كتاب الطلاق @-والكلام في هذا الباب ينحصر في أربع جمل: الجملة الأولى: في أنواع الطلاق. الجملة الثانية: في أركان الطلاق. الجملة الثالثة: في الرجعة. الجملة الرابعة: في أحكام المطلقات.
- 3*(الجملة الأولى) وفي هذه الجملة خمسة أبواب
@-الباب الأول: في معرفة الطلاق البائن والرجعي. الباب الثاني: في معرفة الطلاق السني من البدعي. الباب الثالث: في الخلع. الباب الرابع: في تمييز الطلاق من الفسخ. الباب الخامس: في التخيير والتمليك.
- 4*الباب الأول في معرفة الطلاق البائن والرجعي.
@-واتفقوا على أن الطلاق نوعان: بائن ورجعي. وأن الرجعي هو الذي يملك فيه الزوج رجعتها من غير اختيارها وأن من شرطه أن يكون في مدخول بها، وإنما اتفقوا على هذا لقوله تعالى {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة} إلى قوله تعالى {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} وللحديث الثابت أيضا من حديث ابن عمر أنه ﷺ أمره أن يراجع زوجته لما طلقها حائضا ولا خلاف في هذا. وأما الطلاق البائن، فإنهم اتفقوا على أن البينونة إنما توجد للطلاق من قبل عدم الدخول ومن قبل عدم التطليقات ومن قبل العوض في الخلع على اختلاف بينهم هل الخلع طلاق أو فسخ على ما سيأتي بعد؛ واتفقوا على أن العدد الذي يوجب البينونة في طلاق الحر ثلاث تطليقات إذا وقعت مفترقات لقوله تعالى {الطلاق مرتان} الآية. واختلفوا إذا وقعت ثلاثا في اللفظ دون الفعل، وكذلك اتفق الجمهور على أن الرق مؤثر في إسقاط أعداد الطلاق، وأن الذي يوجب البينونة في الرق اثنتان. واختلفوا هل هذا معتبر برق الزوج أو برق الزوجة أم برق من رق منهما، ففي هذا الباب إذن ثلاث مسائل. @-(المسألة الأولى) جمهور الفقهاء الأمصار على أن الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة؛ وقال أهل الظاهر وجماعة: حكمه حكم الواحدة ولا تأثير للفظ في ذلك، وحجة هؤلاء ظاهر قوله تعالى {الطلاق مرتان} إلى قوله في الثالثة {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} والمطلق بلفظ الثلاث مطلق واحدة لا مطلق ثلاث، واحتجوا أيضا بما خرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فأمضاه عليهم عمر؛ واحتجوا أيضا بما رواه ابن إسحق عن عكرمة عن ابن عباس قال "طلق ركانة زوجه ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول الله ﷺ: كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا في مجلس واحد، قال: إنما تلك طلقة واحدة فارتجعها" وقد احتج من انتصر لقول الجمهور بأن حديث ابن عباس الواقع في الصحيحين إنما رواه عنه من أصحابه طاوس، وأن جلة أصحابه رووا عنه لزوم الثلاث منهم سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وجماعة غيرهم، وأن حديث ابن إسحق وهم، وإنما روى الثقات أنه طلق ركانة زوجه البتة لا ثلاثا. وسبب الخلاف هل الحكم الذي جعله الشرع من البينونة للطلقة الثالثة يقع بإلزام المكلف نفسه هذا الحكم في طلقة واحدة أم ليس يقع؟ ولا يلزم من ذلك إلا ما ألزم الشرع؟ فمن شبه الطلاق بالأفعال التي يشترط في صحة وقوعها كون الشروط الشرعية فيها كالنكاح والبيوع قال: لا يلزم؛ ومن شبهه بالنذور والأيمان التي ما التزم العبد منها لزمه على أي صفة كان ألزم الطلاق كيفما ألزمه المطلق نفسه، وكأن الجمهور غلبوا حكم التغليظ في الطلاق سدا للذريعة ولكن تبطل بذلك الرخصة الشرعية والرفق المقصود في ذلك أعني في قوله تعالى {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} . @-(المسألة الثانية) وأما اختلافهم في اعتبار نقص عدد الطلاق البائن بالرق فمنهم من قال المعتبر فيه الرجال، فإذا كان الزوج عبدا كان طلاقه البائن الطلقة الثانية، سواء كانت الزوجة حرة أو أمة، وبهذا قال مالك والشافعي ومن الصحابة عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس، وإن كان اختلف عنده في ذلك، لكن الأشهر عنه هو هذا القول. ومنهم من قال إن الاعتبار في ذلك هو بالنساء، فإذا كانت الزوجة أمة كان طلاقها البائن الطلقة الثانية سواء كان الزوج عبدا أو حرا، وممن قال بهذا القول من الصحابة علي وابن مسعود، ومن فقهاء الأمصار أبو حنيفة وغيره؛ وفي المسألة قول أشذ من هذين، وهو أن الطلاق يعتبر برق من رق منهما، قال ذلك عثمان البتي وغيره وروي عن ابن عمر. وسبب هذا الاختلاف هل المؤثر في هذا هو رق المرأة أو رق الرجل، فمن قال التأثير في هذا لمن بيده الطلاق قال: يعتبر بالرجال ومن قال التأثير في هذا للذي يقع عليه الطلاق قال: هو حكم من أحكام المطلقة فشبهوها بالعدة. وقد أجمعوا على أن العدة بالنساء: أي نقصانها تابع لرق النساء؛ واحتج الفريق الأول بما روي عن ابن عباس مرفوعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "الطلاق بالرجال، والعدة بالنساء" إلا أنه حديث لم يثبت في الصحاح. وأما من اعتبر من رق منهما فإنه جعل سبب ذلك هو الرق مطلقا ولم يجعل سبب ذلك لا الذكورية ولا الأنوثية مع الرق. @-(المسألة الثالثة) وأما كون الرق مؤثرا في نقصان عدد الطلاق فإنه حكى قوم أنه إجماع؛ وأبو محمد بن حزم وجماعة من أهل الظاهر مخالفون فيه، ويرون أن الحر والعبد في هذا سواء. وسبب الخلاف معارضة الظاهر في هذا للقياس، وذلك أن الجمهور صاروا إلى هذا المكان قياس طلاق العبد والأمة على حدودهما؛ وقد أجمعوا على كون الرق مؤثرا في نقصان الحد. أما أهل الظاهر فلما كان الأصل عندهم أن حكم العبد في التكاليف حكم الحر إلا ما أخرجه الدليل، والدليل عندهم هو نص أو ظاهر من الكتاب أو السنة، ولم يكن هناك دليل مسموع صحيح وجب أن يبقى العبد على أصله، ويشبه أن يكون قياس الطلاق على الحد غير سديد، لأن المقصود بنقصان الحد رخصة للعبد لمكان نقصه، وأن الفاحشة ليست تقبح منه قبحها من الحر. وأما نقصان الطلاق فهو من باب التغليظ، لأن وقوع التحريم على الإنسان بتطليقتين أغلظ من وقوعه بثلاث لما عسى أن يقع في ذلك من الندم والشرع إنما سلك في ذلك سبيل الوسط، وذلك أنه لو كانت الرجعة دائمة بين الزوجة لعنتت المرأة وشقيت، ولو كانت البينونة واقعة في الطلقة الواحدة لعنت الزوج من قبل الندم، وكان ذلك عسيرا عليه، فجمع الله بهذه الشريعة بين المصلحتين، ولذلك ما نرى والله أعلم أن من ألزم الطلاق الثلاث في واحدة، فقد رفع الحكمة الموجودة في هذه السنة المشروعة.
- 4*الباب الثاني في معرفة الطلاق السني من البدعي.
@-أجمع العلماء على أن المطلق للسنة في المدخول بها هو الذي يطلق امرأته في طهر لم يمسها فيه طلقة واحدة، وأن المطلق في الحيض أو الطهر الذي مسها فيه غير مطلق للسنة، وإنما أجمعوا على هذا لما ثبت من حديث ابن عمر "أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله ﷺ، فقال عليه الصلاة والسلام: مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء". واختلفوا من هذا الباب في ثلاثة مواضع: الموضع الأول: هل من شرطه أن لا يتبعها طلاقا في العدة؟. والثاني: هل المطلق ثلاثا: أعني بلفظ الثلاث مطلق للسنة أم لا؟. والثالث: في حكم من طلق في وقت الحيض. @-(أما الموضع الأول) فإنه اختلف فيه مالك وأبو حنيفة ومن تبعهما، فقال مالك: من شرطها أن لا يتبعها في العدة طلاقا آخر. وقال أبو حنيفة: إن طلقها عند كل طهر طلقة واحدة كان مطلقا للسنة. وسبب هذا الاختلاف هل من شرط هذا الطلاق أن يكون في حال الزوجية بعد رجعة أم ليس من شرطه؟ فمن قال هو من شرطه قال: لا يتبعها فيه طلاقا، ومن قال ليس من شرطه أتبعها الطلاق ولا خلاف بينهم في وقوع الطلاق المتبع. @-(وأما الموضع الثاني) فإن مالكا ذهب إلى أن المطلق ثلاثا بلفظ واحد مطلق لغير سنة، وذهب الشافعي إلى أنه مطلق للسنة. وسبب الخلاف معارضة إقراره عليه الصلاة والسلام للمطلق بين يديه ثلاثا في لفظة واحدة لمفهوم الكتاب في حكم الطلقة الثالثة. والحديث الذي احتج به الشافعي هو ما ثبت من أن العجلاني طلق زوجته ثلاثا بحضرة رسول الله ﷺ بعد الفراغ من الملاعنة قال: فلو كان بدعة لما أقره رسول الله ﷺ. وأما مالك فلما رأى أن المطلق بلفظ الثلاث رافع للرخصة التي جعلها الله في العدد قال فيه إنه ليس للسنة، واعتذر أصحابه عن الحديث بأن المتلاعنين عنده قد وقعت الفرقة بينهما من قبل التلاعن نفسه، فوقع الطلاق على غير محله، فلم يتصف لا بسنة ولا ببدعة، وقول مالك - والله أعلم - أظهر ههنا من قول الشافعي. @-(وأما الموضع الثالث: في حكم من طلق في وقت الحيض) فإن الناس اختلفوا في ذلك في مواضع: منها أن الجمهور قالوا يمضي طلاقه؛ وقالت فرقة: لا ينفذ ولا يقع؛ والذين قالوا ينفذ قالوا: يؤمر بالرجعة وهؤلاء افترقوا فرقتين فقوم رأوا أن ذلك واجب وأنه يجبر على ذلك، وبه قال مالك وأصحابه. وقالت فرقة بل يندب إلى ذلك ولا يجبر، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد والذين أوجبوا الإجبار اختلفوا في الزمان الذي يقع فيه الإجبار، فقال مالك وأكثر أصحابه ابن القاسم وغيره يجبر ما لم تنقض عدتها؛ وقال أشهب: لا يجبر إلا في الحيضة الأولى. والذين قالوا بالأمر بالرجعة اختلفوا متى يوقع الطلاق بعد الرجعة إن شاء، فقوم اشترطوا في الرجعة أن يمسكها حتى تطهر من تلك الحيضة ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها، وبه قال مالك والشافعي وجماعة؛ وقوم قالوا: بل يراجعها، فإذا طهرت من تلك الحيضة التي طلقها فيها فإن شاء أمسك وإن شاء طلق، وبه قال أبو حنيفة والكوفيون، وكل من اشترط في طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه لم ير الأمر بالرجعة إذا طلقها في طهر مسها فيه، فهنا إذا أربع مسائل: أحدها: هل يقع الطلاق أم لا؟. والثانية: إن وقع فهل يجبر على الرجعة أم يؤمر فقط؟. والثالثة: متى يوقع الطلاق بعد الإجبار أو الندب، والرابعة متى يقع الإجبار. @-(أما المسألة الأولى) فإن الجمهور إنما صاروا إلى أن الطلاق إن وقع في الحيض اعتد به، وكان طلاقا لقوله ﷺ في حديث ابن عمر "مره فليراجعها" قالوا: والرجعة لا تكون إلا بعد طلاق، وروى الشافعي عن مسلم بن خالد عن ابن جريج أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد رسول الله ﷺ؟ قال نعم، وروي أنه الذي كان يفتي به ابن عمر. وأما من لم ير هذا الطلاق واقعا فإنه اعتمد عموم قوله ﷺ "كل فعل أو عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" وقالوا: أمر رسول الله ﷺ برده يشعر بعدم نفوذه ووقوعه. وبالجملة فسبب الاختلاف هل الشروط التي اشترطها الشرع في الطلاق السني هي شروط صحة وإجزاء، أم شروط كمال وتمام؟ فمن قال شروط إجزاء قال: لا يقع الطلاق الذي عدم هذه الصفة، ومن قال: شروط كمال وتمام قال: يقع ويندب إلى أن يقع كاملا، ولذلك من قال بوقوع الطلاق وجبره على الرجعة فقد تناقض، فتدبر ذلك. @-(وأما المسألة الثانية) وهي هل يجبر على الرجعة أو لا يجبر؟ فمن اعتمد ظاهر الأمر وهو الوجوب على ما هو عليه عند الجمهور قال: يجبر؛ ومن لحظ هذا المعنى الذي قلناه من كون الطلاق واقعا قال: هذا الأمر هو على الندب. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي متى يوقع الطلاق بعد الإجبار فإن من اشترط في ذلك أن يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإنما صار لذلك لأنه المنصوص عليه في حديث ابن عمر المتقدم قالوا: والمعنى في ذلك لتصح الرجعة بالوطء في الطهر الذي بعد الحيض لأنه لو طلقها في الطهر الذي بعد الحيضة لم يكن عليها من الطلاق الآخر عدة لأنه كان يكون كالمطلق قبل الدخول. وبالجملة فقالوا إن من شرط الرجعة وجود زمان يصح فيه الوطء، وعلى هذا التعليل يكون من شروط طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يطلق في الحيضة التي قبله، وهو أحد الشروط المشترطة عند مالك في طلاق السنة فيما ذكره عند الوهاب. وأما الذين لم يشترطوا ذلك، فإنهم صاروا إلى ما روى يونس ابن جبير وسعيد ابن جبير وابن سيرين ومن تابعهم عن ابن عمر في هذا الحديث أنه قال: يراجعها فإذا طهرت طلقها إن شاء، وقالوا: المعنى في ذلك أنه إنما أمر بالرجوع عقوبة له لأنه طلق في زمان كره له فيه الطلاق، فإذا ذهب ذلك الزمان وقع منه الطلاق على وجه غير مكروه. فسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذه المسألة وتعارض مفهوم العلة. @-(وأما المسألة الرابعة) وهي متى يجبر فإنما ذهب مالك إلى أنه يجبر على رجعتها لطول زمان العدة لأنه الزمان الذي له فيه ارتجاعها. وأما أشهب فإنه إنما صار في هذا إلى ظاهر الحديث، لأن فيه "مره فليراجعها حتى تطهر" فدل ذلك على أن المراجعة كانت في الحيضة، وأيضا فإنه قال: إنما أمر بمراجعتها لئلا تطول عليها العدة، فإنه إذا وقع عليها الطلاق في الحيضة لم تعتد بها بإجماع فإن قلنا إنه يراجعها في غير الحيضة كان ذلك عليها أطول، وعلى هذا التعليل فينبغي أن يجوز إيقاع الطلاق في الطهر الذي بعد الحيضة. فسبب الاختلاف هو سبب اختلافهم في علة الأمر بالرد.
- 4*الباب الثالث في الخلع.
@-واسم الخلع والفدية والصلح والمبارأة كلها تئول إلى معنى واحد، وهو بذل المرأة العوض على طلاقها، إلا أن اسم الخلع يختص ببذلها له جميع ما أعطاها والصلح ببعضه والفدية بأكثره والمبارأة بإسقاطها عنه حقا لها عليه على ما زعم الفقهاء، والكلام ينحصر في أصول هذا النوع من الفراق في أربعة فصول: في جواز وقوعه أولا، ثم ثانيا في شروط وقوعه: أعني جواز وقوعه، ثم ثالثا في نوعه: أعني هل هو طلاق أو فسخ؟. ثم رابعا فيما يلحقه من الأحكام.
- 5*الفصل الأول في جواز وقوعه.
@-فأما جواز وقوعه فعليه أكثر العلماء. والأصل في ذلك الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} . وأما السنة فحديث ابن عباس "أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس لا أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر بعد الدخول في الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال رسول الله ﷺ: اقبل الحديقة وطلقها طلقة واحدة" خرجه بهذا اللفظ البخاري وأبو داود والنسائي، وهو حديث متفق على صحته، وشذ أبو بكر ابن عبد الله المزيني عن الجمهور فقال: لا يحل للزوج أن يأخذ من زوجته شيئا، واستدل على ذلك بأنه زعم أن قوله تعالى {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} منسوخ بقوله تعالى {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} الآية. والجمهور على أن معنى ذلك بغير رضاها، وأما برضاها فجائز. فسبب الخلاف حمل هذا اللفظ على عمومه أو على خصوصه.
- 5*الفصل الثاني في شروط وقوعه.
@-فإما شروط جوازه فمنها ما يرجع إلى القدر الذي يجوز فيه؛ ومنها ما يرجع إلى صفة الشيء الذي يجوز به؛ ومنها ما يرجع إلى الحال التي يجوز فيها؛ ومنها ما يرجع إلى صفة من يجوز له الخلع من النساء أو من أوليائهن ممن لا تملك أمرها، ففي هذا الفصل أربع مسائل: @-(المسألة الأولى) أما مقدار ما يجوز لها أن تختلع به، فإن مالكا والشافعي وجماعة قالوا: جائز أن تختلع المرأة بأكثر مما يصير لها من الزوج في صداقها إذا كان النشوز من قبلها وبمثله وبأقل منه؛ وقال قائلون: ليس له أن يأخذ أكثر مما أعطاها على ظاهر حديث ثابت، فمن شبهه بسائر الأعواض في المعاملات رأى أن القدر فيه راجع إلى الرضا؛ ومن أخذ بظاهر الحديث لم يجز أكثر من ذلك، وكأنه رآه من باب أخذ المال بغير حق. @-(المسألة الثانية) وأما صفة العوض، فإن الشافعي وأبا حنيفة يشترطان فيه أن يكون معلوم الصفة ومعلوم الوجوب، ومالك يجيز فيه المجهول الوجود والقدر والمعدوم، مثل الآبق والشارد والثمرة التي لم يبد صلاحها والعبد غير الموصوف. وحكي عن أبي حنيفة جواز الغرر ومنع المعدوم. وسبب الخلاف تردد العوض ههنا بين العوض في البيوع أو الأشياء الموهوبة والموصي بها؛ فمن شبهها بالبيوع اشترط ما يشترط في البيوع وفي أعواض البيوع؛ ومن شبهه بالهبات لم يشترط ذلك. واختلفوا إذا وقع الخلع بما لم يحل كالخمر والخنزير هل يجب لها عوض أم لا بعد اتفاقهم على أن الطلاق يقع؟ فقال مالك: لا تستحق عوضا، وبه قال أبو حنيفة؛ وقال الشافعي: يجب لها مهر المثل (هكذا جميع النسخ. ولعل الصواب يجب عليها، فإن العوض راجع للزوج، فليتأمل ا هـ مصححه). @-(المسألة الثالثة) وأما ما يرجع إلى الحال التي يجوز فيها الخلع من التي لا يجوز فإن الجمهور على أن الخلع جائز مع التراضي إذا لم يكن سبب رضاها بما تعطيه إضراره بها، والأصل في ذلك قوله تعالى {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} وقوله تعالى {فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} وشذ أبو قلابة والحسن البصري فقالا: لا يحل للرجل الخلع عليها حتى يشاهدها تزني، وحملوا الفاحشة في الآية على الزنا؛ وقال داود: لا يجوز إلا بشرط الخوف أن لا يقيما حدود الله على ظاهر الآية؛ وشذ النعمان فقال: يجوز الخلع مع الإضرار؛ والفقه أن الفداء إنما جعل للمرأة في مقابلة ما بيد الرجل من الطلاق، فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك المرأة جعل الخلع بيد المرأة إذا فركت الرجل، فيتحصل في الخلع خمسة أقوال: قول إنه لا يجوز أصلا. وقوله إنه يجوز على كل حال: أي مع الضرر. وقول إنه لا يجوز إلا مع مشاهدة الزنا. وقول مع خوف أن لا يقيما حدود الله. وقول إنه يجوز في كل حال إلا مع الضرر، وهو المشهور. @-(المسألة الرابعة) وأما من يجوز له الخلع ممن لا يجوز فإنه لا خلاف عند الجمهور أن الرشيدة تخالع عن نفسها، وأن الأمة لا تخالع عن نفسها إلا برضا سيدها، وكذلك السفيه مع وليها عند من يرى الحجر؛ وقال مالك: يخالع الأب على ابنته الصغيرة كما ينكحها وكذلك على ابنه الصغير لأنه عنده يطلق عليه، والخلاف في الابن الصغير قال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز لأنه لا يطلق عليه عندهم والله أعلم وخلع المريضة يجوز عند مالك إذا كان بقدر ميراثه منها؛ وروى ابن نافع عن مالك أنه يجوز خلعها بالثلث كله؛ وقال الشافعي: لو اختلعت بقدر مهر مثلها جاز، وكان من رأس المال، وإن زاد على ذلك كانت الزيادة من الثلث. وأما المهملة التي لا وصي لها ولا أب فقال ابن القاسم: يجوز خلعها إذا كان خلع مثلها، والجمهور على أنه يجوز خلع المالكة لنفسها؛ وشذ الحسن وابن سيرين فقالا: لا يجوز الخلع إلا بإذن السلطان.
- 5*الفصل الثالث في نوعه.
@-وأما نوع الخلع فجمهور العلماء على أنه طلاق، وبه قال مالك، وأبو حنيفة سوى بين الطلاق والفسخ؛ وقال الشافعي: هو فسخ، وبه قال أحمد وداود ومن الصحابة ابن عباس. وقد روي عن الشافعي أنه كناية، فإن أراد به الطلاق كان طلاقا وإلا كان فسخا، وقد قيل عنه في قوله الجديد إنه طلاق وفائدة الفرق هل يعتد به في التطليقات أم لا؟ وجمهور من رأى أنه طلاق يجعله بائنا، لأنه لو كان للزوج في العدة منه الرجعة عليها لم يكن لافتدائها معنى وقال أبو ثور: إن لم يكن بلفظ الطلاق لم يكن له عليها رجعة، وإن كان بلفظ الطلاق كان له عليها الرجعة احتج من جعله طلاقا بأن الفسوخ إنما هي التي تقتضي الفرقة الغالبة للزوج في الفراق مما ليس يرجع إلى اختياره، وهذا راجع إلى الاختيار فليس بفسخ، واحتج من لم يره طلاقا بأن الله تبارك وتعالى ذكر في كتابه الطلاق فقال {الطلاق مرتان} ثم ذكر الافتداء ثم قال {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} فلو كان الافتداء طلاقا لكان الطلاق الذي لا تحل له فيه إلا بعد زوج هو الطلاق الرابع، وعند هؤلاء أن الفسوخ تقع بالتراضي قياسا على فسوخ البيع: أعني الإقالة، وعند المخالف أن الآية إنما تضمنت حكم الاقتداء على أنه شيء يلحق جميع أنواع الطلاق لا أنه شيء غير الطلاق. فسبب الخلاف هل اقتران العوض بهذه الفرقة يخرجها من نوع فرقة الطلاق إلى نوع الفسخ أم ليس يخرجها؟.
- 5*الفصل الرابع فيما يلحقه من الأحكام.
@-وأما لواحقه ففروع كثيرة، لكن نذكر منها ما شهر: فمنها هل يرتدف على المختلعة طلاق أم لا؟ فقال مالك: لا يرتدف إلا إن كان الكلام متصلا؛ وقال الشافعي: لا يرتدف وإن كان الكلام متصلا؛ وقال أبو حنيفة: يرتدف ولم يفرق بين الفور والتراخي. وسبب الخلاف أن العدة عند الفريق الأول من أحكام الطلاق، وعند أبي حنيفة من أحكام النكاح، ولذلك لا يجوز عنده أن ينكح مع المبتوتة أختها، فمن رآها من أحكام النكاح ارتدف الطلاق عنده، ومن لم ير ذلك لم يرتدف؛ ومنها أن جمهور العلماء أجمعوا على أنه لا رجعة للزوج على المختلعة في العدة، إلا ما روي عن سعيد بن المسيب وابن شهاب أنهما قالا: إن رد لها ما أخذ منها في العدة أشهد على رجعتها، والفرق الذي ذكرناه عن أبي ثور بين أن يكون بلفظ الطلاق أو لا يكون؛ ومنها أن الجمهور أجمعوا على أن له أن يتزوجها برضاها في عدتها؛ وقالت فرقة من المتأخرين: لا يتزوجها هو ولا غيره في العدة. وسبب اختلافهم هل المنع من النكاح في العدة عبادة أو ليس بعبادة بل معلل؟. واختلفوا في عدة المختلعة وسيأتي بعد. واختلفوا إذا اختلف الزوج والزوجة في مقدار العدد الذي وقع به الخلع فقال مالك: القول قوله إن لم يكن هنالك بينة؛ وقال الشافعي: يتحالفان ويكون عليها مهر المثل، شبه الشافعي اختلافهما باختلاف المتبايعين؛ وقال مالك: هي مدعى عليها وهو مدع. ومسائل هذا الباب كثيرة وليس مما يليق بقصدنا.
- 4*الباب الرابع في تمييز الطلاق من الفسخ.
@-واختلف قول مالك رحمه الله في الفرق بين الفسخ الذي لا يعتد به في التطليقات الثلاث وبين الطلاق الذي يعتد به في الثلاث إلى قولين: أحدهما أن النكاح إن كان فيه خلاف خارج عن مذهبه: أعني في جوازه، وكان الخلاف مشهورا فالفرقة عنده فيه طلاق مثل الحكم بتزويج المرأة نفسها والمحرم، فهذه على هذه الرواية هي طلاق لا فسخ. والقول الثاني أن الاعتبار في ذلك هو بالسبب الموجب للتفرق، فإن كان غير راجع إلى الزوجين مما لو أراد الإقامة على الزوجية معه لم يصح كان فسخا مثل نكاح المحرمة بالرضاع أو النكاح أو العدة وإن كان مما لهما أن يقيما عليه مثل الرد بالعيب كان طلاقا.
- 4*الباب الخامس في التخيير والتمليك.
@-ومما يعد من أنواع الطلاق مما يرى أن له أحكاما خاصة: التمليك والتخيير، والتمليك عن مالك في المشهور غير التخيير، وذلك أن التمليك هو عنده تمليك المرأة إيقاع الطلاق، فهو يحتمل الواحدة فما فوقها، ولذلك له أن يناكرها عنده فيما فوق الواحدة، والخيار بخلاف ذلك لأنه يقتضي إيقاع طلاق تنقطع معه العصمة إلا أن يكون تخييرا مقيدا مثل أن يقول لها اختاري نفسك أو اختاري تطليقة أو تطليقتين، ففي الخيار المطلق عند مالك ليس لها إلا أن تختار زوجها أو تبين منه بالثلاث، وإن اختارت واحدة لم يكن لها ذلك، والمملكة لا يبطل تمليكها عنده إن لم توقع الطلاق حتى يطول الأمر بها على إحدى الروايتين أو يتفرقا من المجلس؛ والرواية الثانية أنه يبقى لها التمليك إلى أن ترد أو تطلق والفرق عند مالك بين التمليك وتوكيله إياها على تطليق نفسها أن في التوكيل له أن يعزلها قبل أن تطلق، وليس له ذلك في التمليك؛ وقال الشافعي: اختاري وأمرك بيدك سواء، ولا يكون ذلك طلاقا إلا أن ينويه، وإن نواه فهو ما أراد إن واحدة فواحدة وإن ثلاثا فثلاث، فله عنده أن يناكرها في الطلاق نفسه، وفي العدد في الخيار أو التمليك، وهي عنده إن طلقت نفسها رجعية، وكذلك هي عند مالك في التمليك؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: الخيار ليس بطلاق، فإن طلقت نفسها في التمليك واحدة فهي بائنة؛ وقال الثوري: الخيار والتمليك واحد لا فرق بينهما، وقد قيل القول قولها في أعداد الطلاق في التمليك، وليس للزوج مناكرتها، وهذا القول مروي عن علي وابن المسيب، وبه قال الزهري وعطاء، وقد قيل إنه ليس للمرأة في التمليك إلا أن تطلق نفسها تطليقة واحدة، وذلك مروي عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما، روى أنه جاء ابن مسعود رجل فقال: كان بيني وبين امرأتي بعض ما يكون بين الناس، فقالت: لو أن الذي بيدك من أمري بيدي لعلمت كيف أصنع، قال: فإن الذي بيدي من أمرك بيدك، قالت: فأنت طالق ثلاثا، قال: أراها واحدة وأنت أحق بها ما دامت في عدتها، وسألقى أمير المؤمنين عمر، ثم لقيه فقص عليه القصة فقال: صنع الله بالرجال وفعل: يعمدون إلى ما جعل الله في أيديهم فيجعلونه بأيدي النساء بفيها التراب، ماذا قلت فيها؟ قال: قلت أراها واحدة وهو أحق بها قال: وأنا أرى ذلك، ولو رأيت غير ذلك علمت أنك لم تصب، وقد قيل ليس التمليك بشيء لأن ما جعل الشرع بيد الرجل ليس يجوز أن يرجع إلى يد المرأة بجعل جاعل. وكذلك التخيير وهو قول أبي محمد بن حزم وقول مالك في المملكة إن لها الخيار في الطلاق أو البقاء على العصمة ما دامت في المجلس وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي وجماعة فقهاء الأمصار؛ وعند الشافعي أن التمليك إذا أراد به الطلاق كالوكالة، وله أن يرجع في ذلك متى أحب ذلك ما لم يوقع الطلاق، وإنما صار الجمهور للقضاء بالتمليك أو بالتخيير، وجعل ذلك للنساء لما ثبت من تخيير رسول الله ﷺ نساءه، قالت عائشة خيرنا رسول الله ﷺ فاخترناه فلم يكن طلاقا، لكن أهل الظاهر يرون أن معنى ذلك أنهن لو اخترن أنفسهن طلقهن رسول الله ﷺ لا أنهن كن يطلقن بنفس اختيار الطلاق. وإنما صار جمهور الفقهاء إلى أن التخيير والتمليك واحد في الحكم، لأن من عرف دلالة اللغة أن من ملك إنسانا أمرا من الأمور إن شاء أن يفعله أو لا يفعله فإنه قد خيره. وأما مالك فيرى أن قوله لها اختاريني أو اختاري نفسك أنه ظاهر بعرف الشرع في معنى البينونة بتخيير رسول الله ﷺ نساءه لأن المفهوم منه إنما كان البينونة وإنما رأى مالك أنه لا يقبل قول الزوج في التمليك أنه لم يرد به طلاقا إذا زعم ذلك لأنه لفظ ظاهر في معنى جعل الطلاق بيدها، وأما الشافعي فلما لم يكن اللفظ عنده نصا اعتبر فيه النية. فسبب الخلاف هل يغلب ظاهر اللفظ أو دعوى النية، وكذلك فعل في التخيير، وإنما اتفقوا على أن له مناكرتها في العدد: أعني في لفظ التمليك، لأنه لا يدل عليه دلالة محتملة فضلا عن ظاهره، وإنما رأى مالك والشافعي أنه إذا طلقت نفسها بتمليكه إياها طلقة واحدة أنها تكون رجعية، لأن الطلاق إنما يحمل على العرف الشرعي وهو طلاق السنة، وإنما رأى أبو حنيفة أنها بائنة، لأنه إذا كان له عليها رجعة لم يكن لما طلبت من التمليك فائدة ولما قصد هو من ذلك. وأما من رأى أن لها أن تطلق نفسها في التمليك ثلاثا وأنه ليس للزوج مناكرتها في ذلك، فلأن معنى التمليك عنده إنما هو تصيير جميع ما كان بيد الرجل من الطلاق بيد المرأة فهي مخيرة فيما توقعه من أعداد الطلاق. وأما من جعل التمليك طلقة واحدة فقط أو التخيير، فإنما ذهب إلى أنه أقل ما ينطلق عليه الاسم واحتياطا للرجال لأن العلة في جعل الطلاق بأيدي الرجال دون النساء هو لنقصان عقلهن وغلبة الشهوة عليهن مع سوء المعاشرة، وجمهور العلماء على أن المرأة إذا اختارت زوجها أنه ليس بطلاق لقول عائشة المتقدم. وروي عن الحسن البصري أنها إذا اختارت زوجها فواحدة، وإذا اختارت نفسها فثلاث، فيتحصل في هذه المسألة الخلاف في ثلاث مواضع: أحدها أنه لا يقع بواحد منهما طلاق. والثاني أنه تقع بينهما فرقة. والثالث الفرق بين التخيير والتمليك فيما تملك به المرأة، أعني أن تملك بالتخيير البينونة، وبالتمليك ما دون البينونة، وإذا قلنا بالبينونة فقيل تملك واحدة، وقيل تملك الثلاث؛ وإذا قلنا إنها تملك واحدة فقيل رجعية، وقيل بائنة. وأما حكم الألفاظ التي تجيب بها المرأة في التخيير والتمليك فهي ترجع إلى حكم الألفاظ التي يقع بها الطلاق في كونها صريحة في الطلاق أو كناية أو محتملة، وسيأتي تفصيل ذلك عند التكلم في ألفاظ الطلاق.
- 3*(الجملة الثانية) وفي هذه الجملة ثلاثة أبواب
@-الباب الأول: في ألفاظ الطلاق وشروطه. الباب الثاني: في تفصيل من يجوز طلاقه ممن لا يجوز. الباب الثالث في تفصيل من يقع عليها الطلاق من النساء ممن لا يقع.
- 4*الباب الأول في ألفاظ الطلاق وشروطه.
@-وهذا الباب فيه فصلان: الفصل الأول: في أنواع ألفاظ الطلاق المطلقة. الفصل الثاني: في أنواع ألفاظ الطلاق المقيدة.
- 5*الفصل الأول في أنواع ألفاظ الطلاق المطلقة.
@-أجمع المسلمون على أن الطلاق يقع إذا كان بنية وبلفظ صريح. واختلفوا هل يقع بالنية مع اللفظ الذي ليس بصريح، أو بالنية دون اللفظ، أو باللفظ دون النية؛ فمن اشترط فيه النية واللفظ الصريح فاتباعا لظاهر الشرع، وكذلك من أقام الظاهر مقام الصريح، ومن شبهه بالعقد في النذر وفي اليمين أوقعه بالنية فقط، ومن أعمل التهمة أوقعه باللفظ فقط. واتفق الجمهور على أن ألفاظ الطلاق المطلقة صنفان: صريح، وكناية. واختلفوا في تفصيل الصريح من الكناية وفي أحكامها وما يلزم فيها، ونحن إنما قصدنا من ذلك ذكر المشهور وما يجري مجرى الأصول، فقال مالك وأصحابه: الصريح هو لفظ الطلاق فقط، وما عدا ذلك كناية، وهي عنده على ضربين ظاهرة ومحتملة، وبه قال أبو حنيفة؛ وقال الشافعي: ألفاظ الطلاق الصريحة ثلاث: الطلاق، والفراق، والسراح، وهي مذكورة في القرآن؛ وقال بعض أهل الظاهر: لا يقع طلاق إلا بهذه الثلاث. فهذا هو اختلافهم في صريح الطلاق من غير صريحه. وإنما اتفقوا على أن لفظ الطلاق صريح لأن دلالته على هذا المعنى الشرعي دلالة وضوعية بالشرع فصار أصلا في هذا الباب. وأما ألفاظ الفراق والسراح فهي مترددة بين أن يكون للشرع فيها تصرف: أعني أن تدل بعرف الشرع على المعنى الذي يدل عليه الطلاق، أو هي باقية على دلالتها اللغوية فإذا استعملت في هذا المعنى: أعني في معنى الطلاق كانت مجازا إذ هذا هو معنى الكناية: أعني اللفظ الذي يكون مجازا في دلالته، وإنما ذهب من ذهب إلى أنه لا يقع الطلاق إلا بهذه الألفاظ الثلاثة، لأن الشرع إنما ورد بهذه الألفاظ الثلاثة وهي عبادة، ومن شرطها اللفظ، فوجب أن يقتصر بها على اللفظ الشرعي الوارد فيها. فأما اختلافهم في أحكام صريح ألفاظ الطلاق ففيه مسئلتان مشهورتان: إحداهما اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة عليها. والثانية اختلفوا فيها. فأما التي اتفقوا عليها فإن مالكا والشافعي وأبا حنيفة قالوا: لا يقبل قول المطلق إذا نطق بألفاظ الطلاق أنه لم يرد به طلاقا إذا قال لزوجته أنت طالق، وكذلك السراح والفراق عند الشافعي؛ واستثنت المالكية بأن قالت: إلا أن تقترن بالحالة أو بالمرأة قرينة تدل على صدق دعواه، مثل أن تسأله أن يطلقها من وثاق هي فيه وشبهه فيقول لها أنت طالق. وفقه المسألة عند الشافعي وأبي حنيفة أن الطلاق لا يحتاج عندهم إلى نية؛ وأما مالك فالمشهور عنه أن الطلاق عنده يحتاج إلى نية، لكن لم ينوه ههنا لموضع التهم، ومن رأيه الحكم بالتهم سدا للذرائع، وذلك مما خالفه فيه الشافعي وأبو حنيفة، فيجب على رأي من يشترط النية في ألفاظ الطلاق ولا يحكم بالتهم أن يصدقه فيما ادعى. @-(وأما المسألة الثانية) فهي اختلافهم فيمن قال لزوجته أنت طالق، وادعى أنه أراد بذلك أكثر من واحدة إما ثنتين وإما ثلاثا، فقال مالك: هو ما نوى وقد لزمه، وبه قال الشافعي إلا أن يقيد فيقول طلقة واحدة، وهذا القول هو المختار عند أصحابه؛ وأما أبو حنيفة فقال: لا يقع ثلاثا بلفظ الطلاق لأن العدد لا يتضمنه لفظ الإفراد لا كناية ولا تصريحا. وسبب اختلافهم هل يقع الطلاق بالنية دون اللفظ أو بالنية مع اللفظ المحتمل؟ فمن قال بالنية أوجب الثلاث، وكذلك من قال بالنية واللفظ المحتمل ورأى أن لفظ الطلاق يحتمل العدد؛ ومن رأى أنه لا يحتمل العدد وأنه لابد من اشتراط اللفظ في الطلاق مع النية قال: لا يجب العدد وإن نواه؛ وهذه المسألة اختلفوا فيها، وهي من مسائل شروط ألفاظ الطلاق: أعني اشتراط النية مع اللفظ، أو بانفراد أحدهما، فالمشهور عن مالك أن الطلاق لا يقع إلا باللفظ والنية، وبه قال أبو حنيفة، وقد روي عنه أنه يقع باللفظ دون النية؛ وعند الشافعي أن لفظ الطلاق الصريح لا يحتاج إلى نية، فمن اكتفى بالنية احتج بقوله ﷺ "إنما الأعمال بالنيات" ومن لم يعتبر النية دون اللفظ احتج بقوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها" والنية دون قول حديث نفس قال: وليس يلزم من اشترط النية في العمل في الحديث المتقدم أن تكون النية كافية بنفسها. واختلف المذهب هل يقع بلفظ الطلاق في المدخول بها طلاق بائن إذا قصد ذلك المطلق ولم يكن هنالك عوض؟ فقيل يقع، وقيل لا يقع، وهذه المسألة هي من مسائل أحكام صريح ألفاظ الطلاق. وأما ألفاظ الطلاق التي ليست بصريح، فمنها ما هي كناية ظاهرة عند مالك، ومنها ما هي كناية محتملة؛ ومذهب مالك أنه إذا ادعى في الكناية الظاهرة أنه لم يرد طلاقا لم يقبل قوله إلا أن تكون هنالك قرينة تدل على ذلك كرأيه في الصريح، وكذلك لا يقبل عنده ما يدعيه من دون الثلاث في الكنايات الظاهرة وذلك في المدخول بها إلا أن يكون قال ذلك في الخلع. وأما غير المدخول بها فيصدقه في الكناية الظاهرة فيما دون الثلاث، لأن طلاق غير المدخول بها بائن، وهذه هي مثل قولهم: حبلك على غاربك، ومثل البتة، ومثل قولهم: أنت خلية وبرية. وأما مذهب الشافعي في الكنايات الظاهرة فإنه يرجع في ذلك إلى ما نواه، فإن كان نوى طلاقا كان طلاقا وإن كان نوى ثلاثا كان ثلاثا أو واحدة كان واحدة ويصدق في ذلك وقول أبي حنيفة في ذلك مثل قول الشافعي، إلا أنه إذا نوى على أصله واحدة أو اثنتين وقع عنده طلقة واحدة بائنة، وإن اقترنت به قرينة تدل على الطلاق وزعم أنه لم ينوه لم يصدق، وذلك إذا كان عنده في ذاكرته الطلاق؛ وأبو حنيفة يطلق بالكنايات كلها إذا اقترنت بها هذه القرينة إلا أربع: حبلك على غاربك، واعتدي، واستبرئي، وتقنعي، لأنها عنده من المحتملة غير الظاهرة وأما ألفاظ الطلاق المحتملة غير الظاهرة فعند مالك أنه يعتبر فيها نيته كالحال عند الشافعي في الكناية الظاهرة، وخالفه في ذلك جمهور العلماء فقالوا: ليس فيها شيء، وإن نوى طلاقا فيتحصل في الكنايات الظاهرة ثلاثة أقوال: قول أن يصدق بإطلاق، وهو قول الشافعي؛ وقول إنه لا يصدق بإطلاق إلا أن يكون هنالك قرينة، وهو قول مالك؛ وقول إنه يصدق إلا أن يكون في مذاكرة الطلاق، وهو قول أبي حنيفة. وفي المذهب خلاف في مسائل يتردد حملها بين الظاهر والمحتمل، وبين قوتها وضعفها في الدلالة على صفة البينونة فوقع فيها الاختلاف وهي راجعة إلى هذه الأصول؛ وإنما صار مالك إلى أنه لا يقبل قوله في الكنايات الظاهرة إنه لم يرد به طلاقا، لأن العرف اللغوي والشرعي شاهد عليه، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تلفظ بها الناس غالبا، والمراد بها الطلاق، إلا أن يكون هنالك قرينة تدل على خلاف ذلك، وإنما صار إلى أنه لا يقبل قوله فيما يدعيه دون الثلاث، لأن الظاهر من هذه الألفاظ هو البينونة، والبينونة لا تقع إلا خلعا عنده في المشهور أو ثلاثا، وإذا لم تقع خلعا لأنه ليس هناك عوض فبقي أن يكون ثلاثا، وذلك في المدخول بها، ويتخرج على القول في المذهب بأن البائن تقع من دون عوض ودون عدد أن يصدق في ذلك وتكون واحدة بائنة، وحجة الشافعي أنه إذا وقع الإجماع على أنه يقبل قوله فيما دون الثلاث في صريح ألفاظ الطلاق كان أحرى أن يقبل قوله في كنايته لأن دلالة الصريح أقوى من دلالة الكناية، ويشبه أن تقول المالكية إن لفظ الطلاق وإن كان صريحا في الطلاق فليس بصريح في العدد ومن الحجة للشافعي حديث ركانة المتقدم، وهو مذهب عمر في حبلك على غاربك، وإنما صار الشافعي إلى أن الطلاق في الكنايات الظاهرة إذا نوى ما دون الثلاث يكون رجعيا لحديث ركانة المتقدم، وصار أبو حنيفة إلى أنه يكون بائنا لأنه المقصود به قطع العصمة، ولم يجعله ثلاثا لأن الثلاث معنى زائد على البينونة عنده. فسبب اختلافهم هل يقدم عرف اللفظ على النية أو النية على عرف اللفظ؟ وإذا غلبنا عرف اللفظ فهل يقتضي البينونة فقط أو العدد؟ فمن قدم النية لم يقض عليه بعرف اللفظ، ومن قدم العرف الظاهر لم يلتفت إلى النية. ومما اختلف فيه الصدر الأول وفقهاء الأمصار من هذا الباب: أعني من جنس المسائل الداخلة في هذا الباب لفظ التحريم: أعني من قال لزوجته أنت على حرام، وذلك أن مالكا قال: يحمل في المدخول بها على البت: أي الثلاث وينوي في غير المدخول بها، وذلك على قياس قوله المتقدم في الكنايات الظاهرة وهو قول ابن أبي ليلى وزيد بن ثابت وعلي من الصحابة، وبه قال أصحابه إلا ابن الماجشون فإنه قال: لا ينوي في غير المدخول بها وتكون ثلاثا، فهذا هو أحد الأقوال في هذه المسألة، والقول الثاني أنه إن نوى بذلك ثلاثا فهي ثلاث وإن نوى واحدة فهي واحدة بائنة، وإن نوى يمينا فهو يمين يكفرها، وإن لم ينو به طلاقا ولا يمينا فليس بشيء، هي كذبة، وقال بهذا القول الثوري، والقول الثالث أنه يكون أيضا ما نوى بها وإن نوى واحدة فواحدة أو ثلاثا فثلاث، وإن لم ينو شيئا فهو يمين يكفرها، وهذا القول قاله الأوزاعي. والقول الرابع أن ينوي فيها في الموضعين في إرادة الطلاق وفي عدده، فما نوى كان ما نوى، فإن نوى واحدة كان رجعيا، وإن أراد تحريمها بغير طلاق فعليه كفارة يمين وهو قول الشافعي. والقول الخامس أنه ينوي أيضا في الطلاق وفي العدد، فإن نوى واحدة كانت بائنة، فإن لم ينو طلاقا كان يمينا وهو مول، فإن نوى الكذب فليس بشيء، وهذا القول قاله أبو حنيفة وأصحابه. والقول السادس إنها يمين يكفرها ما يكفر اليمين، إلا أن بعض هؤلاء قال يمين مغلظة، وهو قول عمر وابن مسعود وابن عباس وجماعة من التابعين؛ وقال ابن عباس وقد سئل عنها: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، خرجه البخاري ومسلم ذهب إلى الاحتجاج بقوله تعالى {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} الآية. والقول السابع أن تحريم المرأة كتحريم الماء، وليس فيه كفارة ولا طلاق لقوله تعالى {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} وهو قول مسروق والأجدع وأبي سلمة بن عبد الرحمن والشعبي وغيرهم. ومن قال فيها إنها غير مغلظة بعضهم أوجب فيها الواجب في الظهار، وبعضهم أوجب فيها عتق رقبة. وسبب الاختلاف هل هو يمين أو كناية؟ أو ليس بيمين ولا كناية؟ فهذه أصول ما يقع من الاختلاف في ألفاظ الطلاق.
- 5*الفصل الثاني في ألفاظ الطلاق المقيدة.
@-والطلاق المقيد لا يخلو من قسمين: إما تقييد اشتراط، أو تقييد استثناء، والتقييد المشترط لا يخلو أن يعلق بمشيئة من له اختيار أو بوقوع فعل من الأفعال المستقبلة أو بخروج شيء مجهول العلم إلى الوجود على ما يدعيه المعلق للطلاق به مما لا يتوصل إلى علمه إلا بعد خروجه إلى الحس، أو إلى الوجود أو بما لا سبيل إلى الوقوف عليه مما هو ممكن أن يكون أو لا يكون. فأما تعليق الطلاق بالمشيئة فإنه لا يخلو أن يعلقه بمشيئة الله أو بمشيئة مخلوق، فإذا علقه بمشيئة الله وسواء علقه على جهة الشرط مثل أن يقول أنت طالق إن شاء الله، أو على جهة الاستثناء مثل أن يقول أنت طالق إلا أن يشاء الله، فإن مالكا قال: لا يؤثر الاستثناء في الطلاق شيئا وهو واقع لابد. وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا استثنى المطلق مشيئة الله لم يقع الطلاق. وسبب الخلاف هل يتعلق الاستثناء بالأفعال الحاضرة الواقعة كتعلقه بالأفعال المستقبلة أو لا يتعلق؟ وذلك أن الطلاق هو فعل حاضر؛ فمن قال لا يتعلق به قال: لا يؤثر الاستثناء ولا اشتراط المشيئة في الطلاق؛ ومن قال يتعلق به قال: يؤثر فيه. وأما إن علق الطلاق بمشيئة من تصح مشيئته ويتوصل إلى علمها فلا خلاف في مذهب مالك أن الطلاق يقف على اختيار الذي علق الطلاق بمشيئته. وأما تعليق الطلاق بمشيئة من لا مشيئة له، ففيه خلاف في المذهب، قيل يلزمه الطلاق، وقيل لا يلزمه، والصبي والمجنون داخلان في هذا المعنى؛ فمن شبهه بطلاق الهزل وكان الطلاق بالهزل عنده يقع قال: يقع هذا الطلاق؛ ومن اعتبر وجود الشرط قال: لا يقع لأن الشرط قد عدم ههنا. وأما تعليق الطلاق بالأفعال المستقبلة، فإن الأفعال التي يعلق بها توجد على ثلاثة أضرب: أحدها ما يمكن أن يقع أو لا يقع على السواء كدخول الدار وقدوم زيد، فهذا يقف وقوع الطلاق فيه على وجود الشرط بلا خلاف. وأما ما لابد من وقوعه كطلوع الشمس غدا، فهذا يقع ناجزا عند مالك، ويقف وقوعه عند الشافعي وأبي حنيفة على وجود الشرط؛ فمن شبهه بالشرط الممكن الوقوع قال: لا يقع إلا بوقوع الشرط؛ ومن شبهه بالوطء الواقع في الأجل بنكاح المتعة لكونه وطئا مستباحا إلى أجل قال: يقع الطلاق؛ والثالث هو الأغلب منه بحسب العادة وقوع الشرط، وقد لا يقع كتعليق الطلاق بوضع الحمل ومجيء الحيض والطهر، ففي ذلك روايتان عن مالك: إحداهما وقوع الطلاق ناجزا؛ والثانية وقوعه على وجود شرطه، وهو الذي يأتي على مذهب أبي حنيفة والشافعي، والقول بإنجاز الطلاق في هذا يضعف لأنه مشبه عنده بما يقع ولابد، والخلاف فيه قوي، وأما تعليق الطلاق بالشرط المجهول الوجود فإن كان لا سبيل إلى علمه مثل أن يقول: إن كان خلق الله اليوم في بحر القلزم حوتا بصفة كذا فأنت طالق، فلا خلاف أعلمه في المذهب أن الطلاق يقع في هذا، وأما إن علقه بشيء يمكن أن يعلم بخروجه إلى الوجود مثل أن يقول: إن ولدت أنثى فأنت طالق فإن الطلاق يتوقف على خروج ذلك الشيء إلى الوجود. وأما إن حلف بالطلاق أنها تلد أنثى، فأن الطلاق في الحين يقع عنده وإن ولدت إنثى، وكان هذا من باب التغليظ، والقياس يوجب أن يوقف الطلاق على خروج ذلك الشيء أو ضده ومن قول مالك إنه إذا أوجب الطلاق على نفسه بشرط أن يفعل فعلا من الأفعال أنه لا يحنث حتى يفعل ذلك الفعل، وإذا أوجب الطلاق على نفسه بشرط ترك فعل من الأفعال فإنه على الحنث حتى يفعل ويوقف عنده عن وطء زوجته، فإن امتنع عن ذلك الفعل أكثر من مدة أجل الإيلاء ضرب له أجل الإيلاء ولكن لا يقع عنده حتى يفوت الفعل إن كان مما يقع فوته، ومن العلماء من يرى أنه على بر حتى يفوت الفعل، وإن كان مما لا يفوت كان على البر حتى يموت. ومن هذا الباب اختلافهم في تبعيض المطلقة، أو تبعيض الطلاق وإرداف الطلاق على الطلاق. فأما مسألة تبعيض المطلقة، فإن مالكا قال: إذا قال يدك أو رجلك أو شعرك طالق طلقت عليه؛ وقال أبو حنيفة: لا تطلق إلا بذكر عضو يعبر به عن جملة البدن كالرأس والقلب والفرج، وكذلك تطلق عنده إذا طلق الجزء منها، مثل الثلث أو الربع؛ وقال داود: لا تطلق؛ وكذلك إذا قال عند مالك: طلقتك نصف تطليقة طلقت، لأن هذا كله عنده لا يتبعض؛ وعند المخالف إذا تبعض لم يقع، وأما إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق أنت طالق أنت طالق نسقا، فإنه يكون ثلاثا عند مالك؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: يقع واحدة؛ فمن شبه تكرار اللفظ بلفظه بالعدد، أعني بقوله طلقتك ثلاثا قال: يقع الطلاق ثلاثا؛ ومن رأى أنه باللفظة الواحدة قد بانت منه قال: لا يقع عليها الثاني والثالث، ولا خلاف بين المسلمين في ارتدافه في الطلاق الرجعي. وأما الطلاق المقيد بالاستثناء فإنما يتصور في العدد فقط، فإذا طلق أعدادا من الطلاق، فلا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يستثني ذلك العدد بعينه، مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، أو اثنتين إلا اثنتين؛ وإما أن يستثني ما هو أقل. وإذا استثنى ما هو أقل، فإما أن يستثني ما هو أقل مما هو أكثر، وإما أن يستثني ما هو أكثر مما هو أقل، فإذا استثنى الأقل من الأكثر فلا خلاف أعلمه أن الاستثناء يصح ويسقط المستثنى: مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة. وأما إن استثنى الأكثر من الأقل فيتوجه فيه قولان: أحدهما أن الاستثناء لا يصح، وهو مبني على منع أن يستثنى الأكثر من الأقل. والآخر أن الاستثناء يصح، وهو قول مالك. وأما إذا استثنى ذلك العدد بعينه مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، فإن مالكا قال: يقع الطلاق لأنه اتهمه على أنه رجوع منه. وأما إذا لم يقل بالتهمة وكان قصده بذلك استحالة وقوع الطلاق فلا طلاق عليه، كما لو قال أنت طالق لا طالق معا، فإن وقوع الشيء مع ضده مستحيل. وشذ أبو محمد بن حزم فقال: لا يقع الطلاق بصفة لم تقع بعد ولا بفعل لم يقع، لأن الطلاق لا يقع في وقت وقوعه إلا بإيقاع من يطلق في ذلك الوقت ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على وقوع طلاق في وقت لم يوقعه فيه المطلق، وإنما ألزم نفسه إيقاعه فيه، فإن قلنا باللزوم لزم أن يوقف عند ذلك الوقت حتى يوقع، هذا قياس قوله عندي وحجته، وإن كنت لست أذكر في هذا الوقت احتجاجه في ذلك.
- 4*الباب الثاني في المطلق الجائز الطلاق.
@-واتفقوا على أنه الزوج العاقل البالغ الحر غير المكره، واختلفوا في طلاق المكره والسكران وطلاق المريض وطلاق المقارب للبلوغ. واتفقوا على أنه يقع طلاق المريض إن صح، واختلفوا هل ترثه إن مات أم لا؟ فأما طلاق المكره فإنه غير واقع عند مالك والشافعي وأحمد وداود وجماعة، وبه قال عبد الله بن عمر وابن الزبير وعمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب وابن عباس. وفرق أصحاب الشافعي بين أن ينوي الطلاق أو لا ينوي شيئا، فإن نوى الطلاق فعنهم قولان أصحهما لزومه: وإن لم ينو فقولان أصحهما أنه لا يلزم؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: هو واقع، وكذلك عتقه دون بيعه، ففرقوا بين البيع والطلاق والعتق. وسبب الخلاف هل المطلق من قبل الإكراه مختار أم ليس بمختار؟ لأنه ليس يكره على اللفظ إذ كان اللفظ إنما يقع باختياره. والمكره على الحقيقة هو الذي لم يكن له اختيار في إيقاع الشيء أصلا، وكل واحد من الفريقين يحتج بقوله عليه الصلاة والسلام " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ولكن الأظهر أن المكره على الطلاق وإن كان موقعا للفظ باختياره أنه ينطلق عليه في الشرع اسم المكره لقوله تعالى {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} وإنما فرق أبو حنيفة بين البيع والطلاق، لأن الطلاق مغلظ فيه، ولذلك استوى جده وهزله. وأما طلاق الصبي، فإن المشهور عن مالك أنه لا يلزمه حتى يبلغ؛ وقال في مختصر ما ليس في المختصر: أنه يلزمه إذا ناهز الاحتلام، وبه قال أحمد بن حنبل إذا هو أطاق صيام رمضان؛ وقال عطاء: إذا بلغ اثنتي عشرة سنة جاز طلاقه، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وأما طلاق السكران، فالجمهور من الفقهاء على وقوعه؛ وقال قوم: لا يقع منهم المزني وبعض أصحاب أبي حنيفة. والسبب في اختلافهم هل حكمه حكم المجنون أم بينهما فرق؟ فمن قال هو والمجنون سواء إذ كان كلاهما فاقدا للعقل، ومن شرط التكليف العقل قال: لا يقع؛ ومن قال الفرق بينهما أن السكران أدخل الفساد على عقله بإرادته والمجنون بخلاف ذلك ألزم السكران الطلاق، وذلك من باب التغليظ عليه. واختلف الفقهاء فيما يلزم السكران بالجملة من الأحكام وما لا يلزمه، فقال مالك: يلزمه الطلاق والعتق والقود من الجراح والقتل، ولم يلزمه النكاح ولا البيع، وألزمه أبو حنيفة كل شيء؛ وقال الليث: كل ما جاء من منطق السكران فموضوع عنه، ولا يلزمه طلاق ولا عتق ولا نكاح ولا بيع ولا حد في قذف، وكل ما جنته جوارحه فلازم له، فيحد في الشرب والقتل والزنى والسرقة. وثبت عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان لا يرى طلاق السكران. وزعم بعض أهل العلم أنه لا مخالف لعثمان في ذلك من الصحابة. وقول من قال: إن كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه ليس نصا في إلزام السكران الطلاق لأن السكران معتوه ما، وبه قال داود وأبو ثور وإسحاق وجماعة من التابعين: أعني أن طلاقه ليس يلزم؛ وعن الشافعي القولان في ذلك، واختار أكثر أصحابه قوله الموافق للجمهور، واختار المزني من أصحابه أن طلاقه غير واقع. وأما المريض الذي يطلق طلاقا بائنا ويموت من مرضه، فإن مالكا وجماعة يقول: ترثه زوجته، والشافعي وجماعة لا يورثها. والذين قالوا بتوريثها انقسموا ثلاث فرق: ففرقة قالت لها الميراث ما دامت في العدة، وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه والثوري؛ وقال قوم: لها الميراث ما لم تتزوج، وممن قال بهذا أحمد وابن أبي ليلى؛ وقال قوم: بل ترث كانت في العدة أو لم تكن، تزوجت أم لم تتزوج، وهو مذهب مالك والليث. وسبب الخلاف اختلافهم في وجوب العمل بسد الذرائع؛ وذلك أنه لما كان المريض يتهم في أن يكون إنما طلق في مرضه زوجته ليقطع حظها من الميراث؛ فمن قال بسد الذرائع أوجب ميراثها؛ ومن لم يقل بسد الذرائع ولحظ وجوب الطلاق لم يوجب لها ميراثا، وذلك أن هذه الطائفة تقول: إن كان الطلاق قد وقع فيجب أن يقع بجميع أحكامه، لأنهم قالوا: إنه لا يرثها إن ماتت وإن كان لم يقع فالزوجية باقية بجميع أحكامها، ولابد لخصومهم من أحد الجوابين، لأنه يعسر أن يقال إن في الشرع نوعا من الطلاق توجد له بعض أحكام الطلاق وبعض أحكام الزوجية؛ وأعسر من ذلك القول بالفرق بين أن يصح أو لا يصح، لأن هذا يكون طلاقا موقوف الحكم إلى أن يصح أو لا يصح، وهذا كله مما يعسر القول به في الشرع، ولكن إنما أنس القائلون به أنه فتوى عثمان وعمر حتى زعمت المالكية أنه إجماع الصحابة، ولا معنى لقولهم فإن الخلاف فيه عن ابن الزبير مشهور. وأما من رأى أنها ترث في العدة، فلأن العدة عنده من بعض أحكام الزوجية، وكأنه شبهها بالمطلقة الرجعية، وروي هذا القول عن عمر وعائشة. وأما من اشترط في توريثها ما لم تتزوج فإنه لحظ في ذلك إجماع المسلمين على أن المرأة الواحدة لا ترث زوجين، ولكون التهمة هي العلة عند الذين أوجبوا الميراث. واختلفوا إذا طلبت هي الطلاق أو ملكها أمرها الزوج فطلقت نفسها، فقال أبو حنيفة: لا ترث أصلا؛ وفرق الأوزاعي بين التمليك والطلاق فقال: ليس لها ميراث في التمليك ولها في الطلاق وسوى مالك في ذلك كله حتى لقد قال: إن ماتت لا يرثها وترثه هي إن مات، وهذا مخالف للأصول جدا.
- 4*الباب الثالث فيمن يتعلق به الطلاق من النساء ومن لا يتعلق.
@-وأما من يقع طلاقه من النساء، فإنهم اتفقوا على أن الطلاق يقع على النساء اللاتي في عصمة أزواجهن، أو قبل أن تنقضي عددهن في الطلاق الرجعي، وأنه لا يقع على الأجنبيات: أعني الطلاق المعلق. وأما تعليق الطلاق على الأجنبيات بشرط التزويج مثل أن يقول: إن نكحت فلانة فهي طالق، فإن للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب: قول إن الطلاق لا يتعلق بأجنبية أصلا عم المطلق أو خص، وهو قول الشافعي وأحمد وداود وجماعة؛ وقول إنه يتعلق بشرط التزويج عمم المطلق جميع النساء أو خصص، وهو قول أبي حنيفة وجماعة وقول إنه إن عم جميع النساء لم يلزمه، وإن خصص لزمه، وهو قول مالك وأصحابه، أعني مثل أن يقول: كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو من بلد كذا فهي طالق، وكذلك في وقت كذا، فإن هؤلاء يطلقن عند مالك إذا زوجن. وسبب الخلاف هل من شرط وقوع الطلاق وجود الملك متقدما بالزمان على الطلاق أم ليس ذلك من شرطه؟ فمن قال هو من شرطه قال: لا يتعلق الطلاق بالأجنبية؛ ومن قال ليس من شرطه إلا وجود الملك فقط قال: يقع بالأجنبية. وأما الفرق بين التعميم والتخصيص فاستحسان مبني على المصلحة، وذلك أنه إذا عمم فأوجبنا عليه التعميم لم يجد سبيلا إلى النكاح الحلال، فكان ذلك عنتا به وحرجا، وكأنه من باب نذر المعصية؛ وأما إذا خصص فليس الأمر كذلك إذا ألزمناه الطلاق؛ واحتج الشافعي بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله ﷺ "لا طلاق إلا من بعد نكاح" وفي رواية أخرى "لا طلاق فيما لا يملك ولا عتق فيما لا يملك" وثبت ذلك عن علي ومعاذ وجابر ابن عبد الله وابن عباس وعائشة؛ وروي مثل قول أبي حنيفة عن عمر وابن مسعود، وضعف قوم الرواية بذلك عن عمر رضي الله عنهم.
- 3*(الجملة الثالثة: في الرجعة بعد الطلاق)
@-ولما كان الطلاق على ضربين: بائن، ورجعي، وكانت أحكام الرجعة بعد الطلاق البائن غير أحكام الرجعة بعد الطلاق الرجعي وجب أن يكون في هذا الجنس بابان: الباب الأول: في أحكام الرجعة في الطلاق الرجعي. الباب الثاني: في أحكام الارتجاع في الطلاق البائن.
- 4*الباب الأول في أحكام الرجعة في الطلاق الرجعي.
@-وأجمع المسلمون على أن الزوج يملك رجعة الزوجة في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة من غير اعتبار رضاها لقوله تعالى {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} وأن من شرط هذا الطلاق تقدم المسيس له، واتفقوا على أنها تكون بالقول والإشهاد. واختلفوا هل الإشهاد شرط في صحتها أم ليس بشرط؟ وكذلك اختلفوا هل تصح الرجعة بالوطء؟ فأما الإشهاد فذهب مالك إلى أنه مستحب، وذهب الشافعي إلى أنه واجب. وسبب الخلاف معارضة القياس للظاهر، وذلك أن ظاهر قوله تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} يقتضي الوجوب، وتشبيه هذا الحق بسائر الحقوق التي يقبضها الإنسان يقتضي أن لا يجب الإشهاد، فكان الجمع بين القياس والآية حمل الآية على الندب. وأما اختلافهم فيما تكون به الرجعة، فإن قوما قالوا: لا تكون الرجعة إلا بالقول فقط، وبه قال الشافعي؛ وقوم قالوا: تكون رجعتها بالوطء، وهؤلاء انقسموا إلى قسمين: فقال قوم: لا تصح الرجعة بالوطء إلا إذا نوى بذلك الرجعة، لأن الفعل عنده يتنزل منزلة القول مع النية، وهو قول مالك؛ وأما أبو حنيفة فأجاز الرجعة بالوطء إذا نوى بذلك الرجعة ودون النية؛ فأما الشافعي فقاس الرجعة على النكاح وقال: قد أمر الله بالإشهاد، ولا يكون الإشهاد إلا على القول. وأما سبب الاختلاف بين مالك وأبي حنيفة فإن أبا حنيفة يرى أن الرجعية محللة للوطء عنده قياسا على المولى منها وعلى المظاهرة ولأن الملك لم ينفصل عنده، ولذلك كان التوارث بينهما؛ وعند مالك أن وطء الرجعية حرام حتى يرتجعها، فلابد عنده من النية، فهذا هو اختلافهم في شروط صحة الرجعة. واختلفوا في مقدار ما يجوز للزوج أن يطلع عليه من المطلقة الرجعية ما دامت في العدة، فقال مالك: لا يخلو معها ولا يدخل عليها إلا بإذنها ولا ينظر إلى شعرها، ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معهما غيرهما. وحكى ابن القاسم أنه رجع عن إباحة الأكل معها؛ وقال أبو حنيفة: لا بأس أن تتزين الرجعية لزوجها وتتطيب له وتتشوف وتبدي البنان والكحل، وبه قال الثوري وأبو يوسف والأوزاعي، وكلهم قالوا: لا يدخل عليها إلا أن تعلم بدخوله بقول أو حركة من تنحنح أو خفق نعل. واختلفوا في هذا الباب في الرجل يطلق زوجته طلقة رجعية وهو غائب ثم يراجعها فيبلغها الطلاق ولا تبلغها الرجعة فتتزوج إذا انقضت عدتها، فذهب مالك إلى أنها للذي عقد عليها النكاح دخل بها أو لم يدخل، هذا قوله في الموطأ، وبه قال الأوزاعي والليث. وروى عنه ابن القاسم أنه رجع عن القول الأول، وأنه قال: الأول أولى بها إلا أن يدخل الثاني، وبالقول الأول قال المدنيون من أصحابه قالوا: ولم يرجع عنه لأنه أثبته في موطئه إلى يوم مات وهو يقرأ عليه، وهو قول عمر بن الخطاب ورواه عنه مالك في الموطأ؛ وأما الشافعي والكوفيون وأبو حنيفة وغيرهم فقالوا: زوجها الأول الذي ارتجعها أحق بها دخل بها الثاني أو لم يدخل، وبه قال داود وأبو ثور، وهو مروي عن علي وهو الأبين، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في هذه المسألة: إن الزوج الذي ارتجعها مخير بين أن تكون امرأته أو أن يرجع عليها بما كان أصدقها، وحجة مالك في الرواية الأولى ما رواه ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال: مضت السنة في الذي يطلق امرأته ثم يراجعها فيكتمها رجعتها حتى تحل فتنكح زوجا غيره أنه ليس له من أمرها شيء ولكنها لمن تزوجها، وقد قيل إن هذا الحديث إنما يروى عن ابن شهاب فقط؛ وحجة الفريق الأول أن العلماء قد أجمعوا على أن الرجعة صحيحة وإن لم تعلم بها المرأة، بدليل أنهم قد أجمعوا على أن الأول أحق بها قبل أن تتزوج، وإذا كانت الرجعة صحيحة كان زواج الثاني فاسدا، فإن نكاح الغير لا تأثير له في إبطال الرجعة لا قبل الدخول ولا بعد الدخول، وهو الأظهر إن شاء الله، ويشهد لهذا ما خرجه الترمذي عن سمرة بن جندب أن النبي ﷺ قال "أيما امرأة تزوجها اثنان فهي للأول منهما، ومن باع بيعا من رجلين فهو للأول منهما".
- 4*الباب الثاني في أحكام الارتجاع في الطلاق البائن.
@-والطلاق البائن، إما بما دون الثلاث فذلك يقع في غير المدخول بها بلا خلاف، وفي المختلعة باختلاف، وهل يقع أيضا دون عوض؟ فيه خلاف، وحكم الرجعة بعد هذا الطلاق حكم ابتداء النكاح: أعني في اشتراط الصداق والولي والرضا، إلا أنه لا يعتبر فيه انقضاء العدة عند الجمهور؛ وشذ قوم فقالوا: المختلعة لا يتزوجها زوجها في العدة ولا غيره، وهؤلاء كأنهم رأوا منع النكاح في العدة عبادة. وأما البائنة بالثلاث، فإن العلماء كلهم على أن المطلقة ثلاثا لا تحل لزوجها الأول إلا بعد الوطء لحديث رفاعة بن سموءل "أنه طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله ﷺ ثلاثا فنكحت عبد الرحمن بن الزبير، فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ففارقها، فأراد رفاعة زوجها الأول أن ينكحها، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فنهاه عن تزويجها وقال: لا تحل لك حتى تذوق العسيلة". وشذ سعيد بن المسيب فقال: إنه جائز أن ترجع إلى زوجها الأول بنفس العقد لعموم قوله تعالى {حتى تنكح زوجا غيره} والنكاح ينطلق على العقد، وكلهم قال: التقاء الختانين يحلها، إلا الحسن البصري فقال: لا تحل إلا بوطء بإنزال. وجمهور العلماء على أن الوطء الذي يوجب الحد ويفسد الصوم والحج ويحل المطلقة ويحصن الزوجين ويوجب الصداق هو التقاء الختانين. وقال مالك وابن القاسم: لا يحل المطلقة إلا الوطء المباح الذي يكون في العقد الصحيح في غير صوم أو حج أو حيض أو اعتكاف، ولا يحل الذمية عندهما وطء زوج ذمي لمسلم، ولا وطء من لم يكن بالغا، وخالفهما في ذلك كله الشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي فقالوا: يحل الوطء وإن وقع في عقد فاسد أو وقت غير مباح. وكذلك وطء المراهق عندهم يحل، ويحل وطء الذمي الذمية للمسلم، وكذلك المجنون عندهم، والخصي الذي يبقى له ما يغيبه في فرج، والخلاف في هذا كله آيل إلى هل يتناول اسم النكاح أصناف الوطء الناقص أم لا يتناوله؟ واختلفوا من هذا الباب في نكاح المحلل: أعني إذا تزوجها على شرط أن يحللها لزوجها الأول؛ فقال مالك: النكاح فاسد يفسخ قبل الدخول وبعده، والشرط فاسد لا تحل به، ولا يعتبر في ذلك عنده إرادة المرأة التحليل، وإنما يعتبر عنده إرادة الرجل؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة النكاح جائز، ولا تؤثر النية في ذلك، وبه قال داود وجماعة وقالوا: هو محلل للزوج المطلق ثلاثا؛ وقال بعضهم: النكاح جائز والشرط باطل: أي ليس يحللها، هو قول ابن أبي ليلى، وروي عن الثوري؛ واستدل مالك وأصحابه بما روي عن النبي ﷺ من حديث علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي هريرة وعقبة بن عامر أنه قال ﷺ "لعن الله المحلل والمحلل له" فلعنه إياه كلعنه آكل الربا وشارب الخمر، وذلك يدل على النهي، والنهي يدل على فساد المنهى عنه، واسم النكاح الشرعي لا ينطلق على النكاح المنهي عنه. وأما الفريق الآخر فتعلق بعموم قوله تعالى {حتى تنكح زوجا غيره} وهذا ناكح، وقالوا: وليس في تحريم قصد التحليل ما يدل على أن عدمه شرط في صحة النكاح، كما أنه ليس النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة، مما يدل على أن من شرط صحة الصلاة صحة ملك البقعة أو الإذن من مالكها في ذلك، قالوا: وإذا لم يدل النهي على فساد عقد النكاح فأحرى أن لا يدل على بطلان التحليل، وإنما لم يعتبر مالك قصد المرأة لأنه إذا لم يوافقها على قصدها لم يكن لقصدها معنى مع أن الطلاق ليس بيدها. واختلفوا في هل يهدم الزوج ما دون الثلاث؟ فقال أبو حنيفة يهدم، وقال مالك والشافعي لا يهدم: أعني إذا تزوجت قبل الطلقة الثالثة غير الزوج الأول ثم راجعها هل يعتد بالطلاق الأول أم لا؟ فمن رأى أن هذا شيء يخص الثالثة بالشرع قال: لا يهدم ما دون الثالثة عنده؛ ومن رأى أنه إذا هدم الثالثة فهو أحرى أن يهدم ما دونها قال: يهدم ما دون الثلاث، والله أعلم.
- 3*(الجملة الرابعة) وهذه الجملة فيها بابان، الأول: في العدة. والثاني: في المتعة.
- 4*الباب الأول في العدة.
@-والنظر في هذا الباب في فصلين: الفصل الأول: في عدة الزوجات: الفصل الثاني: في عدة ملك اليمين.
- 5*الفصل الأول في عدة الزوجات. والنظر في عدة الزوجات ينقسم إلى نوعين: أحدهما في معرفة العدة. والثاني في معرفة أحكام العدة.
@-(النوع الأول) وكل زوجة فهي إما حرة وإما أمة، وكل واحدة من هاتين إذا طلقت فلا يخلو أن تكون مدخولا بها أو غير مدخول بها، فأما غير المدخول بها فلا عدة عليها بإجماع لقوله تعالى {فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} وأما المدخول بها فلا يخلو أن تكون من ذوات الحيض أو من غير ذوات الحيض. وغير ذوات الحيض إما صغار وإما يائسات، وذوات الحيض إما حوامل وإما جاريات على عاداتهن في الحيض، وإما مرتفعات الحيض، وإما مستحاضات. والمرتفعات الحيض في سن الحيض إما مرتابات بالحمل: أي بحس في البطن، وإما غير مرتابات. وغير مرتابات إما معروفات سبب انقطاع الحيض من رضاع أو مرض، وإما غير معروفات. فأما ذوات الحيض الأحرار الجاريات في حيضهن على المعتاد فعدتهن ثلاثة قروء، والحوامل منهن عدتهن وضع حملهن، واليائسات منهن عدتهن ثلاثة أشهر، ولا خلاف في هذا لأنه منصوص عليه في قوله تعالى {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} الآية، وفي قوله تعالى {واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم} الآية. واختلفوا من هذه الآية في الأقراء ما هي؟ فقال قوم: هي الأطهار: أعني الأزمنة التي بين الدمين: وقال قوم: هي الدم نفسه، وممن قال إن الأقراء هي الأطهار. أما من فقهاء الأمصار فمالك والشافعي وجمهور أهل المدينة وأبو ثور وجماعة، وأما من الصحابة فابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة؛ وممن قال إن الأقراء هي الحيض أما من فقهاء الأمصار فأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وجماعة، وأما من الصحابة فعلي وعمر بن الخطاب وابن مسعود وأبو موسى الأشعري. وحكى الأثرم عن أحمد أنه قال: الأكابر من أصحاب رسول الله ﷺ يقولون: الأقراء هي الحيض. وحكى أيضا عن الشعبي أنه قول أحد عشر أو اثني عشر من أصحاب رسول الله ﷺ. وأما أحمد بن حنبل فاختلفت الرواية عنه، فروي عنه أنه كان يقول: إنها الأطهار على قول زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة، ثم توقفت الآن من أجل قول ابن مسعود وعلي هو أنها الحيض، والفرق بين المذهبين هو أن من رأى أنها الأطهار رأى أنها إذا دخلت الرجعية عنده في الحيضة الثالثة لم يكن للزوج عليها رجعة وحلت للأزواج، ومن رأى أنها الحيض لم تحل عنده حتى تنقضي الحيضة الثالثة. وسبب الخلاف اشتراك اسم القرء، فإنه يقال في كلام العرب على حد سواء على الدم وعلى الأطهار، وقد رام كلا الفريقين أن يدل على أن اسم القرء في الآية ظاهر في المعنى الذي يراه، فالذين قالوا إنها الأطهار قالوا: إن هذا الجمع خاص بالقرء الذي هو الطهر، وذلك أن القرء الذي هو الحيض يجمع على أقراء لا على قروء، وحكوا ذلك عن ابن الأنباري، وأيضا فإنهم قالوا: إن الحيضة مؤنثة والطهر مذكر، فلو كان القرء الذي يراد به الحيض لما ثبت في جمعه الهاء، لأن الهاء لا تثبت في جمع المؤنث فيما دون العشرة، وقالوا أيضا: إن الاشتقاق يدل على ذلك، لأن القرء مشتق من قرأت الماء في الحوض: أي جمعته، فزمان اجتماع الدم هو زمان الطهر، فهذا هو أقوى ما تمسك به الفريق الأول من ظاهر الآية. وأما ما تمسك به الفريق الثاني من ظاهر الآية فإنهم قالوا: إن قوله تعالى {ثلاثة قروء} ظاهر في تمام كل قرء منها، لأنه ليس ينطلق اسم القرء على بعضه إلا تجوزا، وإذا وصفت الأقراء بأنها هي الأطهار أمكن أن تكون العدة عندهم بقرءين وبعض قرء، لأنها عندهم تعتد بالطهر الذي تطلق فيه وإن مضى أكثره وإذا كان ذلك كذلك فلا ينطلق عليها اسم الثلاثة إلا تجوزا، واسم الثلاثة ظاهر في كمال كل قرء منها، وذلك لا يتفق إلا بأن تكون الأقراء هي الحيض لأن الإجماع منعقد على أنها إن طلقت في حيضة أنها لا تعتد بها، ولكل واحد من الفريقين احتجاجات متساوية من جهة لفظ القرء، والذي رضيه الحذاق أن الآية مجملة في ذلك، وأن الدليل ينبغي أن يطلب من جهة أخرى؛ فمن أقوى ما تمسك به من رأى أن الأقراء هي الأطهار حديث ابن عمر المتقدم، وقوله ﷺ "مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم يطلقها إن شاء قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" قالوا: وإجماعهم على أن طلاق السنة لا يكون إلا في طهر لم تمس فيه، وقوله عليه الصلاة والسلام "فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" دليل واضح على أن العدة هي الأطهار لكي يكون الطلاق متصلا بالعدة. ويمكن أن يتأول قوله {فتلك العدة} أي فتلك مدة استقبال العدة لئلا يتبعض القرء بالطلاق في الحيض. وأقوى ما تمسك به الفريق الثاني أن العدة إنما شرعت لبراءة الرحم، وبراءتها إنما تكون بالحيض لا بالأطهار، ولذلك كان عدة من ارتفع الحيض عنها بالأيام، والحيض هو سبب العدة بالأقراء، فوجب أن تكون الأقراء هي الحيض واحتج من قال الأقراء هي الأطهار بأن المعتبر في براءة الرحم هو النقلة من الطهر إلى الحيض لا انقضاء الحيض، فلا معنى لاعتبار الحيضة الأخيرة، وإذا كان ذلك فالثلاث المعتبر فيهن التمام: أعني المشترط هي الأطهار التي بين الحيضتين، ولكلا الفريقين احتجاجات طويلة. ومذهب الحنفية أظهر من جهة المعنى، وحجتهم من جهة المسموع متساوية أو قريب من متساوية، ولم يختلف القائلون أن العدة هي الأطهار أنها تنقضي بدخولها في الحيضة الثالثة. واختلف الذين قالوا إنها الحيض، فقيل تنقضي بانقطاع الدم من الحيضة الثالثة، وبه قال الأوزاعي؛ وقيل حين تغتسل من الحيضة الثالثة، وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود، ومن الفقهاء الثوري وإسحاق ابن عبيد؛ وقيل حتى يمضي وقت الصلاة التي طهرت في وقتها؛ وقيل إن للزوج عليها الرجعة وإن فرطت في الغسل عشرين سنة، حكى هذا عن شريك وقد قيل تنقضي بدخولها في الحيضة الثالثة، وهو أيضا شاذ، فهذه هي حال الحائض التي تحيض. وأما التي تطلق فلا تحيض وهي في سن الحيض وليس هناك ريبة حمل ولا سبب من رضاع ولا مرض، فإنها تنتظر عند مالك تسعة أشهر فإن لم تحض فيهن اعتدت بثلاثة أشهر، فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة أشهر اعتبرت الحيض واستقبلت انتظاره، فإن مر بها تسعة أشهر قبل أن تحيض الثانية اعتدت ثلاثة أشهر، فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة أشهر من العام الثاني انتظرت الحيضة الثالثة، فإن مر بها تسعة أشهر قبل أن تحيض اعتدت ثلاثة أشهر، فإن حاضت الثالثة في الثلاثة الأشهر كانت قد استكملت عدة الحيض وتمت عدتها، ولزوجها عليها الرجعة ما لم تحل. واختلف عن مالك متى تعتد بالتسعة أشهر؟ فقيل من يوم طلقت، وهو قوله في الموطأ؛ وروى ابن القاسم عنه: من يوم رفعها حيضتها؛ وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور في التي ترتفع حيضتها وهي لا تيأس منها في المستأنف إنها تبقى أبدا تنتظر حتى تدخل في السن الذي تيأس فيه من المحيض، وحينئذ تعتد بالأشهر وتحيض قبل ذلك؛ وقول مالك مروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس، وقول الجمهور قول ابن مسعود وزيد؛ وعمدة مالك من طريق المعنى هو أن المقصود بالعدة إنما هو ما يقع به براءة الرحم ظنا غالبا بدليل أنه قد تحيض الحامل، وإذا كان ذلك كذلك فعدة الحمل كافية في العلم ببراءة الرحم بل هي قاطعة على ذلك، ثم تعتد بثلاثة أشهر عدة اليائسة، فإن حاضت قبل تمام السنة حكم لها بحكم ذوات الحيض، واحتسبت بذلك القرء، ثم تنتظر القرء الثاني أو السنة إلى أن تمضي لها ثلاثة قروء؛ وأما الجمهور فصاروا إلى ظاهر قوله تعالى {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} والتي هي من أهل الحيض ليست بيائسة، وهذا الرأي فيه عسر وحرج؛ ولو قيل إنها تعتد بثلاثة أشهر لكان جيدا إذا فهم من اليائسة التي لا يقطع بانقطاع حيضتها، وكان قوله {إن ارتبتم} راجعا إلى الحكم لا إلى الحيض على ما تأوله مالك عليه، فكأن مالكا لم يطابق مذهبه تأويله الآية، فإنه فهم من اليائسة هنا من تقطع على أنها ليست من أهل الحيض، وهذا لا يكون إلا من قبل السن، ولذلك جعل قوله {إن ارتبتم} راجعا إلى الحكم لا إلى الحيض: أي إن شككتم في حكمهن، ثم قال في التي تبقى تسعة أشهر لا تحيض وهي في سن من تحيض إنها تعتد بالأشهر؛ وأما إسمعيل وابن بكير من أصحابه، فذهبوا إلى أن الريبة ههنا في الحيض، وأن اليائس في كلام العرب هو مالم يحكم عليه بما يئس منه بالقطع، فطابقوا تأويل الآية مذهبهم الذي هو مذهب مالك، ونعم ما فعلوا لأنه إن فهم ههنا من اليائس القطع فقد يجب أن تنتظر الدم وتعتد به حتى تكون في هذا السن: أعني سن اليائس وإن من فهم من اليائس ما لا يقطع بذلك فقد يجب أن تعتد التي انقطع دمها عن العادة وهي في سن من تحيض بالأشهر، وهو قياس قول أهل الظاهر، لأن اليائسة في الطرفين ليس هي عندهم من أهل العدة لا بالأقراء ولا بالشهور. وأما الفرق في ذلك بين ما قبل التسعة وما بعدها فاستحسان. وأما التي ارتفعت حيضتها لسبب معلوم مثل رضاع أو مرض، فإن المشهور عند مالك أنها تنتظر الحيض قصر الزمان أم طال؛ وقد قيل إن المريضة مثل التي ترتفع حيضتها لغير سبب. وأما المستحاضة فعدتها عند مالك سنة إذا لم تميز بين الدمين، فإن ميزت بين الدمين فعنه روايتان: إحداهما أن عدتها السنة. والأخرى أنها تعمل على التمييز فتعتد بالأقراء؛ وقال أبو حنيفة عدتها الأقراء إن تميزت لها وإن لم تتميز لها فثلاثة أشهر؛ وقال الشافعي: عدتها بالتمييز إذا انفصل عنها الدم، فيكون الأحمر القاني من الحيضة، ويكون الأصفر من أيام الطهر، فإن طبق عليها الدم اعتدت بعدد أيام حيضتها في صحتها وإنما ذهب مالك إلى بقاء السنة لأنه جعلها مثل التي لا تحيض وهي من أهل الحيض؛ والشافعي إنما ذهب في العارفة أيامها أنها تعمل على معرفتها قياسا على الصلاة لقوله ﷺ للمستحاضة "اتركي الصلاة أيام أقرائك فإذا ذهب عنك قدرها فاغسلي الدم" وإنما اعتبر التمييز من اعتبره لقوله ﷺ لفاطمة بنت حبيش "إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضي وصلي فإنما هو عرق" خرجه أبو داود، وإنما ذهب من ذهب إلى عدتها بالشهور إذا اختلط عليها الدم، لأنه معلوم في الأغلب أنها في كل شهر تحيض، وقد جعل الله العدة بالشهور عند ارتفاع الحيض وخفاؤه كارتفاعه. وأما المسترابة: أعني التي تجد حسا في بطنها تظن به أنه حمل فإنها تمكث أكثر مدة حمل، وقد اختلف فيه فقيل في المذهب أربع سنين، وقيل خمس سنين؛ وقال أهل الظاهر: تسعة أشهر، ولا خلاف أن انقضاء عدة الحوامل لوضع حملهن: أعني المطلقات لقوله تعالى {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} وأما الزوجات غير الحرائر فإنهن ينقسمن أيضا بتلك الأقسام بعينها، أعني حيضا ويائسات ومستحاضات ومرتفعات الحيض من غير يائسات. فأما الحيض اللاتي يأتيهن حيضهن، فالجمهور على أن عدتهن حيضتان؛ وذهب داود وأهل الظاهر إلى أن عدتهن ثلاث حيض كالحرة، وبه قال ابن سيرين. فأهل الظاهر اعتمدوا عموم قوله تعالى {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} وهي ممن ينطلق عليها اسم المطلقة. واعتمد الجمهور تخصيص هذا العموم بقياس الشبه، وذلك أنهم شبهوا الحيض بالطلاق والحد، أعني كونه متنصفا مع الرق، وإنما جعلوها حيضتين لأن الحيضة الواحدة لا تتبعض. وأما الأمة المطلقة اليائسة من المحيض أو الصغيرة فإن مالكا وأكثر أهل المدينة قالوا: عدتها ثلاثة أشهر؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأبو ثور وجماعة عدتها شهر ونصف شهر نصف عدة الحرة، وهو القياس إذا قلنا بتخصيص العموم، فكأن مالكا اضطرب قوله، فمرة أخذ بالعموم وذلك في اليائسات، ومرة أخذ بالقياس وذلك في ذوات الحيض، والقياس في ذلك واحد. وأما التي ترتفع حيضتها من غير سبب فالقول فيها هو القول في الحرة والخلاف في ذلك، وكذلك المستحاضة واتفقوا على أن المطلقة قبل الدخول لا عدة عليها. واختلفوا فيمن راجع امرأته في العدة من الطلاق الرجعي ثم فارقها قبل أن يمسها هل تستأنف عدة أم لا؟ فقال جمهور فقهاء الأمصار: تستأنف؛ وقالت فرقة: تبقى في عدتها من طلاقها الأول وهو أحد قولي الشافعي؛ وقال داود: ليس عليها أن تتم عدتها ولا عدة مستأنفة. وبالجملة فعند مالك أن كل رجعة تهدم العدة وإن لم يكن مسيس، ما خلا رجعة المولى: وقال الشافعي؛ إذا طلقها بعد الرجعة وقبل الوطء ثبتت على عدتها الأولى، وقول الشافعي أظهر؛ وكذلك عند مالك رجعة المعسر بالنفقة تقف صحتها عنده على الإنفاق فإن أنفق صحت الرجعة وهدمت العدة إن كان طلاقا، وإن لم ينفق بقيت على عدتها الأولى، وإذا تزوجت ثانيا في العدة فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما تداخل العدتين. والأخرى نفيه، فوجه الأولى اعتبار براءة الرحم، لأن ذلك حاصل مع التداخل. ووجه الثانية كون العدة عبادة، فوجب أن تتعدد بتعدد الوطء الذي له حرمة، وإذا عتقت الأمة في عدة الطلاق مضت على عدة الأمة عند مالك، ولم تنتقل إلى عدة الحرة؛ وقال أبو حنيفة: تنتقل في الطلاق الرجعي دون البائن؛ وقال الشافعي: تنتقل في الوجهين معا. وسبب الخلاف هل العدة من أحكام الزوجية أم من أحكام انفصالها؟ فمن قال من أحكام الزوجية قال: لا تنتقل عدتها؛ ومن قال من أحكام انفصال الزوجية قال: تنتقل كما لو أعتقت وهي زوجة ثم طلقت؛ وأما من فرق بين البائن والرجعي فبين، وذلك أن الرجعي فيه شبه من أحكام العصمة، ولذلك وقع فيه الميراث باتفاق إذا مات وهي في عدة من طلاق رجعي، وأنها تنتقل إلى عدة الموت، فهذا هو القسم الأول من قسمي النظر في العدة. (يتبع...) @(تابع... 1): -(النوع الأول) وكل زوجة فهي إما حرة وإما أمة، وكل واحدة من هاتين إذا... ... (القسم الثاني) وأما النظر في أحكام العدد، فإنهم اتفقوا على أن للمعتدة الرجعية النفقة والسكنى، وكذلك الحامل لقوله تعالى في الرجعيات {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} الآية، ولقوله تعالى {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} . واختلفوا في سكنى المبتوتة ونفقتها إذا لم تكن حاملا على ثلاثة أقوال: أحدها أن لها السكنى والنفقة، وهو قول الكوفيين. والقول الثاني أنه لا سكنى لها ولا نفقة، وهو قول أحمد وداود وأبي ثور وإسحاق وجماعة. والثالث أن لها السكنى ولا نفقة لها، وهو قول مالك والشافعي وجماعة. وسبب اختلافهم اختلاف الرواية في حديث فاطمة بنت قيس ومعارضة ظاهر الكتاب له، فاستدل من لم يوجب لها نفقة ولا سكنى بما روي في حديث فاطمة بنت قيس أنها قالت "طلقني زوجي ثلاثا في عهد رسول الله ﷺ، فأتيت النبي ﷺ فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة" خرجه مسلم، وفي بعض الروايات أن رسول الله ﷺ قال "إنما السكنى والنفقة لمن لزوجها عليها الرجعة" وهذا القول مروي عن علي وابن عباس وجابر ابن عبد الله. وأما الذين أوجبوا لها السكنى دون النفقة فإنهم احتجوا بما رواه مالك في موطئه من حديث فاطمة المذكورة، وفيه "فقال رسول الله ﷺ "ليس لك عليه نفقة" وأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ولم يذكر فيها إسقاط السكنى، فبقي على عمومه في قوله تعالى {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} وعللوا أمره عليه الصلاة والسلام بأن تعتد في بيت ابن أم مكتوم بأنه كان في لسانها بذاء. وأما الذين أوجبوا لها السكنى والنفقة فصاروا إلى وجوب السكنى لها بعموم قوله تعالى {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} وصاروا إلى وجوب النفقة لها لكون النفقة تابعة لوجوب الإسكان في الرجعية وفي الحامل وفي نفس الزوجية. وبالجملة فحيثما وجبت السكنى في الشرع وجبت النفقة. وروي عن عمر أنه قال في حديث فاطمة هذا: لا ندع كتاب نبينا وسنته لقول امرأة، يريد قوله تعالى {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} الآية. ولأن المعروف من سنته عليه الصلاة والسلام أنه أوجب النفقة حيث تجب السكنى، فلذلك الأولى في هذه المسألة إما أن يقال إن لها الأمرين جميعا مصيرا إلى ظاهر الكتاب والمعروف من السنة، وإما أن يخصص هذا العموم بحديث فاطمة المذكور. وأما التفريق بين إيجاب النفقة والسكنى فعسير، ووجه عسره ضعف دليله. وينبغي أن تعلم أن المسلمين اتفقوا على أن العدة تكون في ثلاثة أشياء: في طلاق، أو موت، أو اختيار الأمة نفسها إذا اعتقت. واختلفوا فيها في الفسوخ، والجمهور على وجوبها. ولما كان الكلام في العدة يتعلق فيه أحكام عدة الموت رأينا أن نذكرها ههنا فنقول: إن المسلمين اتفقوا على أن عدة الحرة من زوجها الحر أربعة أشهر وعشرا لقوله تعالى {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} . واختلفوا في عدة الحامل وفي عدة الأمة إذا لم تأتها حيضتها في الأربعة الأشهر وعشر فماذا حكمها؟ فذهب مالك إلى أن من شرط تمام هذه العدة أن تحيض حيضة واحدة في هذه المدة، فإن لم تحض فهي عنده مسترابة فتمكث مدة الحمل؛ وقيل عنه إنها قد لا تحيض وقد لا تكون مسترابة، وذلك إذا كانت عادتها في الحيض أكثر من مدة العدة، وهذا إما غير موجود، أعني من تكون عادتها أن تحيض أكثر من أربعة أشهر إلى أكثر من أربعة أشهر، وإما نادر. واختلف عنه فيمن هذه حالها من النساء إذا وجدت، فقيل تنتظر حتى تحيض؛ وروى عنه ابن القاسم تتزوج إذا انقضت عدة الوفاة ولم يظهر بها حمل، وعلى هذا جمهور فقهاء الأمصار أبي حنيفة والشافعي والثوري. @-(وأما المسألة الثانية) وهي الحامل التي يتوفى عنها زوجها، فقال الجمهور وجميع فقهاء الأمصار: عدتها أن تضع حملها مصيرا إلى عموم قوله تعالى {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} وإن كانت الآية في الطلاق وأخذا أيضا بحديث أم سلمة أن سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر وفيه "فجاءت رسول الله ﷺ فقال لها: قد حللت فانكحي من شئت" وروى مالك عن ابن عباس أن عدتها آخر الأجلين، يريد أنها تعتد بأبعد الأجلين، إما الحمل، وإما انقضاء العدة عدة الموت، وروى مثل ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والحجة لهم أن ذلك هو الذي يقتضيه الجمع بين عموم آية الحوامل وآية الوفاة. وأما الأمة المتوفي عنها من تحل له، فإنها لا تخلو أن تكون زوجة أو ملك يمين أو أم ولد أو غير أم ولد، فأما الزوجة فقال الجمهور: إن عدتها نصف عدة الحرة قاسوا ذلك على العدة؛ وقال أهل الظاهر: بل عدتها عدة الحرة، وكذلك عندهم عدة الطلاق مصيرا إلى التعميم. وأما أم الولد فقال مالك والشافعي وأحمد والليث وأبو ثور وجماعة: عدتها حيضة، وبه قال ابن عمر. وقال مالك: وإن كانت ممن لا تحيض اعتدت ثلاثة أشهر، ولها السكنى؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: عدتها ثلاث حيض، وهو قول علي وابن مسعود؛ وقال قوم: عدتها نصف عدة الحرة المتوفي عنها زوجها؛ وقال قوم: عدتها عدة الحرة أربعة أشهر وعشر؛ وحجة مالك أنها ليست زوجة فتعتد عدة الوفاة ولا مطلقة فتعتد ثلاث حيض، فلم يبق إلا استبراء رحمها، وذلك يكون بحيضة تشبيها بالأمة يموت عنها سيدها، وذلك ما لا خلاف فيه؛ وحجة أبي حنيفة أن العدة إنما وجبت عليها وهي حرة وليست بزوجة فتعتد عدة الوفاة؛ ولا بأمة فتعتد عدة الأمة، فوجب أن تستبرئ رحمها بعدة الأحرار. وأما الذين أوجبوا لها عدة الوفاة فاحتجوا بحديث روي عن عمرو بن العاص قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر، وضعف أحمد هذا الحديث ولم يأخذ به. وأما من أوجب عليها نصف عدة الحرة تشبيها بالزوجة الأمة. فسبب الخلاف أنها مسكوت عنها، وهي مترددة الشبه بين الأمة والحرة. وأما من شبهها بالزوجة الأمة فضعيف، وأضعف منه من شبهها بعدة الحرة المطلقة، وهو مذهب أبي حنيفة.
- 4*الباب الثاني في المتعة.
@-والجمهور على أن المتعة ليست واجبة في كل مطلقة؛ وقال قوم من أهل الظاهر: هي واجبة في كل مطلقة؛ وقال قوم: هي مندوب إليها وليست واجبة وبه قال مالك. والذين قالوا بوجوبها في بعض المطلقات اختلفوا في ذلك؛ فقال أبو حنيفة: هي واجبة على من طلق قبل الدخول، ولم يفرض لها صداقا مسمى؛ وقال الشافعي: هي واجبة لكل مطلقة إذا كان الفراق من قبله إلا التي سمى لها وطلقت قبل الدخول، وعلى هذا جمهور العلماء. واحتج أبو حنيفة بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها، فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا} فاشترط المتعة مع عدم المسيس، وقال تعالى {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} فعلم أنه لا متعة لها مع التسمية والطلاق قبل المسيس، لأنه إذا لم يجب لها الصداق فأحرى أن لا تجب لها المتعة، وهذا لعمري مخيل، لأنه حيث لم يجب لها صداق أقيمت المتعة مقامه، وحيث ردت من يدها نصف الصداق لم يجب لها شيء. وأما الشافعي فيحمل الأوامر الواردة بالمتعة في قوله تعالى {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} على العموم في كل مطلقة إلا التي سمي لها وطلقت قبل الدخول. وأما أهل الظاهر فحملوا الأمر على العموم، والجمهور على أن المختلعة لا متعة لها لكونها معطية من يدها كالحال في التي طلقت قبل الدخول وبعد فرض الصداق، وأهل الظاهر يقولون: هو شرع فتأخذ وتعطي. وأما مالك فإنه حمل الأمر بالمتعة على الندب لقوله تعالى في آخر الآية {حقا على المحسنين} أي على المتفضلين المتجملين، وما كان من باب الإجمال والإحسان فليس بواجب. واختلفوا في المطلقة المعتدة هل عليها إحداد؟ فقال مالك: ليس عليها إحداد.
- 4*باب في بعث الحكمين.
@-اتفق العلماء على جواز بعث الحكمين إذا وقع التشاجر بين الزوجين وجهلت أحوالهما في التشاجر: أعني المحق من المبطل لقوله تعالى {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} الآية، وأجمعوا على أن الحكمين لا يكونان إلا من أهل الزوجين: أحدهما من قبل الزوج، والآخر من قبل المرأة، إلا أن لا يوجد في أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما؛ وأجمعوا على أن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما؛ وأجمعوا على أن قولهما في الجمع بينهما نافذ بغير توكيل من الزوجين. واختلفوا في تفريق الحكمين بينهما إذا اتفقا على ذلك هل يحتاج إلى إذن من الزوج أو لا يحتاج إلى ذلك؟ فقال مالك وأصحابه: يجوز قولهما في الفرقة والاجتماع بغير توكيل الزوجين ولا إذن منهما في ذلك؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما: ليس لهما أن يفرقا، إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق. وحجة مالك ما رواه من ذلك عن علي بن أبي طالب أنه قال في الحكمين: إليهما التفرقة بين الزوجين. والجمع. وحجة الشافعي وأبي حنيفة أن الأصل أن الطلاق ليس بيد أحد سوى الزوج أو من يوكله الزوج. واختلف أصحاب مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا، فقال ابن القاسم: تكون واحدة، وقال أشهب والمغيرة تكون ثلاثا إن طلقاها ثلاثا. والأصل أن الطلاق بيد الرجل إلا أن يقوم دليل على غير ذلك. وقد احتج الشافعي وأبو حنيفة بما روي في حديث علي هذا أنه قال للحكمين: هل تدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة رضيت بكتاب الله وبما فيه لي وعلي، فقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال علي: لا والله لا تنقلب حتى تقر بمثل ما أقرت به المرأة، قال: فاعتبر في ذلك إذنه. ومالك يشبه الحكمين بالسلطان، والسلطان يطلق بالضرر عند مالك إذا تبين.