الغناء العربي
الغناء بقية خواطر النفس التي عجز عن إبرازها اللسان، فأبرزتها الألحان، فهو أفصح الناطقين لسانًا، وأوسعهم بيانًا، وأسرعهم نفاذًا إلى القلوب، وامتزاجًا بالنفوس، واستيلاءً على العقول، وأخذًا بمجامع الأفئدة. وبيان ذلك أنَّ النطق ثلاثُ طبقاتٍ، تختلف درجاتها باختلاف درجات الإبلاغ والتأثير فيها، فأدناها النثر، وأوسطها الشعر، وأعلاها الغناء. فلو أنَّ عاشقًا برَّح به الهجر مثلًا فأراد أن يبلغك ما في نفسه من ذلك، فإن قال لك: «إني مهجور» فحسب، فقد أبلغك بعض ما في نفسه، وترك في قلبك من الأثر بمقدار ما تحملته طبقة النثر من التأثير، وإنْ أنشدك قول الشاعر:
فَوَا كَبِدَا مِنْ حُب مَنْ لا يُحبني *** وَمِنْ زَفراتٍ ما لَهُنَّ فَنَاءُ
أو قول الآخر:
كأن قطاةً علقت بجناحها *** على كبدي من شدة الخفقان
فقد سلك بك طريق الخيال، وصور لك خواطر نفسه بصورة أوضح من الصورة الأولى، وترك في نفسك أثرًا أعظم من الأثر الأول، وإن رفع عقيرته — وكان يجيد التوقيع — يَتغنَّى بقول القائل:
وَارَحْمَتَا للغريب بالبلد النا *** زحِ ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا *** بالعيش من بعده ولا انتفعا
فقد صور لك قلبه كما هو، وألمسك مواقع الآلام والأوجاع فيه، فبلغ بك التأثير منتهاه، وربما بكيتَ عند سماعه حزنًا ورحمة، وما بكيتَ إذ بكيتَ إلا لأن الغناء لم يُبْقِ بقية من خواطر هذه النفس القريحة إلا نطق بها لك وأسمعك إياها. وكما أنَّ الأبيات قيود المعاني كذلك الألحان قيود الأبيات، فلا يزال المعنى مشردًا هاهنا وهاهنا حتى يحتويه بيتٌ من الشعر فيستقر في مكانه، ثم لا يزال البيت يتجانف عن الآذان ذات اليمين وذات الشمال حتى يقوده الصوت الحسن، فإذا هو مستودَعٌ في الصدور.
والغناء فنٌّ من الفنون الطبيعية تهتدي إليه الأمم بالفطرة المترنمة في هدير الحمام وخرير المياه وحفيف الأشجار، فمَن أبكاه الحمام غرد تغريده كلما أراد البكاء، ومن أطربه صوت الناعورة رنَّ رنينها ليُطرب جَمَلَهُ أو ناقته فينشطان للمسير.
وما زال هذا الفن متبدِّيًا ببداوة الأمة العربية لا يكاد يتخطَّى فيها حُداء الجِمال، ومناغاة الأطفال، حتى إذا انتقلت من مضيق الحاجات إلى منفسح الكماليات توسعت فيه، وزادت في أنغامه وضروبه، وتفننت في آلاته وأدواته. وكذلك كان شأن العرب في جاهليتهم، ينظمون أشعارهم على نِسَبٍ متوازية؛ فالبيت يُوازِنُ البيت في ترتيب الحركات والسكنات وتعدادها، والشطر والتفعيلة يوازنان الشطر والتفعيلة كذلك. فكأنهم كانوا يهيئون لأنفسهم بمذهبهم هذا في الشعر ألحانًا موسيقية، غير أنَّ معارفهم لم تكن تتسع لأكثر من هذا النوع من الموسيقى، وهو نوع التناسب الشعري الذي هو قطرةٌ من بحر هذا الفن الزاخر. ثم استمر شأنهم على هذا حتى جاء الإسلام واختلطت الأمة العربية بالأمة الفارسية التي كان لها من حضارتها وتمدينها متسعٌ للبراعة في هذا الفن والتفنن في مناحيه ومقاصده.
ووفد الكثير من مُغَنِّيِّ الفرس والروم مواليَ في بيوت العرب، وفي أيديهم العيدان والطنابير والمعازف والمزامير يُلَحِّنُونَ بها أشعارَهم الفارسية والرومية، فسمعها منهم العرب فاقتبسوها ولحنوا بها أشعارهم تلحينًا بَذُّوا فيه أساتذتهم، وولَّدوا ألحانًا وأنغامًا لم يؤتِ بها مَن قبلهم، شأنهم في جميع الفنون والصنائع التي كانوا يقتبسونها من الأمم المتمدينة المعاصرة لهم. وظهر فيهم رجالٌ أذكياء كان لهم الفضل الباهر في تقدم الغناء واتساعه، مثل: ابن سريج، ومخارق، وطُويس، وإبراهيم الموصلي، وابنه إسحاق، وإبراهيم بن المهدي، ومعبد الذي طالما ضربت به وبحسن صوته الأمثالُ على ألسنة فحول الشعراء، كقول أبي عبادة البحتري في وصف فرسٍ كان أهداه إليه أحد الأمراء:
هَزِجَ الصَّهِيلُ كأن في نبراته *** نغماتِ مَعبد في الثقيلِ الأول
والثقيل والخفيف الأول والثاني أسماءٌ اصطلح عليها العرب، ومرجعها إلى حركات الأصابع الخمسة في أوتار العود الخمسة شدةً وضعفًا، وما أحسن قول أبي العلاء المعري:
ولقد ذكرتك يا أميمة بعدما *** نزل الدليل إلى التراب يَسُوفُهُ
وهواك عندي كالغِناء لأنه ***حسن لدي ثقيله وخفيفه
وبالرغم من غضاضة الدِّين وغضارته في ذلك العهد — عهد الصدر الأول — وشدته في النهي عن التلهِّي بالغناء والعزف والزمر وأمثالها، ونعيه على من يحترف بذلك أو يتخلَّقه، فقد كان للمغنين الشأن الرفيع في مجالس الخلفاء والأمراء، والنصيب الأوفر من جوائزهم وصلاتهم. ولا غرو في ذلك، فسلطان الوجدان عندهم فوق سلطان الأديان. ولقد بلغ من شأن المغنين وإدلالهم على الخلفاء أنَّ إسحاق الموصليَّ شتم إبراهيم بن المهديِّ في حضرة أخيه الرشيد غير هيابٍ ولا وجلٍ، فما استطاع أخو الخليفة أن ينتصف لنفسه منه هيبةً وإجلالًا! وكان ابن عائشة المغني لا يغني إلا لملكٍ أو ولي عهد، حتى كان الخليفة إذا أراد أن يختار من بين أبنائه من يعهد إليه بالأمر من بعده لا يكتب له بذلك عهدًا، بل يأذن لابن عائشة أن يغني عنده، فلا تطلع عليه الشمس حتى يفد الناس إليه يهنئونه بولاية العهد، فإن دعاه إلى الغناء لديه أميرٌ أو وزير وجد من قوة الدَّالَّة بنفسه ما يدفع به الطلب عنه. ويُروى أنَّ ابن أبي عتيقٍ — وهو من نعلم في شرف البيت وجلال المحل — رأى ابن عائشة يومًا وحَلْقُهُ مخدوشٌ فقال: «من فعل بك هذا؟» قال: «فلان»، وأشار إلى ضاربه، فمضى ونزع ثيابه وعاد فجلس للرجل على بابه، فلما خرج أخذ بتلبيبه وجعل يضربه ضربًا موجعًا والرجل يصيح: «أيَّ شيءٍ صنعت؟ وما ذنبي إليك؟» وهو لا يجيبه حتى بلغ منه، وأقبل الناس فحالوا بينه وبينه، وسألوه عن ذنبه، فقال: «إنه أراد أن يكسر مزمارًا من مزامير داود!» يريد أنه خنق ابن عائشة وخدشه في حلقه.
ومما يُروى من حوادث تِيهِه وترفُّعه أنه خرج من عند الوليد بن عبد الملك وقد غناه:
أَبَعْدَكَ مَعْقِلًا أرجو وحِصنًا *** قَدَ اعْيَتنِي المعاقل والحصون
فأطربه، وأمر له بثلاثين ألف درهم وكثيرٍ من الثياب، فبينا هو يسير إذ نظر إليه رجلٌ من أهل وادي القُرى كان يشتهي الغناء، فدنا من غلامه، وقال: «من هذا الراكب المختال؟» قال: «ابن عائشة المغني.» فدنا منه، وقال: «جعلت فداءك! أنت ابن عائشة أم المؤمنين؟» قال: «لا، أنا مولى لقريش وعائشة أمي، وحسبك هذا فلا تكثر.» قال: «وما هذا الذي بين يديك؟» قال: «غنَّيت أمير المؤمنين صوتًا فأطربته، فأمر لي بهذا المال وهذه الكسوة.» قال: «جعلت فداءك! هل تَمُنُّ عليَّ بأن تسمعني ما أسمعته إياه؟» فقال له: «ويلك! أَمِثْلِي يُكَلَّمُ بمثل هذا في الطريق؟!» قال: «فما أصنع؟» قال: «الْحَقْنِي إلى المنزل.» يريد مخاتلته والنجاة منه، وحرك بغلةً شقراء تحته لينقطع عنه، فعدا معه حتى وافيا المنزل كَفَرَسَيْ رِهَانٍ. ودخل ابن عائشة، فمكث طويلًا طمعًا في أن ينصرف فلم يفعل، فلما أعياه قال لغلامه: «أدخله!» فلما دخل قال له: «من أين صَبَّكَ الله عليَّ؟!» قال: «أنا رجلٌ من أهل وادي القرى أشتهي هذا الغناء.» قال له: «هل لك فيما هو أنفع لك منه؟» قال: «وما ذاك؟!» قال: «مائتا دينار وعشرة أثواب تنصرف بها إلى أهلك.» فقال له: «جعلت فداءك! والله إنَّ لي لبُنَيَّةً ما في أذنها — علم الله — حلقةٌ من الوَرِقِ، وإنَّ لي لزوجةً ما عليها — يشهد الله — قميصٌ، ولو أعطيتني جميع ما أمر لك به أمير المؤمنين على خَلَّتي وحاجتي لكان الصوت أعجب إليَّ منه!» وما زال به حتى رحمه ابن عائشة وغناه الصوت بعد لَأْيٍ، فطرب له الرجل طربًا شديدًا، وجعل يحرك رأسه وينطح به الجدار حتى خِيفَ أن يندقَّ عنقه، ثم انصرف ولم يرزأه في ماله شيئًا.
وفي هذا الحديث فوق الغرض الذي سقناه له ما يدلُّ على أنَّ الغناء العربي كان قريبًا إلى القلوب، وأنه كان منها بمنزلة الأصابع من الأوتار، فإذا لمسها رَنَّت رنين الثَّكلى المرزوءة في واحدها. وأنَّ الوجدان العربي وجدانٌ رائق شفاف تأخذ منه مختلفات الأنغام، فوق ما تأخذ الكهرباء من الأجسام. كما تبلغ منه نظرات الغرام فوق ما تبلغ من عقل شاربها المُدَام. وكانت الأصوات عندهم تُنسب إلى واضعيها وتُسمى بأسماء أصحابها — كما هو الشأن في الشعر — فيقال: صوت إسحاق، أو صوت مَعْبَد، كما يقال: شعر مسلم أو بشار. وكان المغني أحرص على صوته من الكريم على عرضه، فإذا صنع صوتًا لا يسمح لأحدٍ من المغنين بأخذه عنه حتى يغنيه مرارًا وتعرف نسبته إليه، كما يفعل اليوم المخترعون والصانعون من أخذ الامتيازات بمخترعاتهم ومصنوعاتهم. وكان لإسحاق الموصلي القدرة الغريبة على مخاتلة المغنين عن أصواته، حتى صنع مرة صوتًا وأراد الفحول منهم أن يأخذوه بعدما سمعوه منه أكثر من سبعين مرة، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
وكانت مجالس الغناء عندهم تشبه أن تكون مجالس علمٍ لدراسة هذا الفن وتهذيبه، فكان أحدهم لا يُحجم إنْ رأى في صوت صاحبه مُنْتَقَدًا أن يفجأه بالانتقاد ويبين له مواضع الخطأ، مهما عظم شأن المجلس وشأن صاحبه. وكانت تقع بينهم المنافسات الشديدة في ذلك، كما تقع بين العلماء في مجادلاتهم ومناظراتهم؛ مما يدل على أنَّ الغناء العربي كان له عند العرب صبغةٌ جِدِّية، فوق صبغة اللهو، وأنَّ الغربيين في هذا العهد الأخير ليسوا بأعلم بصناعة الغناء ولا أقوم على أمرها من العرب في ذلك العهد الأول. ولو أنَّ العرب توسعوا في فنونه وضروبه لبلغوا فيه الغاية التي لا غاية وراءها، ولكنهم كانوا قلما يحفلون بإدخاله في الأغراض العالية، كالحروب ومواقف الفخر، وأمثال ذلك من المناحي والمقاصد إلا قليلًا. كما ورد في تاريخ الدولة العباسية أنَّ أعداء البرامكة لما أرادوا الإيقاع بهم، وعلموا أنَّ سبيل الوشايات بهم إلى الرشيد سبيلٌ وعْرٌ، دسوا له من القيان من يغنيه بقول عمر بن أبي ربيعة:
ليت هندًا أنجزتنا ما تعد ـــــ وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدَّت مــرةً واحــدةً ـــــ إنما العاجز من لا يستبد
فحرك ذكر العجز والاستبداد ما كان كامنًا في نفس الرشيد من شعوره بسلطان البرامكة عليه واستبدادهم بالأمر من دونه، فقال عند تمام الصوت: «نعم، إني عاجزٌ، إني عاجز!» ثم كان من أمره معهم بعد ذلك ما كان.
ولقد مضى الصدر الأول من الإسلام وشأن فن الغناء العربي هذا الشأن العظيم، خصوصًا في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية. ثم أخذت شمسه الباهرة تنحدر إلى الغروب بانحدار اللغة العربية وشِعرها، حتى أصبح في حضارة الأندلس قدودًا وموشحاتٍ، بعد أن كان قصائد ومقطعات، فكان لا يسمع أبناء العرب في ذلك العهد إلا قول المغني:
كحل الدجى يجري --- من مقلة الفجر --- على الصباح
ومعصم النهر ------ في حللٍ خضرٍ --- من البطاح
أو قوله:
كللي يا سحب تيجان الربى بالحلي ---- واجعلي سوارها منعطف الجدول
وليت الأمر وقف عند هذه الموشحات؛ فإنها وإن لم تكن شعرية اللفظ، فهي شعرية المعنى، عالية الخيال، وهي على علاتها خيرٌ من شعر العامة الذين قضى عليهم فساد اللغة وانحطاطها بانتهاجه والتغني به، كالزجل، والمواليا، والقوما، والدوبيت، وكان ويكون، وغير ذلك مما يسمى في عهدنا هذا بالأدوار، والتواشيح، والأغصان، والمذاهب، وأمثالها.
فهل لجماعة المغنين في عصرنا أنْ يعفونا من «أحب جميل طبعه الدلال.» ومن «يا حلو صن عهد ودادي الله يصونك.» ويأخذوا بنا في مسلكٍ أشرف من هذا المسلك، ويعيدوا للغناء العربي عهده الأول، كما صنع شعراء العصر برفيقه الشعر؛ فلقد كان الشعر والغناء أخوين أليفين، رَضِيعَيْ ثديٍ واحدٍ، وضَجِيعَيْ مهدٍ واحد، ثم ضربهما الدهر بضرباته فافترقا، فماذا علينا لو قصرنا مسافة البعد بينهما؟ وماذا على المغنين والشعراء في مصر لو عقدوا بينهم عهدًا أن يهذبوا أخلاق أمتهم ويرفعوا شأنها، ليكون لهم من الفضل في نهضتها وارتقائها ما عجز عن دَرَكِهِ الفلاسفة والحكماء؟ فينظم الشاعر المقطعات الرقيقة العذبة السائغة في فضائل الأعمال ومكارم الأخلاق، كالشجاعة، والشهامة، والشرف، وحب الوطن، والاتحاد، والتزهيد في صغائر الأمور والترغيب في عظائمها، فيأخذها منه المغني ولا يتكلف في تلحينها أكثر مما يتكلفه في تلحين سواها من الأدوار والمواويل، ثم يغنيها في الناس غير مبالٍ بما يفجؤه به ضعفاء النفوس من العامة من الانتقاد الملازم لكل عملٍ شريف في مبدئه. وفي اعتقادي أنَّ لهذه الطريقة من الأثر الحسن في نفوس العامة وتهذيب أخلاقهم وطباعهم، وتقويم ألسنتهم وعقولهم، ما يخلد للملحنين والمغنين أجمل ذكرٍ في تاريخ عظماء الرجال.