الصندوق
حضرة السيد الفاضل
يوجد في ضريح السيد البدوي صندوقٌ توضع فيه النذور التي يبلغ مجموعها في العام نحو ستة آلاف جنيه، فإذا فتح ذلك الصندوق يختصُّ بعض الخلفاء بأخذ نحو الربع مما فيه، والباقي يوزع على أصحاب الأنصبة الكثيرين الذين يُعَدُّونَ بالمئات، فهل ترون أنَّ هذه القسمة شرعية، مع أنَّ الذين يأخذون الألوف أغنياء، والذين يأخذون الآحاد فقراء؟! أفتنا أيها السيد الفاضل بما يوجبه الإنصاف والعدل الديني في هذه المسألة التي أصبحت الشغل الشاغل لكثير من الناس.
ابن جلا
أيها السائل
أراك تسألني عن القسمة الشرعية في هذا المال، كأنك تعتقد أنه ميراث شرعي، وأنَّ لهؤلاء الذين تسميهم أصحاب الأنصبة من الحق في هذا المال ما للوارثين من مال المورثين.
إنَّ الذي أعلمه أنَّ هذا الحق المزعوم حقٌّ موهومٌ، لا يستطيع أن يحمله الحامل على وجهٍ من الوجوه الشرعية؛ لأن الذين يضعون المال في ذلك الصندوق وأمثاله لا يريدون أن يهبوه لأحد من سدنة ذلك الضريح أو خدمته أو أصحاب العلائق بالميت المدفون فيه، ولو أنهم أرادوا ذلك لما كان بينهم وبين هؤلاء القوم حائلٌ يمنعهم عن وضع ذلك المال في أيديهم. ولكنهم لما تصوروا أنَّ ذلك الميت حيٌّ في قبره يسمع نجواهم ويفهم حديثهم، ويلبي دعاءهم، تَجسَّم في نظرهم هذا الخيال، فأرادوا أن يُعْطُوهُ جميع أحكام الأحياء، حتى في حب المال وادخاره، فَخُيِّلَ إليهم أنَّ الصندوق من الميت بمنزلة الكيس من الحي، فهم يهبونه المال، ويضعونه في صندوقه؛ لأنهم يعجزون عن وضعه في يده!
أما كيفية تصرف الميت بهذا المال، والبحث عن مذاهبه ومراميه، فهو أمر لا يخطر على بالهم، ولا يدخل في باب مقاصدهم وأغراضهم، فإن وجد بينهم من يعلم أنَّ مرجع هذا المال الذي يضعه في الصندوق إلى سَدَنَةِ الضريح وخدمته وأشياع صاحبه، فعلمه هذا لا يستفاد منه أنه يهبه لهم أو يمنحه إياهم؛ لأنهم لو أرادوه على أن يعطيهم ذلك المال، أو يعطيهم بعضه ويستبقي لنفسه البعض الباقي لما وسعه ذلك، ولا رأى — إن فعله — أنه عمل عملًا صالحًا، بل هو يعتقد أنَّ أخذهم المال من الصندوق أمرٌ لا علاقة له به، ولا شأن له فيه؛ لأن المال قد خرج من يده إلى صاحب الضريح، وصاحب الضريح يتصرف في ماله كيف يشاء.
فهو في جميع حالاته وشئونه لا يهب هبةً صحيحة، ولا يتصرف تصرفًا شرعيًّا، ولا يضع صدقةً في موضعها، ولا يطرق بابًا من أبواب البر والمعروف.
وعندي أنَّ مثل هذا المال بعد أن خرج من يد صاحبه إلى غير يدٍ وانقطعت ملكيته الأولى من حيث لم تقم مقامها ملكيةٌ أخرى، يعتبر مالًا مهملًا لا صاحب له، ولا علاقة لأحدٍ به.
وأحسن الحالات الشرعية والعقلية في مثل هذا المال أن ينفق في مصارف الصدقات التي اعتبرها الشارع واعتمدها وافتتحها بأداة الحصر التي تمنع غيرها من الاشتراك معها في حكمها في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
فإن كان بين هؤلاء القوم المتظلمين من قلة أنصبتهم في ذلك الصندوق ذو حاجة، فهو داخل في قسمةٍ من الآية الشريفة، فله الحق في ذلك المال من حيث كونُه فقيرًا معدمًا كعامة فقراء المسلمين، لا من حيث أنَّ له علاقةً بصاحب الضريح تُسوِّغ له أن يكون من ذوي الأنصبة في صندوقه، فإن أمثال هذه العلاقات قد انقطعت بانقطاع الجاهلية الأولى، فلا هياكلَ اليوم ولا سدنةَ، ولا وسطاءَ ولا شفعاءَ، ولا أقراطَ تعلَّق في آذان الأصنام، ولا عقودَ تقلَّد بها أعناق الأوثان، ولا مالَ يوضع مع الموتى في قبورهم لينتفعوا به عندما يبدو لهم القيام من مراقدهم. وإنما الناس جميعًا سواءٌ بين يدي الله سبحانه وتعالى، لا فضل لأحدٍ عنده على أحدٍ إلا بالتقوى، ولا زلفى لأحدٍ يزدلف بها إليه إلا يقينه وإيمانه وبره وإحسانه.
ذلك ما أراه في هذه المسألة، وهذا ما أعتقده فيها، ولا أعلم إن كنت أرضيت الناس فيما كتبت، أو أغضبت، وإنما أعلم أنني أرضيت ضميري وخالقي، وحسبي ذلك وكفى.