العام الجديد
في مثل هذا اليوم من كل عامٍ يقف ركب هذا العالم السائر على منزلةٍ من منازل الحياة، فينزل عن مطاياه ليستريح فيها ساعةً من وعثاء السفر بعد أنْ نال منه الأَيْنُ والكلال، وأنضاه سُرى الليل ومسير النهار خمسةً وستين وثلاثمائة يوم.
هنالك يجتمع السفْر في صعيدٍ واحدٍ، فيتعارفون ويتفقد بعضهم بعضًا، فيجدون أنَّ فلانًا مات جوعًا، وفلانًا مات ظمأً، وآخر افترسه سبع، وآخر قتله لصٌّ، وآخر مات غيلةً، وآخر سقط عيًّا، وآخر طارت به قنبلةٌ، وآخر هوت به طيارة، وآخر اجتاحه بركان، وآخر تردى عليه منجمٌ، ثم يعودون إلى جرائد الإحصاء ليدونوا فيها حاضرهم كما دونوا فيها ماضيهم، ثم يوازون بين هذا وذاك، فيجدون أنَّ الحاضر شرٌّ من الماضي، وأنَّ ميادين الحروب لا تزال ملوثةً بالدماء، ومصانع الموت لا تزال تفتنُّ في عدده وتستكثر من أدواته، وأنَّ أغراس الشر لا تزال عالقةً بنفوس البشر، حتى ما يكاد أحدٌ يتمنى أن تقع عينه على أحد، وأنَّ سحائب البغضاء لا تزال ناشرةً أجنحتها السوداء على المجتمع الإنساني من أقصاه إلى أقصاه شعوبًا وقبائل، وأجناسًا وأنواعًا، ومذاهب وأديانًا، ومنازل وأوطانًا، فيبغض الرجل صاحبه لأنه يخالفه في جنسه، فإن عرف أنه يوافقه أبغضه لأنه ينطق بغير لغته، فإن نطق بها أبغضه لأنه لا يشاركه في وطنه، فإن كان مشاركًا له أبغضه لأنه يزاحمه في حرفته أو صناعته، فإن بَعُدَ عن طريقه أبغضه لأنه يخالفه في رأيه، فإن كان موافقًا له أبغضه لأنه لا يحاكيه في لونه. فإن لم يجد شيئًا من هذا ولا ذاك أبغضه لأنه لا شخصٌ سواه. كأن قضاءً حتمًا على الإنسان أن يبغض كل صورةٍ غير الصورة التي يراها كل يومٍ في مرآته، فإذا فرغوا من النظر في جرائد حسابهم والموازنةً بين حاضرهم وماضيهم، أضافوا إلى سيئاتهم الماضية سيئة الغش والكذب، فتناسوا كل هذا، ووضع كلٌّ منهم يده في يد أخيه مهنئًا له بالعيد السعيد، داعيًا له بدوام الرفاهية والسعادة، ثم تنادَوا للرحيل ليستقبلوا المرحلة الآتية بعد قطع المرحلة الماضية.
علام يهنئ الناس بعضهم بعضًا؟ وماذا لقوا من الدنيا فيحرصوا على البقاء فيها ويغتبطوا بقطع المراحل التي يقطعونها منها؟ ومن منهم يستطيع أن ينطق بلسانٍ يصدُق الحديث عما في نفسه فيقول: إنه أصبح سعيدًا كما أمسى أو أمسى سعيدًا كما أصبح؟ أو إنه رأى بارقًا من بوارق السعادة قد لمع يومًا من الأيام في سماء حياته ولم يرَ بجانبه مثل ما يرى في الليلة البارقة من نجومٍ هاوية، ورعودٍ قاصفةٍ، وصواعق محرقةٍ، وغيومٍ متلبدة؟
بأي نعمةٍ من النعم أو حسنةٍ من الحسنات تمن الحياة على رجلٍ ينتقل فيها من ظلمة الرحم إلى ظلمة العيش إلى ظلمة القبر، كأنما هو يونان الذي التقمه الحوت فأصبح في ظلماتٍ بعضها فوق بعض؟ وأي صنيعة من الصنائع أسدتها الأيام إلى إنسانٍ يظل فيها من مهده إلى لحده حائرًا مضطربًا يفتش عن ساعة راحةٍ وسلامٍ يبل بها غُلَّته ويثلج بها صدره فلا يعرف لها مذهبًا ولا يجد إليها سبيلًا؟ إن كان غنيًّا اجتمعت حوله القلوب المضطغنة، واصطلحت عليه الأيدي الناهبة، فإما قتلته وإما أفقرته. وإن كان فقيرًا عدَّ الناسُ فقرَه ذنبًا جنته يداه، فتتناوله الأكف، وتتقاذفه الأرجل، وتتجاذبه الألسن حتى يموت الموتة الكبرى. وإن كان عالمًا ولع به الحاسدون واستُهتروا في تزييفه والتشهير به، وأغروا بنفثاته وآثاره حتى يعطيهم عهده وميثاقه أن يعيش عالمًا كجاهلٍ وحيًّا كميتٍ، وأن يكتم سر علمه في صدره فلا يفضي به إلى لسانٍ ولا قلمٍ، أو يموت دون ذلك. وإن كان جاهلًا اتخذه العالمون مطيةً لا يزالون يركبونها إلى مقاصدهم وأغراضهم من حيث لا يرحمونها، ولا يرفقون بها، ولا يقيمون صلبها حتى يعقروها. وإن كان بخيلًا ازدرته القلوب، واقتحمته العيون وتقلصت له الشفاه، وبرزت له الأنياب، وانقبضت له السرائر، والتهبت له الأنظار، وأرسلت إليه الأضغان ألسنة نيرانها حتى تحرقه. وإن كان كريمًا محسنًا عاش مترقبًا في كل ساعةٍ ليله ونهاره شر الذين أحسن إليهم، إما لأنه منحهم أولًا ثم منعهم آخِرًا، فهم يحاولون أن ينتقموا منه لأنه أذاقهم لقمةً ناعمةً ما كانوا يقدرون لها في أنفسهم حسابًا، فلما ذاقوها استعذبوها، فاستزادوا منها فلم يجدوا ما يريدون، فتمتلئ صدورهم حقدًا على تلك اليد التي هاجت بِطنتهم، وأشعلت نارها ثم لم تطفئها. أو لأنهم من أصحاب النفوس الشريرة الذين يشعرون كأن المحسن يريد أن يشتري منهم نفسه بما يسدي إليهم من إحسانه، فيتناولون من الإحسان لأنهم طمَّاعون، ويطوون القلوب على الحقد عليه والموجدة له؛ لأنهم كانوا يريدون أن يتمكنوا من عِرضه ينالون منه كما يشاءون فحِيل بينهم وبين ذلك.
لا سعادة في هذه الحياة إلا إذا نشر السلام أجنحته البيضاء على هذا المجتمع البشري، ولن ينتشر السلام إلا إذا هدأت أطماع النفوس، واستقرت فيها ملكة العدل والإنصاف، فعرف كل ذي حقٍّ حقه، وقنع كلٌّ بما في يده عما في يد غيره، فلا يحسد فقيرٌ غنيًّا، ولا جاهلٌ عالمًا. وأشعرت القلوب رحمةً وحنانًا على البؤساء والمنكوبين، فلا يهلك جائعٌ بين الطاعمين، ولا عارٍ بين الكاسين. وامتلأت النفوس عزةً وشرفًا، فلا يبقى شيءٌ من تلك الحبائل المنصوبة لاغتيال أموال الناس باسم الدين أو باسم الوطنية أو باسم الإنسانية أو باسم العلم، ولا نرى طبيبًا يدِّعي علم ما لم يعلم ليسلب المريضَ رُوحَه وماله، ولا محاميًا يخدع موكله عن قضيته ليسلب منه فوق ما يسلب منه خصمه، ولا تاجرًا يشتري بعشرة ويبيع بمائةٍ ثم ينكر بعد ذلك أنه لصٌّ سارق، ولا كاتبًا يضرب الناس بعضهم ببعضٍ حتى تسيل دماؤهم فيمتصها كما يضرب القادح الزَّند بالزند ليظفر بالشرر المتطاير منهما. وما دامت هذه المطالب أحلامًا كاذبةً وأمانيَّ باطلة فلا مطمع في سلامٍ ولا أمانٍ، ولا أمل في سعادةٍ ولا في هناء، ولا فرق بين أمس الدهر ويومه ولا بين يومه وغده، ولا فرق بين مغفلات أيامه ومعلمات أعياده، فليهنأ بالعيد من عرف من أيامه غير ما عرفت، وذاق من نعمائه غير ما ذقت، وليفرح بالعام الجديد من حمد ماضي أيامه، وسالف أعوامه.