الرئيسيةبحث

النظرات/الكوخ والقصر

الكوخ والقصر

أنا إن كنت حاسدًا أحدًا على نعمة فإني أحسد صاحب الكوخ على كوخه قبل أن أحسد صاحب القصر على قصره، ولولا أنَّ للأوهام سلطانًا على النفوس لما سجد الفقراء بين أيدي الأغنياء ولا ورم أنف الأغنياء أن يتخذهم الفقراء أربابًا من دون الله.

أنا لا أغبط الغني على غناه إلا في موطن واحدٍ من مواطنه، فأغبطه إن رأيته يشبع الجائع، ويواسي الفقير، ويعود بالفضل من ماله على اليتيم الذي سلبه الدهر أباه، والأرملة التي فجعها القدر في عائلها، ويمسح بيده دمعة البائس والمحزون، ثم أرثي له بعد ذلك في جميع مواطنه الأخرى.

أرثي له إن رأيته يتربص بالفقير وقوع الضائقة به ليدخل عليه مدخل الشيطان من قلب الإنسان، فيمتص الثمالة الباقية له من ماله ليسد في وجهه باب الأمل. وأرثي له إن رأيته يعتقد أنَّ المال هو منتهى الكمال الإنساني، فيرغب عن الفضائل والكمالات؛ لأنه يظن أنه قد كفي مئونة السعي إليها. وأرثي له وأبكي على عقله إن مشى الخيلاء، وطاول بعنقه السماء، وسلم بإيماء الطرف، وإشارة الكف، ومشى في طريقه يخزر عينيه خزرًا، ليرى هل سجد الناس لمشيته، أو صعقوا من هيبته! وأرحمه الرحمة كلها إن عاش شحيحًا مقترًا على نفسه وعياله، بغيضًا إلى قومه وأهله، ينقمون عليه حياته، ويستبطئون أجله.

أما الفقير فهو عندي أسعد الناس عيشًا، وأروحهم بالًا، إلا إذا كان جاهلًا ضعيفًا مخدوعًا يملك الوهم عليه مشاعره، فيظن أنَّ الغني أسعد منه حظًّا، وأرغد عيشًا، وأثلج صدرًا، فيحسده على تلك السعادة التي يزعمها له، فيجلس في كِسر بيته جِلسة الكئيب المحزون، يصعد الزفرة فالزفرة، ويرسل الدمعة إثر الدمعة، ولولا جهله وضعف قلبه لعلم أنْ رُبَّ صاحب قصرٍ باذخ يتمنى كوخ الفقير وعيشه، ويرى أنَّ ذلك السراج من الزيت أسطع ذبالًا وأكثر لألاءً من أنوار الشموع وباقات الكهرباء التي تأتلق بين يديه، وأنَّ تلك الحشية من الأديم أو الوبر أنعم ملمسًا وألين مضجعًا من وسائد الحرير ونضائد الديباج.

لقد بلغ التسفل وضعف النفس بكثيرٍ من الناس أنهم يحفلون بشأن الأغنياء لأنهم أغنياء، وإن كانوا لا ينالون منهم ما يبلُّ غلَّةً أو يسيغ غصةً. وليت شعري إن كان لا بدَّ لهم من إجلال المال وإعظامه لذاته، فما لهم لا يقبلون أيدي الصيارفة، ولا ينهضون إجلالًا للكلاب المطوقة أعناقها بأطواق الذهب — وهم يعلمون ألا فرق بين هؤلاء وهؤلاء؟

لو عامل الفقراء بخلاء الأغنياء بما يجب أن يعامَلوا به لوجدوا أنفسهم في وحشةٍ من أنفسهم وأموالهم، ولشعروا أن بدرات الذهب أساود ملتفة على أرجلهم، وأغلالٌ آخذةٌ بأعناقهم، ولعلموا أن الشرف في كمال الأدب لا في رنين الذهب، وفي جلائل الأعمال لا في أحمال المال.

فليعظم الناس الكرماء، وليحتقروا الأغنياء، وليعلموا أن الشرف شيءٌ وراء الغني والفقر، والسعادة أمرٌ وراء الكوخ والقصر.