الرئيسيةبحث

بداية الهداية

بداية الهداية

أبو حامد الغزالي
بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام، العالم العلامة، حجة الاسلام، وبركة الأنام: أبو حامد محمد بن محمد بن الغزالي الطوسى؛ قدس الله روحه، ونور ضريحه - آمين: الحمدلله حق حمده، والصلاة والسلام على خير خلقه، محمد رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه من بعده. أما بعد: فاعلم أيها الحريص المقبل على اقتباس العلم، المظهر من نفسه صدق الرغبة، وفرط التعطش إليه.. أنك إن كنت تقصد بالعلم المنافسة، والمباهاة، والتقدم على الأقران، واستمالة وجوه الناس إليك، وجمع حطام الدنيا؛ فأنت ساع في هدم دينك، وإهلاك نفسك، وبيع آخرتك بدنياك؛ فصفقتك خاسرة، وتجارتك بائرة، ومعلمك معين لك على عصيانك، وشريك لك في خسرانك، وهو كبائع سيف لقاطع طريق، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من أعان على معصية ولو بشطر كلمة كان شريكا فيها) . وإن كانت نيتك وقصدك، بينك وبين الله تعالى، من طلب العلم: الهداية دون مجرد الرواية؛ فأبشر؛ فإن الملائكة تبسط لك أجنحتها إذا مشيت، وحيتان البحر تستغفر لك إذا سعيت. ولكن ينبغي لك أن تعلم، قبل كل شيء، أن الهداية التي هي ثمرة العلم لها بداية

ونهاية، وظاهر وباطن، ولا وصول إلى نهايتها إلا بعد إحكام بدايتها، ولا عثور على باطنها إلا بعد الوقوف على ظاهرها. وهأنا مشير عليك ببداية الهداية؛ لتجرب بها نفسك، وتمتحن بها قلبك، فإن صادفت قلبك إليها مائلا، ونفسك بها مطاوعة، ولها قابلة؛ فدونك التطلع إلى النهايات والتغلغل في بحار العلوم. وإن صادفت قلبك عند مواجهتك إياها بها مسوفا، وبالعمل بمقتضاها مماطلا؛ فاعلم أن نفسك المائلة إلى طلب العلم هي النفس الأمارة بالسوء، وقد انتهضت مطيعة للشيطان اللعين ليدليك بحبل غروره؛ فيستدرجك بمكيدته إلى غمرة الهلاك، وقصده أن يروج عليك الشر في معرض الخير حتى يلحقك (بِالأخسَرينَ أَعمالاً، الَّذين ضَلَ سَعيُهُم في الحَياةِ الدُنيا وَهُم يَحسَبونَ أَنَّهُم يُحسِنونَ صُنعا) . وعند ذلك يتلو عليك الشيطان فضل العلم ودرجة العلماء، وما ورد فيه من الأخبار والآثار. ويلهيك عن قوله صلى الله عليه وسلم: (من ازداد علما ولم يزدد هدى، لم يزدد من الله إلا بعدا) ، وعن قوله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه) وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إنى أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، وعمل لا يرفع، ودعاء لا يسمع) . وعن قوله صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسرى بي بأقوام تقرض شفاههم بمقارض من نار، فقلت: من أنتم؟ قالوا: كنا نأمر بالخير ولا نأتيه وننهى عن الشر ونأتيه) . فإياك يا مسكين أن تذعن لتزويره فيدليك بحبل غروره، فويل للجاهل حيث لم يتعلم مرة واحدة، وويل للعالم حيث لم يعمل بما عمل ألف مرة. واعلم أن الناس في طلب العلم على ثلاثة أحوال: رجل طلب العلم ليتخذه زاده إلى المعاد، ولم يقصد به إلا وجه الله والدار الآخرة؛ فهذا من الفائزين. ورجل طلبه ليستعين به على حياته العاجلة، وينال به العز والجاه والمال، وهو عالم بذلك، مستشعر في قلب ركاكه حاله وخسة مقصده، فهذا من المخاطرين. فإن عاجله أجله قبل التوبة خيف عليه من سوء الخاتمة، وبقي أمره في خطر

المشيئة؛ وإن وفق للتوبة قبل حلول الأجل، وأضاف إلى العلم العمل، وتدارك ما فرط منه من الخلل - التحق بالفائزين، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. ورجل ثالث استحوذ عليه الشيطان؛ فاتخذ علمه ذريعة إلى التكاثر بالمال، والتفاخر بالجاه، والتعزز بكثرة الأتباع، يدخل بعلمه كل مدخل رجاء أن يقضى من الدنيا وطره، ن وهو مع ذلك يضمر في نفسه أنه عند الله بمكانة، لاتسامه بسمة العلماء، وترسمه برسومهم في الزى والمنطق، مع تكالبه على الدنيا ظاهرا وباطنا.. فهذا من الهالكين، ومن الحمقى المغرورين؛ إذ الرجاء منقطع عن توبته لظنه أنه من المحسنين، وهو غافل عن قوله تعالى (يَأيُها الَّذين آمنوا لِمَ تَقولونَ مالا تَفعَلون) . وهو ممن قال فيهم رسول الله: (أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال) فقيل: وما هو يارسول الله؟، فقال: (علماء السوء) . وهذا لأن الدجال غايته الإضلال، ومثل هذا العالم وإن صرف الناس عن الدنيا بلسانه ومقاله فهو دافع لهم إليها بأعماله وأحواله، ولسان الحال أفصح من لسان المقال، وطباع الناس إلى المساعدى في الأعمال أميل منها إلى المتابعة في الأقوال؛ فما أفسده هذا المغرور بأعماله أكثر مما أصلحه بأقواله، إذ لا يستجرىء الجاهل على الرغبة في الدنيا إلا باستجراء العلماء، فقد صار علمه سببا لجرأة عباد الله على معاصيه، ونفسه الجاهلة مذلة مع ذلك تمنيه وترجيه، وتدعوه إلى أن يمن على الله بعلمه، وتخيل إليه نفسه أنه خير من كثير من عباد الله. فكن أيها الطالب من الفريق الأول، واحذر أن تكون من الفريق الثاني، فكم من مسوف عاجله الأجل قبل التوبة فخسر، وإياك ثم إياك أن تكون من الفريق الثالث، فتهلك هلاكا لا يرجى معه فلاحك، ولا ينتظر صلاحك. فإن قلت: فما بداية الهداية لأجرب بها نفسي، فاعلم أن بدايتها ظاهرة التقوى، ونهايتها باطنة التقوى؛ فلا عاقبة إلا بالتقوى، ولا هداية إلا للمتقين. والتقوى، عبارة عن امتثال أوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه، فهما قسمان، وهأنا أشير عليك بجمل مختصرة من ظاهر علم التقوى في القسمين جميعا،

وألحق قسما ثالثا ليصير هذا الكتاب جامعا مغنيا والله المستعان. القسم الأول في الطاعات توطئة اعلم أن أوامر الله تعالى فرائض ونوافل؛ فالفرض رأس المال، وهو أصل التجارة وبه تحصل النجاة، والنفل هو الربح وبه الفوز بالدرجات، قال صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تبارك وتعالى: (ما تقرب إلي المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم، ولا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) . ولن تصل أيها الطالب إلى القيام بأوامر الله تعالى إلا بمراقبة قلبك وجوارحك في لحظاتك وأنفاسك، حين تصبح إلى حين تمسى. فاعلم أن الله تعالى مطلع على ضميرك، ومشرف على ظاهرك وباطنك، ومحيط بجميع لحظاتك، وخطراتك، وخطواتك، وسائر سكناتك وحركاتك؛ وأنك في مخالطتك وخلواتك متردد بين يديه؛ فلا يسكن في الملك والملكوت ساكن، ولا يتحرك متحرك، إلا وجبار السموات والأرض مطلع عليه، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم السر وأخفى؛ فتأدب أيها المسكين ظاهرا وباطنا بين يدي الله تعالى تأدب العبد الذليل المذنب في حضرة الملك الجبار القهار، واجتهد ألا يراك مولاك حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك. ولن تقدر على ذلك إلا بأن توزع أوقاتك، وترتب أورادك من صباحك إلى مسائك، فاصغ إلى ما يلقى إليك من أوامر الله تعالى عليك من حين تستيقظ من منامك إلى وقت رجوعك إلى مضجعك.

فصل في آداب الاستيقاظ من النوم فإذا استيقظت من النوم، فاجتهد أن تستيقظ قبل طلوع الفجر، وليكن أول ما يجري على قلبك ولسانك ذكر الله تعالى؛ فقل عند ذلك: الحمدلله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، أصبحنا وأصبح الملك لله، والعظمة والسلطان لله، والعزة والقدرة لله رب العالمين، أصبحنا على فطرة الاسلام، وعلى كلمة الاخلاص، وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين؛ اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النشور؛ اللهم إنا نسألك أن تبعثنا في هذا اليوم إلى كل خير، ونعوذ بك أن نجترح فيه سوءا أو نجره إلى مسلم، أو يجره أحد إلينا؛ نسألك خير هذا اليوم وخير مافيه ونعوذ بك من شر هذا اليوم وشر ما فيه. فإذا لبست ثيابك فانو به امتثال أمر الله تعالى في ستر عورتك، واحذر أن يكون قصدك من لباسك مراءاة الخلق فتخسر.

باب آداب دخول الخلاء فإذا قصدت بيت الماء لقضاء الحاجة، فقدم في الدخول رجلك اليسرى، وفي الخروج رجلك اليمنى، ولا تستصحب شيئا عليه اسم الله تعالى ورسوله. ولا تدخل حاسر الرأس، ولا حافي القدمين. وقل عند الدخول: باسم الله، أعوذ بالله من الرجس النجس، الخبيث المخبث، الشيطان الرجيم. وعند الخروج: غفرانك، الحمدلله الذي أذهب عني ما يؤذيني وأبقى في ما ينفعني. وينبغي أن تعدل النبل قبل قضاء الحاجة، والا تستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة، وأن تستبرىء من البول بالتنحنح والنتر ثلاثا، وبإمرار اليد اليسرى على أسفل القضيب. وإن كنت في الصحراء، فابعد عن عيون الناظرين واستتر بشيء إن وجدته، ولا تكشف عورتك قبل الانتهاء إلى موضع الجلوس. ولا تستقبل الشمس ولا القمر، ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولا تجلس في متحدث الناس، ولا تبل في الماء الراكد وتحت الشجرة المثمرة، ولا في الجحر، واحذر الارض الصلبة ومهب الريح، احترازا من الرشاش لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن عامة الوسواس منه) . واتكىء في جلوسك على الرجل اليسرى، ولا تبل قائما إلا عن ضرورة، واجمع في الاستنجاء بين استعمال الحجر والماء، فإذا أردت الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل، وإذا اقتصرت على الحجر فعليك أن تستعمل ثلاثة أحجار طاهرة منشفه للعين، تمسح القضيب في ثلاثة مواضع من حجر، فإن لم يحصل الإنقاء بثلاثة فتمم خمسة أو سبعة إلى أن ينقى بالإيتار؛ فالإيتار مستحب والانقاء واجب. ولا تستنج إلا باليد اليسرى. وقل عند الفراغ من الاستنجاء: اللهم طهر قلبيى من النفاق وحصن فرجي من الفواحش. وادعك يدك بعد تمام الاستنجاء بالارض أو بحائط ثم اغسلها.

باب آداب الوضوء فإذا فرغت من الاستنجاء، فلا تترك السواك؛ ن فإنه مطهرة للفم، ومرضاة للرب، ومسخطة للشيطان وصلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بلا سواك. وروي عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك في كل صلاة) ، وعنه صلى الله عليه وسلم: (أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي) . ثم اجلس للوضوء مستقبل القبلة على موضع مرتفع كي لا يصيبك الرشاش، وقل بسم الله الرحمن الرحيم، رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب بأن يحضرون. ثم اغسل يديك ثلاثا قبل أن تدخلهما الإناء، وقل: اللهم إني أسألك اليمن والبركة، وأعوذ بك من الشؤم والهلكة. ثم انو رفع الحدث واستباحة الصلاة، ولا ينبغي أن تعزب نيتك قبل غسل الوجه، فلا يصح وضؤوك. ثم خذ غرفة لفمك وتمضمض بها ثلاثا، وبالغ في رد الماء إلى الغلصمة إلا أن تكون صائما فترفق، وقل اللهم أعني على تلاوة كتابك وكثرة الذكر لك، وثبتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ثم خذ غرفة لأنفك واستنشق بها ثلاثا، واستنثر ما في الأنف من رطوبة، وقل في الاستنشاق: اللهم أرحني رائحة الجنة وأنت عني راض، وفي الاستنثار: اللهم إني أعوذ بك من روائح النار وسوء الدار. ثم خذ غرفة لوجهك، فاغسل بها من مبتدأ تسطيح الجبهة إلى منتهى ما يقبل من الذقن في الطول، ومن الأذن في العرض، وأوصل الماء إلى موضع التجديف، وهو ما يعتاد النساء تنحية الشعر عنه، وهو ما بين رأس الأذن إلى زاوية الجبين، أعني ما يقع منه في جبهة الوجه، وأوصل الماء إلى منابت الشعور الأربعة: الحاجبين، والشاربين، والأهداب، والعذران (وهما ما يوازيان الأذنين، من مبتدأ اللحية) ، ويجب إيصال الماء إلى منابت الشعر من اللحية الخفيفة، دون الكثيفة؛ وقل عندن غسل الوجه: اللهم بيض وجهي بنورك يوم تبيض وجوه أوليائك، ولا تسود وجهي بكلماتك يوم تسود وجوه أعدائك.. ولا تترك تخليل اللحية

الكثيفة. ثم اغسل يدك اليمنى، ثم اليسرى مع المرفقين إلى أنصاف العضدين، فإن الحلية في الجنة تبلغ مواضع الوضوء. وقل عند غسل اليد اليمنى: أعطني كتابي بيميني، وحاسبني حسابا يسيرا، وعند غسل الشمال: اللهم إني أعوذ بك أن تعطيني كتابي بشمالي أو من وراء ظهري. ثم استوعب رأسك بالمسح، بأن تبل أيداك وتلصق رؤوس أصابع يدك اليمنى باليسرى، وتضعهما على مقدمة الرأس، وتمررهما إلى القفا، ثم ترددهما إلى المقدمة، فهذه مرة، تفعل ذلك ثلاث مرات، وكذلك في سائر الأعضاء، وقل: اللهم غشني برحمتك، وأنزل على من بركاتك، وأظلني تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، اللهم حرم شعري وبشرى على النار. ثم امسح أذنيك ظاهرهما وباطنهما بماء جديد، وأدخل مسبحتك في صماخ أذنيك، وأمسح أذنيك ببطن إبهاميك، وقل: اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم أسمعني منادى الجنة في الجنة مع الأبرار. ثم امسح رقبتك، وقل: اللهم فك رقبتي من النار، وأعوذ بك من السلاسل والأغلال. ثم اغسل رجلك اليمنى ثم اليسرى مع الكعبين، وخلل بخنصر اليسرى أصابع رجلك اليمنى مبتدئا بخنصرها، حتى تختم بخنصر اليسرى، وتدخل الأصابع من أسفل، وقل: اللهم ثبت قدمي على الصراط المستقيم مع أقدام عبادك الصالحين.. وكذلك تقول عند غسل اليسرى: اللهم إني أعوذ بك آن تزول قدمي على الصراط في النار يوم تزل أقدام المنافقين والمشركين. وارفع الماء إلى أنصاف الساقين، وراع التكرار ثلاثا في جميع أفعالك. فإذا فرغت فارفع بصرك إلى السماء، وقل: اشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، تسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أنت التواب الرحيم، اللهم اجعلني من التوابين؛ واجعلني من المتطهرين، واجعلني من عبادك الصالحين واجعلني صبورا، شكورا، واجعلني أذكرك ذكرا كثيرا، وأسبحك بكرة وأصيلا. فمن قرأ هذه الدعوات في وضوئه خرجت خطاياه من جميع أعضائه، وختم على وضوئه بخاتم، ورفع له تحت العرش، فلم يزل يسبح الله تعالى ويقدسه، ويكتب له ثواب ذلك إلى يوم القيامة. واجتنب في وضوئك سبعا: لاتنفض يديك فترش الماء، ولا تلطم وجهكن ورأسك بالماء لطما، ولا تتكلم في أثناء الوضوء، ولا تزد في الغسل

على ثلاث مرات، ولا تثكر صب الماء من غير حاجة بمجرد الوسوسة، فلموسوسين شيطان يضحك بهم يقال له (الولهان) ولا تتوضأ بالماء المشمس ولا من الأواني الصفرية، فهذه السبعة مكروهه في الوضوء. وفي الخبر أن: (من ذكر الله عند وضوئه طهر الله جسده كله، ومن لم يذكر الله لم يطهر منه إلا ما أصابه الماء) . آداب الغسل فإذا أصابتك جنابة، من احتلام أو وقاع، فخذ الإناء إلى المغتسل، واغسل يديك أولا ثلاثا، وأزل ما على بدنك من قذر، وتوضأ كما سبق في وضوئك للصلاة مع جميع الدعوات، وأخر غسل قدميك، كيلا يضيع الماء فإذا فرغت من الوضوء فصب الماء على راسك ثلاثا وأنت ناو رفع الحدث من الجنابة، ثم على شقك الأيمن ثلاثا، ثم على الأيسر ثلاثا، وادعك ما أقبل من بدنك وما أدبر ثالثا، وخلل شعر رأسك ولحيتك، وأوصل الماء إلى معاطف البدن ومنابت الشعر ما خفف منه وما كثف. واحذر أن تمس ذكرك بعد الوضوء فإن أصابته يدك فأعد الوضوء. والفريض من جملة ذلك كله: النية، وإزالة النجاسة، واستيعاب البدن بالغسل. وفرض الوضوء: غسل الوجه واليدين مع المرفقين، ومسح بعض الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين مرة، مع النية والترتيب. وما عداها سنن مؤكدة فضلها كثير، وثوابها جزيل والمتهاون بها خاسر، بل هو بأصل فرائضه مخاطر، فإن النوافل جوابر للفرائض. آداب التيمم فإن عجزت عن استعملا الماء لفقده بعد الطلب، أو لعذر من مرض، أو لمانع من الوصول إليه من سبع أو حبس، أو كان الماء الحاضر تحتاج إليه لعطشك أو لعطش رفيقك، أو ملكا لغيرك ولم يبع إلا بأكثر من ثمن المثل، أو كان بك جراحة أو مرض تخاف منه على نفسك - فاصبر حتى يدخل وقت الفريضة، ثم اقصد صعيدا طيبا عليه تراب خالص طاهر لين، فاضرب عليه بكفيك ضاما بين أصابعك، وانو استباحة فرض الصلاة،

وامسح بهما وجهك كله مرة، ولا تتكلف إيصال الغبار إلى منابت الشعر خف أو كثف، ثم انزع خاتمك، واضرب ضربة ثانية مفرجا ما بين أصابعك، واسمح بهما يديك بمع مرفقيك، فإن لم تستوعبهما فاضرب ضربة أخرى إلى أن تستوعبهما، ثم امسح إحدى كفيك بالأخرى، وامسح نما بين أصابعك بالتخليل. وصل به فرضا واحدا وما شئت من النوافل، فإن أردت فرضا ثانيا فاستأنف تيمما آخر. آداب الخروج إلى المسجد فإذا فرغت من طهارتك فصل في بيتك ركعتي الصبح إن كان الفجر قد طلع، كذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يتوجه إلى المسجد. ولا تدع الصلاة في الجماعة، لا سيما الصبح (فصلاة الجماعة تفضل على الفرد شرين درجة) فإن كنت تتساهل في مثل هذا لربح فأي فائدة لك في طلب العلم؟ وإنما ثمرة العلم العمل به. فإذا سعيت إلى المسجد، فامش على هينة وتؤدة وسكينة، ولا تعجل وقل في طريقك: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق الراغبين إليك، وبحق ممشاى هذا إليك؛ فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا، ولا رياء، ولا سمعة، بل خرجت اتقاء سخطكن، وابتغاء مرضاتك فأسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. آداب دخول المسجد فإذا أردت الدخول إلى المسجد، فقدم رجلك اليمنى، وقل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وصحبه وسلم؛ اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك. ومهما رأيت في المسجد من يبيع أو يبتاع، فقل: لا أربح الله تجارتك. وإذا رأيت فيه من ينشد ضالة، فقل: لا ردّ الله عليك ضالتك - كذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا دخلت المسجد، فلا تجلس حتى تصلي ركعتي التحية، بفإن لم تكن على طهارة أو لم ترد فعلها كفتك الباقيات الصالحات ثلاثا، وقيل أربعا، وقيل ثلاثا للمحدث وواحدة للمتوضىء. فإن لم تكن صليت في بيتك ركعتي الفجر، فيجزئك أداؤهما عن التحية. فإذا فرغت من الركعتين، فانو

الاعتكاف وادع بما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ركعتي الفجر، فقل: (اللهم إني أسألك رحمة من عندك، تهدي بها قلبي، وتجمع بها شملي، وتلم بها شعثي، وترد بها ألفتي وتصلح بها ديني وتحفظ بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتبيض بها وجهي، ولتهمني بها رشدي، وتقضي لي بها حاجتي، وتعصمني بها من كل سوء، اللهم إني أسألك إيمانا خالصا دائما يباشر قلبي، ويقينا صادقا، حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبته على، ورضني بما قسمته لي، اللهم إني أسألك إيمانا صادقا، ويقينا ليس بعده كفر؛ وأسألك رحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة؛ اللهم إني أسألك الفوز عند اللقاء والصبر عند القضاء، ومنازل الشهداء وعيش السعداء والنصر على الأعداء، ومرافقة الأنبياء؛ اللهم إني أنزل بك حاجتي، وإن ضعف رأيي وقصر عملية، وافتقرت إلى رحمتك فأسألك يا قاضي الأمور وياشافي الصدور، كما تجير بين البحور أن تجيرني من عذاب السعير، ومن دعوة الثبور ومن فتنة القبور؛ اللهم ما قصر عنه رأيي، وضعف عنه عملي، ولم تبلغه نيتي وأمنيتي، من خير وعدته أحدا من عبادك أو خير أنت معطيه أحدا من خلقك فإني أرغب إليك فيه، وأسألك إياه يارب العالمين؛ اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين؛ حربا لأعدائك سلما لأوليائك نحب بحبك الناس، ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك؛ اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة وهذا الجهد وعليك التكلان، وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ اللهم ذا الحبل الشديد، والأمر الرشيد، أسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود، والركع السجود، الموفين لك بالعهود؛ إنك رحيم ودود وإنك تفعل ما تري سبحان من تعطف بالعز وقال به، سبحان من لبس المجد وتكرم به، سبحان من لا ينبغي التسبيح إلا له، سبحان ذي الفضل والنعم، سبحان ذي الجود والكرم، سبحان الذي أحصى كل شيء بعمله؛ اللهم اجعل لي نورا في قلبي، ونورا في قبري، ونورا في سمعي ونورا في بصري ونورا في شعري، ونورا في بشري، ونورا في لحمي، ونورا في دمي، ونورا في عظامي، ونورا من بين يدي، ونورا من خلفي ونورا من يمين ونورا عن شمالي ونورا من فوق ونورا من تحتي؛ اللهم زدني نورا، وأعطني نورا أعظم نور، واجعل لي نورا برحمتك يا أرحم الراحمين. فإذا فرغت من الدعاء، فلا تشتغل إلى وقت الفرض

إلا بفكر وتسبيح أو قراءة قرآن. فإذا سمعت الأذان في أثناء ذلك فاقطع ما أنت فيه واشتغل بجواب المؤذن. فإذا قال المؤذن: الله أكبر، فقل مثل ذلك، وكذلك في كلم كلمة غلا في الحيعلتين فقل فيهما: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فإذا قال: الصلاة خير من النوم، فقل: صدقت وبررت وأنا على ذلك من الشاهدين. ن فإذا سمعت الاقامة فقل مثل ما يقول، إلا في قوله: قد قامت الصلاة، فقل: أقامها الله وأدامها ما دامت السموات والأرض. فإذا فرغت من جواب المؤذن فقل: اللهم إني أسألك عند حضور صلاتك وأصوات دعاتك، وإدبار ليلك، وإقبال نهارك: أن تؤتي محمدا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد يا أرحم الراحمين. فإذا سمعت الأذان وأنت في الصلاة فتمم الصلاة، ثم تدارك الجواب بعد السلام على وجهه. فإذا أحرم الإمام بالفرض، فلا تشتغل إلا بالاقتداء به وصل الفرض كما سيتلى عليك في كيفية الصلاة وآدابها فإذا فرغت فقل: اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد وسلم، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وإليك يعود السلام، فحينا ربنا بالسلام، وأدخلنا الجنة دار السلام؛ تباركت يا ذا الجلال والإكرام؛ سبحان ربي العلى الأعلى الوهاب، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيى ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله، أهل النعمة والفضل والثناء الحسين، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. ثم ادع بعد ذلك بالجوامع الكوامل، وهو ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم - عائشة رضي الله عنها، فقل: (اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأسألك الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل ونية واعتقاد، وأعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول وعمل ونية واعتقاد، وأسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وما قضيت على من أمر فاجعل عاقبته رشدا) . ثم ادع بما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها، فقل: (يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث، ومن عذابك أستجير، لا تكلني إلى نفسي، ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، وأصلح لي شأني كله بما أصلحت به الصالحين) . ثم قل ما قاله عيسى على نبينا

وعليه الصلاة والسلام. اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره، ولا أملك نفع ما أرجو، وأصبح الأمر بيدك لا بيد غيرك، وأصبحت مرتهنا بعملي؛ فلا فقير أفقر مني إليك، ولا غنى أغنى منك عني، اللهم لا تشمت بي عدوى، ولا تسؤ بي صديقي، ولا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تجعل الدنيا أكبر همي ولا مبلغ علمي، ولا تسلط علي بذنبي من لا يرحمني. ثم ادع بما بدا لك من الدعوات المشهورات، واحفظها مما أوردنا في كتاب الدعوات من كتاب (إحياء علوم الدين) . ولتكن أوقاتك بعد الصلاة إلى طلوع الشمس، موزعة على أربع وظائف: وظيفة في الدعوات، ووظيفة في الأذكار والدعوات؛ وتكررها في مسبحة، ووظيفة في قراءة القرآن، ووظيفة في التفكر، فتفكر في ذنوبك وخطاياك وتقصيرك في عبادة مولاك، وتعرضك لعقابه الأليم وسخطه العظيم. وترتب بتدبيرك أورادكن في جميع يومك لتتدارك به ما فرط من تقصيرك، وتحترز من التعرض لسخط الله تعال الأليم في يومك، وتنوي الخير لجميع المسلمين وتعز ألا تشغل في جميع نهارك إلا بطاعة الله تعالى، وتقصد في قلبك الطاعات التي تقدر عليها وتختار أفضلها، وتتأمل تهيئة أسبابها لتشتغل بها؛ ولا تدع عنك التفكر في قرب الأجل، وحلول الموت القاطع للأمل، وخروج الأمر عن الاختيار، وحصول الحسرة والندامة بطول الاغترار. وليكن من تسابيحك، وأذكارك عشر كلمات: إحداهن: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، له الحمد، يحيى ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. الثانية: لا إله إلا الله الملك الحق المبين. الثالثة: لا إله إلا الله الواحدن القهار، رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار. الرابعة: سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الخامسة: سبوح قدوس رب الملائكة والروح. السادسة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم. السابعة: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا الله هو الحي القيوم، وأسأله التوبة والمغفرة. الثامنة: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا راد لما قضيت ولا ينفع ذا الجد منك الجد. التاسعة: اللهم صلى على محمد، وعلى آل محمد وصحبه وسلم. العاشرة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم. تكرر كل واحدة من هذه الكلمات إما مائة مرة أو سبعين مرة، أو عشر مرات، وهو أقله، ليكون المجموع مائة. ولازم هذه الاوراد، ولا تتكلم قبل طلوع الشمس؛ ففي الخبر أن ذلك أفضل من اعتاق ثمان رقاب من ولد اسماعيل - على نبينا

وعليه الصلاة والسلام - أعني الاشتغال بالذكر إلى طلوع الشمس من غير أن يتخلله كلام. آداب ما بعد طلوع الشمس إلى الزوال فإذا طلعت الشمس وارتفعت قدر رمح، فصل ركعتين، وذلك عند زوال وقت الكراهة للصلاة؛ فإنها مكروهة من بعد فريضة الصبح إلى ارتفاع الشمس. فإذا أضحى النهار، ومضى منه قريب من ربعه، صل صلاة الضحى أربعا أو ستا أو ثمانية، مثنى، مثنى،؛ فقد نقلت هذه الاعداد كلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والصلاد خير كلها فمن شاء فليستكثر، ومن شاء فليستقلل، فليس بين طلوع الشمس والزوال راتبة من الصلة إلا هذه؛ فما فضل منها من أوقاتك فلك فيه أربع حالات: الحالة الأولى وهي الافضل: أن يصرفه في طلب العلم النافع في الدين، دون الفصول الذي أكب الناس عليه وسموه علما. والعلم النافع هو ما يزيد في خوفك من الله تعالى، ويزيد في بصيرتك بعيوب نفسك، ويزيد في معرفتك بعبادة ربك، ويقلل من رغبتك في الدنيا، ويزيد في رغبتك فني الآخرة، ويفتح بصيرتك بآفات أعمالك حتى تحترز منها، ويطلعك على مكايد الشيطان وغروره، وكيفية تلبيسه على علماء السوء، ن حتى عرضهم لمقت الله تعالى وسخطه؛ ن حيث أكلوا الدنيا بالدين، واتخذوا العلم ذريعة ووسيلة الى أخذ اموال السلاطين، وأكل أموال الاوقاف واليتامى والمساكين، وصرفوا همتهم طول نهارهم إلى طلب الجاه والمنزلة في قلوب الخلق، واضطرهم ذلك إلى المراءاة والممراة، والمشاقة في الكالم والمباهاة. وهذا الفن من العلم النافع، قد جمعناه في كتاب (إحياء علوم الدين) فإن كنت من أهله فحصله واعمل به ثم علمه وادع إليه؛ فمن علم ذلك وعمل به، ثم علمه ودعا إليه فذلك يدعى عظيما في ملكوت السموات بشهادة عيسى عليه السلام. فإذا أفرغت من ذلك كله، وفرغت من إصلاح نفسك ظاهرا وباطنا، وفضل شيء من أوقاتك، فلا بأس أن تشتغل بعلم المذهب في الفقه لتعرف به الفروع النادرة في العبادات، وطريق التوسط بين الخلق في الخصومات عند انكبابهم على الشهوات.. فذلك أيضا بعد الفراغ من هذه المهمات من جملة فروض الكفايات. فإن دعتك نفسك إلى ترك ما ذكرناه من الأوراد والأذكار استثقالا لذلك، فاعلم أن الشيطان اللعين قد دس في قلبك

الداء الدفين، وهو حب المال والجاه فإياك أن تغتر به، فتكون ضحكة له، فيهلكك، ثم يسخر منك. فإن جربت نفسك مدة في الاوراد والعبارات، فكانت لا تستثقلها كسلا عنها، لكن ظهرت رغبتك في تحصيل اعلم النافع، ولم ترد به إلا وجه الله تعالى والدار الآخرة، فذلك أفضل من نوافل العبادات مهما صحت النية. ولكن الشأن في صحة النية فإن لم تصح النية فهو معدن غرور الجهال، ومزلة أدام الرجال. الحالة الثانية: ألا تقدر على تحصيل اعلم النافع في الدين، ولكن تشتغل بوظائف العبادات من الذكر والتسبيح والقراءة والصلاة فذلك من درجات العابدين، وسير الصالحين، وتكون أيضا بذلك من الفائزين. الحالة الثالثة: أن تشتغل بما يصل منه خير إلى المسلمين، ويدخل به سرور على قلوب المؤمنين، أو تتيسر به الأعمال الصالحة للصالحين: كخدمة الفقهاء والصوفية وأهل الدين، والتردد في أشغالهم، والسعي في إطعام الفقراء والمساكين، والتردد مثلا على المرضى بالعيادة، وعلى الجنائز بالتشييع، فكان ذلك أفضل من النوافل؛ فإن هذه عبادات، وفيها رفق للمسلمين. الحالة الرابعة: ألا تقوى على ذلك، فاشتغل بحاجاتك اكتسابا على نفسك أو على عيالك، وقد سلم المسلمون منك وآمنوا من لسانك ويدك، وسلم لك دينك، إذا لم ترتكب معصية؛ فتنال بذلك درجة أصحاب اليمين، إن لم تكن من أهل الترقي إلى مقامات السابقين. فهذا أقل الدرجات في مقامات الدين، وما بعد هذا فهو من مراتع الشياطين؛ وذلك بأن تشتغل - والعياذ بالله - بما يهدم دينك، أو تؤذي به عبدا من عباد الله تعالى؛ فهذه رتبة الهالكين؛ فإياك أن تكون في هذه الطبقة. واعلم أن العبد في حق دينه على ثلاث درجات: إما سالم.. وهو المقتصر على أداء الفرائض وترك المعاصي. أو رابح.. وهو المتطوع بالقربات والنوافل. أو خاسر.. وهو المصر عن اللوازم. فإن نلم تقدر أن تكون رابحا، فاجتهد أن تكون سالما، وإياك ثم إياك أن تكون خاسرا. والعبد في حق سائر العباد له ثلاث درجات: الأولى: أن ينزل في حقهم منزلة الكرام البررة من الملائكة، وهو أن يسعى في أغراضهم؛ رفقا بهم، وإدخالا للسرور على قلوبهم. الثانية: أن ينزل في حقهم منزلة البهائم والجمادات؛ فلا ينالهم خيره، ولكن عنهم شره. الثالثة: أن ينزل في حقهم منزلة العقارب والحيات والسباع الضاريات، لا يرجى خيره، ويتقى شره. فإن لم تقدر على أن تلتحق بأفق الملائكة، فاحذر أن تنزل عن درجة البهائم والجمادات إلى درجة العقارب

والحيات والسباع الضاريات. فإن رضيت لنفسك النزول من أعلى عليين، فلا ترض لها من الهوى إلى أسفل سافلين، فلعلك تنجو كفافا لا لك ولا عليك. فعليك في بياض نهارك الا تشتغل إلا بما ينفعك في معادك أو معاشك الذي لا تستغنى عن الاستعانة به على معادك. فإن عجزت عن القيام بحق دينك مع مخالطة الناس، وكنت لا تسلم، فالعزلة أولى، فعليك بها؛ ففيها النجاة والسلامة. فإن كانت الوساوس في العزلة تجاذبك إلى مالا يرضى الله تعالى، ولم تقدر على قمعها بوظائف العبادات فعليك بالنوم فهو أحسن أحوالك وأحوالنا إذا عجزنا عن الغنيمة رضينا بالسلامة في الهزيمة. فأحسن بحال من سلامة دينه في تعطيل حياته إذ النوم أخو الموت، وهو تعطيل الحياة والتحاق بالجمادات.

آداب الاستعداد لسائر الصلوات آداب الاستعداد لسائر الصلوات ينبغي أن تستعد لصلاة الظهر قبل الزوال، فتقدم الفيلولة إن كان بك قيام في الليل، أو سهر في الخير؛ فإن فيها معونة على قيام الليل، كما أن في السحور معونة على صيام النهار، والقيلولة من غير قيام بالليل كالسحور من غير صيام بالنهار. فإذا قلت، فاجتهد أن تستيقظ قبل الزوال، وتتوضأ وتحضر المسجد، وتصلي تحية المسجد، وتنتظر المؤذن فتجيبه، ثم تقوم فتصلي أربع ركعات عقب الزوال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطولهن ويقول: (هذا وقت تفتح فيه أبواب السماء، فأحب أن يرفع لي فيه عمل صالح) . وهذه الأربع قبل الظهر سنة مؤكدة؛ ففي الخبر: (من صلاهن فأحسن ركوعهن وسجودهنن صلى معه سبعون ألف ملك يستغفرون له إلى الليل) . ثم صل الفرض مع الإمام ثم صل بعد الفرض ركعتين؛ فهما من الرواتب الثابتة. ثم صل الفرض مع الإمام، ثم صل بعد الفرض ركعتين فهما من الرواتب الثابتة. ولا تشتغل إلى العصر إلا بتعلم علم أو إعانة مسلم، أو قراءة قرآن أو سعي في معاش لتستعين به على دينك، ثم صل أربع ركعات قبل العصر؛ فهي سنة مؤكدة؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأ صلى أربعا قبل العصر) فاجتهد أن ينالك دعاؤه صلى الله عليه وسلم. ولا تشتغل بعد العصر إلا بمثل ما سبق قبله، ولا ينبغي أن تكون اوقاتك مهملة فتشتغل في كل وقت بما اتفق كيف اتفق، بل ينبغي أن حاسب نفسك وترب أورادك في ليلك ونهارك، وتعين لكل وقت شغلا لا تتعداه، ولا تؤثر فيه سواه فبذلك تظهر بركة الأوقات. فأما إذا تركت نفسك سدى مهملا إهمال البهائم لا تدري بماذا تشتغل في كل وقت، فينقضي أكثر أوقاتك ضائعا، وأوقاتك عمرك، وعمرك رأس مالك، وعليه تجارتك، وبه وصولك إلى نعيم دار الأبد نفي جوار الله تعالى؛ فكل نفس من أنفاسك جوهرة لا قيمة لها؛ ن إذ لا بدل له فإذا فات فلا عود له. فلا تكن كالحمقى المغرورين الذين يفرحون كل يوم بزيادة أموالهم مع نقصان أعمارهم، فأي خير في مال يزيد وعمر ينقص! ولا تفرح إلا بزيادة علم أو عمل صالح؛ ن فإنهما رفيقاك

يصحبانك في القبر حيث يتخلف عنك أهلك ومالك، وولدك، وأصدقاؤك. ثم إذا اصفرت الشمس، فاجتهد أن تعود إلى المسجد قبل الغروب، وتشتغل بالتسبيح والاستغفار؛ فإن فضل هذا الوقت كفضل ما قبل الطلوع، قال الله تعالى: (وَسَبِح بِحَمدِ رَبِك قَبلَ طُلوع الشَمس وَقَبلَ غُروبِها) . واقرأ قبل غروب الشمس أربع سور من القرآن هي: والشمس وضحاها والليل إذا يغشى، والمعوذتين. ولتغرب عليك الشمس وأنت في الاستغفار، فإذا سمعت الأذان فاجبه، وقل بعده: اللهم إني أسألك عند إقبال ليلك، وإدبارك نهارك، وحضور صلاتك، وأصوات دعاتك: أن تؤتي محمد الوسيلة - الدعاء كما سبق. ثم صل الفرض بعد جواب المؤذن والاقامة، وصل بعده قبل أن تتكلم ركعتين، فهما راتبتا المغرب وإن صليت بعدهما أربعا تطيلهن، فهن أيضا سنة. وإن أمكنك أن تنوي الاعتكاف إلى العشاء، وتحيى ما بين العشاءين بالصلاة فافعل، فقد ورد في فضل ذلك ما لا يحصى، وهي ناشئة الليل؛ لأنه أول نشأه، وهي صلاة الأوابين، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: (تَتَجافى جُنوبُهُم عَنِ المَضاجِع) ن فقال: (هي الصلاة ما بين العشاءين؛ فإنها تذهب بملاغات النهار) . والملاغات دخل وقت العشاء، فصل أربع ركعات قبل الفرض إحياء لما بني الأذانين ففضل ذلك كثير وفي الخبر: (أن الدعاء بين الأذان والاقامة لا يرد) . ثم صل الفرض وصل الراتبة ركعتين، واقرأ فيهما سورة الم السجدة، وتبارك الملك أو سورة يسس، والدخان فذلك مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصل بعدهما أربع ركعات، ففي الخبر ما يدل على عظم فضلهن. ثم صل الوتر بعدها ثلاثا بتسليمتين أو بتسليمة واحدة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها سورة سبح اسم ربك الأعلى، وقل يأيها الكافرون، والاخلاص والمعوذتين. فإن كنت عازما

على قيام الليل، فأخر الوتر، ليكون آخر صلاتك وترا. ثم اشتغل بعد ذلك بمذاكرة علم أو مطالعة كتاب، ولا تشتغل باللهو واللعب فيكبون ذلك خاتمة أعمالك قبل نومك؛ فإنما الأعمال بخواتيمها. آداب النوم فإذا أردت النوم، فابسط فراشك مستقبل القبلة، ونم على يمينك كما يضطجع الميت في الحده. واعلم أن النوم مثل الموت، واليقظة، فكن مستعدا للقائه، بأن تنام على طهارة، وتكون وصيتك مكتوبة تحت رأسك، وتنام تائبا من الذنوب، مستغفرا، عازما على ألا تعود إلى معصية. واعزم على الخير لجميع المسلمين إن بعثك الله تعالى، وتذكر أنك ستضجع في اللحدن كذلك وحيدا فريدا ليس معك إلا عملك، ولا تجزى إلا بسعيك. ولا تستجلب النوم تكلفا بتمهيد الفرش الوطيئة؛ فإن النوم تعطيل لحياة، إلا إذا كانت وبالا عليك؛ فنومك سلامة لدينك. واعلم أن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة، فلا يكن نومك بالليل والنهار أكثر من ثماني ساعات، فيكفيك إن عشت مثلا ستين سنة أن تضيع منها عشرين سنة وهو ثلث عمرك. وأعد عند النوم سواكك وطهورك، واعزم على قيام الليل، أو على القيام قبل الصبح، فركعتان في جوف الليل كنز من كنوز البر؛ فاستكثر من كنوزك ليوم فقرك، فلن تغني عنك كنوز الدنيا إذا مت. وقل عند نومك: باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه، فاغفر لي ذنبي؛ اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك، اللهم باسم أحيا وأموت؛ أعوذ بك اللهم من شر كل ذي بشر، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم؛ اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين، وأغنني من الفقر؛ اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها، لك مماتها ومحياها، إن أمتها فاغفر لها، وإن أحييتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين؛ اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة؛ اللهم أيقظني في أحب الساعات إليك، واستعملني بأحب الاعمال إليك، لتقربني إليك زلفى، وتبعدني عن سخطك بعدا، أسألك

فتعطيني، وأستغفرك فتغفر لي،، وأدعوك فتستجيب لي. ثم اقرأ آية الكرسي، وآمن الرسول إلى آخر السورة، والاخلاص، والمعوذتين، وتبارك الملك. ويأخذك النوم وأنت على ذكر الله وعلى الطهارة. فمن فعل ذلك عرج بروحه إلى العرش، وكتب مصليا إلى أن يستيقظ. فإذا استيقظت، فارجع إلى ما عرفتك أولا، وداوم على هذا الترتيب بقية عمرك. فإن شقت عليك المداومة، فاصبر صبر المريض على مرارة الدواء انتظارا للشفاء، وتفكر في قصر عمرك، وإن عشت مثلا مائة سنة فهي قليلة بالاضافة إلى مقامك في الدار الآخرة وهي أبد الآباد، وتأمل أنك كيف تتحمل المشقة والذل في طلب الدنيا شهرا أو سنة رجاء أن تستريح بها عشرين سنة مثلا، فكيف لا تتحمل ذلك أيام قلائل رجاء الاستراحة أبد الآباد! ولا ت طول أملك فيثقل عليك عملك، وقر قرب الموت، وقل في نفسك: إني أتحمل المشقة اليوم فلعلي أموت الليلة، وأصبر الليلة فلعلى أموت غدا؛ فإن الموت لا يهجم في وقت مخصوص، وحال مخصوص، فلا بد من هجومه؛ فالاستعداد له أولى من الاستعداد للدنيا، وأنت تعلم أنك لا تبقى فيها إلا مدة يسيرة، ولعله لم يبق من أجلك إلا يوم واحد، أو نفس واحد؛ فقدر هذا في قلبك كل يوم، وكلف نفسك الصبر على طاعة الله يوما فيوما، فإنك لو قدرت البقاء خمسين سنة، وألزمتها الصبر على طاعة الله تعالى نفرت واستعصت عليك. فإن فعلت ذلك فرحت عند الموت فرحا لا آخر له. وإن سوفت وتساهلت جاءك الموت في وقت لا تحتسبه، وتحسرت تحسرا لا آخر له، وعند الصباح يحمد القوم السرى، وعند الموت يأتيك الخبر اليقين، ولتعلمن نبأه بعد حين. وإذا أرشدناك إلى ترتيب الأوراد، فلنذكر لك كيفية الصلاة والصوم وآدابهما، وآداب الإمامة والقدوة والجمعة. آداب الصلاة فإذا فرغت من طهارة الحدث، وطهارة الخبث، في البدن، والثياب، والمكان ومن ستر العورة من السرة إلى الركبة.. فاستقبل القبلة قائما مزاوجا بين قدميك لا تضمهما، واستو قائما، واقرأ (قل أعوذ برب الناس) تحصنا بها من الشيطان الرجيم. وأحضر قلبك

ما أنت فيه، وفرغه من الوسواس، وانظر بين يدي من تقوم، ومن تناجي، واستح أن تناجى أن تناجى مولاك بقلب غافل، وصدر مشحون بوساوس الدنيا وخبائث الشهوات. واعلم أنه تعالى مطلع على سريرتك وناظر إلى قلبك، فإنما يتقبل الله من صلاتك بقدر خشوعك وخضوعك وتواضعك وتضرعك، واعبده في صلاتك كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فإن لم يحضر قلبك ولم تسكن جوارحك لقصور معرفتك بجلال الله تعالى، فقدر أن رجلا صالحا من وجوه أهل بيتك ينظر إليك ليعلم كيف صلاتك، فعند ذلك يحضر قلبك وتسكن جوارحك، ثم ارجع إلى نفسك وقل: يا نفس السوء الا تستحين من خالقك ومولاك، إذ قدرت اطلاع عبد ذليل من عباده عليك، وليس بيده ضرك ولا نفعك خشعت جوارحك وحسنت صلاتك، ثم إنك تعلمين أنه مطلع عليك، ولا تخشعين لعظمته، أهو - تعالى - عندك أقل من عباده؟! فما أشد طغيانك وجهلكّ وما أعظم عداوتك لنفسك. وعالج قلبك بهذه الحيل فعسى أن يحضر معك في صلاتك؛ فإنه ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها، وأما ما أتيت مع الغفلة والسهو فهو إلى الاستغفار والتكفير أحوج. فإذا حضر قلبك، فلا تترك الإقامة، وإن كنت وحك. وإن انتظرت حضور جماعة فأذن، ثم أقم. فإذا أقمت فانو وقل في قلبك: أؤدي فرض الظهر لله تعالى، وليكن ذلك حاضرا في قلبك عند تكبيرك. ولا تغرب عنك النية قبل الفراغ من التكبير، وارفع يديك عند التكبير - بعد إرسالهما أولا - إلى حذو منكبيك وهما مبسوطتان، وأصابعهما منشورة، ولا تتكلف ضمهما ولا تفريجهما، بحيث تحاذى بإبهاميك شحمتى أذنيك، وبكفيك منكبيك، فإذا استقرتا في مقرهما فكبر، ثم أرسلهما برفق. ولا تدفع يديك عند الرفع والإرسال إلى قدام دفعا، ولا إلى خلف رفعا، ولا تنفضهما يمينا ولا شمالا. فإذا أرسلتهما فاستأنف رفعهما إلى صدرك، وأكرم اليمنى بوضعها على اليسرى، وانشر أصابع اليمنى على طول ذراعك اليسرى، واقبض بها على كوعها. وقل بعد التكبير: الله أكبر كبيرا، والحمدلله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، ثم اقرأ: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين. ثم قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم أقرأ الفاتحة بتشديداتها، واجتهد في الفرق ببين الضاد والظاء في قراءتك في الصلاة،

وقل آمين، ولا تصله بقولك: ولا الضالين - وصلا واجهر بالقراءة في الصبح والمغرب، والعشاء، أعني في الركعتين الأوليين إلا أن تكون مأموما واقرأ في الصبح بعد الفاتحة من السور الطوال من المفصل، وفي المغرب من قصاره، وفي الظهر والعصر والعشاء من أوساطه، نحو: (وَالسَماءِ ذَاتِ البُروج) وما قاربها من السور، وفي الصبح في السفر: (قُل يَأَيُها الكَافِرون) ، و (قُل هُوَ الله أَحَد) . ولا تصل آخر السورة بتكبيرة الركوع، ولكن افصل بينهما بمقدار سبحان الله. وكن في جميع قيامك مطرقا، قاصرا نظرك على مصلاك؛ فذلك أجمع لهمك، وأجدر لحضور قلبك وإياك أن تلتفت يمينا وشمالا في صلاتك. ثم كبر للركوع وارفع يديك كما سبق، ومد التكبير إلى انتهاء الركوع، ثم ضع راحتيك على ركبتيك وأصابعك منشورة، وانصب ركبتيك، ومد ظهرك وعنقك ورأسك مستويا كالصحيفة الواحدة، وجاف مرفقيك عن جنبيك والمرأة لا تفعل ذلك بل تضم بعضها إلى بعض، وقل: سبحان ربي العظيم - ثلاثا. وإن كنت منفردا، فالزيادة إلى سبع وعشرين حسنة. ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائما، وارفع يديك قائلا: سمع الله لمن حمده، فإذا استويت قائما فقل: ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الارض وملء ما شئت من شي بعد. وإن كنت في فريضة الحج فاقرأ القنوت في الركعة الثانية في اعتدالك من الركوع. ثم اسجد مكبرا غير رافع اليدين، وضع أولا على الأرض ركبتيك، ثم يديك ثم جبهتك مكشوفة، وضع أنفك مع الجبهة وجاف مرفقيك عن جنبيك، وأقل بطنك عن فخذيك، والمرأة لا تفعل ذلك، وضع يديك على الأرض حذو منكبيك، ولا تفرض ذراعيك على الارض، وقل: سبحان ربي الاعلى - ثلاثا أو سبعا أو عشرا، إن كنت منفردا. ثم ارفع رأسك من السجود مكبرا حتى تعتدل جالسا، واجلس على رجلك اليسرى، وانصب قدمك اليمنى، وضع يديك على فخذيك، والأصابع منشورة، وقل: رب اغفر لي، وارحمني، وارزقني، واهدني، واجبرني وعافني واعف عني. ثم اسجد سجدة ثانية كذلك.. ثم اعتدل جالسا للاستراحة في كل ركعة لا تشهد عقبها، ثم تقوم وتضع اليدين على الأرض، ولا تقدم إحدى رجليك في حال الارتفاع، وابتدىء بتكبيرة الارتفاع عند القرب من حد جلسة الاستراحة، ومدها إلى انتصاف ارتفاعك إلى قيامك ولتكن هذه الجلسة جلسة خفيفة مختطفة. وصل الركعة الثانية كالأولى، وأعد التعوذ في الابتداء، ثم اجلس في الركعة الثانية للتشهد

الأول، وضع اليد اليمنى في جلسة التشهد الاول على الفخذ اليمنى مقبوضة الأصابع إلا المسبحة والإبهام فترسلها، وانشر مسبحة يمناك عند قولك: (إلا الله) لا عند قولك: (لا إله) . وضع اليد اليسرى منشورة الاصابع على الفخذ اليسرى، واجلس على رجلك اليسرى في هذا التشهد كما بين السجدتين، وفي التشهد الاخير متوركا. واستكمل الدعاء المعروف المأثور بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. واجلس فيه على وركك الأيسر، وضع رجلك اليسرى خارجة من تحتك، وانصب القدم اليمنى، ثم قل بعد الفراغ: السلام عليكم ورحمة الله - مرتين، من الجانبين، والتفت بحيث يرى بياض خدك من جانبيك، وانو الخروج من الصلاة، وانو السلام على من بجانبك من الملائكة والمسلمين. وهذه هيئة صلاة المنفرد.. وعماد الصلاة الخشوع، وحضور القلب مع القراءة والذكر بالتفهم. قال الحسن البصري - رحمة الله تعالى: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليصلي الصلاة فلا يكتب له منها سدسها ولا عشرها، وإنما يكتب للعبد من صلاته بقدر ما عقل منها) . آداب الإمامة والقدوة ينبغي للإمام أن يخفف الصلاة، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ما صليت خلف أحد صلاة أخف ولا أتم من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يكبرما لم يفرغ المؤذن من الاقامة، وما لم تتسو الصفوف، ويرفع الإمام صوته بالتكبيرات، ولا يرفع المأموم صوته إلا بقدر ما يسمع نفسه، وينوي الإمام الإمامة لينال الفضل، فإذا لم ينو صحت صلة القوم إذا نووا الاقتداء به، ونالوا فضل القدوة. ويسر الإمام بدعاء الاستفتاح والتعوذ كالمنفرد، ويجهر بالفاتحة والسورة في جميع الصبح، وأوليى المغرب والعشاء، وكذلك المنفرد، ويجهر بقوله: (آمين) في الجهرية، وكذلك المأموم، ويقرن المأموم تأمينه بتأمين الإمام

معا تعقيبا له، ويسكت الإمام سكتة عقب الفاتحة ليثوب غليه نفسه، ويقرأ المأموم الفاتحة في الجهرية في هذه السكتة، ليتمكن من الاستماع عند قراءة الإمام، ولا يقرأ المأموم السورة في الجهرية إلا إذا لم يسمع صوت الإمام. ولا يزيد الإمام على ثلاث في تسبيحات الركوع والسجود، ولا يزيد في التشهد الأول بعد قوله: (اللهم صل على محمد) ويقتصر في الركعتين الأخيرتين على الفاتحة، ولا يطول على القوم، ولا يزيد دعاؤه في التشهد الأخير على قدر تشهده وصلاته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينوي الإمام عند التسليم السلام على القوم، وينوي القوم بتسليمهم جوابه. ويلبث الإمام ساعة بعد ما يفرغ من السلام ويقبل على الناس بوجهه، ولا يلتفت إن كان خلفه نساء حتى ينصرفن أولا. ولا يقوم أحد من القوم حتى يقوم الإمام. وينصرف الإمام حيث شاء عن يمينه أو شماله، واليمن أحب إلي. ولا يخص الإمام نفسه بالدعاء في قنوت الصبح، بل يقول: (اللهم اهدنا) ن ويجهر به، ويؤمن القوم ولا يرفعون أيديهم إذ لم يثبت ذلك في الاخبار، ويقرأ المأموم بقية القنوت من قوله: (إنك تقضي ولا يقضى عليك) . ولا يقف المأموم وحده، بل يدخل في الصف، أو يجر إلى نفسه غيره، ولا ينبغي للمأموم أن يتقدم على الإمام في أفعاله أو يساويه، بل ينبغي أن يتأخر عنه، ولا يهوي للركوع إلا إذا انتهى الإمام إلى حد الركوع، ولا يهوى للسجود ما لم تصل جبهة الامام إلى الارض. آداب الجمعة اعلم أن الجمعة عيدي المؤمنين، وهو يوم شريف خص الله عزوجل به هذه الامة، وفيه ساعة مبهمة لا يوافقها عبد مسلم يسال الله تعالى فيها حاجة إلا أعطاه إياها. فاستعد لهبا من يوم الخميس؛ بتنظيف الثياب، وبكثرة التسبيح والاستغفار عشية الخميس، فإنها ساعة توازى في الفضل ساعة يوم الجمعة. وانو صوم يوم الجمعة، لكن مع الخميس أو السبت؛ إذ جاء في افراده نهى. فإذا طلع عليك الصبح، فاغتسل؛ ن (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) أي ثابت مؤكد. ثم تزين بالثياب البيض؛ فإنها أحب الثياب إلى الله تعالى، واستعمل من الطيب أطيب ما عندك، وبالغ في تنظيف بدنك بالحلق والقص

والسواك وسائر أنواع النظافة وتطييب الرائحة. ثم بكر إلى الجامع، واسع إليها على الهينة والسكينة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (نمن راح إلى الجمعة في الساعة الاولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة. فإذا خرج الإمام طوت الصحف، ورفعت الاقلام، واجتمعت الملائكة عند المنبر يستمعون الذكر) . ويقال إن الناس في قربهم عند النظر إلى وجه الله تعالى على قدر بكورهم إلى الجمعة. ثم إذا دخلت الجامع، فاطلب الصف الاول، فإذا اجتمع الناس فلا تتخط رقابهم، ولا تمر بين أيديهم وهم يصلون، واجلس بقرب حائط أو اسطوانة حتى لا يمروا بين يديك، ولا تقعد حتى تصلي التحية، والأحسن ان تصلي أربع ركعات، تقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة الاخلاص خمسين مرة، ففي الخبر: (أن من فعل ذلك لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له) . ولا تترك التحية وإن كان الإمام يخطب. ويستحب في هذا اليوم أو في ليلته أن يصلى أربع ركعات بأربع سور: سورة الانعام، والكهف، وطه، ويس، فإن لم تقدر فسورة يس والدخان، و (الم) السجدة، وسورة الملك. ولا تدع قراءة هذه السورة ليلة الجمعة؛ ففيها فضل كثير. ومن لم يحسن ذلك فليكثر من قراءة سورة الاخلاص. وأكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم خاصة. ومتى خرج الامام، فاقطع الصلاة والكلام، واشتغل بجواب المؤذن ثم استماع الخطبة والاتعاظ بها، ودع الكلام رأسا في الخطبة، ففي الخبر: (ان من قال لصاحبه - والإمام يخب - أنصت، أو صه؛ فقد لغا، نومن لغا فلا جمعة له) ، آي لأن قوله أنصت: كلام، فينبغي أن ينهىغيره بالاشارة لا باللفظ. ثم اقتد بالإمام كما سبق. فإذا فرغت وسلمت، فاقرأ الفاتحة قبل أن تتكلم سبع مرات، والاخلاص سبعا، والمعوذتين سبعا سبعا، فذلك يعصمك من الجمعة الاخرى، ويكون حرزا لك من الشيطان، وقل بعد ذلك: يا غني، يا حميد، يا مبدىء، يا معيد، يا رحيم، يا ودود؛ أغنني بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. ثم صل بعد الجمعة ركعتين أو أربعا أو ستا، مثنى، مثنى، فكل ذلك مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحوال مختلفة. ثم لازم المسجد إلى المغرب أو إلى العصر، وكان حسن المراقبة للساعة الشريفة؛ فإنها مبهمة في جميع اليوم، فعساك أن تدركها وأنت خاشع لله تعالى متذلل متضرع. ولا تحضر في الجامع مجالس الحلق، ولا مجالس

القصاص، بل مجلس العلم النافع، وهو الذي يزيد في خوفك من الله تعالى، وينقص من رغبتك في الدنيا، فكل علم لا يدعوك من الدنيا إلى الآخرة فالجهل أعود عليك منه؛ فاستعذ بالله من علم لا ينفع. وأكثر من الدعاء عند طلوع الشمس، وعند الزوال، وعند الغروب، وعند الإقامة، وعند صعود الخطيب المنبر، وعند قيام الناس إلى الصلاة، فيوشك أن يكون الساعة الشريفة في بعض هذه الاوقات. واجتهد أن تتصدق في هذا اليوم بما تقدر عليه وإن قل، فتجمع بين الصلاة والصوم والصدقة والقراءة والذكر والاعتكاف والرباط. واجعل هذا اليوم من الاسبوع خاصة لآخرتك؛ فعساه أن يكون كفارة لبقية الاسبوع. آداب الصيام لا ينبغي أن تقتصر على صوم رمضان فتترك التجارة بالنوافل، وكسب الدرجات العالية في الفراديس؛ فتتحسر إذ نظرت إلى منازل الصائمين، كما تنظر إلى الكواكب الدرية، وهم في أعلى عليين. والأيام الفاضلة التي شهدت الأخبار بشرفها وفضلها، وبجزالة الثواب في صيامها: يوم عرفة لغير الحاج، ويوم عاشوراء، والعشر الاول من ذي الحجة، والعشر الأول من المحرم، ورجب وشعبان، وصوم الأشهر الحرم من الفضائل، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، واحد فرد وثلاثة سرد، وهذه في السنة. وأما في الشهر فأول الشهر وأوسطه وآخره، والأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وأما في الاسبوع فيوم الاثنين والخميس والجمعة؛ فتكفر ذنوب الاسبوع بصوم الاثنين والخميس والجمعة، وتكفر ذنوب الشهر باليوم الأول واليوم الأوسط واليوم الآخر والأيام البيض، وتكفر ذنوب السنة بصيام هذه الأيام والاشهر المذكورة. ولا تظن إذا صمت أن الصوم هو ترك الطعام والشراب والوقاع فقط، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش) ، بل تمام الصوم بكف الجوارح كلها عما يكرهه الله تعالى، بل ينبغي أن تحفظ العين عن النظر إلى المكاره، واللسان عن النطق بما لا يعنيك، والأذن عن الاستماع إلى ما حرمه الله؛ فإن المستمع شريك

القائل وهو أحد المغتابين، وكذلك تكف جميع الجوارح كما تكف البطن والفرج، ففي الخبر (خمس يفطرن الصائم: الكذب، والغيبة، والنميمة، واليمين الكاذبة، والنظر بشهوة) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث، ولا يفسق، ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم) . ثم اجتهد أن تفطر على طعام حلال، ولا تستكثر فتزيد على ما تأكله كل ليلة، فلا فرق إذا استوفيت ما تعتاد أن تأكله دفعتين في دفعة واحدة، وإنما المقصود بالصيام كسر شهوتك، وتضعيف قوتك لتقوى بها على التقوى. فإذا أكلت عشية ما تداركت به ما فتك ضحوة، فلا فائدة في صومك، وقد ثقلت عليك معدتك، وما وعاء يملأ أبغض إلى الله تعالى من حلال، فكيف إذا ملىء من حرام؟ فإذا عرفت معنى الصوم فاستكثر منه ما استطعت، فإنه أساس العبادات، ومفتاح القربات؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزى به) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يقول الله تعالى عزوجل من قائل: إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلى، فالصوم لي وأنا أجزى به) وقال صلى الله عليه وسلم: (للجنة باب له الريان، لا يدخله إلا الصائمون) . فهذا القدر من شرح الطاعات يكفيك من بداية الهداية، فإذا احتجت إلى الزكاة، والحج، أو إلى مزيد شرح الصلاة والصيام، فاطلبه مما أوردناه في كتابنا (إحياء علوم الدين) . القسم الثاني القول في اجتناب المعاصى توطئة اعلم ان للدين شطرين، أحدهما: ترك المناهي، والآخر: فعل الطاعات.. وترك المناهي هو الأشد؛ فإن الطاعات يقدر عليها كل واحد، وترك الشهوات لا يقدر عليه إلا الصديقون،

فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر السوء، والمجاهد من جاهد هواه) . واعلم أنك إنما تعصي الله بجوارحك، وهي نعمة من الله عليك وأمانة لديك، فاستعانتك بنعمة الله على معصيته غاية الكفران، وخيانتك في أمانة استودعها الله غاية الطغيان؛ فأعضاؤك رعاياك، فانظر كيف ترعاها؛ فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته. واعلم أن جميع أعضائك ستشهد عليك في عرصات القيامة بلسان طلق ذلق، تفضحك به على رؤوس الخلائق، قال الله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) ، وقال الله تعالى: (اليوم نختم على افواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) . فاحفظ يا مسكين جميع بدنك من المعاصى، وخصوصا أعضاءك السبعة؛ فإن جهنم لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، ولا يتعين لتلك الابواب إلا من عصا الله تعالى بهذه الاعضاء السبعة، وهي: العين، والأذن، واللسان، والبطن، والفرج، واليد، والرجل. آداب العين أما العين: فإنما خلقت لك لتهتدي بها في الظلمات، وتستعين بها في الحاجات، وتنظر بها إلى عجائب ملكوت الأرض والسموات، وتعتبر بما فيها من الآيات؛ ن فاحفظها عن أربع: أن تنظر بها إلى غير محرم، أو إلى صورة مليحة ولا بشهوة نفس، أو تنظر بها إلى مسلم بعين الاحتقار، أو تطلع بها على عيب مسلم. آداب الأذن وأما الأذن: فاحفظها عن أن تصغي بها إلى البدعة، أو الغيبة، أو الفحش، أالخوض في الباطل، أو ذكر مساوىء الناس؛ فإنما خلقت لك لتسمع بها كلام الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكمة أوليائه، وتتوصل باستفادة العلم بها إلى الملك المقيم والنعيم الدائم في جوار رب العالمين. فإذا أصغيت بها إلى شيء من المكاره صار ما كان لك عليك، وانقلب ما كان سبب فوزك سبب هلاكك، وهذا غية الخسران. ولا تظن أن الإصم يختص به القائل دون المستمع؛ ففي الخبر: (أن المستمع شريك القائل وهو أحد المغتابين) . آداب اللسان وأما اللسان: فإنما خلق لتكثر به ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه، وترشدن به خلق الله تعالى إلى طريقه، وتظهر به ما في ضميرك من حاجات دينك ودنياك. فإذا استعملته في غير ما خلق له، فقد كفرت نعمة

الله تعالى فيه، وهو أغلب أعضائك عليك وعلى سائر الخلق، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم. فاستظهر عليه بغاية قوتك حتى لا يكبك في قعر جهنم، ففي الخبر: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها أصحابه فيهوي بها في قعر جهنم سبعين خريفا) ، وروى أنه قتل شهيد في المعركة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل: ن هنيئا له الجنة، فقال: صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، ويبخل بما لا يغنيه) . فاحفظ لسانك من ثمانية: الأول الكذب فاحفظ منه لسانك في الجد والهزل، ولا تعود لسانك الكذب هزلا فيتداعى إلى الجد، والكذب من أمهات الكبائر، ثم إنك إذا عرفت بذلك سقطت عدالتك والثقة بقولك، وتزدريك الأعين وتحتقرك. وإذا أردت أن تعرف قبح الكذب من نفسك، فانظر إلى كذب غيرك، وعلى نفرة نفسك عنه، واستحقارك لصاحبه واستقباحك له. وكذلك فافعل في جميع عيوب نفسك؛ فإنك لا ترى قبح عيوبك من نفسك، بل من غيرك، فما استقبحته من غيرك يستقبحه غيرك منك لا محلاة؛ فلا ترض لنفسك ذلك. الثاني الخلف في الوعد فإياك أن تعد بشيء ولا تفي به، بل ينبغي أن يكون إحسانك إلى الناس فعلا بلا قول، فإن اضطررت إلى الوعد، فإياك أن تخلف إلا لعجز أو ضرورة؛ فإن ذلك من امارات النفاثق وخبائث الاخلاق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان) . الثالث الغيبة فاحفظ لسانك عنها، والغيبة أشد من ثلاثين زنية في الاسلام. كذلك ورد في الخبر. ومعنى الغيبة: أن تذكر إنسانا بما يكرهه لو سمعه، فأنت مغتاب ظالم وإن كنت صادقا. وإياك وغيبة القراء المرائين، وهو أن تفهم المقصود من غير تصريح فتقول: أصلحه الله فقد ساءني وغمني ما جرى عليه، فنسأل الله تعالى أن يصلحنا وإياه؛ فإن هذا جمع بين خبيثين، أحدهما: الغيبة إذا حصل به التفهم، والآخر: تزكية النفس والثناء عليها بالتجريح

لغيرك والصلاح لنفسك. ولكن إن كان مقصودك من قولك: أصلحه الله - الدعاء؛ فادع له في السر. وإن اغتممت بسببه، فعلامة أنك لا تريد فضيحته واظهار عيبه، وفي إظهارك الغم بعيبه إظهار تعييبه. ويكفيك زاجرا عن الغيبة قوله تعالى: (وَلا يَغتَب بَعضُكُم بَعضا، أَيُحِبُ أَحَدُكُم أَن يَأكلَ لَحمَ أخيهِ مَيتا فَكَرِهتُموه) . فقد شبهك الله بآكل لحم الميتة؛ فما أجدرك أن تحترز منها؟؟؟! ويمنعك عن الغيبة أمر لو تفكرت فيه وهو أن تنظر في نفسك، هل فيك عيب ظاهر أو باطن؟، وهل أنت مقارف معصية سرا أو جهرا؟ فإذا عرفت ذلك من نفسك، فاعلم أن عجزه عن التنزهي عما نسبته إليه كعجزك، وعذره كعذرك. وكما تكره أن تفتضح وتذكر عيوبك، فهو أيضا يكرهه؛ فإن سترته ستر الله عليك عيوبك، وإن فضحته سلط الله عليك ألسنة حدادا، يمزقون عرضك في الدينا، ثم يفضك الله في الآخرة على رؤوس الخلائق يوم القيامة. وإن نظرت إلى ظاهرك وباطنك، فلم تطلع فيهما على عيب ونقص في دين ولا دنيا، فاعلم أن جهلك بعيوب نفسك أقبح أنواع الحماقة، ولا عيب أعظم من الحمق. ولو أراد الله بك خيرا لبصرك بعيوب نفسك، فرؤيتك نفسك بعين الرضا غاية غباوتك وجهلك. ثم إن كنت صادقا في ظنك فاشكر الله تعالى عليه ولا تفسده بثلب الناس، والتمضمض بأعراضهم؛ فإن ذلك من أعظم العيوب. الرابع المراء والجدال ومناقشة الناس في الكلام فذلك فيه إيذاء للمخاطب وتجهيل له، وطعن فيه، وفيه ثناء على النفس وتزكية لها بمزيد الفطنة والعلم، ثم هو مشوش للعيش؛ فإنك لا تمارى سفيها إلا ويؤذيك، ولا تماري حليما إلا ويقليك ويحقد عليك؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من ترك المراء وهو مبطل بنى الله له بيتا في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتا في أعلى الجنة) . ولا ينبغي أن يخدعك الشيطان ويقول لك: أظهر الحق ولا تداهن فيه، فإن الشيطان أدبا يستجر الحمقى إلى الشر في معرض الخير، فلا تكن ضُحكة للشيطان فيسخر منك، فاظهار الحق حسن مع من يقبله منك، وذلك بطريق النصيحة في الخفية لا بطريق المماراة. وللنصيحة صفة وهيئة، ويحتاج

فيها إلى تلطف وإلا صارت فضيحة، وكان فسادها أكثر من صلاحها. ومن خالط متفقهة العصر غلب على طبعه المراء والجدال، وعسر عليه الصمت، إذ ألقى إليه علماء السوء أن ذلك هو الفضل، والقدرة على المحاجة والمناقشة هو الذي يمتدح به؛ ففر منهم فرارك من الأسد، واعلم أن المراء سبب المقت عندالله وعند الخلق. الخامس تزكية النفس فقد قال الله تعالى: (فَلا تُزَكوا أَنفُسَكُم هَو أَعلَمُ بِمَن اِتقى) ، وقيل بعض الحكماء: مالصدق القبيح؟ فقال: ثناء المرء على نفسه. فإياك أن تتعود ذلك، واعلم أن ذلك ينقص من قدرك عند الناس، ويوجب مقتك عندالله تعالى. فإذا أردت أن تعرف أن ثناءك على نفسك لا يزيد في قدرك عند غيرك، فانظر إلى أقرانك إذا أثنوا على أنفسهم بالفضل والجاه والمال كيف يستنكره قلبك عليهم، ويستثقله طبعك، وكيف تذمهم عليه إذا فارقتهم؛ فاعلم أنهم أيضا في حال تزكيتك لنفسك يذمونك في قلوبهم ناجزا، وسيظهرونه بألسنتهم إذا فارقتهم. السادس: اللعن فإياك أن تلعن شيئا مما خلق الله تعالى من حيوان أو طعام أو إنسان بعينه، ولا تقطع بشهادتك على أحد من أهل القبلة بشرك أو كفر أو نفاق؛ فإن المطلع على السرائر هو الله تعالى، فلا تدخل بين العباد وبين الله تعالى، واعلم أنك يوم القيامة لا يقال لك: لِم لمَ تلعن فلانا، ولم سكت عنه؟ بل لو لم تعلن ابليس طول عمرك، ولم تشغل لسانك بذكره لم تسأل عنه ولم تطالب به يوم القيامة. وإذا لعنت أحدا من خلق الله تعالى طولبت به، ولا تذم شيئا مما خلق الله تعالى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يذم الطعام الردىء قط، بل كان إذا اشتهى شيئا أكله وإلا تركه. السابع الدعاء على الخلق فاحفظ لسانك عن الدعاء على أحد من خلق الله تعالى، وإن ظلمك فكل أمره إلى الله تعالى؛ ففي الحديث: (إن المظلوم ليدعو على ظالمه حتى يكافئه ثم يبقى للظالم فضل عنده يطالب به يوم القيامة) . وطول بعض الناس لسانه على الحجّاج فقال بعض السلف: (إن الله لينتقم للحجاج ممن تعرض له بلسانه كما ينتقم من الحجاج لمن ظلمه) . الثامن المزاح والسخرية والاستهزاء بالناس فاحفظ

لسانك منه، في الجد والهزل؛ فإنه يريق ماء الوجه ويسقط المهابة، ويستجر الوحشية، ويؤذي القلوب، وهو مبدأ اللجاج والغضب والتصارم، ويغرس الحقد في القلوب؛ فلا تمازح أحدا؛ فإن مازحك أحد فلا تجبه، وأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وكن من الذين إذا مروا باللغو مروا كراما. فهذه مجامع آفات اللسان، ولا يعينك عليه إلا العزلة، أو ملازمة الصمت غلا بقدر الضرورة؛ فقر كان أبوبكر الصديق رضي الله تعالى عنه يضع حجرا في فيه ليمنعه ذلك من الكلام بغير ضرورة، ويشير إلى لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد. فاحترز منه بجهدك؛ فإنه أقوى أسباب هلاكك في الدنيا والآخرة. آداب البطن وأما البطن: فاحفظه من تناول الحرام والشبهة، واحرص على طلب الحلال، فإذا وجدته فاحرص على أن تقتصر منه على ما دون الشبع، فإن الشبع يقسي القلب، ويفسد الذهن، ويبطل الحفظ، ويثقل الأعضاء عن العبادة والعلم، ويقوي الشهوات، وينصر جنود الشيطان. والشبع من الحلال مبدأ كل شر، فكيف من الحرام وطلب الحلال فريضة على كل مسلم، والعبادة مع أكل الحرام كالبناء على السرجين. فإذا قنعت في السنة بقميص خشن، وفي اليوم والليلة برغيفين من الخشكار، وتركت التلذذ بأطيب الأدم، لم يعوزك من الحلال ما يكفيك، والحلال كثير. وليس بعليك أن تتيقن بواطن الأمور، بل عليك أن تحترز مما تعلم أنه حرام أو تظن أنه حرام ظنا حصل من علامة ناجزة مقدرة بالمال؛ أما المعلوم فظاهر، وأما المظنون بعلامة فهو مال السلطان وعماله، ومال من لا كسب له إلا من النياحة، أو بيع الخمر، أو الربا، أو المزامير؛ وغير ذلك من آلات اللهو المحرمة. فإن من علمت أن أكثر ماله حرام قطعا، فما تأخذه من يده - وإن أمكن ان يكون حلالا نادرا - فهو حرام؛ لأنه الغالب على الظن. ومن الحرام المحض ما يؤكل من الأوقاف من غير شرط الواقف، فمن لم يشتغل بالتفقه فما يأخذه من المدارس حرام، ومن ارتكب معصية ترد بها شهادته، فما يأخذه باسم الصوفية من وقف أو غيره فهو حرام. وقد ذكرنا مداخل الشبهات والحلال والحرام في كتاب مفرد من كتب إحياء علوم الدين، فعليك بطلبه؛ فإن معرفة الحلال وطلبه فريضة على كل مسلم، كالصلوات الخمس. آداب الفرج وأما الفرج: فاحفظه عن كل ما حرم الله تعالى، وكن كما قال الله: (وَالذَينَ هُم لِفُروجِهم حافِظون، إِلاّ عَلى أَزواجِهِم أَو ما

مَلَكَت أَيمانُهُم غَيرُ مَلومين) . ولا تصل إلى حفظ الفرج إلا بحفظ العين عن النظر، وحفظ القلب عن التفكر، وحفظ البطن عن الشبهة وعن الشبع؛ فإن هذه محركات للشهوة ومغارسها. آداب اليدين وأما اليدان: فاحفظهما عن أن تضرب بهما مسلما، أو تتناول بهما مالا حراما، أو تؤدي بهما أحدا من الخلق، أو تخون بهما في أمانة أو وديعة، أو تكتب بهما ما لا يجوز النطق به، فإن القلم أحد اللسانين، فاحفظ القلم عما يجب حفظ اللسان عنه. آداب الرجلين وأما الرجلان: فاحفظهما عن أن تمشي بهما إلى حرام، أو تسعى بهما إلى باب سلطان ظالم؛ فإن المشي إلى السلاطين الظلمة من غر ضرورة وارهاق معصية كبيرة؛ فإنه تواضع وإكرام لهم على ظلمهم. وقد أمر الله تعالى بالإعراض عنهم في قوله تعالى: (وَلا تَركَنوا إِلى الَّذينَ ظَلَموا فَتَمَسَكُم النار) وهو تكثير لسوادهم، وإن ذلك لسبب طلب مالهم فهو سعى إلى حرام، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من تواضع لغنى صالح لغناه ذهب ثلثا دينه) وهذا في غنى صالح، فما ظنك بالغنى الظالم؟ وعلى الجملة، فحركاتك وسكناتك بأعضائك نعمة من نعم الله تعالى عليك؛ فلا تحرك شيئا منها في معصية الله تعالى أصلا، واستعملها في طاعة الله تعالى. واعلم أنك إن قصرت فعليك وباله، وإن شمرت فإليك تعود ثمرته، والله غني عنك وعن عملك، وإنما كل نفس بما كسبت رهينة، وإياك أن تقول: إن الله كريم رحيم يغفر الذنوب للعصاة؛ فإن هذه كلمة حق أريد بها باطل، وصاحبها ملقب بالحماقة، بتلقيب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني) . واعلم أن قولك هذا أيضا هي قول من يريد أن يكون فقيها في علوم الدين من غير أن يدرس علما واشتغل بالبطالة وقال: إن الله كريم رحيم قادر على أن يفيض على قلبي من العلوم ما أفاضه على قلوب أنبيائه وأوليائه من غير جهد وتكرار وتعلم وهو كقول من

يريد مالا فترك الحراثة والتجارة والكسب ويتعطل، وقال: إن الله كريم رحيم وله خزائن السموات والأرض وهو قادر على أن يطلعني على كنز من كنوز أستغني به عن الكسب، فقد فعل ذلك لبعض عباده، فأنت إذا سمعت كلام هذين الرجلين استحمقتهما وسخرت منهما، وإن كان ما وصفاه من كرم الله تعالى وقدرته صدقا وحقا، فكذلك يضحك عليك أرباب البصائر في الدين إذا طلبت المغفرة بغير سعى لها، والله وتعالى يقول: (وَأَن لَيسَ لِلإِنسان إِلا ما سَعى) ، ويقول: (إِنَما تُجزونَ ما كُنتُم تَعملون) ويقول (إنّ الأَبرارَ لَفي نَعيم، وَإنّ الفُجارَ لَفى جَحيم) . فإذا لم تكن تترك السعي في طلب العلم والمال اعتمادا على كرمه، فكذلك لا تترك التزود للآخرة، ولا تفتر؛ فإن رب الدنيا واللآخرة واحد، وهو فيهما كريم رحيم، وليس يزيد له كرم بطاعتك وإنما كرمه سبحانه وتعالى في أن ييسر لك طريق الوصول الى الملك المقيم والنعيم الدائم المخلد، بالصبر على ترك الشهوات أياما قلائل، وهذا نهاية الكرم. فلا تحدث نفسك بتهويسات البطالين، واقتد بأولى العزم والنهي من الانبياء والصالحين، ولا تطمع في أن تحصد ما لم تزرع، وليت من صام وصلى وجاهد واتقى غفر له. فهذه جمل مما ينبغي أن تحفظ عنه جوارحك الظاهرة، وأعمال هذه الجوارح إنما تترشح من صفات القلب؛ فإن أردت حفظ الجوارح فعليك بتطهير القلب؛ فهو تقوى الباطن، والقلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد بها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد، فاشتغل باصلاحه لتصلح به جوارحك، وصلاحه يكون بملازمة المراقبة. القول في معاصى القلب اعلم أن الصفات المذمومة في القلب كثيرة، وطريق تطهير القلب من رذائلها طويلة، وسبيل العلاج فيها غامض، وقد اندرس بالكلية علمه وعمله؛ لغفلة الخلق عن أنفسهم واشتغالهم بزخارف الدنيا. وقد استقصينا ذلك كله في كتاب (إحياء علوم الدين) في ربع المهلكات وربع المنجيات، ولكنا نحذرك؛ فإنها مهلكات في أنفسها، وهي أمهات لجملة من الخبائب سواها: وهي الحسد، والرياء، والعجب؛ فاجتهد في تطهير

قلبك منها؛ فإن قدرت عليها فتعلم كيفية الحذر من بقيتها من ربع المهلكات. فإن عجزت عن هذا، فأنت عن غيره أعجز. ولا تظن أنك تسلم بنية صالحة في تعلم العلم، وفي قلبك شيء من الجسد والرياء والعجب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) . الحسد أما الحسد: فهو متشعب من الشح، فإن البخيل هو الذي يبخل بما في يده على غيره، والشحيح هوالذي يبخل بنعمة الله تعالى وهي في خزائن قدرته تعالى، لا في خزائنه، على عباد الله فشحه أعظم، والمحسود هو الذي يشق عليه إنعام الله تعالى من خزائن قدرته، على عبد من عباده بعلم أو مال أو محبة في قلوب الناس، أو حظ من الحظوظ، حتى أنه ليحب زوالها عنه، وإن لم يحصل له بذلك شيء من تلك النعمة؛ فهذا منتهى الخبث؛ فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النارالحطب) . والحسود هو المعذب الذي لا يرحم، ولا يزال في عذاب دائم في الدنيا إلى موته، ولعذاب الآخرة أشد وأكبر. بل لا يصل العبد إلى حقيقة الإيمان ما لم يحب لسائر الناس ما يحب لنفسه، بل ينبغي ان يساهم المسلمين في السراء والضراء؛ فالمسلمون كالبنيان الواحد يشد بعضه بعضا، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى سائر الجسد. فإن كنت لا تصادف هذا من قلبك، فاشتغالك بطلب التخلص من الهلاك أهم من اشتغالك بنوادر الفروع وعلم الخصومات. الرياء؟؟؟؟؟؟ وأما الرياء: فهو الشرك الخفي، وهو أحد الشركين، وذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق، لتنال بها الجاه والحشمة، وحب الجاه من الهوى المتبع، وفيه هلك أكثر الناس، فما أهلك الناس إلا الناس، ولو أنصف الناس حقيقة لعلموا أن أكثر ما هم فيه من العلوم والعبادات فضلا عن أعمال العادات، ليس يحملهم يحملهم عليه إلا مراءاة الناس، وهي محبطة للأعمال، كما ورد الخبر: (أن الشهيد يؤمر به يوم القيامة إلى النار، فيقول: يا رب استشهدت في سبيلك، فيقول الله تعالى: بل أردت أن يقال إنك شجاع، وقد قيل ذلك،

وذلك أجرك - وكذلك يقال للعالم والحاج والقارىء. العجب والكبر والفخر وأما العجب والكبر والفخر: فهو الداء العضال، وهو نظر العبد إلى نفسه بعين العز والاستظام، وإلى غيره بعين الاحتقار والذل، ونتيجته على اللسان أن يقول: أنا وأنا كما قال إبليس اللعين: (أنا خير منه، خلقتني من نار، وخلقته من طين) وثمرته في المجالس الترفع والتقدم وطلب التصدر فيها، وفي المحاورة الاستنكاف من أن يرد كلامه عليه. والمتكبرهو الذي إن وعظ أنف، أو وعظ عنف، فكل من رأى نفسه خيرا من أحد من خلق الله تعالى فهو متكبر. بل ينبغي لك أن تعلم أن الخير من هو خير عند الله في دار الآخرة، وذلك غيب، وهو موقوف على الخاتمة؛ فاعتقادك في نفسك أنك خير من غيرك جهل محض، بل ينبغي ألا تنظر إلى أحد إلا وترى أنه خير منك، وأن الفضل له على نفسك، فإن رأيت صغيرا قلت: هذا لم يعص الله وأنا عصيته، فلا شك أنه خير مني وإن رأيت كبيرا قلت هذا قد عبد الله قبلى، فلا شك أنه خير مني وإن رأيت كبيرا قلت هذا قد عبد الله قبلي، فلا شك أنه خير مني وإن رأيت كبيرا قلت هذا قد عبد الله قبلي، فلا شك أنه خير مني. وإن كان عالما قلت: هذا قد أعطى ما لم أعط، وبلغ ما لم أبلغ، وعلم ما جهلت؛ فكيف أكون مثله وإن كان جاهلا قلت: هذا قد عصى الله بجهل، وأنا عصيته بعلم؛ فحجة الله على آكد، وما أدري بم يختم لي وبم يختم له؟ وإن كان كافرا قلت: لا أدري، عسى أن يسلم ويختم له بخير العمل، وينسل بإسلامه من الذنوب كما تنسل الشعرة من العجين، وأما أنا - والعياذ بالله - فعسى أن يضلني الله فأكفر فيختم لي بشر العمل؛ فيكون غدا هو من المقربين، وأنا أكون من المبعدين. فلا يخرج الكبر من قلبك إلا بأن تعرف أن الكبير من هو كبير عند الله تعالى، وذلك موقوف على الخاتمة، وهي مشكوك فيه؛ فيشغلك خوف الخاتمة عن أن تتكبر مع الشك فيها على عباد الله تعالى، فيقينك وإيمانك في الحال لا يناقض تجويزك في الاستقبال؛ فإن الله مقلب القلوب يهدي من يشاء، ويضل من يشاء. حديث جامع في معاصي القلب والأخبار في الحسد والكبر والرياء والعجب كثيرة، ويكفيك فيها حديث واحد جامع؛ فقد روى ابن المبارك بإسناده عن رجل أنه قال لمعاذ: يا معاذ حدثني حديثا سمعنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (فبكى معاذ حتى ظننت أنه لا يسكت، ثم سكت، ثم قال: واشوقاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى لقائه، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي: (يا معاذ، إني محدثك بحديث إن أنت حظفته نفعك عندالله، وإن ضيعته ولم تحفظه انقطعت حجتك عند الله تعالى يوم القيامة يا معاذ إن الله تبارك وتعالى خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السموات

والأرض، فجعل لكل سماء من السبع ملكا بوابا عليها، فتصعد الحفظة بعمل العبد من حين يصبح إلى حين يمسي، له نور كنور الشمس، حتى إذا صعدت به إلى السماء الدنيا زكته وكثرته، فيقول الملك الموكل بها للحفظة: اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا صاحب الغيبة، أمرني ربي ألا أدع عمل من اغتاب الناس يجاوزني إلى غيري، قال: ثم تأتي الحفظة بعمل صالح من أعمال العبد له نور فتزكيه وتكثره حتى تبلغ به إلى السماء الثانية، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، إنه أرا بعمله عرض الدنيا، أنا ملك الفخر، أمرني ربي ألا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، إنه كان يفتخر على الناس في مجالسهم، قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد يبتهج نورا، من صدقة وصلا وصيام، قد أعجب الحفظة، فيجاوزون به إلى السماء الثالثة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا ملك الكبر، أمرني ربي ألا أدع عمله يجاوزني إلى غيري؛ إنه كان يتكبرى على الناس في مجالسهم، قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهو كما يزهو الكوكب الدري وله دوي من تسبيح وصلاة وصيام وحج وعمرة، حتى يجاوزا به إلى السماء الرابعة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا

بهذا العمل وجه صاحبه وظهره وبطنه، أنا صاحب العجب، أمرني ربي ألا أدع عمله يجاوزني إلى غيري؛ إنه كان إذا عمل عملا أدخل العجب فيه، قال: وتصعد الحفظة بعمل العب حتى يجاوزا به إلى السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة إلى بعلها، فيقول الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، ن واحملوه على عاتقه، أنا ملك الحسد، إنه كان يحسد من يتعلم ويعمل بمثل عمله، وكل من كان يأخذ فضلا من العبادة كان يحسدهم، ويقع فيهم، أمرني ربي ألا أدع عمله يجاوزني إلى غيري. قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد له ضوء كضوء الشمس، من صلاة وزكاة وحج وعمرة وجهاد وصيام، فيجاوزون به إلى السماء السادسة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه؛ إنه كان لا يرحم إنسانا قد من عباد الله أصابه بلاء أو مرض، بل كان يشمت به، أنا ملك الرحمة، أمرني ربي ألا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صوم وصلاة ونفقة وجهاد وورع، له دوي كدوى النحل، وضوء كضوء الشمس، ومعه ثلاثة آلاف ملك، فيجاوزون به إلى السماء السابعة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، واضربوا جوارحه واقفلوا به على قلبه، أنا صاحب الذكر، فإني أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به وجه ربي؛ إنه إنما أراد بعمله غير الله تعالى، إنه أراد به رفعة عند الفقهاء، وذكرا عند العلماء، وصيتا في المدائن، أمرني ربي ألا أدع عمله يجاوزني إلى غيري وكل عمل لم يكن لله تعالى خالصا فهو رياء، ولا يقبل الله عمل المرائي.. قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وصيام وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر الله تعالى، فتشيعه ملائكة السموات السبع حتى يقطعوا به الحجب كلها إلى الله تعالى، فتشيعه ملائكة السموات السبع حتى يقطعوا به الحجب كلها إلى الله تعالى، فيقفون بين يديه، ويشهدون له بالعمل الصالح المخلص لله تعالى، فيقول الله تعالى: أنتم الحفظة على عمل عبدي، وأنا الرقيب على ما في قلبه؛ إنه لم يردني بهذا العمل، وإنما أراد به غيري، فعليه لعنتي، فتقول الملائكة كلها: عليه لعنتك ولعنتنا، فتلعنه السموات السبع ومن فيهن) ثم بكى معاذ، وانتحب انتحابا شديدا، وقال معاذ: قلت يا رسول الله أنت رسول الله وأنا معا، فكيف لي بالنجاة والخلاص من ذلك؟ قال: (اقتد بي وإن كان في عملك نقص، يا معاذ حافظ على لسانك من الوقيعة في إخوانك من حملة القرآن خاصة، واحمل ذنوبك عليك، ولا تحملها عليهم، ولا تزل نفسك بذمهم، ولا ترفع نفسك عليهم، ولا تدخل عمل الدنيا في عمل الآخرة، ولا تراء بعملك، ولا تتكبر في مجلسك، لكي يحذر الناس من سوء خلقك، ولا تناج رجلا وعندك آخر، ولا تتعظم على الناس فتنقطع عنك خيرات الدنيا والآخرة، ولا تمزق الناس بلسانك فتمزقك كلاب النار يوم القيامة في النار، قال الله تعالى: (وَالناشِطاتِ نَشطا) ، هل تدري من هن يا معاذ؟، قلت: ما هن - بأبي أنت وأمي - يا رسول الله؟ قال: (كلاب في النار تنشط اللحم من العظم) ، قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، من يطيق هذه الخصال ونمن ينجو منها؟ قال: (يا معاذ إنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه، إنما يكفيك من ذلك أن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك، فإذن أنت يا معاذ قد سلمت) . قال خالد بن معدان: فما رأيت أحدا أكثر تلاوة للقرآن العظيم من معاذ لهذا الحديث العظيم. فتأمل أيها الراغب في العلم هذه الخصال، واعلم أن أعظم الاسباب في رسوخ هذه الخبائث في القلب: طلب العلم لأجل المباهاة والمنافسة، فالعامي بمعزل عن اكثر هذه الخصال، والمتفقه مستهدف لها، وهو متعرض للهلاك بسببها؛ فانظر آي أمورك أهم، أتتعلم كيفية الحذر من هذه المهلكات، وتشتغل بإصلاح قلبك وعمارة آخرتك؟ أم الأهم أن تخوض مع الخائضين، فتطلب من العلم ما هو سبب زيارة الكبر والرياء والحسد والعجب، حتى تهلك مع الهالكين. واعلم أن هذه الخصال

الثلاث من أمهات خبائث القلب، ولها مغرس واحد، وهو حب الدنياي ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حب الدنيا رأس كل خطيئة) ، ومع هذا فالدنيا مزرعة للآخرة فمن أخذ من الدنيا بقدر الضرورة، ليستعين بها على الآخرة، فالدنيا مزرعته؛ ومن أراد الدنيا ليتنعم بها، فالدنيا مهلكته. فهذه نبذة يسيرة من ظاهر علم التقوى، وهي بداية الهداية، فإن جربت بها نفسك وطاوعتك عليها، فعليك بكتاب (إحياء علوم الدين) لتعرف كيفية الوصول إلى باطن التقوى. وإن كنت تطلب العلم من القيل والقال، والمراء والجدال، فما أعظم مصيبتك وما أطول تعبك وما أعظم حرمانك وخسرانك! فاعمل ما شئت؛ فإن الدينا التي تطلبها بالدين لا تسلم لك، والآخرة تسلب منك؛ ن فمن طلب الدنيا بالدين خسرهما جميعا، ومن ترك الدنيا للدين ربحهما جميعا. فإذا عمرت بالتقوى باطن قلبك، فعند ذلك ترتفع الحجب بينك وبين ربك، وتنكشف لك أنوار المعارف، وتنفجر من قلبك ينابيع الحكم، وتتضح لك أسرار الملك والملكة، ويتسير لك من العلوم ما تستحقر به هذه العلوم المحدثة التي لم يكن لها ذكر في زمن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين. فهذه جمل الهداية إلى بداية الطريق في معاملتك مع الله تعالى بأداء أوامره واجتناب نواهيه، وأشير عليك الآن بجمل من الآداب لتؤاخذ نفسك بها في مخالطتك مع عباد الله تعالى وصحبتك معهم في الدنيا. القسم الثالث القول في آداب الصحبة آداب الصحبة مع الله تعالى اعلم أن صاحبك الذي لا يفارقك في حضرك وسفرك ونومك ويقظتك، بل في حياتك وموتك، هو ربك وسيدك ومولاك وخالقك، ومهما ذكرته فهو جليسك؛ إذ قال الله تعالى: (أنا جليس من ذكرين) . ومهما انكسر قلبك حزنا على تقصيرك في حق دينك، فهو صاحبك وملازمك؛ إذ قال الله تعالى: (أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي) . فلو عرفته حق معرفته لاتخذته صاحبا وتركت الناس جانبا. فإن لم تقدر على ذلك في جميع أوقاتك،

فإياك أن تخلي ليلك ونهارك عن وقت تخلو فيه لمولاك وتتلذذ معه بمناجاتك له، وعند ذلك فعليك أن تتعلم آداب الصحبة مع الله تعالى. وآدابها: إطراق الرأس، وغض الطرف، وجمع الهم، ودوام الصمت، وسكون الجوارح، ومبادرة الأمر، واجتناب النهي، وقلة الاعتراض على القدر، ودوام الذكر، وملازمة الفكر، وإيثار الحق على الباطل، والإياس عن الخلق، والخضوع تحت الهيبة والانكسار تحت الماء، والسكون عن حيل الكسب ثقة بالضمان والتوكل على فضل الله تعالى معرفة بحسن الاختيار. وهذا كله ينبغي أن يكون شعارك في جميع ليلك ونهارك؛ فإنها آداب الصحبة مع صاحب لا يفارقك، والخلق كلهم يفارقونك في بعض أوقاتك. آداب العالم وإن كنت عالما، فآداب العالم: الاحتمال، ولزوم الحلم، والجلوس بالهيبة على سمت الوقار مع إطراق الرأس، وترك التكبر على جميع العباد إلا على الظلمة زجرا لهم عن الظلم، وإيثارا للتواضع في المحافل والمجالس، وترك الهزل والدعابة، والرفق بالمتعلم، والتأني بالمتعجرف، وإصلاح البليد بحسن الارشاد، وترك الحرد عليه، وترك الأنفه من قول: (لا أدري) وصرف الهمة إلى السائل وتفهم سؤاله، وقبول الحجة، والانقياد للحق، والرجوع إليه عند الهفوة، ومنع المتعلم عن كل علم يضره، وزجره عن أن يريد بالعلم النافع غير وجه الله تعالى، وصد المتعلم عن أن يشتغل بفرض الكفاية قبل الفراغ من فرض العين.. وفرض عينه إصلاح ظاهره وباطنه بالتقوى، ومؤاخذه نفسه أولا بالتقوى ليقتدي المتعلم أولا بأعماله، ويستفيد ثانيا من أقواله. آداب المتعلم وإن كنت متعلما، فآداب المتعلم مع العالم: أن يبدأه بالتحية والسلام، وأن يقلل بين يديه الكلام، ولا يتكلم ما لم يسأله أستاذه، ولا يسأل ما لم يستأذن أولا، ولا يقول في معارضة قوله: قال فلان بخلاف ما قلت، ولا يشير عليه بخلاف رأيه فيرى أنه أعلم بالصواب من أستاذه، ولا يسأل جليسه في مجلسه، ولا يلتفت إلى الجوانب، بل يجلس مطرقا ساكنا متآدبا كأنه في الصلاة، ولا يكثر عليه السؤال عند ملله، وإذا قام قام له، ولا يتبعه بكلامه وسؤاله، ولا يسأله في طريقه إلى أن يبلغ إلى منزله، ولا يسىء الظن به في أفعال ظاهرها منكرة عنده، فهو أعلم بأسراره، وليذكر عند ذلك قول موسى للخضر - عليهما السلام: (أَخَرَقتًها لِتُغرِقَ أَهلَها، لَقَد جِئتَ شَيئاً إمرا) ، وكونه مخطئا في إنكاره اعتمادا على الظاهر. آداب الولد مع الوالدين وإن كان لك والدان، فآداب الولد مع الوالدين: أن يسمع كلامهما، ويقوم لقيامهما؛ ويمتثل لأمرهما، ولا يمشي أمامهما، ولا يرفع صوته فوق

أصواتهما، ويلبي دعوتهما، ويحرص على مرضاتهما، ويخفض لهما جناح الذل، ولا يمن عليهما بالبر لهما ولا بالقيام لأمرهما، ولا ينظر إليهما شذراً، ولا يقطب وجهه في وجههما، ولا يسافر إلا بإذنهما. أصناف الناس في العلاقة بالمرء واعلم أن الناس بعد هؤلاء في حقك ثلاثة أصناف: إما أصدقاء، وإما معاريف، وإما مجاهيل. آداب العلاقة بالعوام المجهولين فإن بليت بالعوام المجهولين، فآداب مجالستهم: ترك الخوض في حديثهم، وقلة الإصغاء إلى أراجيفهم، والتغافل عما يجري من سوء ألفاظهم، والاحتراز عن كثرة لقائهم والحاجة إليهم، والتنبيه على منكراتهم باللطف والنصح عند رجال القبول منهم. آداب العلاقة بالاخوان والأصدقاء وأما الإخوان والاصدقاء فعليك فيهم وظيفتان: الوظيفة الأولى شروط الصحبة والصداقة إحداهما: أن تطلب أولا شروط الصحبة والصداقة، فلا تؤاخ إلا من يصلح للاخوة والصداقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) . فإذا طلبت رفيقا ليكون شريكك في التعلم، وصاحبك في أمر دينك ودنياك، فراع فيه خمس خصال: الأولى: العقل: فلا خير في صحبة الأحمق، فإلى الوحشة والقطيعة يرجع آخرها، وأحسن أحواله أن يضرك وهو يريد أن ينفعك، والعدو العاقل خير من الصديق الأحمق، قال علي رضي الله عنه: فَلا تَصحَب أَخا الجَهلِ ... وَإِياكَ وَإِياهُ فَكَم مِن جاهِلٍ أَردى ... حَليماً حِينَ آَخاهُ يُقاسُ المَرءُ بِالمَرءِ ... إذا ما المَرءُ ماشاهُ كَحَذو النَعلِ بِالنَعلِ ... إِذا مالنَعلُ حاذاهُ وَلِلشَىء مِنَ الشَىء ... مَقاييِسُ وَأَشباهُ وَلِلقَلبِ عَلى القَلبِ ... دَليلٌ حِينَ يَلقاهُ الثانية: حسن الخلق: فلا تصحب من ساء خلقه، وهو الذي لا يملك نفسه عند الغضب والشهوة. وقد جمعه علقمة العطاردي رحمه الله تعالى في وصيته لابنه لما حضرته الوفاة، قال: يا بني إذا أردت صحبة إنسان فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، وإن قعدت بك مؤنة مانك.. اصحب من إذا مددت يدك بخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى منك سيئة سدها. اصحب من إذا قلت صدق قولك، وإن حاولت أمرا أمرك، وإن تنازعتما في شر آثرك. وقال علي رضي الله عنه رجزا: إِن أخاكَ الحَقُ مَن كانَ مَعَك ... وَمَن يَضر نَفسه لِيَنفَعَك وَمَن إِذا ريبَ الزَمانُ صَدعَكَ ... شَتَتَ فيك شَملَهُ لِيَجمَعَك الثالثة: الصلاح: فلا تصحب فاسقا مصرا على معصية كبيرة، لأن من يخاف الله لا يصر على كبيرة، ومن لا يخاف الله لا تؤمن غوائله، بل يتغير بتغير الأحوال والأعراض، قال الله تعالى لنبيه

صلى الله عليه وسلم: (وَلا تُطِع مَن أَغفَلنا قَلبَهُ عَن ذِكرِنا وَاتَبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمرُه فُرُطا) . فاحذر صحبة الفاسق؛ فإن مشاهدة الفسق والمعصية على الدوام تزيل عن قلبك كراهية المعصية، وتهون عليك أمرها، ولذلك هان على القلوب معصية الغيبة لإلفهم لها، ولو رأو خاتما من ذهب أو ملبوسا من حرير على فقيه لاشتد إنكارهم عليه، والغيبة أشد من ذلك. الرابعة: ألا يكون حريصا على الدنيا: فصحبة الحريص على الدنيا سم قاتل؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري فمجالسه الحريص تزيد في حرصك، ومجالسه الزاهد تزيد في زهدك. الخامسة: الصدق: فلا تصحب كذابا، فإنك منه على غرور، فإنه مثل السراب، يقرب منك البعيد، ويبعد منك القريب. ولعلك تعدم اجتماع هذه الخصال في سكان المدارس والمساجد، فعليك بأحد أمرين: إما العزلة والانفراد؛ ففيها سلامتك.. وإما أن تكون مخالطتك مع شركائك بقدر خصالهم، بأن تعلم أن الاخوة ثلاثة: أخ لآخرين فلا تراع فيه إلا الدين، وأخ لدنياك فلا تراع فيه إلا الخلق الحسن، وأخ لتأنس به فلا تراع فيه إلا السلامة من شره وفتنته وخبثه. والناس ثلاثة: أحدهم مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه، والآخر مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت، والثالث مثله مثل الداء لا يحتاج إليه قط، ولكن العبد قد يتسلى به، وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع؛ فتجب مداراته إلى الخلاص منه، وفي مشاهدته فائدة عظيمة إن وفقت لها، وهو أن تشاهد من خبائث أحواله وأفعاله ما تستقبحه فتجتنبه؛ فالسعيد من وعظ بغيره، والمؤمن مرآة المؤمن، وقيل لعيسى عليه السلام: من أدبك؟ فقال: ما أدبني أحد، ولكن رأيت جهل الجاهل فاجتنبته. ولقد صدق - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - فلو اجتنب الناس ما يكرهونه من غيرهم لكملت آدابهم واستغنوا عن المؤدبين. الوظيفة الثانية مراعاة حقوق الصحبة فمهما انعقدت الشركة، وانتظمت بينك وبين شريكك الصحبة، فعليك حقوق يوجبها عقد الصحبة، وفي القيام بها آداب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى) ، ودخل صلى الله عليه وسلم

أجدمعة، فاجتنى منها سواكين، أحدهما معوج، والآخر مستقيم، وكان معه بعض أصحابه، فأعطاه المستقيم، وأمسك لنفسه المعوج، فقال: يارسول الله أنت أحق مني بالمستقيم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب يصحب صاحبا ولو ساعة من نهار إلا وسئل عن صحبته، هل أقام فيها حق الله تعالى أو أضاعه) . وقال صلى الله عليه وسلم: (ما اصطحب اثنان قط إلا وكان أحبهما إلى الله تعالى أرفقهما بصاحبه) . وآداب الصحبة: الايثار بالمال، فإن لم يكن هذا فبذل الفضل من المال عند الحاجة، والإعانة بالنفس في الحاجات، على سبيل المبادرة من غير احواج إلى التماس، وكتمان السر، وستر العيوب، والسكوت على تبليغ ما يسوؤه من مذمة الناس إياه، وإبلاغ ما يسره من ثناء الناس عليه، وحسن الإصغاء عند الحديث، وترك المماراة فيه، وأن يدعوه بأحب أسمائه إليهس، وأن ثني عليه بما يعرف من محاسنه، وأن يشكره على صنيعه في وجهه، وأن يذب عنه في غيبته إذا تعرض لعرضه كما يذب عن نفسه، وأن ينصحه باللطف والتعريض إذا احتاج إليه، وأن يعفو عن زلته وهفوته، ولا يعتب عليه، وأن يدعو له في خلوته في حياته وبعد مماته، وأن يحسن الوفاء مع أهله وأقاربه بعد موته، وأن يؤثر التخفيف عنه، فلا يكلفه شيئا من حاجاه، فيروح سره من مهماته، وأن يظهر الفرح بجميع ما يرتاح له من مساره، والحزن على نياله من مكارهه، وأن يضمر في قلبه مثل ما يظهره، فيكون صادقا في وده سرا وعلانية، وأن يبدأه بالسلام عند إقباله، وأن يوسع له في المجلس ويخرج له من مكانه، وأن يشيعه عند قيامه، وأن يصمت عند كلامه حتى يفرغ من كلامه، ويترك المداحلة في كلامه. وعلى الجملة، فيعامله بما يحب أن يعامل به، فمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه فأخوته نفاق، وهي عليه وبال في الدنيا والآخرة. فهذا أدبك في حق العوام المجهولين، وف يحق الأصدقاء المؤاخين. آداب العلاقة بالمعارف وأما القسم الثالث، وهم المعارف: فاحذر منهم؛ فإنك لا تر الشر إلا ممن تعرفه، أم الصديق فيعينك، وأما المجهول فلا يتعرض لك، وإنما الشر كله من المعارف الذين يظهرون الصداقة بألسنتهم. فأقلل من المعارف ما قدرت، فإذا بليت بهم في مدرسة أو مسجد أو جامع أو سوق أو بلد، فيجب ألا تستصغر منهم أحدا؛ فإنك لا تدري لعله خير منك، ولا تنظر إليهم بعين التعظيم لهم في

حال دنياهم فتهلك، لأن الدنيا صغيرة عند الله تعالى، صغير ما فيها. ومهما عظم أهل الدنيا في قلبك فقد سقطت من عين الله تعالى، وإياك أن تبذل لهم دينك لتنال به من دنياهم؛ فلا يفعل ذلك أحد إلا صغر في أعينهم ثم حرم ما عندهم. وإن عادوك فلا تقابلهم بالعداوة؛ فإنك لا تطيق الصبر على مكافأتهم، فيذهب دينك في عداوتهم، ويطول عناؤك معهم، ولا تسكن إليهم في حال إكرامهم إياك وثنائهم عليك في وجهك وإظهارهم المودة لك؛ فإنك إن طلبت حقيقة ذلك لم تجد في المائة واحداً، ولا تطمع أن يكونوا لك في السر والعلن واحد، ولا تتعجب إن ثلبوك في غيبتك ولا تغضب منه؛ فإنك إن أنصفت وجدت من نفسك مثل ذلك، حتى في أصدقائك وأقاربك، بل في أستاذك ووالديك؛ فإنك تذكرهم في الغيبة بما لا تشافههم به، فاقطع طمعك عن مالهم وجاههم ومعونتهم؛ فإن الطامع في الأكثر خائب في المال، وهو ذليل لا محالة في الحال. وإذا سألت واحدا حاجة فقضاها، فاشكر الله تعالى واشكره، وإن قصر فلا تعاتبه ولا تشكه فتصير عدواة له، وكن كالمؤمن يطلب المعاذير، ولا تكن كالمنافق يطلب العيوب، وقل لعله قصر لعذر له لم أطلع عليه. ولا تعظن أحدا منهم ما لم تتوسم فيه أو مخايل القبول، وإلا لم يستمع منك وصار خصما عليك، إذا أخطئوا في مسألة، وكانوا يأنفون من التعلم منك، فلا تعلمهم؛ فلا تعلمهم؛ ن فإنهم يستفيدون منك علما ويصبحون لك أعداء، إلا إذا تعلق ذلك بمعصية يقارفونها عن جهل منهم، فاذكر الحق بلطف من غير عنف. وإذا رأيت منهم كرامة وخيرا، فاشكر الله الذي حببك إليهم. وإذا رأيت منهم شرا، فكلهم إلى الله تعالى، واستعذ بالله من شرهم، ولا تعاتبهم، ولا تقل لهم: لمِ لَم تعرفوا حقي؛ وأنا فلان بن فلان، وأنا الفاضل في العلوم؟ فإن ذلك من كلام الحمقى، وأشد الناس حماقة من يزكي نفسه ويثني عليها. واعلم أن الله تعالى لا يسلطهم عليك إلا بذنب سبق منك، فاستغفر الله من ذنبك، واعلم أن ذلك عقوبة من الله تعالى. وكن فيما بينهم سميعا لحقهم، أصم عن باطلهم، نطوفا بمحاسنهم، صموتا عن مساويهم، واحذر مخالطة متفقهة الزمان، لا سيما المشتغلين بالخلاف والجدال. واحذر منهم؛ فإنهم يتربصون بك - لحسدهم - ريب المنون، ويقطعون عليك بالظنون، ويتغامرون وراءك بالعيون، ويحصون عليك عثراتك في عشرتهم، حتى يجبهوك بها في حال غيظهم ومناظرتهم، لا يقيلون لك عثرة، ولا يغفرون لك زلة، ولا يسترون لك

عورة، يحاسبونك على النقير والقطمير، ويحسدونك على القليل والكثير، ويحرضون عليك الإخوان بالنميمة والبلاغات والبهتان، إن رضوا فظاهرهم الملق، وإن سخطوا فباطنهم الحنق، ظاهرهم ثياب وباطنهم ذئاب. هذا ما قطعت به المشاهدة على أكثرهم، إلا من عصمه الله تعالى؛ فصحبتهم خسران، ومعاشرتهم خذلان. هذا حكم من يظهر لك الصداقة، فكيف من يجاهرك بالعداوة؟ قال القاضي ابن معروف رحمه الله تعالى: فَاحذَر عَدوكَ مَرَة ... وَاحذَر صَديقَكَ أَلفَ مَرَة فَلَرُبَما اِنقَلَبَ الصَديقُ ... فَكانَ اَعرَف بِالمَضَرَة وكذلك قال أبو تمام: عَدوُكَ مِن صَديقِكَ مُستَفاد ... فَلا تَستَكثرِنَ مِنَ الصَحابِ فَإِنّ الدَاءَ أَكثَرَ ما تَراهُ ... يَكون مِنَ الطَعامِ أو الشَرابِ وكن كما قال هلال بن العلاء الرقى: لَما عَفوتَ وَلَم أَحقِد عَلى أَحد ... أَرحتَ نَفسى مِن هُم العَداواتِ إِني أَحيى عَدوى عِندَ رُؤيَتِهِ ... لأَدفَعَ الشَرَ عَنى بِالتَحياتِ وَأَظهَر البَشَر لِلإِنسانِ أَبغُضُهُ ... كَأَن قَد مَلا قَلبى مَرات وَلسَت أَسلَمَ مِمَن لَستَ أَعرِفُهُ ... فَكَيفَ أَسلَم مِن أهلِ المَوَداتِ الناسُ دَاء دَواءِ الناسِ تَركُهُم ... وَفي الجَفاءِ لَهُم قِطَعُ الأَخواتِ فَسالِم الناسَ تَسلَم مِن غوائِلِهِم ... وَكُن حَريصاً عَلى كَسبِ التقياتِ وَخالِق الناسَ وَاصبِر ما بُلَيتَ بِهِم ... اَصَمٌ اَبكَمٌ اَعمى ذا تقيات وكن أيضا كما قال بعض الحكماء: الق صديقك وعدوك بوجه الرضا، من غير مذلة لهما ولا هيبة منهما، وتوقر من غير كبر، وتواضع من غير مذلة، وكن في جميع أمورك في أوسطها، فكلا طرفى قصدن الأمور ذميم، كما قيل: عَلَيكَ بِأَوساطِ الأَمورِ فإِنّها ... طَريقٌ إِلى نَهجِ الصِراط قَويمُ وَلا تَكُ فيها مُفرَطا أَو مُفرَطا ... فَإِنّ كُلا حالِ الأُمورِ ذميمُ ولا تنظر في عطفيك، ولا تكثر إلى وارئك الالتفات، ولا تقف على الجماعات، وإذا جلست فلا تستوفز، وتحفظ من تشبيك أصابعك، وكثرة بصاقك ونخمك، وطر الذباب عن وجهك، وكثرة التمطى والتثاؤب في وجوه الناس في الصلاة وغيرها، وليكن مجلسك هادئا، وحديثك منظوما مرتبا، واصغ إلى الكلام الحسن ممن حدثك من غير إظهار تعجب مفرط، ولا تسأله إعادته، واسكت عن المضاحك والحكايات، ولا تحدث عن إعجابك بولدك وشعرك وكلامك وتصنيفك وسائر ما يخصك، ولا تتصنع تصنع المرأة في التزين، ولا تتبذل تبذل العبد، وتوق كثرة الكحل والإسراف

في الدهن، ولا تلح في الحاجات، ولا تشجع أحداً على الظلم، ولا تعلم أحدا من أهلك وولدك فضلا عن غيرهم مقدار مالك؛ واجفهم من غير عنف، ولن لهم من غير ضعف، ولا تهازل أمتك ولا عبدك، فيسقط وقارك من قلوبهم، وإذا خاصمت فتوقر، وتحفئ من جهلك وعجلتك، وتفكر في حجتك، ولا تكثر الاشارة بيدك، ولا تكثر الالتفاف إلى من ورائك ولا تجث على ركبتيك، وإذا هدأ غضبك فتكلم. وإذا قربك السلطان فكن منه على حد السنان، وإياك وصديق العافية؛ فإنه أعدى الأعداء، ولا يجعل مالك أكرم من عرضك. فهذا القدر يافتى يكفيك من بداية الهداية، فجرب بها نفسك؛ فإنها ثلاثة أقسام: قسم آداب الطاعات، وقسم في ترك المعاصي، وقسم في مخالطة الخلق، وهي جامعة لجمل معاملة العبد مع الخالق والخلق. فإن رأيتها مناسبة لنفسك، ورأيت قلبك مائلا إليها راغبا في العمل بها، فاعلم أنك عبد نوَّر الله تعالى بالإيمان قلبك، وشرح به صدرك، وتحقق أن لهذه البداية نهاية، ووراءها أسرارا وأغوارا ومكاشفات، وقد أودعناها كتاب (إحياء علوم الدين) ؛ فاشتغل بتحصيله. وإن رأيت نفسك تستثقل العمل بهذه الوظائف، وتنكر هذا الفن من العلم، وتقول لك نفسك: أنى ينفعك هذا العلم في محافل العلماء، ومتى يقدمك هذا على الأقران والنظراء؟! وكيف يرفع منصبك في مجالس الأمراء والوزراء؟ وكيف يوصلك إلى الصلة والأرزاق وولاية الأوقاف والقضاء؟ فاعلم أن الشيطان قد أغواك وأنساك متقلبك ومثواك، فاطلب لك شيطانا مثلك، ليعملك ما تظن أنه ينفعك ويوصلك إلى بغيتك. ثم أنه قط لا يصفو لك الملك في محلتك، فضلا عن قريتك وبلدتك، ثم يفوتك الملك المقيم والنعيم الدائم في جوار رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.