كتاب أحكام الميت @-والكلام في هذا الكتاب وهي حقوق الأموات على الأحياء. ينقسم إلى ست جمل: الجملة الأولى: فيما يستحب أن يفعل به عند الاحتضار، وبعده. الثانية: في غسله. الثالثة: في تكفينه. الرابعة: في حمله واتباعه. الخامسة: في الصلاة عليه. السادسة: في دفنه.
- 3*الباب الأول. فيما يستحب أن يفعل به عند الاحتضار وبعده.
@-ويستحب أن يلقن الميت عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله، لقوله عليه الصلاة والسلام "لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله" وقوله "من كان آخر قوله لا إله إلا الله دخل الجنة". واختلفوا في استحباب توجيهه إلى القبلة، فرأى ذلك قوم ولم يره آخرون. وروي عن مالك أنه قال في التوجيه: ما هو من الأمر القديم. وروي عن سعيد بن المسيب أنه أنكر ذلك ولم يرو ذلك عن أحد من الصحابة ولا من التابعين: أعني الأمر بالتوجيه، فإذا قضى الميت غمض عينيه، ويستحب تعجيل دفنه لورود الآثار بذلك، إلا الغريق، فإنه يستحب في المذهب تأخير دفنه مخافة أن يكون الماء قد غمره فلم تتبين حياته. قال القاضي: وإذا قيل هذا في الغريق فهو أولى في كثير من المرضى مثل الذين يصيبهم انطباق العروق وغير ذلك مما هو معروف عند الأطباء حتى قال الأطباء إن المسكوتين لا ينبغي أن يدفنوا إلا بعد ثلاث.
- 3*الباب الثاني في غسل الميت.
@-ويتعلق بهذا الباب فصول أربعة: منها في حكم الغسل. ومنها فيمن يجب غسله من الموتى. ومن يجوز أن يغسل، وما حكم الغاسل، ومنها في صفة الغسل.
- 4*الفصل الأول في حكم الغسل.
@-فأما حكم الغسل فإنه قيل فيه إنه فرض على الكفاية. وقيل سنة على الكفاية. والقولان كلاهما في المذهب. والسبب في ذلك أنه نقل بالعمل لا بالقول، والعمل ليس له صيغة تفهم الوجوب أو لا تفهمه. وقد احتج عبد الوهاب لوجوبه بقوله عليه الصلاة والسلام في ابنته "اغسلنها ثلاثا أو خمسا" وبقوله في المحرم "اغسلوه" فمن رأى أن هذا القول خرج مخرج تعليم لصفة الغسل لا مخرج الأمر به لم يقل بوجوبه، ومن رأى أنه يتضمن الأمر والصفة قال: بوجوبه.
- 4*الفصل الثاني فيمن يجب غسله من الموتى.
@-وأما الأموات الذين يجب غسلهم فإنهم اتفقوا من ذلك على غسل الميت المسلم الذي لم يقتل في معترك حرب الكفار. واختلفوا في غسل الشهيد وفي الصلاة عليه وفي غسل المشرك. فأما الشهيد: أعني الذي قتله في المعترك المشركون، فإن الجمهور على ترك غسله لما روي "أن رسول الله ﷺ أمر بقتلى أحد فدفنوا بثيابهم ولم يصل عليهم" وكان الحسن وسعيد ابن المسيب يقولان: يغسل كل مسلم فإن كل ميت يجنب، ولعلهم كانوا يرون إن ما فعل بقتلى أحد كان لموضع الضرورة: أعني المشقة في غسلهم، وقال بقولهم من فقهاء الأمصار عبيد الله بن الحسن العنبري. وسئل أبو عمر فيما حكى ابن المنذر عن غسل الشهيد فقال: قد غسل عمر وكفن وحنط وصلى عليه، وكان شهيدا يرحمه الله. واختلف الذين اتفقوا على أن الشهيد في حرب المشركين لا يغسل في الشهداء من قتل اللصوص أو غير أهل الشرك. فقال الأوزاعي وأحمد وجماعة حكمهم حكم من قتله أهل الشرك. وقال مالك والشافعي: يغسل. وسبب اختلافهم هو هل الموجب لرفع حكم الغسل هي الشهادة مطلقا أو الشهادة على أيدي الكفار، فمن رأى أن سبب ذلك هي الشهادة مطلقا قال: لا يغسل كل من نص عليه النبي عليه الصلاة والسلام أنه شهيد ممن قتل. ومن رأى أن سبب ذلك هي الشهادة من الكفار قصر ذلك عليهم. وأما غسل المسلم الكافر فكان مالك يقول: لا يغسل المسلم والده الكافر ولا يقبره، إلا أن يخاف ضياعه فيواريه. وقال الشافعي: لابأس بغسل المسلم قرابته من المشركين ودفنهم، وبه قال أبو ثور وأبو حنيفة وأصحابه قال أبو بكر بن المنذر: ليس في غسل الميت المشرك سنة تتبع، وقد روى "أن النبي عليه الصلاة والسلام. أمر بغسل عمه لما مات". وسبب الخلاف هل الغسل من باب العبادة، أو من باب النظافة؟ فإن كانت عبادة لم يجز غسل الكافر، وإن كانت نظافة جاز غسله.
- 4*الفصل الثالث فيمن يجوز أن يغسل الميت.
@-وأما من يجوز أن يغسل الميت، فإنهم اتفقوا على أن الرجال يغسلون الرجال والنساء يغسلون النساء. واختلفوا في المرأة تموت مع الرجال، أو الرجل يموت مع النساء ما لم يكونا زوجين على ثلاثة أقوال: فقال قوم: يغسل كل واحد منهما صاحبه من فوق الثياب. وقال قوم: ييمم كل واحد منهما صاحبه، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء. وقال قوم: لا يغسل واحد منهما صاحبه ولا ييممه، وبه قال الليث بن سعد، بل يدفن من غير غسل. وسبب اختلافهم هو الترجيح بين تغليب النهي على الأمر، أو الأمر على النهي، وذلك أن الغسل مأمور به، ونظر الرجل إلى بدن المرأة والمرأة إلى بدن الرجل منهي عنه. فمن غلب النهي تغليبا مطلقا، أعني لم يقس الميت على الحي في كون الطهارة التراب له بدلا من طهارة الماء عند تعذرها قال: لا يغسل واحد منهما صاحبه ولا ييممه. ومن غلب الأمر على النهي قال يغسل كل واحد منهما صاحبه: أعني غلب الأمر على النهي تغليبا مطلقا. ومن ذهب إلى التيمم فلأنه رأى أنه لا يلحق الأمر والنهي في ذلك تعارض، وذلك أن النظر إلى مواضع التيمم يجوز لكل الصنفين، ولذلك رأى مالك أن ييمم الرجل المرأة في يديها ووجهها فقط لكون ذلك منها ليسا بعورة، وأن تيمم المرأة الرجل إلى المرفقين لأنه ليس من الرجل عورة إلا من السرة إلى الركبة على مذهبه، فكأن الضرورة التي نقلت الميت من الغسل إلى التيمم عند من قال به هي تعارض الأمر والنهي، فكأنه شبه هذه الضرورة بالضرورة التي يجوز معها للحي التيمم، وهو تشبيه فيه بعد ولكن عليه الجمهور. فأما مالك فاختلف في قوله هذه المسألة فمرة قال: ييمم كل واحد منهما صاحبه قولا مطلقا، ومرة فرق في ذلك بين ذوي المحارم وغيرهم، ومرة فرق في ذوي المحارم بين الرجال والنساء، فيتحصل عنه أن له في ذوي المحارم ثلاثة أقوال: أشهرها أنه يغسل كل واحد منهما على الثياب. والثاني أنه لا يغسل أحدهما صاحبه لكن ييممه مثل قول الجمهور في غير ذوي المحارم. والثالث الفرق بين الرجال والنساء: أعني تغسل المرأة الرجل ولا يغسل الرجل المرأة. فسبب المنع أن كل واحد منهما لا يحل له أن ينظر إلى موضع الغسل من صاحبه كالأجانب سواء. وسبب الإباحة أنه موضع ضرورة وهم أعذر في ذلك من الأجنبي. وسبب الفرق أن نظر الرجال إلى النساء أغلظ من نظر النساء إلى الرجال، بدليل أن النساء حجبن عن نظر الرجال إليهن ولم يحجب الرجال عن النساء. وأجمعوا من هذا الباب على جواز غسل المرأة زوجها. واختلفوا في جواز غسله إياها، فالجمهور على جواز ذلك؛ وقال أبو حنيفة: لا يجوز غسل الرجل لزوجته. وسبب اختلافهم هو تشبيه الموت بالطلاق، فمن شبهه بالطلاق قال: لا يحل أن ينظر إليها بعد الموت، ومن لم يشبهه بالطلاق وهم الجمهور قال: إن ما يحل له من النظر إليها قبل الموت يحل له بعد الموت، وإنما دعا أبا حنيفة أن يشبه الموت بالطلاق لأنه رأى أنه إذا ماتت إحدى الأختين حل له نكاح الأخرى، كالحال فيها إذا طلقت، وهذا فيه بعد، فإن علة منع الجمع مرتفعة بين الحي والميت، ولذلك حلت إلا أن يقال إن علة منع الجمع غير معقوله، وإن منع الجمع بين الأختين عبادة محضة غير معقولة المعنى، فيقوى حينئذ مذهب أبي حنيفة، وكذلك أجمعوا على أن المطلقة المبتوتة لا تغسل زوجها، واختلفوا في الرجعية، فروي عن مالك أنها تغسله، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال ابن القاسم: لا تغسله وإن كان الطلاق رجعيا وهو قياس قول مالك، لأنه ليس يجوز عنده أن يراها، وبه قال الشافعي. وسبب اختلافهم هو هل يحل للزوج أن ينظر إلى الرجعية أو لا ينظر إليها؟ وأما حكم الغاسل فإنهم اختلفوا فيما يجب عليه، فقال قوم: من غسل ميتا وجب عليه الغسل. وقال قوم: لا غسل عليه. وسبب اختلافهم معارضة حديث أبي هريرة لحديث أسماء، وذلك أن أبا هريرة روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" خرجه أبو داود. وأما حديث أسماء فإنها لما غسلت أبا بكر رضي الله عنه خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين والأنصار وقالت إني صائمة، وإن هذا يوم شديد البرد فهل علي من غسل؟ قالوا: لا، وحديث أسماء في هذا صحيح. وأما حديث أبي هريرة فهو عند أكثر أهل العلم فيما حكى أبو عمر غير صحيح، لكن حديث أسماء ليس فيه في الحقيقة معارضة له، فإن من أنكر الشيء يحتمل أن يكون ذلك لأنه لم تبلغه السنة في ذلك الشيء، وسؤال أسماء والله أعلم يدل على الخلاف في ذلك في الصدر الأول، ولهذا كله قال الشافعي رضي الله عنه على عادته في الاحتياط والالتفات إلى الأثر لا غسل على من غسل الميت إلا أن يثبت حديث أبي هريرة.
- 4*الفصل الرابع في صفة الغسل. وفي هذا الفصل مسائل:
@-(إحداها) هل ينزع عن الميت قميصه إذا غسل؟ أم يغسل في قميصه؟ اختلفوا في ذلك، فقال مالك: إذا غسل الميت تنزع ثيابه وتستر عورته، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: يغسل في قميصه. وسبب اختلافهم تردد غسله عليه الصلاة والسلام في قميصه بين أن يكون خاصا به وبين أن يكون سنة فمن رأى أنه خاص به أنه لا يحرم من النظر إلى الميت إلا ما يحرم منه وهو حي قال: يغسل عريانا إلا عورته فقط التي يحرم النظر إليها في حال الحياة. ومن رأى أن ذلك سنة يستند إلى باب الإجماع أو إلى الأمر الإلهي، لأنه روي في الحديث أنهم سمعوا صوتا يقول لهم: لا تنزعوا القميص، وقد ألقي عليهم النوم قال: الأفضل أن يغسل الميت في قميصه. @-(المسألة الثانية) قال أبو حنيفة: لا يوضأ الميت. وقال الشافعي: يوضأ. وقال مالك: إن وضئ فحسن. وسبب الخلاف في ذلك معارضة القياس للأثر. وذلك أن القياس يقتضي أن لا وضوء على الميت، لأن الوضوء طهارة مفروضة لموضع العبادة، وإذا أسقطت العبادة عن الميت سقط شرطها الذي هو الوضوء ولولا أن الغسل ورد في الآثار لما وجب غسله. وظاهر حديث أم عطية الثابت أن الوضوء شرط في غسل الميت لأن فيه أن رسول الله ﷺ قال في غسل ابنته "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها" وهذه الزيادة ثابتة خرجها البخاري ومسلم، ولذلك يجب أن تعارض بالروايات التي فيها الغسل مطلقا، لأن المقيد يقضي على المطلق، إذ فيه زيادة على ما يراه كثير من الناس، ويشبه أيضا أن يكون من أسباب الخلاف في ذلك معارضة المطلق للمقيد، وذلك أنه وردت آثار كثيرة فيها الأمر بالغسل مطلقا من غير ذكر وضوء فيها، فهؤلاء رجحوا الإطلاق على التقييد لمعارضة القياس له في هذا الموضع. والشافعي جرى على الأصل من حمل المطلق على المقيد. @-(المسألة الثالثة) اختلفوا في التوقيت في الغسل، فمنهم من أوجبه، ومنهم من استحسنه واستحبه. والذين أوجبوا التوقيت منهم من أوجب الوتر، أي وتر كان، وبه قال ابن سيرين. ومنهم من أوجب الثلاثة فقط، وهو أبو حنيفة. ومنهم من حد أقل الوتر في ذلك فقال: لا ينقص عن الثلاثه ولم يحد الأكثر وهو الشافعي. ومنهم من حد الأكثر في ذلك فقال: لا يتجاوز به السبعة، وهو أحمد بن حنبل. وممن قال باستحباب الوتر ولم يحد فيه حدا مالك بن أنس وأصحابه. وسبب الخلاف بين من شرط التوقيت ومن لم يشترطه بل استحبه معارضة القياس للأثر، وذلك أن ظاهر حديث أم عطية يقتضي التوقيت، لأن فيه "اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن" وفي بعض رواياته "أو سبعا". وأما قياس الميت على الحي في الطهارة فيقتضي أن لا توقيت فيها كما ليس في طهارة الحي توقيت، فمن رجح الأثر على النظر قال بالتوقيت. ومن رأى الجمع بين الأثر والنظر حمل التوقيت على الاستحباب. وأما الذين اختلفوا في التوقيت، فسبب اختلافهم ألفاظ الروايات في ذلك عن أم عطية. فأما الشافعي فإنه رأى أن لا ينقص عن ثلاثة لأنه أقل وتر نطق به في حديث أم عطية، ورأى أن ما فوق ذلك مباح لقوله عليه الصلاة والسلام "أو أكثر من ذلك إن رأيتن". وأما أحمد فأخذ بأكثر وتر نطق به في بعض روايات الحديث، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "أو سبعا". وأما أبو حنيفة فصار في قصره الوتر على الثلاث لما روي أن محمد بن سيرين كان يأخذ الغسل عن أم عطية "ثلاثا يغسل بالسدر مرتين والثالثة بالماء والكافور" وأيضا فإن الوتر الشرعي عنده إنما ينطلق على الثلاث فقط. وكان مالك يستحب أن يغسل في الأولى بالماء القراح، وفي الثانية بالسدر، وفي الثالثة بالماء والكافور. واختلفوا إذا خرج من بطنه حدث هل يعاد غسله أم لا؟ فقيل لا يعاد، وبه قال مالك، وقيل يعاد. والذين رأوا أنه يعاد اختلفوا في العدد الذي تجب به الإعادة إن تكرر خروج الحدث، فقيل يعاد الغسل عليه واحدة، وبه قال الشافعي. وقيل يعاد ثلاثا. وقيل يعاد سبعا. وأجمعوا على أنه لا يزاد على السبع شيء. واختلفوا في تقليم أظفار الميت والأخذ من شعره، فقال قوم: تقلم أظفاره ويؤخذ منه. وقال قوم: لا تقلم أظفاره ولا يؤخذ من شعره وليس فيه أثر. وأما سبب الخلاف في ذلك، فالخلاف الواقع في ذلك في الصدر الأول، ويشبه أن يكون سبب الخلاف في ذلك قياس الميت على الحي، فمن قاسه أوجب تقليم الأظفار وحلق العانة لأنها من سنة الحي باتفاق، وكذلك اختلفوا في عصر بطنه قبل أن يغسل. فمنهم من رأى ذلك، ومنهم من لم يره. فمن رآه رأى أن فيه ضربا من الاستنقاء من الحدث عند ابتداء الطهارة، وهو مطلوب من الميت كما هو مطلوب من الحي. ومن لم ير ذلك رأى أنه من باب تكليف ما لم يشرع، وأن الحي في ذلك بخلاف الميت.
- 3*الباب الثالث في الأكفان.
@-والأصل في هذا الباب أن رسول الله ﷺ كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة "وخرج أبو داود عن ليلى بنت قائف الثقفية قالت "كنت فيمت غسل أم كلثوم بنت رسول الله ﷺ، فكان أول ما أعطاني رسول الله ﷺ الحقو ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله ﷺ جالس عند الباب معه أكفانها يناولناها ثوبا ثوبا" فمن العلماء من أخذ بظاهر هذين الأثرين فقال: يكفن الرجل في ثلاثة أثواب والمرأة في خمسة أثواب، وبه قال الشافعي وأحمد وجماعة. وقال أبو حنيفة: أقل ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب، والسنة خمسة أثواب، وأقل ما يكفن فيه الرجل ثوبان، والسنة فيه ثلاثة أثواب. ورأى مالك أنه لا حد في ذلك، وأنه يجزئ ثوب واحد فيهما إلا أنه يستحب الوتر. وسبب اختلافهم في التوقيت اختلافهم في مفهوم هذين الأثرين، فمن فهم منهما الإباحة لم يقل بالتوقيت إلا أنه استحب الوتر لاتفاقهما في الوتر، ولم يفرق في ذلك بين المرأة والرجل، وكأنه فهم منهما الإباحة إلا في التوقيت، فإنه فهم منه شرعا لمناسبته للشرع، ومن فهم من العدد أنه شرع الإباحة قال بالتوقيت، إما على جهة الوجوب، وإما على جهة الاستحباب، وكله واسع إن شاء الله وليس فيه شرع محدود، ولعله تكلف شرع فيما ليس فيه شرع، وقد كفن مصعب بن عمير يوم أحد بنمرة فكانوا إذا غطوا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطوا بها رجليه خرج رأسه فقال رسول الله ﷺ "غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر" واتفقوا على أن الميت يغطى رأسه ويطيب إلا المحرم إذا مات في إحرامه فإنهم اختلفوا فيه، فقال مالك وأبو حنيفة: المحرم بمنزلة غير المحرم. وقال الشافعي: لا يغطى رأس المحرم إذا مات ولا يمس طيبا. وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص. فأما الخصوص فهو حديث ابن عباس قال "أتى النبي ﷺ برجل وقصته راحلته فمات وهو محرم فقال: كفنوه في ثوبين واغسلوه بماء وسدر ولا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة يلبي" وأما العموم فهو ما ورد من الأمر بالغسل مطلقا فمن خص من الأموات المحرم بهذا الحديث كتخصيص الشهداء بقتلى أحد جعل الحكم منه عليه الصلاة والسلام على الواحد حكما على الجميع، وقال: لا يغطى رأس المحرم ولا يمس طيبا. ومن ذهب مذهب الجمع لا مذهب الاستثناء والتخصيص قال: حديث الأعرابي خاص به لا يعدى إلى غيره.
- 3*الباب الرابع في صفة المشي مع الجنازة.
@-واختلفوا في سنة المشي مع الجنازة. فذهب أهل المدينة إلى أن من سنتها المشي أمامها. وقال الكوفيون وأبو حنيفة وسائرهم: إن المشي خلفها أفضل. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار التي روى كل واحد من الفريقين عن سلفه وعمل به، فروى مالك عن النبي عليه الصلاة والسلام مرسلا، المشي أمام الجنازة، وعن أبي بكر وعمر وبه قال الشافعي. وأخذ أهل الكوفة بما رووا عن علي بن أبي طالب من طريق عبد الرحمن بن أبزي قال: كنت أمشي مع علي في جنازة وهو آخذ بيدي وهو يمشي خلفها وأبو بكر وعمر يمشيان أمامها، فقلت له في ذلك فقال: إن فضل الماشي خلفها على الماشي أمامها كفضل صلاة المكتوبة على صلاة النافلة، وإنهما ليعلمان ذلك، ولكنهما سهلان يسهلان على الناس. وروي عنه رضي الله عنه أنه قال: قدمها بين يديك واجعلها نصب عينيك فإنما هي موعظة وتذكرة وعبرة، وبما روي أيضا عن ابن مسعود أنه كان يقول: سألنا رسول الله ﷺ عن السير مع الجنازة فقال "الجنازة متبوعة وليست بتابعة، وليس معها من يقدمها" وحديث المغيرة بن شعبة عن النبي ﷺ قال "الراكب يمشي أمام الجنازة والماشي خلفها وأمامها وعن يمينها، ويسارها قريبا منها" وحديث أبي هريرة أيضا في هذا المعنى قال "امشوا خلف الجنازة"، وهذه الأحاديث صار إليها الكوفيون وهي أحاديث يصححونها ويضعفها غيرهم. وأكثر العلماء على أن القيام إلى الجنازة منسوخ بما روى مالك من حديث علي بن أبي طالب "أن رسول الله ﷺ كان يقوم في الجنائز ثم جلس" وذهب قوم إلى وجوب القيام، وتمسكوا في ذلك بما روي من أمره ﷺ بالقيام لها كحديث عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله ﷺ "إذا رأيتم الجنائز فقوموا إليها حتى تخلفكم أو توضع" واختلف الذين رأوا أن القيام منسوخ في القيام على القبر في وقت الدفن، فبعضهم رأى أنه لم يدخل تحت النهي، وبعضهم رأى أنه داخل تحت النهي على ظاهر اللفظ، ومن أخرجه من ذلك احتج بفعل علي في ذلك، وذلك أنه روى النسخ، وقام على قبر ابن المكفف فقيل له ألا تجلس يا أمير المؤمنين؟ فقال: قليل لأخينا قيامنا على قبره.
- 3*الباب الخامس في الصلاة على الجنازة.
@-وهذه الجملة يتعلق بها بعد معرفة وجوبها فصول: أحدها في صفة صلاة الجنازة. والثاني: على من يصلي، ومن أولى بالصلاة. والثالث: في وقت هذه الصلاة. والرابع: في موضع هذه الصلاة. والخامس: في شروط هذه الصلاة.
- 4*الفصل الأول في صفة صلاة الجنازة. فأما صفة الصلاة فإنها يتعلق بها مسائل:
@-(المسألة الأولى) اختلفوا في عدد التكبير في الصدر الأول اختلافا كثيرا من ثلاث إلى سبع: أعني الصحابة رضي الله عنهم، ولكن فقهاء الأمصار على أن التكبير في الجنازة أربع، إلا ابن أبي ليلى وجابر بن زيد فإنهما كانا يقولون إنهما خمس. وسبب الاختلاف اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه روي من حديث أبي هريرة "أن رسول الله ﷺ نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات" وهو حديث متفق على صحته، ولذلك أخذ به جمهور فقهاء الأمصار، وجاء في هذا المعنى أيضا من "أنه عليه الصلاة والسلام صلى على قبر مسكينة فكبر عليها أربعا" وروى مسلم أيضا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال "كان زيد بن أرقم يكبر على الجنائز أربعا، وأنه كبر على جنازة خمسا، فسألناه فقال: كان رسول الله ﷺ يكبرها" وروي عن أبي خيثمة عن أبيه قال "كان النبي ﷺ يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وستا وسبعا وثمانيا حتى مات النجاشي، فصف الناس وراءه وكبر أربعا، ثم ثبت ﷺ على أربع حتى توفاه الله" وهذا فيه حجة لائحة للجمهور. وأجمع العلماء على رفع اليدين في أول التكبير على الجنازة، واختلفوا في سائر التكبير، فقال قوم: يرفع؛ وقال قوم: لا يرفع. وروى الترمذي عن أبي هريرة "أن رسول الله ﷺ كبر في جنازة فرفع يديه في أول التكبير ووضع يده اليمنى على اليسرى" فمن ذهب إلى ظاهر هذا الأثر وكان مذهبه في الصلاة أنه لا يرفع إلا في أول التكبير قال: الرفع في أول التكبير. ومن قال يرفع في كل تكبير شبه التكبير الثاني بالأول، لأنه كله يفعل في حال القيام والاستواء. @-(المسألة الثانية) اختلف الناس في القراءة في صلاة الجنازة، فقال مالك وأبو حنيفة: ليس فيها قراءة إنما هو الدعاء. وقال مالك: قراءة فاتحة الكتاب فيها ليس بعمول به في بلدنا بحال قال: وإنما يحمد الله ويثني عليه بعد التكبيرة الأولى ثم يكبر الثانية فيصلي على النبي ﷺ، ثم يكبر الثالثة فيشفع للميت ثم يكبر الرابعة ويسلم. وقال الشافعي: يقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب، ثم يفعل في سائر التكبيرات مثل ذلك، وبه قال أحمد وداود. وسبب اختلافهم معارضة العمل للأثر وهل يتناول أيضا اسم الصلاة صلاة الجنائز أم لا؟ أما العمل فهو الذي حكاه مالك عن بلده، وأما الأثر فما رواه البخاري عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب فقال: تعلموا أنها السنة، فمن ذهب إلى ترجيح هذا الأثر على العمل وكان اسم الصلاة يتناول عنده صلاة الجنازة وقد قال ﷺ "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" رأى قراءة فاتحة الكتاب فيها. ويمكن أن يحتج لمذهب مالك بظواهر الآثار التي نقل فيها دعاؤه عليه الصلاة والسلام على الجنائز، ولم ينقل فيها أنه قرأ، وعلى هذا فتكون تلك الآثار كأنها معارضة لحديث ابن عباس ومخصصة لقوله "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وذكر الطحاوي عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال وكان من كبراء الصحابة وعلمائهم وأبناء الذين شهدوا بدرا: أن رجلا من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أخبره أن السنة في الصلاة على الجنائز أن يكبر الإمام ثم يقرأ فاتحة الكتاب سرا في نفسه، ثم يخلص الدعاء في التكبيرات الثلاث. قال ابن شهاب: فذكرت الذي أخبر به أبو أمامة من ذلك لمحمد بن سويد الفهري فقال: وأنا سمعت الضحاك بن قيس يحدث عن حبيب بن مسلمة في الصلاة على الجنائز بمثل ما حدثك به أبو أمامة. @-(المسألة الثالثة) واختلفوا في التسليم من الجنازة هل هو واحد أو اثنان؟ فالجمهور على أنه واحد؛ وقالت طائفة وأبو حنيفة: يسلم تسليمتين، واختاره المزني من أصحاب الشافعي، وهو أحد قولي الشافعي. وسبب اختلافهم اختلافهم في التسليم من الصلاة، وقياس صلاة الجنائز على الصلاة المفروضة، فمن كانت عنده التسليمة واحدة في الصلاة المكتوبة وقاس صلاة الجنازة عليها قال بواحدة. ومن كانت عنده تسليمتين في الصلاة المفروضة قال: هنا بتسليمتين إن كانت عنده تلك سنة فهذه سنة، وإن كانت فرضا فهذه فرض وكذلك اختلف المذهب هل يجهر فيها أو لا يجهر بالسلام؟. @-(المسألة الرابعة) واختلفوا أين يقوم الإمام من الجنازة، فقال جملة من العلماء: يقوم في وسطها ذكرا كان أو أنثى؛ وقال قوم آخرون: يقوم من الأنثى وسطها ومن الذكر عند رأسه؛ ومنهم من قال: يقوم من الذكر والأنثى عند صدرهما، وهو قول ابن القاسم وقول أبي حنيفة، وليس عند مالك والشافعي في ذلك حد؛ وقال قوم: يقوم منهما أين شاء. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه خرج البخاري ومسلم من حديث سمرة بن جندب قال "صليت خلف رسول الله ﷺ على أم كعب ماتت وهي نفساء، فقام رسول الله ﷺ للصلاة على وسطها" وخرج أبو داود من حديث همام بن غالب قال: "صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل فقام حيال رأسه، ثم جاءوا بجنازة امرأة فقالوا يا أبا حمزة صل عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال العلاء بن زياد، هكذا رأيت رسول الله ﷺ يصلي على الجنائز كبر أربعا وقام على جنازة المرأة مقامك منها ومن الرجل مقامك منه، قال نعم، فاختلف الناس في المفهوم من هذه الأفعال، فمنهم من رأى أن قيامه عليه الصلاة والسلام في هذه المواضع المختلفة يدل على الإباحة وعلى عدم التحديد. ومنهم من رأى أن قيامه على أحد هذه الأوضاع أنه شرع وأنه يدل على التحديد، وهؤلاء انقسموا قسمين: فمنهم من أخذ بحديث سمرة بن جندب للاتفاق على صحته فقال: المرأة في ذلك والرجل سواء، لأن الأصل أن حكمهما واحد إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي؛ ومنهم من صحح حديث ابن غالب وقال فيه زيادة على حديث سمرة بن جندب فيجب المصير إليها، وليس بينهما تعارض أصلا. وأما مذهب ابن القاسم وأبي حنيفة فلا أعلم له من جهة السمع في ذلك مسندا إلا ما روي عن ابن مسعود من ذلك. @-(المسألة الخامسة) واختلفوا في ترتيب جنائز الرجال والنساء إذا اجتمعوا عند الصلاة، فقال الأكثر: يجعل الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القبلة. وقال قوم بخلاف هذا: أي النساء مما يلي الإمام، والرجال مما يلي القبلة؛ وفيه قول ثالث أنه يصلي كل على حدة الرجال مفردون والنساء مفردات. وسبب الخلاف ما يغلب على الظن باعتبار أحوال الشرع من أنه يجب أن يكون في ذلك شرع محدود، مع أنه لم يرد في ذلك شرع يجب الوقوف عنده، ولذلك رأى كثير من الناس أنه ليس في أمثال هذه المواضع شرع أصلا. وأنه لو كان فيها شرع لبين للناس، وإنما ذهب الأكثر لما قلناه من تقديم الرجال على النساء لما رواه مالك في الموطأ من أن عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وأبا هريرة كانوا يصلون على الجنائز بالمدينة الرجال والنساء معا، فيجعلون الرجال مما يلي الإمام، ويجعلون النساء مما يلي القبلة. وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أنه صلى كذلك على جنازة فيها ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة والإمام يومئذ سعيد بن العاص، فسألهم عن ذلك، أو أمر من سألهم فقالوا: هي السنة، وهذا يدخل في المسند عندهم، ويشبه أن يكون من قال بتقديم الرجال شبههم أمام الإمام بحالهم خلف الإمام في الصلاة، ولقوله عليه الصلاة والسلام "أخروهن من حيث أخرهن الله". وأما من قال بتقديم النساء على الرجال فيشبه أن يكون اعتقد أن الأول هو المقدم ولم يجعل التقديم بالقرب من الإمام. وأما من فرق فاحتياطا من أن لا يجوز ممنوعا، لأنه لم ترد سنة بجواز الجمع، فيحتمل أن يكون على أصل الإباحة، ويحتمل أن يكون ممنوعا بالشرع، وإذا وجد الاحتمال وجب التوقف إذا وجد إليه سبيلا. @-(المسألة السادسة) واختلفوا في الذي يفوته بعض التكبير على الجنازة في مواضع: منها هل يدخل بتكبير أم لا؟ ومنها هل يقضي ما فاته أم لا؟ وإن قضى فهل يدعو بين التكبير أم لا؟ فروى أشهب عن مالك أنه يكبر أول دخوله، وهو أحد قولي الشافعي. وقال أبو حنيفة: ينتظر حتى يكبر الإمام وحينئذ يكبر، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، والقياس التكبير قياسا على من دخل في المفروضة. واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعي على أنه يقضي ما فاته من التكبير إلا أن أبا حنيفة يرى أن يدعو بين التكبير المقضي ومالك والشافعي يريان أن يقضيه نسقا، وإنما اتفقوا على القضاء لعموم قوله عليه الصلاة والسلام "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" فمن رأى أن هذا العموم يتناول التكبير والدعاء قال: يقتضي التكبير وما فاته من الدعاء، ومن أخرج الدعاء من ذلك إذ كان غير مؤقت قال: يقضي التكبير فقط إذ كان هو المؤقت، فكان تخصيص الدعاء من ذلك العموم هو من باب تخصيص العام بالقياس، فأبو حنيفة أخذ بالعموم وهؤلاء بالخصوص. @-(المسألة السابعة) واختلفوا في الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الجنازة فقال مالك: لا يصلى على القبر؛ وقال أبو حنيفة: لا يصلي على القبر إلا الولي فقط إذا فاتته الصلاة على الجنازة، وكان الذي صلى عليها غير وليها؛ وقال الشافعي وأحمد وداود وجماعة: يصلي على القبر من فاتته الصلاة على الجنازة؛ واتفق القائلون بإجازة الصلاة على القبر أن من شرط ذلك حدوث الدفن، وهؤلاء اختلفوا في هذه المدة وأكثرها شهر. وسبب اختلافهم معارضة العمل للأثر. أما مخالفة العمل فإن ابن القاسم قال: قلت لمالك فالحديث الذي جاء عن النبي ﷺ أنه صلى على قبر امرأة قال: قد جاء هذا الحديث وليس عليه العمل، والصلاة على القبر ثابتة باتفاق من أصحاب الحديث، قال أحمد بن حنبل: رويت الصلاة على القبر عن النبي عليه الصلاة والسلام من طرق ستة كلها حسان. وزاد بعض المحدثين ثلاثة طرق فذلك تسع. وأما البخاري ومسلم فرويا ذلك من طريق أبي هريرة. وأما مالك فخرجه مرسلا عن أبي أمامة بن سهل. وقد روى ابن وهب عن مالك مثل قول الشافعي، وأما أبو حنيفة فإنه جرى في ذلك على عادته فيما أحسب، أعني من رد أخبار الآحاد التي تعم بها البلوى إذا لم تنتشر ولا انتشر العمل بها، وذلك أن عدم الانتشار إذا كان خبرا شأنه شأن الانتشار قرينة توهن الخبر وتخرجه عن غلبة الظن بصدقه إلى الشك فيه أو إلى غلبة الظن بكذبه أو نسخه: قال القاضي: وقد تكلمنا فيما سلف من كتابنا هذا في وجه الاستدلال بالعمل، وفي هذا النوع من الاستدلال الذي يسميه الحنفية عموم البلوى، وقلنا: إنها من جنس واحد.
- 4*الفصل الثاني فيمن يصلي عليه ومن أولى بالتقديم.
@-وأجمع أكثر أهل العلم على إجازة الصلاة على كل من قال لا إله إلا الله، وفي ذلك أثر أنه قال عليه الصلاة والسلام "صلوا على من قال لا إله إلا الله" وسواء كان من أهل الكبائر أو من أهل البدع، إلا أن مالكا كره لأهل الفضل الصلاة على أهل البدع، ولم ير أن يصلي الإمام على من قتله حدا. واختلفوا فيمن قتل نفسه، فرأى قوم أنه لا يصلى عليه، وأجاز آخرون الصلاة عليه، ومن العلماء من لم يجز الصلاة على أهل الكبائر ولا على أهل البغي والبدع. والسبب في اختلافهم في الصلاة، أما في أهل البدع فلاختلافهم في تكفيرهم ببدعهم، فمن كفرهم بالتأويل البعيد لم يجز الصلاة عليهم، ومن لم يكفرهم إذ كان الكفر عنده إنما هو تكذيب الرسول لا تأويل أقواله عليه الصلاة والسلام قال: الصلاة عليهم جائزة، وإنما أجمع العلماء على ترك الصلاة على المنافقين مع تلفظهم بالشهادة لقوله تعالى {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} الآية. وأما اختلافهم في أهل الكبائر فليس يمكن أن يكون له سبب إلا من جهة اختلافهم في القول في التكفير بالذنوب لكن ليس هذا مذهب أهل السنة، فلذلك ليس ينبغي أن يمنع الفقهاء الصلاة على أهل الكبائر. وأما كراهية مالك الصلاة على أهل البدع فذلك لمكان الزجر والعقوبة لهم، وإنما لم ير مالك صلاة الإمام على من قتله حدا "لأن رسول الله ﷺ لم يصل على ما عز ولم ينه عن الصلاة عليه" خرجه أبو داود، وإنما اختلفوا في الصلاة على من قتل نفسه لحديث جابر بن سمرة "أن رسول الله ﷺ أبى أن يصلي على رجل قتل نفسه" فمن صحح هذا الأثر قال: لا يصلى على قاتل نفسه، ومن لم يصححه رأى أن حكمه حكم المسلمين وإن كان من أهل النار كما ورد به الأثر، لكن ليس هو من المخلدين لكونه من أهل الإيمان، وقد قال عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه "أخرجوا من النار من في قلبه مثقال حبة من الإيمان" واختلفوا أيضا في الصلاة على الشهداء المقتولين في المعركة، فقال مالك والشافعي لا يصلى على الشهيد المقتول في المعركة ولا يغسل، وقال أبو حنيفة: يصلى عليه ولا يغسل. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار الواردة في ذلك، وذلك أنه خرج أبو داود من طريق جابر "أنه ﷺ أمر بشهداء أحد فدفنوا بثيابهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا" وروى من طريق ابن عباس مسندا "أنه عليه الصلاة والسلام صلى على قتلى أحد وعلى حمزة ولم يغسل ولم يتيمم" وروى ذلك أيضا مرسلا من حديث أبي مالك الغفاري، وكذلك روى أيضا أن أعرابيا جاءه سهم فوقع في حلقه فمات، فصلى النبي ﷺ وقال: "إن هذا عبد خرج مجاهدا في سبيلك فقتل شهيدا وأنا شهيد عليه" وكلا الفريقين يرجح الأحاديث التي أخذ بها، وكانت الشافعية تعتل بحديث ابن عباس هذا وتقول: يرويه ابن أبي الزناد وكان قد اختل آخر عمره، وقد كان شعبة يطعن فيه؛ وأما المراسيل فليست عندهم بحجة واختلفوا متى يصلى على الطفل فقال مالك: لا يصلى على الطفل حتى يستهل صارخا، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة يصلي عليه إذا نفخ فيه الروح، وذلك أنه إذا كان له في بطن أمه أربعة أشهر فأكثر، وبه قال ابن أبي ليلى. وسبب اختلافهم في ذلك معارضة المطلق للمقيد، وذلك أنه روى الترمذي عن جابر بن عبد الله عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل صارخا" وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث المغيرة بن شعبة أنه قال "الطفل يصلى عليه" فمن ذهب مذهب حديث جابر قال: ذلك عام وهذا مفسر، فالواجب أن يحمل ذلك العموم على هذا التفسير، فيكون معنى حديث المغيرة أن الطفل يصلى عليه إذا استهل صارخا، ومن ذهب مذهب حديث المغيرة قال: معلوم أن المعتبر في الصلاة وهو حكم الإسلام والحياة والطفل إذا تحرك فهو حي وحكمه حكم المسلمين، وكل مسلم حي إذا مات صلى عليه، فرجحوا هذا العموم على ذلك الخصوص لموضع موافقة القياس له ومن الناس من شذ وقال: لا يصلى على الأطفال أصلا. وروى أبو داود "أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل على ابنه إبراهيم وهو ابن ثمانية أشهر" وروي فيه "أنه صلى عليه وهو ابن سبعين ليلة" واختلفوا في الصلاة على الأطفال المسبيين، فذهب مالك في رواية البصرين عنه أن الطفل من أولاد الحربيين لا يصلى عليه حتى يعقل الإسلام سواء سبى مع أبويه أو لم يسب معهما، وأن حكمه حكم أبويه إلا أن يسلم الأب فهو تابع له دون الأم، ووافقه الشافعي على هذا إلا أنه إن أسلم أحد أبويه فهو عنده تابع لمن أسلم منهما لا للأب وحده على ما ذهب إليه مالك. وقال أبو حنيفة: يصلى على الأطفال المسبيين، وحكمهم حكم من سباهم. وقال الأوزاعي: إذا ملكهم المسلمون صلى عليهم: يعني إذا بيعوا في السبي. قال: وبهذا جرى العمل في الثغر وبه الفتيا فيه. وأجمعوا على أنه إذا كانوا مع آبائهم ولم يملكهم مسلم ولا أسلم أحد أبويهم أن حكمهم حكم آبائهم. والسبب في اختلافهم اختلافهم في أطفال المشركين هل هم من أهل الجنة أو من أهل النار؟ وذلك أنه جاء في بعض الآثار أنهم من آبائهم: أي أن حكمهم حكم آبائهم ودليل قوله عليه الصلاة والسلام "كل مولود يولد على الفطرة" أن حكمهم حكم المؤمنين. وأما من أولى بالتقديم للصلاة على الجنازة فقيل الولي وقيل الوالي، فمن قال الوالي شبهه بصلاة الجمعة من حيث هي صلاة جماعة، ومن قال الولي شبهها بسائر الحقوق التي الولي أحق بها، مثل مواراته ودفنه، وأكثر أهل العلم على أن الوالي بها أحق. قال أبو بكر بن المنذر: وقدم الحسين بن علي سعيد بن العاص وهو والي المدينة ليصلي على الحسن بن علي وقال: لولا أنها سنة ما تقدمت، قال أبو بكر: وبه أقول وأكثر العلماء على أنه لا يصلى إلا على الحاضر. وقال بعضهم يصلى على الغائب لحديث النجاشي، والجمهور على أن ذلك خاص بالنجاشي وحده. واختلفوا هل يصلى على بعض الجسد والجمهور على أنه يصلى على أكثره لتناول اسم الميت له، ومن قال أنه يصلى على أقله قال: لأن حرمة البعض كحرمة الكل، لاسيما إن كان ذلك البعض محل الحياة، وكان ممن يجيز الصلاة على الغائب.
- 3*الفصل الثالث في وقت الصلاة على الجنازة:
@-واختلفوا في الوقت الذي تجوز فيه الصلاة على الجنازة، فقال قوم: لا يصلى عليها في الأوقات الثلاثة التي ورد النهي عن الصلاة فيها، وهي وقت الغروب والطلوع وزوال الشمس على ظاهر حديث عقبة بن عامر "ثلاث ساعات كان رسول الله ﷺ ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر موتانا" الحديث. وقال قوم: لا يصلى في الغروب والطلوع فقط، ويصلى بعد العصر ما لم تصفر الشمس، وبعد الصبح ما لم يكن الإسفار. وقال قوم: لا يصلى على الجنازة في الأوقات الخمسة التي ورد النهي عن الصلاة فيها، وبه قال عطاء والنخعي وغيرهم، وهو قياس قول أبي حنيفة. وقال الشافعي: يصلى على الجنازة في كل وقت لأن النهي عنده إنما هو خارج على النوافل لا على السنن على ما تقدم.
- 4*الفصل الرابع في مواضع الصلاة.
@-واختلفوا في الصلاة على الجنازة في المسجد فأجازها العلماء وكرهها بعضهم منهم أبو حنيفة وبعض أصحاب مالك، وقد روي كراهية ذلك عن مالك، وتحقيقه إذا كانت الجنازة خارج المسجد والناس في المسجد. وسبب الخلاف في ذلك حديث عائشة وحديث أبي هريرة. أما حديث عائشة فما رواه مالك من أنها أمرت أن يمر عليها بسعد بن أبي وقاص في المسجد حين مات لتدعو له، فأنكر الناس عليها ذلك، فقالت عائشة: ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى رسول الله ﷺ على سهل بن بيضاء إلا في المسجد. وأما حديث أبي هريرة، فهو أن رسول الله ﷺ قال: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له" وحديث عائشة ثابت وحديث أبي هريرة غير ثابت أو غير متفق على ثبوته، لكن إنكار الصحابة على عائشة يدل على اشتهار العمل بخلاف ذلك عندهم، ويشهد لذلك بروزه ﷺ للمصلى لصلاته على النجاشي، وقد زعم بعضهم أن سبب المنع في ذلك هو أن ميت بني آدم ميتة، وفيه ضعف، لأن حكم الميتة شرعي، ولا يثبت لابن آدم حكم الميتة إلا بدليل، وكره بعضهم الصلاة على الجنائز في المقابر للنهي الوارد عن الصلاة فيها، وأجازها الأكثر لعموم قوله عليه الصلاة والسلام "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا".
- 4*الفصل الخامس في شروط الصلاة على الجنازة.
@-واتفق الأكثر على أن من شرطها الطهارة كما اتفق جميعهم على أن من شرطها القبلة. واختلفوا في جواز التيمم لها إذا خيف فواتها، فقال قوم: يتيمم ويصلى لها إذا خاف الفوات، وبه قال أبو حنيفة وسفيان والأوزاعي وجماعة؛ وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يصلى عليها بتيمم. وسبب اختلافهم قياسها في ذلك على أن الصلاة المفروضة فمن شبهها بها أجاز التيمم، أعني من شبه ذهاب الوقت بفوات الصلاة على الجنازة، ومن لم يشبهها بها لم يجز التيمم لأنها عنده من فروض الكغاية أو من سنن الكفاية على اختلافهم في ذلك، وشذ قوم فقالوا: يجوز أن يصلى على الجنازة بغير طهارة، وهو قول الشعبي، وهؤلاء ظنوا أن اسم الصلاة لا يتناول صلاة الجنازة، وإنما يتناولها اسم الدعاء إذ كان ليس فيها ركوع ولا سجود.
- 3*الباب السادس في الدفن.
@-وأجمعوا على وجوب الدفن، والأصل فيه قوله تعالى {ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا} وقوله {فبعث الله غرابا يبحث في الأرض} وكره مالك والشافعي تجصيص القبور، وأجاز ذلك أبو حنيفة، وكذلك كره قوم القعود عليها، وقوم أجازوا ذلك وتأولوا النهي عن ذلك أنه القعود عليها لحاجة الإنسان والآثار الواردة في النهي عن ذلك، منها حديث جابر بن عبد الله قال "نهى رسول الله ﷺ عن تجصيص القبور والكتابة عليها والجلوس عليها والبناء عليها" ومنها حديث عمرو بن حزم قال "رآني رسول الله ﷺ على قبر فقال: انزل عن القبر ولا تؤذي صاحب القبر ولا يؤذيك" واحتج من أجاز القعود على القبر بما روي عن زيد بن ثابت أنه قال "إنما نهى رسول الله ﷺ عن الجلوس على القبور لحدث أو غائط أو بول" قالوا: ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ "من جلس على قبر يبول أو يتغوط فكأنما جلس على جمرة نار" وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي.