الفصل التاسع
اخواني، السفر مكتوب علينا، فما لنا أن نطلب الاقامة في جار ليست لنا دار مقامة؟ السنون منازل، والشهور مراحل، والأيام أميال، والأنفاس خطوات، والمعاصي قطاع، والربح الجنة، والخسران النار. خلقنا نتقلب في ستة أسفار الى أن يستقر بنا القرار: فالسفر الأول: سفر السلابة من طين، والثاني من الصلب الى الرحم، والثالث: من الرحم الى ظهر الأرض، والرابع: من ظهر الأرض الى القبر، والخامس: من القبر الى موقف العرض، والسادس: من موقف العرض الى دار الاقامة: اما الى الجنة أوالنار، وقد قطعنا نصف الطريق، وبقي الأصعب. يا من يضجّ في الكرب ويصيح، خلّ التدبير لغيرك فتستريح، تكثر النحيب والعويل، وتنسى ما سلف من الفعل الوبيل. لو رجعت اليك بقلبك، لعجّل عليك بتفريج همّك وكربك. يا أخي، اياك والدنيا، فان حبل الدنيا مبتوت، واقنع منها بالقوت، واعلم أنك تومت.
قال ابن المبارك: قدمت مكة، فاذا الناس قد قحطوا من المطر، وهم يستسقون في المسجد الحرام، وكنت في الناس من باب بني شيبة، اذ أقبل غلام أسود قطعتا خيش، قد ائتزر باحداهما، وألأقى الأخرى على عاتقيه، فصار في موضع خفي الى جانبي، فسمعته يقول: الهي، أخلقت الوجوه كثرة الذنوب ومساوئ العيوب، وقد منعتنا غيث السموات لتؤدب الخليقة بذلك، فأسألك يا حليم، يا من لا يعرف عباده من الا الجميل، اسقهم الساعة الساعة. قال ابن المبارك: فلم يزل يقول: اسقهم الساعة الساعة، حتى انسدّ الجو بالغمام، وأقبلت قطرات الركام تهطل كأفواه القرب، وجلس مكانه يسبّح الله تعالى، فأخذت في البكاء، حتى قام فاتبعته حتى عرفت موضعه. فجئت الى الفضيل بن عيّاض، فقال لي: ما لي أراك كئيبا؟ فقلت له: سبقنا اليه غيرنا، فولاه دوننا. قال: وما ذلك؟ فقصصت عليه القصة وسقط في الأرض، وقال: ويحك ابن المبارك، خذني اليه، فقلت: قد ضاق الوقت، سأبحث عن شأنه. فلما كان من الغد، صليت الغداة، وخرجت أريد الموضع، فاذا بشيخ على باب، وقد بسط له وهو جالس، فلما رآني عرفني، وقال: مرحبا بك يا أبا عبد الرحمن، ما حاجتك؟ فقلت: احتجت الى غلام، فقال: نعم عندي عدّة، اختار أيهم شئت، فصاح يا غلام، فقال: هذا محمود العاقبة، أرضاه لك، فقلت: ليس هذا حاجتي، فما زال يخرج واحدا بعد واحد، حتى أخرج الىّ الغلام، فلما أبصرته بدرت عيناي بالدموع، فقال: هذا؟ فقلت: نعم، فقال: ليس لي الى بيعه سبيل. فقلت: ولم؟!. قال: قد تبرّكت بموضعه في هذه الدار، فقلت له: ومن أين طعامه؟ فقال: يكسب من فتل الشريط نصف دانق أو أقل أو أكثر، فهو قوته ان باعه في يومه، والا طوى ذلك اليوم. وأخبرني الغلمان عنه أنه لا ينام في الليل الطويل ولا يختلط بأحد منهم، مهتم بنفسه، وقد أحبه قلبي. فقلت له: انصرف الى الفضيل بن عياض وسفيان الثوري بغير قضاء حاجة، ثم رجعت اليه، وسألت فيه بالحاح، فقال: ان ممشاك عندي كبير، خذه بما شئت. قال: فاشتريته، وسرت معه نحو دار الفضيل، فمشيت ساعة فقال لي: يا مولاي. فقلت له: لبيك. فقال: لا تقل لبيك، فان العبد أولى بأن يلبي من المولى. قلت: وما حاجتك يا حبيبي. قال: أنا ضعيف البدن، لا أطيق الخدمة، وقد كان لك في غيري سعة، قد أخرج لك من هو أجلد مني وأثبت. فقلت له: لا يراني الله تعالى أستخدمك، ولا كان اشترائي لك الا أنزلك منزلة الأولاد، ولأزوّجك، وأخدمك أنا بنفسي. قال: فبكى، فقلت له: وما يبكيك؟. قال لي: أنت لم تفعل هذا، الا وقد رأيت بعض نتصلاتي بالله تعالى، والا، فلم أخذتني من أولئك الغلمان؟. فقلت له: ليس بك حاجة الا هذا. فقال لي: سألت بالله الا أخبرتني. فقلت له: باجابة دعوتك. فقال لي: اني أحسبك ان شاء الله رجلا صالحا، ان لله عز وجل خيرة من خلقه، لا يكشف شأنهم الا لمن أحب من عباده، ولا يظهر عليهم الا من ارتضى. ثم قال لي: ترى أن تقف عليّ قليلا، فانه قد بقي عليّ ركعات من البارحة. قلت: هذا منزل الفضيل. قال: لا هاهنا أحبّ اليّ. ان أمر الله تعالى لا يؤخر، فدخل المسجد، فما زال يصلي حتى أتى على ما أراد، فالتفت اليّ وقال: يا أبا عبدالرحمن، هل لك من حاجة؟. قلت: ولم. قال: لأني أريد الانصراف. قلت: الى أين. قال: الى الآخرة. قلت: لا تفعل دعني أنتفع بك. فقال لي: انما كانت تطيب الحياة حيث كانت المعاملة بيني وبين الله تعالى، فأما اذا اطلعت عليها أنت، سيطّلع عليها غيرك، فلا حاجة لي في ذلك، ثم خرّ على وجهه، وحعل يقول: الهي اقبضني الساعة الساعة، فدنوت منه، فاذا هو قد مات. فوالله ما ذكرته قط الا طال حزني، وصغرت الدنيا في عيني، وحقرت عملي. رحمه الله ورحمنا به.