حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: بَيْنَا أَنا بِالْبَصْرَةِ أَمِيسُ، حَتَّى أَدَّانِي السَّيْرُ إِلَى فُرْضَةٍ قَدْ كَثُرَ فِيها قَوْمٌ عَلَى قَائِمٍ يَعِظُهُمْ وَهْوَ يَقُولُ: أَيُّها النَّاسُ إِنَّكُمْ لَمْ تُتْرَكُوا سُدَى، وَإِنَّ مَعَ اليَوْمِ غَداً، وَإِنَّكُمْ وَاردُو هُوَّةٍ، فَأِعُّدوا لهَا مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، وَإِنَّ بَعْدَ المَعَاشِ مَعاداً، فَأَعِدُّوا لهُ زَاداً، أَلا لاَ عُذْرَ فَقَدْ بُيِّنَتْ لَكُمُ المَحَجَّةُ، وَأَخِذَتُ عَلَيْكُمُ الحُجَّةُ، مِنَ السَّماءِ بِالخَبَرِ، وَمِنَ الأَرْضِ بَالعِبَرِ، أَلا وَإِنَّ الَّذِي بَدَأَ الخَلْقَ عَلِيماً، يُحْيِ العَظامَ رَمِيماً، أَلا وَإِنَّ الدُّنْيا دَارُ جَهَازٍ، وَقَنْطَرَةُ جَوَازٍ، مَنْ عَبَرَها سَلِمَ، وَمَنْ عَمَرها نَدِمَ، أَلا وَقَدْ نَصَبَتْ لَكُمُ الفَخَّ وَنَثرَتْ لَكُمُ الْحَبَّ؛ فَمَنْ يَرْتَعْ، يَقَعْ، وَمَنْ يَلْقُطْ، يَسْقُطْ، أَلا وَإِنَّ الفَقْرَ حِلْيَةُ نَبِيِّكُمْ فَاكْتَسُوهَا، وَالغِنى حُلَّةُ الطُّغْيَانِ فَلاَ تَلْبَسُوها، كَذَبَتْ ظُنْونُ المُلْحِدِينَ، الَّذَينَ جَحَدُوا الدِّينَ، وَجَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ إِنَّ بَعْدَ الحَدثِ جَدَثاً، وَإنَّكُمْ لَمْ تُخْلَقُوا عَبَثاً، فَحَذَارِ حَرَّ النَّارِ، وَبَدَارَ عُقْبَى الدَّارِ، أَلا وَإِنَّ العِلْم أَحْسَنُ علَىَ عِلاَّتِهِ، وَالجَهْلَ أَقْبَحُ عَلَى حَالاتِهِ وَإِنَّكُمْ أَشْقَى مَنْ أَظَلَّتْهُ السَّماءُ، إِنْ شَقِيَ بِكُمُ العُلماءُ، النَّاسُ بِأَئِمَّتِهمْ، فإِنِ انْقَادُوا بِأَزِمَّتِهِمْ، نَجَوْا بِذِمَّتِهمْ، وَالنَّاسُ رَجُلاَنِ: عَالِمٌ يَرْعَى، وَمُتَعَلِّمٌ يَسْعَى، وَالبَاقُونَ هامِلُ نَعامٍ، وَرَاتِعُ أَنْعَامٍ، وَيْلُ عَالٍ أُمِرَ مِنْ سَافِلِهِ، وَعَالِمِ شَيْءٍ مِنْ جاهِلِهِ، وَقَدْ سَمِعْثت أَنَّ عَلِيَّ بْنُ الحُسَيْنِ كَانَ قَائِماً يَعِظُ النَّاسَ وَيَقُولُ: يا نَفْسُ حَتَّامَ إِلى الحَياةِ رُكُونُكِ، وَإِلَى الدُّنْيَا وَعِمَارَتِهَا سُكُوُنُكِ؟ أَما اعْتَبَرْتِ بِمَنْ مَضَى مِنْ أَسْلاَفِكِ، وَبِمَنْ وَارَتْهُ الأَرْضُ مِنْ أُلاَّفِكِ، وَمَنْ فُجِعْتِ بِهِ مِنْ إِخْوَانِكِ، وَنُقِلَ إِلَى دَارِ البِلَى مِنْ أَقْرانِكِ؟؟
فُهْم في بُطُونِ الأَرْضِ بَعْدَ ظهورها *** مَحاسِنُهُمْ فِيهَا بَوَالٍ دَوَاثِرُ
خَلَتْ دُورُهُمْ مِنْهُمْ وَأَقْوَتْ عِرَاصُهُمْ *** وَسَاقَتْهُمُ نَحْوَ المَنايَا المَقادِرُ
وَخَلُّوْا عَنِ الدُّنْيا وِما جَمَعُوا لهَا *** وَضَمَّتْهُمُ تَحْتَ التُّرابِ الحَفائِرُ
كَمْ اخْتَلَسَتْ أَيْدي المَنُونِ، مِنْ قُرُونٍ بَعْدَ قُرُونٍ؟ َوكَمْ غَيَّرَتْ بِبِلاهَا، وَغَيَّبَتْ أَكْثَرَ الرِّجَالِ في ثَرَاها؟؟؟
وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيا مُكِبٌ مٌنافِـسٌ *** لِخُطَّابِها فيها حَريصٌ مُكاثِـرُ
عَلَى خَطَرٍ تَمْشِي وَتُصْبِحُ لاهِياً *** أَتَدْري بِمَاذَا لَوْ عَقَلْتَ تُخاطِـرُ
وَإِنَّ امْرَأً يَسْعى لِدُنْياهُ جـاهِـداً *** وَيُذْهَلُ عَنْ أُخْرَاهُ لا شَكَّ خَاسِرُ
انْظُرْ إِلى الأُمَمِ الخَالِيةِ، وَالمُلُوكِ الفَانِيَةِ، كَيْفَ انْتَسَفَتْهُمُ الأَيَّامُ، وَأَفْنَاهُمُ الحِمَامُ؟ فَانْمَحَتْ آثارُهُمْ، وَبَقِيَتْ أَخْبارُهمْ.
فَأَضْحَوْا رَمِيماً في التُّرَابِ وَأَقْفَرَتْ *** مَجالِسُ مِنْهُمْ عُطِّلَتْ وَمَقَاصِرُ
وَخَلَّوْا عَنِ الدُّنْيَا وَما جَمَعُوا بِها *** وَما فَازَ مِنْهُمْ غَيْرُ مَنْ هُوَ صَابِرُ
وَحَلوا بِدَارٍ لاَ تَزَاوُرَ بَيْنَهُمْ *** وَأَنَّى لِسُكَّانِ القُبورِ التزَاوُرُ
فَمَا إِنْ تَرَى إِلاَّ رُمُوساً ثَوَوْا بِها *** مُسَطَّحَةً تًسْفِي عَلَيْها الأَعَاصِرُ
كَمْ عَايَنْتَ مِن ذِي عِزَّةٍ وَسُلْطانٍ، وَجُنُودٍ وَأَعْوَانٍ، قَدْ تَمكَّنَ مِنْ دُنْياهُ، وَنالَ مِنْهَا مُنَاهُ، فَبَنَى الحُصُونَ وَالدَّسَاكِرَ، وَجَمَعَ الأَعْلاَقَ وَالعَساكِرَ
فَمَا صَرَفَتْ كَفَّ المَنِيَّةِ إِذْ أَتَتْ *** مُبادِرَةً تًهْوِى إِلَيْهِ الـذَّخـائِرُ
وَلا دَفَعَتْ عَنْهُ الحُصونُ الَّتي بَنَـى *** وَحَفَّتْ بِها أَنْهارُها والـدَّسـاكِـرُ
وَلا قَارَعَتْ عَنْهُ الـمَـنِـيَّةَ حِـيلَةٌ *** وَلا طَمِعَتْ في الذَّبِّ عَنْهُ العَساكِرُ
يا قَوْمُ الحَذَرَ الحَذَرَ، وَالبِدارَ البِدارَ، مِنْ الدُّنْيا وَمَكايدِهَا، وَمَا نَصَبَتْ لكُمْ من مَصايِدِها، وَتَجَلَّتْ لَكُمْ مِنْ زِينَتِها، واسْتَشْرَفَتْ لَكُمْ مِنْ بَهْجَتِهَا.
وَفي دُونِ مَاعَاَينْتَ مِنْ فَجَعاتِهَا *** إِلَى رَفْضِهَا دَاعٍ وَبالزُّهْدِ آمِرُ
فَجِدَّ وَلا تَغْفُلْ فَعَـيْشُـكَ بَـائِدٌ *** وَأَنْتَ إِلَى دارِ المَنِيَّةِ صـائِرُ
وَلا تَطْلُبِ الدُّنْيا فَإِنَّ طِلابَـهـا *** وَإِنْ نِلْتَ مِنْهَا رَغْبَةً لَكَ ضَائِرُ
وَكَيْفَ يَحْرِصُ عَلَيْها لَبيبٌ، أَوْ يُسَرُّ بِهَا أَريبٌ، وَهْوَ عَلى ثِقَةٍ مِنْ فَنَائِهَا؟ أَلاَ تَعْجَبُونَ مِمَّنْ يَنامُ وَهْوَ يَخْشى الْمَوتَ، وَلا يَرْجُو الفَوْتَ؟
أَلاَ، لاَ، وَلكِنَّا نَغُرُّ نُفوسنا *** وَتَغَلُهَـا اللَّذَّاتُ عَمَّا نُحَاذِرُ
وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ هُوَ مُوقِنٌ *** بِمَوْقِفِ عَدْلٍ حَيْثُ تُبْلى السَرَائِرُ
كَأَنَّا نَرى أَنْ لا نُشُورَ، وَأَنَّنَا *** سُدَىً، مَا لَنَا بَعْدَ الفَنَاءِ مَصَائِرُ!
كَمْ َغَرَّتِ الدُّنْيا مِنْ مُخْلِدٍ إِلَيْهَا وَصَرَعَتْ مِنْ مُكِبٍّ عَلَيْهَا؛ فَلَمْ تُنْعِشْهُ مِنْ عَثْرَتِهِ؟ وَلَمْ تُقِلْهُ مِنْ صَرْعَتِهِ، وَلَمْ تُداوِهِ مِنْ سَقَمِهِ، وَلَمْ تَشْفِهِ مِنْ أَلَمِهِ.
بَلـى أَوْرَدَتْهُ بَعْـدَ عِزٍّ وَرِفْعَةِ *** مَوَارِدَ سُوءٍ ما لَهُنَّ مصادِرُ
فَلَمَّا رَأَى أَنْ لاَ نَجَاةَ وَأَنَّهُ *** هُوَ المَوْتُ لاَ يُنْجِيهِ مِنْهُ المُؤازِرُ
تَنَدَّمَ لَوْ أَغْناهُ طُولُ نَدَامَةٍ *** عَلَيْهِ وَأَبْكتهُ الذُّنُوبُ الكَبَائِرُ
بَكَى عَلى مَا سَلَفَ مِنْ خَطَايَاهُ، وَتَحَسَّرَ عَلى مَا خَلَّفَ مِنْ دُنْيَاهُ، حَيْثُ لَمْ يَنْفَعُهُ الاِسْتِعْبَارُ، وَلَمْ يُنْجِهَ الاعْتَذَارُ.
أَحَاطَتْ بِهِ أَحْزَانُهُ وَهُمومهُ *** وَأَبْلَسَ لَمَا أَعْجَزَتْـهُ المَعاذِرُ
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ كرْبَةِ امَوْتِ فَارِجٌ *** وَلَيْسَ لَهُ مَمَّا يُحاذِرُ نَاصِرُ
وَقَدْ خَسِئَتْ فَوْقَ المَنِيَّةِ نَفْسُهُ *** تُرَدِّدُهَا مِنْهُ اللُّهَى وَالحَنَاجِرُ
فَإِلَى مَتَى تُرَقِّعُ بِآخِرَتِكَ دُنْيَاكَ، وَتَرْكَبُ في ذاكَ هوَاكَ؟ إِنِّي أَرَاكَ ضَعيفَ اليَقينِ، يَا رَاقِعَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، أَبِهذا أَمَرَكَ الرَّحْمنْ، أَمْ عَلى هَذا دَلَّكَ القُرْآنُ؟
تُخَـرِّبُ مَـا يَبْقَى، وَتعْمُرُ فَانِياً *** فَلاَ ذَاكَ مَوْفُورٌ، وَلاَ ذَاكَ عَامرُ
فَهَلْ لَكَ إِنْ وَافَاكَ حَتْفُكَ بَغْتَةً *** وَلَمْ تَكْتَسِبْ خَيْرَاً لَدَى اللهِ عَاذِرُ؟؟
أَتَرْضَى بِأَنْ تُقْضَى الحَياةُ وَتَنْقَضِي *** وَدِينُـكَ مَنْقُوصٌ وَمَالكَ وَافِرُ؟؟
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَقُلْتُ لِبَعْضِ الحَاضِرِينَ: مَنْ هَذا؟ قَالَ: غَرِيبٌ قَدْ طَرَأَ لاَ أَعْرِفُ شَخْصَهُ، فَاصْبِرْ عَلَيْهِ إِلَى آخِرِ مَقَامَتِهِ، لَعَلَّهُ يُنْبِئُ بِعَلاَمَتِهِ، فَصَبَرْتُ فَقَالَ: زَيِّنُوا العِلْمَ بِالعَمَلِ، وَاشْكُرُوا القُدْرَةَ بِالْعَفْوِ، وَخُذُوا الصَّفْوَ وَدَعوا الكَدَرَ، يَغْفِرِ اللهُ لِي وَلَكُمْ، ثُمَّ أَرَادَ الذَّهَابَ، فَمَضَيْتُ عَلى أَثَرِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ يَا شَيْخُ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! لَمْ تَرْضَ بِالْحِلْيَةِ غَيَّرْتَها، حَتَّى عَمَدْتَ إِلى المَعْرِفةِ فَأَنْكَرْتَهَا! أَنَا أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ، فَقُلْتُ: حَفِظَكَ اللهُ، فَمَا هَذا الشَّيْبُ؟ فَقَالَ:
نَذِيرٌ، وَلَكِنَّهُ سَـاكِـتُ *** وَضَعِيفٌ، وَلَكِنَّهُ شَامِتُ
وَأَشْخَاصُ مَوْتٍ، وَلَكِنَّهُ *** إِلَى أَنْ أُشَيِّعَهُ ثَـابِـتُ