القِمار
لا أستطيع أن أعتقد ما يسمونه الجنون الفرعيَّ ويريدون منه جواز أن يكون الإنسان مجنونًا في بعض شئونه عاقلًا في باقيها، وعندي أنَّ الرجل إما أن يكون عاقلًا أو مجنونًا، ولا ثالث لهما.
العقل قوةٌ يقتدر بها المرء على الاستمساك في مزالق الشهوات وبين مهابِّ الأهواء، فموقفه أمامها موقفٌ واحد، فإما أن يغلبها جميعَها أو يغلبُه جميعُها.
أما ما يراه الرائي أحيانًا من استهتار الرجل في بعض الشهوات استهتارًا يستهلك نفسه ويستهوي عقله، وزهده في بعضها زهد الأعفَّاء المستمسكين؛ فذلك لأنه رغب في الأولى فاسترسل وراء رغبته، ولم يدعُه إلى الأخرى داعٍ من خواطر قلبه ونزوات نفسه، ولو دعاه لخفَّ إليه ولبَّاه، ولن يسمى الرجل زاهدًا أو عفيفًا إلا إذا أمسك نفسه عن شهوةٍ تدعوه إليها فيدافعها، وتتلهب بين جنبيه فيطفئها.
لا تقل: إنَّ السكير عاقلٌ إنْ رأيته غير فاسقٍ ولا عاهر، واعلم أنه لا يشتهي الفسق، ولا تجذبه إليه جواذبه، ولو اشتهاه لوقف من المواخير موقفه من الحانات. ولا تقل: إنَّ الفاسق عاقلٌ إنْ رأيته غير سارقٍ ولا مختلس؛ فإنه لا يحب السرقة ولا الاختلاس، ولو أنه أحبهما لكان في تسلق الدور والقصور أبرع منه في التسلل إلى مكامن الفسق والفجور. ولا تقل: إنَّ المقامر عاقلٌ إنْ رأيته لا شاربًا ولا فاسقًا؛ فإنَّ القِمار قد استهلك شهوته واستخلصها لنفسه، ولم يدع فيها فضلهً لسواها، ولولا ذلك لكان أكبر السارقين وأفسق الفاسقين.
لو كنتُ من المصانعين الذين يزخرفون لأرباب الرذائل رذائلهم حتى يصوروها في نظرهم فضائل بما يلبسونها من أثواب التأويل ويصبغونها من ألوان التعليل، لما استطعت أن أصانع المقامر؛ لأن حاله من الجهل الفاضح والغباوة المستحكمة أبعد الحالات عن عذر المعتذرين، وتأويل المتأولين.
أيُّ عذرٍ يعتذر به المعتذر عن رجلٍ يريد أن يمشي في طريق الغنى، فيمشي في طريق الفقر؟ والطريقان واضحان مَعْلَمَانِ لا غموض فيهما ولا إبهام.
ما جلس المقامر إلى مائدة القمار إلا بعد أن استقرَّ في نفسه أنَّ الدرهم الذي في يده سيتحول بعد برهةٍ من الزمان إلى دينارٍ يعود به إلى أهله فَرِحًا مغتبطًا، وأحسب أنَّ العقول العشرة مجتمعةً ومتفرقةً تعجز عن إدراك سر هذه العقيدة ومثارها.
إن كان يؤمل الربح لأنه رأى عن يمينه رجلًا قد ربح، فَلِمَ لا يخاف الخسران لأنه رأى عن يساره مائةً خاسرين؟! وإن كان يضحكه منظر الربح لأنه رأى في بعض مواقفه أحد الرابحين مبتسمًا، فلمَ لا يبكيه منظر أصدقائه ورفقائه الخاسرين وهم يتساقطون حواليه تساقط جنود الحرب بين يدي القذائف؟
ما أشبهَ المقامرَ الذي يطلب من الدينار الواحد مائةً بالكيماويِّ الذي يطلب من القصدير فضةً، ومن النُّحاس ذهبًا! كلاهما يتاجر بالأحلام في سوق الأوهام، فيربح ربحًا مقلوبًا، ويكسب كسبًا معكوسًا، وما أشبههما جميعًا بذلك الرجل الذي علم أنَّ في صحراء من صحاري إفريقية كنزًا دفينًا لا تعرف له بقعةٌ، وليس عليه دليلٌ، فحمل فأسه على كتفه ومشى في تلك الصحراء يحفر الحفرة التي تستنفد قوته وتستهلك مُنَّتَهُ، وتبلغ من نفسه ما لا يبلغ منها كر الغداة ومر العشي، حتى إذا بلغ مستقرها وعلم أنه لم يعثر بضالته تركها، وبدأ يحفر غيرها بجانبها، فلا يكون نصيبه من الأخرى أوفر من نصيبه من الأولى، وهكذا حتى أدركه الموت وهو في بعض تلك الحفر، فكان هو نفسه الكنز الدفين في تلك الصحراء، إلا أنه كنزٌ لا يطمع فيه طامعٌ ولا يرغب فيه راغب!
إن كنت تسمع في حياتك باجتماع النقيضين وتَلاقي الضدين، فاعلم أنَّ المقامر في آنٍ واحدٍ أجشع الناس وأزهد الناس؛ فلولا حبه المالَ لما هان عليه أن يبذل راحته وشرفه وحياته في سبيله، ولولا زهده فيه لما أقدم باختياره على تبديده على مائدة القمار لا لغايةٍ يطلبها، ولا لمأربٍ يسعى إليه.
أنا لا أريد أن أنصح إلى المقامر بترك القِمار؛ لأني أعتقد أنَّ من يملك عقلًا مثل عقله وفهمًا مثل فهمه لا يستطيع أن يفهم كلمةً مما أقول. مَن عجزت حوادث الدهر وعبر الأيام عن أن ترد عليه ضالَّة عقله وتهديه السبيل إلى نفسه فلن تنفعه كلمة كاتبٍ، ولا موعظة خاطبٍ. وإنما أريد أن أقول للذين لم يخطوا خطوة واحدة في هذا الطريق الوعر حتى اليوم: «لا تقامروا جِدًّا ولا هزلًا، فإن هزل القمار يجرُّ إلى جِدِّه، ولا تمروا بمعاهد القمار، فإن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ولا تصاحبوا المقامرين فإنهم لا يرضون عنكم حتى تتخذوا مِلَّتَهُمْ، فإن فعلتم خَسِرتم مالكم وشرفكم وعزيمتكم وحياتكم، من حيث لا تجدون من رحمة القلوب ورأفتها ما يعوض عليكم ما خسرتم، فارحموا أنفسكم إن كنتم راحمين، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين.