أبو الشمقمق | النظرات دورة الفلك المؤلف: مصطفى لطفي المنفلوطي |
تأبين فولتير |
يها القصر، أين الكوكب الزاهر الذي كان يتنقَّل في أبراجك؟ أين النسر الطائر الذي كان يُحلِّق في أجوائك؟ أين الملك القادر الذي كان يطلع شمسًا في صباحك، وبدرًا في مسائك؟
أين الأعلام والبنود تَخْفِقُ في شرفاتك والقواد والجنود تخطر في عَرَصَاتِكَ؟ أين الشفاه التي كانت تلثم ترابك، والأفواه التي كانت تُقَبِّلُ أعتابك، والرءوس التي كانت تطرق لِهَيْبَتِكَ، والقلوب التي كانت تخفق لروعتك؟
أين الصوت الذي كان يجلجل فيقرع أذن الجوزاء، ويَهدِر فتتلفَّت عيون السماء؟ أين الفَلَكُ الذي كان يدور بالسعد والنحس، والنعيم والبؤس، والرفع والخفض، والإبرام والنقض؟
كيف استطاع الدهر أن يَمُدَّ يدَه إلى شَمْلِكَ فيبدِّده، وجمعك فيفرِّقه، وسمائك فيكوِّر شموسها، وأرضكَ فيزعج أنيسها؟
أين كانت أسوارك وأبوابك، وحراسك وحجابك؟ وكيف عجزت أن تمتنع على القضاء، وتصد عن نفسك عادية البلاء؟
| ||
ولم أرَ مثلَ القصر إذ رِيعَ سِرْبُهُ | وإذ ذُعِرَتْ أطَلاؤه وجآذِرُه | |
تَحَمَّلَ عنه ساكنوه وَهُتِّكَتْ | على عَجَلٍ أستاره وستائرُه |
أيها السجن، حلَّ بأرجائك اليوم ملكٌ تضيق به الدنيا، فكيف وَسِعْتَهُ؟ وتعجزُ عن احتماله قُلَلُ الجبال الرواسي، فكيف احتَمَلْتَهُ؟
رفقًا به لا تزعجه ولا تُحْرِجْ صدره، وضُمَّ جانحتيك عليه كما تضم على القلب حنايا الضلوع، واعطف عليه عطفَ المرضعات على الرضيع، ارحم هذا الجلالَ الذاهب والعزَّ الزائل، والرأس الذي بيَّضته حوادث الدهور، والظهر الذي قوَّسته أيدي المقدور.
أيها الدهر، ألا تستطيع أن تنام عن هذا الإنسان لحظة واحدة؟ ألا تستطيع أن تسقيه كأس السرور خالصة لا يمازجها كدرٌ ولا يشوبها عناء؟
إن كنتَ تريد أن تسلبه فلم أعطيته؟ وإن كنت تريد أن تعطيه فلم سلبته؟ كان خيرًا له ألا تعطيه حتى لا تَفْجَعَهُ في تلك العطية، وألا تسقيه كأس السرور حتى لا يَتَجَرَّعَ ذلك السمَّ الذي أودعته تلك الكأس.
أيها الراحلُ المُوَدِّعُ، كان ارتفاعك عظيمًا فوجب أن يكون سقوطك عظيمًا.
إنك ذقت حلاوة الحياة خالصةً، فلما ذقتَ مرارتها جزعتَ وقطَّبتَ كما يَجزع ويُقطِّب كلُّ من ذاق من الشراب ما لا عهد له به، ولا قِبَلَ له باحتماله.
لا تأسَ على ما فاتك، فإنما كان وديعةً من ودائع الدهر أَعَارَكَهَا بُرْهَةً من الزمان ثم استردَّها.
إنك لا تدري لعلَّ الله أراد بك خيرًا فمنحك قبل حلول أَجَلِكَ فرصةً من الزمان تخلو فيها بنفسك، وتراجع فيها فهرس أعمالك، فإن رأيت خيرًا اغتبطَّتَ، أو شرًّا استغفرتَ.
قضى الله أن يقيم في كل حينٍ لهذا العالم الغافل الراقد عبرةً من العبر تزعجه من رقدته، وتوقظه من غفلته، فكنت أنت عبرة هذا الدهر وموعظته.
| ||
من باتَ بَعدَك في مُلْكٍ يُسَرُّ به | فإنما باتَ بالأحلام مغرورًا |