بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
- 2*كتاب الاستحقاق.
@-وجل النظر في هذا الكتاب هو في أحكام الاستحقاق، وتحصيل أصول هذا الكتاب أن الشيء المستحق من يد إنسان بما تثبت به الإشياء في الشرع لمستحقها إذا صار إلى ذلك الإنسان الذي استحق من يده الشيء المستحق بشراء أنه لا يخلو من أن يستحق من ذلك الشيء أقله أو كله أو جله، ثم إذا استحق منه كله أو جله فلا يخلو أن يكون قد تغير عند الذي هو بيده بزيادة أو نقصان أو يكون لم يتغير، ثم لا يخلو أيضا أن يكون المستحق منه قد اشتراه بثمن أو مثمون. فأما إن كان استحق منه أقله، فإنه إنما يرجع عند مالك على الذي اشتراه منه بقيمة ما استحق من يده، وليس له أن يرجع بالجميع. وأما إن كان استحق كله أو جله، فإن كان لم يتغير أخذه المستحق ورجع المستحق من يده على الذي اشتراه منه بثمن ما اشتراه منه إن كان اشتراه بثمن، وإن كان اشتراه بالمثمون رجع بالمثمون بعينه إن كان لم يتغير، فإن تغير تغيرا يوجب اختلاف قيمته رجع بقيمته يوم الشراء، وإن كان المال المستحق قد بيع، فإن للمستحق أن يمضي البيع ويأخذ الثمن أو يأخذه بعينه، فهذا هو حكم المستحق والمستحق من يده ما لم يتغير الشيء المستحق، فإن تغير الشيء المستحق فلا يخلو أن يتغير بزيادة أو نقصان. فأما إن كان تغير بزيادة فلا يخلو أن يتغير بزيادة من قبل الذي استحق من يده الشيء، أو بزيادة من ذات الشيء. فأما الزيادة من ذات الشيء فيأخذها المستحق، مثل أن تسمن الجارية أو يكبر الغلام. وأما الزيادة من قبل المستحق منه، فمثل أن يشتري الدار فبنى فيها فتستحق من يده، فإنه مخير بين أن يدفع قيمة الزيادة ويأخذ ما استحقه وبين أن يدفع إليه المستحق من يده قيمة ما استحق أو يكونا شريكين، هذا بقدر قيمة ما استحق من يده، وهذا بقدر قيمة ما بنى أو غرس، وهو قضاء عمر بن الخطاب. وأما إن كانت الزيادة ولادة من قبل المستحق منه، مثل أن يشتري أمة فيولدها ثم تستحق منه أو يزوجها على أنها حرة فتخرج أمة، فإنهم اتفقوا على أن المستحق ليس له أن يأخذ أعيان الولد، واختلفوا في أخذ قيمتهم. وأما الأم فقيل يأخذها بعينها، وقيل يأخذ قيمتها. وأما إن كان الولد بنكاح فاستحقت بعبودية فلا خلاف أن لسيدها أن يأخذها ويرجع الزوج بالصداق على من غره، وإذا ألزمناه قيمة الولد لم يرجع بذلك على من غره، لأن الغرر لم يتعلق بالولد. وأما غلة الشيء المستحق، فإنه إذا كان ضامنا بشبهة ملك فلا خلاف أن الغلة للمستحق منه، وأعني بالضمان أنها تكون من خسارته إذا هلكت عنده. وأما إذا كان غير ضامن، مثل أن يكون وارثا فيطرأ عليه وارث آخر فيستحق بعض ما في يده فإنه يرد الغلة. وأما إن كان غير ضامن إلا أنه ادعى في ذلك ثمنا مثل العبد يستحق بحرية، فإنه وإن هلك عنده يرجع بالثمن ففيه قولان: أنه لا يضمن إذا لم يجد على من يرجع، ويضمن إذا وجد على من يرجع. وأما من أي وقت تصح الغلة للمستحق؟ فقيل يوم الحكم، وقيل من يوم ثبوت الحق، وقيل من يوم توقيفه. وإذا قلنا إن الغلة تجب للمستحق في أحد هذه الأوقات الثلاثة فإذا كانت أصولا فيها ثمرة فأدرك هذا الوقت الثمر ولم يقطف بعده، فقيل إنها للمستحق ما لم تقطف، وقيل ما لم تيبس، وقيل ما لم يطب ويرجع عليه بما سقى وعالج المستحق من يديه، وهذا إن كان اشترى الأصول قبل الإبار. وأما إن كان اشتراها بعد الإبار فالثمرة للمستحق عند ابن القاسم إن جذت ويرجع بالسقي والعلاج؛ وقال أشهب: هي للمستحق ما لم تجذ. والأرض إذا استحقت، فالكراء إنما هو للمستحق إن وقع الاستحقاق في إبان زريعة الأرض. وأما إذا خرج الإبان فقد وجب كراء الأرض للمستحق منه. وأما إن كان بغير نقصان، فإن كان من غير سبب المستحق من يديه فلا شيء على المستحق من يديه. وأما إن كان أخذ له ثمنا مثل أن يهدم الدار فيبيع نقضها ثم يستحقها من يده رجل آخر، فإنه يرجع عليه بثمن ما باع من النقض. قال القاضي: ولم أجد في هذا الباب خلافا يعتمد عليه فيما نقلته فيه من مذهب مالك وأصحابه، وهي أصولهم في هذا الباب، ولكن يجيء على أصول الغير أنه إذا كان المستحق مشتري بعرض، وكان العرض قد ذهب أن يرجع المستحق من يده بعرض مثله لا بقيمته، وهم الذين يرون في جميع المتلفات المثل؛ وكذلك يجيء على أصول الغير أن يرجع على المشتري إذا استحق منه قليل أو كثير، لأنه لم يدخل على الباقي ولا انعقد عليه بيع ولا وقع به تراض. كمل كتاب الاستحقاق بحمد الله. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
- 2*كتاب الهبات
@-والنظر في الهبة: في أركانها، وفي شروطها، وفي أنواعها، وفي أحكامها. ونحن إنما نذكر من هذه الأجناس ما فيها من المسائل المشهورة. @-فنقول: أما الأركان فهي ثلاثة: الواهب والموهوب له، والهبة. وأما الواهب فإنهم اتفقوا على أنه تجوز هبته إذا كان مالكا للموهوب صحيح الملك، وذلك إذا كان في حال الصحة وحال إطلاق اليد. واختلفوا في حال المرض وفي حال السفه والفلس. أما المريض فقال الجمهور: إنها في ثلثه تشبيها بالوصية، أعني الهبة التامة بشروطها. وقالت طائفة من السلف وجماعة أهل الظاهر: أن هبته تخرج من رأس ماله إذا مات، ولا خلاف بينهم أنه إذا صح من مرضه أن الهبة صحيحة. وعمدة الجمهور حديث عمران بن حصين عن النبي عليه الصلاة والسلام "في الذي أعتق ستة أعبد عند موته، فأمره رسول الله ﷺ فأعتق ثلثهم وأرق الباقي" وعمدة أهل الظاهر استصحاب الحال: أعني حال الإجماع، وذلك أنهم لما اتفقوا على جواز هبته في الصحة وجب استصحاب حكم الإجماع في المرض إلا أن يدل دليل من كتاب أو سنة بينة، والحديث عندهم محمول على الوصية، والأمراض التي يحجز فيها عند الجمهور هي الأمراض المخوفة، وكذلك عند مالك الحالات المخوفة، مثل الكون بين الصفين، وقرب الحامل من الوضع، وراكب البحر المرتج، وفيه اختلاف. وأما الأرض المزمنة فليس عندهم فيها تحجير، وقد تقدم هذا في كتاب الحجر. وأما السفهاء والمفلسون فلا خلاف عند من يقول بالحجر عليهم أن هبتهم غير ماضية. وأما الموهوب فكل شيء صح ملكه. واتفقوا على أن للإنسان أن يهب جميع ماله للأجنبي. واختلفوا في تفضيل الرجل بعض ولده على بعض في الهبة، أو في هبة جميع ماله لبعضهم دون البعض، فقال جمهور فقهاء الأمصار بكراهية ذلك له، ولكن إذا وقع عندهم جاز؛ وقال أهل الظاهر: لا يجوز التفضيل فضلا عن أن يهب بعضهم جميع ماله؛ وقال مالك يجوز التفضيل ولا يجوز أن يهب بعضهم جميع المال دون بعض. ودليل أهل الظاهر حديث النعمان بن بشير، وهو حديث متفق على صحته، وإن كان قد اختلف في ألفاظه، والحديث أنه قال "إن أباه بشيرا أتى به إلى رسول الله ﷺ فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله ﷺ: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا قال رسول الله ﷺ: فارتجعه" واتفق مالك والبخاري ومسلم على هذا اللفظ، قالوا: والارتجاع يقتضي بطلان الهبة. وفي بعض ألفاظ روايات هذا الحديث أنه قال عليه الصلاة والسلام "هذا جور". وعمدة الجمهور أن الإجماع منعقد على أن للرجل أن يهب في صحته جميع ماله للأجانب دون أولاده، فإذا كان ذلك للأجنبي فهو للولد أحرى. واحتجوا بحديث أبي بكر المشهور أنه كان نحل عائشة جذاذ وعشرين وسقا من مال الغابة فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك، ولا أعز علي فقرا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا فلو كنت جذذتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هواليوم مال وارث. قالوا: وذلك الحديث المراد به الندب، والدليل على ذلك أن في بعض رواياته: "ألست تريد أن يكونوا لك في البر واللطف سواء؟ قال: نعم، قال: فأشهد على هذا غيري". وأما مالك فإنه رأى أن النهي عن أن يهب الرجل جميع ماله لواحد من ولده هو أحرى أن يحمل على الوجوب، فأوجب عنده مفهوم هذا الحديث النهي عن أن يخص الرجل بعض أولاده بجميع ماله. فسبب الخلاف في هذه المسألة معارضة القياس للفظ النهي الوارد، وذلك أن النهي يقتضي عند الأكثر بصيغته التحريم، كما يقتضي الأمر الوجوب؛ فمن ذهب إلى الجمع بين السماع والقياس حمل الحديث على الندب، أو خصصه في بعض الصور كما فعل مالك، ولا خلاف عند القائلين بالقياس أنه يجوز تخصيص عموم السنة بالقياس، وكذلك العدول بها عن ظاهرها أعني أن يعدل بلفظ النهي عن مفهوم الحظر إلى مفهوم الكراهية. وأما أهل الظاهر فلما لم يجز عندهم القياس في الشرع اعتمدوا ظاهر الحديث وقالوا: بتحريم التفضيل في الهبة. واختلفوا من هذا الباب في جواز هبة المشاع غير المقسوم، فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور: تصح؛ وقال أبو حنيفة: لا تصح. وعمدة الجماعة أن القبض فيها يصح كالقبض في البيع. وعمدة أبي حنيفة أن القبض فيها لا يصح إلا مفردة كالرهن، ولا خلاف في المذهب في جواز هبة المجهول والمعدوم المتوقع الوجود، وبالجملة كل ما لا يصح بيعه في الشرع من جهة الغرر؛ وقال الشافعي: ما جاز بيعه جازت هبته كالدين، وما لم يجز بيعه لم تجز هبته، وكل ما لا يصح قبضه عند الشافعي لا تصح هبته كالدين والرهن، وأما الهبة فلا بد من الإيجاب فيها والقبول عند الجميع. ومن شرط الموهوب له أن يكون ممن يصح قبوله وقبضه. وأما الشروط فأشهرها القبض، أعني أن العلماء اختلفوا هل القبض شرط في صحة العقد أم لا؟ فاتفق الثوري والشافعي وأبو حنيفة أن من شرط صحة الهبة القبض، وأنه إذا لم يقبض لم يلزم الواهب؛ وقال مالك: ينعقد بالقبول ويجبر على القبض كالبيع سواء، فإن تأنى الموهوب له عن طلب القبض حتى أفلس الواهب أو مرض بطلت الهبة، وله إذا باع تفصيل إن علم فتوانى لم يكن له إلا الثمن، وإن قام في الفور كان له الموهوب. فمالك: القبض عنده في الهبة من شروط التمام لا من شروط الصحة، وهو عند الشافعي وأبي حنيفة من شروط الصحة. وقال أحمد وأبو ثور: تصح الهبة بالعقد، وليس القبض من شروطها أصلا، لا من شرط تمام ولا من شرط صحة، وهو قول أهل الظاهر. وقد روي عن أحمد بن حنبل أن القبض من شروطها في المكيل والموزون. فعمدة من لم يشترط القبض في الهبة تشبيهها بالبيع، وأن الأصل في العقود أن لا قبض مشترط في صحتها حتى يقوم الدليل على اشتراط القبض. وعمدة من اشترط القبض أن ذلك مروي عن أبي بكر رضي الله عنه في حديث هبته لعائشة المتقدم، وهو نص في اشتراط القبض في صحة الهبة. وما روى مالك عن عمر أيضا أنه قال: ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا ثم يمسكونها، فإن مات ابن أحدهم قال: مالي بيدي لم أعطه أحدا، وإن مات قال هو لابني قد كنت أعطيته إياه فمن نحل نحلة فلم يحزها الذي نحلها للمنحول له وأبقاها حتى تكون إن مات لورثته فهي باطلة، وهو قول علي، قالوا: وهو إجماع من الصحابة، لأنه لم ينقل عنهم في ذلك خلاف. وأما مالك فاعتمد الأمرين جميعا: أعني القياس وما روي عن الصحابة، وجمع بينهما، فمن حيث هي عقد من العقود لم يكن عنده شرطا من شروط صحتها القبض، ومن حيث شرطت الصحابة فيه القبض لسد الذريعة التي ذكرها عمر جعل القبض فيها من شرط التمام، ومن حق الموهوب له، وأنه إن تراخى حتى يفوت القبض بمرض أو إفلاس على الواهب سقط حقه. وجمهور فقهاء الأمصار على أن الأب يجوز لابنه الصغير الذي في ولاية نظره وللكبير السفيه الذي ما وهبه كما يجوز لهما ما وهبه غيره لهم، وأنه يكفي في الحيازة له إشهاده بالهبة والإعلان بذلك، وذلك كله فيما عدا الذهب والفضة وفيما لا يتعين. والأصل في ذلك عندهم ما رواه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عثمان بن عفان قال: من نحل ابنا له صغيرا لم يبلغ أن يحوز نحلته فأعلن ذلك وأشهد عليه فهي حيازة وإن وليها؛ وقال مالك وأصحابه: لابد من الحيازة في المسكون والملبوس، فإن كانت دارا سكن فيها خرج منها، وكذلك الملبوس إن لبسه بطلت الهبة، وقالوا في سائر العروض بمثل قول الفقهاء، أعني أنه يكفي في ذلك إعلانه وإشهاده. وأما الذهب والورق فاختلفت الرواية فيه عن مالك، فروي عنه أنه لا يجوز إلا أن يخرجه الأب عن يده إلى يد غيره، وروي عنه أنه يجوز إذا جعلها في ظرف أو إناء وختم عليها بخاتم وأشهد على ذلك الشهود. ولا خلاف بين أصحاب مالك أن الوصي يقوم في ذلك مقام الأب. واختلفوا في الأم؛ فقال ابن القاسم: لا تقوم مقام الأب، ورواه عن مالك؛ وقال غيره من أصحابه: تقوم، وبه قال أبو حنيفة؛ وقال الشافعي: الجد بمنزلة الأب، والجدة عند ابن وهب أم الأم تقوم مقام الأم، والأم عنده تقوم مقام الأب.
- 3*القول في أنواع الهبات.
@-والهبة منها ما هي هبة عين، ومنها ما هي هبة منفعة. وهبة العين منها ما يقصد بها الثواب، ومنها ما لا يقصد بها الثواب. والتي يقصد بها الثواب منها ما يقصد بها وجه الله، ومنها ما يقصد به وجه المخلوق. فأما الهبة لغير الثواب فلا خلاف في جوازها، وإنما اختلفوا في أحكامها. وأما هبة الثواب فاختلفوا فيها؛ فأجازها مالك وأبو حنيفة؛ ومنعها الشافعي، وبه قال داود وأبو ثور. وسبب الخلاف هل هي بيع مجهول الثمن أو ليس بيعا مجهول الثمن؟ فمن رآه بيعا مجهول الثمن قال هو من نوع بيوع الغرر التي لا تجوز، ومن لم ير أنها بيع مجهول قال: يجوز وكأن مالكا جعل العرف فيها بمنزلة الشرط وهو ثواب مثلها، ولذلك اختلف القول عندهم إذا لم يرض الواهب بالثواب ما الحكم؟ فقيل تلزمه الهبة إذا أعطاه الموهوب القيمة، وقيل لا تلزمه إلا أن يرضيه، وهو قول عمر على ما سيأتي بعد، فإذا اشترط فيه الرضا فليس هنالك بيع انعقد، والأول هو المشهور عن مالك. وأما إذا ألزم القيمة فهنالك بيع انعقد، وإنما يحمل مالك الهبة على الثواب إذا اختلفوا في ذلك، وخصوصا إذا دلت قرينة الحال على ذلك مثل أن يهب الفقير للغني، أو لمن يرى أنه إنما قصد بذلك الثواب. وأما هبات المنافع فمنها ما هي مؤجلة، وهذه تسمى عارية ومنحة وما أشبه ذلك، ومنها ما يشترط فيها ما بقيت حياة الموهوب له، وهذه تسمى العمري، مثل أن يهب رجل رجلا سكنى دار حياته، وهذه اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال: أحدها أنها هبة مبتوتة: أي هبة للرقبة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وجماعة. والقول الثاني أنه ليس للمعمر فيها إلا المنفعة، فإذا مات عادت الرقبة للمعمِر أو إلى ورثته، وبه قال مالك وأصحابه، وعنده أنه إن ذكر العقب عادت إذا انقطع العقب إلى المعمِر أو إلى ورثته. والقول الثالث أنه إذا قال: هي عمري لك ولعقبك كانت الرقبة ملكا للمعمر، فإذا لم يذكر العقب عادت الرقبة بعد موت المعمر للمعمِر أو لورثته، وبه قال داود وأبو ثور وسبب الخلاف في هذا الباب اختلاف الآثار ومعارضة الشرط والعمل للأثر. أما الأثر ففي ذلك حديثان: أحدهما متفق على صحته، وهو ما رواه مالك عن جابر أن رسول الله ﷺ قال "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها أبدا" لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث. والحديث الثاني حديث أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ "يا معشر الأنصار أمسكوا عليكم أموالكم ولا تعمروها فمن أعمر شيئا حياته فهو له حياته ومماته" وقد روي عن جابر بلفظ آخر "لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو لورثته" فحديث أبي الزبير عن جابر مخالف لشرط المعمر. وحديث مالك عنه مخالف أيضا لشرط المعمر إلا أنه يخيل أنه أقل في المخالفة، وذلك أن ذكر العقب يوهم تبتيت العطية، فمن غلب الحديث على الشرط قال بحديث أبي الزبير عن جابر، وحديث مالك عن جابر ومن غلب الشرط قال بقول مالك؛ وأما من قال إن العمرى تعود إلى المعمر إن لم يذكر العقب، ولا تعود إن ذكر، فإنه أخذ بظاهر الحديث. وأما حديث أبي الزبير عن جابر فمختلف فيه، أعني رواية أبي الزبير عن جابر. وأما إذا أتى بلفظ الإسكان فقال: أسكنتك هذه الدار حياتك، فالجمهور على إن الإسكان عندهم أو الإخدام بخلاف العمرى وإن لفظ بالعقب، فسوى مالك بين التعمير والإسكان. وكان الحسن وعطاء وقتادة يسوون بين السكنى والتعمير في أنها لا تنصرف إلى المسكن أبدا على قول الجمهور في العمري. والحق أن الإسكان والتعمير معنى المفهوم منهما واحد، وأنه يجب أن يكون الحكم إذا صرح بالعقب مخالفا له إذا لم يصرح بذكر العقب على ما ذهب إليه أهل الظاهر.
- 3*القول في الأحكام.
@-ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب جواز الاعتصار في الهبة، وهو الرجوع فيها. فذهب مالك وجمهور علماء المدينة أن للأب أن يعتصر ما وهبه لابنه ما لم يتزوج الابن أو لم يستحدث دينا أو بالجملة ما لم يترتب عليه حق الغير، وأن للأم أيضا أن تعتصر ما وهبت إن كان الأب حيا، وقد روي عن مالك أنها لا تعتصر؛ وقال أحمد وأهل الظاهر: لا يجوز لأحد أن يعتصر ما وهبه؛ وقال أبو حنيفة: يجوز لكل أحد أن يعتصر ما وهبه إلا ما وهب لذي رحم محرمة عليه. وأجمعوا على أن الهبة التي يراد بها الصدقة أي وجه الله أنه لا يجوز لأحد الرجوع فيها. وسبب الخلاف في هذا الباب تعارض الآثار؛ فمن لم ير الاعتصار أصلا احتج بعموم الحديث الثابت، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" ومن استثنى الأبوين احتج بحديث طاوس أنه قال عليه الصلاة والسلام "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد" وقاس الأم على الوالد؛ وقال الشافعي: لو اتصل حديث طاوس لقلت به؛ وقال غيره: قد اتصل من طريق حسين المعلم، وهو ثقة. وأما من أجاز الاعتصار إلا لذوي الرحم المحرمة، فاحتج بما رواه مالك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من وهب هبة لصلة رحم أو على جهة صدقة فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد الثواب بها فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها. وقالوا أيضا فإن الأصل أن من وهب شيئا عن غير عوض أنه لا يقضي عليه به كما لو وعد، إلا ما اتفقوا عليه من الهبة على وجه الصدقة. وجمهور العلماء على أن من تصدق على ابنه فمات الابن بعد أن حازها فإنه يرثها. وفي مرسلات مالك أن رجلا أنصاريا من الخزرج تصدق على أبويه بصدقة فهلكا فورث ابنهما المال وهو نخل، فسأل عن ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فقال: "قد أجرت في صدقتك وخذها بميراثك" وخرج أبو داود عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن امرأة أتت رسول الله ﷺ فقالت "كنت قد تصدقت على أمي بوليدة، وإنها ماتت وتركت لي تلك الوليدة، فقال ﷺ: وجب أجرك ورجعت إليك بالميراث" وقال أهل الظاهر: لا يجوز الاعتصار لأحد لعموم قوله عليه الصلاة والسلام لعمر "لا تشتره في الفرس الذي تصدق به، فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" والحديث متفق على صحته. قال القاضي: والرجوع في الهبة ليس من محاسن الأخلاق، والشارع عليه الصلاة والسلام إنما بعث ليتمم محاسن الأخلاق. وهذا القدر كاف في هذا الباب.