتى كان هذا يعقل وهذا لا يعقل وأن قدر أنه ساه عن العلم

وعمدة جمهور الذين قالوا ليس العقل إلا ضرب من العلوم الضرورية أنهم قالوا ليس بجوهر لأن الدليل قد دل على أن الجواهر كلها من جنس واحد خلافا للملاحدة في قولهم إنها مختلفة لأن معنى المثلين فاسد أحدهما مسد صاحبه وناب منابه والجواهر على هذا لأن كل واحد منها متحرك وساكن وعالم فلو كان العقل جوهرا لكان من جنس العاقل ولا يستغني العاقل بوجود نفسه في كونه عاقلا عن وجود مثله وما هو من جنسه وقد ثبت أنه ليس بعاقل بنفسه فمحال أن يكون عاقلا بجوهر من جنسه ولأنه لو كان جوهرا لصح قيامه بذاته ووجوده لا بعاقل ولصح أن يفعل ويكلف لأن ذلك مما يجوز على الجواهر وفي امتناع ذلك دليل على أنه ليس بجوهر

وثبت أنه غير عرض

قالوا ومحال أن يكون عرضا غير سائر العلوم حتى يكون الكامل العقل غير عالم بنفسه ولا بالمدركات ولا بشيء من الضروريات إذ لا دليل يوجب تضمن أحدهما للآخر وذلك نهاية الإحالة

ومحال أن يكون اكتسابا لأنه يؤدي إلى أن الصبي ومن عدمت منه الحواس الخمس ليسوا بعقلاء لأنه لا نظر لهم ولا استدلال يكسبون به العقل وفي الإجماع على حصول الحي العاقل منهم دليل على فساد هذا ولا يجوز أن يكون العقل هو الحياة لأن العقل يبطل ويزول ولا يخرج الحي عن كونه حيا وقد يكون الحي حيا وإن لم يكن عالما بشيء أصلا ولا يجوز أن يكون هو جميع العلوم الضرورية ولا العلوم التي تقع عقيب الإدراكات الخمسة لأن هذا يؤدي إلى أن الأخرس والأطرش والأكمه ليسوا بعقلاء لأنهم لا يعلمون المشاهدات والمسموعات والمدركات التي تعلم باضطرار لا باستدلال

ولا يجوز أن يكون العلم تحسين حسن وتقبيح قبيح ووجوب واجب وتحريم محرم ومن جملة العلوم التي هي عقل لأن هذه الأحكام كلها معلومة من جهة السمع دون قضية العقل فوجب أن يكون بعض العلوم الضرورية وهو ما ذكره وما كان في معناه من أن الموجود لا يخلو من أن يكون لوجوده أول وأن الموجود لا يكون موجودا معدوما في حال واحدة وأن المتحرك عن المكان لا يجوز أن يكون ساكنا فيه في حال واحدة وأن الذات الواحدة لا يجوز أن تكون حية ميتة ونحو ذلك من الأوصاف المتضادة فهذا الدليل هو عمدتهم كلهم في الجملة هذه الفاظ القاضي أبي يعلى الفراء

وهذا القول قالته المعتزلة قبل المتكلمة الصفاتية ومن اتبعهم ولكن أدخلوا فيه العلم بحسن أفعال وقبحها

قال أبو علي الجبائي العقل عشرة أنواع من العلم وعد منها العلوم البديهية والعلوم الصادرة عن الحواس العلم بحسن الشيء وقبحه ووجوب شكر المنعم وقبح الكفر والظلم والكذب

والمتكلمة الصفاتية الذين قالوا أنه بعض العلوم الضرورية لم يميزوه بتمييز مضبوط بل كبيرهم القاضي أبو بكر قرر أنه بعض العلوم الضرورية كما تقدم وملخص تلك الحجة أنه لا يجوز الاتصاف بالعقل مع الخلو عن جميع العلوم أو بعضها فثبت أنه من العلوم وليس هو من العلوم النظرية إذ شرط ابتداء النظر تقدم العقل فانحصر العقل إذا في العلوم الضرورية ويستحيل أن يقال هو جميع العلوم الضرورية فإن الضرير ومن لا يدرك يتصف بالعقل مع انتفاء علوم ضرورية عنه

فاستبان بذلك أن العقل من العلوم الضرورية وليس كلها وسبيل تعيينه والتنصيص عليه أن يقال كل علم لا يخلو العاقل منه عند الذكر ولا يشاركه فيه من ليس بعاقل إشارة إلى العلوم الصادرة عن الحواس والعلوم بالآلام واللذات فإنه يستوي في دركها العقلاء وغيرهم من الأطفال والبهائم وهذا إذا قلنا للبهائم علوم بالمحسوسات فيخرج من مقتضى السبر أنه العلوم الضرورية بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات والعلم بأن المعلوم لا يخلو عن نفي أو إثبات والموجود لا يخلو من القدم والحدوث والخبر لا يخلو من الصدق والكذب وعد القاضي من ذلك العلم بمجاري العادات

وهذه الحجة التي احتجوا بها ليست صحيحة وإن كانت في بادئ الرأي مهيبة إذ مدار الحجة على أنه لو لم يكن من العلوم لأمكن وجوده بدون العلم لعدم الدليل على تلازمهما

وهم يعبرون عن هذه النكتة بعبارات تارة يقولون إذا كانا خلافين غير ضدين أمكن وجود أحدهما مع ضد الآخر كالحياة والعلم والقدرة

وتارة يقولون ما تقدم

وتارة يجعلون ذلك كأنه مقدمة بينة أو مسلمة فيقولون لو لم يكن من العلم لجاز أن يخلو العاقل عن جميع العلم وكل هذا ضعيف فإنه ليس كل خلافين يجوز وجود أحدهما مع ضد الآخر بل الخلافين قد يكونان متلازمين من الطرفين أو من أحدهما كالحس مع الحركة الارادية وكالحس مع العلم الحاصل عقيب الإحساس بل هذا شأن كل سبب تام بسببه وكل معلول عله وكل متضايفين كالأبوة والبنوة فإنهما خلافان ومع هذا فهما متلازمان لا يجوز وجود أحدهما مع عدم الآخر فضلا عن ضده

وقولهم لا دليل حينئذ على تضمن أحدهما الآخر ليس بسديد لوجهين أحدهما أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه في نفس الأمر فلا يكفي في نفي تلازمهما مجرد عدم دليله

الثاني إذا قدر أن العقل هو الغريزة كان العلم باستلزامه للعلم ضروريا لا يحتاج إلى دليل فإن وجود العلم مستلزم للقوة التي هي شرط في العلم كما أن وجود السمع والبصر مستلزم للقوة التي بها يسمع ويبصر والمشروط بدون شرطه محال وإن كان هذا شرطا في العادة والله قادر على خرق العادة فإن الكلام في الواقع لا فيما يمكن وقوعه

وأيضا فإذا قيل إن العقل اسم لمجموع الغريزة والعلم الحاصل بها كان ما ذكروه بعض مسمى العقل فلا يوجد اسم العقل إلا مع وجوده وإن لم يكن هو مجموع العقل

وأيضا فمن المعلوم أنه يدخل في مسمى العقل العمل الذي يختص به العقلاء من جلب المنفعة ودفع المضرة وهذا مما يفرق به بين العاقل والمجنون في عرف الناس كما يفرق بينهما بعلوم ضرورية فليس جعله اسما للعلوم الضرورية بأولى من جعله اسما للأعمال الضرورية التي لا يخلو العاقل منها فإنه من رؤى يلقى نفسه في نار أو ماء فيغرق أو نحو ذلك من المضار التي لا فائدة فيها ونحو ذلك من الأفعال الخارجة عن أفعال العقلاء سلب عنه العقل حتى ينتهي به إلى حد المجنون وإذ كان كذلك فهم بين أمرين

إن جعلوا هذه الأعمال وأعمال العقلاء داخلة في مسمى العقل بطل قولهم هو من جنس العلم فقط

وإن قالوا أفعال العقلاء دليل على العلم الذي هو عقل وكذلك أفعال المجانين دليل على فوات هذه العلوم

قيل لهم فحينئذ قد صار العقل يستلزم أمورا ليست داخلة في مسماه فلا يمتنع حينئذ أن يقال هو الغريزة المستلزمة لهذه العلوم كما قلتم هو العلوم المستلزمة لهذه الأعمال

الوجه السابع

إن هذا مما يبين كذب هذا الحديث المروى كما رووه فإن العقل إذا كان في لغة المسلمين هو عرض قائم بغيره لم يكن مما يخلق منفردا عن العاقل وإنما يخلق بعد خلق العقلاء

وأيضا فإن مثل هذا لا يخاطب ولايقبل ولايدبر

وأيضا فقوله ما خلقت خلقا أكرم علي منك لا يجوز أن يضاف إلى الله تعالى فإنه من المعلوم أن الأنبياء والملائكة أكرم على الله منه إذ كان في بعض صفانهم

ولو قدر أن العقل في لغتهم يكون جوهرا أو ملكا وقدر أن هذا اللفظ قاله الرسول لم يجز أن يراد به ما يقوله الفلاسفة ومن سلك سبيلهم لما بينا أنه يدل على أنه خلق قبله خلقا آخر

وأيضا فقوله بك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وبك العقاب خصه بهذه الأعراض وعندهم هو المبدع لكل ما سواه من العقول والنفوس والأفلاك والنفوس البشرية والعناصر والمولدات فكيف يخصه بأربعة أعراض وأيضا فقوله لما خلقه قال له أقبل فأقبل يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه وعندهم يمتنع أن يكون خلقه في زمان بل يمتنع أن يكون مخلوقا عندهم كما تقدم

الوجه الثامن أن هؤلاء سمعوا في الحديث أن أول ما خلق الله القلم وهذا الحديث معروف ليس مثل الأول رواه أبو داود في سننه عن النبي وروى عن ابن عباس وغيره من الصحابة لكن السلف متنازعون

هل المراد بذلك أول ما خلقه من هذا العالم الذي خلقه في ستة أيام وكان عرشه على الماء كما قال هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء

وعلى هذا القول فالعرش كان مخلوقا قبل ذلك

أو هو مخلوق قبل العرش على قولين ذكرهما الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره والأحاديث الصحيحة تدل على القول الأول فقال هؤلاء أن ذلك الذي تسميه الفلاسفة العقل الأول هو القلم وهذا كثير في كلامهم وفي كلام صاحب جواهر القرآن وهو من نوع كلام القرامطة

قال في الجواهر واعلم أن القرآن والأخبار تشتمل على كثير من هذا الجنس فانظر إلى قوله قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمان فإن روح الأصبع القدرة على سرعة التقليب وإنما قلب المؤمن بين لمة ملك ولمة شيطان هذا يهديه وهذا يغويه والله تعالى بهما يقلب قلوب العباد كما تقلب أنت الأشياء بأصبعيك وانظر كيف تشارك نسبة الملكين المسخرين إلى الله تعالى أصبعك في روح الأصبيعة وخالف في الصورة واستخرج من هذا قوله إن الله خلق آدم على صورته وسائر الآيات والأحاديث الموهمة عند الجهلة للتشبيه والذكي يتنبه بمثال واحد والبليد لا يزيده التكثير إلا تحيرا ومهما عرفت معنى الأصبع أمكنك الترقي إلى القدم واليد واليمين والوجه والصورة وأخذت لجميعهاأمرا روحانيا لا جسمانيا فتعلم أن روح القلم وحقيقته التي لا بد من تحقيقها إذا ذكرت حد القلم وهو الذي يكتب به وإن كان في الوجود شيء يسطر بواسطته نقش العلوم في ألواح القلوب فأخلق به أن يكون هو القلم فإن الله تعالى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وهذا القلم روحاني إذ وجد فيه روح القلم وحقيقته ولم يعوزه إلا قالبه وصورته وكون القلم من خشب أو قصب ليس من حقيقة القلم ولذلك لا يوجد في حده الحقيقي ولكل شيء حد وحقيقة هي روحه فإذا اهتديت إلى الأرواح صرت روحانيا وفتحت لك أبواب الملكوت وأهلت لموافقة الملأ الأعلى وحسن أولئك رفيقا

ولا تستبعد أن يكون في القرآن إشارات من هذا الجنس فإن كنت لا تقدر على احتمال ما يقرع سمعك من هذا النمط ما لم يسند التفسير إلى الصحابة فإن التقليد غالب عليك فانظر إلى تفسير قوله تعالى على ما قاله المفسرون أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغار حلية أو متاع زيد مثله الآية

وأنه كيف مثل العلم بالماء والقلوب بالأودية والينابيع والضلال بالزبد ثم نبهك في آخرها فقال كذلك يضرب الله الأمثال ويكفيك هذا القدر من هذا المعنى فلا تطيق أكثر منه

وبالجملة فاعلم إن كل ما لا يحتمله فهمك فإن القرآن يلقيه إليك على الوجه الذي لو كنت في النوم مطالعا بروحك اللوح المحفوظ لتمثل لك ذلك بمثال مناسب يحتاج إلى التعبير واعلم أن التأويل يجري مجرى التعبير انتهى كلامه

فهذا الكلام ونحوه من جنس كلام الفلاسفة القرامطة فيما أخبر الله به من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر ويجعلون ذلك أمثالا مضروبة لتفهيم الرب والملائكة والمعاد وغير ذلك والكلام عليهم مبسوط في غير هذا الموضع

وصاحب الجواهر لكثرة نظره في كلامهم واستمداده منهم مزج في كلامه كثيرا من كلامهم وإن كان قد يكفرهم بكثير مما يوافقهم عليه في موضع آخر وفي أواخر كلامه قطع بأن كلامهم لا يفيد علما ولا يقينا بل وكذلك قطع في كلام المتكلمين وآخر ما اشتغل به النظر في صحيحي البخاري ومسلم ومات وهو مشتغل بذلك

وإنما المقصود هنا التنبيه على ما ذكروه فإن كثيرا اغتروا بهذا لأنهم وجدوه في كلامه وحرمته عند المسلمين ليست مثل حرمة من لم يدخل في الفقه والتصوف دخوله ولهذا كثر فيه كلام أئمة طوائف الفقهاء والصوفية مثل أبي بكر الطرطوشي وأبي عبد الله المازري المغربي وغيرهما من المالكية مثل أبي الحسن المرغيناني وأبي البيان القرشي وأبي عمرو بن الصلاح وابن شكر وأولاد القشيري وغيرهم من الشافعية ومثل أبي الوفاء بن عقيل وأبي الفرج بن الجوزي بن الحنبلية مع أن هذين أقرب إلى مذاهب النفاة من غيرهما من الحنبلية

وأما الحنفية فكلامهم فيه لون آخر وكانت قد جرت له قصة معروفة معهم ومع أصحاب الشافعية

وهذا الذي ذكره باطل من وجوه كثيرة

منها أن القلم إذا كان أول مخلوق وهو العقل عندهم لم يصح تفسيره بما ينقض العلم في قلوب بني آدم لأن ذلك عندهم إنما هو العقل الفعال وهو العاشر وأول مخلوق على زعمهم هو العقل الأول

الثاني أن تسمية الملائكة التي يجعلونها هي العقول أقلام إذ تسمية بعضهم قلما شيء لا يعرف في كلام أحد من الأمم لا حقيقة ولا مجازا أصلا فالتعبير بلفظ القلم عن ملك يكون عندهم قد أبدع هذا الوجود من أبطل الباطل

الثالث أن الذي في الحديث أن الله خلق القلم وأمره أن يكتب في اللوح قبل خلق بني آدم بل في صحيح مسلم أن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء فكيف يكون إنما سمي قلما لأنه ينقش العلوم في قلوب بني آدم

الرابع أن خاصية القلم كونه يكتب به فإذا قدر أن خاصية شيء من الأشياء أن يكتب له أمكن تشبيهه بالقلم أما إذا كانت له أفعال عظيمة غير ذلك فليس تشبيهه بالقلم بأولى من تشبيهه بغير ذلك

والعقل عندهم قد صدرت عنه الجواهر والمواد والصور وما تقوم به النفوس والأجسام من جميع الأعراض كالحياة والعلم والقدرة والكلام والأكوان والألوان والطعوم والروائح وغير ذلك فلأي شيء يسمى باسم عرض من الأعراض التي تصدر عنه دون أن يسمى بما تقتضيه سائر الأعراض بل والجواهر التي صدرت عنه وهو عندهم قد فاض عنه الألواح التي يكتب فيها فهل يكون القلم مبدعا للوح وهل في الحديث أن اللوح تولد عن القلم أو ما يشبه ذلك

ولئن جاز تسمية هذا قلما فتسمية لسان الإنسان قلما أقرب فإنه جسم مستطيل مستدق الرأس يشبه القلم وهو إذا خاطب بالعلم نقش العلم في القلب وخاصيته هي التفهيم دون سائر الأفعال

وقد يقال للقلم أحد اللسانين فتسمية اللسان قلما أشبه وأنسب ومع هذا فلم يسمع أن النبي أو واحدا من الصحابة أراد بلفظ القلم اللسان كلسانه أو لسان الملك الذي نزل عليه فكيف إذا عبر به عما هو أبعد من ذلك

الخامس أن المسلمين يعلمون بالاضطرار أن النبي لم يرد بالقلم ما تريده الفلاسفة بلفظ العقل

السادس أنه من الذي قال ما يوجد في قلوب بني آدم من العلم إنما هو من فيض العقل الفعال الذي تقوله الفلاسفة فإن دليل الفلاسفة على ذلك ضعيف بل باطل والكتب الإلهية لم تخبر بذلك بل الأخبار الإلهية تدل على تعدد ما يلقى في قلوب بني آدم وأنه ليس ملكا واحدا بل ملائكة كثيرون وقد وكلت بهم أيضا الشياطين فامتنع أن يكون في الوجود ما يلقى العلم في القلوب على ما ذكروه

السابع أن ما ذكره في حد القلم ليس مستقيما إذ لو صح لصح تسمية كل من علم العلم قلما وإن كان القلم لا يشترط في تسمية أن يكون من مادة مخصوصة فلا بد له من صورة من أي مادة كانت كما قال تعالى ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام وقال تعالى إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم

الثامن قوله لكل شيء حد وحقيقة هي روحه وهو إنما عنى به مثلا كونه كاتبا كما جعل حقيقة القلم وحده كونه ينقش العلم وجعل هذا الحد والحقيقة موجودة في العقل ومعلوم بطلان هذا بالاضطرار فإن حقيقة الجوهر الموجودة لا يكون مجرد كونه موصوفا بفعل منفصل عنه أو متصل به ولو قدر أن تلك الصفة توجد في حده لكانت فصلا تميزه عن غيره مع مشاركة غيره له في الجنس المشترك وذلك يمنع ثبوت الحقيقة لغيره أما أن يجعل هي الحد والحقيقة وحدها فهذا ظاهر البطلان

التاسع أنه قد ذكرنا أن للسلف في العرش والقلم أيهما خلق قبل الآخر قولين كما ذكر الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره

أحدهما أن القلم خلق أولا كما أطلق ذلك غير واحد وذلك هو الذي يفهم في الظاهر في كتب من صنف في الأوائل كالحافظ أبي عروبة بن أبي معشر الحراني وأبي القاسم الطبراني للحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن عبادة بن الصامت أنه قال يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك سمعت رسول الله يقول إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فقال يا رب وماذا أكتب قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة يا بني سمعت رسول الله يقول من مات على غير هذا فليس مني

والثاني أن العرش خلق أولا قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في مصنفه في الرد على الجهمية

حدثنا محمد بن كثير العبدي حدثنا سفيان الثوري حدثنا أبو هاشم عن مجاهد عن ابن عباس قال إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فكان أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما هو كائن وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه ورواه أيضا أبو القاسم اللالكائي في كتابه في شرح أصول السنة من حديث يعلى عن سفيان عن أبي هاشم عن مجاهد قال قيل لابن عباس إن أناسا يقولون في القدر قال يكذبون لئن أخذت بشعر أحدهم لا نصونه أي لآخذن بناصيته إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فخلق القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه

وكذلك ذكر الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات لما ذكر بدء الخلق فذكر حديث عبد الله بن عمرو وعمران بن حصين وغيرهما وسنذكر هذين الحديثين إن شاء الله تعالى ثم ذكر حديث الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير أنه سئل عن قوله تعالى وكان عرشه على الماء على أي شيء كان الماء قال على متن الريح

وروى حديث القاسم بن أبي بزة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله قال أن أول شيء خلقه الله القلم وأمره فكتب كل شيء يكون

قال البيهقي ويروى ذلك عن عبادة بن الصامت مرفوعا قال البيهقي وإنما أراد والله أعلم أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش القلم وذلك بين في حديث عمران بن حصين ثم خلق السماوات والأرض

وفي حديث أبي ظبيان عن ابن عباس موقوفا عليه ثم خلق النون فدحا الأرض عليها

وروى بإسناده الحديث المعروف عن وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال أول ما خلق الله عز وجل من شيء القلم فقال له اكتب فقال يا رب وما أكتب قال اكتب القدر قال فجرى بما هو كائن من ذلك إلى قيام الساعة قال ثم خلق النون فدحا الأرض عليها فارتفع بخار الماء ففتق منه السموات واضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال وأن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة قلت حديث عمران بن حصين الذي ذكره هو ما رواه البخاري من غير وجه

منها ما رواه في كتاب التوحيد في باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم

قال أبو العالية استوى إلى السماء ارتفع

وقال مجاهد استوى علا على العرش

وذكر من حديث أبي حمزة عن الأعمش عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين قال إني عند النبي إذ جاءه قوم من بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم فقالوا بشرتنا فأعطنا فدخل ناس من أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم فقالوا قبلنا جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان قال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ثم أتاني رجل فقال يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت فانطلقت أطلبها فإذا السراب ينقطع دونها وأيم الله لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم

ورواه البيهقي كما رواه محمد بن هارون الروياني في مسنده وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما من حديث الثقات المتفق على ثقتهم عن أبي إسحاق الفزاري عن الأعمش عن جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين قال أتيت النبي فعقلت ناقتي بالباب ثم دخلت فأتاه نفر من بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا بشرتنا فأعطنا فجاءه نفر من أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذا لم يقبلها إخوانكم من بني تميم فقالوا قبلنا يا رسول الله أتيناك لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر كيف كان قال كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض قال ثم أتاني رجل فقال أدرك ناقتك فقد ذهبت فخرجت فوجدتها ينقطع دونها السراب وأيم الله لوددت أني كنت تركتها

ففي الحديث الصحيح بيان أنه كتب في الذكر ما كتبه بعد أن كان عرشه على الماء وقبل أن يخلق السماوات والأرض

وأما حديث عبد الله بن عمرو فقد رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن وهب أخبرني أبو هانىء الخولاني عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله يقول كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء رواه مسلم أيضا من حديث حيوة ونافع بن يزيد كلاهما عن أبي هانىء الخولاني مثله غير أنهما لم يذكرا وعرشه على الماء وقد رواه البيهقي من حديث حيوة بن شريح أخبرني أبو هانىء الخولاني أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول إنه سمع رسول الله يقول قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ورواه البيهقي أيضا من حديث ابن أبي مريم حدثنا الليث ونافع بن يزيد قالا حدثنا أبو هانىء عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله فرغ الله من المقادير وأمور الدنيا قبل أن يخلق السماوات والأرض وعرشه على الماء بخمسين ألف سنة

ففي هذا الحديث الصحيح ما في ذلك من أنه قدر المقادير وعرشه على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض لكن بين فيه مقدار السبق وأن ذلك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وقد ضبط هذه الزيادة الإمامان الفقيهان الليث بن سعد وعبد الله بن وهب

فقوله في الحديث فرغ الله من المقادير وأمور الدنيا قبل أن يخلق السماوات والأرض وعرشه على الماء بخمسين ألف سنة يوافق حديث عبادة الذي في السنن أنه لما خلق الله القلم قال له اكتب قال وما أكتب قال ما هو كائن إلى يوم القيامة وكذلك في حديث ابن عباس وغيره وهذا يبين إنما أمره حينئذ أن يكتب مقدار هذا الخلق إلى قيام الساعة لم يكتب حينئذ ما يكون بعد ذلك وهذا يؤيد حجة من جعله أول المخلوقات من هذا الخلق الذي أمره بكتابته فإنه سبحانه كتبه وقدره قبل أن يخلقه بخمسين ألف سنة

وبكل حال فهذه الأحاديث التي في الصحاح والسنن والمسانيد والآثار التي عن الصحابة والتابعين تبين أن هذا القلم ليس ما يدعيه هؤلاء أنه الذي يسمونه العقل الأول أو الفعال فإنه أمره أن يكتب فقط لا أن يفعل شيئا غير ذلك

والعقل عندهم أبدع جميع الكائنات وأمره أن يكتب في الذكر وهو اللوح فيكون اللوح قد خلق قبل أن يكتب القلم شيئا إذ الكتابة لا تكون إلا في اللوح وأيضا فإنه أمره بالكتابة ففرغت تلك الكتابة كما قال فرغ الله من المقادير وأمور الدنيا قبل أن يخلق السماوات والأرض وعندهم القلم إذا فسروه بالعقل الذي ينقش العلوم في قلوب بني آدم كتابته دائمة كلما حدث إنسان كتب في قلبه ما يكتبه إلى موته

وكذلك إن فسروه بالعقل الأول فإن كتابته دائمة وأيضا فإنه كتب في الذكر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة

وعندهم أن العقل مقارن للسماوات لم يتقدمها وأيضا فإخباره في الحديثين الصحيحين بما يوافق القرآن من أن العرش كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض وذكره فيهما أن التقدير وهو الكتابة بالقلم كان بين ذلك كما جاء عن الصحابة يبطل أن يكون العقل الأول هو أول المخلوقات وإن سموه هم قلما بل يبطل أن يكون القلم الذي ذكره السلف أيضا مخلوقا قبل العرش وفي ذلك آثار متعددة قال عثمان بن سعيد حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن مجاهد قال بدء الخلق العرش والماء

وقال أيضا حدثنا عبد الله بن صالح المصري حدثنا ابن لهيعة ورشدين بن سعد عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال لما أراد الله تبارك وتعالى أن يخلق شيئا إذ كان عرشه على الماء وإذ لا أرض ولا سماء خلق الريح فسلطها على الماء حتى اضطربت أمواجه وأثار ركامه فأخرج من الماء دخانا وطينا وزبدا فأمر الدخان فعلا وسما فخلق منه السماوات وخلق من الطين الأرضين وخلق من الزبد الجبال وروى البيهقي من حديث الأشيب حدثنا أبو هلال محمد بن سليم حدثنا خباب الأعرج قال كتب يزيد بن أبي مسلم إلى جابر بن زيد يسأله عن بدء الخلق قال العرش والماء والقلم والله أعلم أي ذلك بدأ قبل

وروى من حديث سعيد بن منصور حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن مجاهد قال بدء الخلق العرش والماء والهواء وخلقت الأرض من الماء وقال بدء الخلق يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء وخلق الأقوات ونبات الأرض يوم الخميس وجميع الخلق يوم الجمعة وتهودت اليهود يوم السبت ويوم من الستة كألف سنة مما تعدون وروى بإسناده عن الشيباني عن عون بن عبد الله عن أخيه عبيد الله عن أبي هريرة عن النبي قال إن في الجمعة ساعة لا يوافقها أحد يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا أعطاه إياه قال وقال عبد الله بن سلام إن الله ابتدأ الخلق فخلق الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين وخلق السماوات يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق الأقوات وما في الأرض يوم الخميس ويوم الجمعة إلى صلاة العصر وهي ما بين صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس والآثار في هذا كثيرة وإن كان قد تنوزع هل كانء بدء خلق هذا العالم يوم السبت أو يوم الأحد

وقد روى في ابتدائه يوم السبت حديث رواه مسلم فالذي عليه الجمهور وعامة الأحاديث أن ابتداءه يوم الأحد فإذا ثبت بالنصوص الصحيحة أن العرش خلق أولا وأن التقدير كان لهذا الخلق بطل أصل حجتهم

ومما يوضح ذلك ما ذكره البخاري في صحيحه في كتاب بدء الخلق فقال وروى عيسى عن رقبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال سمعت عمر رضي الله عنه يقول قام فينا رسول الله مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه

فهو قد ذكر المبتدأ وجعل المنتهى دخول الدارين ومعلوم أن ما يكون بعد ذلك من تفاصيل أحوال أهل الدارين لم يدخل في هذا فعلم أنه أريد هذا الخلق

وذكر البخاري أيضا الحديث الذي في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي

فقوله لما قضى الله الخلق أي أكمله وأتمه كما قال فقضاهن سبع سموات في يومين

ومعلوم أن المراد بالخلق هنا خلق هذا العالم لا خلق الدار الآخرة وهو الإعادة فإنه قال سبحانه وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده وهذا كله يشهد لأن هذا الخلق هو المقدر بالقلم كما تقدم

فإن قيل فقد احتج طوائف من أهل السنة على أن القرآن غير مخلوق بهذه الآثار وهي قوله أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قالوا فبين أنه أول مخلوق وإن خاطبه بالكتابة ولو كان كلامه مخلوقا لكان يفتقر إلى محل يقوم به ولكان كلامه مخلوقا قبل القلم فإنه خلقه بكلامه

قيل قد يقال حجتهم مستقيمة وإن كان العرش قبله فإن الذين يقولون القرآن مخلوق يقولون هو مخلوق من المخلوقات في هذا العالم كسائر ما خلق فيه من الجواهر والأعراض

وهو عند أكثرهم عرض خلقه قائما ببعض أجسام العالم كما يخلق أصوات الرياح ونحوها

وعند بعضهم هو جسم

وعلى التقديرين هو عندهم جزء من هذا العالم

فإذا ثبت أن أول ما خلقه من هذا العالم القلم بطل أن يكون خلق قبله شيئا من هذا العالم

الوجه العاشر

أن النصوص والآثار المتواترة عن النبي وأصحابه والتابعين متطابقة على ما دل عليه القرآن من أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام وإن كان العرش مخلوقا قبل ذلك

وهذا أيضا متفق عليه بين أهل الملل كاليهود والنصارى وهو مذكور في التوراة وغيرها كما ذكر في القرآن

ولهذا شرح الله لأهل الملل اجتماع أهل المدينة في كل أسبوع يوما يعبدون الله فيه ويتخذونه عيدا وجعل للمسلمين يوم الجمعة الذي جمع فيه الخلق ففي الصحيحين واللفظ للبخاري عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله يقول نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة وحذيفة قالا قال رسول الله أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وكان للنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة فجعل الجمعة والسبت والأحد وكذلك هم لنا تبع يوم القيامة نحن الآخرون في أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق وفي لفظ المقضي بينهم

وفي المسند عن أبي هريرة قال قيل للنبي لأي شيء سمي يوم الجمعة قال لأن فيها طبعت طينة أبيك آدم وفيها الصعقة والبعثة وفيها البطشة وفي آخر ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها استجيب له

وفي المسند أيضا عن سلمان الفارسي قال قال لي النبي أتدري ما يوم الجمعة قلت هو اليوم الذي جمع الله فيه أبوكم قال لكن أدري ما يوم الجمعة لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كان كفارة له ما بينه وبين الجمعة المقبلة ما اجتنبت المقتلة

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة وفي السنن الثلاثة والمسند عن أوس بن أوس عن النبي قال إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم عليه السلام وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي قالوا يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أي يقولون قد بليت أي صرت رميما فقال إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء صلوات الله عليهم

ولما ثبت بهذه الأحاديث التي في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها أن آدم خلق يوم الجمعة وثبت أنه آخر المخلوقات بلا نزاع علم أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد لأن القرآن قد أخبر أن الخلق كان في ستة أيام وبهذا النقل المتواتر مع شهادة ما عند أهل الكتاب على ذلك وموافقة الأسماء وغير ذلك علم ضعف الحديث المعارض لذلك مع أنه في نفسه متعارض

والحديث قد رواه عن طريق بن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال أخذ رسول الله بيدي فقال خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل

فهذا الحديث قد بين ما يوافق سائر الأحاديث من أن آدم خلق يوم الجمعة وأنه خلق آخر الخلق

ومعلوم بنصوص القرآن أن الخلق كان في ستة أيام وذلك يدل على ما وقع فيه من الوهم بذكر الخلق يوم السبت

والمقصود هنا أنه من المعلوم أن الأسبوع ليس له حد موجود في السماء كما يوجد في اليوم والليلة والشهر بل إنما يعد عدا لأن الله خلق هذا الخلق في ستة أيام ثم استوى على العرش فانتشرت أيام الأسبوع في العالم من جهة إخبار الأنبياء ولم يعلم ذلك إلا من أخذ عنهم ولهذا كانت الأمم الذين لم يتلقوا ذلك ليس لأيام الأسبوع في لغتهم ذكر بحال كالترك والبربر وإذا نطقوا بها نطقوا بلغة الفرس مثلا أو العرب فكان في هذا الاجتماع العام حفظ لأيام الأسبوع وفيه تذكير بالأسبوع الأول الذي خلق الله فيه الخلق ومعلوم أن هذا الاجتماع والإخبار بالخلق في ستة أيام معلوم بالاضطرار من دين أهل الملل

وهؤلاء عندهم أن هذه السماوات ما زالت هكذا ولا تزال هكذا متحركة على هذا الوجه من الأزل إلى الأبد ولا يزال العقل الأول أو الفعال الذي يسمونه بالقلم هذا أو هذا مقارنا لها، وليس عندهم قيامة تنشق فيها السماوات وتنفطر

ويستحيل عندهم أن تكون السماوات مسبوقة سبقا زمانيا بشيء من الأشياء لا بربها ولا بعرشه ولا بغير ذلك فضلا عن أن تكون مسبوقة بتقدير مقاديرها بخمسين ألف سنة فهل يمكن أن يكون ما أخبر به الأنبياء مطابقا لقولهم وأن يكون نبينا محمد أراد بما أخبر به ما يريده هؤلاء بما يذكرونه من فلسفتهم هذا مما يعلم كل من فهم الكلامين أنه باطل بالاضطرار وأن الكلامين متنافيان قطعا وإن كان في بعض ما يقولونه ما هو موافق لما أخبر به الرسول فهذا لا بد منه في كلام كل طائفة بل نحن نعلم بالاضطرار أن اليهود والنصارى كفار في دين الإسلام ونعلم بالاضطرار أنهم أكثر موافقة لما أخبر به الرسول ولما أمر به من هؤلاء فكيف يمكن دعوى موافقة هؤلاء له بل هذا من أعظم الجهل والنفاق والمنافقون في الدرك الأسفل من النار وإن كان قد تحقق بعض الكفر والنفاق على بعض المؤمنين ويغفر الله له إذا كان مؤمنا إيمانا صحيحا مع جهله ببعض ما أخبر به الرسول

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم عن معمر قال الزهري ألا أحدثك بحديثين عجيبين قال الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن رسول الله قال أسرف رجل على نفسه فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال إذا أنا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في الريح في البحر فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا قال ففعلوا ذلك به فقال للأرض أدي ما أخذت فإذا هو قائم فقال له ما حملك على ما صنعت قال خشيتك يا رب أو قال مخافتك فغفر له بذلك

وقال الزهري وحدثني حميد عن أبي هريرة عن رسول الله قال دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت قال الزهري ذلك لئلا يتكل رجل لا ييأس رجل

وفي الصحيح أيضا من حديث مالك وغيره عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا أنا مت فحرقوه ثم اذروا نصفي في البر ونصفي في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحد من العالمين فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم فامر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر الله له

وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث في مسألة التكفير وما فيها من اضطراب الناس في غير هذا الموضع وبينا أن من تأول قوله في هذا الحديث قدر بمعنى ضيق أو بمعنى قضى فلم يصب مقصود الحديث

وبينا أن المؤمن الذي لا ريب في إيمانه قد يخطىء في بعض الأمور العلمية الاعتقادية فيغفر له كما يغفر له ما يخطىء فيه من الأمور العملية وأن حكم الوعيد على الكفر لا يثبت في حق الشخص المعين حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله كما قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وأن الأمكنة والأزمنة التي تفتر فيها النبوة لا يكون حكم من خفيت عليه آثار النبوة حتى أنكر ما جاءت به خطأ كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة وذكرنا حديث حذيفة الذي فيه يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا صوما ولا حجا إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقولان أدركنا آباءنا وهم يقولون لا إله إلا الله فقيل لحذيفة ما يغني عنهم قول لا إله إلا الله وهم لايعرفون صلاة ولا زكاة ولا صوما ولا حجا قال تنجيهم من النار تنجيهم من النار وذكرنا قول النبي والمؤمنين ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا دعاء قد استجابه الله كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وابن عباس ففي صحيح مسلم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال لما أنزلت على رسول الله لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير قال فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله فأتوا رسول الله ثم بركوا على الركب فقالوا يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله عز وجل لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال نعم ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال نعم ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به قال نعم واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين قال نعم

وفي صحيح مسلم أيضا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء فقال النبي قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا قال فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال قد فعلت واغفر لنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال قد قعلت وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين قال قد فعلت

الوجه الحادي عشر

قوله لا تستبعد أن يكون في القرآن إشارات من هذا الجنس إن أراد أن مثل هذه الإشارة تكون هي معنى الكلام ومقصوده فهذا تحريف الكلم عن مواضعه وإلحاد في آيات الله من جنس ضلال القرامطة وأمثالهم من الملاحدة

وإن أراد أن الآية مع دلالتها على المعنى الذي يدل عليه لفظها قد يكون فيها إشارة إلى معنى آخر يناسبه فهذا هو القياس والاعتبار فالذي تريده الصوفية بالإشارة هو الذي يريده الفقهاء بالقياس والاعتبار وهذا صحيح إذا روعيت شروطه عند أكثر العلماء

ومعلوم أن مراده هنا هو القسم الأول فهو من جنس كلام القرامطة الملاحدة

وأما ما استشهد به من قوله تعالى أنزل من السماء ماء فيقال لا خلاف بين المسلمين أن في القرآن أمثالا في هذه الآية وفي غيرها بل يقال فيه أكثر من أربعين مثلا ومعلوم أن الممثل ليس هو الممثل به بل يشبهه من جهة المعنى المشترك وهذا شأن كل قياس وتمثيل واعتبار كما في قوله تعالى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا

وقوله مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله الآية وقوله فمثله كمثل صفوان عليه تراب الآية وأمثال ذلك وقوله الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح الآية وهذه الآية وهي قوله أنزل من السماء ماء وهي أيضا على ظاهرها كسائر الآيات مع تضمنها للمثل المذكور فإنه سبحانه قال أنزل من السماء ماء وهو على ظاهره وهو الماء المعروف فإنه أخبر بإنزاله ثم أخبر بعد ذلك بالزبد الذي يخرج مما يوقد عليه النار ابتغاء حلية أو متاع ثم قال بعد ذلك كذلك يضرب الله الحق والباطل فلما ذكر المثل والتشبيه وهذا من الأمثال الذي قال في آخرها كذلك يضرب الله الأمثال فقد صرح فيها بأنه يضرب الأمثال كما ضرب هذا المثل وقد بين سبحانه الأصل المشبه به ثم ذكر المشبه فانطبق الكلام على حقيقته وظاهره ومن توهم أنه أراد مجرد العلم كما توهمه المتوهم فقد غلط لكنه أراد به أولا هذا الماء وجعله مثلا مضروبا للعلم كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي أنه قال مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث كثير أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به

فهذا الحديث مثل هذه الآية كلاهما بين فيه الممثل والممثل به وهل يجوز أن يراد بالكلام ما مثل به ولا يراد به عين المسمى باللفظ من غير دلالة ينصبها على ذلك ومعلوم أن هذا من جنس الاستعارة والتشبيه فهل يحمل اللفظ على ذلك بمجرده وإن ساغ ذلك ساغ أن يقال وكل شيء أحصيناه في إمام مبين أنه علي بن أبي طالب وغيره ويقال في اللؤلؤ والمرجان أنهما الحسن والحسين لأن هذا مات مسموما وهذا مات مقتولا وأمثال ذلك من تأويلات القرامطة الذين يحملون اللفظ على غير مسماه المعروف بمجرد شبه بينهما من غير دلالة بل ولا استعمال لذلك اللفظ في ذلك المعنى الثاني في اللغة

الوجه الثاني عشر

قوله وإن القرآن يلقيه إليك على الوجه الذي لو كنت في النوم مطالعا بروحك اللوح المحفوظ لتمثل لك ذلك بمثال مناسب يحتاج إلى التعبير يتضمن أصلين فاسدين ليسا من أصول المسلمين بل من أصول الفلاسفة الضالة وهي أن ما يخبر به نبينا ص وغيره من الأنبياء من أمور الغيب إنما هو من جنس المنامات التي يراها الناس فإن النائم تضرب له الأمثال في منامه بنوع يشابه تأويل الرؤيا ولهذا كان مدار تأويل الرؤيا على معرفة القياس والاعتبار والرؤيا الصادقة وإن كانت جزأ من ستة وأربعين جزءا من أجزا النبوة وفي الصحيحين كان أول ما بدىء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح فرؤيا الأنبياء كمال قال ابن عباس وحي، وقد لا تحتاج إلى تعبير كما رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح ولده فأصبح يريد أن يذبحه حتى فداه الله وهذا قول المسلمين واليهود والنصارى خلاف ما يزعمه بعض الملاحدة كصاحب الفصوص من أن رؤياه كان تعبيرها ذبح الكبش وأن إبراهيم غلط في ذلك فلم يعرف تعبير الرؤيا حتى فداه ربه من وهم إبراهيم ما هو فداء في نفس الأمر وأنه قال إن هذا لهو البلاء المبين، أي الاختيار المبين أي الظاهر يعني الإختبار في العلم هل يعلم ما يقتضيه موطن الرؤيا من التعبير أم لا لأنه يعلم أن موطن الخيال يطلب التعبير

قال فغفل إبراهيم فما وفى الموطن حقه

ومعلوم عند كل مسلم أن هذا ليس من أقوال من يؤمن بالرسل ويقدر قدرهم لا سيما إبراهيم الخليل خير البرية بعد محمد كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح أنه خير البرية ورواه مسلم في صحيحه وهو الأمة أي القدوة لجميع المؤمنين بعده

وهو الذي جعله للناس إماما واتخذه خليلا

وقد قال ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا

بل من رؤيا المؤمنين ما يكون مطابقا للظاهر لا يحتاج إلى تأويل فإذا كان في رؤيا المؤمنين والأنبياء ما لا يحتاج إلى تعبير بل يكون المرئي في المنام هو الموجود في اليقظة فكيف يكون القرآن كلام الله الذي أنزله بلسان عربي مبين وجعل هدى وبيانا مشتملا على ما هو من جنس أحاديث الرؤيا المفتقرة إلى التعبير ثم كيف يكون ذلك والرسول ثم الصحابة والتابعون لم يتأولوا القرآن ولم يعبروه بما يخالف مقتضاه ودلالته كما كانوا كثيرا ما يعبرون الرؤيا بما يخالف الظاهر المعروف منها والحقائق المخبر بها الظاهرة المعروفة في القرآن من أمر اليوم الآخر ونعوت الربوبية وإن كانت ليست مماثلة في الحقيقة الحقائق الموجودة في الدنيا كما قال ابن عباس ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء رويناه من حديث وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس

فذلك لايقتضي أن لا يكون الكلام دل عليها بطريق الحقيقة بل لا يمنع أن تكون هي الأسماء المذكورة في القرآن أحق من مسميات الدنيا حتى يقال إن دلالتها على مدلولها لا حقيقة له إلا ما يدل عليه بطريق التعبير كالرؤيا إذ من المعلوم أن ما رآه يوسف من سجود القمرين والكواكب ورؤيا الملك من البقر والسنبل لم يكن موجودا في الخارج وإنما هو في نفسه ومدلوله في الخارج سجود أبويه وإخوته وسنين الخصب والجدب فهل يقول من يؤمن بالله ورسله أن ما أخبر به الرسول من صفات ربه وصفات الملائكة واليوم الآخر وغير ذلك إنما هي أمور ذهنية لا وجود لها في الخارج بل لها تعبير كالرؤيا

وهل هذا إلا نسبة الرسل إلى الكذب الصريح فإن الخبر الذي يقوله الرائي لو أطلقه ولم يقل في المنام وأراد به تأويل الرؤيا لكان كاذبا باتفاق العقلاء

فلو قال مخبرا سجد لي الشمس والقمر والكواكب ولم يقل في المنام أو قال رأيت سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ولم يقل في المنام لكان كاذبا وكذبه جميع الناس إذ اللفظ لا يدل على ذلك لا حقيقة ولا مجازا ولو كان مجازا لم يجز ذكره إلا بقرينة تبين المراد

وإذا قال رأيت هذا في المنام كان مصدقا في أنه رأى في المنام كذلك وإن لم يكن تأويله في اليقظة كذلك لعلم الناس أن ما يرى في المنام لا يجب أن يكون هو التأويل في اليقظة بل يكون مشابها له من بعض الوجوه ولم يقل أحد من الأمم أن مجرد المشابهة التي بين المرئي في المنام وبين تأويل الرؤيا يكفي في استعمال اللفظ على وجه الاستعارة بل لو تخاطب الناس بمثل هذا لم يفهم أحد ما أراد غيره وللاستعارة والتشبيه حدود معروفة في الخطاب

وأما الرؤيا وتأويلها فباب لا ينضبط له حد وقد يكون تأويلها لا يشبهها إلا بوجه بعيد لا يهتدي له إلا حذاق المعبرين

ولا ريب أن هذا الذي ذكره هو من أصول الفلاسفة القرامطة الباطنية في ردهم ما أخبر به الرسول من المعاد وغيره إلى أمثال مضروبة لكن أهل الملل يعلمون بالاضطرار أن هذا باطل وأن هذا نسبة للأنبياء إلى الكذب الصريح ويعلمون بالاضطرار أن الرسل لم تقصد مجرد ما يذكرونه ثم من المعلوم أن الرؤيا إن لم يعلم تعبيرها لم يكن فيها فائدة بل قد يضل الرائي إذا حملها على ظاهرها فإذا كان القرآن ونحوه كذلك لا بد له من مثل هذا التعبير وهو التأويل عند هؤلاء القرامطة فأحق الناس بمعرفة ذلك الصحابة ولا بد أن يبينه الرسول ولو لخواصهم بل يجب أن يبين أيضا لعوامهم وإلا كان ذلك إضلالا لهم ودعاء لهم إلى العقائد الفاسدة

ومن المعلوم بالتواتر علما ضروريا لمن له خبرة متوسطة بأحوال الصحابة أنهم كانوا أعظم الخلق منافاة لمثل هذه التحريفات التي يسمونها التعبير والتأويل خاصتهم وعامتهم وأن جميع ما ينقل عنهم مما يخالف الظاهر المعروف فهو كذب مفترى مثل ما يزعم أهل البطاقة والجفر ونحو ذلك مما يدعونه من العلوم الباطنة المنقولة عن علي كرم الله وجهه وأهل البيت رضي الله عنهم وقد ثبت بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن علي رضي الله عنه المتلقاة بالقبول ما يكذب ذلك كقوله لما قيل له هل عهد إليكم رسول الله عهدا لم يعهده إلى الناس فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة فكان فيها العقل يعني عقل القتيل وهو أسنان الديات وفيها افتكاك الأسير وفيها لا يقتل مسلم بكافر

وكذلك في الصحيح عنه أنه قال ما عندنا من رسول الله كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة وفيها المدينة حرام ما بين عير إلى ثور من أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ونحو ما تقدم ومثل هذا عن علي رضي الله عنه كثير

وكذلك ما يذكره بعض الناس عن عمر أنه قال كان النبي وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما

فإن هذا كذب باتفاق أهل المعرفة لم يروه أحد منهم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا يذكره إلا من هو من أجهل خلق الله بأحوال الصحابة رضي الله عنهم وإن كان فيمن يذكره من ينتسب إلى التحقيق والتوحيد والعرفان

وأما حديث أبي هريرة حفظت عن رسول الله جرابين أما أحدهما فبثثته فيكم وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم فهذا صحيح لكن الذي كان في الجراب الآخر إنما هو الإخبار عن الفتن التي تكون في الأمة كما قال ابن عمر لو حدثكم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم وتخربون بيت ربكم وتفعلون كذا وكذا لقلتم كذب أبو هريرة

ولم يكن في الجراب باتفاق العلماء ما يدعيه هؤلاء ولا كان أبو هريرة عندهم من الخواص الذي ينفرد بعلم أسرارهم وحقائقهم وإنما الذي يذكر عنه أنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره فهو حذيفة وكان ذلك السر معرفته بأعيان المنافقين وكان أحفظهم لأحاديث الفتن لا لأنه خص بعلمها بل لأنه اعتنى بها كما ثبت ذلك عنه

ثم كيف يصح أن يكون القرآن بمنزلة أحاديث الرؤيا هذا والقرآن موصوف بأنه هدى وبيان للناس وأن على الرسول البلاغ المبين وأي بيان أو بلاغ مبين فيما هو من جنس الرؤيا التي لها تعبير ولم يخبر بتعبيرها ومن المعلوم أن هذه الأحاديث النبوية المتواترة وآثار الصحابة والتابعين كلها توافق ما يفهم من القرآن وتمنع أن يكون المراد ما يراد بالرؤيا من التعبير ثم هل يقول مؤمن عاقل إن الشمس والقمر والنجوم في قوله والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره تأويلها من جنس تأويل قول يوسف رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين وأن السنبل في قوله مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل من جنس السنبلة في قول الملك سبع سنبلات خضر وأن البقرة في قوله تعالى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة وقوله ومن البقر اثنين قل الذكرين حرم أم الأنثيين كالبقر في قول الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وأن المراد بالخمر في قوله إنما الخمر والميسر كالمراد بالخمر في قول أحد صاحبي السجن إني أراني أعصر خمرا وأمثال ذلك

ولكن من زعم أن ما رآه الخليل من الكواكب والشمس هي إشارة إلى أمور من هذا الجنس كالنفس والعقل لم ينكر أن يقول ما يتشأبه هذا ومن طرد هذا القياس جعل المراد بالصلاة معرفة أسرارهم والمراد بالصوم كتمان أسرارهم والمراد بالحج قصد شيوخهم المقدسين ويدي أبي لهب أبو بكر وعمر واللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين وعلمت نفس ما قدمت وأخرت علم جبرائيل بتقديم محمد وتأخير علي وأئمة الكفر طلحة والزبير ولئن أشركت ليحبطن عملك لئن أشركت بين أبي بكر وعلي في الولاية ونحو ذلك من تأويلات القرامطة فإنهم أئمة هذا الباب الذي كانوا به أضل الناس عن سواء السبيل وهو في الأصل إنما صدر عن زنادقة منافقين أرادوا التلبيس به على جهال المسلمين في الظاهر وخالفوهم في الباطن وإذا لقوا الذين آمنوا

قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون

وذكر مثل هذا طويل ليس هذا موضع استقصائه

الأصل الثاني من الأصلين الفاسدين كون روح العبد تطالع اللوح المحفوظ فإن هذا هو قول هؤلاء من المتفلسفة القرامطة أن اللوح المحفوظ وهو العقل الفعال أو النفس الكلية وذلك ملك من الملائكة وأن حوادث الوجود منتقشة فيه فإذا اتصلت به النفس الناطقة فاضت عليها

وكل من علم ما جاء به الرسول يعلم بالاضطرار أن مراده باللوح المحفوظ ليس هو هذا ولا اللوح المحفوظ ملك من الملائكة باتفاق المسلمين بل قد أخبر أنه قرآن مجيد في لوح محفوظ وقال إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون كما قال في الآية الأخرى فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة

وقال وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم وقال وكل شيء أحصيناه في إمام مبين وقال ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون وقال وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء على أصح القولين وقال تعالى ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض أن ذلك في كتاب أن ذلك على الله يسير وقال وما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير

ولم يقل أحد من علماء المسلمين أن أرواح كل من رأى مناما تطلع على اللوح المحفوظ بل قد جاء في الحديث أنه لاينظر فيه غير الله عز وجل في حديث أبي الدرداء

ثم اللوح المحفوظ فوق السماوات والنفس والعقل اللذان يذكرونهما متصلان بفلك القمر دون ما فوقهما من العقول والنفوس

وقوله إن كنت لا تقوى على احتمال ما يقرع سمعك من هذا النمط ما لم تسند التفسير للصحابة فإن التقليد غالب عليك

يقال له إنما لم أحتمل هذا النمط لأني أعلم بالاضطرار أنه باطل وأن الله لم يرده فردي للقرمطة في السمعيات كردي للسفسطة في العقليات وذلك كردي لكل قول أعلم بالاضطرار أنه كذب وباطل ولو نقل مثل هذا النمط عن أحد من الصحابة والتابعين لعلمت أنه كذب عليهم ولهذا تجد القرامطة ينقلون هذا عن علي عليه السلام ويدعون أن هذا العلم الباطن المخالف لما علم من الظاهر مأخوذ عنه ثم لم يستفيدوا بهذا النقل عن علي عليه السلام عند المسلمين إلا زيادة كذب وخزي فإن المسلمين يعلمون بالاضطرار أن عليا لا يقول مثل هذا وأهل العلم منهم قد علموا بالنقول الصحيحة الثابتة عن علي ما يبين كذب هذا ويبين أن من ادعى على علي أنه كان عنده عن النبي علم خصه به فقد كذب كما هو مبسوط في غير هذا الموضع

وقد دخل كثير من هذه القرمطة في كلام كثير من المتصوفة كما دخل في كلام المتكلمة وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب حقائق التفسير قطعة من هذا الجنس عن جعفر الصادق رضي الله عنه

وأهل العلم بجعفر وأحواله يعلمون قطعا أن ذلك مكذوب على جعفر كما كذب عليه الناقلون عنه الجدول في الهلال وكتاب الجفر والبطاقة والهفت واختلاج الأعضاء والرعود والبروق ونحو ذلك مما هو من كلام أهل النجوم والفلسفة ينقلونه عن جعفر وأهل العلم بحاله يعلمون أن هذا كله كذب عليه بل أعجب من ذلك ظن طوائف أن كتاب رسائل إخوان الصفا هو عن جعفر الصادق وهذا الكتاب هو أصل مذهب القرامطة الفلاسفة فينسبون ذلك إليه ليجعلوا ذلك ميراثا عن أهل البيت وهذا من أقبح الكذب وأوضحه فإنه لا نزاع بين العقلاء أن رسائل إخوان الصفا إنما صنفت بعد المائة الثالثة في دولة بني بويه قريبا من بناء القاهرة

وقد ذكر أبو حيان التوحيدي في كتاب الإمتاع والمؤانسة من كلام أبي الفرج بن طراز مع بعض واضعيها ومناظرته لهم ومن كلام أبي سليمان المنطقي فيهم وغير ذلك ما يتبين به بعض الحال وفيها نفسها بيان أنها صنفت بعد أن استولى النصارى على سواحل الشام ومن المعلوم بالتواتر أن استيلائهم على سواحل الشام كان بعد المائة الثالثة وجعفر رضي الله عنه توفي سنة ثمان وأربعين ومائة قبل وضع هذه الرسائل بنحو مائتي سنة فهذا وأمثاله يبين أن نقل مثل هذه التحريفات التي قد سماها تأويلا وتعبيرا عن الصحابة وأهل البيت والمشايخ لا يزيدها عند أهل العلم والإيمان إلا علما بكذب منتحليها وعلما بجهلهم وضلالهم فلا يظن أن مجرد النقل والرواية ينفق الباطل عند أهل العلم والإيمان كما قد ينفق عليه وعلى أمثاله من النقول الباطلة ما لا يعلمه إلا الله لقلة علمهم بالحديث والآثار وأحوال السلف وعلومهم كما ينفق عليهم من المقولات الفاسدة ما لا يعلمه إلا الله تعالى فإن أهل العلم والإيمان مؤيدون بصحيح المنقول وصريح المعقول

وأما التفسير الثابت عن الصحابة والتابعين فذلك إنما قبلوه لأنهم قد علموا أن الصحابة بلغوا عن النبي لفظ القرآن ومعانيه جميعا كما ثبت ذلك عنهم مع أن هذا مما يعلم بالضرورة عن عادتهم فإن الرجل لو صنف كتاب علم في طب أو حساب أو غير ذلك وحفظه تلامذته لكان يعلم بالاضطرار أن هممهم تشوق إلى فهم كلامه ومعرفة مراده وإن بمجرد حفظ الحروف لا تكتفي به القلوب فكيف بكتاب الله الذي أمر ببيانه لهم وهو عصمتهم وهداهم وبه فرق الله بين الحق والباطل والهدى والضلال والرشاد والغي وقد أمرهم بالإيمان بما أخبر به فيه والعمل بما فيه وهم يتلقونه شيئا بعد شيء كما قال تعالى وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا الآية وقال تعالى وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا

وهل يتوهم عاقل أنهم كانوا إنما يأخذون منه مجرد حروفه وهم لا يفقهون ما يتلوه عليهم ولا ما يقرؤونه ولا تشتاق نفوسهم إلى فهم هذا القول ولا يسألونه عن ذلك ولا يبتدىء هو بيانه لهم هذا مما يعلم بطلانه أعظم مما يعلم بطلان كتمانهم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله

ومن زعم أنه لم يبين لهم معاني القرآن أو أنه بينها وكتموها عن التابعين فهو بمنزلة من زعم أنه بين لهم النص على علي وشيئا آخر من الشرائع والواجبات وأنهم كتموا ذلك أو أنه لم يبين لهم معنى الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك مما يزعم القرامطة أن له باطنا يخالف الظاهر كما يقولون إن الصلاة معرفة أسرارهم والصيام كتمان أسرارهم والحج زيارة شيوخهم وهو نظير قولهم أن أبا بكر وعمر كانا منافقين قصدهما إهلاك الرسول وأن أبا لهب أقامهما لذلك وأنهما يدا أبي لهب وهو المراد في زعمهم بقوله تبت يدا أبي لهب وتب وقولهم إن الإشراك الذي قال الله لئن أشركت ليحبطن عملك هو إشراك أبي بكر وعلي في الولاية وأن الله أمره بإخلاص الولاية لعلي دون أبي بكر وقال لئن أشركت بينهما ليحبطن عملك ونحو ذلك من تفسير القرامطة

فقولنا بتفسير الصحابة والتابعين لعلمنا بأنهم بلغوا عن الرسول ما لم يصل إلينا إلا بطريقهم وأنهم علموا معنى ما أنزل الله على رسوله تلقيا عن الرسول فيمتنع أن نكون نحن مصيبين في فهم القرآن وهم مخطئون وهذا يعلم بطلانه ضرورة عادة وشرعا

الوجه الثالث عشر

أن أبا حامد في كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة مع أنه قد توسع فيه في تأويلات المحرفين غاية التوسع وذكر فيه من الأمور ما قد بسطنا الكلام عليه في غير هذا الموضع جزم بكفر هؤلاء كما جزم به سائر علماء المسلمين كما جزم بكفرهم في التهافت وغيره ورد أيضا التأويلات التي ذكرها في مشكاة الأنوار وغيره فقال:

فصل

من الناس من يبادر إلى التأويل بغلبات الظنون من غير برهان قاطع ولا ينبغي أن يبادر إلى تكفيره في كل مقام بل ينظر فيه فإن كان تأويله في أمر لا يتعلق بأصول العقائد ومهماتها فلا نكفره وذلك كقول بعض الصوفية إن المراد برؤية الخليل عليه السلام الكوكب والقمر والشمس وقوله هذا ربي غير ظاهرها بل هي جواهر روحانية ملكية ونورانيتها عقلية لا حسية ولها درجات متقاربة في الكمال ونسبة ما بينها من التفاوت كنسبة الكواكب والقمر والشمس ويستدل عليه بأن الخليل عليه السلام أجل من أن يعتقد في جسم أنه إله حتى يحتاج إلى أن يشاهد أفوله افترى أنه لو لم يأفل أكان يتخذه إلها ولو لم يعرف استحالة الإلهية من حيث كونه جسما مقدرا واستدل بأنه كيف يمكن أن يكون أول ما رأى الكوكب والشمس هي الأظهر وهي أول ما تبدو واستدل بأن الله تعالى قال أولا وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض ثم حكى هذا القول فكيف يمكن أن يتوهم ذلك بعد كشف الملكوت له وهذه دلالات ظنية وليست براهين قاطعة

أما قوله هو أجل من ذلك فقد قيل إنه كان صبيا لما جرى له ذلك ولا يبعد أن يخطر لمن سيكون نبيا في صباه مثل هذا الخاطر ثم يتجاوزه على قرب ولا يبعد أن تكون دلالة الأفول على الحدوث عنده أظهر من دلالة التقدر والجسمية وأما رؤية الكوكب أولا فقد روي أنه كان في صباه محبوسا في غار وإنما خرج بالليل

وأما قوله تعالى أولا وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض فيجوز أن يكون الله تعالى قد ذكر حال نهايته ثم رجع إلى حال بدايته فهذه وأمثالها ظنون يظنها براهين من لا يعرف حقيقة البرهان وشرطه فهذا جنس تأويلهم

وقد تأولوا في العصا والنعلين في قوله تعالى لموسى فاخلع نعليك وقوله تعالى وألق ما في يمينك ولعل الظن في مثل هذه الأمور التي لا تتعلق بأصول الاعتقاد تجري مجرى البرهان في أصول الاعتقاد فلا يكفر فيه ولا يبدع نعم إن كان فتح هذا الباب يؤدي إلى تشويش قلوب العوام فيبدع فيه صاحبه في كل ما لم يؤثر عن السلف ذكره ويقرب منه قول بعض الباطنية أن عجل السامري مؤول إذ كيف يخلو خلق كثير عن عاقل يعلم أن المتخذ من الذهب لا يكون إلها وهذا أيضا ظن إذ لا يستحيل أن تنتهي طائفة من الناس إليه كعبدة الأوثان وكونه نادرا لا يورث يقينا

قال فأما ما يتعلق من هذا الجنس بأصول العقائد المهمة فيجب تكفير من يغير الظاهر بغير برهان قاطع كالذي ينكر حشر الأجساد وينكر العقوبات الحسية في الآخرة بظنون وأوهام واستبعادات من غير برهان قاطع فيجب تكفيره قطعا إذ لا برهان على استحالة رد الأرواح إلى الأجساد ورد ذلك عظيم الضرر في الدين فيجب تكفير كل من تعلق به وهو مذهب أكثر الفلاسفة

ويجب تكفير من قال منهم إن الله عز وجل لا يعلم إلا نفسه أو لا يعلم إلا الكليات فأما الأمور الجزئية المتعلقة بالأشخاص فلا يعلمها لأن ذلك تكذيب للرسول قطعا وليس من قبيل الدرجات التي ذكرناها في التأويل إذ أدلة القرآن والأخبار على تفهيم حشر الأجساد وتفهيم تعلق علم الله تعالى بكل ما يجري على الإنسان مجاوزة حدا لا يقبل التأويل وهم معترفون بأن هذا ليس من التأويل ولكن قالوا لما كان صلاح الخلق في أن يعتقدوا حشر الأجساد لقصور عقولهم عن فهم المعاد العقلي وكان صلاحهم في أن يعتقدوا أن الله تعالى عالم بما يجري عليهم ورقيب عليهم ليورث ذلك رغبة رعبة في قلوبهم جاز للرسول أن يفهمهم ذلك قالوا وليس بكاذب من أصلح غيره فقال ما فيه صلاحه وإن لم يكن كما قاله

وهذا القول باطل قطعا لأنه تصريح بالتكذب ثم طلب عذرا في أنه لم يكذب ويجب إجلال منصب النبوة عن هذه الرذيلة ففي الصدق وإصلاح الخلق به مندوحة عن الكذب وهذه أول درجات الزندقة وهي رتبة بين الاعتزال وبين الزندقة المطلقة فإن المعتزلة تقرب مناهجهم من مناهج الفلاسفة إلا في هذا الأمر الواحد وهو من المعتزلي لا يجوز الكذب على رسول الله بمثل هذا العذر بل يؤول الظاهر مهما ظهر له بالبرهان خلافه والفلسفي لا تقتصر مجاوزته للظواهر على ما يقبل التأويل على قرب أو على بعد

وأما الزندقة المطلقة فهو أن ينكر أصل المعاد عقليا وحسيا وينكر الصانع للعالم أصلا ورأسا

وأما إثبات المعاد بنوع عقلي مع نفي الآلام واللذات الحسية وإثبات الصانع مع نفي علمه بتفاصيل الأمور فهي زندقة مقيدة بنوع اعتراف بصدق الأنبياء وظاهر ظني والعلم عند الله أن هؤلاء هم المرادون بقوله ستفترق أمتي نيفا وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا الزنادقة وهي فرقة هذا لفظ الحديث في بعض الروايات ولفظ الحديث يدل على أنه أراد به الزنادقة من أمته إذ قال ستفترق أمتي ومن لم يعترف بنبوته فليس من أمته والذين ينكرون أصل المعاد وأصل الصانع فليسوا معترفين بنبوته إذ يزعمون أن الموت عدم محض وأن العالم لم يزل كذلك موجودا بنفسه من غير صانع ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وينسبون الأنبياء إلى التلبيس فلا يمكن نسبتهم إلى الأمة فإذا لا معنى لزندقة هذه الأمة إلا ما ذكرناه

قلت أما هذا الحديث فلا أصل له بل هو موضوع كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ولم يروه أحد من أهل الحديث المعروفين بهذا اللفظ

بل الحديث الذي في كتب السنن والمساند عن النبي من وجوه أنه قال ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار

وروي عنه أنه قال هي الجماعة

وفي حديث آخر هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي

وأيضا فلفظ الزندقة لا يوجد في كلام النبي كما لا يوجد في القرآن وهو لفظ أعجمي معرب أخذ من كلام الفرس بعد ظهور الإسلام وعرب وقد تكلم به السلف والأئمة في توبة الزنديق ونحو ذلك فأما الزنديق الذي تكلم الفقهاء في قبول توبته في الظاهر فالمراد به عندهم المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر وإن كان مع ذلك يصلي ويصوم ويحج ويقرأ القرآن وسواء كان في باطنه يهوديا أو نصرانيا أو مشركا أو وثنيا وسواء كان معطلا للصانع وللنبوة أو للنبوة فقط أو لنبوة نبينا فقط فهذا زنديق وهو منافق وما في القرآن والسنة من ذكر المنافقين يتناول مثل هذا بإجماع المسلمين ولهذا كان هؤلاء مع تظاهرهم بالإسلام قد يكونون أسوأ حالا من الكافر المظهر كفره من اليهود والنصارى مثلا كما قال تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما

ومثل هؤلاء المنافقين كفار في الباطن باتفاق المسلمين وإن كانوا مظهرين للشهادتين والإقرار بما جاء به الرسول ومؤدين للواجبات الظاهرة فإن ذلك لا ينفعهم في الآخرة إذ لم يكونوا مؤمنين بقلوبهم باتفاق أئمة المسلمين

وبهذا يظهر ضعف ما ذكره من أنه لا معنى لزندقة هذه الأمة إلا ما ذكره من الزندقة المقيدة التي هي مذهب الفلاسفة المشائين فإن الزندقة في هذه الأمة وغيرها باتفاق أئمة المسلمين أعم من هذا كما يذكره الفقهاء كلهم في باب توبة الزنديق وسائر أحكامه وإن لم يكن لفظ الزنديق واردا في الكتاب والسنة بل معناه عندهم المنافق وقد قال تعالى يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبإيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير

وقال تعالى يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبإيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير

وقال تعالى المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم

وقال تعالى إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا

وفي القرآن من ذكر المنافقين في عامة السور المدنية كالبقرة والنساء والتوبة وغيرها ما لا يمكن استقصاؤه بل جميع من بلغته دعوة محمد فإنهم ثلاثة أصناف مؤمن وكافر ومنافق هو كافر في الباطن مسلم في الظاهر وقد أنزل الله وصف الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة فأنزل أربع آيات في المؤمنين وآيتين في الكافرين وبضع عشرة آية في المنافقين فقال تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون

وبالجملة فقد ذكر الله تعالى من أمور المنافقين في السور المدنية كما أومأنا إليه كسورة البقرة والنساء والتوبة والأحزاب والفتح وغيرها ما يطول ذكره وعامة ما يوجد النفاق في أهل البدع فإن الذي ابتدع الرفض كان منافقا زنديقا وكذلك يقال عن الذي ابتدع التجهم وكذلك رؤوس القرامطة والخرمية وأمثالهم لا ريب أنهم من أعظم المنافقين وهؤلاء لا يتنازع المسلمون في كفرهم

وأما تكفير من لم يكن منافقا فهذا فيه تفصيل قد بسطناه في غير هذا الموضع وبينا الفرق بين من قامت عليه الحجة النبوية التي يكفر تاركها وبين المخطىء المجتهد في اتباع الرسول إذا اقتضى خطؤه نفى بعض ما أثبته أو إثبات بعض ما نفاه حتى نفس المقالة الواحدة يكفر بتكذيبها من قامت عليه الحجة دون من لم تقم كالذي قال إذا مت فاسحقوني ثم اذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين

فإن الإيمان بقدرة الله على كل شيء ومعاد الأبدان من أصول الإيمان ومع هذا فهذا لما كان مؤمنا بالله وأمره ونهيه وكان إيمانه بالقدرة والمعاد مجملا فظن أن تحريقه يمنع ذلك فعل ذلك ومعلوم أنه لو كان قد بلغه من العلم أن الله يعيده وإن حرق كما بلغه أنه يعيد الأبدان لم يفعل ذلك

وقد بسطنا الكلام في مقالات الناس في التكفير وبيان الصواب في غير هذا الموضع

والمقصود أن أبا حامد ذكر هنا أن هذه التأويلات التي أشار إليها في مشكاة الأنوار لم يقم دليل قاطع يقتضيها وتكلم في تبديع أهلها بما تقدم وذكر أن ما يتعلق بأصول العقائد فيجب تكفير من بغير الظاهر فيه بغير برهان قاطع وقطع بتكفير الفلاسفة كما تقدم كما قطع بتكفيرهم في تهافت الفلاسفة

وقال بعد ذلك في قانون التكفير:

هو أن تعلم أن النظريات قسمان قسم يتعلق بأصول العقائد وقسم يتعلق بالفروع

وأصول الإيمان ثلاثة الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر وما عداه فروع قال واعلم أنه لا تكفير في الفروع أصلا لكن في بعضها تخطئة كما في الفقهيات وفي بعضها تبديع كالخطأ المتعلق بالإمامة وأحوال الصحابة

إلى أن قال

ومهما وجد التكذيب وجد التكفير ولو كان في الفروع فلو قال قائل مثلا البيت الذي بمكة ليس هي الكعبة التي أمر الله بحجها فهذا كفر إذ قد ثبت تواترا عن رسول الله خلافه ولو أنكر شهادة الرسول لذلك البيت بأنه الكعبة لم ينفعه إنكاره بل يعلم قطعا أنه معاند في إنكاره إلا أن يكون قريب عهد من الإسلام ولم يتواتر عنده ذلك وكذلك من نسب عائشة رضي الله عنها وعن أبيها إلى الفاحشة وقد نزل القرآن ببراءتها فهو كافر لأن هذا وأمثاله لا يمكن إنكاره إلا بتكذيب الرسول أو إنكار التواتر والمتواتر ينكره الإنسان بلسانه ولا يمكنه أن يجهله بقلبه نعم لو أنكر ما ثبت بأخبار الآحاد فلا يلزمه به الكفر ولو أنكر ما ثبت بالإجماع فهذا عندي فيه نظر لأن معرفة كون الإجماع حجة مختلف فيه فهذا حكم الفروع

فأما الأصول الثلاثة وكل ما لم يحتمل التأويل في نفسه وتواتر نقله ولم يتصور أن يقوم برهان على خلافه فمخالفته تكذيب محض ومثاله ما ذكرناه من حشر الأجساد والجنة والنار وإحاطة علم الله تعالى بتفاصيل الأمور وما يتطرق إليه احتمال تأويل ولو بالمجاز البعيد فينظر فيه إلى البرهان فإن كان قطعيا وجب القول به لكن إن كان في إظهاره مع العوام ضرر لقصور فهمهم فإظهار بدعة وإن لم يكن البرهان قطعيا لكن يفيد ظنا غالبا وكان مع ذلك لا يعم ضرره في الدين كنفي المعتزلي الرؤية عن الباري تعالى فهذه بدعة وليس بكفر

وأما ما يظهر له ضرر فيقع في محل الاجتهاد والنظر فيحتمل أن يكفر وأن لا يكفر ومن جنس ذلك ما يدعيه بعض من يدعي التصوف أنه قد بلغ حالة بينه وبين الله تعالى أسقطت عنه الصلاة وحل له شرب الخمر والمعاصي وأكل مال السلطان فهذا ممن لا أشك في وجوب قتله وإن كان في الحكم بخلوده في النار نظر وقتل مثل هذا أفضل من قتل مائة كافر إذ ضرره في الدين أعظم ويفتح به باب من الإباحة لا يسد فضرر هذا فوق ضرر من يقول بالإباحة مطلقا فإنه يمتنع من الإصغاء إليه لظهور كفره وأما هذا فإنه يهدم الشرع من الشرع ويزعم أنه لم يرتكب فيه إلا تخصيص عموم الكتاب إذ خصص عموم آيات التكليفات لمن ليس له مثل درجته في الدين وربما يزعم أنه يلابس الدنيا ويفارق المعاصي بظاهره وهو بباطنه برىء عنها ويتداعى هذا إلى أن يدعي كل فاسق مثل حاله وينحل به عصام الشرع ولاينبغي أن يظن أن التكفير ونفيه ينبغي أن يدرك قطعا في كل مقام بل التكفير حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال وسفك الدماء والحكم بالخلود في النار فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية فتارة يدرك بيقين وتارة يدرك بظن غالب وتارة يتردد فيه ومهما حصل تردد فالتوقف عن التكفير أولى والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل

ولا بد من التنبيه لقاعدة أخرى وهي أن المخالف قد يخالف نصا متواترا ويزعم أنه مؤول ولكن ذكر تأويله لا انقداح له أصلا عن اللسان لا على قرب ولا على بعد فذلك كفر وصاحبه مكذب وإن كان يزعم أنه مؤول. مثاله ما رأيته في كلام بعض الباطنية أن الله تعالى واحد بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها وعالم بمعنى أنه يعطي العلم ويخلقه لغيره وموجود بمعنى أنه يوجد غيره

فأما أن يكون في نفسه واحدا أو موجودا وعالما بمعنى اتصافه به فلا وهذا كفر صراح لأن حمل الوحدة على إيجاد الوحدة ليس من التأويل في شيء ولا تحتمله لغة العرب أصلا ولو كان خالق الوحدة يسمى واحدا لخلقه الوحدة لسمى ثلاثا أو أربعا لأنه خلق الأعداد أيضا فأمثلة هذه المقالات تكذيبات إن عبر عنها بالتأويلات

ثم قال

فصل

قد تكلمت في هذه التقسيمات أن النظر في التكفير يتعلق بأمور أحدها أن النص الشرعي إذا عدل به عن ظاهره هل يحتمل التأويل أم لا وإذا احتمل التأويل فهو قريب أو بعيد

الثاني في النص المتروك أنه لو ثبت تواترا أو آحادا أو ثبت بالإجماع المجرد

الثالث في أن صاحب المقالة هل تواتر عنده الخبر أو بلغه الإجماع إذ كل من يولد لا تكون الأمور عنده متواترة ولا مواضع الإجماع عنده متميزة عن مواضع الخلاف

الرابع النظر في دليله الباعث له على مخالفة الظاهر أهو على شرط البرهان أم لا

الخامس في أن ذكر تلك المقالة هل يعظم ضررها في الدين أم لا

قلت ليس المقصود هنا تعقب كلامه في التكفير فإن هذه مسألة كبيرة وفيها اضطراب عظيم لا يحتمله هذا الموضع وإنما المقصود الكلام على تصويب التأويل وتخطئته والقطع بذلك فإنه قد ذكر أن من النصوص ما لا يحتمل التأويل وجعل أمثال تلك التأويلات تكذيبات ومن تدبر هذا وجد جمهور ما تذكره الفلاسفة بل والمعتزلة في التأويل هو من هذا الباب ولا ريب أن المعتزلة أقرب إلى الإسلام من الفلاسفة ومن أشهر مسائلهم التي امتحنوا الناس عليها قولهم إن القرآن مخلوق وقالوا معنى أن الله متكلم وأنه تكلم أنه خلق في غيره كلاما

وقد قال هنا أن حمل الوحدة على إيجاد الوحدة ليس من التأويل في شيء ولا تحتمله لغة العرب أصلا ولو كان خالق الوحدة واحدا لخلقه الوحدة لسمي ثلاثا وأربعا لأنه خلق الأعداد أيضا

ومثل هذا يقال في الكلام والإرادة والرضا والغضب وأشباه ذلك مما تقول الجهمية من المعتزلة وغيرهم أنه خلقه في غيره فتسمى واتصف به فإن حمل المتكلم على الذي أوجد الكلام في غيره بمنزلة حمل العالم والقادر والسميع والبصير على الذي أوجد العلم والقدرة والسمع والبصر في غيره ولو كان متكلما بما يخلقه في غيره لكان ما تنطق به

الأيدي والجلود التي قالت أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء متكلما به وكان ذلك كلام الله ولم يكن فرق بين أن يقول هو وبين أن ينطق غيره ثم إنه إذا قام الدليل على أنه خالق أفعال العباد لزم أن يكون هو المتكلم بكل ما يوجد من الكلام كما قاله بعض الاتحادية

وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه

وحينئذ لا فرق بين قول فرعون أنا ربكم الأعلى وما علمت لكم من إله غيري وبين القول الذي يسمعه موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري

وهكذا تصرح به هؤلاء الجهمية الاتحادية كما وجدته في كتبهم وكما شافهني بذلك حذاقهم ومحققوهم وشيوخهم، ويقولون إنه هو المتكلم على لسان كل قائل لا يكتفون بأن يكون هو الذي أنطق كل شيء كما يقول المسلمون، بل يقولون إنه الناطق في كل شيء فلا يتكلم إلا هو ولا يسمع إلا هو حتى قول مسيلمة الكذاب والدجال وفرعون يصرحون بأن أقوالهم هي قوله وخاطبت بذلك بعضهم فذكرت له الدجال فقال يكون الدجال مستثنى من ذلك الشرع

فقلت له هذا لا يمكن على أصلكم في الوحدة فتحير وبقي في حيرة

ومن أصولهم الجمع بين النقيضين والضدين

وقول هؤلاء هو في الحقيقة قول الجهمية الذين كفرهم السلف والأئمة لكن أولئك ظهر عنهم أنهم قالوا إن الله بذاته في كل مكان وكل من القائلين للقولين قد يقول مقالة الآخر كما بينته في غير هذا الموضع

فإن هؤلاء يقولون بالمظاهر وإنه ظهر في الأشياء

فقلت لبعضهم فالمظاهر وجود أو عدم

قال وجود

قلت فهي غيره أم لا فإن قلتم غيره فقد قلتم بموجودين وإن قلتم لا بطل ما قررتموه فتحير

ولهذا لما فهم السلف حقيقة قول هؤلاء كفروهم كما قال عبد الله بن المبارك ما ذكره البخاري في كتاب خلق الأفعال قال وقال ابن مقاتل سمعت ابن المبارك يقول من قال إنني إنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني مخلوق فهو كافر ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك

قال وقال ابن المبارك لا نقل كما قالت الجهمية انه في الأرض هاهنا بل على العرش استوى

وقيل له كيف نعرف ربنا فقال فوق سماواته على عرشه وقال لرجل منهم أبطنك خال منه فبهت الآخر

وقال من قال لا إله إلا هو مخلوق فهو كافر وإنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية قال البخاري وقال علي بن عاصم ما الذين قالوا إن لله ولدا أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم

قال البخاري وقال أبو الوليد سمعت يحيى بن سعيد وذكر له أن قوما يقولون القرآن مخلوق قال فقال كيف يصنعون بقوله قل هو الله أحد كيف يصنعون بقوله إنني أنا الله لا إله إلا أنا

قال وقال سليمان بن داود الهاشمي من قال القرآن مخلوق فهو كافر وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال أنا ربكم الأعلى حيث زعموا أن هذا مخلوق

والذي قال إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني هذا أيضا قد ادعى ما ادعى فرعون فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار من هذا وكلاهما عنده مخلوق فأخبر بذلك أبو عبيد فاستحسبه وأعجبه

قلت المقصود التنبيه على أن السلف فهموا حقيقة قول هؤلاء الجهمية الذي هو حقيقة قول القرامطة ومن وافقوه من الفلاسفة فإنهم ينفون الصفات وهم في الحقيقة ينفون الأسماء أيضا لكن يحتاجون إلى إطلاقها في الظاهر لأجل تظاهرهم بالإسلام ويتأولونها على أنه خلق معانيها في غيره وهذه هي القاعدة المعروفة وهو أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل دون غيره ووجب أن يشتق لذلك المحل من لفظها اسم ولا يشتق لغيره الاسم والمعتزلة تنازع أهل الإثبات في بعضها كما تنازعهم القرامطة في بعضها وطرد ذلك في أسماء الأفعال كالعادل ونحوه فإن المفهوم من مذهب الفقهاء وأصحاب الأئمة الأربعة وأهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام طرد ذلك ومن لم يطرده انتقضت حجته ولا فرق في ذلك بين نوع ونوع في الحقيقة ولكن من المذاهب ما قل قائله وخفي وظهر مخالفته لما استقر في قلوب المسلمين ومنها ما كثر قائله وبقي نفور القلب عن ذلك القول ومفتتحه أعظم ولو فرض أن شخصا مؤمنا باطنا وظاهرا ولكن جهل وضل في صفة القدرة أو العلم حتى ظن أن القدرة تقوم بغيره والعلم بغيره كما هو قول الباطنية لكان حاله كحال من هو مؤمن باطنا وظاهرا وقد جهل وضل حتى اعتقد أن الكلام لا تقوم به بل بغيره وكثير من أهل المقالات قد أخرج بعض الموجودات عن قدرته ومنع قدرته عن أشياء كحال الذي قال لولده ما قال فهذه المقالات هي كفر لكن ثبوت التكفير في حق الشخص المعين موقوف على قيام الحجة التي يكفر تاركها وإن أطلق القول بتكفير من يقول ذلك فهو مثل إطلاق القول بنصوص الوعيد مع أن ثبوت حكم الوعيد في حق الشخص المعين موقوف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه ولهذا أطلق الأئمة القول بالتكفير مع أنهم لم يحكموا في عين كل قائل بحكم الكفار بل الذين استمحنوهم وأمروهم بالقول بخلق القرآن وعاقبوا من لم يقل بذلك إما بالحبس والضرب والإخافة وقطع الرزق بل بالتكفير أيضا لم يكفروا كل واحد منهم وأشهر الأئمة بذلك الإمام أحمد وكلامه في تكفير الجهمية مع معامتله مع الذين امتحنوه وحبسوه وضربوه مشهور معروف

وإنما القصد هنا التنبيه على أن عامة هذه التأويلات مقطوع ببطلانه وأن الذي يتأوله أو يسوغ تأويله فقد يقع بالخطأ في نظيره أو فيه بل قد يكفر من يتأوله ونحن قد بسطنا الكلام في هذه الأبواب في غير هذا الموضع وإنما الغرض في هذا الجواب التنبيه على مخالفة أقوال هؤلاء المتفلسفة لدين الإسلام وأن أقوالهم هذه التي أدخلها من أدخلها من المتكلمة والمتصوفة في دين الإسلام ليست موافقة لأقوال الرسل بل نقطع بمخالفتها وأنا أنبه على نكت فيما ذكره

الوجه الرابع عشر

إن ما ذكره في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام من أنه أراد بالكوكب القمر والشمس ما يذكره المتفلسفة من العقول والنفوس كما في المشكاة وأن الشمس هي العقل لكونه هو المفيض على النفس كالشمس مع القمر وهم مضطربون في هذا التأويل فإن العقول عندهم عشرة والنفوس تسعة والشمس والقمر إثنان والكواكب كثيرة فلاينطبق هذا على هذا

ولهذا كلامهم في المطابقة مضطرب كما تقدم

وملخصه أنه جعل الكواكب من النفوس المتعددة وجعل القمر كنفس الفلك التاسع وجعل الشمس هي العقل

لكن المقصود أن هذا مما يعلم بالاضطرار أنه ليس هو المراد بالآية ولم يقله أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين بل قد اتفق كل من تكلم في تفسير القرآن من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين على أن المراد بالكوكب والقمر والشمس ما هو معروف من مسميات هذه الأسماء وهذه الأعيان المشهودة المستكثرة ولا كان أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين يثبت العقول والنفوس كما يثبتها هؤلاء المتفلسفة ولا الملائكة المذكورون في الكتاب والسنة على الصفة التي ينص هؤلاء عليها وما يذكرونه من العقول والنفوس فضلا عن أن تسميها عقولا ونفوسا بل بينهما من الفروق والمخالفات ما لا يكاد يحصيه إلا الله

ولفظ الكوكب والشمس والقمر معرفا بلام التعريف والبزوغ والأفول لا يحتمل ما يذكرونه من العقول والنفوس في لغة العرب بوجه من الوجوه

والذين نقلوا القرآن لفظه ومعناه عن الرسول قد علم بالتواتر والاضطرار عنهم أن المراد بالشمس والقمر الشمس والقمر كما أن ذلك هو المراد بهذين الاسمين في عامة القرآن كقوله تعالى ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون

وقوله والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون

وقوله وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم

وقوله إذا الشمس كورت

وقوله في وصف القمر والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل الآية ولكن هذا من جنس تأويل القرامطة كالسهروردي الحلبي وأمثاله إن المراد بالشمس هنا عقل الإنسان والنجوم حواسه وبالجبال أعضاؤه ونحو ذلك مما يتأول فيه نصوص القيامة على موت الإنسان وهو كتأويل بعض كبار الاتحادية الذين يفسرون طلوع الشمس من مغربها بطلوع كلامهم وبطلوع النفس من البدن ولنزول عيسى بن مريم من السماء بنزول روحانيته أو جزئها على هذا الشخص وكان اسم أمه مريم وأمثال ذلك

ومعلوم أن حمل كلام الله ورسوله على معنى من المعاني لا بد فيه من شيئين

أحدهما أن يكون ذلك المعنى حقا في دين الإسلام يصلح إخبار الرسول عنه

الثاني أن يكون قد دل عليه بالنص لفظ يدل عليه دلالة لفظ على معناه وكل من المقدمتين هنا معلوم انتفاؤه قطعا بالاضطرار فإن من فهم ما يقوله هؤلاء من العقول والنفوس وإن سموها ملائكة وفهم ما جاءت به الرسل عن الأخبار بملائكة الله واعتبر أحد القولين بالآخر علم بالاضطرار أن قول هؤلاء من أعظم الأقوال منافاة لأقوال الرسل وأن ذلك من أعظم الكفر في دين الرسل وأن حقيقته حقيقة قول من يقول ولد الله وإنهم لكاذبون ومن خرق له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون وحقيقة قوله الذي أخبر عنه رسوله في الحديث الصحيح حيث قال يقول الله تعالى شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته

وهذا الحديث منطبق على هؤلاء المتفلسفة فإن قولهم في المبدأ بالتوليد عنه وفي المعاد بعود النفس إلى عالمها من دون إعادة الخلق يتضمن من شتم الله وتكذيبه ما أخبر به رسوله وهذا باب واسع

لكن المقدمة الثانية أغرب وهو كون لفظ الكواكب والقمر والشمس في القرآن أريد بالكواكب النفوس الكلية وبالقمر نفس الكل وبالشمس العقل فإن هذا مما يعلم بالاضطرار أن لفظ القرآن لا يحتمله لا حقيقة ولا مجازا كما لا يحتمل أن يراد بلفظ الشمس والقمر والكواكب آدم وحواء وأولادهما ولا هم أبو إبراهيم وأخوته كما كان مثل ذلك التأويل في رؤيا يوسف كما لا يحتمل أنه أراد بالشمس والقمر والكواكب سلطان وقته ووزيره وأعوانه وشبه ذلك مما قد يعبر به العابر في من رأى الشمس والقمر والكواكب ثم الرائي كيوسف الصديق إنما مثله له في منامه سجود هذا الشمس والقمر والكواكب لكن لم تكن هي الساجدة في الخارج بل قيل له ذلك في نفسه وهؤلاء يزعمون أن إبراهيم لم يرد هذا الشمس والقمر والكواكب لا في نفسه ولا في الخارج فكيف إذا حمل على ما هو أبعد وهذا الجواب لا يحتمل البسط

الوجه الثالث

أن يقال قصة إبراهيم الخليل التي قصها الله تعالى في كتابه مع أنها من أعظم سبل الإعتبار لتحقيق التوحيد فقد ضل بها فريقان من الناس

وأضل ضلالتهم أنهم اعتقدوا أن إبراهيم لما قال هذا ربي في الثلاثة مخبرا أو مستفهما أو مقدرا أراد أن هذا هو الذي خلق السماوات والأرض وأنه رب العالمين ثم أنهم لما ظنوا أنه أراد هذا سلك هؤلاء سبيلا وهؤلاء سبيلا ولو تدبروا القصة لعلموا أنها تدل على نقيض قولهم

فالفريق الأول طوائف من أئمة أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم من غيرهم حتى مثل ابن عقيل وأبي حامد وغيرهم قالوا إن هذا الذي سلكه إبراهيم هو الدليل الذي سلكه هؤلاء في حدوث الأجسام حيث استدلوا على ذلك بما قام بها من الأعراض الحادثة كالحركة وأثبتوا حدوث الأعراض أو بعضها ولزومها للجسم أو بعضها ثم قالوا وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث ثم منهم من أخذ ذلك مسلما ومنهم من تفطن للسؤال الوارد هنا وهو الفرق بين ما لا ينفك عن عين المحدث أو نوعه فإن المحدث المعين إذا قدر أنه لازم لغيره فلا ريب أنه حادث هذا معلوم بالضرورة والإتفاق واما ما يستلزم نوع المحدث فإنما يعلم حدوثه إذا قدر امتناع حوادث لا أول لها فخاضوا في تقرير هذه المقدمة بما ذكروه

والمقصود هنا أن من هؤلاء من جعل هذا هو دليل إبراهيم الخليل على إثبات الصانع وهو أنه استدل بالأفول الذي هو الحركة والانتقال على حدوث ما قام به ذلك ولو تدبروا لعلموا أن قصة إبراهيم هي على نقيض مطلوبهم من الأفول أما أولا فإن إبراهيم إنما قال لا أحب الآفلين والأفول هو المغيب والاختفاء بالعلم القائم المتواتر الضروري في النفس واللغة ولم ينقل أحد أن الأفول مجرد الحركة

وأما ثانيا فإنه قد قال فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون

ومعلوم أنه من حين البزوغ ظهرت فيه الحركة فلو كانت هي الدليل على الحدوث لم يستمر على ما كان عليه إلى حين المغيب بل هذا يدل على أن الحركة لم يستدل بها أو لم تكن تدل عنده على نفس مطلوبة

وأما ثالثا فإنا قال لا أحب الآفلين فنفى محبته فقط ولم يتعرض لما ذكروه

وأما رابعا فمن المعلوم أن أحدا من العقلاء لم يكن يظن أن كوكبا من الكواكب دون غيره من الكواكب هو رب كل شيء حتى يكون رب سائر الكواكب والأفلاك والشمس والقمر وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع

والفريق الثاني من فسر ذلك من متفلسفة الصوفية أنه هو النفوس والعقول كما ذكره أبو حامد

ومعلوم أن هذا أفسد من الأول بكثير مع أنه في المشكاة رجح حال من يعتقد إلهية هذه فيما رأى على طوائف المسلمين الصفاتية المقرين برب العالمين فإنه لما ذكر الحجة ثم أخذ في تفسير الحديث المكذوب أن لله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدركه بصره

وفي بعضها سبعمائة وفي بعضها سبعين ألف حجاب فقسم الحجب والمحجوبين ثلاثة أقسام

الأول المحجوبون بمحض الظلمة وهم المعطلة للصانع

الثاني المحجوبون بنور مقرون بظلمة وهي ثلاثة انواع

حسية وخيالية وعقلية

فالحسية كطوائف من المشركين والمجوس

والخيالية كطوائف من المسلمين من المجسمة والكرامية والعقلية قال هم المحجوبون بالأنوار الإلهية يعرفون مقامات عقلية فعبدوا إلها سميعا بصيرا متكلما عالما قادرا مريدا حسيا منزها عن الجهات فكن فهموا هذه الصفات على حسب مناسبة صفاتهم وربما صرح

أحدهم فقال كلامه صوت ككلامنا وربما ترقى بعضهم فقال لا بل هو كحديث أنفسنا ولا صوت ولا حرف ولذلك إذا طولبوا بحقيثة السمع والبصر رجعوا إلى التشبيه من حيث المعنى وإن أنكروها باللفظ إذ لم يدركوا أصل معاني هذه الإطلاقات في حق الله تعالى وكذلك قالوا في إرادته أنها حادثة مثل إرادتنا وأنها طلب وقصد مثل قصدنا

وقال وهذه مذاهب مشهورة فلا حاجة إلى تفصيلها فهؤلاء محجوبون بجملة الأنوار مع ظلمة المقامات العقلية فهؤلاء كلهم أصناف القسم الثاني المحجوبون بنور مقرون بظلمة

القسم الثالث المحجوبون بمحض الأنوار وهم أصناف لا يمكن إحصاؤهم فأشير إلى ثلاثة أصناف منهم

فالأول طائفة عرفوا المعاني والصفات تحقيقا وأدركوا أن إطلاق اسم الكلام والإرادة والقدرة والعلم وغيرها على صفاته ليس مثل إطلاقه على البشر فتحاشوا عن تعريفه بهذه الصفات وعرفوه بالإضافة إلى المخلوقات كما عرف موسى في جواب قول فرعون وما رب العالمين فقالوا إن الرب المقدس المنزه عن المفهوم الظاهر من معاني هذه الصفات هو محرك السماوات ومدبرها

والصنف الثاني ترقوا عن هؤلاء من حيث ظهر لهم أن في السموات كثرة وأن محرك كل سماء خاصة موجود آخر يسمى فلكا وفيهم كثرة وأما نسبتهم إلى الأنوار الإلهية فنسبة الكواكب إلى الأنوار المحسوسة ثم لاح لهم أن هذه السماوات في ضمن فلك آخر يتحرك الجميع بحركته في اليوم والليلة مرة وقالوا الرب هو المحرك للجرم الأقصى المنطوي على الأفلاك كلها إذا الكثرة منتفية عنه

والصنف الثالث ترقوا عن هؤلاء وقالوا إن تحريك الأجسام بطريق المباشرة ينبغي أن يكون خدمة لرب العالمين وعبادة له وطاعة من عبد من عباده يسمى ملكا نسبته إلى الأنوار الإلهية المحضة نسبة القمر إلى الأنوار المحسوسة فزعموا أن الرب هو المطاع من جهة المحرك ويكون الرب تعالى محركا للكل بطريق الأمر لا بطريق المباشرة ثم في فهم ذلك الأمر وماهيته غموض يقصر عنه أكثر الأفهام ولا يحتمله هذا الكتاب

فهؤلاء كلهم أصناف محجوبون بالأنوار المحضة وإنما الموحدون الواصلون إلى حضرة الحق صنف رابع تجلى لهم أيضا أن هذا المطاع موصوف بصفة تنافي الوحدانية المحضة والكمال المبلغ كثير لا يحتمل هذا الكتاب كشفه وإن نسبة هذا المطاع نسبة الشمس إلى الأنوار المحسوسة فتوجهوا من الذي يحرك السماوات ومن الذي أمر بتحريكها إلى الذي فطر السماوات والأرض

وفطر الأمر بتحريكها فوصلوا إلى موجود منزه عن كل ما أدركه بصر من قبلهم فأحرقت سبحات وجهه الأزلي الأعلى جميع ما أدركه بصر الناظرين وبصيرتهم إذ وجدوه مقدسا منزها عن جميع ما وصفه من قبل ثم هؤلاء انقسموا فمنهم من احترق منه جميع ما أدركه بصره وانمحق وتلاشى لكن بقي هو ملاحظا للجمال المقدس وملاحظا ذاته من جماله الذي ناله بالوصول إلى الحضرة الإلهية فانمحقت منه المبصرات دون البصر وجاوز هؤلاء طائفة هم خواص الخواص فأحرقتهم سبحات وجهه من أنفسهم وغشيهم سلطان الجلال فانمحقوا وتلاشوا في ذواتهم ولم يبق لهم لحاظ إلى أنفسهم لغيابهم عن أنفسهم ولم يبق إلا الواحد الحق وصار معنى قوله كل شيء هالك إلا وجهه لهم ذوقا وحالا وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول وذكرنا أنه كيف أطلقوا الاتحاد وكيف ظنوه فهذه نهاية الواصلين

ومنهم من لم يتدرج في الترقي على التفصيل الذي ذكرناه ولم يطل عليهم الطريق فسبقوا من أول مرة إلى معرفة القدس وتنزيه الربوبية عن كل ما يجب تنزيهه فغلب عليهم أولا ما غلب على آخر الآخرين إذ هجم عليهم التجلي دفعة فأحرقت سبحات وجهه جميع ما يمكن أن يدركه بصر حسي وبصيرة عقلية من غير تدرج ويشبه أن يكون الأول طريق الخليل والثاني طريق الحبيب صلوات الله عليهما والله أعلم بأسرارهما وأنوار غاياتهما فهذه إشارة إلى المحجوبين بالنور والظلمة ولا يبعد أن يبلغ عددهم إذا فصلت المقامات وتتبع حجب السالكين سبعين ألفا ولكن إذا فتشت لا تجد واحدا منهم خارجا عن الأقسام التي حصرناها فإنهم إما محجوبون بصفاتهم البشرية أو بالحس أو بالخيال أو بمقايسة العقل أو بالنور المحض كما سبق وهذا آخر الكتاب

فهذا الكلام مع ما فيه من تصويب نفاة الصفات من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم وتخطئة الصفاتية الذين هم سلف الأمة وأئمتها وأهل الحديث والتصوف والفقه وحذاق أهل الكلام من الكلابية والأشعرية والكرامية والهشامية وغيرهم

ويتضمن أيضا تفضيل الذين يعتقدون في أحد النفوس والعقول أنه رب العالمين وغايتهم أن يجعلوا ذلك هي الملائكة

ويتضمن تفضيل من يعتقد في ملك من الملائكة أنه رب العالمين على من يقر برب العالمين من الصفاتية المسلمين واليهود والنصارى وإذا كان معلوما بالاضطرار من دين الرسل كلهم أن الفلاسفة الصابئة الذين يعبدون الملائكة مع قولهم أنهم مخلوقون هم أسوأ حالا من أهل الكتاب اليهود والنصارى مع ما وصف الله به هؤلاء من المقالات الغالية من التجسيم والتعطيل وقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز عن اليهود أنهم قالوا يد الله مغلولة وأنهم قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء

وذكر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب لما قال من قال من اليهود أنه استراح يوم السبت فنزه نفسه عن أن يمسه لغوب وذكر قول النصارى أن المسيح هو الله وأنه ابن الله وأن الله ثالث ثلاثة

ومع هذا فالمشركون الذين يعبدون الملائكة أو غيرها أسوأ حالا من هؤلاء باتفاق المسلمين مع إقرارهم برب العالمين فكيف بتفضيل من يقول أن ملكا هو رب العالمين على طوائف المسلمين واليهود والنصارى الذين يثبتون الصفات ولو فرض أن بعضهم أخطأ في بعض ذلك هذا شبيه ما ذكره الله بقوله ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ومنشأ هذا الضلال الذي وقع في قصة إبراهيم ما تقدم ذكره من ظنهم أنه قال إن الكوكب أو القمر أو الشمس رب العالمين وليس الأمر كذلك بل إبراهيم عليه السلام خاطب قومه المشركين الذين كانوا مع إقرارهم برب العالمين يعبد أحدهم ما يستحسنه ويهواه ويراه نافعا له فهذا يعبد المشتري وهذا يعبد الزهرة وهذا يعبد غيرهما كما كانت الكواكب تعبد وكان أعظم ما يعبد من ذلك الشمس والقمر لظهور تأثيرهما في العالم وكانوا ينسبون هياكل العبادات لهذه المعبودات فيقولون هيكل الشمس هيكل القمر هيكل زحل هيكل المشتري هيكل المريخ هيكل الزهرة هيكل عطارد

وقد ذكر المصنفون لأخبارهم أن أحد مسجدي دمشق وحران كان هيكل المشتري والآخر هيكل الزهرة وكان إبراهيم عليه السلام قد ولد بحران كما هو معروف عند أهل الكتاب وجمهور المسلمين وكان أبوه في ملك النمروذ وكان قد استولى على العراق وغيرها وكانوا صابئة فلاسفة يعبدون الكواكب

وقد صنف من صنف في مخاطبة الكواكب والسحر على مذهبهم مثل كتاب السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم ونحو ذلك مما يذكر فيه مذهب الكلدانيين والكشدانيين وكانوا مع بنائهم هياكل النجوم يبنون هيكل العلة الأول وهيكل العقل وهيكل النفس ويفرقون بين هذا وهذا وبقوا بحران وواسط أكثر من ثلاثمائة سنة في مدة الإسلام وتنازع الفقهاء في قبول الجزية منهم ومنهم من جعل للشافعي وأحمد قولين فيهم

واستقراء القول فيهم على التفصيل بأن من دان منهم بدين أهل الكتاب ألحق بهم وإلا فلا فدخلوا في النصرانية وشرح حالهم يطول

والمقصود أن مخاطبة الخليل عليه السلام تضمنت الرد على الفلاسفة الصابئين المشركين وأمثالهم فإن أحدهم كانت عبادته تابعة لما يحبه ويهواه فإنهم إنما يتبعون الظن وما تهوى الأنفس وأحدهم يظن أن عبادة هذا الكوكب ومخاطبته تنفعه يجلب منفعة ودفع مضرة فيتخذه إلها مع إقراره بأنه مربوب ليس هو رب العالمين وهؤلاء أحد أنواع المشركين وكانوا تارة يتخذون لهذه الكواكب أجساما على ما يظنونه موافقا لطبائعها كما يلبسون لها من اللباس ويتختمون لها بالخواتيم ويتحرون لها من الأيام ما يظنونه موافقا لطبائعها وقد سمي ذلك علم الإستخدام والروحانيات وقد يتمثل لأحدهم شيطان يخاطبه فيقول هذه روحانية الكوكب أو خادمه كما كان لأصنام العرب شياطين تخاطبهم

وكذلك في بلاد الترك والهند من الشياطين التي تخاطب المشركين ما هو معروف ولهذا قال الخليل في آخر أمره إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين فتبرأ عما كانوا يشركونه بالله وذكر أنه وجه قصده وعبادته للذي فطر السماوات والأرض وهذه الحنيفية ملة إبراهيم التي بعث الله بها الرسل وهي عبادة الله وحده لا شريك له وليس في لفظه إحداث إقرار الصانع بل كان الإقرار بالصانع ثابتا عندهم لهذا قال في الآية الأخرى قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين

وقا أيضا قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده وقال تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون

فبهذا وغيره يتبين أن القوم كانوا مشركين بالله مثل ما كان مشركوا العرب قال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون فهم يجعلون معه آلهة أخرى يعبدونها مع اعترافهم أنه وحده رب العالمين كما ذكر الله تعالى ذلك في غير موضع في القرآن في مثل قوله قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون

وكانوا يتخذونهم شفعاء وشركاء كما أخبر القرآن بذلك ولهذا قال الخليل لا أحب الآفلين فذكر أنه لا يحب الآفلين لأنهم كانوا على عادتهم على عادة المشركين يعبد أحدهم ما يحبه ويهواه ويتخذ إلهه هواه

وقوله لا أحب الآفلين كلام مناسب ظاهر فإن الآفل يغيب عن عابده فلا يبقى وقت أفوله من يعبده ويستعينه وينتفع به ومن عبد ما يطلب منه المنفعة ودفع المضرة فلا بد أن يكون ذلك في جميع الأوقات فإذا أفل ظهر بالحس حينئذ أنه لا يكون سببا في نفع ولا ضر فضلا عن أن يكون مستقلا

ولهذا قال إبراهيم في مناظرته لهم وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون

وهذه محاجة قوم كانوا يخوفونه بآلهتهم كما هي عادة المشركين يخوفون من يكفر بطواغيتهم أي مضرة ذلك فقال الخليل وكيف أخاف ما أشركتم فعدلتموه بالله تعبدونه كما يعبد الله ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فإن الله لم ينزل كتابا من السماء ولم يرسل رسولا بعبادة شيء سواه كما قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون

وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون

وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت

وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال لما نزلت هذه الآية الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على أصحاب رسول الله وقالوا أينا لم يظلم نفسه فقال النبي ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح إن الشرك لظلم عظيم

وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع ولكن نبهنا على المقصود

الوجه الخامس عشر

قوله فأقول إن كان في عالم الملكوت جواهر نورانية شريفة علية يعبر عنها بالملائكة فيها تفيض الأنوار على الأرواح البشرية ولأجلها قد تسمى أربابا ويكون الله رب الأرباب لذلك ويكون لها مراتب في نورانيتها متفاوتة فبالحري أن يكون مثالها في عالم الشهادة الشمس والقمر والكواكب إلى آخر الكلام

فيقال لاريب أن تسمية هذه أربابا هو كلام اليونانيين وأمثالهم من المشركين فأنهم يصرحون في كتبهم بتسمية هذه المجردات التي يقولون أنها الملائكة أربابا وآلهة ويقولون هي الأرباب الصغرى والآلهة الصغرى وهؤلاء المتفلسفة الصابئة يعبدون الملائكة والكواكب

وأما الرسل وأتباعهم الموحدون فقد قال الله تعالى ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون

وقال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبرفسيحشرهم إليه جميعا

وقال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين

وقال تعالى وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى

وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا

وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما منهم له من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير وأمثال ذلك كثير

ثم هذا معلوم بالاضطرار أن الملائكة ليست أربابا ولا تسمى في الشريعة أربابا

فقول القائل ولأجلها قد تسمى أربابا

يقال هذه التسمية هي من التسمية المذكورة في قوله تعالى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان

وكما قال يوسف الصديق يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان

بل لا رب إلا الله ربنا ورب آبائنا الأولين

وإذا قيل في البشر رب كذا فإنما يضاف إلى غير المكلف كما يقال رب الدار ورب الثوب وكما قال لأبي الأحوص الجشمي أرب إبل أنت أم رب غنم

وكما قال إذا اختلف البيعان فالقول ما قال رب السلعة وهذا مما يبين ضلال بعضم أن يتأول كلام شيوخ الاتحادية فإنه لما قال في الفصوص فصح قول فرعون أنا ربكم الأعلى وإن كان عين الحق زعم بعض أتباعه بقوله إنما صح قوله كما يقال رب الثوب ورب الدار ونحو ذلك

وأعجب من ذلك قول بعض أكابرهم أنه أراد رب كم

ومعلوم أن هذه الأقوال لولا أنه يقولها بعض المسرفين من الشيوخ ويضلون بها أكابر من الناس لكان المؤمن في غنية عنها وعن حكايتها وردها لظهور فسادها لكل أحد

فيقال لهذا إن صاحب الفصوص عنده قد صرح بمذهبه تصريحا أزال الشبهة في غير موضع فلا حاجة إلى هذا التكليف وقد قال لما كان فرعون في منصب التحكم وأنه الخليفة بالسيف وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال أنا ربكم الأعلى أي إن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم قال ولما علمت السحرة صدقه فيما قاله لم ينكروه وأقروا له بذلك وقالوا له اقض ما أنت قاض فالدولة لك فصح قوله أنا ربكم الأعلى وإن كان عين الحق فقد صرح أنه عين الحق وأن قوله أنا ربكم الأعلى صح مع كون الجميع أربابا بنسبة ما فالعبد عنده هو الرب

ثم يقال له فرعون قد قال ما علمت لكم من إله غيري وقال لموسى وما رب العالمين فأنكر الصانع وذكر الله ذلك عنه فلا حاجة إلى تأويل كلامه

ويقال له الله سبحانه ذكر هذا الكلام عنه منكرا له غاية الإنكار مبينا لعقوبته فقال وهل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى

فقد صح من الله سبحانه أنه أخذ نكالا على ذلك وجعله في ذلك عبرة وجعل المناداة بهذه الكلمة عينها عين الكفر حيث قال فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى

وقد قالوا إن قوله الآخرة والأولى أي كلمته الأولى وهي قوله ما علمت لكم من إله غيري وكلمته الأخرى وهي قوله فقال أنا ربكم الأعلى فإن هذه أعظم من تلك ثم يقال أوجب ذلك إنه لا يجوز لأحد أن يقول للإنس والجن أنا ربكم غير الله تعالى ولا يجوز لأحد أن يجعل غير الله ربا كما لا يجوز أن يوصف بالربوبية مطلقا إلا الله وحده لا شريك له

الوجه السادس عشر

ما ذكر في تفسير قصة موسى والوادي المقدس وتفسير ذلك

فنقول هؤلاء المتفلسفة في العقول والنفوس قد أشملوا هذا من الأصول المخالفة لدين المسلمين واليهود والنصارى ما لا يتسع هذا الموضع لذكره مع أن دلالة هذه الألفاظ على تلك المعاني أفسد مما رده من التأويلات ونحن نعلم بالاضطرار من ملة المسلمين واليهود والنصارى أن الطور الذي كلم الله عليه موسى هو جبل من الجبال والطور الجبل وعلم بالاضطرار من دين أهل الملل والنقل بالتواتر أن الله لما كلم موسى كلمه من الشجرة وأنه كان يخرج منها نار محسوسة وأن موسى عليه السلام لما ضرب امرأته المخاض قال لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى طلب أن يجيء بجذوة نار أو يجد من يخبره وأنه سبحانه وتعالى كلمه وهو بالوادي المقدس طوى وعلم أن هذا التكليم الذي كلمه موسى لم يكلم غيره من الأنبياء والرسل إلا ما يذكر من مناجاة النبي ليلة المعراج وعلى ما ذكروه فلا فرق بين موسى وغيره من الأنبياء بل وغير الأنبياء قال تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل

وقال تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات

وقال تعالى ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما

تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين

وقال تعالى في سباق ذكر الأنبياء واذكر في الكتاب موسى أنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا

وقد ذكر مناداته له ومناجاته إياه في مواضع من القرآن ولم يذكر أنه فعل ذلك بغيره من الأنبياء وهذا مما أجمع عليه المسلمون وأهل الكتاب أن تكليم الله تعالى لموسى من خصائصه التي فضيلة بها على غيره من الأنبياء والرسل

وفي الصحاح من الأحاديث مثل حديث الشفاعة ومحاجة آدم موسى وذكر فضيلته بتكليم الله تعالى إياه

وكذلك في حديث المعراج من رواية شريك عن أنس وهو في الصحيحين وهذا يطول

ثم السلف والأئمة ضللوا بل كفروا من قال إن الله خلق كلاما في الشجرة أو الهواء فسمعه موسى كما يقول الجهمية من المعتزلة وغيرهم

ومعلوم أن هذا أقرب إلى أقوال الرسل من قول هؤلاء المتفلسفة الذين يزعمون أن ذلك فيض فاض من العقل على نفس النبي كما يفيض على سائر الأنبياء وغيرهم فإن هذا ليس من مقالات أهل الملل لا سنيهم ولا بدعيهم لكن من مقالات الصابئة المتفلسفة الذين ليس عندهم في الحقيقة لله كلام ولا ملائكة تنزل بكلامه بل عندهم لا تمييز بين موسى وهارون ولا بينهما وبين فرعون

فكيف يتصور على أصلهم أن يختص موسى برسالاته وكلامه غايته أن القلوب عندهم مثل آنية توضع تحت السماء فيقع فيها المطر أو نبات تنبسط عليه الشمس فتجففه فيكون ذلك بحسب القابل ولهذا يمكن عندهم أن يكلم كل واحد كما كلم موسى

وعندهم قد يسمع أحدهم ما سمعه موسى وقد ذكر ذلك صاحب المشكاة في غير هذا الموضع

وهذا القول لا ريب أنه يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه باطل وقد بينا في غير هذا الموضع الشبهة الباطلة التي قالها من قالها من المتكلمين في سماع كلام الله ورؤيته حيث قالوا إن ذلك ليس إلا مجرد إدراك يحصل في نفس العبد من غير أسباب منفصلة عنه

وهذا مما أوقع الطائفة الاتحادية وغيرهم من المبتدعة في دعوى رؤيته في الدنيا

وهو أيضا مما يجريهم على دعوى مقام التكليم نعوذ بالله من الضلالة ونسأله الهدى والثبات عليه، وتجدهم قد فتحوا هذه الجرأة على الله فلا يزال أحد هؤلاء يدعي ما خص به المكلم في شريف مقامه الجليل ولا يميزون لضلالهم ونفاقهم بين ما يوحيه الله تعالى إلى أنبيائه وبين أوليائه من الإلهام والحديث الذي يجب عرضه على الكتاب والسنة وبين تكليمه لنبيه موسى من وراء حجاب كما قال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليم حكيم

ففرق بين ما يوحيه والإيحاء الإعلام الخفي السريع وبين تكليمه لموسى من وراء حجاب نداء ونجاء وقد قال تعالى

وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي

وقال وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه

وفي الصحيحين عن النبي أنه قال قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في امتي فعمر فهذا وأمثاله مما يكون لغير الأنبياء

فأما تكليم الله تعالى لموسى فإنه لم يكن لعامة الرسل والأنبياء فضلا عمن سواهم

ولما كان هؤلاء المتفلسفة ومن سلك سبيلهم يجعلون كلام الله كله لموسى وغيره من الأنبياء ما يفيض على نفوسهم من العقل الفعال زادت الاتحادية درجة أخرى فجعلوا كلامه كل ما يظهر من شيء من الموجودات

وهؤلاء يصرح أحدهم بأن ما يسمعه من بشر مثله أعظم من تكليم الله لموسى لأن ذلك بزعمهم كلام الله من الشجرة وهي جماد وهذا كلام الله من الحيوان والحيوان أعظم من الجماد

وطائفة أخرى منهم يقولون إن الإلهام المجرد وهي المعاني التي تتنزل على قلوبهم أعظم من تكليم الله موسى لأن هذا بزعمهم خطاب محض بلا واسطة ولا حجاب وموسى خوطب بحجاب الحرف الصوت وأمثال هذا الكلام الذي يتضمن ترفع أحدهم عن تكليم الله لموسى الذي علم بالاضطرار من دين أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى أنه أعظم من خطابه وإيحائه لسائر الأنبياء والمرسلين ولهذا يقولون إن الولاية أعظم من النبوة والنبوة أعظم من الرسالة وينشدون

مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي

ويقولون إن ولاية النبي أعظم من نبوته ونبوته أعظم من رسالته ثم قد يدعي أحدهم أن ولايته وولاية سائر الأولياء تابعة لولاية خاتم الأولياء وأن جميع الأنبياء والرسل من حيث ولايتهم هي عندهم أعظم من نبوتهم ورسالتهم وإنما يستفيدون العلم بالله الذي هو عندهم القول بوحدة الوجود من مشكاة خاتم الأولياء وشبهتهم في أصل ذلك أن قالوا الولي يأخذ عن الله بغير واسطة والنبي والرسول بواسطة ولهذا جعلوا ما يفيض في نفوسهم ويجعلونه من باب المخاطبات الإلهية والمكاشفات الربانية أعظم من تكليم موسى بن عمران وهو في الحقيقة إيحاءات شيطانية ووساوس نفسانية وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ولو هدوا لعلموا أن أفضل ما عند الولي ما يأخذه عن الرسول لا ما يأخذه عن قلبه وأن أفضل الأولياء الصديقون وأفضلهم أبو بكر وكان هو أفضل من عمر مع أن عمر كان محدثا كما ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر وفي الترمذي لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر وقال إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ومع هذا فالصديق إنما كان يتلقى من مشكاة النبوة فهو أفضل مطلقا لأن ما يأخذه عن معصوم من الخطأ والمحدث ليس بمعصوم بل يقع له الصواب والخطأ ولهذا يحتاج أن يزن بالميزان النبوي المعصوم جميع ما يقع له أي لغير الأخذ من مشكاة النبوة فهذا حال محدث السابقين الأولين وهو عمر بن الخطاب وهو أفضل من غيره والصديق أكمل منه وأتم مقاما فهذا حال خير السابقين الأولين وأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين فكيف بهؤلاء الذين فيهم من الباطل والضلال ما لا يعلمه إلا ذو الجلال والإكرام وكذلك جعله أمره بخلع النعلين يتضمن ترك الدنيا والآخرة أمر لا يدل عليه لا حقيقة اللفظ ولا مجازه إن صح المجاز ولم يذكر عن أحد من المسلمين لا من الصحابة ولا التابعين ولا من غيرهم إن ذلك مرادا من هذا اللفظ بل قد ذكروا أن سبب الأمر بخلعهما كونهما كانا من جلد حمار غير ذكي ثم هذا الخلع صار سنة اليهود عند عباداتهم ونحن قد أمرنا بمخالفتهم في ذلك فكيف يجعل مضمون هذا الخلع مشروعا لنا ونحن نأباه

وفي السنن عن النبي قال إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم

وفي الصحيحين عن أنس قال رأيت رسول الله يصلي في نعليه

وفي المسند وسنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال بينما رسول الله يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم فلما قضى رسول الله صلاته قال ما حملكم على إلقائكم نعالكم قالوا رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا فقال رسول الله إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا

وقال إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما

وفيهما أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله قال إذا وطىء أحدكم بنعليه الأذى فإن التراب له طهور

وفي رواية إذا وطىء الأذى بخفيه فطهورهما التراب

فكثير من الناس يقول في تفضيل نبينا محمد ما مضمونه إن موسى أمر بخلع نعليه بالوادي المقدس ونبينا لم يؤمر بشيء ليلة المعراج مع علو درجته على موسى

ولو كان في ذلك أمر بترك الدنيا والآخرة لكان محمد مأمور بذلك وكان ذلك شرعا لنا

والتعبير عن هذه المعاني بهذه العبارات مع دعوى أنه بهذا المنزل حصل له الخطاب وهو الذي يوقع طوائف في بيداء الضلالات ظنا أن هذا المقام وما يشبهه ينال بالزهد أو غيره فيطلب أحدهم ما لا يصلح للأنبياء فضلا عن أن يصلح لأمثاله حتى يقع فيما هو من جنس حال أعظم المبتدعة بل حال الكفار والمنافقين قال أبو مجلز لاحق بن حميد في قوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين

قال ان يسأل الإنسان منازل الأنبياء

وبمثل هذا ضل ابن قسي صاحب كتاب خلع النعلين حتى ذكر في كتابه من أنواع الباطل ما ذكره وشرحه ابن عربي صاحب الفصوص فتارة يشتمه ويسبه ويقول إنه من أجهل الناس وتارة يجعل كلامه في نهاية التحقيق والعرفان

ومن المعلوم أنه لا بد في كلامه وكلام غيره من أمور صحيحة ومعان حسنة لكن هي متضمنة من الباطل والضلال ما يفوق الوصف

فإن أحد هؤلاء إن أمكنه أن يدعي الإلهية أو النبوة ولو بعبارة غريبة لا ينفر عنه الناس فعل حتى كان في زماننا غير واحد ممن اجتمع بي وأنكرت عليه وجرى لنا في القيام عليهم فصول ممن يدعي الرسالة ظانا أن هذا يسلم له إذا لم تسلم له النبوة فيدعون الرسالة فإذا جاء من يخاف منه من العلماء ادعى أحدهم الإرسال العام الكوني كإرسال الرياح وإرسال الشياطين وتارة يدعي إرسال الرسل كقصة صاحب يس أي في فترة صاحب يس

وقد وضح للعالم أن الرسالة التي وصف بها الأنبياء ممنوعة إذ هي أخص من النبوة وعلم أن النبوة بعد محمد منفية بقوله إن الله ختم بي النبوة والرسالة

وأما الإرسال الثاني فلا يكون مع مشافهة الرسول إلا في حياته وأما بعد موته فتبليغ القرآن والإيمان والسنة أمر مشترك

وتارة يدعي أحدهم أنه خاتم الأولياء ظانا أن خاتم الأولياء أفضلهم قياسا على خاتم الأنبياء ثم يدعون لخاتم الأولياء ما هو أعظم من النبوة والرسالة

وخاتم الأولياء كلمة لا حقيقة لفضلها ومرتبتها وإنما تكلم أبو عبد الله الترمذي بشيء من ذلك غلطا لم يسبق إليه ولم يتابع عليه ولم يستند فيه إلى شيء

ومسمى هذا اللفظ هو آخر مؤمن يبقى ويكون بذلك خاتم الأولياء وليس ذلك أفضل الأولياء باتفاق المسلمين بل أفضل الأولياء سابقهم وأقربهم إلى الرسول وهو أبو بكر ثم عمر إذ الأولياء يستفيدون من الأنبياء فأقربهم إلى الرسول أفضل بخلاف خاتم الرسل فإنه الله أكرمه بالرسالة ولم يحله على غيره فقياس مسمى أحد اللفظين على الآخر في وجوب كونه أفضل من أبعد القياس

وتارة يدعي أحدهم المهدية أو القبطية ويقول أنا القطب الغوث الفرد الجامع ويدخل في هذه الأسماء ما هو من خصائص الربوبية مثل كونه يعطي الولاية من يشاء ويصرفها عن من يشاء والله يقول لسيد ولد آدم إنك لا تهدي من أحببت

وقال ليس لك من الأمر من شيء

وقد بسطنا الكلام في هذه الأمور لحاجة الناس إلى ذلك في غير هذا الموضع

فصل

وهذا كله إذا ميز وجود القلم وغيره من المخلوقات عن وجود الرب تعالى كما عليه أهل الملل وجمهور العقلاء من غيرهم

وأما على قول هؤلاء المدعين التحقيق الذين يدعون أن الوجود واحد فلا يتميز وجود مبدع عن وجود مبدع ولا وجود خالق عن وجود مخلوق وهم يصرحون بهذا في كتبهم وفي كلامهم ولكنهم في حيرة وضلال فإنهم إذا يشهدون أن بين الموجودات تباينا وتفرقا فيريدون أن يجمعوا بين ما ادعوه من وحدة الوجود وبين التعدد للموجود فاضطربوا في ذلك

فأما صاحب الفصوص فكلامه يدور على أصلين

أحدهما أن الأشياء كلها ثابتة في العدم مستغنية بنفسها نظير قول من يقول المعدوم شيء ولكن هذا لا يفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق إذ ليس عنده ذات واجبة متميزة بوجودها عن الذوات الممكنة وإن كان قد يتناقض في ذلك قولهم فإنهم كلهم يتناقضون وكل من خالف الرسول فلا بد أنه يتناقض قال تعالى إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من إفك وقال ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا

الأصل الثاني أن الوجود الذي لهذه الذوات الثابتة هو عين وجود الحق الواجب ولهذا قال في أول الفصوص في الشيثية

ومن هؤلاء يعني الذين لا يسألون الله من يعلم أن علم الله به في جميع أحواله هو ما كان عليه من حال ثبوت عينه قبل وجودها ويعلم أن الحق لا يعطيه إلا ما أعطاه عينه من العلم به وهو ما كان عليه من حال ثبوته فيعلم علم الله به من أين حصل وما ثم صنف من أهل الله أعلى وأكشف من هذا الصنف فهم الواقفون على سر القدر وهم على قسمين منهم من يعلم ذلك مجملا ومنهم من يعلم ذلك مفصلا والذي يعلمه مفصلا أعلى وأتم من الذي يعلمه مجملا فإنه يعلم ما في علم الله فيه إما بإعلام الله إياه مما أعطاه عينه من العلم به وإما بأن يكشف له عينه الثابتة وانتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناها وهو وأعلى فإنه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به لأن الأخذ من معدن واحد هذا لفظه فهو مع كونه جعل عينه ثابتة قبل الوجود زعم أن الحق لا يعطيه إلا ما أعطاه عينه من العلم به فجعل الحق تعالى عاجزا لا يقدر إلا على ما كانت عليه عينه وجعله لا يعلم بمخلوقاته من جهة نفسه بل يراها في حال ثبوتها التي لا تفتقر فيه إليه فيعلم أحوالها حينئذ وزعم أن العبد قد يساويه في هذا العلم ولهذا صرح بحدوث علم الله ومساواة العبد له في ذلك فقال لأن الأخذ من معدن واحد إلا أنه من جهة العبد عناية من الله تعالى سبقت له هي من جملة أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك أي على أحوال عينه

إلى أن قال

فبهذا القدر نقول إن العناية الإلهية سبقت لهذا العبد بهذه المساواة في إفادة العلم ومن هنا يقول الله تعالى حتى نعلم وهي كلمة محققة المعنى ما هي كما يتوهمه من ليس له في هذا المشرب شرب

فبين مساواة العبد له في العلم وإن علم الله حادث كما أن علم العبد حادث وهذا أصل مذهبه أن كل واحد من وجود الحق وثبوت الخلق يساوي الآخر ويفتقر إليه كما ذكره في الخليلية وغيرها ولهذا يقول

فيعبدني وأعبده ... ويحمدني وأحمده

ويقول إن الحق يتصف بجميع صفات العبد المحدثات وإن المحدث يتصف بجميع صفات الرب مع أنه يقول إنهما شيء واحد إذ لا فرق في الحقيقة بين الوجود والثبوت فهو يقول في الكون كله نظير ما قالته الملكانية من النصارى في المسيح لكنه يزيد عليهم بأن يسوي بين الحق والخلق وأن الحق مفتقر إلى الخلق وأن الأمر عنده لم يزل كذلك مع زيادته عليهم فإنه قال في جميع المخلوقات أعظم مما قالوه في المسيح ثم أخذ يتكلم في منح الحق ذاته وبين أنه إذا منح العبد وجوده فإنما يكون بحسب ما عليه ذواتهم ولا يرون إلا صورة ذواتهم في وجوده ولا يرون الحق أبدا ولا يمكن أن يروه لا في الدنيا ولا في الآخرة إذ ليس له وجود سوى وجود ذوات المخلوقات وما سوى وجود المخلوقات فعدم

قال فأما المنح والهبات والعطايا الذاتية فلا تكون أبدا إلا عن تجلي إلهي والتجلي من الذات لا يكون إلا بصورة استعداد المتجلي له وغير ذلك لا يكون فإذا المتجلي له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق ولا يرى الحق ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه كالمرآة في الشاهد إذا رأيت الصور فيها لا تراها مع علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلا فيها فأبرز الله تعالى ذلك مثالا نصبه لتجليه للذوات ليعلم المتجلي له أنه ما رآه وما ثم مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والمتجلى من هذا وأجهد في نفسك عندما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة لا تراه أبدا البتة إلى أن قال وإذا ذقت هذا ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن تترقى في أعلى من هذا الدرج فما هو ثم أصلا وما بعده إلا العدم المحض فهو مرآتك في رؤيتك نفسك وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها وليست سوى عينه فاختلط الأمر وأنبهم فمنا من جهل في علمه وقال والعجز عن درك الإدراك إدراك ومنا من علم فلم يقل مثل هذا وهو أعلى القول بل أعطاهم العلم السكوت ما أعطاه العجز وهذا هو أعلى عالم بالله هذا لفظه

ثم أنه لم يكتف بهذا الذي ذكره مما حقيقته جحود الخالق وأنه ليس ثم موجود سوى المخلوقات وهو حقيقة قول فرعون فجعل العالم بذلك أعلى عالم بالله حتى جعل الرسل جميعهم والأنبياء يستفيدون هذا العلم من مشكاة الذي جعله خاتم الأولياء وجعله أفضل من خاتم الرسل من جهة الحقيقة والعلم به وأنه يأخذ عن الأصل من حيث يأخذ الملك الذي يوحي إلى خاتم الرسل وأن خاتم الرسل إنما هو سيد في الشفاعة فسيادته في هذا المقام الخاص لا على العموم

فقال وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء حتى أن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء وأن الرسالة والنبوة أعني نبوة الشرائع ورسالته ينقطعان والولاية لا تنقطع أبدا فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف من دونهم من الأولياء وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه فإنه في وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلا وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه في فضل عمر في أسارى بدر بالحكم فيهم وفي تأبير النخل مما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة وإنما نظر الرجال إلى التقدم في رتبة العلم بالله هنالك مطلبهم وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها ولما مثل النبي النبوة بالحائط من اللبن وقد كمل سوى موضع لبنة فكان النبي تلك اللبنة غير أنه لا يراها إلا كما قال لبنة واحدة فكان يرى نفسه موضع تلك اللبنة وأما خاتم الأولياء فلا بدله من هذه الرؤية فيرى ما مثل به رسول الله ويرى في الحائط موضع لبنتين من ذهب وفضة فيرى اللبنتين اللتين ينقص الحائط بهما ويكمل بهما لبنة ذهب ولبنة فضة ولا بد أن يرى نفسه منطبعا في موضع تينك اللبنتين فيكون خاتم الأولياء تلك اللبنتين فيكمل الحائط والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع اللبنة الفضة وهو ظاهر وما يتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه لأنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسل فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع فكل بني من أن لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين وإن تأخر وجود طينته فإنه بحقيقته موجود وهو قوله كنت نبيا وآدم بين الماء والطين وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث وكذلك خاتم الأنبياء كان وليا وآدم بين الماء والطين وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا بعد تحصيل شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الإتصاف بها من كون الله تعالى تسمى بالولي الحميد فخاتم الرسل من حيث ولايته نسبته مع الختم الولاية نسبة الأنبياء والرسل معه فإنه الولي الرسول النبي وخاتم الأولياء الولي العارف الآخذ عن الأصل المشاهد للمراتب وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل محمد مقدم الجماعة وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة فعين حالا خاصا ما عمم وفي هذا الحال الخاص مقدم على الأسماء الإلهية فإن الرحمن ما شفع عند المنتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص فمن فهم المراتب والمقامات لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام إلى أن قال وبهذا العلم سمي شيث لأنه معناه هبة الله فبيده مفتاح العطايا على اختلاف أصنافها ونسبها فإن الله وهبه لآدم أول ما وهبه وما وهبه إلا منه لأن الولد سر أبيه فمنه خرج وإليه عاد فما أباه غريب لمن عقل عن الله وكل عطاء في الكون على هذا المجرى فما في أحد من الله شيء وما في أحد من سوى نفسه شيء وإن تنوعت عليه الصور وما كل أحد يعرف هذا وإن الأمر على ذلك إلا آحاد من أهل الله فإذا رأيت من يعرف ذلك فاعتمد عليه وذلك هو عين صفات خلاصة خاصة الخاصة من عموم أهل الله تعالى فأي صاحب كشف شاهد صورة تلقى إليه ما لم يكن عنده من المعارف وتحنه ما لم يكن قبل ذلك في يده فتلك الصورة عينه لا غيره فمن شجرة نفسه جنى ثمرة غرسه

وقال أيضا في الإدريسية من أسمائه الحسنى العلي على من وما ثم إلا هو فهو العلي لذاته أو عن ماذا وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجوات فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو فهو العلي لا علو إضافة لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ما شمت رائحة من الوجود فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات والعين واحدة من المجموع في المجموع فوجود الكثير من الأسماء وهي النسب وهي أمور عدمية وليس إلى العين التي هي الذات فهو العلي لنفسه لا بالإضافة فما في العالم من هذه الحقيقة علو إضافة لكن الوجوه الوجودية متفاضلة فعلو الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجوه الكثيرة لذلك يقول فيه هؤلاء هو أنت لا أنت قال أبو سعيد الخراز وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه بأن الله تعالى لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها فهو الأول والآخر والظاهر والباطن فهو عين ما ظهر في حال بطونه وهو عين ما بطن في حال ظهوره وما ثم من يراه غيره وما ثم من ينطق عنه فهو ظاهر لنفسه باطن عنه وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات

إلى أن قال

ومن عرف ما قررناه في الأعداد وأن نفيها عين إثباتها علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه وإن كان قد تميز الخلق من الخالق بالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة لا بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة فانظر ماذا ترى قال يا أبت أفعل ما تؤمر والولد عين أبيه فما رأى يذبح سوى نفسه وفداه بذبح عظيم فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان وظهر بصورة والد لا بل بحكم ولد والوالد من هو عين الوالد وخلق منها زوجها فما نكح سوى نفسه فمنه الصاحبة والولد والأمر واحد في العدد فمن الطبيعة ومن الظاهر فيها وما رأيناها نقصت بما ظهر فيها ولا زادت بعد ما ظهر وما الذي ظهر غيرها وما هي عين ما ظهر لاختلاف الصور بالحكم فهذا بارد يابس وهذا حار يابس فجمع بين اليبسين وأبان بغير ذلك والجامع الطبيعة لا بل العين الطبيعية بل معالم الطبيعة صور في مرآة واحدة لا بل صورة واحدة في مراء مختلفة فما ثم إلا حيرة لتفرق النظر ومن عرف ما قلناه لم يحر وإن كان في مزيد علم وليس الأمر إلا حكم المحل والمحل عين العين الثابتة فيها يتنوع الحق في المحل بتنوع الأحكام عليه فيقبل كل حكم وما يحكم عليه إلا عين ما تجلى فيه ما ثم إلا هذا ثم أنشد

فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا ... وليس خلقا بذاك الوجه فلاذكروا

من يدر ما قلت لم تخذل بصيرته ... وليس يدريه إلا من له بصرو

جمع وفرق فإن العين واحدة ... وهي الكثيرة لا تبقي ولا تذر

فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي فيه تستغرق جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية بحيث لا يمكن أن يفوته نصيب منها وسواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا وليس ذلك إلا لمسمى الله تعالى خاصة

فهذا وغيره من كلامه يبين أن الوجود عنده واحد وليس للخالق وجود مباين لوجود المخلوقات بل وجودها عينه ثم يذكر الظاهر الخيالي والمراتب وهي عنده الذوات الثابتة في العدم المساوية للوجود

وأما أسماء الله تعالى فهي عنده النسبة التي بين الوجود وبين هذه المراتب وهي في الحقيقة أمور عدمية وكل من الوجود والثبوت لا ينفك عن الآخر ولا يستغني عنه وهو شبيه بقول من يقول الوجود غير الماهية وهو ملازم لها والمادة غير الصورة وهي ملازمة لها

لكن صاحب الفصوص يجعل وجود هذا الوجود الحق الذي هو وجود كل شيء فهو الموصوف عنده بجميع صفات النقص والذم والكفر والفواحش والكذب والجهل كما هو الموصوف عنده بصفات المدح والكمال فهو العالم والجاهل والبصير والأعمى والمؤمن والكافر والناكح والمنكوح والصحيح والمريض والداعي والمجيب والمتكلم والمستمع هذا كله يذكره في مواضع من كلامه وهذا عنده غاية الكمال وفي هذا المعنى ينشدون

وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه

وهو عنده هوية العالم ليس له حقيقة مباينة للعالم وقد يقول لا هو العالم ولا غيره وقد يقول هو العالم أيضا وهو غيره وأمثال هذه المقالات التي يجمع فيها من المعنى بين النقيضين مع سلب النقيضين إذ ليس مذهبه في الغيرين مذهب الصفاتية

فصل

وأما صاحبه القونوي فقد كان التلمساني صاحب القونوي وكان هو أحذق متأخريهم يقول إنه كان أتم من شيخه ابن عربي وكان ابن سبعين يقول عن التلمساني إنه أتم تحقيقا من شيخه القونوي

والقونوي أعرض عن كون المعدوم ثابتا في العدم فإن هذا القول معلوم الفساد عند الأئمة في المعقول والمنقول ولكن سلك طريقا هي أبلغ في التعطيل مضمونها أن الحق هو الوجود المطلق والفرق بينه وبين الخلق من جهو التعيين فإذا عين كان خلقا وإذا أطلق الوجود كان هو الحق

هذا وقد علم أن المطلق بشرط إطلاقه لا وجود له في الخارج عن محل العلم فليس في الخارج إنسان مطلق بشرط الإطلاق ولا حيوان مطلق بشرط الإطلاق

فإذا قال إن الحق تعالى هو الوجود بشرط الإطلاق فهذا لا وجود له في الخارج وإنما الذهن يقدر وجودا مطلقا كما يقدر حيوانا مطلقا وإنسانا مطلقا وفرسا مطلقا وجسما مطلقا

وإن قال إنه المطلق لا بشرط فهذا إما أن يقال أنه لا وجود له في الخارج أيضا

وأما أن يقال هو موجود في الخارج لكن بشرط التعيين إذ ليس في الخارج إلا وجود معين

فعلى أحد التقديرين يكون وجود الحق هو الوجود المعين المخلوق وعلى الآخر لا وجود له في الخارج

وكلامهم كله يدور على هذين القطبين إما أن يجعلوا الحق لا وجود له ولا حقيقة في الخارج أصلا وإنما هو أمر مطلق في الأذهان

وأما أن يجعلوه عين وجود المخلوقات فلا يكون للمخلوقات خالق غيرها أصلا ولا يكون رب كل شيء ولا مليكه وهذا حقيقة قول القوم وإن كان بعضهم لا يشعر بذلك

ولما كان هؤلاء نسخة الجهمية الذين تكلم فيهم السلف والأئمة مع كون أولئك كانوا أقرب إلى الإسلام كان كلام الجهمية يدور أيضا على هذين الأصلين فهم يظهرون للناس والعامة أن الله بذاته موجود في كل مكان أو يعتقدون ذلك

وعند التحقيق إما يصفونه بالسلب الذي يستوجب عدمه كقولهم ليس بداخل العالم لا خارجه ولا مباين له ولا محايث له ولا متصل به ولا منفصل عنه وأشباه هذه السلوب

فكلام أول الجهمية وآخرهم يدور على هذين الأصلين

إما النفي والتعطيل الذي يقتضي عدمه

وإما الإثبات الذي يقتضي أنه هو المخلوقات أو جزء منها أو صفة لها وكثير منهم يجمع بين هذا النفي وهذا الإثبات المتناقضين وإذا حوقق في ذلك قال ذاك السلب مقتضى نظري وهذا الإثبات مقتضى شهودي وذوقي

ومعلوم أن العقل والذوق إذا تناقضا لزم بطلانهما أو بطلان أحدهما وأما ابن سبعين فقوله يشبه هذا من وجه وهذا من وجه وهو إلى قول القونوي أقرب لكنه يجعله الوجود الثابت الذي يختلف على صور الموجودات فإنه يقول بثبوت الماهيات المطلقة في الموجودات المعينة ولا يقول بانفكاكها عن الوجود وهذا قول ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة

وهذا كما ترى مع موافقته لقول من يقول المعدوم شيء فهو يخالفه من هذين الوجهين ويقول مع ذلك إن وجوده هو تصور الماهيات فهو تارة يجعله بمنزلة المادة الجسمية والأشياء بمنزلة صورها والقول بأن الجسم مركب من المادة والصورة قول الفلاسفة المشائين وابن سبعين يحتذي حذوهم ويقول إنه مقدم عليهم وعلى غيرهم ويقول إنه أنشأ الحكمة التي رمز إليها هرامس الدهور الأولية وبين العلم الذي رامت إفادته الهداية النبوية وقد تنازعوا في إمكان انفراد المادة عن الصورة

فأرسطو وأصحابه على أنه يمكن انفكاكها عنها بخلاف أفلاطون ويزعمون أن المادة جوهر روحاني قائم بنفسه وأن الصورة الجسمية جوهر قائم بها وأن الجسم يتولد من هذين الجوهرين

والعقلاء والمحققون يعلمون أن هذا باطل كما قد بسطناه في غير هذا الموضع

والهيولى عندهم أربعة أقسام الصناعية والطباعية والكلية والأولية

فالصناعية كالدرهم الذي له مادة وهي الفضة وصورة وهي الشكل المعين وكذلك الدينار والخاتم والسرير والكرسي ونحو ذلك وهذا القسم لا نزاع فيه بين العقلاء ولكن هذه الصورة عرض من أعراض هذا الجسم وصفة له ليست جوهرا قائما بنفسه وهذا أمر معلوم بالضرورة حسا وعقلا

وأما الطباعية فكصور الحيوان والنبات والمعدن فإنه أيضا مخلوق من مادة كالهواء والماء والتراب وهذا أيضا لا نزاع فيه لكن هذه الصورة جوهر قائم بنفسه مستحيل عن تلك المواد ليست هي صفة له كالأول

وإذا تدبر العاقل هذين النوعين علم فساد قول من يجعل الصورة في النوعين جوهرا كما يقوله من يقوله من المتفلسفة ومن يجعل الصورة في الموضعين صفة وعرضا كما يقوله من يقوله من المتكلمة الجسمية

وأما القسم الثالث الذي هو الكلي فهو دعواهم أن الجسم له مادة هي جوهر قائم بنفسه لا يحس وإنما هي مورد الإتصال تارة والإنفصال العارضيين للجسم تارة وأن هناك شيء هو غير الجسم الموصوف بالإتصال تارة والإنفصال أخرى وهذه المادة باطلة عند جماهير العقلاء كما قد بيناه في غير موضع وإن كان أيضا تركيب الجسم من الجواهر الفردة باطل أيضا عند جماهير العقلاء فلا هذا ولا هذا

ثم هذه المادة قد ذكروا عن أفلاطون أنه قال يمكن انفرادها عن الصورة كما يحكون عنه نظير ذلك في المدة وهي الدهر وفي المكان وهو الخلاء إنهما جوهران قائمان خارجان عن أقسام العالم وفي المثل المعلقة الأفلاطونية المكان والزمان والمادة والصور قول متشابه

وجمهور العقلاء يعلمون أن هذا الذي أثبته في الخارج إنما هو في الأذهان لا في الأعيان

ومن المعلوم أن قول من يقول أن هذه المادة المدعاة أنها جزء للجسم يمكن تجردها عن الصورة شبيه بقول من يقول المعدوم شيء ثابت ثبوتا مجردا ليس وجوده

وفي ذلك المناظرة المعروفة لأبي إسحاق الإسفرائيني مع الصاحب إسماعيل بن عباد رفيق القاضي عبد الجبار وكلاهما تلميذا أبي عبد الله البصري الملقب القائم بنصر طريقة أبي علي وأبي هاشم لما ذكر له ابن عباد إن الفلاسفة القائلين بقدم الهيولي أعقل من أن يريدوا بذلك الوجود وإنما أرادوا ثبوت الذوات التي تقوله المعتزلة فعارضه الإسفرائيني بأن قال المعتزلة أعقل من أن يريدوا بقولهم إن المعدوم شيء ثابت إلا ما أراده أولئك بقولهم بأن المادة قديمة موجودة فتكون المعتزلة قائلة بقدم المواد التي هي الأجسام

ومن هنا ذكر الشهرستاني وغيره تقارب القولين وإن كان كلاهما باطلا وإن كان قول هؤلاء الفلاسفة أشد بطلانا إذ هو باطل مكرر فإن دعوى تركيب الأجسام من المادة والصورة اللذين هما جوهران قائمان بأنفسهما دعوى باطلة كما هو قول أرسطو وذويه

ثم دعوى انفرادها باطل على باطل

وأيضا فإن هؤلاء المتفلسفة قد يقولون وجود الأشياء زائد على ذواتها في الخارج ويفرقون بين الواجب والممكن بأن الوجود الواجب هو الوجود المقيد بقيد كونه غير عارض لشيء من الماهيات بخلاف الممكن كما يذكره ابن سينا وغيره عن مذهبهم

وحينئذ فيكون قد جمعوا في هذا أنواع الباطل من الممكن وجعلوا الواجب هو الوجود المطلق الذي لا يتحقق إلا في الأذهان لا في الأعيان وهو في الحقيقة تعطيل لوجود الواجب

وعلى هذا فقول القائلين من المعتولة والمتفلسفة بأن الوجود ماهية موجودة في الخارج زائدة على الوجود في الخارج الذي هو الموجود في الخارج وأن الوجود قائم بتلك الماهية هو شبيه بقول من يقول إن الجسم مادة هي جوهر قائم بنفسه وهو محل الصورة الجسمية التي هي أيضا جوهر وهؤلاء يعمدون إلى الشيء الواحد المعلوم واحدا بالحس والعقل يجلعونه اثنين إذ كان له وجود عيني ووجود ذهني فظنوا أن الذهني خارجي

ثم جاء المدعون أنهم محققوهم إلى ما يعلم أنهما متباينان وهو وجود الخالق سبحانه البائن المتميز عن وجود المخلوق فزعموا أنه هو وأن الوجود واحد لا يتميز منه وجود الخالق

فقول ابن سبعين يشبه قول ابن عربي من حيث أن قوله يشبه قول أهل المادة والصورة كما يشبه قول ذلك قول أهل الثبوت والوجود المفرقين بينهما الذين يقولون المعدوم شيء لكن ابن عربي يجعل الوجود الذي هو حال في الثبوت والثبوت محل له هو وجود الحق كما تقدم

فهو وإن كان يقول بأن الوجود واحد فهو يقول بالاتحاد والحلول من هذا الوجه

ولا ريب أن القولين متناقضان وهو يذكر تناقض ذلك ويشير إلى أن ذلك هو الحيرة وهو أعلى العلم

وابن سبعين يجعل وجود الحق هو الثابت بدءا الذي هو كالمادة والخلق هو المنتقل الذي هو الصورة فهو وإن قال بأن الوجود واحد فهو يقول بالاتحاد والحلول من هذه الوجه لكن الحق عنده محل للخلق وعلى قول ابن عربي حال في الخلق وقد تقدم ذكر بعض قول ابن عربي

وأما ابن سبعين ففي بعض ألواحه يقول قد رأى الصورة المحيطة بجميع الصور لها اسم من حيث هي صورة في متصور قائم بذاته وهي قائمة به وللمتصور من حيث هو موصوف بها اسم ولما ارتبطا ارتباطا لا يصح انفكاكه أبدا دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ولم يصح الأخبار عن مطلق الصورة إلا ومطلق المتصور ضمنا ولا عن محيط المتصور إلا والصورة ضمنا فالمتصور بالصورة يسمى بظاهر الصورة ظاهرا وبباطنها باطنا ويحكم عليه حكم قبلته الصورة من إطلاق وحصر وغيبة وحضور وأحدية وكثرة وجمع وتفرقة وسذاجة ولون وحركة وسكون إلى ما لا ينضبط كثرة من الأسماء والصفات فللصورة من حيث هي جميع التعددات والتنقلات والتحولات والتفاضل وللمتصور من حيث هو لا من جهتها لا وصف ولا نعت ولا اسم ولا رسم ولا حد وإن كان له شيء من ذلك كله ولكن بأول مرتبة صورية إطلاقية فله الإطلاقات الأحديه والجمع والسذاجة والسكون والثبوت وشبه ذلك وللصورة لا من حيث هي لكن من تقدير قيامها بفايض هذه ولا حدثت عنها ولا عنه إلا بقيد ارتباط بعضها ببعض ولو في أول مرتبة من مراتب الإرتباط بفائض ذلك وهي الحضرة والكثرة والتفرقة والألوان والحركات والتنقلات لكن لا يقع الحديث أبدا إلا عنهما معا وإن كان الكثرة والتعداد وأخواتها فتأمل كل كلام منطوق به فأي القسمين غلب عليه فاحكم به فإن كان الكثرة والتعدد وأخواتها فاعلم أن المخاطب به هو الصورة والخلق يتصورها وصفا وإن غلبت الوحدة وأخواتها فالمخاطب بذلك المتصور الحق فإذا رأيت التعدد والتنقل والحركة والولادة فذلك للصورة والخلق وإذا رأيت الوحدة والثبوت ولم يلد ولم يولد فذلك للحق القائم على كل نفس بما كسبت وكل شيء هالك إلا وجهه فهو الحق القائم على كل شيء لأن الأعراض وهي الصورة لا تبقى زمانين أصلا بل تتبدل في كل نفس إما بمثل أو بضده أو خلاف لأنها لذاتها فانية وإنما المسمى بقاء هو توارد الأمثال في كل نفس فيظن أن الثاني عين الأول وليس كذلك ولا ينبغي ذلك لأن القائم به كل يوم هو في شأن يريد تعالى كل نفس فيرد المثل بعد المثل ولا يشعر بذلك المحجوب فيظن أن ذلك الأول باق وهيهات لا بقاء إلا لله وحده والفناء لكل ما سواه بالذات في كل نفس والصورة الجزئية تبقى بتوالي الأمثال إلى أن قال وأما مطلق الصورة

فبقاؤها بعد الخلو عن الصور سواء كانت أمثالا لها أو مضادة أو مغايرة لمقصود عمران مطلق الصورة الوجودية صورا فالوجود واحد وهو القائم بجميع الصور غير الخالي عنها على التعاقب والصور هي الهالكة دواما المتعاقبة دواما كائنة فانية شاهدة غائبة قديمة حديثة موجودة معدومة

فابن سبعين في هذا الكلام جعله كالمادة وجعل المخلوق كالصورة وهما مرتبطان لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر

وفي هذا من الباطل والكفر ما لا يخفي على عاقل مع ما في الكلام غير ذلك مثل قوله عن الصور إنها أعراض والعرض لا يبقى زمانين

فإن الذين قالوا إن العرض لا يبقى زمانين وإن كان أكثر العقلاء على خلافه لم يقصدوا الصورة التي هي الجسم وإنما قصدوا الأعراض القائمة بالجسم ولكن يحكي عن النظام أنه قال الأجسام لا تبقى زمانين فهذا يشبه قول النظام

وفي كلام ابن عربي ما يشبه هذا

وتارة يجعله الوجود المطلق الذي تتعاقب عليه الموجودات المعينات ويجعل الموجودات المعينة بمنزلة الماهيات وإن لم يجعلها ثابتة في العدم كما قال في لوح آخر أجل عند أصحابه من ذلك اللوح وهو عندهم نهاية التحقيق حتى قد يجعلونه في رؤوسهم مبالغة في حفظه وتذكرة قال هو الكل بك معينا وكل الكل بك لا معينا وأنت الجزء به معينا وجزء الجزء به لا معينا وأنت لا به لا شيء وهو لا بك ثابت أبدا فالكمال له بك معينا وكمال الكمال له لا بك لا معينا وبدونك لا وصف له إلا الثبوت وهو الوجود في كل موجود وهو مع كل شيء ومتى سرى في ذلك الشيء حكم إلى غيره فمنه لا من ذلك الشيء فله هو في ذلك الحكم إيجاده وللشيء فيه الشبه فقط لأنه في الماء ماء وفي النار نار وفي الحلو حلو وفي المرمر فهما سرى حكم من شيء إلى شيء فله هو في ذلك الحكم إيجاده وللشيء فيه التشبه فهذا الكلام يتضمن أنه هو وجود العالم وكل جزء من العالم إما أن يوجد معينا كهذا الإنسان وهذا النبات أو مطلقا كالإنسان والنبات فكل جزء إذا أخذ غير معين فهو جزء من وجود العالم فهو والعالم هو الكل للجزء إذا عين وإذا أطلق ولم يعين فهو كل النوع الذي هو كل المشخص

واعلم أنا لم نقصد في هذا الجواب الرد على هؤلاء وبيان ما في كلامهم من الكفر والباطل والضلال فقد أوضحنا ذلك في غير هذا الموضع وبيناه بيانا شافيا

وإنما القصد هنا التنبيه على جمل أقوالهم لتتصور فإن تصورها يكفي في بيان بطلانها فإن هذا الكلام وإن تضمن أنه ليس غير العالم وتضمن تعطيل أن يكون للعالم خالق مباين له كما هو معلوم بالضرورة من دين جميع أهل الملل بل من دين كل من يقر بالصانع وهم يصرحون بذلك كما يقول ابن عربي إن العالم صورته وهويته فإنه متناقض باطل في نفسه فإن الناس يعرفون انقسام الكلي إلى جزئياته كانقسام الجنس إلى أنواعه وإلى أشخاص أنواعه كانقسام الحيوان إلى الناطق والأعجم وانقسام الناطق إلى العربي والعجمي وانقسام الكلمة الاصطلاحية إلى الإسم والفعل والحرف

وانقسام الماء إلى الطهور والطاهر والنجس وأشباه ذلك وهنا اسم المقسوم يصدق على الأقسام وانقسام الكل إلى أجزائه كقسمة الميراث بين الورثة والعقار وغيره بين الشركاء ومنه ونبئهم أن الماء قسمة بينهم ومنه انقسام الدار إلى السقف والأرض والحيطان وأعضاء الوضوء إلى مغسول وممسوح

وهذا القسم هو الذي أراده من قسم الكلام إلى الاسم والفعل والحرف وإذا كان كذلك فهؤلاء تارة يجعلون الحق تعالى لأجزاء العالم كالكل لأجزائه فيجعلون كل شيء من العالم بعضا منه وجزءا له كأمواج البحر من البحر وينشدون

وما البحر إلا الموج لا شيء غيره ... وإن فرقته كثرة بالتعدد

وتارة يجعلونه هو الوجود المطلق المنقسم إلى قائم بنفسه وغيره وربما يجعلونه الوجود من حيث هو المنقسم إلى واجب وممكن

فإذا أرادوا الأول كان هو نفس العالم إذ العشرة ليست غير الآحاد لكن لها صورة الإجتماع وكما أن أعضاء الوضوء ليست غير الممسوح والمغسول ولكن لا وجود للجملة إلا بأجزائها

ثم من العجائب أنهم يبنون كلامهم على غاية النفي والتنزيه الذي هو محض التعطيل فينفون الصفات لأن الصفات تستلزم في زعمهم التركيب والمركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره والمفتقر إلى غيره ممكن ليس بواجب بنفسه فهذه هي عمدتهم في نفي صفاته الثبوتية

وقد بسطنا الكلام على فساد هذه الحجة في غير هذا الموضع بسطا تاما وبينا أن عامة ما فيها وفي أمثالها من المقدمات إنما هي قضايا سفسطائية قد ألفت من ألفاظ مجملة متشابهة تشتمل على حق وباطل كما قال الإمام أحمد في هؤلاء يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم

فإن لفظ التركيب المعروف في اللغة وهم يريدونه لذلك وكذلك لفظ الجزء والافتقار والغير وإنما يعنون بلفظ التركيب معاني اصطلحوا على تسميتها تركيبا وهي نوعان

الصفات والمقادير

فالأول كقولهم الإنسان مركب من الحيوان والناطق، والإنسانية مركبة من الحيوانية والناطقية

ومعلوم أن الحيوان والناطق صفتان للإنسان والصفة لا توجد بدون الموصوف وأما تسمية الحيوان والناطق غيرين للإنسان فتسمية اصطلاحية أيضا

وأما قولهم إن المركب مفتقر إلى جزئه فتسمية هذا افتقار أيضا لفظ اصطلاحي وإنما هو ملازم فإن هذا الموصوف لا يوجد بدون وصفه فهما متلازمان ليس هناك شيء ثابت غير الحيوان والناطق حتى يوصف بأنه مفتقر إلى الحيوان والناطق بل المقصود أن حقيقة الإنسان مستلزمة لأن يكون حيوانا ناطقا وقولهم إن أجزائه غيره فإنه اصطلاح طائفة فإن للناس في لفظ الغير اصطلاحين مشهورين

أحدهما اصطلاح المعتزلة والكرامية ونحوهم ممن يقول الصفة غير الموصوف وهؤلاء فيهم من ينفي الصفات كالمعتزلة ومنهم من يثبتها كالكرامية وهم يقولون إن الغيرين هما الشيئان أو هما ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر

والثاني اصطلاح أكثر الصفاتية من الأشعرية وغيرهم إن الغيرين ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بوجود زمان أو مكان ومن هؤلاء من يقول ما جاز مفارقة أحدهما الآخرولهذا يقولون إن الصفات لا هي الموصوف ولا هي غيره وكذلك جزء الجملة كالواحد من العشرة واليد من الإنسان قد يقولون فيها ذلك والأولون يقولون الصفة غير الموصوف

وأما حذاق الصفاتية من الكلابية وغيرهم فهم على منهاج الأئمة كما ذكر الإمام أحمد في الرد على الجهمية لما سألوه عن القرآن أهو الله أم غير الله لا يقولون الصفة لا هي الموصوف ولا هي غيره بل لا يقولون الصفة هي الموصوف ولا يقولون هي غيره فيمتنعون عن الإطلاقين ولا ينفون الإطلاقين وهذا سديد فإن لفظ الغير لما كان فيه إجمال لم يطلق نفيه حتى يتبين المراد فإن أريد بأنه غير مباين له فليس هو غيره وإن أريد أنه ليس هو إياه أو أنه يمكن العلم به دونه فنعم هو غيره وإذا فصل المقال زال الأشكال فإذا قيل إن الصفة أو الجزء غيره بأحد الاصطلاحين كان باطلا وإذا قيل إنها غيره بالاصطلاح الآخر لم يمتنع أن يكون لازما للموصوف وحينئذ فيكون الموصوف مستلزما لصفة لا توجب أن يكون مفتقرا إلى حقيقة مستغنية عنه كافتقار الممكنات إلى واجب الوجود

والذي علم بصريح العقل أن ما كان واجب الوجود بذاته لا تكون حقيقته مفتقرة إلى حقيقة أخرى مباينة لذاته لأن ذلك يمنع أن يكون واجبا بذاته ولذلك انحصرت قسمة الموجود إلى واجب بذاته وممكن بذاته وكان الإعتراف بالموجود الواجب أمرا ضروريا لا يمكن دفعه وليس من الاعتراف به اعتراف بصانع العالم بل فرعون وأمثاله ممن ينكر الخالق تعالى لا يدفع وجود موجود واجب الوجود وإنما الشأن في تعيينه فقد يقربه ويزعم أنه العالم كما هو حقيقة قول هؤلاء

ولهذا لما كان متكلمة الصفاتية أقرب إلى الحق الذي جاءت به الرسل كان الغالب على عباراتهم لفظ الصانع فإنه شبيه بلفظ الرب والخالق ونحو ذلك مما كثر لفظه في الكتاب والسنة ولما كان الأقرب إلى الحق بعدهم المعتزلة كان الغالب على كلامهم لفظ قديم فيقولون القديم والمحدث لأنهم أثبتوه بناء على حدوث الأجسام والمحدث لا بد له من محدث

وأما هؤلاء المتفلسفة فلما كانوا أبعد عن طريقة الرسل كان الغالب على كلامهم واجب الوجود

ولا ريب أن تقرير ذلك يسهل فإن الوجود أمر محسوس مشهود والموجود إما أن يكون من حيث ذاته قابلا للعدم وإما أن لا يكون

فالثاني هو الواجب والأول إذا كان موجودا فقد يمكن الوجود والعدم وحينئذ فيمتنع أن يكون وجوده من ذاته فإنها لا تختص بوجود ولا عدم بل التحقيق أنه ليس له بدون وجوده ذات يحكم عليها إلا ما يقدر في الذهن ومتى قدر وجود ليس وجوده من ذاته تعين أن يكون وجوده من غيره فكل موجود وجوده إما بنفسه وإما بغيره وإذا كان كل ممكن موجود بغيره لزم قطعا وجود موجود ليس بممكن وكل موجود ليس بممكن فوجود الواجب لازم على التقديرين ضرورة

فهذا الوجود الواجب الذي يشهد به هذا البرهان الذي يذكرونه وإن تنوعوا في تصويره يمتنع أن يفتقر إلى ما هو مباين لذاته فإنه حينئذ لا يكون موجودا بنفسه بل به أو بذلك الغير فقط وهو خلاف ما دل عليه البرهام من أنه لا بد من موجود بنفسه لا يتوقف على غيره لأن وجوده بنفسه يناقض كونه متوقفا عليه وتوقفه عليه يناقض كونه واجبا بنفسه فيكون واجبا بنفسه لا واجبا بنفسه وهو جمع بين النقيضين ولأنه ان كان ذلك الغير واجبا بنفسه كان هو الواجب وكان الأول ممكنا وإن كان ذلك الغير ممكنا فهو مفتقر إلى الواجب فلو كان كل منهما مفتقرا إلى الآخر والمراد بالافتقار هنا افتقار المعلول إلى علته لزم أن يكون كل منهما علة الآخر والمعلول متوقف على علته فيلزم أن يكون كل منهما متوقفا على معلوله التوقف على ذاته فتكون ذاته مستلزمة التقدم على ذاته ومستلزمة التأخر على ذاته وذلك مستلزم كونها موجودة معدومة في الحال الواحد وهو جمع بين النقيضين وهذا هو الدور القبلي وهو ممتنع لذاته

وأما الدور المعي وهو كون كل واحد من الشيئين لا يوجد إلا مع الآخر فهذا ليس بممتنع وهو دور الشروط مثل الأمور المتقارنة فإن الأبوة لا توجد إلا مع البنين ومعلولا العلة لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر وأمثال ذلك من الأمور المتلازمة فواجب الوجود يمتنع أن يقف وجوده على شيء مباين له توقف المعلول على العلة وأما كون ذاته مستلزمة لصفاته فهذا لا يقتضي أن يكون متوقفا على مباين له توقف المعلول على العلة أكثر ما يقال إن ذاته لا توجد إلا مع هذا وهذا لو كان مباينا له منفصلا عنه لم يكن ما ذكروه من إثبات واجب الوجود تابعا له كيف وهم يزعمون أنه مستلزم لوجود العالم والعالم لازم له لا يمكن مفارقته له فمن يكون قوله في واجب الوجود بهذا الحال كيف يمتنع أن تكون له صفات تستلزم ذاته سواء سمي ذلك تركيبا أو لم يسم إذ لا عبرة بالعبارات والمعاني الذي يقوم الدليل على نفيها وإثباتها فكيف والصفات ليست مباينة له ولا منفصلة عنه

وإذا قيل إن حقيقته أو وجوده أو نحو ذلك يتوقف عليها فغايته أن يفسر بالتلازم وهو توقف أحد المتلازمين على الآخر أو توقف المشروط على شرطه ليس هو توقف المعلول على علته وهذا لا يمنع كونه واجب الوجود بمعنى أن ذاته ليست لها علة منفصلة عن ذاته وهذا هو الذي أثبته البرهان ولهذا كان هذا بمنزلة أن يقال هو متوقف على ذاته أو مفتقر إلى ذاته كما يقال هو واجب لذاته وموجود بذاته وهذا لا ريب فيه وإذا فسر القائل قوله إنه مفتقر إلى ذاته بهذا المعنى كان هذا المعنى حقا وإن كان في العبارة ما فيها وإذا لم يكن هذا ممتنعا بل كان هذا واجبا فإذا قيل هو مفتقر إلى ما تجعلونه جزأه أو صفته وكان المراد بذلك استلزام ذاته لذلك وامتناع وجود ذاته بدون ذلك كان هذا أولى بالجواز وأبعد عن الامتناع وقد بسطنا الكلام على شبه هذه المقامات العظيمة التي تحل شبه هؤلاء وغيرهم في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أنهم إذا كانوا يقولون بمنع الصفات وغيرها مما هو مستلزم للتعطيل حذرا من هذا المعنى الذي يسمونه تركيبا وليس هو تركيبا ثم يجعلونه جملة العالم التي لها أجزاء حقيقية غيرها وهو مركب منها وكل جزء مباين للآخر منفصل عنه فمعلوم أن هذا هو التركيب وأن كل ما نفوه ونزهوه عنه أثبتوه في ثاني الحال على أقبح الوجوه مع التعطيل المحض ولهذا كانوا يرون الجمع بين كل نفي وتنزيه وإن استلزم التعطيل وبين كل تشبيه وتمثيل ويرون ذلك هو الكمال ومعلوم أن ذلك مع ما فيه من الكفر من الجانبين فهو مشتمل على الجمع بين النقيضين من وجوه لا تحصى وهو حقيقة مذهب القوم وهم يصرحون بذلك ثم من المعلوم أن بعض أجزاء العالم يشاهد عدمه بعد الوجود ووجوده بعد العدم كصور الحيوان والنبات والمعدن وأنواع من الأعراض وهذا معلوم بالحس أنه ليس واجب الوجود بل هو ممكن الوجود لقبوله العدم وما كان واجب الوجود لذاته لا يقبل العدم إذ لو قبل العدم لكان ممكن الوجود وممكن العدم وهذا ليس بواجب الوجود بذاته وإذا كانت هذه الأجزاء التي شوهد عدمها يمتنع اتصافها بوجوب الوجود لم يمكن أن يقال أن الكل واجب الوجود بل أكثر ما يقول هذا المفتري ما تقوله المعطلة الدهرية إن منه ما هو واجب الوجود ومنه ما ليس بواجب الوجود وأن واجب الوجود هو الأفلاك مثلا أو العناصر أو العقول والنفوس مع ذلك وهذا وإن كان هذا القول يؤذن بتعطيل الصانع وهو غاية الكفر باتفاق كل ذي عقل ودين فمعلوم أنه أقرب من قول أن كل العالم هو واجب الوجود فتبا لطائفة تدعي التحقيق والعرفان ويكون قولها أقبح وأعظم كفرا وضلالا من قول أكفر الخلق بالرحمن

ولولا أن في هؤلاء القوم من يظن أنه مقر بالله وأنه معظم لله وأن هذا الذي يقوله تعظيم للحق لكانوا أكفر من هؤلاء من كل وجه لكنهم اجهل منهم قطعا

وتارة بجعله هؤلاء كالكلي المنقسم إلى جزئياته فيجعلونه الوجود أو الموجود المطلق

ومعلوم إن المطلق لا وجود له في الخارج ولا يوجد إلا معينا وهذا من أوائل ما في المنطق عندهم والمطلق بشرط إطلاقه قد اتفقوا على أنه لا يوجد في الخارج

وأما المطلق لا بشرط فقد غلط فيه بعضهم كالرازي وادعى وجوده في الخارج وأنه جزء من المعين

والجمهور يعلمون أن ما يوجد في الخارج ليس إلا معينا ليس مطلقا أصلا وابن سبعين يجعله تارة في كلامه الكلي وأجزاء العالم أجزاؤه وتارة يجعله الكلي الذي هو الوجود فلا يكون له وجود في الخارج بحال ولكن كلامه يقتضي أنه يجعل الكلي المطلق موجودا في المعين على القول الضعيف وإذا نزلنا معه على هذا التقدير يكون الرب تعالى عندهم جزءا من كل موجود مخلوق

فهم بين أن يجعلوه جملة المخلوقات أو جزءا من كل مخلوق أو صفة لكل مخلوق أو يجعلونه عدما محضا لا وجود له إلا في الأذهان لا في الأعيان ثم هم مع هذا التعطيل الصريح والإفك القبيح يتناقضون ولا يثبتون على مقام ولهذا رأيت كلامهم كله مضطربا لا ينضبط لما فيه من التناقض ولكن لما كنت أبينه وأوضحه أذكر القواعد العلمية التي يعرف الناس حقيقة ما يمكن حمل كلامهم عليه وميزت بين قول هذا وقول هذا وبينت ما فيه من التناقض حتى أطلع الناس على ما هم فيه من الكفر والهذيان مع دعواهم التحقيق والعرفان وتعظيم الناس لهم وهيبتهم لهم وظنهم أنهم من كبار أولياء الله العارفين وسادات المحققين وإنما هم بالنسبة إلى هؤلاء كالمنتسبين إلى الأئمة الصادقين

فابن سبعين وذووه لا وصف له عندهم بسوى الثبوت بناء على أصلهم الفاسد وهو أن الوجود من حيث هو وجود مع قطع النظر عن الموجود الواجب والممكن هو ثابت وقد خاطبني في ذلك أفضل هؤلاء فقلت له الوجود من حيث هو وجود لا حقيقة له في الخارج وإنما هو أمر يقدره العقل كالإنسان من حيث هو إنسان والحيوان من حيث هو حيوان والجسم من حيث هو جسم وأمثال ذلك فإن الخارج لا يوجد فيه شيء إلا معينا متميزا عما سواه لا يوجد فيه حقيقة من الحقائق من حيث هي هي مجردة عن كل تعين وتميز

وهذا الموضع الذي هو أصل ضلال هؤلاء قد سبقهم إليه طوائف من أهل الفلسفة والكلام وهؤلاء حذوا حذوهم وزادوا عليهم فظن أولئك أن المطلق يكون موجودا في الخارج ثابتا في الأعيان المقيدة الخاصة وهو الذي يسمونه الكلي الطبيعي ويجعلونه موجودا في الخارج كالإنسان بلا قيد ولا شرط والحيوان بلا قيد ولا شرط والجسم بلا قيد ولا شرط والوجود بلا قيد ولا شرط

ولا ريب أن الفرق بين المطلق لا بشرط وبين المطلق بشرط الإطلاق فرق معقول فإن المطلق بشرط الإطلاق ضد المقيد لا يتناول المقيد بحال ولهذا اتفقوا على أن هذا لا يكون وجوده إلا في الذهن

وأما المطلق لا بشرط فهم يسلمون أيضا أنه لا يوجد إلا معينا مقيدا إما بقيد كونه في الذهن أو في الخارج أو بقيد كونه واحدا أو كثيرا ونحو ذلك ولكن كثيرا من أئمتهم يدعون أنه يوجد في الأعيان كما اتفق الناس على أنه يوجد في الأذهان مع أن حقيقته من حيث هي هي ليست مقيدة بقيد كونها في الأذهان أو في الأعيان مع أنها لن تخلو عن أحدهما ففرق بين ما هو داخل في الحقيقة وبين ما هو لازم لها

كما أن من هؤلاء من ادعى ثبوت هذه الحقائق مجردة عن الأعيان كما يقوله أصحاب المثل الأفلاطونية

وقولهم بإثبات هذه الماهيات المطلقة مع قول فريق بانفصالها عن الأعيان هو شبيه بقولهم بإثبات المادة الطبيعية جوهرا مجردا ثابتا في الجسم عن صورته مع قول فريق منهم بإمكان انفصال هذه المادة عن الصور جميعها وقد بسطنا القول في هذا وذكرنا ألفاظ أئمتهم في هذا وبينا ما وقع في ذلك من الغلط البين المبين لكل عاقل يفهم ما يقال بيانا يقينا ضروريا وذكرنا الصواب الذي عليه جمهور العقلاء بأنه ليس في الأعيان الموجود في الخارج شيء مطلق أصلا بحال وأنه إنما هو عين الأعيان أشير إليه فقيل هذا الإنسان فإنه يعلم بالحس والعقل إنه ليس فيه شيء مشترك بينه وبين غيره ولا شيء مطلق سواء قيل مطلق لا بشرط أو مطلق بشرط الإطلاق وتكلمنا على ما يذكرونه من هذه الموارد واللواحق والأعراض حواش غريبة عرضت للحقيقة وأنها خرجت عن الحقيقة وبسطنا الكلام في ذلك بسطا تبين به أنه اشتبه على القوم ما يكون في الذهن والخيال بما يكون في الوجود والخارج فظنوا ما يتخيلونه في أنفسهم من هذه الحقائق كالموجود المطلق والإنسان المطلق موجودا في الخارج فهم في الوهم والخيال الذي ليس بمطابق للحقائق مع كونهم قد ينكرون ما كان من الوهم والخيال حقا مطابقا للخارج كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع

وقول هؤلاء بإثبات الماهيات المطلقة المجردة وبالمواد المجردة وإثباتها في الأعيان هو شبيه بقول من يثبت الأحوال ثابتة في الأعيان وقول من يجعل لكل معين من الموجودات ماهية ثابتة في العدم ويجعل الماهيات غير مجعولة وهؤلاء يقولون وجود كل شيء زائد على ماهيته ولكن نريد بالماهية الماهية الشخصية التي لا تكون لغيره كما يقوله من يقوله من المعتزلة والرافضة وأولئك يقولون بنحو ذلك لكن يقولون بإثبات الماهية النوعية الكلية وكل هذه الأمور إنما هي ثابتة في الأذهان لا في الأعيان وإن كان بعضهم ينكر على غيره أشد الإنكار قوله الذي قال ما هو نظيره وأبلغ منه أو هو في الحقيقة كما ينكر طائفة من متكلمي الصفاتية القائلين بالأحوال كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى على من يقول المعدوم شيء حتى يكفروه بذلك

وقولهم بإثبات الأحوال هو من نمط قولهم حيث يقرون بإثبات ثابت لا موجود ولا معدوم وكما ينكر الفلاسفة على من يقول بالأحوال وبأن المعدوم شيء

فقولهم بإثبات الماهيات المطلقة في الأعيان مع قولهم بإثبات المواد للجسم وتركب الجسم من جوهرين مادة وصورة هو مع كونه من نمط هذا القول فهو إن لم يكن أبعد منه فليس دونه في الضعف إذ جعله حقيقة مطلقة لا تتقيد ثابتة في شيء مقيد وحاصلة له مع أن تلك تنقسم إلى واحد وكثير وهذا لا ينقسم إن هذا من العجب فهل يجعل مورد التقسيم جزءا من القسمين ثابتا في الأعيان وهل هذا إلا تسوية بين قسمة الكلي إلى جزيئاته والكلي إلى اجزائه مع أنهم يفرقون بينهما وغاية ما قد يجيبون به عن هذا أن يقولوا المطلق من حيث هو لا يوصف لا بنفي ولا بإثبات فلا يقال هو واحد ولا كثير ولا ينقسم ولا لا ينقسم ونحو ذلك مع أن محققيهم كإبن سينا يقول إنه لا يوجد إلا موجودا في الأعيان أو في الذهن وعلى هذا فيكون الوجود المطلق لا يوجد إلا في الأعيان الموجودة فلو كان وجود الرب هو المطلق للزم أن يكون جزءا من أعيان المخلوقات مع أنه يلزمه أن يكون ثابتا في الوجود الواجب والوجود الممكن فلا يكون هو واجب الوجود وهذا تناقض كما قد بسطناه في غير هذا الموضع

ومعلوم أن هذا الجواب لم يقصد فيه بيان هذه المسائل تصويرا وتحريرا وتقريرا وإنما نبهنا على النكت التي ضل بها هؤلاء الذين يدعون أنهم أفضل العالم وأكمل الناس وهم في الحقيقة يندرجون في قوله تعالى وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وفي قوله تعالى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون

وكذلك قال بعد ذلك وهو الوجود في كل موجود وهو مع كل شيء وقد بينا أن هذا الكلام يشبه قول من يجعل الوجود زائدا على الماهية وهو يشبه قول ابن عربي من هذا الوجه لكن ابن عربي يشبه قول قول المعتزلة والرافضة القائلين بأن المعدوم المشخص شيء وهذا يشبه قول المتفلسفة الذين يقولون إن الماهيات الكلية المطلقة ثابتة في الأعيان وما تقدم في ذلك اللوح يخالف قول ابن عربي كما تقدم وهو في هذا اللوح جعله بمنزلة الصورة ووجود الماهية وهنالك جعله بمنزلة المادة للصورة ولهذا قالوا وهو مع كل شيء ومتى سرى من ذلك الشيء حكم إلى غيره فمنه لا من ذلك الشيء فجعل الشيء للشيء ليس هو إياه

ثم قال فله في ذلك الحكم إيجاده وللشيء منه الشبه فقط لأنه في الماء ماء وفي النار نار وفي الحلو حلو وفي المر مر فجعله وجود الذوات

ومعلوم أن من قال الماهيات الكلية ثابتة في الأعيان أو من قال إن وجود كل شيء زائد على ماهيته يقول إن الماهية المطلقة المعينة والماهية المشخصة منه وجودها ولهذا قال فهو في الماء ماء وفي النار نار

وهذا من جنس قول ابن عربي وهو متضمن أصلين فاسدين

أحدهما أن في الماء والنار والحلو والمر حقيقتين

إحداهما وجودهما

والثاني ذاتهما المغايرة لوجودهما سوداء قيل هي ماهية معينة أو مطلقة

وهذا وإن كان باطلا فهو قول مشهور لطوائف من المعتزلة والرافضة وطوائف من الفلاسفة

والثاني أن الله هو ماء في الماء وهو نار في النار وهو حلو في الحلو ومر في المر إذ هو عنده نفس وجود الموجودات وهذا من أبطل الباطل وأعظم الكفر والضلال ثم ضرب لذلك مثلا فاسدا فقال مثال ذلك هو مع السراج نور بصورته فتسرج منه سرج كثيرة شبهه والإيجاد لمن هو مع كل شيء بصورة ذلك الشيء ولو كانت تلك السرج التي أوقدت من السراج من ماهيته هو لفنيت مادته بإيقاد جملة من السرج وكان يظهر فيه الضعف قليلا حتى يفنى وإنما الإستمداد من الأمر الذي هو مع كل شيء بصورة ذلك الشيء ولا صورة له هو إذ لو قيدته صورة ما لم يكن مع كل شيء إلا معها فقط تعالى وتقدس فهو الوجود كله ولا وجود لشيء معه إلا لعلمه به

فذكر أن الإيقاد من وجود السراج لا من ماهيته وأنه هو وجود السراج وهو مع الماهية بصورة الماهية والفرق بين وجود السراج وماهيته باطل

وأما قوله لو كانت تلك السرج من ماهيته لفنيت

فيقال له وكذلك لو كانت من وجوده لو قدر هناك وجود غير ماهيته فكيف وليس هناك شيء إلا السراج المحسوس وهو حقيقة السراج وذاته وماهيته في الخارج وما الفرق بين الإيقاد من ماهيته ومن وجوده إن قدرناهما شيئين

فإن قال لأن وجوده في الواجب، قيل له فهذه الدعوى لا تكون هي الدليل وأنت ذكرت هذا دليلا على أن الإستمداد من وجود مقارن للماهية بصورتها

ثم يقال إذا قيل أوقدت هذه السرج من هذا السراج فمن إما أن تكون للتبعيض وإما أن تكون لابتداء الغاية

والأول باطل فإن السراج لم يزل فيه شيء أصلا ولا تبعض ولا نقص من ذاته شيء أصلا ولو كانت للتبعيض للزم أن يزول بعض الوجود والماهية إن قيل بالفرق بينهما

وأما الثاني إذا قيل هي لابتداء الغاية فهذا لا محذور فيه سواء قيل إن الإيقاد من ماهية السراج أو من وجوده أو منهما إن فرق بينهما أو قيل إنما هنالك شيء واحد والإيقاد منه كما هو قول أهل الحق وذلك أن ذبالة المصباح بتقريبها إلى المصباح ومجاورتها له يحدث الله فيها ذلك النور من غير أن ينقص من ذلك النور الأول شيء ولهذا يشبهون العلم بهذا فيقولون كل أحد يستفيد من علم العالم من غير أن ينقص منه شيء بل المتعلم يجعل الله في نفسه نظير ما في نفس المعلم من غير أن ينقص ما في نفس المعلم وكذلك يجعل الله في رأس الذبالة من النور من جنس ما في الذبالة الأولى وتكبر وتصغر وتقوى وتضعف بحسب ذلك وسواء كان هذا هو الهواء المحيط استحال ناراكما قد تستحيل النار هواء أو غير ذلك فليس هو شيء نقص من الأول فبطل تمثيله هذا وهو يزعم الفلسفة

والمتلسفة تعلم ذلك وتقول إن الهواء استحال نارا ومن هنا نظير من في قوله تعالى وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميع منه

وقوله وما بكم من نعمة فمن الله

وقوله إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه

وقوله إنما الاستمداد من الأمر الذي هو مع كل شيء بصورة ذلك الشيء ولا صورة فهو يقتضي ثبوت شيئين وجود وشيء والحق أن الإستمداد أنه ليس هناك إلا شيء واحد وبكل حال فالاستمداد من خالق ذلك الشيء وربه ومليكه الذي ليس هو إياه بوجه من الوجوه بل هو ربه وخالقه ومليكه وليس الله مع كل شيء بصورة ذلك الشيء أصلا تعالى الله عن ذلك

ومن العجب أن هؤلاء يفرون بزعمهم من التشبيه والتجسيم وقد صنف ابن سبعين في ذلك ورد فيه على بعض من كان ينكر عليه من شيوخ أهل مكة بأشياء له إلى غير ذلك ثم يزعمون أنه يشبه كل شيء بصورته وأنه جزء من كل جسم فلم يجعلوه جسما تاما بل جزء جسم كما قد يجعلونه في موضع آخر وجود كل جسم وإن لم يكن للجسم الجزء الذي أثبتوه وجعلوه شبيها للجماد والحيوان والنبات بل هو عين وجود الجماد والحيوان والنبات

ثم قال فهو الوجود كله لا وجود لشيء معه إلا لعلمه به أنت علمه فأنت به ثابت من حيثية تغايره وعلمه إياه وهو التعيين وبه هو موجود من حيثية أن علمه عين ذاته وهي أن لا تعيين وأنت العين من حيث أنت صورة في العلم لا من حيث إطلاق العلم فهذا يتضمن أن الأشياء التي جعلها موجودة ووحودها عين الحق هي علم الحق

وليس هذا قول أهل السنة الذين يقولون إن الأشياء ثابتة في علم الله قبل وجودها ليست ثابتة في الخارج فإن هؤلاء لا يقولون إن الأشياء الموجودة عين علمه ولا يقولون إن الأشياء المحسوسة بعد وجودها هي كما كانت في العلم بل يقولون إن الله علمها وقدرها قبل أن تكون والمخلوق قد يعلم أشياء قبل أن تكون كما نعلم نحن ما وصف لنا من أشراط الساعة وصفة القيامة وغير ذلك قبل أن يكون ومن المعلوم أن علمنا بذلك ليس هو من جنس الحقيقة الموجودة في الخارج فإنا إذا علمنا الماء والنار لم يكن في قلوبنا ماء ونار ولكن علمه بذلك يطابقه مطابقة العلم المعلوم ثم اللفظ يطابق العلم مطابقة اللفظ المعنى ثم الخط يطابق اللفط وهذه المراتب الأربع المشهودة هي الوجود العيني والعلمي واللفظي والرسمي وجود في الأعيان وفي الأذهان وفي اللسان وفي البنان وقد تشبه هذه المطابقة مطابقة الصورة التي في المرآة للوجه ومطابقة النقش الذي في الشمعة والطين لنقش الخاتم الذي يطبع ذلك له

وليس هو أيضا قول من يقول إن المعدوم شيء ثابت في الخارج مستغن عن الله فإنه قد قال وأنت لا به لا شيء وهذا يخالف فيه ابن عربي والصواب معه فيه وإن كان أضل من وجه آخر بل قوله لون آخر

فإنه جعل علمه بالأشياء عين الأشياء إذ جعل لا وجود معه إلا لعلمه بذلك الشيء وجعل نفس الأشياء علمه ولهذا أثبت التغاير من وجه وعدمه من وجه وقال فأنت به ثابت من حيثية متغايرة ومن حيثية أن علمه عين ذاته

وهذا الثاني يشبه قول الفلاسفة الذين يقولون إنه عاقل ومعقول وعقل وأن ذلك واحد

ويقال إن أبا الهذيل العلاف يقرب إلى مذهبهم

وفساد هذا القول معلوم قد بسط في غير هذا الموضع لكن هو لما التزم أن يكون وجود الأشياء غي ماهيتها وهو عندهم عين وجود الأشياء ولا بد من إثبات مغايرة الأشياء واستقبح أن يجعل الأشياء ثابتة في الأعيان جعلها عين علمه فوقع في شر مما فر منه حيث جعل نفس الأشياء الثابتة في الخارج عين علمه وهذا من جنس قوله أنه عين وجود الأشياء وهو في الحقيقة تعطيل لنفسه ولعلمه إذ جعل وجوده وجود الأشياء وعلمه هو الأشياء ثم يقول إن علمه عين ذاته فهذه ثلاث عظائم

ثم قال فإن عرفته في كل شيء عين كل شيء إلا الصورة المعينة لم تجهله في صورة أصلا ولم تكن فيمن يتجلى له في غير الصورة التي يعرفها وسيعود منه حتى يتجلى له في الصورة التي يعرفها فيتبعه وهذا وإن كان من السعداء فهو بعيد من أهل العلم بالله جدا وأي معرفة لمن يعرف المطلق مقيدا بصورة ما فهذا إلى الجهل أقرب منه إلى العلم غير أن بركة الإيمان وسعادته شملته فتنعم في الجنة من وراء غيب الإيمان ويشفع له النبي والذي صدقه فرفعت له الحجب وقتا ما فتنعم بالمشاهدة حسب حاله وعلى قدر نصيبه من رسوخه في الإيمان وأخذه بنصيبه من مقام الإحسان فإذا هو كأنه يراه لا أنه يراه وأين هذا المقام من مقام من رآه منذ عرفه في كل شيء عين كل شيء سوى تقييد الشيء وتعينه بأنه هذا فإنه لا يجوز إليه الإشارة لأنه لم تقيده صورة قط فمن عرفه كما قلنا ورآه في كل شيء لم ينسه قط ولم ينسحب عليه من عقاب الآية شيء وهي قوله تعالى نسوا الله فنسيهم حاشاهم من ذلك بل ذكروه دائما فذكرهم ورأوه في كل شيء ومع كل شيء فشاهدهم كذلك وشهد لهم بالكمال

قلت وهذا الكلام الذي ذكره من تجليه تارة في غير الصورة التي يعرفها المتجلي له حتى يتعوذ منه وما ذكره من أن هذه الحال ناقصة أخذه من كلام ابن عربي وابن عربي يحتج في ذلك بالحديث المأثور في ذلك فإن ابن عربي كان أعلم بالحديث والتصوف من هذا وإن كان كلاهما من أبعد الناس عن معرفة الحديث والتصوف المشروع بل هما أقل الناس معرفة بالكتاب والسنة وآثار سلف الأمة وابن سبعين أعلم بالفلسفة من ابن عربي

وأما الكلام فكلاهما يأخذه من مشكاة واحدة من مشكاة صاحب الإرشاد وأتباعه كالرازي فإن ابن عربي ذكر في أول الفتوحات المكية ثلاث عقائد ورمز إلى الرابعة وذكر العقيدة التي في كلام صاحب الإرشاد مجردة ثم ذكرها مع الدليل الكلامي الذي ذكره ثم انتقل إلى عقيدة فلسفية أبعد عن اعتقاد أهل الإثبات ثم رمز إلى هذا التوحيد الذي أفصح به في الفصوص وعاد قولهم إلى تحقيق التعطيل الذي هو حقيقة قول فرعون وكان نقلهم لكلام المتكلمة والمتفلسفة من كلام الرازي في المحصل وغيره وهو يذكر أن ذلك حصل له بالكشف حتى كان القاضي بهاء الدين ابن الزكي يذكر أنه كان يقع بينه وبين والده منازعة في كلامه إذ كان من الغلاة فيه المعظمين لأمره حتى حدثني محي الدين بن المصري وكان من أخص أصحابه أنه قال في معرض كلام له أفضل الخلق عندي بعد رسول الله علي وفاطمة والحسن والحسين ومحي الدين ابن عربي وكان يقول إن كلامه حصل له على طريق الكشف قال فوجدت نسخة من المحصل بخطه رخيصة جدا فجئت بها إلى والدي وقلت نسخ المحصل فلولا شدة رغبته في معرفة كلام هذا الرجل لما كان كتبها بخطه أو كلاما نحو هذا

وأما ابن سبعين فأصل مادته من كلام صاحب الإرشاد وإن أظهر تنقصه ونحوه من الكلام ومن كلام ابن رشد الحفيد ويبالغ في تعظيم ابن الصائع الشهير بابن باجة وذويه في الفلسفة وسلك طريقة الشوذية في التحقيق وأخذ من كلام أبن عربي وسلك طريقا في تحقيقهم مغايرا لطريق غيره وإن كان مشاركا لهم في الأكثر وهما وأمثالهما يستمدان كثيرا مما سلكه أبو حامد في التصوف المخلوط بالفلسفة ولعل هذا من أقوى الأسباب في سلوكهم هذا الطريق

وأبو حامد مادته الكلامية من كلام شيخه في الإرشاد والشامل ونحوهما مضموما إلى ما تلقاه من القاضي أبي بكر الباقلاني لكنه في أصول الفقه سلك في الغالب مذهب ابن الباقلاني مذهب الواقفة وتصويب المجتهدين ونحو ذلك وضم إلى ذلك ما أخذه من كلام أبي زيد الدبوسي وغيره في القياس ونحوه وأما في الكلام فطريقته طريقة شيخه دون القاضي أبي بكر وشيخه في أصول الفقه يميل إلى مذهب الشافعي وطريقة الفقهاء التي هي أصوب من طريقة الواقفة

ومادة أبي حامد في الفلسفة من كلام ابن سينا ولهذا يقال أبو حامد أمرضه الشفاء ومن كلام أصحاب رسائل إخوان الصفا ورسائل أبي حيان التوحيدي ونحو ذلك وأما في التصوف وهو أجل علومه وبه نبل فأكثر مادته من كلام الشيخ أبي طالب المكي الذي يذكره في المنجيات في الصبر والشكر والرجاء والخوف والمحبة والإخلاص فإن عامته مأخوذ من كلام أبي طالب المكي لكن كان أبو طالب أشد وأعلى

وما يذكره في ربع المهلكات فأخذ غالبه من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية كالذي يذكره في ذم الحسد والعجب والفخر والرياء والكبر ونحو ذلك

وأما شيخه أبو المعالي فمادته الكلامية أكثرها من كلام القاضي أبي بكر ونحوه واستمد من كلام أبي هاشم الجبائي على مختارات له وكان قد فسر الكلام على أبي قاسم الأسكاف عن أبي إسحاق الإسفرائيني ولكن القاضي هو عندهم أولى

ولقد خرج عن طريقة القاضي وذويه في مواضع إلى طريقة المعتزلة وأما كلام أبي الحسن نفسه فلم يكن يستمد منه وإنما ينقل كلامه مما يحكيه عنه الناس

والرازي مادته الكلامية من كلام أبي المعالي والشهرستاني فإن الشهرستاني أخذه عن الأنصاري النيسابوري عن أبي المعالي وله مادة قوية من كلام أبي الحسين البصري وسلك طريقته في أصول الفقه كثيرا وهي أقرب إلى طريقة الفقهاء من طريقة الواقفة

وفي الفلسفة مادته من كلام ابن سينا والشهرستاني أيضا ونحوهما وأما التصوف فكان فيه ضعيفا كما كان ضعيفا في الفقه

ولهذا يوجد في كلام هذا وأبي حامد ونحوهما من الفلسفة ما لا يوجد في كلام أبي المعالي وذويه، ويوجد في كلام هذا وأبي حامد ونحوهما من الفلسفة ما لا يوجد في كلام أبي المعالي وذويه، ويوجد في كلام هذا وابي المعالي وأبي حامد من مذهب النفاة المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وقدماء أصحابه ويوجد في كلام أبي الحسن من النفي الذي أخذه من المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي محمد بن كلاب الذي أخذ أبو الحسن طريقه ويوجد في كلام ابن كلاب من النفي الذي قارب فيه المعتزلة ما لا يوجد في كلام أهل الحديث والسنة والسلف والأئمة وإذا كان الغلط شبرا صار في الأتباع ذراعا ثم باعا حتى آل هذا المآل فالسعيد من لزم السنة

فصل

ومن تدبر الحديث وألفاظه على أنه حجة على هؤلاء الاتحادية الجهمية لا لهم وأنه مبطل لمذهبهم مع أنهم يجعلونه عمدتهم في دعواهم ظهوره في كل صورة من الصور المشهودة في الدنيا والآخرة حتى في الجمادات والقاذورات

والحديث مستفيض بل متواتر عن النبي وهو حديث طويل فيه قواعد من أمور الإيمان بالله وباليوم الآخر أخرجاه في الصحيحين من غير وجه من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد عن أبي هريرة وأبي سعيد

وأخرجاه أيضا من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ورواه مسلم عن جابر موقوفا كالمرفوع وهو معروف من حديث ابن مسعود وغيره ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن أناسا قالوا لرسول الله يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة

فقال رسول الله هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر قالوا لا يا رسول الله قال هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه ويضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم اللهم سلم وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان قالوا نعم يا رسول الله قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم فمنهم الموبق بعمله ومنهم المخردل أو المجازي حتى ينجي حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد أن يرحمه ممن كان يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا اثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار وقد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون

وفي لفظ البخاري منه كما تنبت الحبة في حميل السيل ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار وهو آخر أهل الجنة دخولا إلى الجنة فيقول أي رب أصرف وجهي عن النار فإنه قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها فيدعوا الله ما شاء أن يدعوه ثم يقول الله تبارك وتعالى هل عسيت أن فعلت ذلك بك أن تسأل غيره فيقول لا يا رب لا أسألك غيره ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء الله فيصرف الله وجهه عن النار فإذا اقبل على الجنة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول أي رب قدمني إلى باب الجنة فيقول الله له أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسألني غير الذي أعطيتك ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول أي رب ويدعو الله حتى يقول له فهل عسيت أن أعطيتك ذلك أن تسأل غيره فيقول لا وعزتك فيعطي ربه ما شاء من عهود ومواثيق فيقدمه إلى باب الجنة فإذا قام على باب الجنة انفهقت له الجنة فرأى ما فيها من الخير والسرور فيسكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول أي رب أدخلني الجنة فيقول الله له أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيتك ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول أي رب لا أكون أشقى خلقك فلا يزال يدعو الله حتى يضحك الله تبارك تعالى منه فإذا ضحك الله منه قال أدخل الجنة فإذا دخلها قال الله له تمنه فيسأل ربه ويتمنى حتى أن الله ليذكره من كذا ومن كذا حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله ذلك لك ومثله معه

قال عطاء بن يزيد وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يرد عليه من حديثه شيئا حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله قال لذلك الرجل ومثله معه

قال أبو سعيد وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة

قال أبو هريرة ما حفظت إلا قوله ذلك لك ومثله معه

قال أبو سعيد أشهد أني حفظت من رسول الله قوله ذلك لك وعشرة أمثاله

قال أبو هريرة وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا الجنة

وهذا الحديث من أصح حديث على وجه الأرض معروف من حديث ابن شهاب الزهري أحفظ الأمة للسنة في زمانه كان عنده عن سعيد بن المسيب أفضل التابعين وعن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة فكان تارة يحدث به عنهما وتارة عن أحدهما كما هو عادة الزهري في أحاديث كثيرة

وهذا الذي ذكرنا رواية إبراهيم بن سعد عنه عن عطاء بن يزيد ومنه رواه مسلم كما ذكر وعطف عليه رواية شعيب عنه عن سعيد بن المسيب وعطاء قال وساق الحديث بمثل معنى حديث إبراهيم وأما البخاري فرواه من حديث شعيب عن الزهري عنهما مرتين ورواه من حديث إبراهيم بن سعد أيضا الذي ساقه مسلم

ورواه من حديث معمر أيضا عن الزهري عن عطاء

وفي الصحيحين أيضا من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن ناسا في زمن رسول الله قالوا لرسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله نعم هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب قالوا لا يا رسول الله قال وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب قالوا لا يا رسول الله قال ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد ولا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب فتدعي اليهود فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد عزيز ابن الله فيقال كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون قالوا عطشنا يا رب فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار ثم تدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد المسيح بن الله فيقال لهم كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فيقال لهم ماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال ما تنتظرون فيتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى أن بعضهم ليكان أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه فيقولون نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله تعالى من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة فقال أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم قيل يا رسول الله وما الجسر قال دحض مزلة فيه خطا طيف وكلاليب وحسك تكون فيها شوكة يقال له السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاود الخيل والركبان فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد منا شدة الله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربما كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم اخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربما لم نذر فيها أحد ممن أمرتنا ثم يقول أرجوا فمن وجدتم في قلبه نصف دينار فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فأخرجوا من وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا

وكان أبو سعيد يقول إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤا إن شئتم إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفعت النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في افواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل فيكون أبيض فقالوا يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم تعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله تعالى الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ثم يقول أدخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين فيقول لكم عندي أفضل من هذا فيقولون يا ربنا أي شيء أفضل من هذا فيقول رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدا وهذا سياق مسلم من حديث حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم ثم أتبعه برواية الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم قال نحو حديث حفص بن ميسرة وزاد بعد قوله بغير عمل عملوه ولا خير قدموه فيقال لهم لكم ما رأيتم ومثله معه

قال أبو سعيد بلغني أن الجسر أدق من الشعرة وأحد من السيف وليس في حديث الليث فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين

ثم رواه من حديث هشام بن سعد قال حدثنا زيد بن أسلم نحو حديث حفص وقد زاد ونقص شيئا

وأخرجه البخاري من حديث زيد أيضا

وفي صحيح مسلم من حديث ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الورود فقال نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا

قلت صوابه على تلخيص كما جاء مفسرا أظن أن ذلك فوق الناس

قال فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول ما تنتظرون فيقولون ننتظر ربنا فيقول أنا ربكم فيقولون حتى ننظر إليك فيتجلى لهم يضحك قال فينطلق بهم ويتبعونه ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورا ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب أو حسك تأخذ من شاء الله ثم يطفىء نور المنافقين ثم ينجو المؤمنون فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون ثم الذين يلونهم كأضوإ نجم في السماء ثم كذلك ثم تحل الشفاعة ويشفعون حتى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة فيجعلون بفناء الجنة ويجعلون أهل الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبتوا نبات الشيء في السيل وتذهب حراقه ثم يسأل حتى يجعل له الدنيا وعشرة أمثالها معها

فهذه الأحاديث ونحوها اعتمدها هؤلاء الجهمية الاتحادية في قولهم أن الله يظهر في الصور كلها ويجعلونه ظاهرا في كل صورة من حيوان ونبات ومعدن وغير ذلك ليظهر في الصور كلها إذ هو الوجود كله عندهم وعندهم أن ذاته لا ترى بحال كما قال صاحب الفصوص في الحكمة الياسية

قال العقل إذا تجرد لنفسه من حيث أخذه العلوم عن نظره كانت معرفته بالله على التنزيه لا على التشبيه وإذا أعطاه الله المعرفة بالتجلي كملت معرفته بالله فنزه في موضع وشبه في موضع فرأى سريان الحق في الصور الطبيعية العنصرية وما بقيت له صورة إلا ويرى عين الحق عينها وهذه المعرفة التامة التي جاءت بها الشرائع المنزلة من عند الله وحكمت بهذه المعرفة الأوهام كلها ولذلك كانت الأوهام أقوى سلطانا مما في هذه النشأة من العقول لأن العاقل لو بلغ ما بلغ في عقله لم يخل عن حكم الوهم عليه والتصور فيما عقل فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه الصورة الكاملة الإنسانية وبه جاءت الشرائع المنزلة فشبهت ونزهت شبهت في التنزيه بالوهم ونزهت في التشبيه بالعقل فارتبط الكل بالكل فلم يتمكن أن يخلو تنزيه عن تشبيه ولا تشبيه عن تنزيه قال تعالى ليس كمثله شيء فنزه وهو السميع البصير فشبه وهي أعظم آية أنزلت في التنزيه ومع ذلك لم تخل عن التشبيه بالكاف وهو أعلم العلماء بنفسه وما عبر عن نفسه إلا بما ذكرناه ثم قال سبحان ربك رب العزة عما يصفون وما يصفونه إلا بما تعطيه عقولهم فنزه نفسه عن تنزيههم إذ حددوه بذلك التنزيه وذلك لقصور العقول عن إدراك مثل هذا ثم جاءت الشرائع كلها بما تحكم به الأوهام فلم يخل الحق عن صفة يظهر فيها كذا قالت وبذا جاءت الرسل فعملت الأمم على ذلك فأعطاها الحق التجلي فلحقت بالرسل وراثة فنطقت بما نطقت به رسل الله وبعد أن تتصور هذا فترخى الستور وتدلى الحجاب على عين المنتقد والمعتقد والصور وإن كانت من بعض صور ما تجلى فيها الحق ولكن قد أمرنا بالستر ليظهر تفاضل استعداد الصور وأن المتجلي في صور بحكم استعداد تلك الصورة فينسب إليه ما تعطيه حقيقتها ولوازمها لا بد من ذلك إلى أن قال قال الله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان إذ لا يكون مجيبا إلا إذا كان من يدعوه وإن كان عين الداعي المجيب فلا خلاف في اختلاف الصور فهما صورتان بلا مثل وتلك الصور كلها كالأعضاء لزيد فمعلوم أن زيدا حقيقة واحدة مشخصة وإن يده ليست صورة رجله ولا رأسه ولا عينه ولا حاجبه فهذا تكثير الواحد المكثر بالصور الواحد بالعين وكالإنسان واحد بالعين فلا شك أن عمرا ما هو زيد ولا خالد ولا جعفر وأن أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجودا فهو وإن كان واحدا بالعين فهو كثير بالصور والأشخاص وقد علمت قطعا إن كنت مؤمنا أن الحق عينه يتجلى في القيامة في صورة فيعرف ثم يتحول في صورة فينكر ثم يتحول عنها في صورة فيعرف وهو هو المتجلي وليس غيره في كل صورة ومعلوم أن هذه الصورة ما هي تلك الصورة الأخرى فكأن العين الواحدة قامت مقام المرآة فإذا نظر الناظر فيها إلى صورة معتقدة في الله عرفه فأقر به وإذا اتفق أن يرى فيها معتقد غيره أنكره كما يرى في المرآة صورته وصورة غيره فالمرآة عين واحدة والصور كثيرة في عين الرائي

وهذا الحديث يبين فساد مذهبهم بضد ما توهموه من وجوه

أحدها أن ناسا سألوا رسول الله هل يرون ربهم يوم القيامة ولم يسألوه عن رؤيته في الدنيا فإن هذا كان معلوما عندهم أنهم لا يرونه في الدنيا وقد أخبرهم النبي بذلك كما روي ذلك عن النبي من وجوه

منها ما رواه مسلم في صحيحه من حديث يونس وصالح عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله أخبره أن عبد الله بن عمر أخبره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انطلق مع رسول الله في رهط من أصحابه قبل ابن صياد حتى وجده يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم فلم يشعر حتى ضرب النبي ظهره بيده ثم قال رسول الله لابن صياد أتشهد أني رسول الله فنظر إليه ابن صياد

فقال أشهد أنك رسول الأميين فقال ابن صياد لرسول الله أتشهد أني رسوله الله فرضه رسول الله وقال آمنت بالله وبرسله ثم قال له رسول الله ماذا ترى فقال ابن صياد يأتيني صادق وكاذب فقال له رسول الله خلط عليك الأمر ثم قال له رسول الله إني قد خبأت لك خبأ فقال ابن صياد هو الدخ فقال له رسول الله اخسأ فلن تعدو قدرك فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذرني يا رسول الله أضرب عنقه فقال له رسول الله إن يكن هو فلن تسلط عليه وإن لم يكن هو فلا خير لك في قتله وقال سالم بن عبد الله سمعت عبد الله بن عمر يقول انطلق بعد ذلك رسول الله وأبي بن كعب إلى النخل التي فيها ابن صياد حتى إذا دخل رسول الله النخل طفق يتقي بجذوع النخل وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئا قبل أن يراه ابن صياد فرآه رسول الله وهو مضطجع على فراش في قطيفة له فيها زمزمة فرأت أم ابن صياد رسول الله وهو يتقي بجذوع النخل فقالت لابن صياد يا صاف هو اسم ابن صياد هذا محمد فسار ابن صياد فقال رسول الله لو تركته بين

قال سالم قال عبد الله بن عمر فقام رسول الله في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال إني لأنذركموه ما من نبي إلا وقد أنذره قومه لقد أنذره نوح ولكن أقول لكم قولا لم يقله نبي لقومه تعلموا إنه أعور وأن الله ليس بأعور

قال ابن شهاب وأخبرني عمر بن ثابت الأنصاري أنه أخبر بعض أصحاب رسول الله أن رسول الله قال يوم حذر الناس الدجال أنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه من كره عمله أو يقرؤه كل مؤمن وقال تعلمون أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت

وقد روي هذا المعنى من وجوه أخر عن النبي ففرق النبي بين ما قبل الموت وما بعده وأخبر أنه لن يراه أحد قبل الممات في سياق بيانه لهم أن الدجال ليس هو الله كما ذكر لهم أنه أعور وأن ربهم ليس بأعور وذكر لهم مع ذلك أنهم لا يرون ربهم في الدنيا ليعلموا أن كل ما يرى في الدنيا ليس هو الله وهذا يرفع قول بعض الجهال المتقرمطة من هؤلاء أنه لن يرى ربه حتى يموت أي تموت نفسه وهواه فإن هذا وإن لم يكن هو مدلول اللفظ ولا يحتمله مثل هذا اللفظ فلو كان حقا لم يصح أن يكون دليلا لهم على أن الدجال ليس هو ربهم فإنه إذا جوز عند موت هوى النفس أن يرى بعينه الله لم يصح حينئذ أن يكون ينفي عن كل مرئي بالعين في الدنيا أنه الله

واعلم أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وأهل السنة من جميع الطوائف متفقون على أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة عيانا كما يرون الشمس والقمر كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي ومتفقون على أنه لا يراه أحد بعينه في الدنيا كما ذكر أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن حنبل عن إسحاق بن حنبل قال سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول إن الله لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة ثبت في القرآن وفي السنة وعن أصحاب رسول الله والتابعين

وأما رؤية النبي وتنازع عائشة وابن عباس فقد بسطنا الكلام فيه في غير هذا الموضع وبينا أن الثابت عن ابن عباس ثم عن الإمام أحمد هو شيء واحد وهو إما إطلاق الرؤية وإما تقييدها بالفؤاد وأما التقييد بأنه رآه بعينه فلم يثبت لا عن ابن عباس ولا عن أحمد بن حنبل ونحوهما

وأما الأحاديث التي يرويها بعض الناس في أن النبي رأى ربه بالطواف أو بعرفة أو في بعض سكك المدينة فكلها كذب موضوعة باتفاق أهل العلم

وتنازع المتأخرون المنتسبون إلى السنة في الكفار هل يحجبون عنه في الآخرة مطلقا أو يرونه ثم يحجبون على ثلاثة أقوال

فقال طوائف من أهل الكلام والفقه وغيرهم من أصحاب مالك لا يرونه بحال وقالت طائفة منهم أبو الحسن بن سالم وغيره بل يرونه ثم يحجب عنهم كما يدل على ذلك أحاديث معروفة

وقال أبو بكر بن خزيمة بل يراه المنافقون من هذه الأمة دون غيرهم

وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع

وأما من سوى أهل السنة فلهم قولان متطرفان

أحدهما وهو قول الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة والمتفلسفة وغيرهم أنه لا يرى بحال بل رؤيته ممتنعة عندهم

والثاني قول بعض المتكلمين وبعض جهال الصوفية أنه يرى في الدنيا وقد ذكر ذلك أبو طالب المكي عن بعض الصوفية ورد عليه

وكذلك حكاه الأشعري في المقالات عن طائفة منهم

ومن الناس من يجعل للأشعري نفسه في هذه المسألة قولين وبعض أصحابه جوزوا وقوع ذلك

وليس النزاع في إمكان ذلك وقدرة الله عليه فإن هذا لا نزاع فيه بين مثبتي الرؤية وإنما النزاع هل يقع ذلك في الدنيا فمن أصحابه من يسوغ وقوعه بحسب ما تدعو إليه الدواعي وقد يحصل ذلك لبعض الناس وهذا باطل مخالف للنصوص ولإجماع السلف والأئمة بل نفاة الرؤية مع كونهم مبطلين أجل من هؤلاء وهؤلاء أقرب إلى الشرك منهم وأما هؤلاء الاتحادية فهم يجمعون بين النفي العام والإثبات العام فعندهم أن ذاته لا يمكن أن ترى بحال وليس لها اسم ولا صفة ولا نعت إذ هو الوجود المطلق الذي لا يتعين وهو من هذه الجهة لا يرى ولا اسم له ويقولون إنه يظهر في الصور كلها وهذا عندهم هو الوجود الأسمى لا الذاتي ومن هذه الجهة فهو يرى في كل شيء ويتجلى في كل موجود لكنه لايمكن أن ترى نفسه بل تارة يقولون كما يقول ابن عربي ترى الأشياء فيه وتارة يقولون يرى هو في الأشياء وهو تجليه في الصور

وتارة يقولون كما يقول ابن سبعين عين ما ترى ذات لا ترى وذات لا ترى عين ما ترى وهم جميعا يحتجون بالحديث وهم مضطربون لأن ما جعلوه هو الذات عدم محض إذ المطلق لا وجود له في الخارج مطلقا بلا ريب فلم يبق إلا ما سموه مظاهر ومجالي فيكون الخالق عين المخلوقات لا سواها وهم معترفون بالحيرة والتناقض مع ما هم فيه من التعطيل والجحود

وقد تقدم قول صاحب الفصوص في الفص الشيثي وأن المتجلي له لا يرى إلا صورته في مرآة الحق ولا رأى الحق ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه كالمرآة في الشاهد ترى الصورة فيها وهي لا ترى مع علمك أنك ما رأيت الصورة إلا فيها

وزعم أنك إذا ذقت هذا ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن تترقى في أعلى من هذه الدرج فما هو ثم أصلا وهذا تصريح بامتناع الرؤية وهو حقيقة قولهم إذ هم من غلاة الجهمية ثم مع ذلك يجعلونه نفس الموجودات كما يقول صاحب الفصوص ومن أسمائه الحسنى العلي على من وما ثم إلا هو أو عن ماذا وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات فالمسمى محدثات هي العلية لنفسها وليست إلا هو وكذلك ابن سبعين يقول فعين ما ترى ذات لا ترى وذات لا ترى عين ما ترى

واعلم أن طائفة ممن يثبت الرؤية من أصحاب الأشعري بل وبعض المنتسبين إلى الإمام أحمد يفسرون الرؤية بنحو تفسير الجهمية كالمريسي والمعتزلة فيقولون هي زيادة علم وانكشاف بحيث نعلم ضرورة ما كان يعلم نظرا وهؤلاء يجعلونها من جنس العلم

وأرفع منهم من يجعلها مع تعلقها بالعين وكونها مشروطة بوجود المرئي من هذا النمط فيقول هي مجرد خلق إدراك في العين وأنه لا حجاب إلا المانع المضاد لها في محل الرؤية فإذا أزيل حصلت الرؤية كما أنه لا مانع من العلم إلا الجهل المضاد فإذا زال حصلت الرؤية ولضرار وحفص الفرد والنجار في نفس الرؤية أقوال قريبة من هذا ليس هذا موضعها وكل ذلك فرارا مما أخبر به الرسول من الرؤية

العيانية وهو قد أفصح بها غاية الإفصاح وأوضحها غاية الإيضاح وبين لهم أعظم رؤية يعرفونها وأنه يرونه كذلك فزالت الشبهة

وقد ناظرت غير واحد من هؤلاء من نفاة الرؤية ومحرفيها من شيعي ومعتزلي وغيرهما وذكرت لهم الشبهة التي تذكرها نفاة الرؤية فقلت هي كلها مبنية على مقدمتين

إحداهما أن الرؤية تستلزم كذا وكذا كالمقابلة والتحيز وغيرهما

والثاني أن هذه اللوازم منتفية عن الله تعالى فكل ما يذكره هؤلاء فأحد الأمرين فيه لازم إما أن لا يكون لازما بل يمكن الرؤية مع عدمه وهذا المسلك سلكه الأشعري وطوائف كالقاضي أحيانا وابن عقيل وغيرهم لكن أكثر العقلاء يقولون إن من ذلك ما هو معلوم الفساد بالضرورة

وإما أن يكون لازما فلا يكون محالا فليس في العقل ولا في السمع ما يحيله بل إذا قدر أنه لازم للرؤية فهو حق لأن الرؤية حق قد علم ذلك بالاضطرار عن خير البرية أهل العلم بالأخبار النبوية

وهؤلاء الاتحادية لما فهموا قول هؤلاء الذين لا حقيقة للرؤية عندهم إلا زوال حجاب في الإنسان كالآفة التي فيه المانعة من الرؤية قالوا إنه يمكن زوال هذا الحجاب فتحصل المشاهدة وضموا ذلك إلى بقية أصولهم الفاسدة من أنه لي مباينا لعباده بل هو الوجود المطلق فقالوا يرى في الظاهر وإن كانت ذاته لا ترى بحال

وهذا الكلام هو تعطيل للخالق ولرؤيته ودعوى الربوبية لكل أحد كما قال صاحب الفصوص ولما كان فرعون في منصب التحكم وأنه الخليفة بالسيف وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال أنا ربكم الأعلى أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيهم ولما علمت السحرة صدقه فيما قاله لم ينكروه وأقروا له بذلك وقالوا له إنما تقضي هذه الحياة الدنيا فاقض ما أنت قاض فالدولة لك فصح قوله أنا ربكم الأعلى وإن كان عين الحق

فإذا كان قد جعل فرعون صادقا في قوله أنا ربكم الأعلى وهو عنده عين الحق فالدجال أيضا أحق بهذا الصدق فإنه يقول للسماء أمطري فتمطر وللأرض أنبتي فتنبت وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج الخربة كنوزها تتبعه

ففي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان قال ذكر رسول الله الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل فلما رجعنا إليه عرف ذلك فينا فقال ما شأنكم قلنا يا رسول الله ذكرت الرجال فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط عينه طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ فواتح سورة الكهف إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلوات يوم قال لا أقدروا له قدره قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض قال كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأشبعه ضروعا وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ويمر بالخربة فيقول أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلا ممتلأ شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويهلل ووجهه يضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ثم يأتي عيسى قوما قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجات في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى أن قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد أن يقاتلهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله وأصحابه فيرسل الله عليهم النفف في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتطرحهم حيث شاء الله ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض كلها حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض أنبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون تحتها ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت أباطهم فتفيض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة

وفي الصحيحين من حديث ابن شهاب أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا سعيد الخدري قال حدثنا رسول الله يوما حديثا طويلا عن الدجال فكان فيما حدثنا قال يأتي وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خير الناس فيقول له أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله حديثه فيقول الدجال أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر فيقولون لا فيقتله ثم يحييه فيقول حين يحييه والله ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني الآن قال فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه

وفي صحيح مسلم من حديث أبي الوداك واسم أبي الوداك جبر بن نوف عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله يخرج الدجال فيتوجه قبله رجل من المؤمنين فتلقاه مشايخ الدجال فيقولون له أين تعمد فيقول اعمد إلى هذا الذي خرج قال فيقولون له أو ما تؤمن بربنا فيقول ما هو بربنا حقا فيقولون اقتلوه فيقول بعضهم لبعض أليس قد نهاكم ربكم من أن تقتلوا أحدا دونه قال فينطلقون به إلى الدجال فإذا رآه المؤمن قال يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكره رسول الله فيأمر الدجال به فيشبح فيقول خذوه واشبحوه فيوسع ظهره وبطنه ضربا فيقول أو ما تؤمن بي قال فيقول أنت المسيح الكداب قال فيؤمر به فيوشر بالميشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه قال ثم يمشي الدجال بين القطعتين قال ثم يقول له قم فيستوي قائما ثم يقول أتؤمن بي فيقول ما ازددت فيك إلا بصيرة قال ثم يقول أيها الناس إنه لا يفعل هذا بعدي بأحد من الناس قال فيأخذ الدجال ليذبحه فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا فلا يستطيع إليه سبيلا قال فيأخذه بيديه ورجليه فيقذف به فيحسب الناس إنما قذفه في النار وإنما ألقي في الجنة فقال رسول الله هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين فإذا كان فرعون صادقا في قوله أنا ربكم الأعلى مع أنه لم يأت بشبهة صادقة فالدجال أحق أن يكون صادقا على قول هؤلاء ويكفيك بقوم ضلالا أن يكون فرعون والدجال صادقين على مذهبهم وهما أعظما عدو لله من الإنس وأعظم الخلق فرية في دعوى الإلهية ولهذا أنذرت الرسل جميعها بالدجال وأما فرعون فلم يذكر الله في القرآن قصة كافر عدو له أكثر وأكبر من قصته ومعلوم أن موسى وعيسى هما الرسولان الكريمان صاحبا التوراة والإنجيل وموسى أرسل إلى فرعون وعلى يديه كان هلاكه والدجال ينزل الله إليه عيسى بن مريم فيقتله فيقتل مسيح الهدى الذي قيل أنه الله مسيح الضلالة الذي يزعم أنه الله ولما كانت دعواه الربوبية ممتنعة في نفسها لم يكن ما معه من الخوارق حجة لصدقه بل كانت محنة وفتنة يضل الله بها من يشاء ويهدي من يشاء كالعجل وغيره لكنه أعظم فتنة وفتنته لا تختص بالموجودين في زمانه بل حقيقة فتنته الباطل المخالف للشريعة المقرون بالخوارق فمن أقر بما يخالف الشريعة لخارق فقد أصابه نوع من هذه الفتنة وهذا كثير في كل زمان ومكان لكن هذا المعين فتنة أعظم الفتن فإذا عصم الله عبده منها سواء أدركه أو لم يدركه كان معصوما مما هو دون هذه الفتنة فكثير يدعون أو يدعى لهم الإلهية بنوع من الخوارق دون هذه

وآخرون يدعون النبوة وآخرون يدعون الولاية أو المهدية أو ختم الولاية أو الرسالة أو المشيخة وقد رأيت من هؤلاء طوائف

وفي الصحيحين من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي قال لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريبا من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله

وفي الصحيح عن سماك عن جابر بن سمرة قال سمعت رسول الله يقول إن بين يدي الساعة كذابين

قال سماك وسمعت أخي يقول قال جابر فاحذروهم

وقد روى مسلم في أوائل الصحيح من وجهين عن مسلم بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم

وهذا كما يدخل فيه من يحدث عن غيره فالذي يقول إنه يحدث عن قلبه عن ربه أو أنه يأخذ عن الله بلا واسطة وأنه يأخذ من حيث يأخذ الملك الذي يوحى به إلى الرسول وأنه يحدث بمقتضى الأقيسة القطعية أولى فإن هذا يدعي ما هو عنده أعلى وإن كان له نصيب من قوله تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله

وقد سأل بعضهم مالكا عن بعض من كان بالعراق من هؤلاء المبطلين فقال كلمة أو كلاما فيه هؤلاء الدجاجلة قال ما سمعت جمع دجاجلة إلا من مالك

وأصل الدجل التغطية والتمويه والتلبيس ومعلوم أن أتباع مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وطليحة الأسدي وسجاح كانوا مرتدين وقد قاتلهم أصحاب رسول الله مع أن مسيلمة إنما ادعى المشاركة في النبوة لم يدعي الألوهية ولا أتى بقرآن يناقض التوحيد بل جاء بكلام يتضمن ما ادعاه من الشركة في الرسالة وأسجاع من الكلام الذي لا فائدة فيه ولهذا قال أبو بكر لبعض بني حنيفة وقد استقرأهم شيئا من قرآن مسيلمة فلما قرأوه قال ويحكم أين يذهب بعقولكم إن هذا الكلام لم يخرج من إل

وذلك نحو قوله يا ضفدع بنت ضفدعين نقي ما تنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين رأسك في الماء وذنبك في الطين

وقوله والزارعات زرعا والحاصدات حصدا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا أهالة وسمنا إن الأرض بيننا وبين قريش نصفين ولكن قريش قوم لا يعدلون

وقوله والفيل وما أدراك ما الفيل له زلوم طويل إن ذلك من خلق ربنا الجليل

ولما كتب إلى رسول الله من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإني أشركت في الأمر معك فكتب النبي يقول من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإنك لو سألتني بياض هذه ما أعطيتك إياه

فمن ادعى أنه مؤمن بما يقوله هؤلاء وإن اتبع الرسول في الشرائع مع مشاركته له في مشاهدة ذلك فهو فوقه في التحقيق والعلم بالله لأنه يأخذ من حيث الملك الذي يوحي به إلى الرسول

فلا ريب أن هذا القول أعظم فرية من قول مسيلمة الكذاب لكن هؤلاء لم يكونوا طائفة ممتنعة يدا ويحاربون فيها المسلمون بل هم موافقون في الظاهر على أنه لا رسول إلا محمد وأكثر أتباعهم لا يعلمون أن هذا قول رئيسهم

ثم منهم قوم منافقون لا يجهرون بذلك بين المسلمين كما كان مسيلمة يجهر بدعواه النبوة حتى كان مؤذنه يقول أشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله ومن هؤلاء من هو في الباطن أكفر من المشركين فضلا عن أهل الكتاب ومنهم قوم يقرأون الكتب المتضمنة لذلك علانية وقد لا يفهمون ما فيها من الكفريات

وقد قال لي أفضل شيوخ هؤلاء بالديار المصرية لما أوقفته على بعض ما في هذا الكتاب مثل هذا الموضع وغيره فقال هذا كفر وقال لي في مجلس آخر هذا الكتاب عندنا من أربعين سنة نعظمه ونعظم صاحبه ما أظهر لنا هذه المصائب إلا أنت

ومنهم طائفة قد لا يكونون متعمدين الكذب لكنهم ملبوس عليهم الضلالة بحيث يظنون أن الرسول لم يعلم الحقائق وإنما علم الأعمال الظاهرة ويشركون في ذلك إخوانهم من المتفلسفة في نحو ذلك وتجد هؤلاء لا يعتمدون على الأمور العلمية والمسائل الخبرية عن الله تعالى وأسمائه وصفاته على كلام الله ورسوله وهذا من أصول الضلال التي وقع فيها أو في بعضها طوائف من أهل الزيغ والمنافقين

ومنهم طائفة يتأولون بعض هذه المقالات الكفرية إذا خاطبهم الجاهل الذي لا يفهم ما فيها أو يفوضون علمها إلى الشيخ ويقولون الشيخ أعلم بما قال كأنه نبي معصوم مع كثرة ما في كلامه من الباطل والكذب والجهل وإن لم يكن كفرا مع ما فيها من الكفر بل قول هؤلاء يتضمن تعطيل التوحيد وحقيقة الرسالة وهما أصلا الإسلام

وقد تتضمن أيضا تعطيل الإيمان بما في اليوم الآخر من الثواب والعقاب بل ويتضمن أيضا تعطيل ما جاءت به الرسل من الأمر والنهي فهذه أصول الإيمان في كل ملة وزمان الإيمان بالله ورسله وباليوم الآخر والعمل الصالح قال تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبييين

وقال تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله

وفي حديث جبريل الذي في الصحيح من حديث أبي هريرة في مسلم ومن حديث عمر وهو طويل في أول مسلم قال ما الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة

وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون

وقال تعالى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى

ولما كان هؤلاء من إخوان القرامطة الفلاسفة الباطنية وأولئك بدلوا الأصول الثلاثة التي هي أصول السعادة في كل ملة الإيمان بالله وباليوم الآخر والعمل الصالح كما ذكر ذلك في سورة البقرة والمائدة فذكر الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين بقوله تعالى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وفي البقرة فلهم أجرهم عند ربهم

فالقرامطة الذين يضاهئون الصابئة الفلاسفة والمجوس الثنوية عطلوا وحرفوا الإيمان بالله وكذلك الإيمان باليوم الآخر وكذلك العمل الصالح حتى جعلوا ما جاءت به الشريعة من أسماء الأعمال إنما هي رموز وإشارات إلى حقائقهم كقولهم إن الصلاة معرفة أسرارنا والصيام كتمان أسرارنا والحج زيارة شيوخنا المقدسين وأمثال ذلك كان في كلام هؤلاء من التعطيل والتحريف للإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ما ضاهوهم به وكما أن مذهب القرامطة وإلحادها ونفاقها لم يكن يظهر ابتداء لمن اتبعهم من الشيعة بل كانوا أولئك يظنون أنهم متبعون للشريعة وكان في الشيعة من البدعة من والوهم عليه مع تمسك الشيعة بما هم عليه من الإسلام كذلك قول هؤلاء لا يظهر ابتداء لمن اتبعهم من مفرط في معرفة السنة من متجهم ضعيف في التصوف أو في التفقه بل يكون فيه من البدعة والأهم عليه وهو متمسك بما هو عليه من الإسلام ولكن المحققون منهم لطريقهم هم الذين يصيرون مثل القرامطة كما قيل لأفضل محققيهم وقد قرىء عليه الفصوص هذا يخالف القرآن فقال القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا

وقال لا فرق بين الزوجة والأم عندنا ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا عليكم

ولهذا تجد المحقق منهم يستحل المحرمات من الخمر والفواحش وترك الصلوات والكذب وموالات اليهود والنصارى بل يكون أعظم شرا في الباطن من اليهودي والنصراني المتمسك بشريعته المبدلة المنسوخة ولكن في اليهود والنصارى من هو شر منهم لموافقته لهم على هذا الإلحاد ولما كانت القرامطة إنما لبسوا على الناس بدخولهم من باب موالاة أولياء الله من أهل البيت كذلك دخل هؤلاء من من باب موالاة أولياء الله ولما كان في غلاة الشيعة من يعتنق نبوة علي أو ألوهيته وكان أيضا في غلاة المتنسكة من يعتقد في بعض المشايخ إلاهية أو نبوة كان هؤلاء كذلك وزادوا على ذلك حيث جعلوا خاتم الأولياء أعلى من جميع الأنبياء والرسل حتى خاتم الرسل وجعلوا الإلهية في كل شيء

ولما كان للقرامطة في الدعوة مراتب كذلك لهؤلاء في إلحادهم مراتب فأول ذلك زعمهم أن الولاية أفضل من النبوة والنبوة أفضل من الرسالة وينشدون

مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي

وهذا مما يبوحون به لعوامهم ويناظرون الناس عليه ويقولون ولاية النبي أفضل من نبوته ونبوته أفضل من رسالته لأن ولايته اتصاله بالله والنبوة إخبار الحق له والرسالة تبليغه للناس والأول أرفع فهذه مقدمة

ثم يقولون والولاية باقية إلى يوم القيامة وتلك الولاية بعينها التي كانت للرسول هي باقية في أمته فتارة يقولون هي في كل زمان لشخص وتارة يقولون هي لخاتم الأولياء

وهؤلاء قد يعظمون الإمام أحمد جدا والشيخ عبد القادر جدا فإن ابن عربي يعظم هذين جدا وينتسب في الخرقة إلى الشيخ عبد القادر وهم يغلون في ذلك حتى أنه كان كثير من شيوخهم له غلو في الشيخ عبد القادر فأخذ يفسر ما ينقل عنه من أنه قيل له يا سيد الخلق بعد الحق وأصحابه المقتصدون يفسرون ذلك بسيد أهل زمانه فزعم هذا الشيخ أنه سيد الخلق مطلقا بناء على أن الولاية المحمدية قائمة به ومن اتصف بها كان السيد مطلقا وجرى هذا بمجلس كنت فيه وكان فيه أحد المشايخ من أولاد الشيخ عبد القادر وهو رجل مسلم لا يعتقد شيئا من هذا لكن ذكر صاحب المجلس هذا عن ذلك الشيخ الغالي وأن آخر رد عليه وكان هذا الراد قد اعتدى علينا فقلت الصواب مع هذا الراد كائنا من كان فإن الحق يجب اتباعه من كل أحد والباطل يجب رده على كل أحد وهذا باطل ما يقوله مسلم فإن الولاية القائمة بالنبي هي بعينها لا تنتقل إلى أحد وأما مثلها فلم يحصل لأبي بكر وعمر ولا لأحد من الأنبياء والرسل، فضلا عن أن تحصل للشيخ عبد القادر أو غيره وهذا من جنس ما تدعيه الرافضة الإمامية من العصمة عن علي وغيره ويجعلونهم مثل رسول الله وكان بالشام طائفة منهم سألوا مرة أبا البقاء خلف بن يوسف النابلسي الشيخ المحدث المشهور فقالوا يا زين الدين أنت تقول إن مولانا أمير المؤمنين عليا ما كان معصوما فقال ما أخفيكم شيئا وكان يقول مثل هذا كثيرا أبو بكر وعمر عندنا خير منه وما كانا معصومين

وأقبح من غلو هؤلاء ما كان عليه المتسمون بالموحدين في متبوعهم الملقب بالمهدي محمد بن التومرت الذي أقام دولتهم بما أقامها به من الكذب والمحال وقتل المسلمين واستحلال الدماء والأموال فعل الخوارج المارقين ومن الإبتداع في الدين مع ما كان عليه من الزهد والفضيلة المتوسطة ومع ما ألزمهم به من الشرائع الإسلامية والسنن النبوية فجمع بين خير وشر لكن من أقبح ما انتحلوه فيه خطبتهم له على المنابر بقولهم الإمام المعصوم والمهدي المعلوم

وبلغني أن بعض عقلاء خلفائهم جمع العلماء فسألهم عن ذلك فسكتوا خوفا لأنه كان من تظاهر بإنكار شيء من ذلك قتل علانية إن أمكن وإلا قتل سرا ويقال أنهم قتلوا القاضي أبا بكر بن العربي والقاضي عياضا السبتي وغيرهما

وجهالهم يغلون في ابن التومرت حتى يجعلوه مثل النبي وينشدون

إذا كان من بالشرق في الغرب مثله ... فللوا له المشتاق أن يتحيرا

وهم يقولون في الخطبة الذي أيد بالحكمة فكان أمره حتما واكتنف بالعدل اللائح والنور الواضح الذي ملأ الأرض فلم يدع فيها ظلاما ولا ظلما

وقد اتفق المسلمون على أنه ليس من المخلوقين من أمره حتم على الإطلاق إلا الرسل الذين قال الله تعالى فيهم وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله وأما من دونهم فيطاع إذا أمر بما أمروا به وأما إذا أمربخلاف ذلك لم يطع كما في الصحيحين عن النبي أنه قال من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني

وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن عمر عن النبي أنه بعث أميرا على سرية قال على المرء السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية الله فإذا أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة

وقد قال الصديق رضي الله عنه لما تولى أيها الناس القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق والضعيف فيكم القوي عندي حتى آخذ له الحق

وقال أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم وبلغني أن ذلك المستخلف لما جمع العلماء وسألهم عن قولهم المعصوم وأمسك الأكثرون قام بعضهم فقال قد أجمع المسلمون وأهل السنة أو العلماء أو كما قال على أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وأجمعوا أنه لم يكن معصوما وانفض المجلس على بطلان قولهم المعصوم وأزيلت من المنابر إما من ذلك المجلس أو غيره وقد اتفق أئمة الدين على أنه لا معصوم في الأمة غير رسول الله

وقول بعضهم النبي معصوم والولي محفوظ إن أراد بالحفظ ما يشبه العصمة فهو باطل وهذا باب دخل منه الضلال على طوائف ضاهوا النصرانية، كما قال تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون

وقد روي عن النبي أنه قال أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فكانت تلك عبادتهم

وقال تعالى (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا) هذا حق الخالق (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) وهذا حق المخلوق (فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون)

فتارة يجعلون في المعظمين من البشر نوعا من الإلهية وهذا قد ظهر قبحه وبطلانه أكثر من القسم الثاني وهو أنهم يضاهون بالرسل المعظمين من غير الرسل وكل من هذين خلل في الشهادتين اللتين هما أصل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين والمرسلين

وأما الغلاة من الرافضة وأشباههم الذين يصرحون بعصمة من يعظمونه من الأئمة والمشايخ والعلماء فضلا لهم أظهر من ضلال طائفة أخرى وهم لا يقولون أنهم معصومون لكن يعاملونهم معاملة المعصوم حتى قد يعادى أحدهم من يقول عن أحدهم أنه أخطأ وإن كان القائل معظما لمن قال ذلك فيه مكرما له مجلا له ولم يقل ذلك على وجه الانتقاص ولكن البيان أنه لا معصوم إلا رسول الله وأن من سواه يصيب ويخطىء بل قد يستحل عقوبته أو أذيته للقول الذي أجمع أئمة الدين على أنه الحق الذي يجب اعتقاده كما قال النبي لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في تعبير الرؤيا أصبت بعضا وأخطأت بعضا والحديث في الصحيحين وكما قال لما ذكرت له سبيعة عن أبي السنابل بن بعكك أنه قال ما أنت بناكحة حتى تعتدي الأجلين فقال كذب أبو السنابل حللت فانكحي

وهذه الفتيا قد أفتى بها علي وابن عباس

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر

وقال إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه وفي الترمذي لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر وقال ابن عمر ما سمعت عمر يقول لشيء كذا وكذا إلا كان كما كان يقول

وقال علي كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر

ومع هذا فقد كان الصديق الذي هو أفضل منه يقومه في أشياء كثيرة كما قومه يوم صلح الحديبية ويوم موت النبي بل كان آحاد الناس يبين له الصواب فيرجع إلى قوله كما راجعته امرأة في قوله لئن بلغني أن أحدا زاد على صداقه أزواج النبي وبناته إلا رددت الفضل في بيت المال فقالت له امرأة لم تحرمنا شيئا أعطانا الله إياه وقرأت قوله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا فرجع إلى قولها وأمثال هذا ولما كان أهل العراق يحتجون على الشافعي بقول علي وعبد الله جمع كتاب اختلاف علي وعبد الله وذكر كثيرا من المسائل التي ترك الناس فيها قولهما والسنة بخلاف ذلك وأعظم الناس موافقة للسنة أبو بكر الصديق فإنه لا يكاد يحفظ له مسألة يخالف بها النص كما حفظ لغيره من الخلفاء والصحابة ومع هذا فقد قال له النبي ما تقدم ذكره وهذا كله لاينازع فيه أحد من أهل العلم والدين ولكن ابتلى المسلمون بجهال وضلال يدعون الحقائق والأحوال وهم لم يعرفوا معرفة عموم المسلمين من النساء والرجال

وأما الرسول فعصمته فيما استقر تبليغه من الرسالة باتفاق المؤمنين كما قال الله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم

وليس هذا موضع ذكر تنازع الناس هل كان الإلقاء في السمع أو في اللفظ إذ لا نزاع بين الأئمة في أنه لا يقر على ما هو خطأ في تبليغ الرسالة فإن معصوم الرسالة لا يحصل مع تجويز هذا

وأما تنازع الناس في غير هذا كتنازعهم في وقوع الخطأ والصغائر فإنهم أيضا لا يقرون على ذلك فإذا قيل هم معصومون من الإقرار على ذلك كان في ذلك احتراز من النزاع المشهور بل إذا كان عامة السلف والأئمة وجمهور الأمة يجوز ذلك على الأنبياء ويقولون هم معصومون من الإقرار على الذنوب ويقولون وقوع ما وقع إنما كان لكمال النهاية لا لتفضيل البداية فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين كما دل الكتاب والسنة والآثار على ذلك

وما في ذلك من التأسي والاقتداء بهم فكيف يغيرهم لكن غيرهم ليس معصوما من الإقرار على خطأ إذ أفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون ولا يقدح في صديقيتهم وقوع الخطأ منهم بل لولا ذلك لكان الصديق بمنزلة النبي والذين يغلون في هؤلاء هو أن قصد تعظيمهم بذلك فيه غض ونقص بمن هو خير منهم وهم الأنبياء والرسل كما أن الذي يغلو في الأنبياء والرسل يكون غلوه عيبا وغضا بالألوهية كما قال تعالى ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون

وفي الصحيحين عنه أنه قال لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله

وقال تعالى قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسوله ولا النبي الأمي تقولوا ثلاثة انتهوا خير لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا

وقال تعالى قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل

وهؤلاء يسبون الله كما كان معاذ بن جبل يقول لا ترحموهم فقد سبوا الله مسبة ما سبه بها أحد من البشر

وفي الصحيح عن النبي أنه قال ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله يجعلون له ولدا وشريكا وهو يعافيهم ويرزقهم وفي الصحيح أيضا عن النبي أنه قال يقول الله تعالى شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله أن لي ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته

والله سبحانه وتعالى له حقوق لا يشركه فيها أحد ورسله لهم حقوق لا يشركهم فيها غير الرسل والإقرار بهذين هو أصل الإسلام فحق الله تعالى أن نعبده ولا نشرك به شيئا كما في الصحيحين عن معاذ بن جبل قال قال النبي يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم قال حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال أن لا يعذبهم وقد أخبر الله سبحانه عن كل من المرسلين كنوح وهود وصالح أنه قال اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال فاتقوا الله وأطيعون وقال ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون فالطاعة لله ولرسله المبلغين عنه كما قال تعالى ومع يطع الرسول فقد أطاع الله

وأما الخشية والتقوى فلله وحده وقال تعالى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا فالتسبيح لله وحده والتعزير والتوقير للرسول والإيمان بالله ورسوله وقال تعالى إياك نعبد وإياك نستعين وقال تعالى فلا تخشوا الناس واخشون وقال إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين وقال عن إبراهيم فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له وقال تعالى واذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون

وقال فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب وقال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وقال قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له وقال تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقال ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وقال ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع وقال قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا وقال تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله

ومثل هذا في القرآن كثير بل هذا هو أصل المقصود بالقرآن وأما الرسول فقد قال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم

وقال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره وقال تعالى يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه وقال تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله

ففي التوكل قالوا حسبنا الله ولم يقولوا ورسوله وفي الإيتاء قالوا سيؤتينا الله ورسوله لأن الإيتاء المحمود لا بد أن يكون مما أباحه الرسول وأذن فيه مبلغا عن الله وإلا فمن أوتي ملكا أو مالا غير مأذون له فيه شرعا كان معاقبا عليه وإن جرت به المقادير إذ يجب الفرق بين الإيتاء الكوني والديني كما يجب الفرق بين القضاء الكوني والديني والأمر الكوني والديني والحكم الكوني والديني والإرادة الكونية والدينية والكلمات الكونية والدينية والإذن الكوني والديني والبعث الكوني والديني والإرسال الكوني والديني وأشباه ذلك مما دل القرآن على الفرق بينهما فما كان موافقا للشريعة التي بعث بها رسوله فهو الدين الذي يقوم به المؤمنون وما كان مخالفا لذلك وإن كان قدره الله ويكون شرا في حق صاحبه وعقوبة وكان عاقبته فيه عاقبة سوء فإن العاقبة للمتقين ولا حجة لأحد بالقدر بل المحتج به حجته داحضة والمعتذر به عذره غير مقبول وقال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم وأبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله إلا إن حزب الله هم المفلحون وقال تعالى يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول

وقال تعالى واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير

وقال تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب

وقد ذكر طاعة الرسول في أكثر من ثلاثين موضعا من القرآن فهذا وأمثاله من حقوق الرسول

وأما المؤمنون وولاة الأمور من العلماء والأمراء ومن يدخل في ذلك من المشايخ والملوك فلهم حقوق بحسب ما يقومون به من الدين فيطاعون في طاعة الله ويجب له من النصيحة والمعاونة على البر والتقوى وغير ذلك ما هو من حقوقهم لعموم المؤمنين أيضا من المناصحة والموالاة وغيرها من الحقوق ما دل عليه الكتاب والسنة وليس هذا موضع تفصيل ذلك

وكل من جعل غير الرسول بمنزلة الرسول في خصائص الرسالة فهو مضاه لمن جعل معه رسولا آخر كمسيلمة ونحوه وإن افترقا في بعض الوجوه ثم يكون هؤلاء شرا إذا فضلوا متبوعهم على الرسول وقد يكون اتباع مسيلمة شرا إذا كان متبوع هؤلاء مؤمنا بالله ورسوله ولم يفضلوه على الرسول

ولما أظهرت ما في كتب هؤلاء من النفاق والإلحاد أخذ بعض من يقول بتفضيل الولي على الرسول ونحو ذلك يتأولون ذلك على ما تقدم ذكره من تفضيل ولاية الرسول على نبوته ورسالته حتى خاطبني في ذلك بعضهم وأخذ يتأول كلام ابن عربي في استفادة الأنبياء والرسل من مشكاة ناره لأنه هو ولاية الرسول والرسل يستفيدون من مشكاة خاتم الرسل فيلزم أنهم يستفيدون من مشكاة خاتم الأولياء فأخذت أولا أوقفه على ألفاظ ابن عربي المتقدمة التي كتبتها هنا حيث ذكر فيها إن هذا العلم الذي هو تحقيقهم وتوحيدهم وحقيقته التعطيل ليس إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة خاتم الأولياء حتى أن الرسل لا يروونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته ينقطعان والولاية لا تنقطع أبدا فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف بمن دونهم من الأولياء وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فلذلك لا يقدح في مقدمه ولا يناقض ما ذهبنا إليه فإنه من وجه يكون أعلى ومن وجه يكون أنزل

فقد صرح في هذا الكلام بعد أن زعم أن الأنبياء والرسل لا يرونه إلا من مشكاة خاتم الرسل وأن الأنبياء والرسل أيضا لا يرونه أيضا إلا من مشكاة خاتم الأولياء لكونهم أيضا أولياء ثم أعاد قوله فقال فالمرسلون من كونهم أيضا أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء

وهذا تصريح بأن ولايتهم القائمة بهم دون ولاية خاتم الأولياء ضد ما يتظاهرون به ثم صرح بأن خاتم الأولياء أعلى من خاتم الأنبياء من وجه وصرح فيما بعد بأنه موضع لبنتين

فقال فهو موضع اللبنة الفضية وهو ظاهره ومايتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله في السر ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه فإنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا

فزعم أنه مع متابعته له في الأحكام الظاهرة يأخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه وهذا مقام مسيلمة الكذاب

ولا ريب أن هارون وإن كان نبيا مع موسى فلم يكن معه بهذه المنزلة بل كان موسى يبلغه عن الله ما لم يكن يأخذه هارون عن الله وهذا ادعى أنه مع محمد فوق ما كان هارون مع موسى ولم يرض بذلك بل هذا في الأحكام الظاهرة فقط وهذا أيضا مقام الذين إذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله وهذا يزعم أنه قد أوتي مثل ما أوتي رسل الله

ثم قال وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول

فزعم أنه يأخذ من فوق الملك والرسول يأخذ من الملك فهو أعلى منه في أعلى القسمين وهو علم التحقيق والمعرفة كما قال في أثناء كلامه فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة وإنما نظر الرجال إلى التقدم في رتبة العلم بالله فهناك مطلبهم وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها

وإذا كان متقدما على الرسول في أعلى القسمين وهو العلم ومشارك له في العلم بالأحكام فمعلوم أن مسيلمة الكذاب لم يدع مثل هذا ولا المختار بن أبي عبيد الكذاب الذي ثبت فيه الحديث الذي في صحيح مسلم عن أسماء عن النبي أنه قال وسيكون في ثقيف كذاب ومبير

فالمبير كان هو الحجاج، والكذاب هو المختار بن أبي عبيد

وقد قيل لابن عمر أو لابن عباس إن المختار يزعم أنه يوحى إليه فقال صدق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون

وقيل لآخر إن المختار يزعم أنه ينزل عليه فقال صدق هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم

فلما اريت هذا لمن كان يعظمهم غاية التعظيم ويتأول كلامهم على ما تقدم انبهر حيث رآه قد صرح بالتفضيل على النبي وعلى جميع الأنبياء وأنهم يأخذون من مشكاة ولاية نفسه لا من ولاية الرسول ثم بينت له بطلان تلك الأصول بأن أحدا من الرسل لم يأخذ عن الآخر هذا العلم لوجهين

أحدهما أن هذا إلحاد وتعطيل لا يعتقده إلا زنديق فكيف يعتقده رسول

الثاني أن الرسل أوصى الله إليهم وعلمهم ما علمهم لم يحلهم في ذلك على من يخلق بعد فقد تيقن أن قول هؤلاء يستلزم قول الدجال بخلاف مسيلمة ونحوه ممن تعمد للكذب وبخلاف القرامطة وما استلزم الباطل فهو باطل

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليستعذ بالله من اربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال

وفي لفظ له وإذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال

وفي رواية طاوس سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله عوذوا بالله من عذاب النار عوذوا بالله من عذاب القبر عوذوا بالله من فتنة المسيح الدجال عوذوا بالله من فتنة المحيا والممات وروى الأعرج عن أبي هريرة مثله

وفي إفراد مسلم عن أبي الزبير عن طاوس عن ابن عباس أن رسول الله كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن يقول قولوا اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات

قال مسلم بلغني أن طاوسا قال لابنه دعوت بها في صلاتك قال لا قال أعد صلاتك

وهذا الذي ذكره عن طاوس قول طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم يرون وجوب هذا الدعاء ولا ريب أنه أوكد الأدعية المشروعة في هذا الموضع فإن النبي لم ينقل عنه أنه أمر بدعاء بعد التشهد إلا هذا الدعاء وإنما نقل عنه أنه كان يقول أدعية مشروعة وأمره أوكد من فعله باتفاق المسلمين ولهذا كان الذين ذكروا هذا الدعاء في هذا الموضع من المصنفين أعلم بالسنة واتبع لها ممن ذكر غيره ولم يذكره

وقد ثبت عن النبي أنه أمر أصحابه بهذا التعوذ خارج الصلاة أيضا وقد جاء مطلقا ومقيدا في الصلاة ومعلوم أن ما ذكر معه من عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات أمر به كل مصل إذ هذه الفتن مجرية على كل أحد ولا نجاة إلا بالنجاة منها فدل على أن فتنة الدجال كذلك ولو لم تصب فتنته إلا مجرد الذين يدركونه لم يؤمر بذلك كل الخلق مع العلم بأن جماهير العباد لا يدركونه ولا يدركه إلا أقل القليل من الناس المأمورين بهذا الدعاء وهكذا إنذار الأنبياء إباه أممهم حتى أنذر نوح قومه يقتضي تخويف عموم فتنته وإن تأخر وجود شخصه حتى يقتله المسيح بن مريم عليه السلام وكثيرا ما كان يقع في قلبي أن هؤلاء الطائفة ونحوهم أحق الناس باتباع الدجال فإن القائلين بالاتحاد أو الحلول المعين كقول النصارى في المسيح والغالية الهالكة في علي أوفيه وفي غيره كما ذهب إلى ذلك طوائف من غلاة الشيعة وغلاة المتصوفة لا يمتنع على قولهم أن يكون الدحال ونحوه هو الله فكيف القائلون بالوحدة أو الاتحاد أو الحلول المطلق الذين يجعلون فرعون والعجل والأصنام وغير ذلك هي عين الحق كما تقدم

وقد كان يعرض لكثير من الناس إشكال في كون النبي قال في الدجال أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور فقالاي حاجة إلى نفي ربوبيته بدليل العور مع كثرة الأدلة التي يعلم بها كذبه وكذب كل بشر قال إنه الله حتى أن طائفة من أهل الكلام إخوان أولئك الاتحادية في النفي كالرازي كذبوا هذا الحديث وقالوا النبي أجل من أن يحتاج في نفي الربوبية إلى أن يدل أمته بهذا

واعلم أن الحديث ثابت متفق عليه مستفيض من وجوه

منها حديث ابن عمر المتقدم الذي سقناه في مسلم وهو في الصحيحين وفيه فقام رسول الله في الناس فأثنى على الله بما هو له أهل ثم ذكر الدجال فقال إني لأنذركموه ما من نبي إلا وقد أنذره قومه لقد أنذره نوح قومه ولكني أقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه تعلمون أنه أعور وأن الله ليس بأعور وفي لفظ أن رسول الله ذكر الدجال بين ظهراني الناس فقال إن الله ليس بأعور ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية

وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال قال رسول الله ما من نبي إلا قد أنذر أمته الأعور الكذاب إلا إنه أعور وأن ربكم ليس بأعور بين عينيه ك ف ر

وفي رواية مكتوب بين عينيه ك ف ر أي كافر

وفي رواية الدجال ممسوح العين مكتوب بين عينيه كافر أتهجاها ك ف ر يقرؤه كل مسلم

وفي الصحيح من حديث حذيفة إن الدجال مسموح العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب

واعلم أن النبي لم يقل إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور لأن ذلك وحده هو الدليل على كذبه وامتناع دعواه وأنه لولا العور لم تكن هناك أدلة أخرى يبين ذلك أنه قال لأقولن لكم فيه قولا لم يقله نبي لأمته إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور

ولو كان هذا هو الدليل وحده على نفي ربوبيته لم يعلم كذبه بدون ذلك لوجب على الأنبياء كلهم أن يبينوا ذلك لوجوب بيان كذبه عليهم بل قد ذكر مع ذلك أدلة أخرى

منها أنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن

ومنها أن أحدا منا لن يرى ربه حتى يموت

ومنها أن جنته نار وناره جنة كما في الصحيحين أيضا عن أبي هريرة قال قال رسول الله ألا أخبركم عن الدجال حديثا ما حدث به نبي قومه إنه أعور وأنه يجيء معه مثل الجنة والنار فالتي يقول إنها الجنة هي النار وإني أنذركم به كما أنذر به نوح قومه

وفي الصحيح أيضا عن حذيفة وعقبة بن عامر عن النبي قال الدجال يخرج وأن معه ماء ونارا فالماء الذي يراه الناس ماء فنار تحرق وأما الذي يراه الناس نارا فماء بارد وعذب من أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه نارا فإنه ماء عذب طيب ذكر هذه العلامات الظاهرة فإن فتنة الدجال أعظم فتنة تكون في الدنيا

وفي الصحيح عن هشام بن عامر سمعت رسول الله يقول ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال وهو يخرج بعد بلاء شديد يصيب الناس وشبهات عظيمة مع رغبة عظيمة ورهبة عظيمة ويتبعه أكثر الناس حتى اليهود مع دعواهم الكتاب هم أكثر الناس تبعا له

كما جاء في الصحيح عن أنس بن مالك أن رسول الله قال يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون الفا عليهم الطيالسة

وإذا كان قوم موسى قد عبدوا العجل واعتقدوا أنه الله وفيهم هارون نبي الله نهاهم فلم ينتهوا حتى رجع إليهم موسى وألقى الألواح، والنصارى فهم متفقون على أن المسيح هو الله تعالى الله علوا كبيرا ويقولون مع ذلك هو ابن الله أيضا فكيف يمتنع على قولهم أن يقال ذلك في بشر

وهؤلاء الذين يدعون الفلسفة والكلام والتصوف وهم يدعون أنهم أكمل الناس معرفة بالتوحيد والتحقيق وأتبع الناس للشريعة وغيرها ويفضلون أنفسهم على الرسل ولا ريب أنهم من أحذق الناس في الفلسفة ويقولون أنه يظهر في كل صورة ويقولون أن عباد العجل ما عبدوا إلا الله كما قال ابن عربي في الفصوص ثم قال هارون لموسى عليهما السلام إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل فتجعلني سببا في تفريقهم فإن عبادة العجل ظهرت بينهم فكان فيهم من عبده اتباعا للسامري وتقليدا له ومنهم من توقف عن عبادته حتى يرجع إليهم موسى فيسألونه عن ذلك فخشي هارون أن ينسب ذلك التفريق بينهم إليه فكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد إلا إياه وما حكم الله بشيء إلا وقع فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء

إلى أن قال

فكان عدم قوة أرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسلط على العجل كما تسلط موسى عليه حكمة من الله تعالى ظاهرة في الوجود ليعبد في كل صورة وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية فإذا كان الأمتان الكتابيتان اليهود والنصارى اعتقدوا ما تقدم في إنسان وعجل

وكذلك الغلاة من هذه الأمة المضاهون لكفار أهل الكتاب وهؤلاء الصابئة الفلاسفة وإن انتسبوا إلى الملل يقولون ما هو أبلغ من ذلك من ظهوره في كل صورة فيكيف بمن هو أبعد من هؤلاء الطوائف عن العلم والإيمان ولهذا لا يخلص من فتنة الدجال إلا المؤمنون صرفا من أمة محمد

وقد كان عندنا بدمشق الشيخ المشهور الذي يقال له ابن هود وكان من أعظم من رأيناه من هؤلاء الاتحادية زهدا ومعرفة ورياضة وكان من أشد الناس تعظيما لابن سبعين ومفضلا له عنده على ابن عربي وغلامه ابن إسحاق وأكثر الناس من الكبار والصغار كانوا يطيعون أمره وكان أصحابه الخواص به يعتقدون فيه أنه الله وأنه أعني ابن هود هو المسيح بن مريم ويقولون إن أمه كان اسمها مريم وكانت نصرانية ويعتقدون أن قول النبي ينزل فيكم ابن مريم هو هذا وأن روحانية عيسى تنزل عليه

وقد ناظرني في ذلك من كان أفضل الناس إذ ذاك معرفة بالعلوم الفلسفية وغيرها مع دخوله في الزهد والتصوف وجرى لهم في ذلك مخاطبات ومناظرات يطول ذكرها جرت بيني وبينهم حتى بينت لهم فساد دعواهم بالأحاديث الصحيحة الواردة في نزول عيسى بن مريم وأن ذلك الوصف لا ينطبق على هذا وبينت فساد ما دخلوا فيه من القرمطة حتى ظهرت مباهلتهم وحلفت لهم أن ما ينتظرونه من هذا لا يكون ولا يتم وأن الله لا يتم أمر هذا الشيخ فأبر الله تلك الأقسام والحمد لله رب العالمين هذا مع تعظيمهم لي بمعرفتي عندهم وإلا فهم يعتقدون أن سائر الناس محجوبون جهال بحقيقتهم وغوامضهم وإلا فمن كان عند هؤلاء يصلح أن يخاطب بأسرارهم إنما الناس عندهم كالبهائم حتى قال لي شيخ مشهور من شيوخهم لما بنت له حقيقة قولهم فأخذ يستحسن ويعظم معرفتي بقولهم وقال هؤلاء الفقهاء صم بكم عمي فهم لا يعقلون فقلت له هب أن الفقهاء كذلك أبا لله أهذا القول موافق لدين الإسلام فيتحير المجتهدون ويضطربون إذا شبه عليهم

وقال لي بعض من كان يصدق هؤلاء الاتحادية ثم رجع عن ذلك فكان من أفضل الناس ونبلائهم وأكابرهم ما المانع من أن يظهر الله في صورة بشر والنبي يقول في الدجال أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور فلولا جواز ظهوره في هذه الصورة لما احتاج إلى هذا في كلام له وأخذ يحتج بذلك على إمكان أن يكون ابن هود الله فبينت له امتناع ذلك من وجوه وتكلمت معه في ذلك بكلام طال عهدي به لست أضبطه الآن حتى تبين له بطلان ذلك وذكرت له أن هذا الحديث لا حجة فيه والله سبحانه قد بين عبودية المسيح وكفر من ادعى فيه الإلهية بأنواع غير ذلك كقوله تعالى ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام فأكل الطعام لازم لكل بشر

وقال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا

وقال تعالى لا تأخذه سنة ولا نوم

وقال تعالى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأمثال ذلك واعلم أن ما تذكره النفاة المدعون للتنزيه من المتفلسفة والمتكلمة على نفي كونه جسما أو جوهرا أو متحيزا أو منقسما أو كونه في جهة أو متحركا ونحو ذلك لم يفدهم شيئا من هذا العام ولا أوجب اعتقاد نفي الإلهية في المسيح والدجال فإن هؤلاء بعينهم هم الذين يعتقدون إلاهية المسيح الدجال والمسيح بن مريم ونحوهما مع تصريحهم بوصف الرب بتلك الصفات السلبية وذلك أنهم إما أن يقولوا تدرع اللاهوت بالناسوت وحل به أو ظهر فيه أو هذه مظاهر ومجالي الإلهية أو تعات الحق أو نحو ذلك من مقالات الاتحاد والذي شاهدناه أن أحذق الناس في الفلسفة والنفي والتنزيه كان أتبع الناس لهؤلاء إذ هم بزعمهم يجمعون بين التنزيه والتشبيه في كل ما يصفونه به حتى وصفوه بكل عيب وكل نقص وكل صفة لمحدث كما قال صاحب الفصوص ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص وبصفات الذم ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها وكلها حق له كما هي صفات المحدثات حق للحق

وقال أيضا ومن أسمائه الحسنى العلي على من وما ثم إلا هو فهو العلي لذاته أو عن ماذا وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو إلى أن قال فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره وما ثم من يراه غيره وما ثم من يبطن عنه فهو ظاهر لنفسه باطن عنه وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات إلى أن قال ومن عرف ما قررناه في الأعداد وأن نفيها عين إثباتها علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه وإن كان قد تميز الخلق من الخالق فالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة لا بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر والولد عين أبيه فما رأى يذبح سوى نفسه وفداه بذبح عظيم فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان وظهر بصورة ولد لا بل بحكم ولد من هو عين الوالد خلق منها زوجها فما نكح سوى نفسه إلى أن قال فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها وسواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا وليس ذلك إلا لمسمى الله تعالى خاصة

فصرح بأن الحق المنزه هو الخلق المشبه وصرح بأنه المنعوت بكل نعت مذموم ومحمود وصرح بأنه أبو سعيد الخراز وغيره من أسماء المحدثات كما صرح بأن المسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو وقال أيضا اعلم أن التنزيه عند أهل الحقائق هو في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد فالمنزه إما جاهل وإما صاحب سوء أدب ولكن إذا أطلقناه وقالا به فالقائل بالشرائع المؤمن إذا نزه ووقف عند التنزيه ولم ير غير ذلك فقد أساء الأدب وكذب الحق والرسل صلوات الله عليهم وهو لا يشعر ويتخيل أنه في الحاصل وهو في الفائت وهو كمن آمن ببعض وكفر ببعض ولا سيما وقد علم أن ألسنة الشرائع الإليهة إذا نطقت عن الحق تعالى لما نطقت به إنما جاءت به في العموم على المفهوم الأول

وعلى الخصوص على كل مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ ثان إن كان في وضع ذلك اللسان فإن للحق في كل خلق ظهورا فهو الظاهر من كل مفهوم وهو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم من قال إن العالم صورته وهويته إلى أن قال وهو الإسم الظاهر كما أنه بالمعنى روح ما ظهر فهو الباطن فنسبته لما ظهر من صور العالم نسبة الروح المدبر للصورة فيوجد في حد الإنسان مثلا ظاهره وباطنه وكذلك كل محدود فالحق تعالى محدود بكل حد وصور العالم لا تنضبط ولايحاط بها ولا يعلم حدود كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صورة فكذلك يجهل حد الحق فإنه لا يعلم حده إلا بعلم حد كل صورة وهذا محال حصوله فحد الحق محال وكذلك من شبهه وما نزهه فقد قيده وحدده وما عرفه ومن جمع في معرفته بين التنزيه والتشبيه ووصفه بالوصفين على الإجمال لأنه يستحيل ذلك على التفصيل لعدم الإحاطة بما في العالم من صور فقد عرفه مجملا لا على التفصيل كما عرف نفسه مجملا لا على التفصيل وكذلك ربط النبي معرفة الحق بمعرفة النفس فقال من عرف نفسه فقد عرف ربه وقال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وهو ما خرج عنك وفي أنفسهم وهو عينك حتى يتبين لهم أي للناظر أنه الحق من حيث أنك صورته وهو روحك فأنت له كالصورة الجسمية لك وهو لك كالروح المدبر لصورة جسدك والحد يشمل الظاهر والباطن منك فإن الصورة الباقية إذا زال عنها الروح المدبر لها لم تبق إنسانا ولكن يقال فيها أنها صورة تشبه صورة الإنسان فلا فرق بينها وبين صورة من خشب أو حجارة ولا ينطلق عليها إسم إنسان إلا بالمجاز لا بالحقيقة وصورة العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلا فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز كما هو حد الإنسان إذا كان حيا وكما أن ظاهر صورة الإنسان تثنى بلسانها على روحها ونفسها والمدبر لها كذلك جعل الله صورة العالم تسبح بحمده ولكن لا نفقه تسبيحهم لأنا لا نحيط بما في العالم من الصورة فالكل ألسنة للحق ناطقة بالثناء على الحق ولذلك قال الحمد لله رب العالمين أي إليه ترجع عواقب الثناء فهو المنزه المثنى عليه وأنشد

فإن قلت بالتنزيه كنت مقيدا ... وإن قلت بالتشبيه كنت محددا

وإن قلت بالأمرين كنت مسددا ... وكنت إماما في المعارف سيدا

فمن قال بالإشفاع كان مشركا ... ومن قال بالإفراد كان موحدا

فإياك والتشبيه إن كنت ثانيا ... وإياك والتنزيه إن كنت مفردا

فما أنت هو بل أنت هو وتراه ... في عين الأمور مسرحا ومقيدا

إلى أمثال هذا الكلام الذي يقوله هؤلاء الدجالون الكذابون ويقولون تارة إن النبي أعطاهم إياه وتارة أنهم أخذوا عن الله بلا واسطة والنبي وسائر الرسل يستفيدون منهم وتارة أنهم والحق أخذوه من معدن واحد

ومع هذا فقد جرى للمؤمنين مع أتباعهم من المحنة ما هي أشهر المحن الواقعة في الإسلام ومعلوم أن هذه المحنة هي نتيجة محنة الدجال بل هذه النتيجة أقرب إلى محنة الدجال من غيرها لأن النزاع في مثل دعوى الدجال قد سموا بعد وقد انتصروا غاية الإنتصار لما هو قول فرعون والدجال وعادوا من خالفهم ما هو أعظم من معاداة الدجال مع معرفة حذاقهم بأنه قول فرعون وقوله إنا على مذهب فرعون وزعمهم مع ذلك أنهم أكمل الخلق وأعظمهم معرفة وتحقيقا وتوحيدا

فإذا كان هذا حال بني آدم عوامهم وخواصهم من جميع الأصناف في الإنسان ظهر أن ما ذكره النبي من الدلائل على نفي ربوبية الدجال كان من أحسن الأدلة وأثبتها وأنفعها للعامة والخاصة وظهر بهذا أن غيره من الأنبياء وإن لم يقلها لكون الأدلة متعددة فالذي قالها كان أعلم بما ينفع الناس وأحرص عليهم وأرحم بهم كما قال تعالى ولقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فإن الدليل الوضح الظاهر عند اضطراب القلوب واشتباه الحق وافتتان كثير من الخلق أو أكثرهم ينفع ويظهر الحق ويدفع الباطل ما لا تسعه الأدلة الحسية وإن كانت قطعية يقينية والمقصود من الأدلة والأعلام هدى العباد وإرشادهم فكل ما كان من الأدلة أدل على الحق وأنفع للخلق كان أرجح مما ليس كذلك

والحمد لله الذي بعث إلينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة فهذا هو الوجه الأول وبيان أن أحدا من الناس لا يرى الله في الدنيا بعينه لا في صورة ولا في غير صورة وأن الحديث الذي احتج به الاتحادية على تجليه لهم من الصور في الدنيا يدل على نقيض ذلك

الوجه الثاني

إنهم سألوا النبي هل نرى ربنا يوم القيامة فقال هل تضامون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب قالوا لا قال فهل تضامون في رؤية القمر صحوا ليس دونه سحاب قالوا لا قال فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر

ولو كانت الرؤية هي تجليه في صور المخلوقات كلها كما يقوله الاتحادية لقال لهم إنكم ترون ربكم في هذه الصور إذ هم لا يرتقبون عندهم في القيامة تجليا غير هذا التجلي الذي في الدنيا وإنما تفاوت الناس عندهم بقدر تجرد أنفسهم حتى يشهدوا الوجود الساري في كل شيء لا فرق في ذلك عندهم بين دار ودار

وهذا ايضا حجة على من يجعل أنه لا مانع للرؤية إلا عدم الإدراك في العين فإنه على قوله لا فرق

وعلى كل من القولين فإنهم لا يرونه كما يرون الشمس والقمر وإن كان تشبيها للرؤية لا للمرئي بالمرئي إذ كاف التشبيه دخلت على ما المصدرية فإنه على قول الاتحادية هو موجود فيهم كوجوده في الشمس والقمر والكواكب والجبل والحيوان والنبات فيمتنع أن يروه كما يرون الشمس والقمر مباينا لهم منفصلا عنهم وعن غيرهم من الموجودات

وعلى قول أولئك لا يرونه مواجهة عيانا وإنما الرؤية من جنس العلم أو نوع منه وقولهم قول الاتحادية في رؤية الوجود المطلق وفي البخاري إنكم ترون ربكم عيانا

ومما يبين ذلك أنه ليس في الموجودات المرئية في الدنيا أعظم من هذين ولا يمكن أن يراهما الإنسان أكمل من الرؤية التي وصفها النبي وهذا يبين أن المؤمنين يرون ربهم أكمل ما يعرف من الرؤية

وعلى قول هؤلاء إنما يرى أخفى ما يكون أو يرى على وجه تستوي الموجودات كلها في رؤيته فإنهم إذا جعلوه الوجود المطلق ووصفوه بالسلوب كانت الرؤية من جنس العلم إن هذا ونحوه لا يرى بالعين وإن جعلوه الوجود الذي في المخلوقات جعلوا رؤيته كرؤية كل موجود من خفي وجلي وعلى التقديرين فهم مخالفون للنصوص السلبية التي احتجوا بها

الوجه الثالث

إنه قال لا تضامون في رؤيته ولا تضارون في رؤيته أي لا يلحقكم ضير ولا ضيم

وروى لا تضارون ولا تضامون أي لا يضر بعضكم بعضا ولا ينضم بعضكم إلى بعض كما جرت عادة الناس بالإزدحام عند رؤية الشيء الخفي كالهلال ونحوه وهذا كله بيان لرؤيته في غاية التجلي والظهور بحيث لا يلحق الرائي ضرر ولا ضيم كما يلحقه عند رؤية الشيء الخفي والبعيد والمحجوب ونحو ذلك

وعلى قول هؤلاء الجهمية الأمر بالعكس فإنهم إذا قالوا يتجلى في كل صورة من صورة الذباب والبعوض والبق والهلال والسها ونحو ذلك من الأجسام الصغيرة فمعلوم ما يلحق في رؤيتها من الضيم لا سيما وعند صاحب الفصوص لا يراه إنما يرى الذوات التي يتجلى فيها وأما إذا جعل الرؤية من جنس العلم فجنس هذه لا يبقى فيها ضرر ولا ضيم ولا يلحق فيها زحمة ولا مشقة فتكون بين ذلك مما هو علم أو كالعلم عديم الفائدة بعيد

المناسبة لا يليق بمن هو من آحاد الناس فضلا عن أكمل الخلق وأعظمهم معرفة وبيانا وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين

تم الجزء الأول من بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتحاد من كلام الإمام شيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد السلام بن تيمية الحراني رحمه الله تعالى وأسكنه الفردوس برحمته آمين ويتلوه الجزء الثاني إن شاء الله تعالى

الوجه الرابع أنه قال في الحديث يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه إلى آخره

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على عبده ونبيه ورسوله وخيرته وصفوته محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا