دمعة على الإسلام
كتب إليَّ كاتبٌ من علماء الهند كتابًا يقول فيه إنه اطَّلَعَ على مؤلَّفٍ ظهر حديثًا بلغة التاميل، وهي لغة الهنود الساكنين بناقور وملحقاتها بجنوب مِدْرَاس، موضوعه: تاريخ حياة السيد عبد القادر الجيلاني وذِكْرُ فضائله وكراماته، فرأى فيه من بين الصفات والألقاب التي وصف بها السيد عبد القادر ولُقِّبَ بها صفاتٍ وألقابًا هي أجدر بمقام الألوهية منها بمقام النبوة فضلًا عن مقام الوَلاية، كقوله: «سيد السموات والأرض»، و«النفاع الضرار»، و«المتصرف في الأكوان»، و«المُطَّلع على أسرار الخليقة»، و«محيي الموتى»، و«مُبرئ الأعمى والأبرص والأكمه»، و«أمره من أمر الله»، و«ماحي الذنوب»، و«دافع البلاء»، و«الرافع الواضع»، و«صاحب الشريعة»، و«صاحب الوجود التام» إلى كثير من أمثال هذه النعوت والألقاب.
ويقول الكاتب: إنه رأى في ذلك المؤلَّف فصلًا يشرح فيه المؤلِّفُ الكيفية التي يجب أن يتكيَّف بها الزائر لقبر السيد عبد القادر الجيلاني، يقول فيه:
أول ما يجب على الزائر أن يتوضأ وضوءًا سابغًا، ثم يصلي ركعتين بخضوعٍ واستحضار، ثم يتوجَّه إلى تلك الكعبة المشرَّفة، وبعد السلام على صاحب الضريح المعظم يقول: يا صاحب الثَّقَلَيْنِ، أَغْثِني، وأَمِدَّنِي بقضاء حاجتي، وتفريج كربتي، أغثني يا محيي الدين عبد القادر، أغثني يا ولي عبد القادر، أغثني يا سلطان عبد القادر، أغثني يا بادشاه عبد القادر، أغثني يا خُوجَة عبد القادر، يا حضرةَ الْغَوْث الصَّمَدَاني، يا سيدي عبد القادر الجيلاني، عبدك ومريدك مظلوم عاجز محتاج إليك في جميع الأمور في الدين والدنيا والآخرة.» ويقول الكاتب أيضًا: «إنَّ في بلدة ناقور في الهند قبرًا يُسمى «شاه الحميد»، وهو أحد أولاد السيد عبد القادر كما يزعمون، وإنَّ الهنود يسجدون بين يدي ذلك القبر سجودهم بين يدي الله، وإنَّ في كل بلدة وقرية من بلدان الهند وقراها مزارًا يُمَثِّل مزار السيد عبد القادر؛ فيكون القبلة التي يتوجه إليها المسلمون في تلك البلاد، والملجأ الذي يلجئون في حاجاتهم وشدائدهم إليه، وينفقون من الأموال على خدمته وسَدَنَتِهِ وفي موالده وحفلاته ما لو أنفق على فقراء الأرض جميعًا لصاروا أغنياء!
هذا ما كتبه إليَّ ذلك الكاتب، ويعلم الله أني ما أتممت قراءة رسالته حتى دارت بي الأرض الفضاء، وأظلمت الدنيا في عيني، فما أُبْصِرُ مِمَّا حولي شيئًا حُزنًا وأسفًا على ما آلت إليه حالة الإسلام بين أقوامٍ أَنْكَرُوه بعدما عرفوه، ووضعوه بعدما رفعوه، وذهبوا به مذاهب لا عهد له بها، ولا قِبَلَ له باحتمالها.
أيُّ عينٍ يجمل بها أن تستبقي من شئونها قطرةً لا تريقها أمام هذا المنظر المؤثر، منظر أولئك المسلمين وهم ركعٌ سجدٌ على أعتاب قبرِ ميتٍ؟! ربما كان بينهم من هو خيرٌ منه في حياته، فَأحْرَى أن يكون كذلك بعد مماته!
أيُّ قلب يستطيع أن يستقر بين جَنْبَيْ صاحبه ساعةً واحدة فلا يخفق وجدًا أو يطير جزعًا حينما يرى المسلمين أصحاب دين التوحيد أكثر المشركين إشراكًا بالله، وأوسعهم دائرةً في تعدد الآلهة وكثرة المعبودات؟!
لماذا ينقِم المسلمون التثليث من المسيحيين؟ ولماذا يحملون لهم في صدورهم تلك الموجدة وذلك الضِّغْنَ؟ وعلام يحاربونهم؟ وفيمَ يقاتلونهم وهم لم يبلغوا من الشرك بالله مبلغهم ولم يُغْرِقُوا فيه إغراقهم؟
يَدين المسيحيون بآلهةٍ ثلاثةٍ، ولكنهم كأنهم يشعرون بغرابة هذا التعدد وبعده عن العقل فيجملون فيه ويقولون: إنَّ الثلاثة في حكم الواحد، أما المسلمون فيدينون بآلافٍ من الآلهة، أكثرها جذوع أشجارٍ، وجثت أمواتٍ، وقطع أحجار من حيث لا يشعرون!
كثيرًا ما يُضمر الإنسان في نفسه أمرًا وهو لا يشعر به، وكثيرًا ما تشتمل نفسه على عقيدةٍ وهو لا يحس باشتمال نفسه عليها، ولا أرى مثلًا لذلك أقرب من المسلمين الذين يلجئون في حاجاتهم ومطالبهم إلى سكان القبور، ويتضرعون إليهم تضرعهم للإله المعبود، فإذا عَتَبَ عليهم في ذلك عاتبٌ قالوا: «إنا لا نعبدهم وإنما نتوسَّل بهم إلى الله.» كأنهم لا يشعرون أنَّ العبادة ما هم فيه، وأنَّ أكبر مظهر من مظاهر الإله المعبود أن يقف عباده بين يديه ضارعين إليه يلتمسون إمداده ومعونته، فهم في الحقيقة عابدون لأولئك الأموات من حيث لا يشعرون.
جاء الإسلام بعقيدة التوحيد ليرفع نفوس المسلمين ويغرس في قلوبهم الشرف والعزة والأنفة والحمِيَّةَ، وليعتق رقابهم من رقِّ العبودية، فلا يذل صغيرهم لكبيرهم، ولا يهاب ضعيفهم قويهم، ولا يكون لذي سلطانٍ بينهم سلطانٌ إلا بالحق والعدل، وقد ترك الإسلام — بسر عقيدة التوحيد — ذلك الأثر الصالح في نفوس المسلمين في العصور الأولى، فكانوا ذوي أنفةٍ وعزة وإباء وغيرة، يضربون على يد الظالم إذا ظلم، ويقولون للسلطان إذا جاوز حَدَّه في سلطانه: «لا تَغْلُ في تقدير نفسك، ولا تخرج عن دائرتك، فإنما أنت عبدٌ مخلوق لا ربٌّ معبود، واعلم أنه لا إله إلا الله.»
هذه صورةٌ من صور نفوس المسلمين في عصر التوحيد. أما اليوم، وقد دَاخَلَ عقيدتَهم ما دَاخَلَها من الشرك الباطن تارةً والظاهر أخرى، فقد ذَلَّتْ رقابُهم، وخضعت رءوسهم، وضرعت نفوسهم، وفَتَرَتْ حَمِيَّتُهُم، فَرَضُوا بِخُطَّة الخسف، واستناموا إلى المنزلة الدنيا، فوجد أعداؤهم السبيل إليهم، فغلبوهم على أمرهم وملكوا عليهم نفوسهم وأموالهم ومواطنهم وديارهم فأصبحوا من الخاسرين.
والله، لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم، ولن يبلغوا ما يريدون لأنفسهم من سعادة الحياة وهنائها إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد، وإنَّ طلوع الشمس من مغربها وانصباب ماء النهر في منبعه أقرب من رجوع الإسلام إلى سالف مجده ما دام المسلمون يقفون بين يدي الجيلاني كما يقفون بين يدي الله، ويقولون للأول كما يقولون للثاني جَلَّ جلالُه: «أنت المتصرف في الكائنات، وأنت سيد الأَرَضِين والسموات!»
إنَّ الله أَغْيَرُ على نفسه من أن يُسْعِدَ أقوامًا يزدرونه ويحتقرونه ويتخذونه وراءهم ظِهْرِيًّا، فإذا نزلت بهم جائحةٌ وأَلَمَّتْ بهم مُلِمَّةٌ ذكروا الحجر قبل أن يذكروه، ونادوا الجذع قبل أن ينادوه.
بمن أستغيث وبمن أستنجد؟ ومن الذي أدعو لهذه المُلِمَّة؟ أأدعو علماء مصر الذين يتهافتون على يوم الكَنْسَةِ تهافتَ الذباب على الشراب؟ أم علماء الآستانة، وهم الذين قتلوا جمال الدين الأفغاني فيلسوف الإسلام، وأَحْيَوا أبا الهدى الصَّيَّاديَّ شيخَ الطريقة الرفاعية؟ أم علماء العجم، وهم الذين يحجُّون إلى قبر الإمام كما يحجون إلى البيت الحرام؟ أم علماء الهند، وبينهم مثل مؤلِّف ذلك الكتاب؟!
يا قادة الأمة ورؤساءها، عَذَرْنَا العامة في إشراكها وفساد عقائدها وقلنا: «إنَّ العاميَّ أقصر نظرًا وأضعف إدراكًا من أن يتصوَّر الألوهية إلا إذا رآها ماثلةً في النُّصب والتماثيل والأضرحة والقبور.» فما عذركم أنتم وأنتم تتلون كتاب الله، وتقرءون صفاتِه ونعوتَه وتفهمون معنى قوله تعالى: لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ، وقوله مخاطبًا نبيه: قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وقوله: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ رَمَىٰ؟
إنكم تقولون في صباحكم ومسائكم وغدوكم ورواحكم: «كلُّ خيرٍ في اتباع مَن سَلَفَ، وكلُّ شرٍّ في ابتداع من خَلَفَ.» فهل تعلمون أنَّ السلف الصالح كانوا يُجَصِّصُونَ قبرًا أو يتوسلون بضريح؟ وهل تعلمون أنَّ أحدًا منهم وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر أحدٍ من أصحابه وآل بيته يسأله قضاء حاجةٍ أو تفريج كربةٍ؟ وهل تعلمون أنَّ الرفاعيَّ والدسوقيَّ والجيلانيَّ والبدويَّ أكرم عند الله وأعظم وسيلةً إليه من الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين؟ وهل تعلمون أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن إقامة الصور والتماثيل نهى عنها عبثًا ولعبًا أم مخافةَ أن تعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى؟ وأيُّ فرق بين الصور والتماثيل وبين الأضرحة والقبور ما دام كلٌّ منها يجر إلى الشرك، ويفسد عقيدة التوحيد.
والله ما جَهِلْتُمْ شيئًا من هذا، ولكنكم آثرتم الدنيا على الآخرة، فعاقبكم الله على ذلك بسلب نعمتكم، وانتقاص أمركم، وسلَّط عليكم أعداءكم، يسلبون أوطانكم، ويستعبدون رقابكم، ويخربون دياركم، والله شديد العقاب.