لا همجيَّةَ في الإسلام
أيها المسلمون
إنْ كنتم تعتقدون أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يخلق المسيحيين إلا ليموتوا ذبحًا بالسيوف، وقصفًا بالرماح، وحرقًا بالنيران، فقد أسأتم بربكم ظنًّا، وأنكرتم عليه حكمته في أفعاله، وتدبيره في شئونه وأعماله، وأنزلتموه منزلة العابث اللاعب الذي يبني البناء ليهدمه، ويزرع الزرع ليحرقه، ويخيط الثوب ليمزقه، وينظم العقد لِيُبَدِّدَهُ.
لم يزل الله سبحانه وتعالى مذ كان الإنسان نطفة في رحم أمه يتعهده بعطفه وحنانه، ويمده برحمته وإحسانه، ويرسل إليه في ذلك السجن المظلم الهواء من منافذه، والغذاء من مجاريه، ويذود عنه آفات الحياة وغوائلها: نُطفةً، فعلقةً، فمضغةً، فجنينًا، فبشرًا سويًّا.
إنَّ إلهًا هذا شأنه مع عبده وهذه رحمته به وإحسانه إليه، مُحالٌ عليه أنْ يأمر بسلبه الروح التي وهبه إِيَّاها، أو يرضى بسفك دمه الذي أمده به ليجري في شرايينه وعروقه، لا بين تلال الرمال وفوق شعاف الجبال.
في أيِّ كتابٍ من كتب الله، وفي أيِّ سنةٍ من سنن أنبيائه ورسله قرأتم جواز أنْ يعمد الرجل إلى الرجل الآمن في سِرْبِهِ، القابع في كِسْرِ بيته، فينزع نفسه من بين جنبيه، ويفجع فيه أهله وقومه؛ لأنه لا يدين بدينه، ولا يَتَقَلَّدُ مَذْهَبَهُ؟
لو جاز لكل إنسانٍ أن يقتل كل من يخالفه في رأيه ومذهبه لأقفرت البلاد من ساكنيها، وأصبح ظهر الأرض أعرى من سراة أديمٍ.
إنَّ وجود الاختلاف بين الناس في المذاهب والأديان والطبائع والغرائز سنةٌ من سنن الكون التي لا يمكن تحويلها ولا تبديلها، حتى لو لم يبقَ على ظهر الأرض إلا رجلٌ واحدٌ لَجَرَّدَ من نَفْسِه رجلًا آخر يخاصمه وينازعه وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً.
إنَّ الحياة في هذا العالم كالحرارة التي تنتج من التَّحَاكِّ بين جسمين مختلفين، فمحاولة توحيد المذاهب والأديان محاولة للقضاء على هذا العالم وسلبه روحه ونظامه.
أيها المسلمون، ليس ما كان يجري في صَدْرِ الإسلام من محاربة المسلمين المسيحيين مرادًا به التَّشَفِّي والانتقام منهم، أو القضاء عليهم، وإنما كان لحماية الدعوة الإسلامية أنْ يعترضها في طريقها معترضٌ أو يحول بينها وبين انتشارها في مشارق الأرض ومغاربها حائلٌ؛ أي إنَّ القتال كان ذودًا ودفاعًا لا تشفيًا وانتقامًا.
وآية ذلك أنَّ السَّرية من الجيش ما كانت تخطو خطوة واحدة في سبيلها الذي تذهب إليه حتى يصل إليها أمر الخليفة القائم ألا تزعج الرهبان في أَدْيِرَتِهِم، والقسيسين في صوامعهم، وألا تحارب إلا مَن يقاومها، ولا تُقاتل إلا من يقف في سبيلها، ولقد كان أَحْرَى أن تُسفك دماء رؤساء الدين المسيحي وتُسلب أرواحهم لو أنَّ غرض المسلمين من قتال المسيحيين كان الانتقام منهم والقضاء عليهم.
لو أنكم قضيتم على كل من يَتَدَيَّنُ بدِينٍ غير دينكم حتى أصبحت رقعة الأرض خالصةً لكم لانقسمتم على أنفسكم مذاهب وشيعًا، وتقاتلتم على مذاهبكم تقاتلَ أرباب الأديان على أديانهم، وهكذا حتى لا يبقى على وجه الأرض مذهبٌ ولا مُتَمَذْهِبٌ.
أيها المسلمون، ما جاء الإسلام إلا ليقضيَ على مثل هذه الهمجية والوحشية التي تزعمون أنها الإسلام.
ما جاء الإسلام إلا ليستلَّ من القلوب أضغانها وأحقادها، ثم يملؤها بعد ذلك حكمةً ورحمة ليعيش الناس في سعادةٍ وهناء، وما هذه القطرات من الدماء التي أراقها في هذا السبيل إلَّا بمثابة البَضْعِ العُضْوِيِّ الذي يتذرَّع به الطبيب إلى شفاء المريض.
عذرتكم، لو أنَّ هؤلاء الذين تُريقون دماءهم في بلادكم كانوا ظالمين لكم في شأنٍ من شئون حياتكم، أو ذاهبين في معاشرتكم والكون معكم مذاهب سوءٍ تخافون مَغَبَّتَها وتخشون عاقبتها، أما والقوم في ظلالكم والكون تحت أجنحتكم أضعف من أن يمدوا إليكم يد سوءٍ أو يبتدروكم ببادرة شرٍّ فلا عذر لكم.
عذرتكم بعض العذر لو لم تقتلوا الأطفال الذين لا يسألهم الله عن دِينٍ ولا مَذْهَبٍ قبل أن يبلغوا سن الحُلم، والنساء الضعيفات اللواتي لا يُحْسِنَّ في هذه الحياة أخذًا ولا ردًّا، والشيوخ الزاحفين إلى القبور قبل أن تزحفوا إليهم وتتعجَّلوا قضاء الله فيهم.
أما وقد أخذتم البريء بِجَرِيرَةِ المذنب فأنتم مجرمون لا مجاهدون، وسفاكون لا محاربون.
من أيِّ صخرةٍ من الصخور أو هضبةٍ من هضبات الجبال نحتم هذه القلوب التي تنطوي عليها جوانحكم، والتي لا تروعها أنَّات الثَّكَالَى، ولا تحركها رنَّات الأَيَامَى؟
من أيِّ نوعٍ من أنواع الأحجار صِيغَتْ هذه العيون التي تستطيعون أن تَرَوْا بها منظر الطفل الصغير والنار تأكل أطرافه وتتمشَّى في أحشائه وبين جوانحه، فتصرخ أمه، وأمه عاجزة عن معونته؛ لأن النار لم تترك لها يدًا تحركها، ولا قدمًا تمشي عليها؟!
لا أستطيع أن أهنئكم بهذا الظفر والانتصار؛ لأني أعتقد أنَّ قتل الضعفاء جبنٌ وعجزٌ ولؤمٌ ودناءة، وأنَّ سفك الدماء بغير ذنبٍ ولا جَرِيرةٍ وحشيةٌ وهمجية أَحْرَى أن يُعَزَّى صاحبها فيها لا أن يُهَنَّأ بها.
أيها المسلمون، اقتلوا المسيحيين ما شئتم وشاءت لكم شراستكم ووحشيتكم، ولكن حذار أن تذكروا اسم الله على هذه الذبائح البشرية، فالله سبحانه وتعالى أَجَلُّ من أن يأمر بقتل الأبرياء أو يرضى باستضعاف الضعفاء، فهو أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين.