الرئيسيةبحث

بداية المجتهد - كتاب الحج

كتاب الحج. @-بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما. والنظر في هذا الكتاب في ثلاثة أجناس: الجنس الأول. يشتمل على الأشياء التي تجري من هذه العبادة مجرى المقدمات التي تجب معرفتها لعمل هذه العبادة. الجنس الثاني: في الأشياء التي تجري منها مجرى الأركان، وهي الأمور المعمولة أنفسها والأشياء المتروكة. الجنس الثالث: في الأشياء التي تجري منها مجرى الأمور اللاحقة، وهي أحكام الأفعال، وذلك أن كل عبادة فإنها توجد مشتملة على هذه الثلاثة الأجناس.

  • 4*الجنس الأول.

@-وهذا الجنس يشتمل على شيئين: على معرفة الوجوب وشروطها، وعلى من يجب ومتى يجب؟ فأما وجوبه فلا خلاف فيه لقوله سبحانه {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} وأما شروط الوجوب فإن الشروط قسمان: شروط صحة، وشروط وجوب. فأما شروط الصحة فلا خلاف بينهم أن من شروطه الإسلام، إذ لا يصح حج من ليس بمسلم. واختلفوا في صحة وقوعه من الصبي، فذهب مالك والشافعي إلى جواز ذلك، ومنع منه أبو حنيفة. وسبب الخلاف معارضة الأثر في ذلك للأصول، وذلك أن من أجاز ذلك أخذ فيه بحديث ابن عباس المشهور، وخرجه البخاري ومسلم. وفيه "أن المرأة رفعت إليه عليه الصلاة والسلام صبيا فقالت: ألهذ حج يا رسول الله؟ قال: نعم ولك أجر" ومن منع ذلك تمسك بأن الأصل هو أن العبادة لا تصح من غير عاقل، وكذلك اختلف أصحاب مالك في صحة وقوعها من الطفل الرضيع، وينبغي أن لا يختلف في صحة وقوعه ممن يصح وقوع الصلاة منه، وهو كما قال عليه الصلاة والسلام "من السبع إلى العشر" وأما شروط الوجوب فيشترط فيها الإسلام على القول بأن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام، ولا خلاف في اشتراط الاستطاعة في ذلك لقوله تعالى {من استطاع إليه سبيلا} وإن كان في تفصيل ذلك اختلاف وهي بالجملة تتصور على نوعين: مباشرة ونيابة. فأما المباشر فلا خلاف عندهم أن من شرطها الاستطاع بالبدن والمال مع الأمن. واختلفوا في تفصيل الاستطاعة بالبدن والمال، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد: وهو قول ابن عباس وعمر بن الخطاب إن من شرط ذلك الزاد والراحلة. وقال مالك: من استطاع المشي فليس وجود الراحلة من شرط الوجوب في حقه بل يجب عليه الحج، وكذلك ليس الزاد عنده من شرط الاستطاعة إذا كان ممن يمكنه الاكتساب في طريقه ولو بالسؤال. والسبب في هذا الخلاف معارضة الأثر الوارد في تفسير الاستطاعة لعموم لفظها، وذلك أنه ورد أثر عنه عليه الصلاة والسلام "أنه سئل ما الاستطاعة فقال: الزاد والراحلة" فحمل أبو حنيفة والشافعي ذلك على كل مكلف، وحمله مالك على من لا يستطيع المشي ولا له قوة على الاكتساب في طريقه، وإنما اعتقد الشافعي هذا الرأي لأن من مذهبه إذا ورد الكتاب مجملا، فوردت السنة بتفسير ذلك المجمل أنه ليس ينبغي العدول عن ذلك التفسير. وأما وجوبه باستطاعة النيابة مع العجز عن المباشرة، فعند مالك وأبي حنيفة أنه لا تلزم النيابة إذا استطلعت مع العجز عن المباشرة، وعن الشافعي أنها تلزم فيلزم على مذهبه الذي عنده مال بقدر أن يحج به عنه غيره إذا لم يقدر هو ببدنه عنه غيره بماله وإن وجد من يحج عنه بماله وبدنه من أخ أو قريب سقط ذلك عنه، وهي المسألة التي يعرفونها بالمعضوب، وهو الذي لا يثبت على الراحلة، وكذلك عنده الذي يأتيه الموت ولم يحج يلزم ورثته عنده أن يخرجوا من ماله بما يحج به عنه. وسبب الخلاف في هذا معارضة القياس للأثر، وذلك أن القياس يقتضي أن العبادات لا ينوب فيها أحد عن أحد، فإنه لا يصلي أحد عن أحد باتفاق ولا يزكي أحد عن أحد. وأما الأثر المعارض لهذا فحديث ابن عباس المشهور، خرجه الشيخان، وفيه "أن امرأة من خثعم قالت لرسول الله ﷺ: يا رسول الله فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم" وذلك في حجة الوداع، فهذا في الحي. وأما في الميت فحديث ابن عباس أيضا خرجه البخاري قال "جاءت امرأة من جهينة إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله إن أمي نذرت الحج فماتت أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها، أرأيت لو كان عليها دين أكنت قاضيته؟ دين الله أحق بالقضاء" ولا خلاف بين المسلمين أنه يقع عن الغير تطوعا، وإنما الخلاف في وقوعه فرضا. واختلفوا من هذا الباب في الذي يحج عن غيره سواء كان حيا أو ميتا هل من شرطه أن يكون قد حج عن نفسه أم لا؟ فذهب بعضهم إلى أن ذلك ليس من شرطه، وإن كان قد أدى الفرض عن نفسه فذلك أفضل، وبه قال مالك فيمن يحج عن الميت، لأن الحج عنده عن الحي لا يقع. وذهب آخرون إلى أن من شرطه أن يكون قد قضى فريضة نفسه، وبه قال الشافعي وغيره أنه إن حج عن غيره من لم يقض فرض نفسه انقلب إلى فرض نفسه، وعمدة هؤلاء حديث ابن عباس "أن النبي ﷺ سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة، قال: ومن شبرمة؟ قال: أخ لي، أو قال قريب لي، قال: أفحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: فحج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" والطائفة الأولى عللت هذا الحديث بأنه قد روي موقوفا على ابن عباس. واختلفوا من هذا الباب في الرجل يؤاجر نفسه في الحج فكره ذلك مالك والشافعي وقالا: إن وقع ذلك جاز ولم يجز ذلك أبو حنيفة، وعمدته أنه قربة إلى الله عز وجل فلا تجوز الإجارة عليه، وعمدة الطائفة الأولى إجماعهم على جواز الإجارة في كتب المصاحف وبناء المساجد، وهي قربة. والإجارة في الحج عند مالك نوعان: أحدهما الذي يسميه أصحابه على البلاغ، وهو الذي يؤاجر نفسه على ما يبلغه من الزاد والراحلة، فإن نقص ما أخذه عن البلاغ وفاه ما يبلغه، وإن فضل عن ذلك شيء رده. والثاني على سنة الإجارة وإن نقص شيء وفاه من عنده وإن فضل شيء فله. والجمهور على أن العبد لا يلزمه الحج حتى يعتق، وأوجبه عليه بعض أهل الظاهر، فهذه معرفة على من تجب هذه الفريضة وممن تقع. وأما متى تجب فإنهم اختلفوا هل هي على الفور أو على التراخي؟ والقولان متأولان على مالك وأصحابه، والظاهر عند المتأخرين من أصحابه أنها على التراخي وبالقول إنها على الفور قال البغداديون من أصحابه. واختلف في ذلك قول أبي حنيفة وأصحابه، والمختار عندهم أنه على الفور. وقال الشافعي: هو على التوسعة، وعمدة من قال هو على التوسعة أن الحج فرض قبل حج النبي ﷺ بسنين، فلو كان على الفور لما أخره النبي عليه الصلاة والسلام، ولو أخره لعذر لبينه، وحجة الفريق الثاني أنه لما كان مختصا بوقت كان الأصل تأثيم تاركه حتى يذهب الوقت، أصله وقت الصلاة، والفرق عند الفريق الثاني بينه وبين الأمر بالصلاة أنه لا يتكرر وجوبه بتكرار الوقت، والصلاة يتكرر وجوبها بتكرار الوقت. وبالجملة فمن شبه أول وقت من أوقات الحج الطارئة على المكلف المستطيع بأول الوقت من الصلاة قال: هو على التراخي، ومن شبهه بآخر الوقت من الصلاة قال: هو على الفور، ووجه شبهه بآخر الوقت أنه ينقضي بدخول وقت لا يجوز فيه فعله كما ينقضي وقت الصلاة بدخول وقت ليس يكون فيه المصلي مؤديا، ويحتج هؤلاء بالغرر الذي يلحق المكلف بتأخيره إلى عام آخر بما يغلب على الظن من مكان وقوع الموت في مدة من عام، ويرون أنه بخلاف تأخير الصلاة من أول الوقت إلى آخره، لأن الغالب أنه لا يموت أحد في مقدار ذلك الزمان إلا نادرا، وربما قالوا: إن التأخير في الصلاة يكون مع مصاحبة الوقت الذي يؤدي فيه الصلاة، والتأخير ههنا يكون مع دخول وقت لا تصح فيه العبادة، فهو ليس يشبهه في هذا الأمر المطلق، وذلك أن الأمر عند من يقول إنه على التراخي ليس يؤدي التراخي فيه إلى دخول وقت لا يصح فيه وقوع المأمور فيه كما يؤدي التراخي في الحج إذا دخل وقته فأخره المكلف إلى قابل، فليس الاختلاف في هذه المسألة من باب اختلافهم في مطلق الأمر هل هو على الفور أو على التراخي كما قد يظن. واختلفوا من هذا الباب هل من شرط وجوب الحج على المرأة أن يكون معها زوج أو ذو محرم منها يطاوعها على الخروج معها إلى السفر للحج؟ فقال مالك والشافعي: ليس من شرط الوجوب ذلك، وتخرج المرأة إلى الحج إذا وجدت رفقة مأمونة. وقال أبو حنيفة وجماعة: وجود ذي المحرم ومطاوعته لها شرط في الوجوب. وسبب الخلاف معارضة الأمر بالحج والسفر إليه للنهي عن سفر المرأة ثلاثا إلا مع ذي محرم. وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم" فمن غلب عموم الأمر قال: تسافر للحج وإن لم يكن معها ذو محرم، ومن خصص العموم بهذا الحديث أو رأى أنه من باب تفسير الاستطاعة قال: لا تسافر للحج إلا مع ذي محرم، فقد قلنا في وجوب هذا النسك الذي هو الحج وبأي شيء يجب وعلى من يجب ومتى يجب؟ وقد بقي من هذا الباب القول في حكم النسك الذي هو العمرة، فإن قوما قالوا: إنه واجب، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد والثوري والأوزاعي، وهو قول ابن عباس من الصحابة وابن عمر وجماعة من التابعين. وقال مالك وجماعة: هي سنة. وقال أبو حنيفة: هي تطوع، وبه قال أبو ثور وداود، فمن أوجبها احتج بقوله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله} وبآثار مروية، منها ما روي عن ابن عمر عن أبيه قال "دخل أعرابي حسن الوجه أبيض الثياب على رسول الله ﷺ فقال: ما الإسلام يا رسول الله؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة" وذكر عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة أنه كان يحدث أنه "لما نزلت {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} قال رسول الله ﷺ: باثنين حجة وعمرة فمن قضاها فقد قضى الفريضة" وروي عن زيد بن ثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت" وروي عن ابن عباس "العمرة واجبة" وبعضهم يرفعه إلى النبي ﷺ. وأما حجة الفريق الثاني، وهم الذين يرون أنها ليست واجبة، فالأحاديث المشهورة الثابتة الواردة في تعديد فرائض الإسلام من غير أن يذكر منها العمرة مثل حديث ابن عمر "بني الإسلام على خمس" فذكر الحج مفردا" ومثل حديث السائل عن الإسلام، فإن في بعض طرقه "وأن يحج البيت" وربما قالوا إن الأمر بالإتمام ليس يقتضي الوجوب، لأن هذا يخص السنن والفرائض أعني إذا شرع فيها أن تتم ولا تقطع، واحتج هؤلاء أيضا أعني من قال إنها سنة بآثار، منها حديث الحجاج بن أرطاة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال "سأل رجل النبي ﷺ عن العمرة أواجبة هي؟ قال: لا ولأن تعتمر خير لك" قال أبو عمر بن عبد البر: وليس هو حجة فيما انفرد به، وربما احتج من قال إنها تطوع بما روي عن أبي صالح الحنفي قال: قال رسول الله ﷺ "الحج واجب والعمرة تطوع" وهو حديث منقطع. فسبب الخلاف في هذا هو تعارض الآثار في هذا الباب، وتردد الأمر بالتمام بين أن يقتضي الوجوب أم لا يقتضيه.

  • 4*القول في الجنس الثاني.

@-وهو تعريف أفعال هذه العبادة في نوع نوع منها والتروك المشترطة فيها. وهذه العبادة كما قلنا صنفان: حج وعمرة، والحج على ثلاثة أصناف: إفراد وتمتع وقران، وهي كلها تشتمل على أفعال محدودة في أمكنة محدودة وأوقات محدودة، ومنها فرض، ومنها غير فرض، وعلى تروك تشترط في تلك الأفعال وكل من هذه أحكام محدودة إما عند الإخلال بها، وإما عند الطوارئ المانعة منها، فهذا الجنس ينقسم أولا إلى القول في الأفعال وإلى القول في التروك. وأما الجنس الثالث فهو الذي يتضمن القول في الأحكام فلنبدأ بالأفعال، وهذه منها ما تشترك فيه هذه الأربعة الأنواع من النسك، أعني أصناف الحج الثلاث، والعمرة، ومنها ما يختص بواحد واحد منها، فلنبدأ من القول فيها بالمشترك ثم نصير إلى ما يخص واحدا واحدا منها، فنقول: إن الحج والعمرة أول أفعالهما الفعل الذي يسمى الإحرام.

  • 4*القول في شروط الإحرام.

@-والإحرام شروطه الأول المكان والزمان، أما المكان فهو الذي يسمى مواقيت الحج، فلنبدأ بهذا فنقول: إن العلماء بالجملة مجمعون على أن المواقيت التي منها يكون الإحرام، أما لأهل المدينة فذو الحليفة، وأما لأهل الشام فالجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، لثبوت ذلك عن رسول الله ﷺ من حديث ابن عمر وغيره. واختلفوا في ميقات أهل العراق فقال جمهور فقهاء الأمصار ميقاتهم من ذات عرق. وقال الشافعي والثوري: إن أهلوا من العقيق كان أحب. واختلفوا فيمن أقته لهم فقالت طائفة: عمر ابن الخطاب. وقالت طائفة: بل رسول الله ﷺ هو الذي أقت لأهل العراق ذات عرق والعقيق. وروي ذلك من حديث جابر وابن عباس وعائشة. وجمهور العلماء على أن من يخطئ هذه وقصده الإحرام فلم يحرم إلا بعدها أن عليه دما، وهؤلاء منهم من قال: إن رجع إلى الميقات فأحرم منه سقط عنه الدم ومنهم الشافعي. ومنهم من قال: لا يسقط عنه الدم وإن رجع، وبه قال مالك. وقال قوم: ليس عليه دم. وقال آخرون: إن لم يرجع إلى الميقات فسد حجه وأنه يرجع إلى الميقات فيهل منه بعمرة وهذا يذكر في الأحكام. وجمهور العلماء على أن من كان منزله دونهن فميقات إحرامه من منزله. واختلفوا هل الأفضل إحرام الحاج منهن أو من منزله إذا كان منزله خارجا منهن؟ فقال قوم: الأفضل له من منزله، والإحرام منها رخصة وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة. وقال مالك وإسحاق وأحمد: إحرامه من المواقيت أفضل، وعمدة هؤلاء الأحاديث المتقدمة، وأنها السنة التي سنها رسول الله ﷺ فهي أفضل. وعمدة الطائفة الأخرى أن الصحابة قد أحرمت من قبل الميقات ابن عباس وابن عمر وابن مسعود وغيرهم قالوا: وهم أعرف بالسنة، وأصول أهل الظاهر تقتضي أن لا يجوز الإحرام إلا من الميقات إلا أن يصح إجماع على خلافه. واختلفوا فيمن ترك الإحرام من ميقاته وأحرم من ميقات آخر غير ميقاته، مثل أن يترك أهل المدينة الإحرام من ذي الحليفة ويحرموا من الجحفة، فقال قوم: عليه دم، وممن قال به مالك وبعض أصحابه. وقال أبو حنيفة: ليس عليه شيء. وسبب الخلاف هل هو من النسك الذي يجب في تركه الدم أم لا؟ ولا خلاف أنه لا يلزم الإحرام من مر بهذه المواقيت ممن أراد الحج أوالعمرة. وأما من لم يردهما ومر بهما فقال قوم: كل من مر بهما يلزمه الإحرام إلا من يكثر ترداده مثل الحطابين وشبههم، وبه قال مالك. وقال قوم: لا يلزم الإحرام بها إلا لمريد الحج أو العمرة، وهذا كله لمن ليس من أهل مكة. وأما أهل مكة فإنهم يحرمون بالحج منها، أو بالعمرة يخرجون إلى الحل ولا بد. وأما متى يحرم بالحج أهل مكة فقيل إذا رأوا الهلال، وقيل إذا خرج الناس إلى منى فهذا هو ميقات المكان المشترط لأنواع هذه العبادة.

  • 4*القول في ميقات الزمان.

@-وأما ميقات الزمان فهو محدود أيضا في أنواع الحج الثلاث وهو شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة باتفاق. وقال مالك: الثلاثة الأشهر كلها محل للحج. وقال الشافعي: الشهران وتسع من ذي الحجة. وقال أبو حنيفة: عشر فقط، ودليل قول مالك عموم قوله سبحانه وتعالى {الحج أشهر معلومات} فوجب أن يطلق على جميع أيام ذي الحجة أصله انطلاقه على جميع أيام شوال وذي القعدة. ودليل الفريق الثاني انقضاء الإحرام قبل تمام الشهر الثالث بانقضاء أفعاله الواجبة. وفائدة الخلاف تأخر طواف الإفاضة إلى آخر الشهر، إن أحرم بالحج قبل أشهر الحج كرهه مالك ولكن صح إحرامه عنده. وقال غيره: لا يصح إحرامه. وقال الشافعي: ينعقد إحرامه إحرام عمرة، فمن شبهه بوقت الصلاة قال: يقع قبل الوقت، ومن اعتمد عموم قوله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله} قال متى أحرم انعقد إحرامه لأنه مأمور بالإتمام، وربما شبهوا الحج في هذا المعنى بالعمرة، وشبهوا ميقات الزمان بميقات العمرة. فأما مذهب الشافعي فهو مبني على أن من التزم عبادة في وقت نظيرتها انقلبت إلى النظير، مثل أن يصوم نذرا في أيام رمضان، وهذا الأصل فيه اختلاف في المذهب. وأما العمرة فإن العلماء اتفقوا على جوازها في كل أوقات السنة لأنها كانت في الجاهلية لا تصنع في أيام الحج، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" وقال أبو حنيفة: تجوز في كل السنة إلا يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق فإنها تكره. واختلفوا في تكريرها في السنة الواحدة مرارا، فكان مالك يستحب عمرة في كل سنة، ويكره وقوع عمرتين عنده وثلاثا في السنة الواحدة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا كراهية في ذلك فهذا هو القول في شروط الإحرام الزمانية والمكانية. وينبغي بعد ذلك أن نصير إلى القول في الإحرام، وقبل ذلك ينبغي أن نقول في تروكه، ثم نقول بعد ذلك في الأفعال الخاصة بالمحرم إلى حين إحلاله وهي أفعال الحج كلها وتروكه، ثم نقول في أحكام الإخلال بالتروك والأفعال ولنبدأ بالتروك.

  • 4*القول في التروك.

@-وهو ما يمنع الإحرام من الأمور المباحة للحلال. والأصل من هذا الباب ما ثبت من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر "أن رجلا سأل رسول الله ﷺ ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله ﷺ: لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فيلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس" فاتفق العلماء على بعض الأحكام الواردة في هذا الحديث واختلفوا في بعضها، فمما اتفقوا عليه أنه لا يلبس المحرم قميصا ولا شيئا مما ذكر في هذا الحديث ولا ما كان في معناه من مخيط الثياب وأن هذا مخصوص بالرجال، أعني تحريم لبس المخيط، وأنه لا بأس للمرأة بلبس القميص والدرع والسراويل والخفاف والخمر. واختلفوا فيمن لم يجد غير السراويل هل له لباسها؟ فقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز له لباس السراويل وإن لبسها افتدى. وقال الشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وداود: لا شيء عليه إذا لم يجد إزارا، وعمدة مذهب مالك ظاهر حديث ابن عمر المتقدم قال: ولو كان في ذلك رخصة لاستثناها رسول الله ﷺ كما استثنى في لبس الخفين. وعمدة الطائفة الثانية حديث عمرو بن دينار عن جابر وابن عباس قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول "السراويل لمن لم يجد الإزار والخف لمن لم يجد النعلين" وجمهور العلماء على إجازة لباس الخفين مقطوعين لمن لم يجد النعلين. وقال أحمد: جائز لمن لم يجد النعلين أن يلبس الخفين غير مقطوعين أخذا بمطلق حديث ابن عباس. وقال عطاء: في قطعهما فساد والله لا يحب الفساد. واختلفوا فيمن لبسهما مقطوعين مع وجود النعلين، فقال مالك: عليه الفدية، وبه قال أبو ثور. وقال أبو حنيفة: لا فدية عليه، والقولان عن الشافعي، وسنذكر هذا في الأحكام. وأجمع العلماء على أن المحرم لا يلبس الثوب المصبوغ بالورس والزعفران لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر "لا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس" واختلفوا في المعصفر فقال مالك: ليس به بأس فإنه ليس بطيب. وقال أبو حنيفة والثوري: هو طيب وفيه الفدية، وحجة أبي حنيفة ما خرجه مالك عن علي "أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن لبس القسي وعن لبس المعصفر" وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها، وأن لها أن تسدل ثوبها على وجهها من فوق رأسها سدلا خفيفا تستتر به عن نظر الرجال إليها كنحو ما روي عن عائشة أنها قالت "كنا مع رسول الله ﷺ ونحن محرمون فإذا مر بنا ركب سدلنا على وجوهنا الثوب من قبل رءوسنا، وإذا جاوز الركب رفعناه" ولم يأت تغطية وجوههن إلا ما رواه مالك عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت "كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق". واختلفوا في تخمير المحرم وجهه بعد إجماعهم على أنه لا يخمر رأسه، فروى مالك عن ابن عمر أن ما فوق الذقن من الرأس لا يخمره المحرم، وإليه ذهب مالك. وروي عنه أنه إن فعل ذلك ولم ينزعه مكانه افتدى. وقال الشافعي والثوري وأحمد وأبو داود وأبو ثور يخمر المحرم وجهه إلى الحاجبين. وروي من الصحابة عن عثمان وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص. واختلفوا في لبس القفازين للمرأة فقال مالك: إن لبست المرأة القفازين افتدت، ورخص فيه الثوري، وهو مروي عن عائشة. والحجة لمالك ما خرجه أبو داود عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن النقاب والقفازين وبعض الرواة يرويه موقوفا عن ابن عمر، وصححه بعض رواة الحديث، أعني رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا هو مشهور اختلافهم واتفاقهم في اللباس، وأصل الخلاف في هذا كله اختلافهم في قياس بعض المسكوت عنه على المنطوق به واحتمال اللفظ المنطوق به وثبوته أو لا ثبوته، وأما الشيء الثاني من المتروكات فهو الطيب، وذلك أن العلماء أجمعوا على أن الطيب كله يحرم على المحرم بالحج والعمرة في حال إحرامه. واختلفوا في جوازه للمحرم عند الإحرام قبل أن يحرم لما يبقى من أثره عليه بعد الإحرام، فكرهه قوم وأجازه آخرون، وممن كرهه مالك، ورواه عن عمر بن الخطاب، وهو قول عثمان وابن عمر وجماعة من التابعين. وممن أجازه أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وداود، والحجة لمالك رحمه الله من جهة الأثر حديث صفوان ابن يعلى ثبت في الصحيحين، وفيه "أن رجلا جاء إلى النبي ﷺ بجبة مضمخة بطيب، فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بطيب؟ فأنزل الوحي على رسول الله ﷺ فلما أفاق قال: أين السائل عن العمرة أنفا؟ فالتمس الرجل فأتى به، فقال عليه الصلاة والسلام: أما الطيب الذي بك فاغسله عنك ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع ما شئت في عمرتك كما تصنع في حجتك" اختصرت الحديث، وفقهه هو الذي ذكرت. وعمدة الفريق الثاني ما رواه مالك عن عائشة أنها قالت "كنت أطيب رأس رسول الله ﷺ لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت" واعتل الفريق الأول بما روي عن عائشة أنها قالت {وقد بلغها إنكار ابن عمر تطيب المحرم قبل إحرامه} "يرحم الله أبا عبد الرحمن طيبت رسول الله ﷺ فطاف على نسائه ثم أصبح محرما" قالوا: وإذا طاف على نسائه اغتسل، فإنما يبقى عليه أثر ريح الطيب لا جرمة نفسه، قالوا: ولما كان الإجماع قد انعقد على أن كل ما لا يجوز للمحرم ابتداؤه وهو محرم، مثل لبس الثياب وقتل الصيد لا يجوز له استصحابه وهو محرم، فوجب أن يكون الطيب كذلك. فسبب الخلاف تعارض الآثار في هذا الحكم. وأما المتروك الثالث فهو مجامعة النساء، وذلك أنه أجمع المسلمون على أن وطء النساء على الحاج حرام من حين يحرم لقوله تعالى {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} . وأما الممنوع الرابع وهو إلقاء التفث وإزالة الشعر وقتل القمل، ولكن اتفقوا على أنه يجوز له غسل رأسه من الجنابة، واختلفوا في كراهية غسله من غير الجنابة، فقال الجمهور: لابأس بغسله رأسه. وقال مالك: بكراهية ذلك، وعمدته أن عبد الله بن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من الاحتلام. وعمدة الجمهور ما رواه مالك عن عبد الله بن جبير "أن ابن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء، فقال عبد الله: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور بن مخرمة: لا يغسل المحرم رأسه، قال: فأرسلني عبد الله بن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري قال: فوجدته يغتسل بين القرنين وهو مستتر بثوب، فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت عبد الله بن جبير أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله ﷺ يغسل رأسه وهو محرم، فوضع أبو أيوب يده على الثوب فتطأطأ حتى بدا لي رأسه ثم قال لأنسان يصب عليه اصبب، فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله ﷺ يفعل" وكان عمر يغسل رأسه وهو محرم ويقول: "ما يزيده الماء إلا شعثا" رواه مالك في الموطأ، وحمل مالك حديث أبي أيوب على غسل الجنابة والحجة له إجماعهم على أن المحرم ممنوع من قتل القمل ونتف الشعر وإلقاء التفث وهو الوسخ، والغاسل رأسه هو إما أن يفعل هذه كلها أو بعضها. واتفقوا على منع غسله رأسه بالخطمى. وقال مالك وأبو حنيفة: إن فعل ذلك افتدى. وقال أبو ثور وغيره: لا شيء عليه. واختلفوا في الحمام فكان مالك يكره ذلك، ويرى أن على من دخله الفدية. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري وداود: لابأس بذلك. وروي عن ابن عباس دخول الحمام وهو محرم من طريقين، والأحسن أن يكره دخوله لأن المحرم منهي عن إلقاء التفث. وأما المحظور الخامس فهو الاصطياد، وذلك أيضا مجمع عليه لقوله سبحانه وتعالى {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} وقوله تعالى {ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} وأجمعوا على أنه لا يجوز له صيده ولا أكل ما صاد هو منه، واختلفوا إذا صاده حلال هل يجوز للمحرم أكله؟ على ثلاثة أقوال: قول إنه يجوز له أكله على الإطلاق، وبه قال أبو حنيفة، وهو قول عمر ابن الخطاب والزبير. وقال قوم: هو محرم عليه على كل حال وهو قول ابن عباس وعلي وابن عمر، وبه قال الثوري. وقال مالك: ما لم يصد من أجل المحرم أو من أجل قوم محرمين فهو حلال، وما صيد من أجل محرم فهو حرام على المحرم. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك، فأحدها ما خرجه مالك من حديث أبي قتادة : أنه كان مع رسول الله ﷺ حتى إذا كانوا ببعض طرق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم، فرأى حمارا وحشيا فاستوى على فرسه فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا عليه فسألهم رمحه فأبوا عليه، فأخذه ثم شد على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله ﷺ وأبى بعضهم، فلما أدركوا رسول الله ﷺ سألوه عن ذلك فقال: إنما هي طعمة أطعمكموها الله" وجاء أيضا في معناه حديث طلحة بن عبيد الله ذكره النسائي أن عبد الرحمن التميمي قال: كنا مع طلحة ابن عبيد الله ونحن محرمون، فأهدى له ظبي وهو راقد، فأكل بعضنا، فاستيقظ طلحة فوافق على أكله وقال: أكلناه مع رسول الله ﷺ. والحديث الثاني حديث ابن عباس خرجه أيضا مالك "أنه أهدى لرسول الله ﷺ حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه وقال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" وللاختلاف سبب آخر، وهو هل يتعلق النهي عن الأكل بشرط القتل، أو يتعلق بكل واحد منهما النهي عن الانفراد؟ فمن أخذ بحديث أبي قتادة قال: إن النهي إنما يتعلق بالأكل مع القتل، ومن أخذ بحديث ابن عباس قال: النهي يتعلق بكل واحد منهما على انفراده، فمن ذهب في هذه الأحاديث مذهب الترجيح قال: إما بحديث أبي قتادة، وإما بحديث ابن عباس، ومن جمع بين الأحاديث قال بالقول الثالث قالوا: والجمع أولى، وأكدوا ذلك بما روي عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم" واختلفوا في المضطر هل يأكل الميتة أو يصيد في الحرم؟ فقال مالك وأبو حنيفة والثوري وزفر وجماعة: إذا اضطر أكل الميتة ولحم الخنزير دون الصيد. وقال أبو يوسف: يصيد ويأكل وعليه الجزاء، والأول أحسن للذريعة. وقال أبو يوسف: أقيس لأن تلك محرمة لعينها والصيد محرم لغرض من الأغراض، وما حرم لعلة أخف مما حرم لعينه، وما هو محرم لعينه أغلظ، فهذه الخمسة اتفق المسلمون على أنها من محظورات الإحرام، واختلفوا في نكاح المحرم فقال مالك والشافعي والليث والأوزاعي: لا ينكح المحرم ولا ينكح، فإن نكح فالنكاح باطل، وهو قول عمر وعلي بن أبي طالب وابن عمر وزيد ابن ثابت. وقال أبو حنيفة والثوري: لا بأس بأن ينكح المحرم أو أن ينكح. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك فأحدها ما رواه مالك من حديث عثمان ابن عفان أنه قال: قال رسول الله ﷺ "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب" والحديث المعارض لهذا حديث ابن عباس "أن رسول الله ﷺ نكح ميمونة وهو محرم" خرجه أهل الصحاح إلا أنه عارضته آثار كثيرة عن ميمونة "أن رسول الله ﷺ تزوجها وهو حلال" رويت عنها من طرق شتى عن أبي رافع وعن سليمان ابن يسار وهو مولاها، وعن زيد بن الأصم، ويمكن الجمع بين الحديثين بأن يحمل الواحد على الكراهية والثاني على الجواز، فهذه هي مشهورات ما يحرم على المحرم، وأما متى يحل فسنذكره عند ذكرنا أفعال الحج، وذلك أن المعتمر يحل إذا طاف وسعى وحلق. واختلفوا في الحاج على ما سيأتي بعد، وإذ قد قلنا في تروك المحرم فلنقل في أفعاله:

  • 4*القول في أنواع هذا النسك.

@-والمحرمون إما محرم بعمرة مفردة أو محرم بحج فرد، أو جامع بين الحج والعمرة، وهذان ضربان: إما متمتع، وإما قارن، فينبغي أولا أن نجرد أصناف هذه المناسك الثلاث ثم نقول ما يفعل المحرم في كلها، وما يخص واحدا واحدا منها إن كان هنالك ما يخص، وكذلك نفعل فيما يعد الإحرام من أفعال الحج إن شاء الله تعالى.

  • 4*القول في شرح أنواع هذه المناسك.

@-فنقول: إن الإفراد هو ما يتعرى عن صفات التمتع والقران، فلذلك يجب أن نبدأ أولا بصفة التمتع، ثم نردف ذلك بصفة القران.

  • 4*القول في التمتع.

@-فنقول: إن العلماء اتفقوا على أن هذا النوع من النسك الذي هو المعنى بقوله سبحانه {فمن تمتع بالعمرة إلى حج فما استيسر من الهدى} هو أن يهل الرجل بالعمرة في أشهر الحج من الميقات، وذلك إذا كان مسكنه خارجا عن الحرم، ثم يأتي حتى يصل البيت فيطوف لعمرته ويسعى ويحلق في تلك الأشهر بعينها، ثم يحل بمكة، ثم ينشئ الحج في ذلك العام بعينه وفي تلك الأشهر بعينها من غير أن ينصرف إلى بلده إلا ما روي عن الحسن أنه كان يقول هو متمتع وإن عاد إلى بلده ولم يحج: أي عليه هدى المتمتع المنصوص عليه في قوله تعالى {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} لأنه كان يقول عمرة في أشهر الحج متعة. وقال طاوس: من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى الحج وحج من عامه أنه متمتع. واتفق العلماء على أن من لم يكن من حاضري المسجد الحرام فهو متمتع. واختلفوا في المكي هل يقع منه التمتع أم لا يقع؟ والذين قالوا إنه يقع منه اتفقوا على أنه ليس عليه دم لقوله تعالى {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} واختلفوا فيمن هو حاضر المسجد الحرام ممن ليس هو، فقال مالك: حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة وذي طوى، وما كان مثل ذلك من مكة. وقال أبو حنيفة: هم أهل المواقيت فمن دونهم إلى مكة. وقال الشافعي بمصر: من كان بينه وبين مكة ليلتان وهو أكمل المواقيت. وقال أهل الظاهر: من كان ساكن الحرم. وقال الثوري: هم أهل مكة فقط. وأبو حنيفة يقول: إن حاضري المسجد الحرام لا يقع منهم التمتع، وكره ذلك مالك. وسبب الاختلاف اختلاف ما يدل عليه اسم حاضري المسجد الحرام بالأقل والأكثر، ولذلك لا يشك أن أهل مكة هم حاضري المسجد الحرام كما لا يشك أن من خارج المواقيت ليس منهم فهذا هو نوع التمتع المشهور، ومعنى التمتع أنه تمتع بتحلله بين النسكين وسقوط السفر عنه مرة ثانية إلى النسك الثاني الذي هو الحج، وهنا نوعان من التمتع اختلف العلماء فيهما: أحدهما فسخ الحج في عمرة، وهو تحويل النية من الإحرام بالحج إلى العمرة، فجمهور العلماء يكرهون ذلك من الصدر الأول وفقهاء الأمصار. وذهب ابن عباس إلى جواز ذلك، وبه قال أحمد وداود وكلهم متفقون أن رسول الله ﷺ أمر أصحابه عام حج بفسخ الحج في العمرة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" وأمره لمن لم يسق الهدي من أصحابه أن يفسخ إهلاله في العمرة، وبهذا تمسك أهل الظاهر، والجمهور رأوا ذلك من باب الخصوص لأصحاب رسول الله ﷺ، واحتجوا بما روي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال ابن الحارث المدني عن أبيه قال "قلت يا رسول الله أفسخ لنا خاصة أم لمن بعدنا؟ قال: لنا خاصة" وهذا لم يصح عند أهل الظاهر صحة يعارض بها العمل المتقدم. وروي عن عمر أنه قال "متعتان كانتا على عهد رسول الله ﷺ أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحج" وروي عن عثمان أنه قال: متعة الحج كانت لنا وليست لكم. وقال أبو ذر: ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخه في عمرة هذا كله مع ظاهر قوله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله} . والظاهرية على أن الأصل اتباع فعل الصحابة حتى يدل الدليل من كتاب الله أو سنة ثابتة على أنه خاص. فسبب الاختلاف هل فعل الصحابة محمول على العموم أو على الخصوص. وأما النوع الثاني من التمتع فهو ما كان يذهب إليه ابن الزبير من أن التمتع الذي ذكره الله هو تمتع المحصر بمرض أو عدو، وذلك إذا خرج الرجل حاجا فحبسه عدو أو أمر تعذر به عليه الحج حتى تذهب أيام الحج، فيأتي البيت فيطوف ويسعى بين الصفا والمروة، ويحل ثم يتمتع بحله إلى العام المقبل، ثم يحج ويهدي، وعلى هذا القول ليس يكون التمتع المشهور إجماعا. وشذ طاوس أيضا فقال: إن المكي إذا تمتع من بلد غير مكة كان عليه الهدي. واختلف العلماء فيمن أنشأ عمرة في غير أشهر الحج ثم عملها في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك، فقال مالك: عمرته في الشهر الذي حل فيه، فإن كان حل في أشهر الحج فهو متمتع، وإن كان في غير أشهر الحج فليس بمتمتع، وبقريب منه قال أبو حنيفة والشافعي والثوري، إلا أن الثوري اشترط أن يوقع طوافه كله في شوال، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن طاف ثلاثة أشواط في رمضان وأربعة في شوال كان متمتعا، وإن كان عكس ذلك لم يكن متمتعا أعني أن يكون طاف أربعة أشواط في رمضان وثلاثة في شوال. وقال أبو ثور: إذا دخل العمرة في غير أشهر الحج فسواء طاف لها في غير أشهر الحج أو في أشهر الحج لا يكون متمتعا. وسبب الاختلاف هل يكون متمتعا بإيقاع إحرام العمرة في أشهر الحج فقط أم بإيقاع الطواف معه؟ ثم إن كان بإيقاع الطواف معه فهل بإيقاعه كله أم أكثره فأبو ثور يقول: لا يكون متمتعا إلا بإيقاع الإحرام في أشهر الحج، لأن بالإحرام تنعقد العمرة. والشافعي يقول: الطواف هو أعظم أركانها، فوجب أن يكون به متمتعا؛ فالجمهور على أن من أوقع بعضها في أشهر الحج كمن أوقعها كلها، وشروط التمتع عند مالك ستة: أحدها أن يجمع بين الحج والعمرة في شهر واحد. والثاني أن يكون ذلك في عام واحد. والثالث أن يفعل شيئا من العمرة في أشهر الحج. والرابع أن يقدم العمرة على الحج. والخامس أن ينشئ الحج بعد الفراغ من العمرة وإحلاله منها. والسادس أن يكون وطنه غير مكة، فهذه هي صورة التمتع والاختلاف المشهور فيه والاتفاق.

  • 4*القول في القارن.

@-وأما القران فهو أن يهل بالنسكين معا أو يهل بالعمرة في أشهر الحج، ثم يردف ذلك بالحج قبل أن يهل من العمرة. واختلف أصحاب مالك في الوقت الذي يكون له فيه، فقيل ذلك له ما لم يشرع في الطواف ولو شوطا واحدا، وقيل ما لم يطف ويركع ويكره بعد الطواف وقبل الركوع، فإن فعل لزمه، وقيل له ذلك ما بقي عليه شيء من عمل العمرة من طواف أو سعي، ما خلا أنهم اتفقوا على أنه إذا أهل بالحج ولم يبق عليه من أفعال العمرة إلا الحلاق فإنه ليس بقارن، والقارن الذي يلزمه هدي المتمتع هو عند الجمهور من غير حاضري المسجد الحرام، إلا ابن الماجشون من أصحاب مالك، فإن القارن من أهل مكة عنده عليه الهدي. وأما الإفراد فهو ما تعرى من هذه الصفات، وهو أن لا يكون متمتعا ولا قارنا بل أن يهل بالحج فقط. وقد اختلف العلماء أي أفضل هل الإفراد أو القران أو التمتع؟. والسبب في اختلافهم اختلافهم فيما فعل رسول الله ﷺ من ذلك، وذلك أنه روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان مفردا وروي أنه تمتع وروي عنه أنه كان قارنا فاختار مالك الإفراد، واعتمد في ذلك على ما روي عن عائشة أنها قالت "خرجنا مع رسول الله ﷺ عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، وأهل رسول الله ﷺ بالحج" ورواه عن عائشة من طرق كثيرة قال أبو عمر بن عبد البر: وروى الإفراد عن النبي ﷺ عن جابر بن عبد الله من طرق شتى متواترة صحاح، وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وجابر. والذين رأوا أن النبي ﷺ كان متمتعا احتجوا بما رواه الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال "تمتع رسول الله ﷺ في عام حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى وساق الهدي معه من ذي الحليفة" وهو مذهب عبد الله بن عمر وابن عباس وابن الزبير. واختلف عن عائشة في التمتع والإفراد. واعتمد من رأى أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا أحاديث كثيرة، منها حديث ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول وهو بوادي العقيق "أتاني الليلة آت من ربي فقال: أهل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة" خرجه البخاري، وحديث مروان ابن الحكم قال "شهدت عثمان وعليا وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى ذلك علي أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة، وقال: ما كنت لأدع سنة رسول الله ﷺ لقول أحد" خرجه البخاري، وحديث أنس خرجه البخاري أيضا قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول "لبيك عمرة وحجة" وحديث مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت "خرجنا مع رسول الله ﷺ عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا" واحتجوا فقالوا: ومعلوم أنه كان معه ﷺ هدي، ويبعد أن يأمر بالقران من معه هدي ويكون معه هدي ولا يكون قارنا. وحديث مالك أيضا عن نافع عن عمر عن حفصة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أنحر هديي" وقال أحمد: لا أشك أن رسول الله ﷺ كان قارنا، والتمتع أحب إلي، واحتج في اختياره التمتع بقوله عليه الصلاة والسلام "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" واحتج من طريق المعنى من رأى أن الإفراد الأفضل أن التمتع والقران رخصة ولذلك وجب فيهما الدم. وإذ قلنا في وجوب هذا النسك وعلى من يجب وما شروط وجوبه ومتى يجب وفي أي وقت يجب ومن أي مكان يجب وقلنا بعد ذلك فيما يجتنبه المحرم بما هو محرم، ثم قلنا أيضا في أنواع هذا النسك يجب أن نقول في أول أفعال الحاج أو المعتمر وهو الإحرام.

  • 4*القول في الإحرام.

@-واتفق جمهور العلماء على أن الغسل للإهلال سنة، وأنه من أفعال المحرم حتى قال ابن نوار: إن هذا الغسل للإهلال عند مالك أوكد من غسل الجمعة. وقال أهل الظاهر: هو واجب. وقال أبو حنيفة والثوري: يجزئ منه الوضوء وحجة أهل الظاهر مرسل مالك من حديث أسماء بيت عميس أنها ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله ﷺ فقال: مرها فلتغتسل ثم لتهل" والأمر عندهم على الوجوب وعمدة الجمهور أن الأصل هو براءة الذمة حتى يثبت الوجوب بأمر لا مدفع فيه، وكان عبد الله بن عمر يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخوله مكة ولوقوفه عشية يوم عرفة، ومالك يرى هذه الاغتسالات الثلاث من أفعال المحرم، واتفقوا على أن الإحرام لا يكون إلا بنية، واختلفوا هل تجزئ النية فيه من غير التلبية؟ فقال مالك والشافعي: تجزئ النية من غير التلبية. وقال أبو حنيفة: التلبية في الحج كالتكبيرة في الإحرام بالصلاة إلا أنه يجزئ عنده كل لفظ يقوم مقام التلبية كما يجزئ عنده في افتتاح الصلاة كل لفظ يقوم مقام التكبير وهو كل ما يدل على التعظيم. واتفق العلماء على أن لفظ تلبية رسول الله ﷺ "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" وهي من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ وهو أصح سندا. واختلفوا في هل هي واجبة بهذا اللفظ أم لا؟ فقال أهل الظاهر: هي واجبة بهذا اللفظ، ولا خلاف عند الجمهور في استحباب هذا اللفظ، وإنما اختلفوا في الزيادة عليه أو في تبديله، وأوجب أهل الظاهر رفع الصوت بالتلبية، وهو مستحب عند الجمهور لما رواه مالك "أن رسول الله ﷺ قال: أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية وبالإهلال" وأجمع أهل العلم على أن تلبية المرأة فيما حكاه أبو عمر هو أن تسمع نفسها بالقول. وقال مالك: لا يرفع المحرم صوته في مساجد الجماعة بل يكفيه أن يسمع من يليه، إلا في المسجد الحرام ومسجد منى فإنه يرفع صوته فيهما. واستحب الجمهور رفع الصوت عند التقاء الرفاق وعند الإطلال على شرف من الأرض. وقال أبو حازم: كان أصحاب رسول الله ﷺ لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم. وكان مالك لا يرى التلبية من أركان الحج ويرى على تاركها دما، وكان غيره يراها من أركانه. وحجة من رآها واجبة أن أفعاله ﷺ إذا أتت بيانا لواجب أنها محمولة على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام "خذوا عني مناسككم" وبهذا يحتج من أوجب لفظه فيها فقط. ومن لم ير وجوب لفظه فاعتمد في ذلك على ما روي من حديث جابر قال "أهل رسول الله ﷺ" فذكر التلبية التي في حديث ابن عمر. وقال في حديثه "والناس يزيدون على ذلك "لبيك ذا المعارج" ونحوه من الكلام والنبي يسمع ولا يقول شيئا وما روي عن ابن عمر أنه كان يزيد في التلبية وعن عمر بن الخطاب وعن أنس وغيره. واستحب العلماء أن يكون ابتداء المحرم بالتلبية بأثر صلاة يصليها، فكان مالك يستحب ذلك بأثر نافلة لما روي من مرسله عن هشام ابن عروة، عن أبيه "أن رسول الله ﷺ كان يصلي في مسجد ذي الحليفة ركعتين فإذا استوت به راحلته أهل". واختلفت الآثار في الموضع الذي أحرم منه رسول الله ﷺ بحجته من أقطار ذي الحليفة، فقال قوم: من مسجد ذي الحليفة بعد أن صلى فيه، وقال آخرون: إنما أحرم حين أطل على البيداء، وقال قوم: إنما أهل حين استوت به راحلته. وسئل ابن عباس عن اختلافهم في ذلك فقال: كل حدث لا عن أول إهلاله عليه الصلاة والسلام بل عن أول إهلال سمعه، وذلك أن الناس يأتون متسابقين فعلى هذا لا يكون في هذا اختلاف، ويكون الإهلال إثر الصلاة. وأجمع الفقهاء على أن المكي لا يلزمه الإهلال حتى إذا خرج إلى منى ليتصل له عمل الحج، وعمدتهم ما رواه مالك عن ابن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر: رأيتك تفعل هنا أربعا لم أر أحد يفعلها، فذكر منها ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت إلى يوم التروية، فأجابه ابن عمر: أما الإهلال "فإني لم أر رسول الله ﷺ يهل حتى تنبعث به راحلته" يريد حتى يتصل له عمل الحج. وروى مالك أن عمر ابن الخطاب كان يأمر أهل مكة أن يهلوا إذا رأوا الهلال. ولا خلاف عندهم أن المكي لا يهل إلا من جوف مكة إذا كان حاجا، وإما إذا كان معتمرا فإنهم أجمعوا على أنه يلزمه أن يخرج إلى الحل ثم يحرم منه ليجمع بين الحل والحرم كما يجمع الحاج، أعني لأنه يخرج إلى عرفة وهو حل. وبالجملة فاتفقوا على أنها سنة المعتمر، واختلفوا إن لم يفعل فقال قوم: يجزيه وعليه دم، وبه قال أبو حنيفة وابن القاسم. وقال آخرون: لا يجزيه وهو قول الثوري وأشهب. @-(وأما متى يقطع المحرم التلبية) فإنهم اختلفوا في ذلك، فروى مالك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقطع التلبية إذا زاغت الشمس من يوم عرفة. وقال مالك: وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا. وقال ابن شهاب: كانت الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يقطعون التلبية عند زوال الشمس من يوم عرفة. قال أبو عمر بن عبد البر: واختلف في ذلك عن عثمان وعائشة. وقال جمهور فقهاء الأمصار وأهل الحديث أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وداود وابن أبي ليلى وأبو عبيد والطبري والحسن بن حيى: إن المحرم لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة لما ثبت "أن رسول الله ﷺ لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة" إلا أنهم اختلفوا متى يقطعها، فقال قوم: إذا رماها بأسرها لما روي عن ابن عباس "أن الفضل بن عباس كان رديف رسول الله ﷺ وأنه لبى حين رمى جمرة العقبة وقطع التلبية في آخر حصاة" وقال قوم: بل يقطعها في أول جمرة يلقيها روي ذلك عن ابن مسعود. وروى في وقت قطع التلبية بأقاويل غير هذه إلا أن هذين القولين هما المشهوران. واختلفوا في وقت قطع التلبية بالعمرة، وقال مالك: يقطع التلبية إذا انتهى إلى الحرم، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: إذا افتتح الطواف، وسلف مالك في ذلك ابن عمر وعروة، وعمدة الشافعي أن التلبية معناها إجابة إلى الطواف بالبيت فلا تنقطع حتى يشرع في العمل. وسبب الخلاف معارضة القياس لفعل بعض الصحابة وجمهور العلماء كما قلنا متفقون على إدخال المحرم الحج على العمرة ويختلفون في إدخال العمرة على الحج. وقال أبو ثور: لا يدخل حج على عمرة ولا عمرة على حج كما لا تدخل صلاة على صلاة، فهذه هي أفعال المحرم بما هو محرم وهو أول أفعال الحج. وأما الفعل الذي بعد هذا فهو الطواف عند دخول مكة فلنقل في الطواف:

  • 4*القول في الطواف بالبيت والكلام في الطواف: في صفته وشروطه وحكمه في الوجوب أو الندب وفي إعداده.

@-القول في الصفة. والجمهور مجمعون على أن صفة كل طواف واجبا كان أو غير واجب أن يبتدئ من الحجر الأسود، فإن استطاع أن يقبله قبله أو يلمسه بيده ويقبلها إن أمكنه، ثم يجعل البيت على يساره ويمضي على يمينه، فيطوف سبعة أشواط يرمل في الثلاثة الأشواط الأول ثم يمشي في الأربعة، وذلك في طواف القدوم على مكة وذلك للحاج والمعتمر دون المتمتع، وأنه لا رمل على النساء، ويستلم الركن اليماني وهو الذي على قطر الركن الأسود لثبوت هذه الصفة من فعله ﷺ. واختلفوا في حكم الرمل في الثلاثة الأشواط الأول للقادم هل هو سنة أو فضيلة؟ فقال ابن عباس: هو سنة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وإسحق وأحمد وأبو ثور. واختلف قول مالك في ذلك وأصحابه. والفرق بين القولين أن من جعله سنة أوجب في تركه الدم، ومن لم يجعله سنة لم يوجب في تركه شيئا. واحتج من لم ير الرمل سنة بحديث ابن الطفيل عن ابن عباس قال: قلت لابن عباس زعم قومك أن رسول الله ﷺ حين طاف بالبيت رمل وأن ذلك سنة، فقال: صدقوا وكذبوا، قال: قلت ما صدقوا وما كذبوا؟ قال: صدقوا "رمل رسول الله ﷺ حين طاف بالبيت، وكذبوا ليس بسنة، إن قريشا زمن الحديبية قالوا: إن به وبأصحابه هزالا وقعدوا على قعيقعان ينظرون إلى النبي ﷺ وأصحابه، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال لأصحابه: ارملوا أروهم أن بكم قوة، فكان رسول الله ﷺ يرمل من الحجر الأسود إلى اليماني فإذا توارى عنهم مشى" وحجة الجمهور حديث جابر "أن رسول الله ﷺ رمل في الثلاثة الأشواط في حجة الوداع ومشى أربعا" وهو حديث ثابت من رواية مالك وغيره قالوا: وقد اختلف على أبي الطفيل عن ابن عباس فروي عنه "أن رسول الله ﷺ رمل من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود" وذلك بخلاف الرواية الأولى، وعلى أصول الظاهرية يجب الرمل لقوله "خذوا عني مناسككم" وهو قولهم أو قول بعضهم الآن فيما أظن. وأجمعوا على أنه لا رمل على من أحرم بالحج من مكة من غير أهلها وهم المتمتعون لأنهم قد رملوا في حين دخولهم حين طافوا للقدوم. واختلفوا في أهل مكة هل عليهم إذا حجوا رمل أم لا؟ فقال الشافعي: كل طواف قبل عرفة مما يوصل بينه وبين السعي فإنه يرمل فيه، وكان مالك يستحب ذلك وكان ابن عمر لا يرى عليهم رملا إذا طافوا بالبيت على ما روى عنه مالك. وسبب الخلاف هل الرمل كان لعلة أو لغير علة؟ وهل هو مختص بالمسافر أم لا؟ وذلك أنه كان عليه الصلاة والسلام حين رمل واردا على مكة. واتفقوا على أن من سنة الطواف استلام الركنين الأسود واليماني للرجال دون النساء. واختلفوا هل تستلم الأركان كلها أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه إنما يستلم الركنان فقط لحديث ابن عمر "أن رسول الله ﷺ لم يكن يستلم إلا الركنين فقط" واحتج من رأى استلام جميعها بما روي عن جابر قال: كنا نرى إذا طفنا أن نستلم الأركان كلها، وكان بعض السلف لا يحب أن يستلم الركنين إلا في الوتر من الأشواط. وكذلك أجمعوا على أن تقبيل الحجر الأسود خاصة من سنن الطواف إن قدر، وإن لم يقدر على الدخول إليه قبل يده، وذلك لحديث عمر بن الخطاب الذي رواه مالك أنه قال وهو يطوف بالبيت حين بلغ الحجر الأسود "إنما أنت حجر ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك، ثم قبله" وأجمعوا على أن من سنة الطواف ركعتين بعد انقضاء الطواف، وجمهورهم على أنه يأتي بها الطائف عند انقضاء كل أسبوع إن طاف أكثر من أسبوع واحد. وأجاز بعض السلف أن لا يفرق بين الأسابيع وأن لا يفصل بينهما ركوع ثم يركع لكل أسبوع ركعتين، وهو مروي عن عائشة أنها كانت لا تفرق بين ثلاثة الأسابيع ثم تركع ست ركعات. وحجة الجمهور "أن رسول الله ﷺ طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين، وقال: خذوا عني مناسككم" وحجة من أجاز الجمع أنه قال: المقصود إنما هو ركعتان لكل أسبوع، والطواف ليس له وقت معلوم ولا الركعتان المسنونتان بعده، فجاز الجمع بين أكثر من ركعتين لأكثر من أسبوعين، وإنما استحب من يرى أن يفرق بين ثلاثة الأسابيع لأن رسول الله ﷺ انصرف إلى الركعتين بعد وتر من طوافه، ومن طاف أسابيع غير وتر ثم عاد إليها لم ينصرف عن وتر من طوافه. @-القول في شروطه. وأما شروطه فإن منها حد موضعه، وجمهور العلماء على أن الحجر من البيت، وأن من طاف بالبيت لزمه إدخال الحجر فيه، وأنه شرط في صحة طواف الإفاضة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هو سنة. وحجة الجمهور ما رواه مالك عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال "لولا حدثان قومك بالكفر لهدمت الكعبة ولصيرتها على قواعد إبراهيم" فإنهم تركوا منها سبعة أذرع من الحجر ضاقت بهم النفقة والخشب، وهو قول ابن عباس، وكان يحتج بقوله تعالى {وليطوفوا بالبيت العتيق} ثم يقول طاف رسول الله ﷺ من وراء الحجر، وحجة أبي حنيفة ظاهر الآية. وأما وقت جوازه فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها إجازة الطواف بعد الصبح والعصر، ومنعه وقت الطلوع والغروب، وهو مذهب عمر بن الخطاب وأبي سعيد الخدري، وبه قال مالك وأصحابه وجماعة. والقول الثاني كراهيته بعد الصبح والعصر، ومنعه عند الطلوع والغروب، وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد وجماعة. والقول الثالث إباحة ذلك في هذه الأوقات كلها، وبه قال الشافعي وجماعة، وأصول أدلتهم راجعة إلى منع الصلاة في هذه الأوقات أو إباحتها. أما وقت الطلوع والغروب فالأثار متفقة على منع الصلاة فيها والطواف هل هو ملحق بالصلاة؟ في ذلك الخلاف. ومما احتجت به الشافعية حديث جبير بن مطعم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "يا بني عبد مناف أو يا بني عبد المطلب إن وليتم من هذا الأمر شيئا فلا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت أن يصلي فيه أي ساعة شاء من ليل أو نهار" رواه الشافعي وغيره عن ابن عيينة بسنده إلى جبير بن مطعم. واختلفوا في جواز الطواف بغير طهارة مع إجماعهم على أن من سنته الطهارة، فقال مالك والشافعي: لا يجزئ طواف بغير طهارة لا عمدا ولا سهوا. وقال أبو حنيفة: يجزئ ويستحب له الإعادة وعليه دم. وقال أبو ثور: إذا طاف على غير وضوء أجزأه طوافه إن كان لا يعلم، ولا يجزئه إن كان يعلم، والشافعي يشترط طهارة ثوب الطائف كاشتراط ذلك للمصلي. وعمدة من شرط الطهارة في الطواف قوله ﷺ للحائض وهي أسماء بنت عميس "اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" وهو حديث صحيح، وقد يحتجون أيضا بما روي أنه ﷺ قال "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أحل فيه النطق فلا ينطق إلا بخير" وعمدة من أجاز الطواف بغير طهارة إجماع العلماء على جواز السعي بين الصفا والمروة من غير طهارة، وأنه ليس كل عبادة يشترط فيها الطهر من الحيض من شرطها الطهر من الحدث أصله الصوم. @-القول في أعداده وأحكامه. وأما أعداده، فإن العلماء أجمعوا على أن الطواف ثلاثة أنواع: طواف القدوم على مكة، وطواف الإفاضة بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر، وطواف الوداع، وأجمعوا على أن الواجب منها الذي يفوت الحج بفواته هو طواف الإفاضة، وأنه المعنى بقوله تعالى {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} وأنه لا يجزئ عنه دم، وجمهورهم على أنه لا يجزئ طواف القدوم على مكة عن طواف الإفاضة إذا نسي طواف الإفاضة لكونه قبل يوم النحر. وقالت طائفة من أصحاب مالك: إن طواف القدوم يجزئ عن طواف الإفاضة كأنهم رأوا أن الواجب إنما هو طواف واحد. وجمهور العلماء على أن طواف الوداع يجزئ عن طواف الإفاضة إن لم يكن طاف طواف الإفاضة لأنه طواف بالبيت معمول في وقت طواف الوجوب الذي هو طواف الإفاضة بخلاف طواف القدوم الذي هو قبل وقت طواف الإفاضة وأجمعوا فيما حكاه أبو عمر بن عبد البر أن طواف القدوم والوداع من سنة الحاج لا لخائف فوات الحج فإنه يجزئ عنه طواف الإفاضة، واستحب جماعة من العلماء لمن عرض له هذا أن يرمل في الأشواط الثلاثة من طواف الإفاضة، على سنة طواف القدوم من الرمل، وأجمعوا على أن المكي ليس عليه إلا طواف الإفاضة كما أجمعوا على أنه ليس على المعتمر إلا طواف القدوم. وأجمعوا أن من تمتع بالعمرة إلى الحج أن عليه طوافين طوافا للعمرة لحله منها وطوافا للحج يوم النحر على ما في حديث عائشة المشهور. وأما المفرد للحج فليس عليه إلا طواف واحد كما قلنا يوم النحر. واختلفوا في القارن فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور: يجزئ القارن طواف واحد وسعي واحد، وهو مذهب عبد الله بن عمر وجابر، وعمدتهم حديث عائشة المتقدم. وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وابن أبي ليلى على القارن طوافان وسعيان، ورووا هذا عن علي وابن مسعود لأنهما نسكان من شرط كل واحد منهما إذا انفرد طوافه وسعيه، فوجب أن يكون الأمر كذلك إذا اجتمعا، فهذا هو القول في وجوب هذا الفعل وصفته وشروطه وعدده ووقته وصفته، والذي يتلو هذا الفعل من أفعال الحج أعني طواف القدوم هو السعي بين الصفا والمروة وهو الفعل الثالث للإحرام فلنقل فيه:

  • 4*القول في السعي بين الصفا والمروة.

@-والقول في السعي في حكمه وفي صفته وفي شروطه وفي ترتيبه. @-القول في حكمه. أما حكمه؛ فقال مالك والشافعي: هو واجب، وإن لم يسع كان عليه حج قابل، وبه قال أحمد وإسحق. وقال الكوفيون: هو سنة، وإذا رجع إلى بلاده ولم يسع كان عليه دم. وقال بعضهم: هو تطوع ولا شيء على تاركه؛ فعمدة من أوجبه ما روي "أن رسول الله ﷺ كان يسعى ويقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" روى هذا الحديث الشافعي عن عبد الله بن المؤمل، وأيضا فإن الأصل أن أفعاله عليه الصلاة والسلام في هذه العبادة محمولة على الوجوب، إلا ما أخرجه الدليل من سماع أو إجماع أو قياس عند أصحاب القياس. وعمدة من لم يوجبه قوله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} قالوا: إن معناه أن لا يطوف وهي قراءة ابن مسعود، وكما قال سبحانه {. يبين الله لكم أن تضلوا} معناه: أي لئلا تضلوا، وضعفوا حديث ابن المؤمل. وقالت عائشة: الآية على ظاهرها وإنما نزلت في الأنصار تحرجوا أن يسعوا بين الصفا والمروة على ما كانوا يسعون عليه في الجاهلية لأنه كان موضع ذبائح المشركين، وقد قيل إنهم كانوا لا يسعون بين الصفا والمروة تعظيما لبعض الأصنام، فسألوا عن ذلك فنزلت هذه الآية مبيحة لهم، وإنما صار الجمهور إلى أنها من أفعال الحج لأنها صفة فعله ﷺ تواترت بذلك الآثار، أعني وصل السعي بالطواف. @-القول في صفته. وأما صفته فإن جمهور العلماء على أن من سنة السعي بين الصفا والمروة أن ينحدر الراقي على الصفا بعد الفراغ من الدعاء، فيمشي على جبلته حتى يبلغ بطن المسيل فيرمل فيه حتى يقطعه إلى ما يلي المروة، فإذا انقطع ذلك وجاوزه مشى على سجيته حتى يأتي المروة فيرقي عليها حتى يبدو له البيت ثم يقول عليها نحوا مما قاله من الدعاء والتكبير على الصفا، وإن وقف أسفل المروة أجزأه عند جميعهم، ثم ينزل عن المروة فيمشي على سجيته حتى ينتهي إلى بطن المسيل فإذا انتهى إليه رمل حتى يقطعه إلى الجانب الذي يلي الصفا، يفعل ذلك سبع مرات يبدأ في كل ذلك بالصفا ويختم بالمروة، فإن بدأ بالمروة قبل الصفا ألغي ذلك الشوط لقول رسول الله ﷺ "نبدأ بما بدأ الله به: نبدأ بالصفا" يريد قوله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله} وقال عطاء إن جهل فبدأ بالمروة أجزأ عنه. وأجمعوا على أنه ليس في وقت السعي قول محدود فإنه موضع دعاء. وثبت من حديث جابر "أن رسول الله ﷺ كان إذا وقف على الصفا يكبر ثلاثا ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، يصنع ذلك ثلاث مرات، ويدعو ويصنع على المروة مثل ذلك". @-القول في شروطه. وأما شروطه فإنهم اتفقوا على أن من شرطه الطهارة من الحيض كالطواف سواء لقوله ﷺ في حديث عائشة "افعلي كل ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تسعي بين الصفا والمروة" انفرد بهذه الزيادة يحيى عن مالك دون من روى عنه هذا الحديث، ولا خلاف بينهم أن الطهارة ليست من شروطه إلا الحسن فإنه شبهه بالطواف. @-القول في ترتيبه. وأما ترتيبه فإن جمهور العلماء اتفقوا على أن السعي إنما يكون بعد الطواف، وأن من سعى قبل أن يطوف بالبيت يرجع فيطوف وإن خرج عن مكة، فإن جهل ذلك حتى أصاب النساء في العمرة أو في الحج كان عليه حج قابل والهدي أو عمرة أخرى. وقال الثوري: إن فعل ذلك فلا شيء عليه. وقال أبو حنيفة: إذا خرج من مكة فليس عليه أن يعود وعليه دم. فهذا هو القول في حكم السعي وصفته وشروطه المشهورة وترتيبه.

  • 4*الخروج إلى عرفة.

@-وأما الفعل الذي يلي هذا الفعل للحاج، فهو الخروج يوم التروية إلى منى والمبيت بها ليلة عرفة. واتفقوا على أن الإمام يصلي بالناس بمنى يوم التروية الظهر والعصر والمغرب والعشاء بها مقصورة، إلا أنهم أجمعوا على أن هذا الفعل ليس شرطا في صحة الحج لمن ضاق عليه الوقت، ثم إذا كان يوم عرفة مشى الإمام مع الناس من منى إلى عرفة ووقفوا بها. @-الوقوف بعرفة. والقول في هذا الفعل ينحصر في معرفة حكمه وفي صفته وفي شروطه. أما حكم الوقوف بعرفة فإنهم أجمعوا على أنه ركن من أركان الحج، وأن من فاته فعليه حج قابل والهدي في قول أكثرهم لقوله عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة" وأما صفته فهو أن يصل الإمام إلى عرفة يوم عرفة قبل الزوال، فإذا زالت الشمس خطب الناس ثم جمع بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر ثم وقف حتى تغيب الشمس. وإنما اتفقوا على هذا لأن هذه الصفة هي مجمع عليها من فعله ﷺ ولا خلاف بينهم أن إقامة الحج هي للسلطان الأعظم أو لمن يقيمه السلطان الأعظم لذلك وأنه يصلي وراءه برا كان السلطان أو فاجرا أو مبتدعا، وأن السنة في ذلك أن يأتي المسجد بعرفة يوم عرفة مع الناس، فإذا زالت الشمس خطب الناس كما قلنا وجمع بين الظهر والعصر. واختلفوا في وقت أذان المؤذن بعرفة للظهر والعصر، فقال مالك: يخطب الإمام حتى يمضي صدرا من خطبته أو بعضها، ثم يؤذن المؤذن وهو يخطب. وقال الشافعي: يؤذن إذا أخذ الإمام في الخطبة الثانية. وقال أبو حنيفة: إذا صعد الإمام المنبر أمر المؤذن بالأذان فأذن كالحال في الجمعة، فإذا فرغ المؤذن قام الإمام يخطب ثم ينزل ويقيم المؤذن الصلاة، وبه قال أبو ثور تشبيها بالجمعة. وقد حكى ابن نافع عن مالك أنه قال: الأذان بعرفة بعد جلوس الإمام للخطبة وفي حديث جابر "أن النبي ﷺ لما زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له وأتى بطن الوادي فخطب الناس ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم راح إلى الموقف" واختلفوا هل يجمع بين هاتين الصلاتين بأذانين وإقامتين أو بأذان واحد وإقامتين فقال مالك: يجمع بينهما بأذانين وإقامتين. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأبو ثور وجماعة: يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين. وروي عن مالك مثل قولهم. وروي عن أحمد أنه يجمع بينهما بإقامتين، والحجة للشافعي حديث جابر الطويل في صفة حجه عليه الصلاة والسلام وفيه "أنه صلى الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين كما قلنا" وقول مالك مروي عن ابن مسعود، وحجته أن الأصل هو أن تفرد كل صلاة بأذان وإقامة، ولا خلاف بين العلماء أن الإمام لو لم يخطب يوم عرفة قبل الظهر أن صلاته جائزة بخلاف الجمعة، وكذلك أجمعوا أن القراءة في هذه الصلاة سرا، وأنها مقصورة إذا كان الإمام مسافرا. واختلفوا إذا كان الإمام مكيا هل يقصر بمنى الصلاة يوم التروية وبعرفة يوم عرفة وبالمزدلفة ليلة النحر إن كان من أحد هذه المواضع؟ فقال مالك والأوزاعي وجماعة: سنة هذه المواضع التقصير سواء كان من أهلها أو لم يكن. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وداود: لا يجوز أن يقصر من كان من أهل تلك المواضع، وحجة مالك أنه لم يرو أن أحدا أتم الصلاة معه ﷺ أعني بعد سلامه منها. وحجة الفريق الثاني البقاء على الأصل المعروف أن القصر لا يجوز إلا للمسافر حتى يدل الدليل على التخصيص. واختلف العلماء في وجوب الجمعة بعرفة ومنى، فقال مالك: لا تجب الجمعة بعرفة ولا بمنى إلا أيام الحج لا لأهل مكة ولا لغيرهم إلا أن يكون الإمام من أهل عرفة. وقال الشافعي مثل ذلك، إلا أنه يشترط في وجوب الجمعة أن يكون هنالك من أهل عرفة أربعون رجلا على مذهبه في اشتراط هذا العدد في الجمعة. وقال أبو حنيفة: إذا كان أمير الحج ممن لا يقصر الصلاة بمنى ولا بعرفة صلى بهم فيها الجمعة إذا صادفها. وقال أحمد: إذا كان والي مكة يجمع بهم. وبه قال أبو ثور. @-(وأما شروطه) فهو الوقوف بعرفة بعد الصلاة، وذلك أنه لم يختلف العلماء "أن رسول الله ﷺ بعد ما صلى الظهر والعصر بعرفة ارتفع فوقف بجبالها داعيا إلى الله تعالى ووقف معه كل من حضر إلى غروب الشمس، وأنه لما استيقن غروبها وبان له ذلك دفع منها إلى المزدلفة" ولا خلاف بينهم أن هذا هو سنة الوقوف بعرفة، وأجمعوا على أن من وقف بعرفة قبل الزوال وأفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك، وأنه إن لم يرجع فيقف بعد الزوال أو يقف من ليلته تلك قبل طلوع الفجر فقد فاته الحج. وروي عن عبد الله بن معمر الديلي قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول "الحج عرفات، فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك" وهو حديث انفرد به هذا الرجل من الصحابة إلا أنه مجمع عليه. واختلفوا فيمن وقف بعرفة بعد الزوال ثم دفع منها قبل غروب الشمس، فقال مالك: عليه حج قابل إلا أن يرجع قبل الفجر، وإن دفع منها قبل الإمام وبعد الغيبوبة أجزأه. وبالجملة فشرط صحة الوقوف عنده هو أن يقف ليلا. وقال جمهور العلماء: من وقف بعرفة بعد الزوال فحجه تام وإن دفع قبل الغروب، إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم عليه، وعمدة الجمهور حديث عروة بن مضرس، وهو حديث مجمع على صحته قال "أتيت رسول الله ﷺ بجمع فقلت له: هل لي من حج؟ فقال: من صلى هذه الصلاة معنا ووقف هذا الموقف حتى نفيض أو أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه" وأجمعوا على أن المراد بقوله في هذا الحديث نهارا أنه بعد الزوال، ومن اشترط الليل احتج بوقوفه بعرفة ﷺ حين غربت الشمس، لكن للجمهور أن يقولوا إن وقوفه بعرفة إلى المغيب قد نبأ حديث عروة بن مضرس أنه على جهة الأفضل إذ كان مخيرا بين ذلك. وروي عن النبي ﷺ من طرق أنه قال "عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر، ومنى كلها منحر، وفجاج مكة منحر ومبيت" واختلف العلماء فيمن وقف من عرفة بعرنة فقيل حجه تام وعليه دم، وبه قال مالك، وقال الشافعي: لا حج له. وعمدة من أبطل الحج النهي الوارد عن ذلك في الحديث. وعمدة من لم يبطله أن الأصل أن الوقوف بكل عرفة جائز إلا ما قام عليه الدليل، وقالوا: ولم يأت هذا الحديث من وجه تلزم به الحجة والخروج عن الأصل، فهذا هو القول في السنن التي في يوم عرفة. وأما الفعل الذي يلي الوقوف بعرفة من أفعال الحج فهو النهوض إلى المزدلفة بعد غيبة الشمس وما يفعل بها فلنقل فيه.

  • 4*القول في أفعال المزدلفة.

@-والقول الجملي أيضا في هذا الموضع ينحصر في معرفة حكمه وفي صفته وفي وقته. فأما كون هذا الفعل من أركان الحج فالأصل فيه قوله سبحانه {فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم} وأجمعوا على أن من بات المزدلفة ليلة النحر وجمع فيها بين المغرب والعشاء مع الإمام ووقف بعد صلاة الصبح إلى الأسفار بعد الوقوف بعرفة أن حجه تام، وأن ذلك الصفة التي فعل رسول الله ﷺ. واختلفوا هل الوقوف بها بعد صلاة الصبح، والمبيت بها من سنن الحج أو من فروضه، فقال الأوزاعي وجماعة من التابعين: هو فرض من فروض الحج، ومن فاته كان عليه حج قابل والهدي، وفقهاء الأمصار يرون أنه ليس من فروض الحج، وأن من فاته الوقوف بالمزدلفة والمبيت بها فعليه دم. وقال الشافعي: إن دفع منها إلى بعد نصف الليل الأول ولم يصل بها فعليه دم، وعمدة الجمهور ما صح عنه أنه ﷺ قدم ضعفة أهله ليلا فلم يشاهدوا معه صلاة الصبح بها، وعمدة الفريق الأول قوله ﷺ في حديث عروة بن مضرس وهو حديث متفق على صحته "من أدرك معنا هذه الصلاة: يعني صلاة الصبح بجمع، وكان قد أتى قبل ذلك عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه" وقوله تعالى {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم} . ومن حجة الفريق الأول أن المسلمين قد أجمعوا على ترك الأخذ بجميع ما في هذا الحديث، وذلك أن أكثرهم على أن من وقف بالمزدلفة ليلا ودفع منها إلى قبل الصبح أن حجه تام، وكذلك من بات فيها ونام عن الصلاة وكذلك أجمعوا على أنه لو وقف بالمزدلفة ولم يذكر الله أن حجه تام، وفي ذلك أيضا ما يضعف احتجاجهم بظاهر الآية، والمزدلفة وجمع هما اسمان لهذا الموضع وسنة الحج فيها كما قلنا أن يبيت الناس بها ويجمعون بين المغرب والعشاء في أول وقت العشاء ويغلسوا بالصبح فيها.

  • 4*القول في رمي الجمار.

@-وأما الفعل بعدها فهو رمي الجمار، وذلك أن المسلمين اتفقوا على "أن النبي ﷺ وقف بالمشعر الحرام وهي المزدلفة بعد ما صلى الفجر ثم دفع منها قبل طلوع الشمس إلى منى، وأنه في هذا اليوم وهو يوم النحر رمى جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس" وأجمع المسلمون أن من رماها في هذا اليوم في ذلك الوقت: أعني بعد طلوع الشمس إلى زوالها فقد رماها في وقتها، وأجمعوا أن رسول الله ﷺ لم يرم يوم النحر من الجمرات غيرها. واختلفوا فيمن رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر، فقال مالك: لم يبلغنا أن رسول الله ﷺ رخص لأحد أن يرمي قبل طلوع الفجر، ولا يجوز ذلك، فإن رماها قبل الفجر أعادها، وبه قال أبو حنيفة وسفيان وأحمد. وقال الشافعي: لا بأس به وإن كان المستحب هو بعد طلوع الشمس، فحجة منع ذلك فعله ﷺ مع قوله "خذوا عني مناسككم" وما روي عن ابن عباس "أن رسول الله ﷺ قدّم ضعفة أهله وقال: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس". وعمدة من جوز رميها قبل الفجر حديث أم سلمة خرجه أبو داود وغيره وهو "أن عائشة قالت: أرسل رسول الله ﷺ لأم سلمة يوم النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ومضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله ﷺ عندها. وحديث أسماء أنه رمت الجمرة بليل وقالت: إنا كنا نصنعه على عهد رسول الله ﷺ. وأجمع العلماء أن الوقت المستحب لرمي جمرة العقبة هو من لدن طلوع الشمس إلى وقت الزوال، وأنه إن رماها قبل غروب الشمس من يوم النحر أجزأ عنه ولا شيء عليه، إلا مالكا فإنه قال: أستحب له أن يريق دما. واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشمس فرماها من الليل أو من الغد، فقال مالك: عليه دم. وقال أبو حنيفة: إن رمى من الليل فلا شيء عليه، وإن أخرها إلى الغد فعليه دم. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي لا شيء عليه إن أخرها إلى الليل أو إلى الغد، وحجتهم "أن رسول الله ﷺ رخص لرعاة الإبل في مثل ذلك: أعني أن يرموا ليلا" وفي حديث ابن عباس "أن رسول الله ﷺ قال له السائل: يا رسول الله رميت بعد ما أمسيت، قال له: لا حرج" وعمدة مالك أن ذلك الوقت المتفق عليه الذي رمى فيه رسول الله ﷺ هو السنة، ومن خالف سنة من سنن الحج فعليه دم، على ما روي عن ابن عباس وأخذ به الجمهور. وقال مالك: ومعنى الرخصة للرعاة إنما ذلك إذا مضى يوم النحر ورموا جمرة العقبة ثم كان اليوم الثالث وهو أول أيام النفر، فرخص لهم رسول الله ﷺ أن يرموا في ذلك اليوم له ولليوم الذي بعده، فإن نفروا فقد فرغوا، وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الأخير ونفروا، ومعنى الرخصة للرعاة عند جماعة العلماء هو جمع يومين في يوم واحد، إلا أن مالكا إنما يجمع عنده ما وجب مثل أن يجمع في الثالث فيرمي عن الثاني والثالث، لأنه لا يقضي عنده إلا ما وجب، ورخص كثير من العلماء في جمع يومين في يوم، سواء تقدم ذلك اليوم الذي أضيف إلى غيره أو تأخر ولم يشبهوه بالقضاء، وثبت "أن رسول الله ﷺ رمى في حجته الجمرة يوم النحر، ثم نحر بدنة، ثم حلق رأسه، ثم طاف طواف الإفاضة" وأجمع العلماء على أن هذا سنة الحج. واختلفوا فيمن قدم من هذه ما أخره النبي ﷺ أو بالعكس، فقال مالك: من حلق قبل أن يرمي جمرة العقبة فعليه الفدية. وقال الشافعي وأحمد وداود وأبو ثور: لا شيء عليه. وعمدتهم ما رواه مالك من حديث عبد الله بن عمر أنه قال "وقف رسول الله ﷺ للناس بمنى والناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر. فقال رسول الله ﷺ: إنحر ولا حرج، ثم جاءه آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، فقال عليه الصلاة والسلام: إرم ولا حرج، قال: فما سئل رسول الله ﷺ يومئذ عن شيء قُدِمَ أو أُخِرَ إلا قال: إفعل ولا حرج". وروى هذا من طريق ابن عباس عن النبي ﷺ. وعمدة مالك أن رسول الله ﷺ حكم على من حلق قبل محله من ضرورة بالفدية فكيف من غير ضرورة، مع أن الحديث لم يذكر فيه حلق الرأس قبل رمي الجمار، وعند مالك أن من حلق قبل أن يذبح فلا شيء عليه وكذلك من ذبح قبل أن يرمي. وقال أبو حنيفة: إن حلق قبل أن ينحر أو يرمي فعليه دم، وإن كان قارنا فعليه دمان، وقال زفر: عليه ثلاث دماء دم للقران ودمان للحلق قبل النحر وقبل الرمي. وأجمعوا على أن من نحر قبل أن يرمي فلا شيء عليه لأنه منصوص عليه، إلا ما روي عن ابن عباس أنه كان يقول : من قدم من حجه شيئا أو أخر فليهرق دما. وأنه من قدم الإفاضة قبل الرمي والحلق أنه يلزمه إعادة الطواف. وقال الشافعي ومن تابعه: لا إعادة عليه. وقال الأوزاعي: إذا طاف للإفاضة قبل أن يرمي جمرة العقبة ثم واقع أهله أراق دما. واتفقوا على أن جملة ما يرميه الحاج سبعون حصاة منها في يوم النحر جمرة العقبة بسبع، وأن رمي هذه الجمرة من حيث تيسر من العقبة من أسفلها أو من أعلاها أو من وسطها كل ذلك واسع، والموضع المختار منها بطن الوادي لما جاء في حديث ابن مسعود أنه استبطن الوادي ثم قال: من ههنا والذي لا إله غيره رأيت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يرمي. وأجمعوا على أنه يعيد الرمي إذا لم تقع الحصاة في العقبة، وأنه يرمي في كل يوم من أيام التشريق ثلاث جمار بواحد وعشرين حصاة كل جمرة منها بسبع، وأنه يجوز أن يرمي منها يومين وينفر في الثالث لقوله تعالى -فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه- وقدرها عندهم أن يكون في مثل حصى الخذف لما روي من حديث جابر وإبن عباس وغيرهم "أن النبي عليه الصلاة والسلام رمى الجمار بمثل حصى الخذف" والسنة عندهم في رمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق أن يرمي الجمرة الأولى فيقف عندها ويدعو، وكذلك الثانية ويطيل المقام، ثم يرمي الثالثة ولا يقف لما روي في ذلك عن رسول الله ﷺ "أنه كان يفعل ذلك في رميه" والتكبير عندهم عند رمي كل جمرة حسن لأنه يروى عنه عليه الصلاة والسلام. وأجمعوا على أن من سنة رمي الجمار الثلاث في أيام التشريق أن يكون ذلك بعد الزوال. واختلفوا إذا رماها قبل الزوال في أيام التشريق، فقال جمهور العلماء: من رماها قبل الزوال أعاد رميها بعد الزوال.وروي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: رمي الجمار من طلوع الشمس إلى غروبها. وأجمعوا على أن من لم يرم الجمار أيام التشريق حتى تغيب الشمس من آخرها أنه لا يرميها بعد. واختلفوا في الواجب من الكفارة فقال مالك: إن من ترك الجمار كلها أو بعضها أو واحدة منها فعليه دم، وقال أبو حنيفة: إن ترك كلها كان عليه دم، وإن ترك جمرة واحدة فصاعدا كان عليه لكل جمرة إطعام مسكين نصف صاع حنطة إلى أن يبلغ دما بترك الجميع إلا جمرة العقبة فمن تركها فعليه دم. وقال الشافعي: عليه في الحصاة مد من طعام، وفي حصاتين مدان، وفي ثلاث دم. وقال الثوري مثله، إلا أنه قال في الرابعة الدم. ورخصت طائفة من التابعين في الحصاة الواحدة ولم يروا فيها شيئا، والحجة لهم حديث سعد بن أبي وقاص قال "خرجنا مع رسول الله ﷺ في حجته، فبعضنا يقول: رميت بسبع، وبعضنا يقول: رميت بست، فلم يعب بعضنا على بعض" وقال أهل الظاهر: لا شيء في ذلك والجمهور على أن جمرة العقبة ليست من أركان الحج. وقال عبد الملك من أصحاب مالك: هي من أركان الحج. فهذه هي جملة أفعال الحج من حين الإحرام إلى أن يحل، والتحلل تحللان: تحلل أكبر، وهو طواف الإفاضة، وتحلل أصغر وهو رمي جمرة العقبة، وسنذكر ما في هذا الإختلاف. القول في الجنس الثالث: وهو الذي يتضمن القول في الأحكام، وقد نفى القول في حكم الإختلالات التي تقع في الحج، وأعظمها في حكم من شرع في الحج فمنعه بمرض أو بعدو أو فاته وقت الفعل الذي هو شرط في صحة الحج أو أفسد حجه بإتيانه بعض المحظورات المفسدة للحج أو للأفعال التي هي تروك أو أفعال، فلنبتدئ من هذه بما هو نص في الشريعة وهو حكم المحصر وحكم قاتل الصيد وحكم الحالق رأسه قبل محل الحلق وإلقائه التفث قبل أن يحل، وقد يدخل في هذا الباب حكم المتمتع وحكم القارن على القول بأن وجوب الهدي في هذه هو لمكان الرخصة. القول في الإحصار وأما الإحصار، فالأصل فيه قوله سبحانه: -فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي- إلى قوله -فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي- فنقول: اختلف العلماء في هذه الآية اختلافا كثيرا، وهو السبب في اختلافهم في حكم المحصر بمرض أو بعدو، فأول اختلافهم في هذه الآية هل المحصر ههنا هو المحصر بالمرض. فأما من قال: إن المحصر ههنا هو المحصر بالعدو فاحتجوا بقوله تعالى -فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه- قالوا: فلو كان المحصر هو المحصر بمرض لما كان لذكر المرض بعد ذلك فائدة، واحتجوا أيضا بقوله سبحانه -فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج- وهذه حجة ظاهرة، ومن قال: إن الآية إنما وردت في المحصر بالمرض فإنه زعم أن المحصر هو من أحصر، ولا يقال أحصر في العدو، وإنما يقال حصره العدو وأحصره المرض، قالوا: وإنما ذكر المرض بعد ذلك لأن المرض صنفان: صنف محصر، وصنف غير محصر، وقالوا معنى قوله -فإذا أمنتم- معناه من المرض. وأما الفريق الأول فقالوا عكس هذا، وهو أن أفعل أبدا وفعل في الشيء الواحد إنما يأتي لمعنيين: أما فعل فإذا أوقع بغيره فعلا من الأفعال، وأما أفعل فإذا عرضه لوقوع ذلك الفعل به يقال: أقتله إذا فعل به فعل القتل، واقتله إذا عرضه للقتل، وإذا كان هذا هكذا فأحصر أحق بالعدو وحصر أحق بالمرض، لأن العدو إنما عرض للإحصار، والمرض فهو فاعل الإحصار. وقالوا لا يطلق الأمن إلا في ارتفاع الخوف من العدو وإن قيل في المرض فباستعارة ولا يصار إلى الإستعارة إلا لأمر يوجب الخروج عن الحقيقة، وكذلك ذكر حكم المريض بعد الحصر الظاهر منه أن المحصر غير المريض، وهذا هو مذهب الشافعي. والمذهب الثاني مذهب مالك وأبي حنيفة. وقال قوم: بل المحصر ههنا الممنوع من الحج بأي نوع امتنع إما بمرض أو بعدو أو بخطأ في العدد أو بغير ذلك. وجمهور العلماء على أن المحصر عن الحج ضربان: إما محصر بمرض، وإما محصر بعدو. فأما المحصر بالعدو فاتفق الجمهور على أنه يحل من عمرته أو حجه حيث أحصر. وقال الثوري والحسن بن صالح لا يتحلل إلا في يوم النحر، والذين قالوا: يتحلل حيث أحصر اختلفوا في إيجاب الهدي عليه وفي موضع نحره إذا قيل بوجوبه وفي إعادة ما حصر عنه من حج أو عمرة، فذهب مالك إلى أنه لا يجب عليه الإعادة. وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن كان أحرم بالحج عليه حجة وعمرة، وإن كان قارنا فعليه حج وعمرتان، وإن كان معتمرا قضى عمرته، وليس عليه عند أبي حنيفة ومحمد بن الحسن تقصير، واختار أبو يوسف تقصيره، وعمدة مالك في أن لا إعادة عليه "أن رسول الله ﷺ حل هو وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوف بالبيت، وقبل أن يصل إلى الهدي، ثم لم يعلم أن رسول الله ﷺ أمر أحد من الصحابة ولا ممن كان معه أن يقضي شيئا ولا أن يعود لشيء" وعمدة من أوجب عليه الإعادة "أن رسول الله ﷺ اعتمر في العام المقبل من عام الحديبية قضاء لتلك العمرة" ولذلك قيل لها عمرة القضاء. وإجماعهم أيضا علة أن المحصر بمرض أو ما أشبهه عليه القضاء. فسبب الخلاف هو هل قضى رسول الله ﷺ أو لم يقض؟ وهل يثبت القضاء بالقياس أم لا؟ وذلك أن جمهور العلماء على أن القضاء يجب بأمر ثان غير أمر الأداء. وأما من أوجب عليه الهدي فبناء على أن الآية وردت في المحصر بالعدو، أو على أنها عامة لأن الهدي فيها نص، وقد احتج هؤلاء بنحر النبي ﷺ وأصحابه الهدي عام الحديبية حين أحصروا. وأجاب الفريق الآخر أن ذلك الهدي لم يكن هدي تحلل، وإنما كان هديا سيق ابتداء، وحجة هؤلاء أن الأصل هو أن لا هدي عليه إلا أن يقوم الدليل. وأما اختلافهم في مكان الهدي عند من أوجبه فالأصل فيه اختلافهم في موضع نحر رسول الله ﷺ هديه عام الحديبية، فقال ابن إسحاق: نحره في الحرم، وقال غيره: إنما نحره في الحل، واحتج بقوله تعالى - هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله - وإنما ذهب أبو حنيفة إلى أن من أحصر عن الحج أن عليه حجا وعمرة لأن المحصر قد فسخ الحج في عمرة ولم يتم واحدا منهما، فهذا هو حكم المحصر بعدو عند الفقهاء. وأما المحصر بمرض، فإن مذهب الشافعي وأهل الحجاز أنه لا يحله إلا الطواف بالبيت والسعي ما بين الصفا والمروة، وأنه بالجملة يتحلل بعمرة، لأنه إذا فاته الحج بطول مرضه انقلب عمرة، وهو مذهب ابن عمر وعائشة وابن عباس، وخالف في ذلك أهل العراق فقالوا: يحل مكانه وحكمه حكم المحصر بعدو، أعني أن يرسل هديه ويقدر يوم نحره ويحل في اليوم الثالث وبه قال ابن مسعود. (يتبع...) @(تابع... 1): -وأما الفعل بعدها فهو رمي الجمار، وذلك أن المسلمين اتفقوا على "أن... ... واحتجوا بحديث الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول "من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى" وبإجماعهم على أن المحصر بعدو ليس من شرط إحلاله الطواف بالبيت. والجمهور على أن المحصر بمرض عليه الهدي. وقال أبو ثور وداود: لا هدي عليه اعتمادا على ظاهر حكم هذا المحصر، وعلى أن الآية الواردة في المحصر هو حصر العدو، وأجمعوا على إيجاب القضاء عليه، وكل من فاته الحج بخطأ من العدد في الأيام أو بخفاء الهلال عليه أو غير ذلك من الأعذار فحكمه حكم المحصر بمرض عند مالك. وقال أبو حنيفة: من فاته الحج بعذر غير مرض يحل بعمرة ولا هدي عليه وعليه إعادة الحج، والمكي المحصر بمرض عند مالك كغير المكي يحل بعمرة وعليه الهدي وإعادة الحج. وقال الزهري: لابد (قوله لابد الخ: هكذا هذه العبارة في غالب النسخ ولينظر معناها، وفي بعض: ولابد أن يعيد (وجعل بياضا لباقي العبارة فليتأمل ا هـ مصححه). أن يقف بعمرة وإن نعش نعشا. وأصل مذهب مالك أن المحصر بمرض إن بقي على إحرامه إلى العام المقبل حتى يحج حجة القضاء فلا هدي عليه، فإن تحلل بعمرة فعليه هدي المحصر، لأنه حلق رأسه قبل أن ينحر في حجة القضاء، وكل من تأول قوله سبحانه - فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج - أنه خطاب للمحصر وجب عليه أن يعتقد على ظاهر الآية أن عليه هديين: هديا لحلقه عند التحلل قبل نحره في حجة القضاء، وهديا لتمتعه بالعمرة إلى الحج، وإن حل في أشهر الحج من العمرة وجب عليه هدي ثالث، وهو هدي التمتع الذي هو أحد أنواع نسك الحج. وأما مالك رحمه الله، فكان يتأول لمكان هذا أن المحصر إنما عليه هدي واحد، وكان يقول: إن الهدي الذي في قوله سبحانه - فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي - هو بعينه الهدي الذي في قوله - فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي - وفيه بعد في التأويل، والأظهر أن قوله سبحانه - فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج - أنه في غير المحصر بل هو في التمتع الحقيقي، فكأنه قال: فإذا لم تكونوا خائفين لكن تمتعتم بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي، ويدل على هذا التأويل قوله سبحانه - ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام - والمحصر يستوي فيه حاضر المسجد الحرام وغيره بإجماع. وقد قلنا في أحكام المحصر الذي نص الله عليه، فلنقل في أحكام القاتل للصيد: القول في أحكام جزاء الصيد فنقول: إن المسلمين أجمعوا على أن قوله تعالى -يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما- هي آية محكمة، واختلفوا في تفاصيل أحكامها وفيما يقاس على مفهومها مما لا يقاس عليه، فمنها أنهم اختلفوا هل الواجب في قتل الصيد قيمته أو مثله؟ فذهب الجمهور إلى أن الواجب المثل، وذهب أبو حنيفة إلى أنه مخير بين القيمة، أعني قيمة الصيد وبين أ، يشتري بها المثل. ومنها أنهم اختلفوا في استئناف الحكم على قاتل الصيد فيما حكم فيه السلف من الصحابة، مثل حكمهم أن من قتل نعامة فعليه بدنة تشبيها بها، ومن قتل غزالا فعليه شاة، ومن قتل بقرة وحشية فعليه إنسية، فقال مالك: يستأنف في كل ما وقع من ذلك الحكم به، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: إن اجتزأ بحكم الصحابة مما حكموا فيه جاز، ومنها هل الآية على التخيير أو على الترتيب؟ فقال مالك: هي على التخيير، وبه قال أبو حنيفة، يريد أن الحكمين يخيران الذي عليه الجزاء. وقال زفر: هي على الترتيب، واختلفوا هل يقوم الصيد أو المثل إذا اختار الإطعام إن وجب على القول بالوجوب فيشتري بقيمته طعاما؟ فقال مالك: يقوم الصيد، وقال الشافعي: يقوم المثل، فقال مالك: يصوم لكل مد يوما وهو الذي يطعم عندهم كل مسكين، وبه قال الشافعي وأهل الحجاز. وقال أهل الكوفة: يصوم لكل مدين يوما، وهو القدر الذي يطعم كل مسكين عندهم. واختلفوا في قتل الصيد خطأ هل فيه جزاء أم لا؟ فالجمهور على أن فيه الجزاء. وقال أهل الظاهر: لا جزاء عليه. واختلفوا في الجماعة يشتركون في قتل الصيد، فقال مالك: إذا قتل جماعة محرمون صيدا فعلى كل واحد منهم جزاء كامل، وبه قال الثوري وجماعة. وقال الشافعي: عليهم جزاء واحد. وفرق أبو حنيفة بين المحرمين يقتلون الصيد وبين المحلين يقتلونه في الحرم فقال: على كل واحد من المحرمين جزاء وعلى المحلين جزاء واحد. واختلفوا هل يكون أحد الحكمين قاتل الصيد، فذهي مالك إلى أنه لا يجوز. وقال الشافعي: يجوز. واختلف أصحاب أبي حنيفة على القولين جميعا واختلفوا في موضع الإطعام، فقال مالك: في الموضع الذي أصاب فيه الصيد إن كان ثمَّ طعام، وإلا ففي أقرب المواضع إلى ذلك الموضع. وقال أبو حنيفة: حيثما أطعم. وقال الشافعي: لا يطعم إلا مساكين مكة. وأجمع العلماء على أن المحرم إذا قتل الصيد أن عليه الجزاء للنص في ذلك. واختلفوا في الحلال يقتل الصيد في الحرم، فقال جمهور فقهاء الأمصار: عليه الجزاء. وقال داود وأصحابه: لا جزاء عليه. ولم يختلف المسلمون في تحريم قتل الصيد في الحرم، وإنما اختلفوا في الكفارة وذلك لقوله سبحانه -اولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا- وقول رسول الله ﷺ "إن الله حرَّم مكة يوم خلق السموات والأرض" وجمهور فقهاء الأمصار على أن المحرم إذا قتل الصيد وأكله أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة. وروى عن عطاء وطائفة أن فيه كفارتين، فهذه هي مشهورات المسائل المتعلقة بهذه الآية. (وأما الأسباب التي دعتهم إلى هذا الإختلاف) فنحن نشير إلى طرف منها فنقول. أما من اشترط في وجوب الجزاء أن يكون القتل عمدا فحجته أن اشتراط ذلك نص في الآية، وأيضا فإن العمد هو الموجب للعقاب والكفارات عقابا ما. وأما من أوجب الجزاء مع النسيان فلا حجة له، إلا أن يشبه الجزاء عند إتلاف الصيد بإتلاف الأموال، فإن الأموال عند الجمهور تضمن خطأ ونسيانا، لكن يعارض هذا القياس اشتراط العمد في وجوب الجزاء، فقد أجاب بعضهم عن هذا: أي العمد إنما اشترط لمكان تعلق العقاب المنصوص عليه في قوله -ليذوق وبال أمره- وذلك لا معنى له لأن الوبال المذوق هو في الغرامة فسواء قتله مخطئا أو متعمدا قد ذاق الوبال، ولا خوف أن الناسي غير معاقب، وأكثر ما تلزم هذه الحجة لمن كان من أصله أن الكفارات لا تثبت بالقياس، فإنه لا دليل لمن أثبتها على الناسي إلا القياس. وأما اختلافهم في المثل هل هو الشبيه أو المثل في القيمة، فإن سبب الاختلاف أن المثل يقال على الذي هو مثل وعلى الذي هو مثل في القيمة؛ لكن حجة من رأى أن الشبيه أقوى من جهة دلالة اللفظ أن انطلاق لفظ المثل على الشبيه في لسان العرب أظهر، وأظهر منه على المثل في القيمة، لكن لمن حمل ههنا المثل على القيمة دلائل حركته إلى اعتقاد ذلك: أحدها أن المثل الذي هو العدل هو منصوص عليه في الإطعام والصيام، وأيضا فإن المثل إذا حمل ههنا على التعديل كان عاما في جميع الصيد، فإن من الصيد ما لا يلقي له شبيه، وأيضا فإن المثل فيما لا يوجد له شبيه هو التعديل، وليس يوجد للحيوان المصيد في الحقيقة شبيه إلا من جنسه، وقد نص أن المثل الواجب فيه هو من غير جنسه، فوجب أن يكون مثلا في التعديل والقيمة، وأيضا فإن الحكم في الشبيه قد فرغ منه، فأما الحكم بالتعديل فهو شيء يختلف باختلاف الأوقات، ولذلك هو كل وقت يحتاج إلى الحكمين المنصوص عليهما، وعلى هذا يأتي التقدير في الآية بمشابه، فكأنه قال: ومن قتله منكم متعمدا فعليه قيمة ما قتل من النعم أو عدل القيمة طعاما أو عدل ذلك صياما. وأما اختلافهم هل المقدر هو الصيد أو مثله من النعم إذا قدر بالطعام، فمن قال المقدر هو الصيد قال: لأنه الذي لما لم يوجد مثله رجع إلى تقديره بالطعام، ومن قال إن المقدر هو الواجب من النعم قال: لأن الشيء إنما تقدر قيمته إذا عدم بتقدير مثله أعني شبيهه. وأما من قال إن الآية على التخيير فإنه التفت إلى حرف "أو" إذ كان مقتضاها في لسان العرب التخيير وأما من نظر إلى ترتيب الكفارات في ذلك فشبهها في الكفارات التي فيها الترتيب باتفاق، وهي كفارة الظهار والقتل. وأما اختلافهم في هل يستأنف الحكم في الصيد الواحد الذي وقع الحكم فيه من الصحابة، فالسبب في اختلافهم هو هل الحكم شرعي غير معقول المعنى أم هذا معقول المعنى؟ فمن قال هو معقول المعنى قال: ما قد حكم فيه فليس يوجد شيء أشبه به منه، مثل النعامة فإنه لا يوجد أشبه بها من البدنة فلا معنى إعادة الحكم، ومن قال هو عبادة قال: يعاد ولابد منه، وبه قال مالك. وأما اختلافهم في الجماعة يشتركون في قتل الصيد الواحد، فسببه هل الجزاء موجبه هو التعدي فقط أو التعدي على جملة الصيد؟ فمن قال التعدي فقط أوجب على كل واحد من الجماعة القاتلة للصيد جزاء، ومن قال التعدي على جملة الصيد قال: عليهم جزاء واحد. وهذه المسئلة شبيهة بالقصاص في النصاب في السرقة وفي القصاص في الأعضاء وفي الأنفس، وستأتي في مواضعها من هذا الكتاب إن شاء الله. وتفريق أبي حنيفة بين المحرمين وبين غير المحرمين القاتلين في الحرم على جهة التغليظ على المحرمين، ومن أوجب على كل واحد من الجماعة جزاء فإنما نظر إلى سد الذرائع، فإنه لو سقط عنهم الجزاء جملة لكان من أراد أن يصيد في الحرم صاد في جماعة، وإذا قلنا إن الجزاء هو كفارة للإثم فيشبه أنه لا يتبعض إثم قتل الصيد بالاشتراك فيه، فيجب أن لا يتبعض الجزاء فيجب على كل واحد كفارة. وأما اختلافهم في هل يكون أحد الحكمين قاتل للصيد، فالسبب فيه معارضة مفهوم الظاهر لمفهوم المعنى الأصلي في الشرع، وذلك أنه لم يشترطوا في الحكمين إلا العدالة، فيجب على ظاهر هذا أن يجوز الحكم ممن يوجد فيه هذا الشرط، سواء كان قاتل الصيد أو غير قاتل. وأما مفهوم المعنى الأصلي في الشرع فهو أن المحكوم عليه لا يكون حاكما على نفسه. وأما اختلافهم في الموضع، فسببه الإطلاق أعني أنه لم يشترط فيه موضع، فمن شبهه بالزكاة في أنه حق للمساكين فقال لا ينقل من موضعه. وأما من رأى أن المقصود بذلك إنما هو الرفق بمساكين مكة قال: لا يطعم إلا مساكين مكة، ومن اعتمد ظاهر الإطلاق قال: يطعم حيث شاء. وأما اختلافهم في الحلال يقتل الصيد في الحرم هل عليه كفارة أم لا؟ فسببه هل يقاس في الكفارات عند من يقول بالقياس؟ وهل القياس أصل من أصول الشرع عند الذين يختلفون فيه؟ فأهل الظاهر ينفون قياس قتل الصيد في الحرم على المحرم لمنعهم القياس في الشرع، ويحق على أصل أبي حنيفة أن يمنعه لمنعه القياس في الكفارات، ولا خلاف بينهم في تعلق الاسم به لقوله سبحانه وتعالى - أو لم يروا أنا جعلنا حراما آمنا ويتخطف الناس من حولهم - وقول رسول الله ﷺ "إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض" وأما اختلافهم فيمن قتله ثم أكله هل عليه جزاء واحد أم جزاءان؟ فسببه هل أكله تعد ثان عليه سوى القتل أم لا؟ وإن كان تعديا عليه فهل هو مساو للتعدي الأول أم لا؟ وذلك أنهم اتفقوا على أنه إن أكل أثم، ولما كان النظر في كفارة الجزاء يشتمل على أربعة أركان: معرفة الواجب في ذلك، ومعرفة من تجب عليه، ومعرفة الفعل الذي لأجله يجب، ومعرفة محل الوجوب. وكان قد تقدم الكلام في أكثر هذه الأجناس، وبقي من ذلك أمران: أحدهما اختلاف في بعض الواجبات من الأمثال في بعض المصيدات. والثاني ما هو صيد مما ليس بصيد يجب أن ينظر فيما بقي علينا من ذلك، فمن أصول هذا الباب ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب، وفي اليربوع بجفرة، واليربوع: دويبة لها أربع قوائم وذنب، تجتر كما تجتر الشاة، وهي من ذوات الكروش، والعنز عند أهل العلم من المعز ما قد ولد أو ولد مثله، والجفرة والعناق من المعز، فالجفرة ما أكل واستغنى عن الرضاع، والعناق قيل فوق الجفرة وقيل دونها، وخالف مالك هذه الحديث فقال: في الأرنب واليربوع لا يقومان إلا بما يجوز هديا وأضحية، وذلك الجذع فما فوقه من الضأن، والثني فما فوقه من الإبل والبقر، وحجة مالك قوله تعالى -هديا بالغ الكعبة- ولم يختلفوا أن من جعل على نفسه هديا أنه لا يجيزه أقل من الجزع فما فوقه من الضأن والثنى مما سواه، وفي صغار الصيد عند مالك مثل ما في كباره. وقال الشافعي: يفدى صغار الصيد بالمثل من صغار النعم وكبار الصيد بالكبار منها، وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود، وحجته أنها حقيقة المثل، فعنده في النعامة الكبيرة بدنة، وفي الصغيرة فصيل، وأبو حنيفة على أصله في القيمة. واختلفوا من هذا الباب في حمام مكة وغيرها، فقال مالك في حمام مكة: شاة، وفي حمام الحل حكومة. واختلف قول ابن القاسم في حمام الحرم غير مكة،فقال مرة شاة كحمام مكة، ومرة قال حكومة كحمام الحل. وقال الشافعي: في كل حمام شاة، وفي حمام سوى الحرم قيمته. وقال داود كل شيء لا مثل له من الصيد فلا جزاء فيها إلا الحمام فإن فيه شاة، ولعله ظن ذلك إجماعا، فإنه روي عن عمر بن الخطاب ولا مخالف له من الصحابة. وروي عن عطاء أنه قال: في كل شيء من الطير شاة. واختلفوا من هذا الباب في بيض النعامة، فقال مالك: أرى في بيض النعامة عشر ثمن البدنة، وأبو حنيفة على أصله في القيمة. ووافقه الشافعي في هذه المسألة. وبه قال أبو ثور. وقال أبو حنيفة: إن كان فيها فرخ ميت فعليه الجزاء: أعني جزاء النعامة. واشترط أبو ثور في ذلك أن يخرج حيا ثم يموت. (يتبع...) @(تابع... 2): -وأما الفعل بعدها فهو رمي الجمار، وذلك أن المسلمين اتفقوا على "أن... ... وروي عن علي أنه قضى في بيض النعامة بأن يرسل الفحل على الإبل فإذا تبين لقاحها سميت ما أصبت من البيض، فقلت: هذا هدي، ثم ليس عليك ضمان ما فسد من الحمل. وقال عطاء: من كانت له إبل فالقول قول علي، وإلا ففي كل بيضة درهمان، قال أبو عمر: وقد روي عن ابن عباس عن كعب بن عجرة عن النبي عليه الصلاة والسلام "في بيض النعامة يصيبه المحرم ثمنه" من وجه ليس بالقوي. وروي عن ابن مسعود أن فيه القيمة، قال: وفيه أثر ضعيف. وأكثر العلماء على أن الجراد من صيد البر يجب على المحرم فيه الجزاء. واختلفوا في الواجب من ذلك، فقال عمر رضي الله عنه: قبضة من طعام، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: تمرة خير من جرادة. وقال الشافعي: في الجراد قيمته، وبه قال أبو ثور إلا أنه قال: كل ما تصدق به من حفنة طعام أو تمرة فهو له قيمة. وروي عن ابن عباس أن فيها تمرة مثل قول أبي حنيفة. وقال ربيعة: فيها صاع من طعام وهو شاذ. وقد روي عن ابن عمر أن فيها شويهة وهو أيضا شاذ، فهذه هي مشهورات ما اتفقوا على الجزاء فيه، واختلفوا فيما هو الجزاء فيه. وأما إختلافهم فيما هو صيد مما ليس بصيد، وفيما هو من صيد البحر مما ليس منه، فإنهم اتفقوا على أن صيد البر محرَّم على المحرم إلا الخمس الفواسق المنصوص عليها، واختلفوا فيما يلحق به مما ليس يلحق، وكذلك اتفقوا على أن صيد البحر حلالا كله للمحرم، واختلفوا فيما هو من صيد البحر مما ليس منه، وهذا كله لقوله تعالى: -أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما- ونحن نذكر مشهور ما اتفقوا عليه من هذين الجنسين وما اختلفوا فيه، فنقول: ثبت من حديث ابن عمر وغيره أن رسول الله ﷺ قال "خمس من الدواب ليس على المحرم جناح في قتلهن: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب والعقور" واتفق العلماء على القول بهذا الحديث، وجمهورهم على القول بإباحة قتل ما تضمنه لكونه ليس بصيد وإن كان بعضهم اشترط في ذلك أوصافا ما. واختلفوا هل هذا باب من الخاص أريد به الخاص، أو باب من الخاص أريد به العام، والذين قالوا هو من باب الخاص أريد به العام اختلفوا في أي عام أريد بذلك، فقال مالك: الكلب العقور الوارد في الحديث إشارة إلى كل سبع عاد، وأن ما ليس بعاد من السباع فليس للمحرم قتله ولم ير قتل صغارها التي لا تعدو ولا ما كان منها أيضا لا يعدو ولا خلاف بينهم في قتل الحية والأفعى والأسود، وهو مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ "تقتل الأفعى والأسود" وقال مالك: لا أرى قتل الوزغ، والأخبار بقتلها متواترة، لكن مطلقا لا في الحرم، ولذلك توقف فيها مالك في الحرم. وقال أبو حنيفة: لا يقتل من الكلاب العقورة إلا الكلب الإنسي والذئب، وشذت طائفة فقالت: لا يقتل إلا الغراب الأبقع. وقال الشافعي: كل محرم الأكل فهو معنى في الخمس. وعمدة الشافعي أنه إنما حرم على المحرم ما أحل للحلال، وأن المباحة الأكل لا يجوز قتلها بإجماع لنهي رسول الله ﷺ عن صيد البهائم. وأما أبو حنيفة فلم يفهم من اسم الكلب الإنسي فقط بل من معناه كل ذئب وحشي. واختلفوا في الزنبور فبعضهم شبهه بالعقرب، وبعضهم رأى أنه أضعف نكاية من العقرب. وبالجملة فالمنصوص عليها تتضمن أنواعا من الفساد، فمن رأى أنه من باب الخاص أريد به العام ألحق بواحد واحد منها ما يشبه إن كان له شبه، ومن لم ير ذلك قصر النهي على المنطوق به. وشذت طائفة فقالت: لا يقتل إلا الغراب الأبقع، فخصصت عموم الاسم الوارد في الحديث الثابت بما روي عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام قال "خمس يقتلن في الحرم، فذكر فيهن الغراب الأبقع" وشذ النخعي فمنع المحرم قتل الصيد إلا الفأرة. وأما اختلافهم فيما هو من صيد البحر مما ليس هو منه، فإنهم اتفقوا على أن السمك من صيد البحر، واختلفوا فيما عدا السمك، وذلك بناء منهم على ما كان منه يحتاج إلى زكاة فليس من صيد البحر، وأكثر ذلك ما كان محرما، ولا خلاف بين من يحل جميع ما في البحر في أن صيده حلال، وإنما اختلف هؤلاء فيما كان من الحيوان يعيش في البر وفي الماء بأي الحكمين يلحق؟ وقياس قول أكثر العلماء أنه يلحق بالذي عيشه فيه غالبا، وهو حيث يولد. والجمهور على أن طير الماء محكوم له بحكم حيوان البر. وروي عن عطاء أنه قال في طير الماء حيث يكون أغلب عيشه يحكم له بحكمه. واختلفوا في نبات الحرم هل فيه جزاء أم لا؟ فقال مالك: لا جزا فيه، وإنما فيه الإثم فقط للنهي الوارد في ذلك. وقال الشافعي: فيه الجزاء في الدوخة بقرة، وفيما دونها شاة. وقال أبو حنيفة: كل ما كان من غرس الإنسان فلا شيء فيه، وكل ما كان نابتا بطبعه ففيه قيمة. وسبب الخلاف هل يقاس النبات في هذا على الحيوان لاجتماعهما في النهي عن ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام "لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها" فهذا هو القول في مشهور مسائل هذا الجنس، فلنقل في حكم الحالق رأسه قبل محل الحلق.

  • 4* القول في فدية الأذى وحكم الحالق رأسه قبل محل الحلق

@- وأما فدية الأذى فمجمع أيضا عليها لورود الكتاب بذلك والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى - فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك - . وأما السنة فحديث كعب ابن عجرة الثابت "أنه كان مع رسول الله ﷺ محرما، فآذاه القمل في رأسه، فأمره رسول الله ﷺ أن يحلق رأسه وقال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين مدين لكل إنسان، أو انسك بشاة، أي ذلك فعلت أجزأ عنك" والكلام في هذه الآية على من تجب الفدية، وعلى من لا تجب، وإذا وجبت فما هي الفدية الواجبة؟ وفي أي شيء تجب الفدية، ولمن تجب ومتى تجب وأين تجب؟ فأما على من تجب الفدية، فإن العلماء أجمعوا على أنها واجبة على كل من أماط الأذى من ضرورة لورود النص بذلك، واختلفوا فيمن أماطه بغير ضرورة، فقال مالك: عليه الفدية المنصوص عليها. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن حلق دون ضرورة فإنما عليه دم فقط، واختلفوا هل من شرط من وجبت عليه الفدية بإماطة الأذى أن يكون متعمدا أو الناسي في ذلك والمتعمد سواء، فقال مالك: العامد في ذلك والناسي واحد، وهو قول أبي حنيفة والثوري والليث. وقال الشافعي في أحد قوليه: وأهل الظاهر لا فدية على الناسي، فمن اشترط في وجوب الفدية الضرورة فدليله النص، ومن أوجب ذلك على غير المضطر فحجته أنه إذا وجبت على المضطر فهي على غير المضطر أوجب، ومن فرق بين العامد والناسي فلتفريق الشرع في ذلك بينهما في مواضع كثيرة، ولعموم قوله تعالى: -وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم- ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" ومن لم يفرق بينهما فقياسا على كثير من العبادات التي لم يفرق الشرع فيها بين الخطأ والنسيان. وأما ما يجب فيه فدية الأذى، فإن العلماء أجمعوا على أنها ثلاث خصال على التخيير: الصيام والإطعام والنسك لقوله تعالى: -ففدية من صيام أو صدقة أو نسك- والجمهور على أن الإطعام هو لستة مساكين، وأن النسك أقله شاة. وروي عن أنس وعكرمة ونافع أنهم قالوا: الإطعام لعشرة مساكين والصيام عشرة أيام. ودليل الجمهور حديث كعب بن عجرة الثابت. وأما من قال الصيام عشرة أيام فقياسا على صيام التمتع وتسوية الصيام مع الإطعام، ولما ورد أيضا في جزاء الصيد في قوله تعالى: -أو عدل ذلك صياما- وأما كم يطعم لكل مسكين من المساكين الستة التي ورد فيها النص، فإن الفقهاء اختلفوا في ذلك لاختلاف الآثار في الإطعام في الكفارات، فقال مالك والشافعي وابو حنيفة وأصحابهم: الإطعام في ذلك مدان بمد النبي ﷺ لكل مسكين. وروي عن الثوري أنه قال: من البر نصف صاع ومن التمر والزبيب والشعير صاع. وروي أيضا عن أبي حنيفة مثله وهو أصله في الكفارات. وأما ما تجب فيه الفدية، فاتفقوا على أنها تجب على من حلق رأسه لضرورة مرض أو حيوان يؤذيه في رأسه. قال ابن عباس: المرض أن يكون برأسه قروح، والأذى: القمل وغيره. وقال عطاء: المرض الصداع، والأذى: القمل وغيره. والجمهور على أن كل ما منعه المحرم من لباس الثياب المخيطة وحلق الرأس وقص الأظفار أنه إذا استباحه فعليه الفدية: أي دم على اختلاف بينهم في ذلك أو إطعام، ولم يفرقوا بين الضرر وغيره في هذه الأشياء، وكذلك استعمال الطيب. وقال قوم: ليس في قص الأظفار شيء. وقال قوم فيه دم. وحكى ابن المنذر أن منع المحرم قص الأظفار إجماع. واختلفوا فيمن أخذ بعض أظفاره، فقال الشافعي وأبو ثور: إن أخذ ظفرا واحدا أطعم مسكينا واحدا.، وإن أخذ ظفرين أطعم مسكينين، وإن أخذ ثلاثا فعليه دم في مقام واحد. وقال أبو حنيفة في أحد أقواله: لا شيء عليه حتى يقصها كلها. وقال أبو محمد بن حزم: يقص المحرم أظفاره وشاربه وهو شذوذ، وعنده أن لا فدية إلا من حلق الرأس فقط للعذر الذي ورد فيه النص. وأجمعوا على منع حلق شعر الرأس، واختلفوا في حلق الشعر من سائر الجسد، فالجمهور على أن فيه الفدية. وقال داود: لا فدية فيه. واختلفوا فيمن نتف من رأسه الشعرة والشعرتين أو من لحمه، فقال مالك: ليس على من نتف الشعر اليسير شيء إلا أن يكون أماط به أذى فعليه الفدية. وقال الحسن: في الشعرة مد وفي الشعرتين مدين، وفي الثلاثة دم، وبه قال الشافعي وأبو ثور. وقال عبد الملك صاحب مالك: فيما قل من الشعر إطعام وفيما كثر فدية. فمن فهم من منع المحرم حلق الشعر أنه عبادة سوى بين القليل والكثير، لأن القليل ليس في إزالته زوال أذى. أما موضع الفدية فاختلفوا فيه، فقال مالك: يفعل من ذلك ما شاء أين شاء بمكة وبغيرها وإن شاء ببلده، وسواء عنده في ذلك ذبح النسك والإطعام والصيام، وهو قول مجاهد والذي عند مالك ههنا هو نسك وليس بهدي. فإن الهدي لا يكون إلا بمكة أو بمنى. وقال أبو حنيفة والشافعي: الدم والإطعام لا يجزيان إلا بمكة والصوم حيث شاء. وقال ابن العباس: ما كان من دم فبمكة، وما كان من إطعام وصيام فحيث شاء، وعن أبي حنيفة مثله. ولم يختلف قول الشافعي أن دم الإطعام لا يجزئ إلا لمساكين الحرم. وسبب الخلاف استعمال قياس دم النسك على الهدي، فمن قاسه على الهدي أوجب فيه شروط الهدي من الذبح في المكان المخصوص به وفي مساكين الحرم، وإن كان مالك يرى أن الهدي يجوز إطعامه لغير مساكين الحرم، والذي يجمع النسك والهدي هو أن المقصود بهما منفعة المساكين المجاورين لبيت الله، والمخالف يقول: إن الشرع لما فرق بين اسمهما فسمى أحدهما نسكا وسمى الآخر هديا وجب أن يكون حكمهما مختلفا. وأما الوقت فالجمهور على أن هذه الكفارة لا تكون إلا بعد إماطة الأذى، ولا يبعد أن يدخله الخلاف قياسا على كفارة الأيمان، فهذا هو القول في كفارة إماطة الأذى. واختلفوا في حلق الرأس هل هو من مناسك الحج أو هو مما يتحلل به منه؟ ولا خلاف بين الجمهور في أنه من أعمال الحج، وأن الحلق أفضل من التقصير لما ثبت من حديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال "اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: والمقصرين" وأجمع العلماء على أن النساء لا يحلقن وأن سنتهن التقصير. واختلفوا هل هو نسك يجب على الحاج والمعتمر أولا؟ فقال مالك: الحلاق نسك للحاج وللمعتمر وهو أفضل من التقصير، ويجب على كل من فاته الحج وأحصر بعدو أو بمرض أو بعذر وهو قول جماعة الفقهاء إلا في المحصر بعدو، فإن أبا حنيفة قال: ليس عليه حلاق ولا تقصير. وبالجملة فمن جعل الحلاق أو التقصير نسكا أوجب في تركه الدم، ومن لم يجعله من النسك لم يوجب فيه شيئا.

  • 4* القول في كفارة المتمتع

@- وأما كفارة المتمتع التي نص الله عليها في قوله سبحانه - فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي - الآية، فإنه لا خلاف في وجوبها، وإنما الخلاف في المتمتع من هو؟ وقد تقدم ما في ذلك من الخلاف والقول في هذه الكفارة أيضا يرجع إلى تلك الأجناس بعينها على من تجب؟ وما الواجب فيها؟ ومتى تجب ولمن تجب وفي أي مكان تجب؟ فأما على من تجب فعلى المتمتع باتفاق، وقد تقدم الخلاف في المتمتع من هو. وأما اختلافهم في الواجب، فإن الجمهور من العلماء على أن ما استيسر من الهدي هو شاة، واحتج مالك في أن اسم الهدي قد ينطلق على الشاة بقوله تعالى في جزاء الصيد - هدايا بالغ الكعبة - ومعلوم بالإجماع أنه قد يجب في جزاء الصيد شاة، وذهب ابن عمر إلى أن اسم الهدي لا ينطلق إلا على الإبل والبقر، وأن معنى قوله تعالى - فما استيسر من الهدي - أي بقرة أدون من بقرة، وبدنة أدون من بدنة. وأجمعوا أن هذه الكفارة على الترتيب، وأن من لم يجد الهدي فعليه الصيام. واختلفوا من حد الزمان الذي ينتقل بانقضائه فرضه من الهدي إلى الصيام، فقال مالك: إذا شرع في الصوم فقد انتقل واجبه إلى الصوم وإن وجد الهدي في أثناء الصوم. وقال أبو حنيفة: إن وجد الهدي في صوم الثلاثة الأيام لزمه، وإن وجده في صوم السبعة لم يلزمه، وهذه المسئلة نظير مسئلة من طلع عليه الماء في الصلاة وهو متيمم. وسبب الخلاف هو هل ما هو شرط في ابتداء العبادة هو شرط في استمرارها. وإنما فرق أبو حنيفة بين الثلاثة والسبعة، لأن الثلاثة الأيام هي عنده بدل من الهدي والسبعة ليست ببدل، وأجمعوا على أنه إذا صام الثلاثة الأيام في العشر الأول من ذي الحجة أنه قد أتى بها في محلها لقوله سبحانه - فصيام ثلاثة أيام في الحج - ولا خلاف أن العشر الأول من أيام الحج. واختلفوا فيمن صامها في أيام عمل العمرة قبل أن يهل بالحج أو صامها في أيام منى، فأجاز مالك صيامها في أيام منى ومنعه أبو حنيفة وقال: إذا فاتته الأيام الأولى وجب الهدي في ذمته ومنعه مالك قبل الشروع في عمل الحج وأجازه أبو حنيفة. وسبب الخلاف هل ينطلق اسم الحج على هذه الأيام المختلف فيها أم لا؟ وإن انطلق فهل من شرط الكفارة أن لا تجزئ إلا بعد وقوع موجبها، فمن قال: لا تجزئ كفارة إلا بعد وقوع موجبها قال: لا يجزي الصوم إلا بعد الشروع في الحج، ومن قاسها على كفارة الأيمان قال: يجزي. واتفقوا أنه إذا صام السبعة الأيام في أهله أجزأه، واختلفوا إذا صامها في الطريق فقال مالك: يجزي الصوم، وقال الشافعي: لا يجزي. وسبب الخلاف الاحتمال الذي في قوله سبحانه - إذا رجعتم - فإن اسم الراجع ينطلق على من فرغ من الرجوع، وعلى من هو في الرجوع نفسه، فهذه هي الكفارة التي ثبتت بالسمع وهي من المتفق عليها، ولا خلاف أن من فاته الحج بعد أن شرع فيه إما بفوت ركن من أركانه، وإما من قبل غلطه في الزمان، أو من قبل جهله أو نسيانه أو إتيانه في الحج فعلا مفسدا له، فإن عليه القضاء إذا كان حجا واجبا وهل عليه هدي مع القضاء؟ واختلفوا فيه، وإن كان تطوعا فهل عليه قضاء أم لا؟ الخلاف في ذلك كله، لكن الجمهور على أن عليه الهدي لكون النقصان الداخل عليه مشعرا بوجوب الهدي. وشذ قوم فقالوا: لا هدي أصلا ولا قضاء إلا أن يكون في حج واجب، ومما يخص الحج الفاسد عند الجمهور دون سائر العبادات أنه يمضي فيه المفسد له ولا يقطعه وعليه دم. وشذ قوم فقالوا: هو كسائر العبادات، وعمدة الجمهور ظاهر قوله تعالى - وأتموا الحج والعمرة لله - فالجمهور عمموا والمخالفون خصصوا قياسا على غيرها من العبادات إذا وردت عليها المفسدات، واتفقوا على أن المفسد للحج إما من الأفعال المأمور بها فترك الأركان التي هي شرط في صحته على اختلافهم فيما هو ركن مما ليس بركن. وأما من التروك المنهي عنها فالجماع، وإن كانوا اختلفوا في الوقت الذي إذا وقع فيه الجماع كان مفسدا للحج. فأما إجماعهم على إفساد الجماع للحج فلقوله تعالى - فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج - واتفقوا على أن من وطئ قبل الوقوف بعرفة فقد أفسد حجه، وكذلك من وطئ من المعتمرين قبل أن يطوف ويسعى. واختلفوا في فساد الحج بالوطء بعد الوقوف بعرفة وقبل رمي جمرة العقبة وبعد رمي الجمرة وقبل طواف الإفاضة الذي هو الواجب، فقال مالك: من وطئ قبل رمي جمرة العقبة فقد فسد حجه وعليه الهدي والقضاء، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة والثوري: عليه الهدي بدنة وحجه تام. وقد روي مثل هذا عن مالك. وقال مالك: من وطئ بعد رمي جمرة العقبة وقبل طواف الإفاضة فحجه تام، وبقول مالك في أن الوطء قبل طواف الإفاضة لا يفسد الحج قال الجمهور: ويلزمه عندهم الهدي. وقالت طائفة: من وطئ قبل طواف الإفاضة فسد حجه، وهو قول ابن عمر. وسبب الخلاف أن للحج تحللا يشبه السلام في الصلاة وهو التحلل الأكبر وهو الإفاضة وتحللا أصغر، وهل يشترط في إباحة الجماع تحللان أو أحدهما؟ ولا خلاف بينهم أن التحلل الأصغر الذي هو رمي الجمرة يوم النحر أنه يحل به الحاج من كل شيء حرم عليه بالحج إلا النساء والطيب والصيد، فإنهم اختلفوا فيه، والمشهور عن مالك أنه يحل له كل شيء إلا النساء والطيب، وقيل عنه إلا النساء والطيب والصيد، لأن الظاهر من قوله - وإذا حللتم فاصطادوا - أنه التحلل الأكبر. واتفقوا على أن المعتمر يحل من عمرته إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وإن لم يكن حلق ولا قصر لثبوت الآثار في ذلك إلا خلافا شاذا. وروي عن ابن عباس أنه يحل بالطواف. وقال أبو حنيفة: لا يحل إلا بعد الحلاق، وإن جامع قبله فسدت عمرته. واختلفوا في صفة الجماع الذي يفسد الحج وفي مقدماته، فالجمهور على أن التقاء الختانين يفسد الحج، ويحتمل من يشترط في وجوب الطهر الإنزال مع التقاء الختانين أن يشترطه في الحج. واختلفوا في إنزال الماء فيما دون الفرج، فقال أبو حنيفة: لا يفسد الحج إلا الإنزال في الفرج. وقال الشافعي: ما يوجب الحد يفسد الحج. وقال مالك: الإنزال نفسه يفسد الحج، وكذلك مقدماته من المباشرة والقبلة. واستحب الشافعي فيمن جامع دون الفرج أن يهدي. واختلفوا فيمن وطئ مرارا، فقال مالك: ليس عليه إلا هدي واحد. وقال أبو حنيفة: إن كرر الوطء في مجلس واحد كان عليه هدي واحد، وإن كرره في مجالس كان عليه لكل وطء هدي. وقال محمد بن الحسن: يجزيه هدي واحد، وإن كرر الوطء ما لم يهد لوطئه الأول. وعن الشافعي الثلاثة الأقوال، إلا أن الأشهر عنه مثل قول مالك. واختلفوا فيمن وطئ ناسيا، فسوى مالك في ذلك بين العمد والنسيان. وقال الشافعي في الجديد لا كفارة عليه. واختلفوا هل على المرأة هدي؟ فقال مالك: إن طاوعته فعليها هدي، وإن أكرهها فعليه هديان. وقال الشافعي: ليس عليه إلا هدي واحد كقوله في المجامع في رمضان وجمهور العلماء على أنهما إذا حجا من قابل تفرقا أعني الرجل والمرأة، وقيل لا يفترقان، والقول بأن لا يفترقا مروي عن بعض الصحابة والتابعين، وبه قال أبو حنيفة. واختلف قول مالك والشافعي من أين يفترقان؟ فقال الشافعي: يفترقان من حيث أفسدا الحج، وقال مالك: يفترقان من حيث أحرما، إلا أن يكونا حرما قبل الميقات، فمن أخذهما بالافتراق فسدا للذريعة وعقوبة، ومن لم يؤاخذهما به فجريا على الأصل، وأنه لا يثبت حكم في هذا الباب إلا بسماع.

واختلفوا في الهدي الواجب في الجماع ما هو؟ فقال مالك وأبو حنيفة: هو شاة، وقال الشافعي: لايجزئه إلا بدنة، وإن لم يجد قومت البدنة دراهم وقومت الدراهم طعاما، فإن لم يجد صام عن كل مد يوما، قال: والإطعام والهدي لا يجزى إلا بمكة أو بمنى والصوم حيث شاء. وقال مالك: كل نقص دخل الإحرام من وطء أو حلق شعر أو إحصار فإن صاحبه إن لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، ولا يدخل الإطعام فيه، فمالك شبه الدم اللازم ههنا بدم المتمتع، والشافعي شبهه بالدم الواجب بالفدية، والإطعام عند مالك لا يكون إلا في كفارة الصيد وكفارة إزالة الأذى، والشافعي يرى أن الصيام والإطعام قد وقعا بدل لدم في موضعين، ولم يقع بدلهما إلا في موضع واحد، فقياس المسكوت عنه على المنطوق به في الإطعام أولى، فهذا ما يخص الفساد بالجماع.

وأما الفساد بفوات الوقت، وهو أن يفوته الوقوف بعرفة يوم عرفة، فإن العلماء أجمعوا أن من هذه صفته لا يخرج من إحرامه إلا بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، أعني أنه يحل ولابد بعمرة، وأن عليه حج قابل. واختلفوا هل عليه هدي أم لا؟ فقال مالك والشافعي وأحمد والثوري وأبو ثور: عليه الهدي، وعمدتهم إجماعهم على أن من حبسه مرض حتى فاته الحج أن عليه الهدي. وقال أبو حنيفة: يتحلل بعمرة ويحج من قابل ولا هدي عليه. وحجة الكوفيين أن الأصل في الهدي إنما هو بدل من القضاء، فإذا كان القضاء فلا هدي إلا ما خصصه الإجماع. واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة فيمن فاته الحج وكان قارنا هل يقضي حجا مفردا أو مقرونا بعمرة؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه يقضي قارنا لأنه إنما يقضي مثل الذي عليه. وقال أبو حنيفة: ليس عليه إلا الإفراد لأنه قد طاف لعمرته فليس يقضي إلا ما فاته. وجمهور العلماء على أن من فاته الحج أنه لا يقيم على إحرامه ذلك إلى عام آخر وهذا هو الاختيار عند مالك، إلا أنه أجاز ذلك ليسقط عنه الهدي ولا يحتاج أن يتحلل بعمرة. وأصل اختلافهم في هذه المسئلة اختلافهم فيمن أحرم بالحج في غير أشهر الحج، فمن لم يجعله محرما لم يجز للذي فاته الحج أن يبقى محرما إلى عام آخر، ومن أجاز الإحرام في غير أيام الحج أجاز له البقاء محرما، قال القاضي: فقد قلنا في الكفارات الواجبة بالنص في الحج وفي صفة القضاء في الحج الفائت والفاسد وفي صفة إحلال من فاته الحج، وقلنا قبل ذلك في الكفارات المنصوص عليها، وما ألحق الفقهاء بذلك من كفارة المفسد حجه، وبقي أن نقول في الكفارات التي اختلفوا فيها ترك نسك منها من مناسك الحج مما لم ينص عليه.

  • 4* القول في الكفارات المسكوت عنها

@- فنقول: إن الجمهور اتفقوا على أن النسك ضربان: نسك هو سنة موكدة ونسك هو مرغب فيه. فالذي هو سنة يجب على تاركه الدم لأنه حج ناقص أصله المتمتع والقارن. وروي عن ابن عباس أنه قال: من فاته من نسكه شيء فعليه دم، وأما الذي هو نفل فلم يروا فيه دما، ولكنهم اختلفوا اختلافا كثيرا في ترك نسك نسك هل فيه دم أم لا؟ وذلك لاختلافهم فيه هل هو سنة أو نفل؟ وأما ما كان فرضا فلا خلاف عندهم أنه لا يجبر بالدم، وإنما يختلفون في الفعل الواحد نفسه من قبل اختلافهم هل هو فرض أم لا؟ وأما أهل الظاهر فإنهم لا يرون دما إلا حيث ورد النص لتركهم القياس وبخاصة في العبادات، وكذلك اتفقوا على أن ما كان من المتروك مسنونا ففعل ففيه فدية الأذى، وما كان مرغبا فيه فليس فيه شيء. واختلفوا في ترك فعل لاختلافهم هل هو سنة أم لا؟ وأهل الظاهر لا يوجبون الفدية إلا في المنصوص عليه ونحن نذكر المشهور من اختلاف الفقهاء في ترك نسك نسك، أعني في وجوب الدم أو لا وجوبه من أول المناسك إلى آخرها، وكذلك في فعل محظور محظور، فأول ما اختلفوا فيه من المناسك من جاوز الميقات فلم يحرم هل عليه دم؟ فقال قوم: لا دم عليه. وقال قوم: عليه الدم وإن رجع، وهو قول مالك وابن المبارك. وروي عن الثوري. وقال قوم: إن رجع إليه فليس عليه دم، وإن لم يرجع فعليه دم، وهو قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد ومشهور قول الثوري. وقال أبو حنيفة: إن رجع ملبيا فلا دم عليه، وإن رجع غير ملب كان عليه الدم. وقال قوم: هو فرض ولا يجبره بالدم. واختلفوا فيمن غسل رأسه بالخطمى. فقال مالك وأبو حنيفة: يفتدى. وقال الثوري وغيره: لا شيء عليه. ورأى مالك أن في الحمام الفدية، وأباحه الأكثرون وروي عن ابن عباس من طريق ثابت دخوله، والجمهور على أنه يفتدى من لبس من المحرمين ما نهي عن لباسه. واختلفوا إذا لبس السراويل لعدم الإزار هل يفتدى أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة: يفتدى، وقال الثوري وأحمد وأبو ثور وداود: لا شيء عليه إذا لم يجد إزارا. وعمدة من منع النهي المطلق وعمدة من لم ير فيه فدية حديث عمرو بن دينار عن جابر وابن عباس قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول "السراويل لمن لم يجد الإزار والخف لمن لم يجد النعلين" واختلفوا فيمن لبس الخفين مقطوعين مع وجود النعلين، فقال مالك: عليه الفدية، وقال أبو حنيفة: لا فدية عليه، والقولان عن الشافعي. واختلفوا في لبس المرأة القفازين هل فيه فدية أم لا؟ وقد ذكرنا كثيرا من هذه الأحكام في باب الإحرام، وكذلك اختلفوا فيمن ترك التلبية هل عليه دم أم لا؟ وقد تقدم. واتفقوا على أن من نكس الطواف أو نسي شوطا من أشواطه أنه يعيده ما دام بمكة. واختلفوا إذا بلغ إلى أهله، فقال قوم منهم أبو حنيفة: يجزيه الدم، وقال قوم: بل يعيد ويجبر ما نقصه ولا يجزيه الدم. وكذلك اختلفوا في وجوب الدم على من ترك الرمل في الثلاثة الأشواط، وبالوجوب قال ابن عباس والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور. واختلف في ذلك قول مالك وأصحابه. والخلاف في هذه الأشياء كلها مبناه على أنه هل هو سنة أم لا؟ وقد تقدم القول في ذلك. وتقبيل الحجر أو تقبيل يده بعد وضعها عليه إذا لم يصل الحجر عند كل من لم يوجب الدم قياسا على المتمتع إذا تركه فيه دم. وكذلك اختلفوا فيمن نسي ركعتي الطواف حتى رجع إلى بلده هل عليه دم أم لا؟ فقال مالك: عليه دم. وقال الثوري: يركعهما ما دام في الحرم. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يركعهما حيث شاء، والذين قالوا في طواف الوداع إنه ليس بفرض اختلفوا فيمن تركه ولم تتمكن له العودة إليه هل عليه دم أم لا؟ فقال مالك: ليس عليه شيء إلا أن يكون قريبا فيعود. وقال أبو حنيفة والثوري: عليه دم إن لم يعد، وإنما يرجع عندهم ما لم يبلغ المواقيت، وحجة من لم يره سنة مؤكدة سقوطه عن المكي والحائض. وعند أبي حنيفة أنه إذا لم يدخل الحجر في الطواف أعاد ما لم يخرج من مكة، فإن خرج فعليه دم. واختلفوا هل من شرط صحة الطواف المشي فيه مع القدرة عليه؟ فقال مالك: هو من شرطه كالقيام في الصلاة، فإن عجز كان كصلاة القاعد ويعيد عنده أبدا. إلا إذا رجع إلى بلده فإن عليه دما. وقال الشافعي: الركوب في الطواف جائز "لأن النبي ﷺ طاف بالبيت راكبا من غير مرض" ولكنه أحب أن يستشرف الناس إليه، ومن لم ير السعي واجبا فعليه فيه دم إذا انصرف إلى بلده. ومن رآه تطوعا لم يوجب فيه شيئا، وقد تقدم اختلافهم أيضا فيمن قدم السعي على الطواف هل فيه دم إذا لم يعد حتى يخرج من مكة أم ليس فيه دم؟ واختلفوا في وجوب الدم على من دفع من عرفة قبل الغروب فقال الشافعي وأحمد: إن عاد فدفع بعد غروب الشمس فلا دم عليه، وإن لم يرجع حتى طلع الفجر وجب عليه الدم. وقال أبو حنيفة والثوري: عليه الدم رجع أو لم يرجع، وقد تقدم هذا. واختلفوا فيمن وقف من عرفة بعرنة، فقال الشافعي: لا حج له، وقال مالك: عليه دم. وسبب الاختلاف هل النهي عن الوقوف بها من باب الحظر أو من باب الكراهية، وقد ذكرنا في باب أفعال الحج إلى انقضائها كثيرا من اختلافهم فيما تركه دم وما ليس فيه دم، وإن كان الترتيب يقتضي ذكره في هذا الموضع، والأسهل ذكره هنالك. قال القاضي: فقد قلنا في وجوب هذه العبادة وعلى من تجب؟ وشروط وجوبها ومتى تجب؟ وهي التي تجري مجرى المقدمات لمعرفة هذه العبادة، وقلنا بعد ذلك في زمان هذه العبادة ومكانها ومحظوراتها وما اشتملت عليه أيضا من الأفعال في مكان مكان من أماكنها وزمان زمان من أزمنتها الجزئية إلى انقضاء زمانها، ثم قلنا في أحكام التحلل الواقع في هذه العبادة، وما يقبل من ذلك الإصلاح بالكفارات وما لا يقبل الإصلاح بل يوجب الإعادة، وقلنا أيضا في حكم الإعادة بحسب موجباتها. وفي هذا الباب يدخل من شرع فيها فأحصر بمرض أو عدو أو غير ذلك. والذي بقي من أفعال هذه العبادة هو القول في الهدي، وذلك أن هذا النوع من العبادات هو جزء من هذه العبادة، وهو مما ينبغي أن يفرد بالنظر فلنقل فيه:

  • 4* القول في الهدي

@- فنقول: إن النظر في الهدي يشتمل على معرفة وجوبه وعلى معرفة جنسه وعلى معرفة سنه وكيفية سوقه ومن أين يساق وإلى أين ينتهي بسوقه، وهو موضع نحره وحكم لحمه بعد النحر، فنقول: إنهم قد أجمعوا على أن الهدي المسوق في هذه العبادة منه واجب ومنه تطوع؛ فالواجب منه ما هو واجب بالنذر، ومنه ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة، ومنه ما هو واجب لأنه كفارة. فأما ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة فهو هدي المتمتع باتفاق وهدي القارن باختلاف. وأما الذي هو كفارة فهدي القضاء على مذهب من يشترط فيه الهدي، وهدي كفارة الصيد، وهدي إلقاء الأذى والتفث وما أشبه ذلك من الهدي الذي قاسه الفقهاء في الإخلال بنسك نسك منها على المنصوص عليه. فأما جنس الهدي فإن العلماء متفقون على أنه لا يكون الهدي إلا من الأزواج الثمانية التي نص الله عليها، وأن الأفضل في الهدايا هي الإبل ثم البقر ثم الغنم ثم المعز، وإنما اختلفوا في الضحايا. وأما الأسنان فإنهم أجمعوا أن الثني فما فوقه يجزي منها، وأنه لا يجزي الجذع من المعز في الضحايا والهدايا لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بردة "تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك" واختلفوا في الجذع من الضأن، فأكثر أهل العلم يقولون بجوازه في الهدايا والضحايا. وكان ابن عمر يقول: لا يجزي في الهدايا إلا الثني من كل جنس، ولا خلاف في أن الأغلى ثمنا من الهدايا أفضل. وكان الزبير يقول لبنيه: يا بني لا يهدين أحدكم لله من الهدي شيئا يستحي أن يهديه لكريمه، فإن الله أكرم الكرماء وأحق من اختير له، وقال رسول الله ﷺ "في الرقاب وقد قيل له أيها أفضل فقال: أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها" وليس في عدد الهدي حد معلوم، وكان هدي رسول الله ﷺ مائة. وأما كيفية سوق الهدي فهو التقليد والإشعار بأنه هدي "لأن رسول الله ﷺ خرج عام الحديبية، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم" وإذا كان الهدي من الإبل والبقر فلا خلاف أنه يقلد نعلا أو نعلين أو ما أشبه ذلك لمن لم يجد النعال. واختلفوا في تقليد الغنم، فقال مالك وأبو حنيفة: لا تقلد الغنم. وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود: تقلد لحديث الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة "أن النبي ﷺ أهدى إلى البيت مرة غنما فقلده" واستحبوا توجيهه إلى القبلة في حين تقليده، واستحب مالك الإشعار من الجانب الأيسر لما رواه عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا أهدى هديا من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة قلده قبل أن يشعره، وذلك في مكان واحد وهو موجه للقبلة يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر، ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة، ثم يدفع به معهم إذا دفعوا، وإذا قدم منى غداة النحر نحره قبل أن يحلق أو يقصر، وكان هو ينحر هديه بيده يصفهن قياما ويوجههن للقبلة ثم يأكل ويطعم. واستحب الشافعي وأحمد وأبو ثور الإشعار من الجانب الأيمن لحديث ابن عباس "أن رسول الله ﷺ صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنه فأشعرها من صفحة سنامها الأيمن ثم سلت الدم عنها وقلدها بنعلين ثم ركب راحلته، فلما استوت على البيداء أهل بالحج" وأما من أين يساق الهدي؟ فإن مالكا يرى أن من سنته أن يساق من الحل، ولذلك ذهب إلى أن من اشترى الهدي بمكة ولم يدخله من الحل أن عليه أن يقفه بعرفة، وإن لم يفعل فعليه البدل. وأما إن كان أدخله من الحل فيستحب له أن يقفه بعرفة، وهو قول ابن عمر، وبه قال الليث. وقال الشافعي والثوري وأبو ثور: وقوف الهدي بعرفة سنة، ولا حرج على من لم يقفه كان داخلا من الحل أو لم يكن. وقال أبو حنيفة ليس توقيف الهدي بعرفة من السنة، وحجة مالك في إدخال الهدي من الحل إلى الحرم "أن النبي عليه الصلاة والسلام كذلك فعل وقال: خذوا عني مناسككم" وقال الشافعي: التعريف سنة مثل التقليد. وقال أبو حنيفة: ليس التعريف بسنة، وإنما فعل ذلك رسول الله ﷺ لأن مسكنه كان خارج الحرم. وروي عن عائشة التخيير في تعريف الهدي أو لا تعريفه. وأما محله فهو البيت العتيق كما قال تعالى {ثم محلها إلى البيت العتيق} وقال {هديا بالغ الكعبة} وأجمع العلماء على أن الكعبة لا يجوز لأحد فيها ذبح، وكذلك المسجد الحرام، وأن المعنى في قوله {هديا بالغ الكعبة} أنه إنما أراد به النحر بمكة إحسانا منه لمساكينهم وفقرائهم. وكان مالك يقول: إنما المعنى في قوله {هديا بالغ الكعبة} مكة، وكان لا يجيز لمن نحر هديه في الحرم إلا أن ينحره بمكة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن نحره في غير مكة من الحرم أجزأه. وقال الطبري: يجوز نحر الهدي حيث شاء المهدي إلا هدي القران وجزاء الصيد فإنهما لا ينحران إلا بالحرم. وبالجملة فالنحر بمنى إجماع من العلماء وفي العمرة بمكة، إلا ما اختلفوا فيه من نحر المحصر. وعند مالك إن نحر للحج بمكة والعمرة بمنى أجزأه، وحجة مالك في أنه لا يجوز النحر بالحرم إلا بمكة قوله ﷺ "وكل فجاج مكة وطرقها منحر" واستثنى مالك من ذلك هدي الفدية، فأجاز ذبحه بغير مكة. وأما متى ينحر فإن مالكا قال: إن ذبح هدي التمتع أو التطوع قبل يوم النحر لم يجزه، وجوزه أبو حنيفة في التطوع وقال الشافعي: يجوز في كليهما قبل يوم النحر، ولا خلاف عند الجمهور أن ما عدل من الهدي بالصيام أنه يجوز حيث شاء، لأنه لا منفعة في ذلك لا لأهل الحرم ولا لأهل مكة، وإنما اختلفوا في الصدقة المعدولة عن الهدي، فجمهور العلماء على أنها لمساكين مكة والحرم، لأنها بدل من جزاء الصيد الذي هو لهم، وقال مالك: الإطعام كالصيام يجوز بغير مكة. وأما صفة النحر فالجمهور مجمعون على أن التسمية مستحبة فيها لأنها زكاة، ومنها من استحب مع التسمية التكبير. ويستحب للمهدي أن يلي نحر هديه بيده وإن استخلف جاز، وكذلك فعل رسول الله ﷺ في هديه، ومن سنتها أن تنحر قياما لقوله سبحانه وتعالى {فاذكروا اسم الله عليها صواف} وقد تكلم في صفة النحر في كتاب الذبائح. وأما ما يجوز لصاحب الهدي من الانتفاع به وبلحمه فإن في ذلك مسائل مشهورة: أحدها هل يجوز له ركوب الهدي الواجب أو التطوع؟ فذهب أهل الظاهر إلى أن ركوبه جائز من ضرورة ومن غير ضرورة، وبعضهم أوجب ذلك، وكره جمهور فقهاء الأمصار ركوبها من غير ضرورة، والحجة للجمهور ما خرجه أبو داود عن جابر وقد سئل عن ركوب الهدي فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا" ومن طريق المعنى أن الانتفاع بما قصد به القربة إلى الله تعالى منعه مفهوم من الشريعة، وحجة أهل الظاهر ما رواه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة "أن رسول الله ﷺ رأى رجلا يسوق بدنة فقال: اركبها، فقال: يا رسول الله إنها هدي، فقال: اركبها، ويلك في الثانية أو في الثالثة". وأجمعوا أن هدي التطوع إذا بلغ محله أنه يأكل منه صاحبه كسائر الناس، وأنه إذا عطب قبل أن يبلغ محله خلى بينه وبين الناس ولم يأكل منه، وزاد داود: ولا يطعم منه شيئا أهل رفقته "لما ثبت أن رسول الله ﷺ بعث بالهدي مع ناجية الأسلمي وقال له: إن عطب منها شيء فانحره ثم اصبغ نعليه في دمه وخل بينه وبين الناس" وروي عن ابن عباس هذا الحديث فزاد فيه "ولا تأكل منه أنت ولا أهل رفقتك" وقال بهذه الزيادة داود وأبو ثور. واختلفوا فيم يجب على من أكل منه، فقال مالك: إن أكل منه وجب عليه بدله. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وابن حبيب من أصحاب مالك: عليه قيمة ما أكل أو أمر بأكله طعاما يتصدق به. وروي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس وجماعة من التابعين. وما عطب في الحرم قبل أن يصل مكة فهل بلغ محله أم لا؟ فيه الخلاف مبني على الخلاف المتقدم هل المحل هو مكة أو الحرم؟ وأما الهدي الواجب إذا عطب قبل محله فإن لصاحبه أن يأكل منه لأن عليه بدله، ومنهم من أجاز له بيع لحمه وأن يستعين به في البدل، وكره ذلك مالك. واختلفوا في الأكل من الهدي الواجب إذا بلغ محله، فقال الشافعي: لا يؤكل من الهدي الواجب كله ولحمه كله للمساكين، وكذلك جله إن كان مجللا والنعل الذي قلد به. وقال مالك: يؤكل من كل الهدي الواجب إلا جزاء الصيد ونذر المساكين وفدية الأذى. وقال أبو حنيفة: لا يؤكل من الهدي الواجب إلا هدي المتعة وهدي القران. وعمدة الشافعي تشبيه جميع أصناف الهدي الواجب بالكفارة. وأما من فرق فلأنه يظهر في الهدي معنيان: أحدهما أنه عبادة مبتدأة. والثاني أنه كفارة، وأحد المعنيين في بعضها أظهر، فمن غلب شبهه بالعبادة على شبهه بالكفارة في نوع نوع من أنواع الهدي كهدي القران وهدي التمتع وبخاصة عند من يقول إن التمتع والقران أفضل لم يشترط أن لا يأكل، لأن هذا الهدي عنده هو فضيلة لا كفارة تدفع العقوبة، ومن غلب شبهه بالكفارة قال: لا يأكله لاتفاقهم على أنه لا يأكل صاحب الكفارة من الكفارة، ولما كان هدي جزاء الصيد وفدية الأذى ظاهر من أمرهما أنهما كفارة لم يختلف هؤلاء الفقهاء في أنه لا يأكل منها. قال القاضي: فقد قلنا في حكم الهدي وفي جنسه وفي سنه وكيفية سوقه، وشروط صحته من الزمان والمكان، وصفة نحره وحكم الانتفاع به، وذلك ما قصدناه والله الموفق للصواب. وبتمام القول في هذا بحسب ترتيبنا تم القول في هذا الكتاب بحسب غرضنا ولله الشكر والحمد كثيرا على ما وفق وهدى ومن به من التمام والكمال. وكان الفراغ منه يوم الأربعاء التاسع من جمادى الأولى الذي هو عام أربعة وثمانين وخمسمائة، وهو جزء من كتاب المجتهد الذي وضعته منذ أزيد من عشرين عاما أو نحوها، والحمد لله رب العالمين. كان رضي الله عنه عزم حين تأليف الكتاب أولا ألا يثبت كتاب الحج، ثم بدا له بعد فأثبته. بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.