وا رحمتاه!
في ذلك البلد القَفْر من تلك الصحراء المحرقة من هذا الإقليم القاحل طائفةٌ من فقراء المسلمين وضعفائهم، لا يملكون من الحول غير قلوبٍ يملؤها اليقين بالله، والثقة به، والاعتماد عليه، ولا من القوة غير ألسنةٍ لا تزال تهتف في صباحها ومسائها وبكورها وأصائلها بالدعاء إلى الله تعالى أن يتولَّى أمرهم، ويسدِّد خطواتهم، وييسر لهم السبيل إلى الخلاص من ذلك العدوِّ القاهر الذي نزل بهم في دار أمنهم وسكونهم نزولَ القضاء الذي لا مَرَدَّ له، ولا منتدح عنه، يريد أن يسلبهم ما أبقتْ يد الأيام في أيديهم من لقيماتٍ غير سائغة، وجرعات غير هنيئة، وظلٍّ غير ظليلٍ.
وا رحمتاه لجماعة المسلمين في طرابلس! إنهم عاجزون عن أن يُعِدُّوا لعدوهم الزاحف عليهم بقنابله ورصاصه غير أجسامٍ ستصبح في الغد أشلاءً ممزقة تطؤها النعال وتدوسها الحوافر، وقلوب لا تزال تدق حتى تسمع دقات المدافع والبنادق فتسكن، وأوراح ستطير في علياء السماء طيران ذلك الدخان في أجواز الفضاء.
وا رحمتاه لهم! إنهم يستغثون فلا يجدون مُغيثًا، ويستصرخون فلا يسمعون مجيبًا، قد تقطعت بهم الأسباب، وأعوزتهم الوسائل وسدَّت في وجوههم السبل، فلم يبقَ لهم منها إلا سبيل الموت، وفي الموت راحة البائسين والمنكوبين من شقاء الحياة وبلائها، لولا أنهم يتركون من بعدهم بين يدي ذلك العدو الظالم أراملَ ضعفاء، وأيتامًا صغارًا، وشيوخًا كبارًا لا يعلمون ماذا أضمر لهم القدر في صدره من نعيمٍ أو شقاء.
كأني أراهم وقد غَلَتْ في صدورهم حَمِيَّة الدين والوطن، ودارت في رءوسهم سكرة العزة العربية، فأبوا إلا أن يتقدموا إلى الموت الأحمر تقدم المستقتل المستبسل، الذي يعلم أن باب الحياة الأبدية السعيدة لا يفتح إلا بين يدي الأرواح التي احتقرت أجسادها وازدرتها، فتجرَّدت من أثوابها الرثة البالية وألقتها من ورائها. وكأني أرى الرجل منهم وقد دخل إلى بيته ليعد عُدَّته، ويودِّع أهله الوداع الأخير، فبكت أمه وناحت زوجته، وصاح ولده، فبكى لبكائهم، ورنَّ لرنينهم، لا جزعًا من الفراق؛ لأنه فراق يعزيه عنه لقاء الله تعالى، ولا خشيةً من الموت؛ لأنه يعلم أن الحياة الذليلة أحقر من أن يضنَّ صاحبها بروحه في سبيل الله حرصًا عليها، بل مخافة أن تستبدَّ بأعراض بيته وحرماته تلك الأيدي الظالمة التي لا ترحم صغيرًا ولا تعطف على كبير، أو أن يهلكوا من بعده جوعًا وفقرًا؛ لأنه لم يترك لهم قوتًا يتبلَّغون به ولا عمادًا يعتمدون عليه، فإذا علم أن موقفه بينهم موقفٌ جللٌ يكاد يُغلب فيه على أمره حزنًا وإشفاقًا، نظر في زرقة السماء نظرةً طويلة أرسل فيها إلى حضرة ربه كلَّ ما تهتف به نفسه القريحة من وَجْدٍ ورحمةٍ وبكاءٍ وحنين، ثم انفتل من بين أيديهم انفتالًا، ومضى لسبيله لا يلوي على شيءٍ مما وراءه حتى يبلغ ساحة الحرب، فلا يزال يقرع باب الحياة الأخرى حتى يُفْتَح له.
هنالك تنوح النائحات، وتبكي الباكيات، وتطير النفوس وتُصعق القلوب، وترنُّ المنازل والدور بالنحيب والتعديد، وهنالك ترى المرأة المسلمة المخبأة التي لم ترَ في حياتها وجه الشمس إلا من كُوَّةِ بيتها بارزة الوجه، عارية الرأس، حَيْرى مولَّهة هائمة في الطرق والمذاهب، تسائل الغادين والرائحين ما فعل الله بولدها أو زوجها أو أخيها. فإما بقيت في حَيرتها بياض يومها وسواد ليلها، وإما عادت إلى بيتها بالثُّكْلِ القاتل والحزن الدائم. وترى الشيوخ الكبار، والأطفال الصغار والعاجزين والضعفاء لائِذِينَ بالتلال والآكام يتقون بها صواعق الحرب وشهبها فلا تقيهم، أو عائذين بالمضايق والمنافذ يفرُّون إليها من وجوه الخيل وسنابكها فلا تحميهم. وهنالك ترى أولئك القوم الذين يسمُّون أنفسهم مجاهدين أو فاتحين، أو قوادًا عظامًا أو سُوَّاسًا كبارًا يمشون بين بيوت المسلمين ومجامعهم مِشية الفرِح المختال، وينظرون إلى أولئك القوم الذين سرقوا حريتهم واستقلالهم، وانتهبوا أرواحهم وأموالهم نظر السيد إلى مولاه الذي ملك ولاءه بماله، واستعبده بفضله وإحسانه. وربما رمَوا إليهم في تلك الساعة بلقيماتٍ كتلك التي يلقيها سيد الكلب إلى كلبه، أو صاحب الماشية إلى ماشيته؛ ليُشْهِدُوا العالم الإنسانيَّ بأجمعه على كرمهم وسخائهم وعطفهم ورحمتهم، وأنهم ما سفكوا الدماء ولا قطعوا الأوصال ولا يَتَّمُوا الأطفال، ولا انتهكوا الحرمات، إلا خدمةً للإنسانية العامة وإجلالًا لشأنها.
لا أحسب أنَّ مسلمًا دخل الإيمان قلبه، فملأه رحمة وإحسانًا وعطفًا وحنانًا يستطيع أن يتَّخذ لجنبه في ظلمة الليل مضجعًا، أو يجد لنفسه في ضحوة النهار قرارًا؛ حزنًا على هؤلاء المنكوبين الحائرين الذين يدورون بأعينهم في مشارق الأرض ومغاربها يتلمَّسون ناصرًا يعينهم على أمرهم، أو مُنجدًا يدفع عنهم عادية البلاء، فلا يجدون إلا أممًا إسلامية قد أصابها مثل ما أصابهم من قبل، فهي تعجز عن النظر لنفسها فأَحْرَى أن تعجز عن النظر لغيرها. فلم يبقَ بين أيديهم من الأمل إلا تلك الرحمة التي يعتقدون أنها باقية لهم في قلوب الأفراد من إخوانهم المسلمين أن يُمِدُّوهُمْ بقليلٍ من القوت يستعينون به على جهاد عدوهم، ويعودون بما بقي منه على عيالهم الذين يتضورون جوعًا من بعدهم.
أيها المسلمون
إنكم لن تجدوا بعد اليوم موقفًا هو أقرب إلى الله، وأدنى إلى رحمته وإحسانه، وأجلب لمغفرته ورضوانه من موقفكم بين هؤلاء الضعفاء المساكين تطعمون جائعهم، وتكسون عاريَهم، وتسلحون أعزلهم، وتعالجون جريحَهم، وتخلفون قتيلهم في أهله وولده.
إنكم إن تحسنوا إليهم تحسنوا إلى أنفسكم، وإن تنقذوهم من كُربتهم تنقذوا جامعتكم وملَّتكم، فإن بينكم وبينهم لُحْمةً أقوى من لُحمة النسب، ووشيجةً أوثق من وشيجة القربى، وإنكم جميعًا تصلُّون إلى قبلةٍ واحدة، وتهتفون في الغداة والعشي بذكرٍ واحدٍ، وتتوجهون بقلوبكم في نعمائكم وبأسائكم إلى إلهٍ واحدٍ، وتقفون في بيت الله وحرمه بين الركن والمقام موقفًا واحدًا.
أيها المسلمون
إنكم إن اجتمعتم اليوم لن تفترقوا غدًا، وإن هديتم لرشدكم في موقفكم هذا لن تضلوا من بعده، وإنكم إن قدَّمتم بين أيديكم هذا العمل الصالح أحسن الله جزاءكم وأعانكم على أمركم، ووفَّى لكم بما وعدكم من نصره ومعونته، وإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.