أين الفضيلة؟ | النظرات الغَنيُّ والفقير المؤلف: مصطفى لطفي المنفلوطي |
مدينة السعادة |
مررت ليلة أمس برجلٍ بائس فرأيته واضعًا يده على بطنه، كأنما يشكو ألمًا، فرثيت لحاله وسألته ما باله، فشكا إليَّ الجوع ففثَأْتُه عنه، ثم تركته وذهبت إلى زيارة صديق لي من أرباب الثراء والنعمة، فأدهشني أني رأيته واضعًا يده على بطنه، وأنه يشكو من الألم ما يشكو ذلك البائس الفقير، فسألته عمَّا به، فشكا إليَّ البِطْنَةَ، فقلت: يا للعجب! لو أَعطى الغنيُّ الفقيرَ ما فضل عن حاجته من الطعام ما شكا واحدٌ منهما سقمًا ولا ألمًا، لقد كان جديرًا به أن يتناول من الطعام ما يشبع جَوْعَتَه، ويطفئ غُلَّتَه، ولكنه كان محبًّا لنفسه مغاليًا بها، فضم إلى مائدته ما اختلسه من صفحة الفقير، فعاقبه الله على قسوته بالبِطنة حتى لا يهنئ للظالم ظلمه، ولا يطيب له عيشه، وهكذا يصدق المثل القائل: بِطنة الغنيِّ انتقامٌ لجوع الفقير.
ما ضنت السماء بمائها، ولا شَحَّتِ الأرض بنباتها، ولكن حسد القويُّ الضعيفَ عليهما فزواهما عنه، واحتجنهما دونه فأصبح فقيرًا مُعدِمًا، شاكيًا متظلمًا، غرماؤه المياسير الأغنياء، لا الأرض والسماء.
ليتني أملك ذلك العقل الذي يملكه هؤلاء الناس فأستطيع أنْ أتصوَّر كما يتصورون حجة الأقوياء في أنهم أحق بإحراز المال وأولى بامتلاكه من الضعفاء، إنْ كانت القوةُ حجَّتَهم عليهم فَلِمَ لا يملكون بهذه الحجة سلب أرواحهم كما ملكوا سلب أموالهم؟ وما الحياة في نظر الحيِّ بأثمن قيمة من اللقمة في يد الجائع، وإنْ كانت حجتهم أنهم ورثوا ذلك المال من آبائهم قلنا لهم: إنْ كانت الأبوة علَّةَ الميراث فلم ورثتم آباءكم في أموالهم ولم ترثوهم في مظالمهم؟ لقد كان آباؤكم أقوياء فاغتصبوا ذلك المال من الضعفاء، وكان حقًّا عليهم أن يردُّوا إليهم ما اغتصبوا منهم، فإن كنتم لا بد وُرَثاءَهم فاخلفوهم في ردِّ المال إلى أربابه لا في الاستمرار على اغتصابه.
ما أظلمَ الأقوياء من بني الإنسان! وما أقسى قلوبهم! ينام أحدهم ملءَ جفنيه على فِراشه الوثير، ولا يقلقه في مضجعه أنه يسمع أنين جاره وهو يُرعد بردًا، ويجلس أمام مائدة حافلة بصنوف الطعام قديده وشوائه، حلوه ومرِّه، ولا ينغِّص عليه شهوتَه علمُه أنَّ بين أقربائه وذوي رحمه من تثب أحشاؤه شوقًا إلى فتات تلك المائدة، ويسيل لعابه تلـهُّفًا على فضلاتها؛ بل إنَّ بينهم من لا تخالط الرحمة قلبه، ولا يعقد الحياء لسانه، فيظل يسرُد على مسمع الفقير أحـاديث نعمته، وربما استعان به على عدِّ ما تشتمل عليه خزائنه من الذهب وصناديقه من الجوهر وغرفه من الفرش والرياش، ليكسر قلبه وينغِّص عليه عيشه ويبغِّض إليه حياته، وكأنه في كل كلمةٍ من كلماته وحركةٍ من حركاته يقول له: «أنا سعيدٌ لأني غنيٌّ، وأنت شقيٌّ لأنك فقيرٌ.»
أحسب لولا أنَّ الأقوياء في حاجةٍ إلى الضعفاء، يستخدمونهم في مرافقهم وحاجاتهم كما يستخدمون أدوات منازلهم، ويسخرونهم في مطالبهم كما يسخرون مراكبهم، ولولا أنهم يؤثرون الإبقاء عليهم ليمتعوا أنفسهم بمشاهدة عبوديتهم لهم وسجودهم بين أيديهم، لامتصُّوا دماءهم كما اختلسوا أرزاقهم ولحرموهم الحياة كما حرموهم لذة العيش فيها.
لا أستطيع أنْ أتصور أنَّ الإنسان إنسانٌ حتى أراه محسنًا؛ لأني لا أعتمد فضلًا صحيحًا بين الإنسان والحيوان إلا بالإحسان، وإني أرى الناس ثلاثة: رجلٌ يحسن إلى غيره ليتخذ إحسانه إليه سبيلًا إلى الإحسان إلى نفسه، وهو المستبد الجبار الذي لا يفهم من الإحسان إلا أنه يستعبد الإنسان، ورجلٌ يحسن إلى نفسه ولا يحسن إلى غيره، وهو الشَّرِهُ المتكالِبُ الذي لو علم أنَّ الدَّم السائل يستحيلُ إلى ذهبٍ جامدٍ لذبح في سبيله الناس جميعًا! ورجل لا يحسن إلى نفسه ولا إلى غيره، وهو البخيل الأحمق الذي يجيع بطنه ليُشبع صندوقه، أمَّا الرابع الذي يحسن إلى غيره ويحسن إلى نفسه فلا أعلم له مكانًا، ولا أجد إليه سبيلًا، وأحسب أنه هو ذلك الذي كان يفتش عنه الفيلسوف اليوناني «ديوجين الكلبي» حينما سُئِلَ ما يصنع بمصباحه — وكان يدور به في بياض النهار — فقال: «أفتش عن إنسان!»