(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
- 2*كتاب الرهون.
@-والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى {ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} والنظر في هذا الكتاب في الأركان وفي الشروط وفي الأحكام، والأركان هي النظر في الراهن والمرهون والمرتهن والشيء الذي فيه الرهن وصفة عقد الرهن. @-(الركن الأول) فأما الراهن فلا خلاف أن من صفته أن يكون غير محجور عليه من أهل السداد، الوصي يرهن لمن يلي النظر عليه إذا كان ذلك سدادا ودعت إليه الضرورة عند مالك؛ وقال الشافعي: يرهن لمصلحة ظاهرة ويرهن المكاتب والمأذون عند مالك. قال سحنون: فإن ارتهن في مال أسلفه لم يجز، وبه قال الشافعي. اتفق مالك والشافعي على أن المفلس لا يجوز رهنه؛ وقال أبو حنيفة يجوز؛ واختلف قول مالك في الذي أحاط الدين بماله هل يجوز رهنه؟ أعني هل يلزم أم لا يلزم؟ فالمشهور عنه أنه يجوز: أعني قبل أن يفلس، والخلاف آيل إلى هل المفلس محجور عليه أم لا؟ وكل من صح أن يكون راهنا صح أن يكون مرتهنا. @-(الركن الثاني) وهو الرهن، وقالت الشافعية: يصح بثلاثة شروط: الأول أن يكون عينا، فإنه لا يجوز أن يرهن الدين. الثاني أن لا يمتنع إثبات يد الراهن المرتهن عليه كالمصحف؛ ومالك يجيز رهن المصحف ولا يقرأ فيه المرتهن، والخلاف مبني على البيع. الثالث أن تكون العين قابلة للبيع عند حلول الأجل؛ ويجوز عند مالك أن يرتهن ما لا يحل بيعه في وقت الارتهان كالزرع والثمر لم يبد صلاحه ولا يباع عنده في أداء الدين إلا إذا بدا صلاحه وإن حل أجل الدين؛ وعند الشافعي قولان في رهن الثمر الذي لم يبد صلاحه، ويباع عنده عند حلول الدين على شرط القطع؛ قال أبو حامد: والأصح جوازه؛ ويجوز عند مالك رهن ما لم يتعين كالدنانير والدراهم إذا طبع عليها، وليس من شرط الرهن أن يكون ملكا للراهن لا عند مالك ولا عند الشافعي، بل قد يجوز عندهما أن يكون مستعارا. واتفقوا على أن من شرطه أن يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن. واختلفوا إذا كان قبض المرتهن له بغصب ثم أقره المغصوب منه في يده رهنا، فقال مالك: يصح أن ينقل الشيء المغصوب من ضمان الغصب إلى ضمان الرهن، فيجعل المغصوب منه الشيء المغصوب رهنا في يد الغاصب قبل قبضه منه؛ وقال الشافعي: لا يجوز بل يبقى على ضمان الغصب إلا أن يقبضه. واختلفوا في رهن المشاع، فمنعه أبو حنيفة وأجازه مالك والشافعي. والسبب في الخلاف هل تمكن حيازة المشاع أم لا تمكن. @-(الركن الثالث) وهو الشيء المرهون فيه، وأصل مذهب مالك في هذا أنه يجوز أن يؤخذ الرهن في جميع الأثمان الواقعة في جميع البيوعات إلا الصرف ورأس المال في السلم المتعلق بالذمة، وذلك لأن الصرف من شركه التقابض، فلا يجوز فيه عقدة الرهن، وكذلك رأس مال السلم وإن كان عنده دون الصرف في هذا المعنى. وقال قوم من أهل الظاهر: لا يجوز أخذ الرهن إلا في السلم خاصة: أعني في السلم فيه، وهؤلاء ذهبوا إلى ذلك لكون آية الرهن واردة في الدين في المبيعات وهو السلم عندهم، فكأنهم جعلوا هذا شرطا من شروط صحة الرهن، لأنه قال في أول الآية {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} ثم قال {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} فعلى مذهب مالك يجوز أخذ الرهن في السلم وفي القرض وفي الغصب وفي قيم المتلفات وفي أروش الجنايات في الأموال، وفي جراح العمد الذي لا قود فيه كالمأمومة والجائفة. وأما قتل العمد والجراح التي يقاد منها فيتخرج في جواز أخذ الرهن في الدية فيها إذا عفا الولي قولان: أحدهما أن ذلك يجوز، وذلك على القول بأن الولي مخير في العمد بين الدية والقود. والقول الثاني أن ذلك لا يجوز، وذلك أيضا مبني على أن ليس للولي إلا القود فقط إذا أبى الجاني من إعطاء الدية، ويجوز في قتل الخطأ أخذ الرهن ممن يتعين من العاقلة وذلك بعد الحول، ويجوز في العارية التي تضمن، ولا يجوز فيما لا يضمن، ويجوز أخذه في الإجارات، ويجوز في الجعل بعد العمل، ولا يجوز قبله، ويجوز الرهن في المهر، ولا يجوز في الحدود ولا في القصاص ولا في الكتابة، وبالجملة فيما لا تصح فيه الكفالة. وقالت الشافعية: المرهون فيه له شرائط ثلاث: أحدها أن يكون دينا، فإنه لا يرهن في عين. والثاني أن يكون واجبا، فإنه لا يرهن قبل الوجوب، مثل أن يسترهنه بما يستقرضه، ويجوز ذلك عند مالك. والثالث أن لا يكون لزومه متوقعا أن يجب، وأن لا يجب كالرهن في الكتابة، وهذا المذهب قريب من مذهب مالك.
- 3*القول في الشروط.
@-وأما شروط الرهن، فالشروط المنطوق بها في الشرع ضربان: شروط صحة، وشروط فساد. فأما شروط الصحة المنطوق بها في الرهن: أعني في كونه رهنا فشرطان: أحدهما متفق عليه بالجملة ومختلف في الجهة التي هو بها شرط وهو القبض. والثاني مختلف في اشتراطه، فأما القبض فاتفقوا بالجملة على أنه شرط في الرهن لقوله تعالى {فرهان مقبوضة} واختلفوا هل هو شرط تمام أو شرط صحة؟ وفائدة الفرق أن من قال شرط صحة قال: ما لم يقع القبض لم يلزم الرهن الراهن؛ ومن قال شرط تمام قال: يلزم بالعقد ويجبر الراهن على الإقباض إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة حتى يفلس الراهن أو يمرض أو يموت، فذهب مالك إلى أنه من شروط التمام، وذهب أبو حنيفة والشافعي وأهل الظاهر إلى أنه من شروط الصحة. وعمدة مالك قياس الرهن على سائر العقود اللازمة بالقول. وعمدة الغير قوله تعالى {فرهان مقبوضة} وقال بعض أهل الظاهر: لا يجوز الرهن إلا أن يكون هنالك كاتب لقوله تعالى {ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} ولا يجوز أهل الظاهر أن يوضع الرهن على يدي عدل، وعند مالك أن من شرط صحة الرهن استدامة القبض، وأنه متى عاد إلى يد الراهن بإذن المرتهن بعارية أو وديعة أو غير ذلك، فقد خرج من اللزوم وقال الشافعي: ليس استدامة القبض من شرط الصحة، فمالك عمم الشرط على ظاهره، فألزم من قوله تعالى {فرهان مقبوضة} وجود القبض واستدامته. والشافعي يقول: إذا وجد القبض فقد صح الرهن وانعقد، فلا يحل ذلك إعارته ولا غير ذلك من التصرف فيه كالحال في البيع، وقد كان الأولى بمن يشترط القبض في صحة العقد أن يشترط الاستدامة، ومن لم يشترط في الصحة أن لا يشترط الاستدامة. واتفقوا على جوازه في السفر. واختلفوا في الحضر؛ فذهب الجمهور إلى جوازه؛ وقال أهل الظاهر ومجاهد: لا يجوز في الحضر لظاهر لقوله تعالى {وإن كنتم على سفر} الآية. وتمسك الجمهور بما ورد من "أنه ﷺ رهن في الحضر" والقول في استنباط منع الرهن في الحضر من الآية هو من باب دليل الخطاب. وأما الشرط المحرم الممنوع بالنص فهو أن يرهن الرجل رهنا على أنه إن جاء بحقه عند أجله وإلا فالرهن له فاتفقوا على أن هذا الشرط يوجب الفسخ، وأنه معنى قوله عليه الصلاة والسلام "لا يغلق الرهن".
- 3*القول في الجزء الثالث من هذا الكتاب، وهو القول في الأحكام.
@-وهذا الجزء ينقسم إلى معرفة ما للراهن من الحقوق في الرهن وما عليه، وإلى معرفة ما للمرتهن في الرهن وما عليه، وإلى معرفة اختلافهما في ذلك، وذلك إما من نفس العقد، وإما لأمور طارئة على الرهن، ونحن نذكر من ذلك ما اشتهر الخلاف فيه بين فقهاء الأمصار والاتفاق. أما حق المرتهن في الرهن فهو أن يمسكه حتى يؤدي الراهن ما عليه، فإن لم يأت به عند الأجل كان له أن يرفعه إلى السلطان، فيبيع عليه الرهن وينصفه منه إن لم يجبه الراهن إلى البيع، وكذلك إن كان غائبا، وإن وكل الراهن المرتهن على بيع الرهن عند حلول الأجل جاز؛ وكرهه مالك إلا أن يرفع الأمر إلى السلطان. والرهن عند الجمهور يتعلق بجملة الحق المرهون فيه وببعضه، أعني أنه إذا رهنه في عدد ما فأدى منه بعضه، فإن الرهن بأسره يبقى بعد بيد المرتهن حتى يستوفي حقه وقال قوم: بل يبقى من الرهن بيد المرتهن بقدر ما يبقى من الحق. وحجة الجمهور أنه محبوس بحق، فوجب أن يكون محبوسا بكل جزء منه أصله حبس التركة على الورثة حتى يؤدوا الدين الذي على الميت. وحجة الفريق الثاني أن جميعه محبوس بجميعه، فوجب أن يكون أبعاضه محبوسة بأبعاضه، أصله الكفالة. ومن مسائل هذا الباب المشهورة اختلافهم في نماء الرهن المنفصل، مثل الثمرة في الشجر المرهون، ومثل الغلة، ومثل الولد هل يدخل في الرهن أم لا؟ فذهب قوم إلى أن نماء الرهن المنفصل لا يدخل شيء منه في الرهن: أعني الذي يحدث منه في يد المرتهن، وممن قال بهذا القول الشافعي؛ وذهب آخرون إلى أن جميع ذلك يدخل في الرهن، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة والثوري؛ وفرق مالك فقال: ما كان من نماء الرهن المنفصل على خلقته وصورته، فإنه داخل في الرهن كولد الجارية مع الجارية وأما ما لم يكن على خلقته فإنه لا يدخل في الرهن كان متولدا عنه كثمر النخل أو غير متولد ككراء الدار وخراج الغلام. وعمدة من رأى أن نماء الرهن وغلته للراهن قوله عليه الصلاة والسلام "الرهن محلوب ومركوب" قالوا: ووجه الدليل من ذلك أنه لم يرد بقوله "مركوب ومحلوب" أي يركبه الراهن ويحلبه، لأنه كان يكون غير مقبوض، وذلك مناقض لكونه رهنا، فإن الراهن من شرطه القبض، قالوا: ولا يصح أيضا أن يكون معناه أن المرتهن يحلبه ويركبه، فلم يبق إلا أن يكون المعنى في ذلك أن أجرة ظهرة لربه ونفقته عليه. واستدلوا أيضا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه" قالوا: ولأنه نماء زائد على مارضيه رهنا، فوجب أن لا يكون له إلا بشرط زائد. وعمدة أبي حنيفة أن الفروع تابعة للأصول فوجب لها حكم الأصل، ولذلك حكم الولد تابع لحكم أمه في التدبير والكتابة. وأما مالك فاحتج بأن الولد حكمه حكم أمه في البيع: أي هو تابع لها، وفرق بين الثمر والولد في ذلك بالسنة المفرقة في ذلك، وذلك أن الثمر لا يتبع بيع الأصل إلا بالشرط وولد الجارية يتبع بغير شرط. والجمهور على أن ليس للمرتهن أن ينتفع بشيء من الرهن؛ وقال قوم: إذا كان الرهن حيوانا فللمرتهن أن يحلبه ويركبه بقدر ما يعلفه وينفق عليه، وهو قول أحمد وإسحق، واحتجوا بما رواه أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "الرهن محلوب ومركوب" ومن هذا الباب اختلافهم في الرهن يهلك عند المرتهن ممن ضمانه؟ فقال قوم: الرهن أمانة وهو من الراهن، والقول قول المرتهن مع يمينه أنه ما فرط فيه وما جنى عليه، وممن قال بهذا القول الشافعي وأحمد وأبو ثور وجمهور أهل الحديث؛ وقال قوم: الرهن من المرتهن ومصيبته منه، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة وجمهور الكوفيين. والذين قالوا بالضمان انقسموا قسمين: فمنهم من رأى أن الرهن مضمون بالأقل من قيمته أو قيمة الدين، وبه قال أبو حنيفة وسفيان وجماعة. ومنهم من قال: هو مضمون بقيمته قلت أو كثرت، وإنه إن فضل للراهن شيء فوق دينه أخذه من المرتهن، وبه قال علي ابن أبي طالب وعطاء وإسحق. وفرق قوم بين ما لا يغاب عليه مثل الحيوان والعقار مما لا يخفى هلاكه، وبين ما يغاب عليه من العروض، فقالوا: هو ضامن فيما يغاب عليه ومؤتمن فيما لا يغاب عليه، وممن قال بهذا القول مالك والأوزاعي وعثمان البتي، إلا أن مالكا يقول: إذا شهد الشهود بهلاك ما يغاب عليه من غير تضييع ولا تفريط، فإنه لا يضمن وقال الأوزاعي وعثمان البتي: بل يضمن على كل حال قامت بينة أو لم تقم، وبقول مالك قال ابن القاسم، وبقول عثمان والأوزاعي قال أشهب. وعمدة من جعله أمانة غير مضمون حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال "لا يغلق الرهن وهو ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه": أي له غلته وخراجه، وعليه افتكاكه مصيبته منه. قالوا: وقد رضي الراهن أمانته فأشبه المودع عنده. وقال المزني من أصحاب الشافعي محتجا له: قد قال مالك ومن تابعه إن الحيوان وما ظهر هلاكه أمانة، فوجب أن يكون كله كذلك. وقد قال أبو حنيفة: إن ما زاد من قيمة الرهن على قيمة الدين فهو أمانة فوجب أن يكون كله أمانة، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام عند مالك ومن قال بقوله "وعليه غرمه" أي نفقته. قالوا: ومعنى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام "الرهن مركوب ومحلوب" أي أجرة ظهره لربه، ونفقته عليه، وأما أبو حنيفة وأصحابه فتأولوا قوله عليه الصلاة والسلام "له غنمه وعليه غرمه" أن غنمه ما فضل منه على الدين، وغرمه ما نقص. وعمدة من رأى أنه مضمون من المرتهن أنه عين تعلق بها حق الاستيفاء ابتداء فوجب أن يسقط بتلفه، أصله تلف المبيع عند البائع إذا أمسكه حتى يستوفي الثمن، وهذا متفق عليه من الجمهور، وإن كان عند مالك كالرهن؛ وربما احتجوا بما روي عن النبي ﷺ "أن رجلا ارتهن فرسا من رجل، فنفق في يده، فقال عليه الصلاة والسلام للمرتهن: ذهب حقك" وأما تفريق مالك بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه فهو استحسان، ومعنى ذلك أن التهمة تلحق فيما يغاب عليه، ولا تلحق فيما لا يغاب عليه. وقد اختلفوا في معنى الاستحسان الذي يذهب إليه مالك كثيرا، فضعفه قوم وقالوا: إنه مثل استحسان أبي حنيفة، وحدوا الاستحسان بأنه قول بغير دليل. ومعنى الاستحسان عند مالك هو جمع بين الأدلة المتعارضة، وإذا كان ذلك كذلك فليس هو قول بغير دليل. والجمهور على أنه لا يجوز للراهن بيع الرهن ولا هبته، وأنه إن باعه فللمرتهن الإجارة أو الفسخ. قال مالك: وإن زعم أن إجارته ليتعجل حقه حلف على ذلك وكان له. وقال قوم: يجوز بيعه. وإن كان للرهن غلاما أو أمة فأعتقها الراهن فعند مالك أنه إن كان الراهن موسرا جاز عتقه وعجل للمرتهن حقه، وإن كان معسرا بيعت وقضي الحق من ثمنها وعند الشافعي ثلاثة أقوال: الرد، والإجازة، والثالث مثل قول مالك وأما اختلاف الراهن والمرتهن في قدر الحق الذي وجب به الرهن، فإن الفقهاء اختلفوا في ذلك، فقال مالك: القول قول المرتهن فيما ذكره من قدر الحق ما لم تكن قيمة الرهن أقل من ذلك، فما زاد على قيمة الرهن فالقول قول الراهن. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجمهور فقهاء الأمصار: القول في قدر الحق قول الراهن وعمدة الجمهور أن الراهن مدعى عليه، والمرتهن مدع، فوجب أن تكون اليمين على الراهن على ظاهر السنة المشهورة. وعمدة مالك ههنا أن المرتهن وإن كان مدعيا فله ههنا شبهة بنقل اليمين إلى حيزه، وهو كون الرهن شاهدا له، ومن أصوله أن يحلف أقوى المتداعيين شبهة، وهذا لا يلزم عند الجمهور، لأنه قد يرهن الراهن الشيء وقيمته أكثر من المرهون فيه. وأما إذا تلف الرهن واختلفوا في صفته، فالقول ههنا عند مالك قول المرتهن لأنه مدعى عليه، وهو مقر ببعض ما ادعى عليه وهذا على أصوله، فإن المرتهن أيضا هو الضامن فيما يغاب عليه. وأما على أصول الشافعي، فلا يتصور على المرتهن يمين إلا أن يناكره الراهن في إتلافه. وأما عند أبي حنيفة فالقول قول المرتهن في قيمة الرهن، وليس يحتاج إلى صفة، لأن مالك يحلف على الصفة وتقويم تلك الصفة. وإذا اختلفوا في الأمرين جميعا، أعني في صفة الرهن وفي نقدار الرهن كان القول قول المرتهن في صفة الرهن، وفي الحق ما كنت قيمة الصفة التي حلف عليها شاهدة له، وفيه ضعف، وهل يشهد الحق لقيمة الرهن إذا اتفقا في الحق واختلفا في قيمة الرهن؟ في المذهب فيه قولان، والأقيس الشهادة، لأنه إذا شهد الرهن للدين شهد الدين للمرهون. وفروع هذا الباب كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية في غرضنا. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
- 2*كتاب الحجر
@-والنظر في هذا الكتاب في ثلاثة أبواب: الباب الأول: في أصناف المحجورين. الثاني: متى يخرجون من الحجر، ومتى يحجر عليهم، وبأي شروط يخرجون. الثالث: في معرفة أحكام أفعالهم في الرد والإجازة.
- 3*الباب الأول في أصناف المحجورين.
@-أجمع العلماء على وجوب الحجر على الأيتام الذين لم يبلغوا الحلم لقوله تعالى {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} الآية. واختلفوا في الحجر على العقلاء الكبار إذا ظهر منهم تبذير لأموالهم، فذهب مالك والشافعي وأهل المدينة وكثير من أهل العراق إلى جواز ابتداء الحجر عليهم بحكم الحاكم، وذلك إذا ثبت عنده سفههم وأعذر إليهم فلم يكن عندهم مدفع، وهو رأي ابن عباس وابن الزبير. وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل العراق إلى أنه لا يبتدأ الحجر على الكبار، وهو قول إبراهيم وابن سيرين، وهؤلاء انقسموا قسمين: فمنهم من قال: الحجر لا يجوز عليهم بعد البلوغ بحال وإن ظهر منهم التبذير. ومنهم من قال: إن استصحبوا التبذير من الصغر يستمر الحجر عليهم وإن ظهر منهم رشد بعد البلوغ ثم ظهر منهم سفه، فهؤلاء لا يبدأ بالحجر عليهم. وأبو حنيفة يحد في ارتفاع الحجر وإن ظهر سفهه خمسة وعشرين عاما. وعمدة من أوجب على الكبار ابتداء الحجر أن الحجر على الصغار إنما وجب لمعنى التبذير الذي يوجد فيهم غالبا، فوجب أن يجب الحجر على من وجد فيه هذا المعنى وإن لم يكن صغيرا، قالوا: ولذلك اشترط في رفع الحجر عنهم مع ارتفاع الصغر إيناس الرشد، قال الله تعالى {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} فدل هذا على أن السبب المقتضي للحجر هو السفه. وعمدة الحنفية حديث حبان بن منقذ "إذ ذكر فيه لرسول الله ﷺ أنه يخدع في البيوع، فجعل له رسول الله ﷺ الخيار ثلاثا ولم يحجر عليه". وربما قالوا: الصغر هو المؤثر في منع التصرف بالمال، بدليل تأثيره في إسقاط التكليف، وإنما اعتبر الصغر لأنه الذي يوجد فيه السفه غالبا، كما يوجد نقص العقل غالبا، ولذلك جعل البلوغ علامة وجوب التكليف وعلامة الرشد، إذ كانا يوجدان فيه غالبا، أعني العقل والرشد، وكما لم يعتبر النادر في التكليف، أعني أن يكون قبل البلوغ عاقلا فيكلف، كذلك لم يعتبر النادر في السفه، وهو أن يكون بعد البلوغ سفيها فيحجر عليه، كما لو يعتبر كونه قبل البلوغ رشيدا. قالوا: وقوله تعالى {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} الآية، ليس فيها أكثر من منعهم من أموالهم، وذلك لا يوجب فسخ بيوعها وإبطالها. والمحجورون عند مالك ستة: الصغير ، والسفيه، والعبد، والمفلس، والمريض، والزوجة. وسيأتي ذكر كل واحد منهم في بابه.
- 3*الباب الثاني. متى يخرجون من الحجر، ومتى يحجر عليهم، وبأي شروط يخرجون؟
@-والنظر في هذا الباب في موضعين: في وقت خروج الصغار من الحجر، ووقت خروج السفهاء. فنقول: إن الصغار بالجملة صنفان: ذكور، وإناث، وكل واحد من هؤلاء إما ذو أب، وإما ذو وصي، وإما مهمل، وهم الذين يبلغون ولا وصي لهم ولا أب. فأما الذكور الصغار ذوو الآباء فاتفقوا على أنهم لا يخرجون من الحجر إلا ببلوغ سن التكليف وإيناس الرشد منهم، وإن كانوا قد اختلفوا في الرشد ما هو، وذلك لقوله تعالى {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} واختلفوا في الإناث، فذهب الجمهور إلى أن حكمهن في ذلك حكم الذكور أعني بلوغ المحيض وإيناس الرشد؛ وقال مالك: هي في ولاية أبيها في المشهور عنه حتى تتزوج ويدخل بها زوجها ويؤنس رشدها، وروى عنه مثل قول الجمهور؛ ولأصحاب مالك في هذا أقوال غير هذه قيل إنها في ولاية أبيها حتى يمر بها سنة بعد دخول زوجها بها، وقيل حتى يمر بها عامان، وقيل حتى تمر سبعة أعوام. وحجة مالك أن إيناس الرشد لا يتصور من المرأة إلا بعد اختبار الرجال. وأما أقاويل أصحابه فضعيفة مخالفة للنص والقياس؛ أما مخالفتها النص، فإنهم لم يشترطوا الرشد؛ وأما مخالفتها للقياس، فلأن الرشد ممكن تصوره منها قبل هذه المدة المحدودة، وإذا قلنا على قول مالك لا على قول الجمهور إن الاعتبار في الذكور ذوي الآباء البلوغ وإيناس الرشد، فاختلف قول مالك إذا بلغ ولم يعلم سفهه من رشده وكان مجهول الحال فقيل عنه إنه محمول على السفه حتى يتبين رشده وهو المشهور؛ وقيل عنه إنه محمول على الرشد حتى يتبين سفهه. فأما ذوو الأوصياء فلا يخرجون من الولاية في المشهور عن مالك إلا بإطلاق وصيه له من الحجر: أي يقول فيه إنه رشيد إن كان مقدما من قبل الأب بلا خلاف أو بإذن القاضي مع الوصي إن كان مقدما من غير الأب على اختلاف في ذلك. وقد قيل في وصي الأب أنه لا يقبل قوله في أنه رشيد إلا حتى يعلم رشده وقد قيل إن حاله مع الوصي كحاله مع الأب يخرجه من الحجر إذا آنس منه الرشد وإن لم يخرجه وصيه بالإشهاد، وإن المجهول الحال في هذا حكمه حكم المجهول الحال ذي الأب. وأما ابن القاسم فمذهبه أن الولاية غير معتبر ثبوتها إذا علم الرشد، ولا سقوطها إذا علم السفه، وهي رواية عن مالك، وذلك من قوله في اليتيم لا في البكر، والفرق بين المذهبين أن من يعتبر الولاية يقول أفعاله كلها مردودة وإن ظهر رشده حتى يخرج من الولاية، وهو قول ضعيف، فإن المؤثر هو الرشد لا حكم الحاكم. وأما اختلافهم في الرشد ما هو؟ فإن مالكا يرى أن الرشد هو تثمير المال وإصلاحه فقط، والشافعي يشترط مع هذا صلاح الدين. وسبب اختلافهم هل ينطلق اسم الرشد على غير صالح الدين؟ ؟ وحال البكر مع الوصي كحال الذكر لا يخرج من الولاية إلا بالإخراج ما لم تعنس على اختلاف في ذلك، وقيل حالها مع الوصي كحالها مع الأب وهو قول ابن الماجشون. ولم يختلف قولهم إنه لا يعتبر فيها الرشد كاختلافهم في اليتيم. وأما المهمل من الذكور فإن المشهور أن أفعاله جائزة إذا بلغ الحلم كان سفيها متصل السفه أو غير متصل السفه، معلنا به أو غير معلن. وأما ابن القاسم فيعتبر نفس فعله إذا وقع، فإن كان رشدا جاز وإلا رده. فأما اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي فإن فيها في المذهب قولين: أحدهما أن أفعالها جائزة إذا بلغت المحيض. والثاني أن أفعالها مردودة ما لم تعنس وهو المشهور. الباب الثالث في معرفة أحكام أفعالهم في الرد والإجازة. والنظر في هذا الباب في شيئين: أحدهما ما يجوز لصنف صنف من المحجورين من الأفعال، وإذا فعلوا فكيف حكم أفعالهم في الرد والإجازة، وكذلك أفعال المهملين وهم الذين بلغوا الحلم من غير أب ولا وصي، وهؤلاء كما قلنا إما صغار وإما كبار متصلو الحجر من الصغر وإما مبتدأ حجرهم. فأما الصغار الذين لم يبلغوا الحلم من الرجال ولا المحيض من النساء فلا خلاف في المذهب في أنه لا يجوز له في ماله معروف من هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق وإن أذن له الأب في ذلك أو الوصي، فإن أخرج من يده شيئا بغير عوض كان موقوفا على نظر وليه إن كان له ولي، فإن رآه رشدا أجازه وإلا أبطله، وإن لم يكن له ولي قدم له ولي ينظر في ذلك، وإن عمل في ذلك حتى يلي أمره كان النظر إليه في الإجازة أو الرد. واختلف إذا كان فعله سدادا ونظرا فيما كان يلزم الولي أن يفعله هل له أن ينقضه إذا آل الأمر إلى خلاف بحوالة الأسواق أو نماء فيما باعه أو نقصان فيما ابتاعه، فالمشهور أن ذلك له، وقيل إن ذلك ليس له، ويلزم الصغير ما أفسد في ماله مما لم يؤتمن عليه. واختلف فيما أفسد وكسر مما اؤتمن عليه، ولا يلزمه بعد بلوغه رشده عتق ما حلف بحريته في صغره وحنث به في صغره. واختلف فيما حنث فيه في كبره وحلف به في صغره، فالمشهور أنه لا يلزمه. وقال ابن كنانة: يلزمه ولا يلزمه فيما ادعى عليه يمين. واختلف إذا كان له شاهد واحد هل يحلف معه؟ فالمشهور أنه لا يحلف، وروي عن مالك والليث أنه يحلف. وحال البكر ذات الأب والوصي كالذكر ما لم تعنس على مذهب من يعتبر تعنيسها. أما السفيه البالغ، فجمهور العلماء على أن المحجور إذا طلق زوجته أو خالعها مضى طلاقه وخلعه، إلا ابن أبي ليلى وأبا يوسف، وخالف ابن أبي ليلى في العتق فقال: إنه ينفذ، وقال الجمهور: إنه لا ينفذ. وأما وصيته فلا أعلم خلافا في نفوذها، ولا تلزمه هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق ولاشيء من المعروف إلا أن يعتق أم ولده، فيلزمه عتقها، وهذا كله في المذهب، وهل يتبعها مالها؟ فيه خلاف، قيل يتبع، وقيل لا يتبع، وقيل بالفرق بين القليل والكثير. وأما ما يفعله بعوض، فهو أيضا موقوف على نظر وليه إن كان له ولي، فإن لم يكن له ولي قدم له ولي، فإن رد بيعه الولي وكان قد أتلف الثمن لم يتبع من ذلك بشيء، وكذلك إن أتلف عين المبيع. وأما أحكام أفعال المحجورين أو المهملين على مذهب مالك فإنها تنقسم إلى أربعة أحوال: فمنهم من تكون أفعاله كلها مردودة، وإن كان فيها ما هو رشد. ومنهم ضد هذا، وهو أن تكون أفعاله كلها محمولة على الرشد وإن ظهر فيها ما هو سفه. ومنهم من تكون أفعاله كلها محمولة على السفه ما لم يتبين رشده. وعكس هذا أيضا وهو أن تكون أفعاله كلها محمولة على الرشد حتى يتبين سفهه. فأما الذي يحكم له بالسفه وإن ظهر رشده فهو الصغير الذي لم يبلغ، والبكر ذات الأب، والوصي ما لم تعنس على مذهب من يعتبر التعنيس. واختلف في حده اختلافا كثيرا من دون الثلاثين إلى الستين، والذي يحكم له بحكم الرشد وإن علم سفهه، فمنها السفيه إذا لم تثبت عليه ولاية من قبل أبيه، ولا من قبل السلطان على مشهور مذهب مالك، خلافا لابن القاسم الذي يعتبر نفس الرشد لا نفس الولاية، والبكر اليتيمة المهملة على مذهب سحنون. وأما الذي يحكم عليه بالسفه بحكم ما لم يظهر رشده: فالابن بعد بلوغه في حياة أبيه على المشهور في المذهب، وحال البكر ذات الأب التي لا وصي لها إذا تزوجت ودخل بها زوجها ما لم يظهر رشدها، وما لم تبلغ الحد المعتبر في ذلك من السنين عند من يعتبر ذلك، وكذلك اليتيمة التي لا وصي لها على مذهب من يرى أن أفعالها مردودة. وأما الحال التي يحكم فيها بحكم الرشد حتى يتبين السفه: فمنها حال البكر المعنس عند من يعتبر التعنيس، أو التي دخل بها زوجها ومضى لدخوله الحد المعتبر من السنين عند من يعتبر الحد، وكذلك حال الإبن ذي الأب إذا بلغ وجهلت حاله على إحدى الروايتين، والابنة البكر بعد بلوغها على الرواية التي لا تعتبر فيها دخولها مع زوجها. فهذه هي جمل ما في الكتاب والفروع كثيرة. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
- 2*كتاب التفليس.
@-والنظر في هذا الكتاب فيما هو الفلس، وفي أحكام المفلس، فنقول: إن الإفلاس في الشرع يطلق على معنيين: أحدهما أن يستغرق الدين مال المدين، فلا يكون في ماله وفاء بديونه. والثاني أن لا يكون له مال معلوم أصلا، وفي كلا الفلسين قد اختلف العلماء في أحكامهما. فأما الحالة الأولى وهي إذا ظهر عند الحاكم من فلسه ما ذكرنا، فاختلف العلماء في ذلك هل للحاكم أن يحجر عليه التصرف في ماله حتى يبيعه عليه ويقسمه على الغرماء على نسبة ديونهم، أم ليس له ذلك؟ بل يحبس حتى يدفع إليهم جميع ماله على أي نسبة اتفقت أو لمن اتفق منهم، وهذا الخلاف بعينه يتصور فيمن كان له مال يفي بدينه، فأبى أن ينصف غرماءه، هل يبيع عليه الحاكم فيقسمه عليهم، أم يحبسه حتى يعطيهم بيده ما عليه؟ فالجمهور يقولون: يبيع الحاكم ماله عليه، فينصف منه غرماءه أو غريمه إن كان مليا، أو يحكم عليه بالإفلاس إن لم يف ماله بديونه ويحجر عليه التصرف فيه، وبه قال مالك والشافعي، وبالقول الآخر قال أبو حنيفة وجماعة من أهل العراق. وحجة مالك والشافعي حديث معاذ بن جبل "أنه كثر دينه في عهد رسول الله ﷺ فلم يزد غرماءه على أن جعله لهم من ماله، وحديث أبي سعيد الخدري" أن رجلا أصيب على عهد رسول الله ﷺ في ثمر ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله ﷺ: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء بدينه، فقال رسول الله ﷺ: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" وحديث عمر في القضاء على الرجل المفلس في حبسه وقوله فيه: أما بعد، فإن الأسيفع "أسيفع جهينة" رضي من دينه وأمانته بأن يقال سبق الحاج، وأنه ادان معرضا فأصبح قدرين عليه، فمن كان له عليه دين فليأتينا. وأيضا من طريق المعنى فإنه إذا كان المريض محجورا عليه لمكان ورثته، فأحرى أن يكون المدين محجورا عليه لمكان الغرماء، وهذا القول هو الأظهر، لأنه أعدل والله أعلم. وأما حجج الفريق الثاني الذين قالوا بالحبس حتى يعطي ما عليه أو يموت محبوسا، فيبيع القاضي حينئذ ماله ويقسمه على الغرماء، فمنها حديث جابر بن عبد الله حين استشهد أبوه بأحد وعليه دين، فلما طالبه الغرماء قال جابر "فأتيت النبي ﷺ فكلمته، فسألهم أن يقبلوا مني حائطي، ويحللوا أبي، فأبوا، فلم يعطهم رسول الله ﷺ حائطي قال: ولكن سأغدو عليك، قال: فغدا علينا حين أصبح فطاف بالنخل فدعا في ثمرها بالبركة قال: فجذذتها فقضيت منها حقوقهم، وبقي من ثمرها بقية" وبما روي أيضا أنه مات أسيد بن الحضير وعليه عشرة آلاف درهم، فدعا عمر بن الخطاب غرماءه، فقبلهم أرضه أربع سنين مما لهم عليه. قالوا: فهذه الآثار كلها ليس فيها أنه بيع أصل في دين قالوا: يدل على حبسه قوله ﷺ "ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته" قالوا: العقوبة هي حبسه. وربما شبهوا استحقاق أصول العقار عليه باستحقاق إجازته، وإذا قلنا إن المفلس محجور عليه، فالنظر في ماذا يحجر عليه، وبأي ديون تكون المحاصة في ماله وفي أي شيء من ماله تكون المحاصة؟ وكيف تكون؟. فأما المفلس فله حالان: حال في وقت الفلس قبل الحجر عليه، وحال بعد الحجر. فأما قبل الحجر فلا يجوز له إتلاف شيء من ماله عند مالك بغير عوض إذا كان مما لا يلزمه ومما لا تجري العادة بفعله، وإنما اشترط إذا كان مما لا يلزمه، لأن له أن يفعل ما يلزم بالشرع وإن لم يكن بعوض كنفقته على الآباء المعسرين أو الأبناء، وإنما قيل مما لم تجر العادة بفعله، لأن له إتلاف اليسير من ماله بغير عوض كالأضحية والنفقة في العيد والصدقة اليسيرة، وكذلك تراعي العادة في إنفاقه في عوض كالتزوج والنفقة على الزوجة، ويجوز بيعه وابتياعه ما لم تكن فيه محاباة، وكذلك يجوز إقراره بالدين لمن لا يتهم عليه. واختلف قول مالك في قضاء بعض غرمائه دون بعض وفي رهنه. وأما جمهور من قال بالحجر على المفلس فقالوا: هو قبل الحكم كسائر الناس، وإنما ذهب الجمهور لهذا لأن الأصل هو جواز الأفعال حتى يقع الحجر، ومالك كأنه اعتبر المعنى نفسه، وهو إحاطة الدين بماله لكن لم يعتبره في كل حال، لأنه يجوز بيعه وشراؤه إذا لم يكن فيه محاباة، ولا يجوزه للمحجور عليه. وأما حاله بعد التفليس فلا يجوز له فيها عند مالك بيع ولا شراء ولا أخذ ولا عطاء، لا يجوز إقراره بدين في ذمته لقريب ولا بعيد، قيل إلا أن يكون لواحد منهم بينة، وقيل يجوز لمن يعلم منه إليه تقاض. واختلف في إقراره بمال معين مثل القراض والوديعة على ثلاثة أقوال في المذهب: بالجواز، والمنع، والثالث بالفرق بين أن يكون على أصل القراض أو الوديعة ببينة أو لا تكون، فقيل إن كانت صدق وإن لم تكن لم يصدق. واختلفوا من هذا الباب في ديون المفلس المؤجلة هل تحل بالتفليس أم لا؟ فذهب مالك إلى أن التفليس في ذلك كالموت، وذهب غيره إلى خلاف ذلك، وجمهور العلماء على أن الديون تحل بالموت. قال ابن شهاب: مضت السنة بأن دينه قد حل حين مات. وحجتهم أن الله تبارك وتعالى لم يبح التوارث إلا بعد قضاء الدين، فالورثة في ذلك بين أحد أمرين: إما أن لا يريدوا أن يؤخروا حقوقهم في المواريث إلى محل أجل الدين فيلزم أن يجعل الدين حالا، وإما أن يرضوا بتأخير ميراثهم حتى تحل الديون فتكون الديون حينئذ في التركة خاصة لا في ذممهم، بخلاف ما كان عليه الدين قبل الموت، لأنه كان في ذمة الميت، وذلك يحسن في حق ذي الدين. ولذلك رأى بعضهم أنه إن رضي الغرماء بتحمله في ذممهم أبقيت الديون إلى أجلها، وممن قال بهذا القول ابن سيرين واختاره أبو عبيد من فقهاء الأمصار، لكن لا يشبه الفلس في هذا المعنى الموت كل الشبه، وإن كانت كلا الذمتين قد خربت فإن ذمة المفلس يرجى المال لها بخلاف ذمة الميت. وأما النظر فيما يرجع به أصحاب الديون من مال المفلس فإن ذلك يرجع إلى الجنس والقدر. أما ما كان قد ذهب عين العوض الذي استوجب من قبله الغريم على المفلس فإن دينه في ذمة المفلس. وأما إذا كان عين العوض باقيا بعينه لم يفت إلا أنه لم يقبض ثمنه، فاختلف في ذلك فقهاء الأمصار على أربعة أقوال: الأول أن صاحب السلعة أحق بها على كل حال إلا أن يتركها ويختار المحاصة؛ وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور. والقول الثاني ينظر إلى قيمة السلعة يوم الحكم بالتفليس فإن كانت أقل من الثمن خير صاحب السلعة بين أن يأخذها أو يحاص الغرماء، وإن كانت مساوية للثمن أخذها بعينها، وبه قال مالك وأصحابه. والقول الثالث تقوم السلعة بين التفليس، فإن كانت قيمتها مساوية للثمن أو أقل منه قضى له بها: أعني للبائع، وإن كانت أكثر دفع إليه مقدار ثمنه ويتحاصون في الباقي، وبهذا القول قال جماعة من أهل الأثر. والقول الرابع أنه أسوة الغرماء فيها على كل حال، وهو قول أبي حنيفة وأهل الكوفة والأصل في هذه المسألة ما ثبت من حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال "أيما رجل أفلس فأدرك الرجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره" وهذا الحديث خرجه مالك والبخاري ومسلم، وألفاظهم متقاربة، وهذا اللفظ لمالك؛ فمن هؤلاء من حمله على عمومه وهو الفريق الأول؛ ومنهم من خصصه بالقياس وقالوا: إن معقوله إنما هو الرفق بصاحب السلعة لكون سلعته باقية، وأكثر ما في ذلك أن يأخذ الثمن الذي باعها به، فإما أن يعطي في هذه الحال الذي اشترك فيها مع الغرماء أكثر من ثمنها فذلك مخالف لأصول الشرع، وبخاصة إذا كان للغرماء أخذها بالثمن كما قال مالك. وأما أهل الكوفة فردوا هذا الحديث بجملته لمخالفته للأصول المتواترة على طريقتهم في رد الخبر الواحد إذا خالف الأصول المتواترة لكون خبر الواحد مظنونا، والأصول يقينية مقطوع بها، كما قال عمر في حديث فاطمة بنت قيس: ما كنا لندع كتاب الله وسنة نبينا لحديث امرأة. ورواه عن علي أنه قضى بالسلعة للمفلس، وهو رأى ابن سيرين وإبراهيم من التابعين. وربما احتجوا بأن حديث أبي هريرة مختلف فيه، وذلك أن الزهري روى عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال "أيما رجل مات أو فلس فوجد بعض غرمائه ماله بعينه فهو أسوة الغرماء" وهذا الحديث أولى لأنه موافق للأصول الثابتة. قالوا: وللجمع بين الحديثين وجه، وهو حمل ذلك الحديث على الوديعة والعارية، إلا أن الجمهور دفعوا هذا التأويل بما ورد في لفظ حديث أبي هريرة في بعض الروايات من ذكر البيع، وهذا كله عند الجميع بعد قبض المشتري السلعة، فأما قبل القبض فالعلماء متفقون أهل الحجاز وأهل العراق أن صاحب السلعة أحق بها لأنها في ضمانه، واختلف القائلون بهذا الحديث إذا قبض البائع بعض الثمن، فقال مالك: إن شاء أن يرد ما قبض ويأخذ السلعة كلها، وإن شاء حاص الغرماء فيما بقي من سلعته؛ وقال الشافعي: بل يأخذ ما بقي من سلعته بما بقي من الثمن؛ وقالت جماعة من أهل العلم داود وإسحق وأحمد: إن قبض من الثمن شيئا فهو أسوة الغرماء. وحجتهم ما روى مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله ﷺ قال "أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع أسوة الغرماء" وهو حديث وإن أرسله مالك فقد أسنده عبد الرزاق، وقد روي من طريق الزهري عن أبي هريرة فيه زيادة بيان، وهو قوله فيه "فإن كان قبض من ثمنه شيئا فهو أسوة الغرماء" ذكره أبو عبيد في كتابه في الفقه وخرجه. وحجة الشافعي أن كل سلعة أو بعضها في الحكم الواحد، ولم يختلفوا أنه إذا فوت المشتري بعضها أن البائع أحق بالمقدار الذي أدرك من سلعته، إلا عطاء فإنه قال: إذا فوت المشتري بعضها كان البائع أسوة الغرماء. واختلف الشافعي ومالك في الموت هل حكمه حكم الفلس أم لا؟ فقال مالك: هو في الموت أسوة الغرماء، بخلاف الفلس؛ وقال الشافعي: الأمر في ذلك واحد. وعمدة مالك ما رواه عن ابن شهاب عن أبي بكر وهو نص في ذلك وأيضا من جهة النظر إن فرقا بين الذمة في الفلس والموت، وذلك أن الفلس ممكن أن تثرى حاله فيتبعه غرماؤه بما بقي عليه وذلك غير متصور في الموت. وأما الشافعي فعمدته ما رواه ابن أبي ذئب بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ "أيما رجل مات أو فلس فصاحب المتاع أحق به" فسوى في هذه الرواية بين الموت والفلس. قال: وحديث ابن أبي ذئب أولى من حديث ابن شهاب، لأن حديث ابن شهاب مرسل وهذا مسند، ومن طريق المعنى فهو مال لا تصرف فيه لمالكه إلا بعد أداء ما عليه، فأشبه مال المفلس؛ وقياس مالك أقوى من قياس الشافعي، وترجيح حديثه على حديث ابن أبي ذئب من جهة أن موافقة القياس له أقوى، وذلك أن ما وافق من الأحاديث المتعارضة قياس المعنى فهو أقوى مما وافقه قياس الشبه: أعني أن القياس الموافق لحديث الشافعي هو قياس شبه، والموافق لحديث مالك قياس معنى، ومرسل مالك خرجه عبد الرزاق. فسبب الخلاف تعارض الآثار في هذا المعنى والمقاييس، وأيضا فإن الأصل يشهد لقول مالك في الموت، أعني أن من باع شيئا فليس يرجع إليه فمالك رحمه الله أقوى في هذه المسألة، والشافعي إنما ضعف عنده فيها قول مالك لما روي من المسند المرسل عنده لا يجب العمل به. واختلف مالك والشافعي فيمن وجد سلعته بعينها عند المفلس وقد أحدث زيادة مثل أن تكون أرضا يغرسها أو عرصة يبنيها، فقال مالك: العمل الزائد فيها هو فوت ويرجع صاحب شريك الغرماء. وقال الشافعي: بل يخير البائع بين أن يعطي قيمة ما أحدث المشتري في سلعته ويأخذها، أو أن يأخذ أصل السلعة ويحاص الغرماء في الزيادة، وما يكون فوتا مما لا يكون فوتا في مذهب مالك منصوص في كتبه المشهورة. وتحصيل مذهب مالك فيما يكون الغريم به أحق من سائر الغرماء في الموت والفلس، أو في الفلس دون الموت أن الأشياء المبيعة بالدين تنقسم في التفليس ثلاثة أقسام: عرض يتعين، وعين اختلف فيه هل يتعين فيه أم لا؟ وعمل لا يتعين. فأما العرض فإن كان في يد بائعه لم يسلمه حتى أفلس المشتري، فهو أحق به في الموت والفلس، وهذا ما لا خلاف فيه، وإن كان قد دفعه إلى المشتري ثم أفلس وهو قائم بيده فهو أحق به من الغرماء في الفلس دون الموت، ولهم عنده أن يأخذوا سلعته بالثمن وقال الشافعي: ليس لهم، وقال أشهب: لا يأخذونها إلا بالزيادة يحطونها عن المفلس؛ وقال ابن الماجشون: إن شاءوا كان الثمن من أموالهم أو من مال الغريم؛ وقال ابن كنانة: بل يكون من أموالهم وأما العين فهوأحق بها في الموت أيضا، والفلس ما كان بيده. واختلف إذا دفعه إلى بائعه فيه ففلس أو مات وهو قائم بيده يعرف بعينه، فقيل إنه أحق به كالعروض في الفلس دون الموت وهو قول ابن القاسم، وقيل إنه لا سبيل له عليه، وهو أسوة الغرماء، وهو قول أشهب، والقولان جاريان على الاختلاف في تعيين العين؛ وأما إن لم يعرف بعينه فهو أسوة الغرماء في الموت والفلس. وأما تعمل الذي لا يتعين فإن أفلس المستأجر قبل أن يستوفي عمل الأجير كان الأجير أحق بما عمله في الموت والفلس جميعا، كالسلعة إذا كانت بيد البائع في وقت الفلس، وإن كان فلسه بعد أن استوفى عمل الأجير، فالأجير أسوة الغرماء بأجرته التي شارطه عليها في الفلس والموت جميعا على أظهر الأقوال، إلا أن تكون بيده السلعة التي استؤجر على عملها، فيكون أحق بذلك في الموت والفلس جميعا، لأنه كالرهن بيده، فإن أسلمه كان أسوة الغرماء بعمله، إلا أن يكون له فيه شيء أخرجه فيكون أحق به في الفلس دون الموت، وكذلك الأمر عنده في فلس مكتري الدواب إن استكرى أحق بما عليه من المتاع في الموت والفلس جميعا، وكذلك مكتري السفينة، (يتبع...) @(تابع... 1): -والنظر في هذا الكتاب فيما هو الفلس، وفي أحكام المفلس، فنقول: إن... ... وهذا كله شبهه مالك بالرهن وبالجملة فلا خلاف في مذهبه أن البائع أحق بما في يديه في الموت والفلس، وأحق بسلعته القائمة الخارجة عن يده في الفلس دون الموت، وأنه أسوة الغرماء في سلعته إذا فاتت، وعندما يشبه حال الأجير عند أصحاب مالك. وبالجملة البائع منفعة بالبائع الرقبة، فمرة يشبهون المنفعة التي عمل بالسلعة التي لم يقبضها المشتري فيقولون: هو أحق بها في الموت والفلس، ومرة يشبهونه بالتي خرجت من يده ولم يمت فيقولون: هو أحق بها في الفلس دون الموت، ومرة يشبهون ذلك بالموت الذي فاتت فيه فيقولون: هو أسوة الغرماء ومثال ذلك اختلافهم فيمن استؤجر على سقي حائط فسقاه حتى أثمر الحائط ثم أفلس المستأجر فإنهم قالوا فيه الثلاثة الأقوال. وتشبيه بيع المنافع في هذا الباب ببيع الرقاب هو شيء - فيما أحسب - انفرد به مالك دون فقهاء الأمصار، وهو ضعيف لأن قياس الشبه المأخوذ من الموضع المفارق للأصول يضعف، ولذلك ضعف عند قوم القياس على موضع الرخص، ولكن انقدح هنالك قياس علة، فهو أقوى؛ ولعل المالكية تدعى وجود هذا المعنى في القياس، ولكن هذا كله ليس يليق بهذا المختصر. ومن هذا الباب اختلافهم في العبد المفلس المأذون له في التجارة هل يتبع بالدين في رقبته أم لا؟ فذهب مالك وأهل الحجاز إلى أنه إنما يتبع بما في يده لا في رقبته، ثم إن أعتق بما بقي عليه ورأى قوم أنه يباع، ورأى قوم أن الغرماء يخيرون بين بيعه وبين أن يسعى فيما بقي عليه من الدين، وبه قال شريح، وقالت طائفة: بل يلزم سيده ما عليه وإن لم يشترطه، فالذين لم يروا بيع رقبته قالوا: إنما عامل الناس على ما في يده فأشبه الحر، والذين رأوا بيعه شبهوا ذلك بالجنايات التي يجني، وأما الذين رأوا الرجوع على السيد بما عليه من الدين فإنهم شبهوا ماله بمال السيد إذ كان له انتزاعه. فسبب الخلاف هو تعارض أقيسة الشبه في هذه المسألة، ومن هذا المعنى إذا أفلس العبد والمولى معا بأي يبدأ، هل بدين العبد، أم بدين المولى؟ فالجمهور يقولون: بدين العبد، لأن الذين داينوا العبد إنما فعلوا ذلك ثقة بما رأوا عند العبد من المال، والذين داينوا المولى لم يعتدوا بمال العبد، ومن رأى البدء بالمولى قال: لأن مال العبد هو في الحقيقة للمولى. فسبب الخلاف تردد مال العبد بين أن يكون حكمه حكم مال الأجنبي أو حكم مال السيد. وأما قدر ما يترك للمفلس من ماله فقيل في المذهب: يترك له ما يعيش به هو وأهله وولده الصغار الأيام؛ وقال في الواضحة والعتبية: الشهر ونحوه، ويترك له كسوة مثله؛ وتوقف مالك في كسوة زوجته لكونها هل تجب لها بعوض مقبوض، وهو الانتفاع بها أو بغير عوض؛ وقال سحنون لا يترك له كسوة زوجته؛ وروى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له إلا ما يواريه، وبه قال ابن كنانة. واختلفوا في بيع كتب العلم عليه على قولين: وهذا مبني على كراهية بيع الكتب الفقه أو لا كراهية ذلك. وأما معرفة الديون التي يحاص بها من الديون التي لا يحاص بها على مذهب مالك فإنها تنقسم أولا إلى قسمين: أحدهما أن تكون واجبة عن عوض. والثاني أن تكون واجبة من غير عوض. فأما الواجبة عن عوض، فإنها تنقسم إلى عوض مقبوض وإلى عوض غير مقبوض، فأما ما كانت عن عوض مقبوض، وسواء كانت مالا أو أرش جناية، فلا خلاف في المذهب أن محاصة الغرماء بها واجبة. وأما ما كان عن عوض غير مقبوض، فإن ذلك ينقسم خمسة أقسام: أحدها أن لا يمكنه دفع العوض بحال كنفقة الزوجات لما يأتي من المدة، والثاني أن لا يمكنه دفع العوض، ولكن يمكنه دفع ما يستوفي فيه، مثل أن يكتري الرجل الدار بالنقد، أو يكون العرف فيه النقد، ففلس المكتري قبل أن يسكن أو بعد ما سكن بعض السكنى وقبل أن يدفع الكراء. والثالث أن يكون دفع العوض يمكنه وطرحه كرأس مال السلم إذا أفلس المسلم إليه قبل دفع رأس المال. والرابع أن يمكنه دفع العوض ولا يلزمه مثل السلعة إذا باعها ففلس المبتاع قبل أن يدفعها إليه البائع. والخامس أن لا يكون إليه تعجيل دفع العوض، مثل أن يسلم الرجل إلى الرجل دنانير في عروض إلى أجل فيفلس المسلم قبل أن يدفع رأس المال وقبل أن يحل أجل السلم. فأما الذي لا يمكنه دفع العوض بحال فلا محاصة في ذلك إلا في مهور الزوجات إذا فلس الزوج قبل الدخول. وأما الذي لا يمكنه دفع العوض ويمكنه دفع ما يستوفي منه، مثل المكتري يفلس قبل دفع الكراء، فقيل للمكري المحاصة بجميع الثمن وإسلام الدار للغرماء، وقيل ليس له إلا المحاصة بما سكن ويأخذ داره، وإن كان لم يسكن فليس له إلا أخذ داره. وأما ما يمكنه دفع العوض ويلزمه وهو إذا كان العوض عينا، فقيل يحاص به الغرماء في الواجب له بالعوض ويدفعه، فقيل هو أحق به وعلى هذا لا يلزمه دفع العوض. وأما ما يمكنه دفع العوض ولا يلزمه فهو بالخيار بين المحاصة والإمساك، وذلك هو إذا كان العوض عينا. وأما إذا لم يكن إليه تعجيل العوض مثل أن يفلس المسلم قبل أن يدفع رأس المال، وقبل أن يحل أجل السلم، فإن رضي المسلم إليه أن يعجل العروض ويحاصص الغرماء برأس مال السلم فذلك جائز إن رضي بذلك الغرماء، فإن أبى ذلك أحد الغرماء حاص الغرماء برأس المال الواجب له فيما وجد للغريم من مال وفى العروض التي عليه إذا حلت لأنها من مال المفلس، وإن شاءوا أن يبيعوها بالنقد ويتحاصوا فيها كان ذلك لهم. وأما ما كان من الحقوق الواجبة عن غير عوض فإن ما كان منها غير واجب بالشرع بل بالالتزام كالهبات والصدقات فلا محاصة فيها. وأما ما كان منها واجبا بالشرع كنفقة الآباء والأبناء، ففيها قولان: أحدهما أن المحاصة لا تجب بها، وهو قول ابن القاسم. والثاني أنها تجب بها إذا لزمت بحكم من السلطان، وهو قول أشهب. وأما النظر الخامس وهو معرفة وجه التحاص، فإن الحكم في ذلك أن يصرف مال الغريم من جنس ديون الغرماء، وسواء كان مال الغرماء من جنس واحد أو من أجناس مختلفة، إذ كان لا يقتضي في الديون إلا ما هو من جنس الدين إلا أن يتفقوا من ذلك على شيء يجوز. واختلفوا من هذا الباب في فرع طارئ، وهو إذا هلك مال المحجور عليه بعد الحجر وقبل قبض الغرماء: ممن مصيبته؟ فقال أشهب: مصيبته من المفلس، وقال ابن الماجشون: مصيبته من الغرماء إذا وقفه السلطان. وقال ابن القاسم: ما يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغريم لأنه إنما يباع على ملكه، وما لا يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغرماء مثل أن يكون المال عينا والدين عينا، كلهم روى قوله عن مالك. وفرق أصبغ بين الموت والفلس فقال: المصيبة في الموت من الغرماء، وفي الفلس من المفلس. فهذا هو القول في أصول أحكام المفلس الذي له من المال ما لا يفي بديونه. وأما المفلس الذي لا مال له أصلا، فإن فقهاء الأمصار مجمعون على أن العدم له تأثير في إسقاط الدين إلى وقت ميسرته، إلا ما حكي عن عمر بن عبد العزيز أن لهم أن يؤاجروه، وقال به أحمد من فقهاء الأمصار، وكلهم مجمعون على أن المدين إذا ادعى الفلس ولم يعلم صدقه أنه يحبس حتى يتبين صدقه أو يقر له بذلك صاحب الدين، فإذا كان ذلك خلي سبيله. وحكي عن أبي حنيفة أن لغرمائه أن يدوروا معه حيث دار، وإنما صار الكل إلى القول بالحبس في الديون، وإن كان لم يأت في ذلك أثر صحيح، لأن ذلك أمر ضروري في استيفاء الناس حقوقهم بعضهم من بعض، وهذا دليل على القول بالقياس الذي يقتضي المصلحة، وهو الذي يسمى بالقياس المرسل. وقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام حبس رجلا في تهمة، خرجه فيما أحسب أبو داود والمحجورون عند مالك: السفهاء والمفلسون والعبيد والمرضى والزوجة فيما فوق الثلث لأنه يرى أن للزوج حقا في المال، وخالفه في ذلك الأكثر. وهذا القدر كاف بحسب غرضنا في هذا الكتاب. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
- 2*كتاب الصلح.
@-والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى {والصلح خير} وما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام مرفوعا وموقوفا على عمر "إمضاء الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا" واتفق المسلمون على جوازه على الإقرار، واختلفوا في جوازه على الإنكار، فقال مالك وأبو حنيفة: يجوز على الإنكار؛ وقال الشافعي: لا يجوز على الإنكار لأنه من أكل المال بالباطل من غير عوض؛ والمالكية تقول فيه عوض، وهو سقوط الخصومة واندفاع اليمين عنه، ولا خلاف في مذهب مالك أن الصلح الذي يقع على الإقرار يراعي في صحته ما يراعي في البيوع، فيفسد بما تفسد به البيوع من أنواع الفساد الخاص بالبيوع ويصح بصحته، وهذا هو مثل أن يدعي إنسان على آخر دراهم فيصالحه عليها بعد الإقرار بدنانير نسيئة، وما أشبه هذا من البيوع الفاسدة من قبل الربا والغرر. وأما الصلح على الإنكار فالمشهور فيه عن مالك وأصحابه أنه يراعي فيه من الصحة ما يراعي في البيوع، مثل أن يدعي إنسان على آخر دراهم فينكر ثم يصالحه عليها بدنانير مؤجلة، فهذا لا يجوز عند مالك وأصحابه؛ وقال أصبغ: هو جائز، لأن المكروه فيه من الطرف الواحد، وهو من جهة الطالب لأنه يعترف أنه أخذ دنانير نسيئة في دراهم حلت له. وأما الدافع فيقول: هي هبة مني. وأما إن ارتفع المكروه من الطرفين، مثل أن يدعي كل واحد منهما على صاحبه دنانير أو دراهم فينكر كل واحد منهما صاحبه، ثم يصطلحان على أن يؤخر كل واحد منهما صاحبه فيما يدعيه قبله إلى أجل، فهذا عندهم هو مكروه، أما كراهيته فمخافة أن يكون كل واحد منهما صادقا، فيكون كل واحد منهما قد أنظر صاحبه لإنظار الآخر إياه فيدخله أسلفني وأسلفك. وأما وجه جوازه فلأن كل واحد منهما إنما يقول ما فعلت إنما هو تبرع مني، وما كان يجب علي شيء، وهذا النحو من البيوع قيل إنه يجوز إذا وقع، وقال ابن الماجشون يفسخ إذا وقع عليه أثر عقده، فإن طال مضى، فالصلح الذي يقع فيه مما لا يجوز في البيوع هو في مذهب مالك على ثلاثة أقسام: صلح يفسخ باتفاق، وصلح يفسخ باختلاف، وصلح لا يفسخ باتفاق إن طال وإن لم يطل فيه اختلاف. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
- 2*كتاب الكفالة.
@-واختلف العلماء في نوعها وفي وقتها، وفي الحكم اللازم عنها، وفي شروطها، وفي صفة لزومها، وفي محلها. ولها أسماء: كفالة، وحمالة، وضمانة، وزعامة. فأما أنواعها فنوعان: حمالة بالنفس، وحمالة بالمال. أما الحمالة بالمال فثابتة بالسنة ومجمع عليها من الصدر الأول ومن فقهاء الأمصار. وحكي عن قوم أنها ليست لازمة تشبيها بالعدة وهو شاذ. والسنة التي صار إليها الجمهور في ذلك هو قوله عليه الصلاة والسلام "الزعيم غارم". وأما الحمالة بالنفس وهي التي تعرف بضمان الوجه، فجمهور فقهاء الأمصار على جواز وقوعها شرعا إذا كانت بسبب المال. وحكي عن الشافعي في الجديد أنها لا تجوز، وبه قال داود، وحجتهما قوله تعالى {معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} ولأنها كفالة بنفس فأشبهت الكفالة في الحدود. وحجة من أجازها عموم قوله عليه الصلاة والسلام "الزعيم غارم" وتعلقوا بأن في ذلك مصلحة، وأنه مروي عن الصدر الأول وأما الحكم اللازم عنها، فجمهور القائلين بحمالة النفس متفقون على أن المتحمل عنه إذا مات لم يلزم الكفيل بالوجه شيء، وحكي عن بعضهم لزوم ذلك. وفرق ابن القاسم بين أن يموت الرجل حاضرا أو غائبا فقال: إن مات حاضرا لم يلزم الكفيل شيء، وإن مات غائبا نظر، فإن كانت المسافة التي بين البلدين مسافة يمكن الحميل فيها إحضاره في الأجل المضروب له في إحضاره، وذلك في نحو اليومين إلى الثلاثة ففرط غرم وإلا لم يغرم. واختلفوا إذا غاب المتحمل عنه ما حكم الحميل بالوجه على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يلزمه أن يحضره أو يغرم، وهو قول مالك وأصحابه وأهل المدينة. والقول الثاني إنه يحبس الحميل إلى أن يأتي به أو يعلم موته، وهو قول أبي حنيفة وأهل العراق. والقول الثالث إنه ليس عليه إلا أن يأتي به إذا علم موضعه، ومعنى ذلك أن لا يكلف إحضاره إلا مع العلم بالقدرة على إحضاره، فإن ادعى الطالب معرفة موضعه على الحميل، وأنكر الحميل كلف الطالب بيان ذلك. قالوا: ولا يحبس الحميل إلا إذا كان المتحمل عنه معلوم الموضع، فيكلف حينئذ إحضاره، وهذا القول حكاه أبو عبيد القاسم ابن سلام في كتابه في الفقه عن جماعة من الناس واختاره. وعمدة مالك أن المتحمل بالوجه غارم لصاحب الحق فوجب عليه الغرم إذا غاب، وربما احتج لهم بما روي عن ابن عباس "أن رجلا سأل غريمه أن يؤدي إليه ماله أو يعطيه حميلا، فلم يقدر حتى حاكمه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فتحمل عنه رسول الله ﷺ ثم أدى المال إليه" قالوا: فهذا غرم في الحمالة المطلقة. وأما أهل العراق فقالوا: إنما يجب عليه إحضار ما تحمل به وهو النفس، فليس يجب أن يعدى ذلك إلى المال إلا لو شرطه على نفسه، وقد قال عليه الصلاة والسلام "المؤمنون عند شروطهم" فإنما عليه أن يحضره أو يحبس فيه، فكما أنه إذا ضمن المال فإنما عليه أن يحضر المال أو يحبس فيه، كذلك الأمر في ضمان الوجه. وعمدة الفريق الثالث أنه إنما يلزمه إحضاره إذا كان إحضاره له مما يمكن، وحينئذ يحبس إذا لم يحضره، وأما إذا علم أن إحضاره له غير ممكن فليس يجب عليه إحضاره كما أنه إذا مات ليس عليه إحضاره. قالوا: ومن ضمن الوجه فأغرم المال فهو أحرى أن يكون مغرورا من أن يكون غارا. فأما إذا اشترط الوجه دون المال وصرح بالشرط فقد قال مالك: إن المال لا يلزمه، ولا خلاف في هذا فيما أحسب، لأنه كان يكون قد ألزم ضد ما اشترط، فهذا هو حكم ضمان الوجه. وأما حكم ضمان المال فإن الفقهاء متفقون على أنه إذا عدم المضمون أو غاب أن الضامن غارم. واختلفوا إذا حضر الضامن والمضمون وكلاهما موسر، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحق: للطالب أن يؤاخذ من شاء من الكفيل أو المكفول؛ وقال مالك في أحد قوليه: ليس له أن يأخذ الكفيل مع وجود المتكفل عنه. وله قول آخر مثل قول الجمهور. وقال أبو ثور: الحمالة والكفالة واحدة، ومن ضمن عن رجل مالا لزمه وبرئ المضمون، ولا يجوز أن يكون مال واحد على اثنين، وبه قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة. ومن الحجة لما رأى أن الطالب يجوز له مطالبة الضامن كان المضمون عنه غائبا أو حاضرا، غنيا أو عديما حديث قبيصة بن المخارقي قال "تحملت حمالة فأتيت النبي ﷺ فسألته عنها، فقال: تخرجها عنك من إبل الصدقة يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا في ثلاث، وذكر رجلا تحمل حمالة رجل حتى يؤديها" ووجه الدليل من هذا النبي ﷺ أباح المسألة للمتحمل دون اعتبار حال المتحمل عنه. وأما محل الكفالة فهي الأموال عند جمهور أهل العلم لقوله عليه الصلاة والسلام "الزعيم غارم" أعني كفالة المال وكفالة الوجه، وسواء تعلقت الأموال من قبل أموال أو من قبل حدود مثل المال الواجب في قتل الخطأ أو الصلح في قتل العمد أو السرقة التي ليس يتعلق بها قطع وهي ما دون النصاب أو من غير ذلك. وروي عن أبي حنيفة إجازة الكفالة في الحدود القصاص، أو في القصاص دون الحدود وهو قول عثمان البتي: أعني كفالة النفس. وأما وقت وجوب الكفالة بالمال أعني مطالبته بالكفيل، فأجمع العلماء على أن ذلك بعد ثبوت الحق على المكفول إما بإقرار وإما ببينة. وأما وقت وجوب الكفالة بالوجه، فاختلفوا هل تلزم قبل إثبات الحق أم لا؟ فقال قوم: إنها لا تلزم قبل إثبات الحق بوجه من الوجوه، وهو قول شريح القاضي والشعبي، وبه قال سحنون من أصحاب مالك. وقال قوم: بل يجب أخذ الكفيل بالوجه على إثبات الحق، وهؤلاء اختلفوا متى يلزم ذلك؟، وإلى كم من المدة يلزم؟ فقال قوم: إن أتى بشبهة قوية مثل شاهد واحد لزمه أن يعطي ضامنا بوجهه حتى يلوح حقه وإلا لم يلزمه الكفيل إلا أن يذكر بينة حاضرة في المصر فيعطيه حميلا من الخمسة الأيام إلى الجمعة، وهو قول ابن القاسم من أصحاب مالك، وقال أهل العراق: لا يؤخذ عليهم حميل قبل ثبوت الحق إلا أن يدعي بينة حاضرة في المصر نحو قول ابن القاسم، إلا أنهم حدوا ذلك بالثلاثة الأيام يقولون إنه أن أتى بشبهة لزمه أن يعطيه حميلا حتى يثبت دعواه أو تبطل، وقد أنكروا الفرق في ذلك والفرق بين الذي يدعي البينة الحاضرة والغائبة، وقالوا: لا يؤخذ حميل على أحد إلا ببينة، وذلك إلى بيان صدق دعواه أو إبطالها. وسبب هذا الاختلاف تعارض وجه العدل بين الخصمين في ذلك، فإنه إذا لم يؤخذ عليه ضامن بمجرد الدعوى لم يؤمن أن يغيب بوجهه فيعنت طالبه، وإذا أخذ عليه لم يؤمن أن تكون الدعوى باطلة فيعنت المطلوب، ولهذا فرق من فرق بين دعوى البينة الحاضرة والغائبة. وروي عن عراك بن مالك قال "أقبل نفر من الأعراب معهم ظهر فصحبهم رجلان فباتا معهم، فأصبح القوم وقد فقدوا كذا وكذا من إبلهم، فقال رسول الله ﷺ لأحد الرجلين: اذهب واطلب وحبس الآخر، فجاء بما ذهب، فقال رسول الله ﷺ لأحد الرجلين: استغفر لي، فقال: غفر الله لك، قال: وأنت فعفر الله لك وقتلك في سبيله" خرج هذا الحديث أبو عبيد في كتابه بالفقه قال: وحمله بعض العلماء على أن ذلك كان من رسول الله حبسا قال: ولا يعجبني ذلك، لأنه لا يجب الحبس بمجرد الدعوى، وإنما هو عندي من باب الكفالة بالحق الذي لم يجب إذا كانت هنالك شبهة لمكان صحبتهما لهم. فأما أصناف المضمونين فليس يلحق من قبل ذلك اختلاف مشهور لاختلافهم في ضمان الميت إذا كان عليه دين ولم يترك وفاء بدينه، فأجازه مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يجوز. واستدل أبو حنيفة من قبل أن الضمان لا يتعللق بمعلوم قطعا، وليس كذلك المفلس. واستدل من رأى أن الضمان يلزمه بما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في صدر الإسلام لا يصلي على من مات وعليه دين حتى يضمن عنه. والجمهور يصح عندهم كفالة المحبوس والغائب، ولا يصح عند أبي حنيفة. وأما شروط الكفالة فإن أبا حنيفة والشافعي يشترطان في وجوب رجوع الضامن على المضمون بما أدى عنه أن يكون الضمان بإذنه، ومالك لا يشترط ذلك، ولا تجوز عند الشافعي كفالة المجهول ولا الحق الذي لم يجب بعد، وكل ذلك لازم وجائز عند مالك وأصحابه. وأما ما تجوز فيه الحمالة بالمال مما لا تجوز، فإنها لا تجوز عند مالك بكل مال ثابت في الذمة إلا الكتابة وما لا يجوز فيه التأخير، وما يستحق شيئا فشيئا مثل النفقات على الأزواج، وما شاكلها. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
- 2*كتاب الحوالة.
@-والحوالة معاملة صحيحة مستثناة من الدين بالدين، لقوله عليه الصلاة والسلام "مطل الغني ظلم وإذا أحيل أحدكم على غني فليستحل" والنظر في شروطها وفي حكمها، فمن الشروط اختلافهم في اعتبار رضا المحال والمحال عليه، فمن الناس من اعتبر رضا المحال ولم يعتبر رضا المحال عليه، وهو مالك؛ ومن الناس من اعتبر رضاهما معا؛ من الناس من لم يعتبر رضا المحال واعتبر رضا المحال عليه، وهو نقيض مذهب مالك، وبه قال داود، فمن رأى أنها معاملة اعتبر رضا الصنفين، ومن أنزل المحال عليه من المحال منزلته من المحيل لم يعتبر رضاه معه كما لا يعتبره مع المحيل إذا طلب منه حقه ولم يحل عليه أحدا. وأما داود فحجته ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام "إذا أحيل أحدكم على ملئ فليتبع" والأمر على الوجوب، وبقي المحال عليه من الأصل، وهو اشتراط اعتبار رضاه. ومن الشروط التي اتفق عليها في الجملة كون ما على المحال عليه مجانسا لما على المحيل قدرا ووصفا، إلا أن منهم من أجازها في الذهب والدراهم فقط ومنعها في الطعام، والذين منعوها في ذلك رأوا أنها من باب بيع الطعام قبل أن يستوفي، لأنه باع الطعام الذي كان له على غريمه بالطعام الذي كان عليه، وذلك قبل أن يستوفيه من غريمه؛ وأجاز ذلك مالك إذا كان الطعامان كلاهما من قرض إذا كان دين المحال حالا. وأما إن كان أحدهما من سلم فإنه لا يجوز إلا أن يكون الدينان حالين؛ وعند ابن القاسم وغيره من أصحاب مالك يجوز ذلك إذا كان الدين المحال به حالا؛ ولم يفرق بين ذلك الشافعي، لأنه كالبيع في ضمان المستقرض وإنما رخص مالك في القرض لأنه يجوز عنده بيع القرض قبل أن يستوفي. وأما أبو حنيفة فأجاز الحوالة بالطعام وشبهها بالدراهم وجعلها خارجة عن الأصول كخروج الحوالة بالدراهم، والمسألة مبنية على أن ما شذ عن الأصول هل يقاس عليه أم لا؟ والمسألة مشهورة في أصول الفقه، وللحوالة عند مالك ثلاثة شروط: أحدها أن يكون دين المحال حالا، لأنه إن لم يكن حالا كان دينا بدين. والثاني أن يكون الدين الذي يحيله به مثل الذي يحيله عليه في القدر والصفة، لأنه إذا اختلفا في أحدهما كان بيعا ولم يكن حوالة، فخرج من باب الرخصة إلى باب البيع، وإذا خرج من باب البيع دخله الدين بالدين. والشرط الثالث أن لا يكون الدين طعاما من سلم أو أحدهما ولم يحل الدين المستحال به على مذهب ابن القاسم، وإذا كان الطعامان جميعا من سلم فلا تجوز الحوالة بأحدهما على الآخر حلت الآجال أو لم تحل، أو حل أحدهما ولم يحل الآخر، لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفي كما قلنا، لكن أشهب يقول إن استوت رؤوس أموالهما جازت الحوالة وكانت تولية؛ وابن القاسم لا يقول ذلك كالحال إذا اختلفت ويتنزل المحال في الدين الذي أحيل عليه منزلة من أحاله، ومنزلته في الدين الذي أحاله به، وذلك فيما يريد أن يأخذ بذله منه أو يبيعه له من غيره، أعني أنه لا يجوز له من ذلك إلا ما يجوز له مع الذي أحاله وما يجوز للذي أحال مع الذي أحاله عليه، ومثال ذلك إن احتال بطعام كان له من قرض في طعام من سلم أو بطعام من سلم في طعام من قرض لم يجز له أن يبيعه من غيره قبل قبضه منه، لأنه إن كان احتال بطعام كان من قرض في طعام من سلم نزل منزلة المحيل في أنه لا يجوز له بيع ما على غريمه قبل أن يستوفيه لكونه طعاما من بيع، وإن كان احتال بطعام من سلم في طعام من قرض نزل من المحتال عليه منزلته مع من أحاله، أعني أنه ما كان يجوز له أن يبيع الطعام الذي كان على غريمه المحيل له قبل أن يستوفيه، كذلك لا يجوز أن يبيع الطعام الذي أحيل عليه وإن كان من قرض، وهذا كله مذهب مالك، وأدلة هذه الفروق ضعيفة. وأما أحكامها فإن جمهور العلماء على أن الحوالة ضد الحمالة، في أنه إذا أفلس المحال عليه لم يرجع صاحب الدين على المحيل بشيء؛ قال مالك وأصحابه: إلا أن يكون المحيل غره فأحاله على عديم؛ وقال أبو حنيفة: يرجع صاحب الدين على المحيل إذا مات المحال عليه مفلسا أو جحد الحوالة وإن لم تكن له بينة، وبه قال شريح وعثمان البتي وجماعة. وسبب اختلافهم مشابهة الحوالة للحمالة. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
- 2*كتاب الوكالة
@-وفيها ثلاثة أبواب: الباب الأول: في أركانها، وهي النظر فيما فيه التوكيل، وفي الموكل. والثاني في أحكام الوكالة. والثالث: في مخالفة الموكل للوكيل.
- 3*الباب الأول في أركانها، وهي النظر فيما فيه التوكيل، وفي الموكِل، وفي الموَكل.
@-(الركن الأول: في الموكل) واتفقوا على وكالة الغائب والمريض والمرأة المالكين لأمور أنفسهم، واختلفوا في وكالة الحاضر الذكر الصحيح، فقال مالك: تجوز وكالة الحاضر الصحيح الذكر، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: لا تجوز وكالة الصحيح الحاضر ولا المرأة إلا أن تكون برزة. فمن رأى أن الأصل لا ينوب فعل الغير عن فعل الغير إلا ما دعت إليه الضرورة وانعقد الإجماع عليه قال: لا تجوز نيابة من اختلف في نيابته؛ ومن رأى أن الأصل هو الجواز قال: الوكالة في كل شيء جائزة إلا فيما أجمع على أنه لا تصح فيه من العبادات وما جرى مجراها. @-(الركن الثاني: في الوكيل) وشروط الوكيل أن لا يكون ممنوعا بالشرع من تصرفه في الشيء الذي وكل فيه، فلا يصح توكيل الصبي ولا المجنون ولا المرأة عند مالك والشافعي على عقد النكاح. أما عند الشافعي فلا بمباشرة ولا بواسطة: أي بأن توكل هي من يلي عقد النكاح، ويجوز عند مالك بالواسطة الذكر. @-(الركن الثالث: فيما فيه التوكيل) وشرط محل التوكيل أن يكون قابلا للنيابة مثل البيع والحوالة والضمان وسائر العقود والفسوخ والشركة والوكالة والمصارفة والمجاعلة والمساقاة والطلاق والنكاح والخلع والصلح. ولا تجوز في العبادات البدنية، وتجوز في المالية كالصدقة والزكاة والحج، وتجوز عند مالك في الخصومة على الإقرار والإنكار؛ وقال الشافعي في أحد قوليه: لا تجوز على الإقرار، وشبه ذلك بالشهادة والإيمان، وتجوز الوكالة على استيفاء العقوبات عند مالك وعند الشافعي مع الحضور قولان: والذين قالوا إن الوكالة تجوز على الإقرار اختلفوا في مطلق الوكالة على الخصومة هل يتضمن الإقرار أم لا؟ فقال مالك: لا يتضمن، وقال أبو حنيفة: يتضمن. @-(الركن الرابع) وأما الوكالة فهي عقد يلزم بالإيجاب والقبول كسائر العقود، وليست هي من العقود اللازمة بل الجائزة على ما نقوله في أحكام هذا العقد، وهي ضربان عند مالك عامة وخاصة، فالعامة هي التي تقع عنده بالتوكيل العام الذي لا يسمى فيه شيء دون شيء وذلك أنه إن سمي عنده لم ينتفع بالتعميم والتفويض؛ وقال الشافعي: لا تجوز الوكالة بالتعميم وهي غرر، وإنما يجوز منها ما سمي وحدد ونص عليه، وهو الأقيس إذ كان الأصل فيها المنع، إلا ما وقع عليه الإجماع.
- 3*الباب الثاني في الأحكام.
@-وأما الأحكام: فمنها أحكام العقد، ومنها أحكام فعل الوكيل. فأما هذا العقد فهو كما قلنا عقد غير لازم للوكيل أن يدع الوكالة متى شاء عند الجميع، لكن أبو حنيفة يشترط في ذلك حضور الموكل، وللموكل أن يعزله متى شاء قالوا: إلا أن تكون وكالة في خصومة. وقال أصبغ: له ذلك ما لم يشرف على تمام الحكم، وليس للوكيل أن يعزل نفسه في الموضع الذي لا يجوز أن يعزله الموكل، وليس من شروط انعقاد هذا العقد حضور الخصم عند مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: ذلك من شروطه. وكذلك ليس من شرط إثباتها عند الحاكم حضوره عند مالك. وقال الشافعي: من شرطه. واختلف أصحاب مالك هل تنفسخ الوكالة بموت الموكل على قولين، فإذا قلنا تنفسخ بالموت كما تنفسخ بالعزل فمتى يكون الوكيل معزولا، والوكالة منفسخة في حق من عامله في المذهب فيه ثلاثة أقوال: الأول أنها تنفسخ في حق الجميع بالموت والعزل. والثاني أنها تنفسخ في حق كل واحد منهم بالعلم، فمن علم انفسخت في حقه ومن لم يعلم لم تنفسخ في حقه. والثالث أنها تنفسخ في حق من عامل الوكيل بعلم الوكيل وإن لم يعلم هو، ولا تنفسخ في حق الوكيل بعلم الذي عامله إذا لم يعلم الوكيل، ولكن من دفع إليه شيئا بعد العلم بعزله ضمنه، لأنه دفع إلى من يعلم أنه ليس بوكيل. وأما أحكام الوكيل ففيها مسائل مشهورة: أحدها إذا وكل على بيع شيء هل يجوز له أن يشتريه لنفسه؟ فقال مالك: يجوز، وقد قيل عنه: لا يجوز؛ وقال الشافعي: لا يجوز، وكذلك عند مالك الأب والوصي. ومنها إذا وكله في البيع وكالة مطلقة لم يجز له عند مالك أن يبيع إلا بثمن مثله نقدا بنقد البلد، ولا يجوز إن باع نسيئة، أو بغير نقد البلد، أو بغير ثمن المثل، وكذلك الأمر عنده في الشراء؛ وفرق أبو حنيفة بين البيع والشراء لمعين فقال: يجوز في البيع أن يبيع بغير ثمن المثل، وأن يبيع نسيئة، ولم يجز إذا وكله في شراء عبد بعينه أن يشتريه إلا بثمن المثل نقدا، ويشبه أن يكون أبو حنيفة إنما فرق بين الوكالة على شراء شيء بعينه، لأن من حجته أنه كما أن الرجل قد يبيع الشيء بأقل من ثمن مثله ونساء لمصلحة يراها في ذلك كله، كذلك حكم الوكيل إذ قد أنزله منزلته، وقول الجمهور أبين، وكل ما يعتدي فيه الوكيل ضمن عند من يرى أنه تعدى، وإذا اشترى الوكيل شيئا وأعلم أن الشراء للموكل فالملك ينتقل إلى الموكل؛ وقال أبو حنيفة: إلى الوكيل أولا ثم إلى الموكل، وإذا دفع الوكيل دينا عن الموكل ولم يشهد فأنكر الذي له الدين القبض ضمن الوكيل.
- 3*الباب الثالث في مخالفة الموكل للوكيل.
@-وأما اختلاف الوكيل مع الموكل، فقد يكون في ضياع المال الذي استقر عند الوكيل، وقد يكون في دفعه إلى الموكل، وقد يكون في مقدار الثمن الذي باع به أو اشترى إذا أمره بثمن محدود، وقد يكون في المثمون، وقد يكون في تعيين من أمره بالدفع إليه، وقد يكون في دعوى التعدي. فإذا اختلفا في ضياع المال فقال الوكيل ضاع مني، وقال الموكل لم يضع، فالقول قول الوكيل إن كان لم يقبضه ببينة، فإن كان المال قد قبضه الوكيل من غريم الموكل لم يشهد الغريم على الدفع لم يبرأ الغريم بإقرار الوكيل عند مالك وغرم ثانية، وهل يرجع الغريم على الوكيل؟ فيه خلاف، وإن كان قد قبضه ببينة برئ ولم يلزم الوكيل شيء. وأما إذا اختلفا في الدفع فقال الوكيل دفعته إليك، وقال الموكل: لا، فقيل القول قول الوكيل. وقيل القول قول الموكل. وقيل إن تباعد ذلك فالقول قول الوكيل. وأمر اختلافهم في مقدار الثمن الذي به أمره بالشراء؛ فقال ابن القاسم: إن لم تفت السلعة فالقول قول المشتري، وإن فاتت فالقول قول الوكيل، وقيل يتحالفان وينفسخ البيع ويتراجعان وإن فاتت بالقيمة وإن كان اختلافهم في مقدار الثمن الذي أمره به في البيع، فعند ابن القاسم أن القول فيه قول الموكل، لأنه جعل دفع الثمن بمنزلة فوات السلعة في الشراء. وأما إذا اختلفا فيمن أمره بالدفع ففي المذهب فيه قولان: المشهور أن القول قول المأمور، وقيل القول قول الآمر. وأما إذا فعل الوكيل فعلا هو تعد وزعم أن الموكل أمره، فالمشهور أن القول قول الموكل، وقد قيل إن القول قول الوكيل إنه أمره قد ائتمنه على الفعل. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
- 2*كتاب اللقطة
@-والنظر في اللقطة في جملتين: الجملة الأولى: في أركانها. والثانية: في أحكامها.
- 3*(الجملة الأولى) والأركان ثلاثة: الالتقاط، والملتقط، واللقطة. فأما الالتقاط فاختلف العلماء هل هو فضل أم الترك؟ فقال أبو حنيفة: الأفضل الالتقاط، لأنه من الواجب على المسلم أن يحفظ مال أخيه المسلم، وبه قال الشافعي؛ وقال مالك وجماعة بكراهية الالتقاط، وروي عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال أحمد، وذلك لأمرين: أحدهما ما روي أنه ﷺ قال "ضالة المؤمن حرق النار" ولما يخاف أيضا من التقصير في القيام بما يجب لها من التعريف وترك التعدي عليها، وتأول الذين رأوا الالتقاط أول الحديث وقالوا: أراد بذلك الانتفاع بها لا أخذها للتعريف؛ وقال قوم: بل لقطها واجب. وقد قيل إن هذا الاختلاف إذا كانت اللقطة بين قوم مأمونين والإمام عادل. قالوا: وإن كانت اللقطة بين قوم غير مأمونين والإمام عادل فواجب التقاطها. وإن كانت بين قوم مأمونين والإمام جائر فالأفضل أن لا يلتقطها. وإن كانت بين قوم غير مأمونين والإمام غير عادل فهو مخير بحسب ما يغلب على ظنه من سلامتها أكثر من أحد الطرفين، وهذا كله ما عدا لقطة الحاج، فإن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز التقاطها لنهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك، ولقطة مكة أيضا لا يجوز التقاطها إلا لمنشد لورود النص في ذلك، والمروي في ذلك لفظان: أحدهما أنه لا ترفع لقطتها إلا لمنشد. الثاني لا يرفع لقطتها إلا منشد، فالمعنى الواحد أنها لا ترفع إلا لمن ينشدها، والمعنى الثاني لا يلتقطها إلا لمن ينشدها ليعرف الناس. وقال مالك: تعرف هاتان اللقتطان أبدا، فأما الملتقط فهو كل حر مسلم بالغ لأنها ولاية، واختلف عن الشافعي في جواز التقاط الكافر. قال أبو حامد: والأصح جواز ذلك في دار الإسلام. قال: وفي أهلية العبد والفاسق له قولان: فوجه المنع عدم أهلية الولاية، ووجه الجواز عموم أحاديث اللقطة. وأما اللقطة بالجملة فإنها كل مال لمسلم معرض للضياع كان ذلك في عامر الأرض أو غامرها، والجماد والحيوان في ذلك سواء إلا الإبل باتفاق. والأصل في اللقطة حديث يزيد بن خالد الجهني، وهو متفق على صحته أنه قال "جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فسأله عن اللقطة، فقال: اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها، قال: فضالة الغنم يا رسول الله؟ قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال: فضالة الإبل، قال: مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها" وهذا الحديث يتضمن معرفة ما يلتقط مما لا يلتقط، ومعرفة حكم ما يلتقط كيف يكون في العام وبعده وبماذا يستحقها مدعيها. فأما الإبل فاتفقوا على أنها لا تلتقط، واتفقوا على الغنم أنها تلتقط، وترددوا في البقر، والنص عن الشافعي أنها كالإبل، وعن مالك أنها كالغنم، وعنه خلاف.
- 3*(الجملة الثانية)
@-وأما حكم التعريف، فاتفق العلماء على تعريف ما كان منها له بال سنة ما لم تكن من الغنم. واختلفوا في حكمها بعد السنة، فاتفق فقهاء الأمصار مالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور إذا انقضت كان له أن يأكلها إن كان فقيرا، أو يتصدق بها إن كان غنيا، فإن جاء صاحبها كان مخيرا بين أن يجيز الصدقة فينزل على ثوابها أو يضمنه إياها. واختلفوا في الغني هل له أن يأكلها أو ينفقها بعد الحول؟ فقال مالك والشافعي: له ذلك؛ وقال أبو حنيفة: ليس له أن يأكلها أو يتصدق بها؛ وروي مثل قوله عن علي وابن عباس وجماعة من التابعين؛ وقال الأوزاعي: إن كان مالا كثيرا جعله في بيت المال؛ وروي مثل قول مالك والشافعي عن عمر وابن مسعود وابن عمر وعائشة. وكلهم متفقون على أنه إن أكلها ضمنها لصاحبها إلا أهل الظاهر. واستدل مالك والشافعي بقوله عليه الصلاة والسلام "فشأنك بها" ولم يفرق بين غني وفقير. ومن الحجة لهما ما رواه البخاري والترمذي عن سويد بن غفلة قال "لقيت أويس بن كعب فقال: وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي ﷺ فقال: عرفها حولا، فعرفتها فلم أجد، ثم أتيته ثلاثا فقال: احفظ وعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها" وخرج الترمذي وأبو داود "فاستنفقها". فسبب الخلاف معارضة ظاهر لفظ حديث اللقطة لأصل الشرع، وهو أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه، فمن غلب هذا الأصل على ظاهر الحديث، وهو قوله بعد التعريف "فشأنك بها" قال: لا يجوز فيها تصرف إلا بالصدقة فقط على أن يضمن إن لم يجز صاحب اللقطة الصدقة؛ ومن غلب ظاهر الحديث على هذا الأصل ورأى أنه مستثنى منه قال: تحل له بعد العام وهي مال من ماله لا يضمنها إن جاء صاحبها، ومن توسط قال: يتصرف بعد العام فيها وإن كانت عينا على جهة الضمان. وأما حكم دفع اللقطة لمن ادعاها، فاتفقوا على أنها لا تدفع إليه إذا لم يعرف العفاص ولا الوكاء، واختلفوا إذا عرف ذلك هل يحتاج مع ذلك إلى بينة أم لا؟ فقال مالك: يستحق بالعلامة ولا يحتاج إلى بينة؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يستحق إلا ببينة. وسبب الخلاف معارضة الأصل في اشتراط الشهادة في صحة الدعوى لظاهر هذا الحديث؛ فمن غلب الأصل قال: لا بد من البينة؛ ومن غلب ظاهر الحديث قال: لا يحتاج إلى بينة. وإنما اشترط الشهادة في ذلك الشافعي وأبو حنيفة لأن قوله عليه الصلاة والسلام "اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها" يحتمل أن يكون إنما أمره بمعرفة العفاص والوكاء لئلا تختلط عنده بغيرها، ويحتمل أن يكون إنما أمره بذلك ليدفعها لصاحبها بالعفاص والوكاء، فلما وقع الاحتمال وجب الرجوع إلى الأصل، فإن الأصول لا تعارض بالاحتمالات المخالفة لها إلا أن تصح الزيادة التي نذكرها بعد؛ وعند مالك وأصحابه أن على صاحب اللقطة أن يصف مع العفاص والوكاء صفة الدنانير والعدد، قالوا: وذلك موجود في بعض روايات الحديث ولفظه "فإن جاء صاحبها ووصف عفاصها ووكاءها وعددها فادفعها إليه" قالوا: ولكن لا يضره الجهل بالعدد إذا عرف العفاص والوكاء، وكذلك إن زاد فيه. واختلفوا إن نقص من العدد على قولين، وكذلك اختلفوا إذا جهل الصفة وجاء بالعفاص والوكاء. وأما إذا غلط فيها فلا شيء له. وأما إذا عرف إحدى العلامتين اللتين وقع النص عليهما وجهل الأخرى فقيل إنه لا شيء له إلا بمعرفتهما جميعا، وقيل يدفع إليه بعد الاستبراء، وقيل إن ادعى الجهالة استبرئ، وإن غلط لم تدفع إليه. واختلف المذهب إذا أتى بالعلامة المستحقة هل يدفع إليه بيمين أو بغير يمين؟ فقال ابن القاسم بغير يمين: وقال أشهب: بيمين. وأما ضالة الغنم، فإن العلماء اتفقوا على أن لواجد ضالة الغنم في المكان القفر البعيد من العمران أن يأكلها لقوله عليه الصلاة والسلام في الشاة "هي لك أو لأخيك أو للذئب" واختلفوا هل يضمن قيمتها لصاحبها أم لا؟ فقال جمهور العلماء إنه يضمن قيمتها؛ وقال مالك في أشهر الأقاويل عنه: إنه لا يضمن. وسبب الخلاف معارضة الظاهر كما قلنا للأصل المعلوم من الشريعة، إلا أن مالكا هنا غلب الظاهر فجرى على حكم الظاهر، ولم يجز كذلك التصرف فيما وجب تعريفه بعد العام لقوة اللفظ ههنا؛ وعنه رواية أخرى أنه يضمن، وكذلك كل طعام لا يبقى إذا خشي عليه التلف إن تركه. وتحصيل مذهب مالك عند أصحابه في ذلك أنها على ثلاثة أقسام: قسم يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه من التلف إن تركه، كالعين والعروض. وقسم لا يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه من التلف إن ترك كالشاة في القفر، والطعام الذي يسرع إليه الفساد. وقسم لا يخشى عليه من التلف. فأما القسم الأول، وهو ما يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف فإنه ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون يسيرا لا بال له ولا قدر لقيمته ويعلم أن صاحبه لا يطلبه لتفاهته، فهذا لا يعرف عنده وهو لمن وجده. والأصل في ذلك ما روي "أن رسول الله ﷺ مر بتمرة في الطريق فقال: لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها" ولم يذكر فيها تعريفا، وهذا مثل العصا والسوط، وإن كان أشهب قد استحسن تعريف ذلك. والثاني أن يكون يسيرا إلا أن له قدر ومنفعة، فهذا لا اختلاف في المذهب في تعريفه. واختلفوا في قدر ما يعرف، فقيل سنة، وقيل أياما. وأما الثالث فهو أن يكون كثيرا أو له قدر، فهذا لا اختلاف في وجوب تعريفه حولا. وأما القسم الثاني وهو ما لا يبقى بيد ملتقطه ويخشى عليه التلف، فإن هذا يأكله كان غنيا أو فقيرا، وهل يضمن؟ فيه روايتان كما قلنا الأشهر أن لا ضمان. واختلفوا إن وجد ما يسرع إليه الفساد في الحاضرة فقيل لا ضمان عليه، وقيل عليه الضمان، وقيل بالفرق بين أن يتصدق به فلا يضمن، أو يأكله فيضمن. وأما القسم الثالث فهو كالإبل، أعني أن الاختيار عنده فيه الترك للنص الوارد في ذلك، فإن أخذها وجب تعريفها، والاختيار تركها؛ وقيل في المذهب هو عام في جميع الأزمنة؛ وقيل إنما هو في زمان العدل، وأن الأفضل في زمان غير العدل التقاطها. وأما ضمانها في الذي تعرف فيه، فإن العلماء اتفقوا على أن من التقطها وأشهد على التقاطها فهلكت عنده أنه غير ضامن، واختلفوا إذا لم يشهد، فقال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن: لا ضمان عليه إن لم يضيع وإن لم يشهد؛ وقال أبو حنيفة وزفر: يضمنها إن هلكت ولم يشهد. استدل مالك والشافعي بأن اللقطة وديعة فلا ينقلها ترك الإشهاد من الأمانة إلى الضمان، قالوا: وهي وديعة بما جاء من حديث سليمان بن بلال وغيره أنه قال: إن جاء صاحبها وإلا فلتكن وديعة عندك. واستدل أبو حنيفة وزفر بحديث مطرف بن الشخير عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله ﷺ "من التقط لقطة فليشهد ذوي عدل عليها ولا يكتم ولا يعنت، فإن جاء صاحبها فهو أحق بها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء". وتحصيل المذهب في ذلك أن واجد اللقطة عند مالك لا يخلو التقاطه لها من ثلاثة أوجه: أحدها أن يأخذها على جهة الاغتيال لها. والثاني أن يأخذها على جهة الالتقاط. والثالث أن يأخذها لا على جهة الالتقاط ولا على جهة الاغتيال، فإن أخذها على جهة الالتقاط فهي أمانة عنده عليه حفظها وتعريفها، فإن ردها بعد أن التقطها فقال ابن القاسم: يضمن؛ وقال أشهب: لا يضمن إذا ردها في موضعها، فإن ردها في غير موضعها ضمن كالوديعة، والقول قوله في تلفها دون يمين إلا أن يتهم. وأما إذا قبضها مغتالا لها فهو ضامن لها، ولكن لا يعرف هذا الوجه إلا من قبله. وأما الوجه الثالث فهو مثل أن يجد ثوبا فيأخذه، وهو يظنه لقوم بين يديه ليسألهم عنه، فهذا إن لم يعرفوه ولا ادعوه كان له أن يرد حيث وجده ولا ضمان عليه باتفاق عند أصحاب مالك. وتتعلق بهذا الباب مسألة اختلف العلماء فيها، وهو العبد يستهلك اللقطة، فقال مالك: إنها في رقبته إما أن يسلمه سيده فيها، وإما أن يفديه بقيمتها، هذا إذا كان استهلاكه قبل الحول، فإن استهلكها بعد الحول كانت دينا عليه ولم تكن في رقبته؛ وقال الشافعي: إن علم بذلك السيد فهو الضامن، وإن لم يعلم بها السيد كانت في رقبة العبد. واختلفوا هل يرجع الملتقط بما أنفق على اللقطة على صاحبها أم لا؟ فقال الجمهور: ملتقط اللقطة متطوع بحفظها فلا يرجع بشيء من ذلك على صاحب اللقطة. وقال الكوفيون: لا يرجع بما أنفق إلا أن تكون النفقة عن إذن الحاكم، وهذه المسألة هي من أحكام الالتقاط، وهذا القدر كاف بحسب غرضنا في هذا الباب.
- 3*باب في اللقيط.
@-والنظر في أحكام الالتقاط وفي الملتقط واللقيط وفي أحكامه. وقال الشافعي كل شيء ضائع لا كافل له فالتقاطه من فروض الكفايات، وفي وجوب الإشهاد عليه خيفة الاسترقاق خلاف، والخلاف فيه مبني على الاختلاف في الإشهاد على اللقطة. واللقيط: هو الصبي الصغير غير البالغ، وإن كان مميزا، ففيه في مذهب الشافعي تردد، والملتقط: هو كل حر عدل رشيد، وليس العبد والمكاتب بملتقط، والكافر يلتقط الكافر دون المسلم، لأنه لا ولاية له عليه، ويلتقط المسلم الكافر، وينزع من يد الفاسق والمبذر، وليس من شرط الملتقط الغنى، ولا تلزم نفقة الملتقط على من التقطه، وإن أنفق لم يرجع عليه بشيء. وأما أحكامه فإنه يحكم له بحكم الإسلام إن التقطه في دار المسلمين ويحكم للطفل بالإسلام بحكم أبيه عند مالك. وعند الشافعي بحكم من أسلم منهما، وبه قال ابن وهب من أصحاب مالك. وقد اختلف في اللقيط فقيل إنه عبد لمن التقطه، وقيل إنه حر وولاؤه لمن التقطه، وقيل إنه حر وولاؤه للمسلمين، وهو مذهب مالك. والذي تشهد له الأصول إلا أن يثبت في ذلك أثر تخصص به الأصول مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ترث المرأة ثلاثة: لقيطها وعتيقها وولدها الذي لا عنت عليه. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
- 2*كتاب الوديعة.
@-وجل المسائل المشهورة بين فقهاء الأمصار في هذا الكتاب هي في أحكام الوديعة: فمنها أنهم اتفقوا على أنها أمانة لا مضمونة، إلا ما حكي عن عمر ابن الخطاب. قال المالكيون: والدليل على أنها أمانة أن الله أمر برد الأمانات ولم يأمر بالإشهاد، فوجب أن يصدق في المستودع في دعواه رد الوديعة مع يمينه إن كذبه المودع، قالوا: إلا أن يدفعها إليه ببينة فإنه لا يكون القول قوله، قالوا: لأنه إذا دفعها إليه ببينة فكأنه ائتمنه على حفظها ولم يأتمنه على ردها، فيصدق في تلفها ولا يصدق على ردها، هذا هو المشهور عن مالك وأصحابه؛ وقد قيل عن ابن القاسم إن القول قوله وإن دفعها إليه ببينة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، وهو القياس، لأنه فرق بين التلف ودعوى الرد، ويبعد أن تنتقد الأمانة وهذا فيمن دفع الأمانة إلى اليد التي دفعتها إليه. وأما من دفعها إلى غير اليد التي دفعتها إليه، فعليه ما على ولي اليتيم من الإشهاد عند مالك وإلا ضمن، يريد قول الله عز وجل {فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم} فإن أنكر القابض القبض فلا يصدق المستودع في الدفع عند مالك وأصحابه إلا ببينة، وقد قيل إنه يتخرج من المذهب أنه يصدق في ذلك، وسواء عند مالك أمر صاحب الوديعة بدفعها إلى الذي دفعها أو لم يأمر؛ وقال أبو حنيفة: إن كان ادعى دفعها إلى من أمره بدفعها فالقول قول المستودع مع يمينه، فإن أقر المدفوع إليه بالوديعة، أعني إذا كان غير المودع وادعى التلف فلا يخلو أن يكون المستودع دفعها إلى أمانة وهو وكيل المستودع أو إلى ذمة، فإن كان القابض أمينا فاختلف في ذلك قول ابن القاسم فقال مرة: يبرأ الدافع بتصديق القابض، وتكون المصيبة من الآمر الوكيل بالقبض، ومرة قال: لا يبرأ الدافع إلا بإقامة البينة على الدفع أو يأتي القابض بالمال. وأما إن دفع إلى ذمة، مثل أن يقول رجل للذي عنده الوديعة ادفعها إلي سلفا أو تسلفا في سلعة أو ما أشبه ذلك، فإن كانت الذمة قائمة برئ الدافع في المذهب من غير خلاف، وإن كانت الذمة خربة فقولان. والسبب في هذا اختلافهم كله أن الأمانة تقوي دعوى المدعي حتى يكون القول قوله مع يمينه؛ فمن شبه أمانة الذي أمره المودع أن يدفعها إليه، أعني الوكيل بأمانة المودع عنده قال: يكون القول قوله في دعواه التلف كدعوى المستودع عنده؛ ومن رأى أن تلك الأمانة أضعف قال: لا يبرأ الدافع بتصديق القابض مع دعوى التلف؛ ومن رأى المأمور بمنزلة الآمر قال: القول قول الدافع للمأمور كما كان القول قوله مع الآمر، وهو مذهب أبي حنيفة؛ ومن رأى أنه أضعف منه قال: الدافع ضامن إلا أن يحضر القابض المال، وإذا أودعها بشرط الضمان فالجمهور على أنه لا يضمن، وقال الغير: يضمن. وبالجملة فالفقهاء يرون بأجمعهم أنه لا ضمان على صاحب الوديعة إلا أن يتعدى ويختلفون في أشياء هل هي تعد أم ليس بتعد؟ فمن مسائلهم المشهورة في هذا الباب إذا أنفق الوديعة ثم رد مثلها أو أخرجها لنفقته ثم ردها، فقال مالك: يسقط عنه الضمان بحالة مثل إذا ردها؛ وقال أبو حنيفة: إن ردها بعينها قبل أن ينفقها لم يضمن، وإن رد مثلها ضمن؛ وقال عبد الملك والشافعي: يضمن في الوجهين جميعا؛ فمن غلظ الأمر ضمنه إياها بتحريكها ونية استنفاقها؛ ومن رخص لم يضمنها إذا أعاد مثلها. ومنها اختلافهم في السفر بها، فقال مالك ليس له أن يسافر بها إلا أن تعطى له في سفر؛ وقال أبو حنيفة: له أن يسافر بها إذا كان الطريق آمنا ولم ينهه صاحب الوديعة. ومنها أنه ليس للمودع عنده أن يودع الوديعة غيره من غير عذر، فإن فعل ضمن؛ وقال أبو حنيفة: إن أودعها عند من تلزمه نفقته لم يضمن، لأنه شبهه بأهل بيته. وعند مالك له أن يستودع ما أودع عند عياله الذين يأمنهم وهم تحت غلقه من زوج أو ولد أو أمة أو من أشبههم. وبالجملة فعند الجميع أنه يجب عليه أن يحفظها مما جرت به عادة الناس أن تحفظ أموالهم، فما كان بينا من ذلك أنه حفظ اتفق عليه، وما كان غير بين أنه حفظ اختلف فيه، مثل اختلافهم في المذهب فيمن جعل وديعة في جيبه فذهبت، والأشهر أنه يضمن. وعند ابن وهب أن من أودع وديعة في المسجد فجعلها على نعله فذهبت أنه لا ضمان عليه، ويختلف في المذهب في ضمانها بالنسيان، مثل أن ينساها في موضع أو أن ينسى من دفعها إليه، أو يدعيها رجلان، فقيل يحلفان وتقسم بينهما، وقيل إنه يضمن لكل واحد منهما، وإذا أراد السفر فله عند مالك أن يودعها عند ثقة من أهل البلد ولا ضمان عليه قدر على دفعها إلى الحاكم أو لم يقدر. واختلف في ذلك أصحاب الشافعي، فمنهم من يقول: إن أودعها لغير الحاكم ضمن. وقبول الوديعة عند مالك لا يجب في حال، ومن العلماء من يرى أنه واجب إذا لم يجد المودع من يودعها عنده، ولا أجر للمودع عنده على حفظ الوديعة، وما تحتاج إليه من مسكن أو نفقة فعلى ربها. واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور، وهو فيمن أودع مالا فتعدى فيه واتجر به فربح فيه، هل ذلك الربح حلال له أم لا؟ فقال مالك والليث وأبو يوسف وجماعة: إذا رد المال طاب له الربح وإن كان غاصبا للمال فضلا عن أن يكون مستودعا عنده؛ وقال أبو حنيفة وزفر ومحمد بن الحسن: يؤدي الأصل ويتصدق بالربح؛ وقال قوم: لرب الوديعة الأصل والربح؛ وقال قوم: هو مخير بين الأصل والربح؛ وقال قوم: البيع الواقع في تلك التجارة فاسد، وهؤلاء هم الذين أوجبوا التصدق بالربح إذا مات. فمن اعتبر التصرف قال: الربح للمتصرف؛ ومن اعتبر الأصل قال: الربح لصاحب المال. ولذلك لما أمر عمر رضي الله عنه ابنيه عبد الله وعبيد الله أن يصرفا المال الذي أسلفهما أبو موسى الأشعري من بيت المال، فتجروا فيه فربحا، قيل له: لو جعلته قراضا، فأجاب إلى ذلك، لأنه قد روي أنه قد حصل للعامل جزء ولصاحب المال جزء، وأن ذلك عدل.