الرئيسيةبحث

النظرات/الصدق والكذب



الصدق والكذب


يا صاحب النظرات

سمعت بالصدق وما وعد الله به الصادقين من حسن المثوبة وجزيل الأجر، وسمعت بالكذب وما أعد الله للكاذبين من سوء العذاب وأليم العقاب، وقرأت ما كتبه حكماء الأمم من عهد آدم إلى اليوم، وإجماعهم أنَّ الصدق فضيلة الفضائل، والأصل الذي تتفرع عنه جميع الأخلاق الشريفة والصفات الكريمة، وأنه ما تمسَّك به متمسكٌ إلا كان النجاح في أعماله ألصق به من ظله، وأعلق به من نفسه، سمعت هذا وقرأت هذا، فلم يبق في نفسي ريبٌ في أنَّ ما أنا مرزوءٌ به في حظي من الشقاء، وعيشي من الضنك، وحياتي من الهموم والأكدار، إنما جره إلى شؤم الكذب، وأنَّ ما كنت أتخيله قبل اليوم من أنَّ هناك مواقف يكون فيها الكذب أنفع من الصدق وأسلم عاقبةً إنما هو ضربٌ من ضروب الوهم والباطل ونزغةٌ من نزغات الشيطان، فعاهدت الله ونفسي ألا أكذب ما حييت، وأعددت لذلك القسم العظيم عدَّته من شجاعةٍ في النفس وقوةٍ في العزيمة، بعدما وجَّهت وجهي لله تعالى وسألته أن يمدني بمعونته ونصره.

وهأنذا ذاكرٌ لك مواقف الصدق التي وقفتها بعد ذلك العهد، وما رأيته من آثارها ونتائجها:

الموقف الأوَّل: جلست في حانوتي فما وقف بي مساومٌ إلا صدقته القول في الثمن الذي اشتريت به السلعة والربح الذي أريده لنفسي فيها، والذي لا أستطيع أن أعدَّ نفسي رابحًا إذا تجاوزت عن بعضه فيأبى إلا الحطيطة، فآباها عليه، فينصرف عني استثقالًا للثمن واستعظامًا لمقداره، وما هو إلا الربح الذي اعتدت أن آخذه منه في مثل تلك الصفقة، إلا أنني كنت أكذب عليه في أصل الثمن، فيصغر في نظره الربح الذي أربحه منه، فلما صدقته عنه أعظمَه وانصرف عني إلى سواي. ولم أزل على هذه الحال حتى أظلني الليل، ولم يفتحِ الله عليَّ بقوت يومي، وما هي إلا أيامٌ قلائل حتى عرفت في السوق بالطمع والمغالاة، فأصبحت لا يطرق بابَ حانوتي طارقٌ.

الموقف الثاني: جلست في مجلسٍ يتصدُّره شيخٌ من تجَّار العقول الضعيفة المعروفين بمشايخ الطرق، وقد حفَّ به جماعة من عَبَدَته وسَدَنة هيكله، فسمعته يشرح لهم معنى التوكل شرحًا غريبًا، يذهب فيه إلى أنه القعود عن العمل وإلقاء حبل هذا الوجود على غاربه، والإعراض عن كل سعيٍ يؤدي إلى أي غاية، ويعتمد في هذيانه هذا على آياتٍ يؤولها كما يشاء، وأحاديث لا يستند في صحتها على مستندٍ سوى أنه سمعها من شيخه أو قرأها في كتابه. وأكثر ما كان يدور على لسانه حديث: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا.» فقلت له، وقد أخذ الغيظ من نفسي مأخذه: «يا شيخ، أردت أن تحتج لنفسك فاحتججت عليها! أتعمد إلى حديثٍ يَستدل به رواته على وجوب السعي والعمل فتستدل به على البطالة والكسل؟! ألم تر أنَّ الله سبحانه وتعالى ما ضمن للطير الرواح بطانًا إلا بعد أنْ أمرها بالغدو، وهي التي ترويها القطرة وتشبعها الحبَّة، فكيف لا يأمر الإنسان بالسعي، وهو من لا تفنى مطالبه ولا تنتهي رغباته؟! أيها القوم، إنكم تقولون بألسنتكم ما ليس في قلوبكم، إنكم عجزتم عن العمل وأَخلدتم إلى الكسل، وأردتم أن تقيموا لأنفسكم عذرًا يدفع عنكم هاتين الوصمتين، فسمَّيتم ما أنتم فيه توكُّلًا وما هو إلا العجز الفاضح، والإسفاف الدنيء.» وهنا زفر الشيخ زفرة الغيظ، ونادى في قومه أنْ أخرجوا هذا الزنديق الملْحِدَ من مجلسي! فتألَّبوا عليَّ تألبهم على قصعة الثريد وأوسعوني لطمًا وصفعًا، ثم رموا بي خارج الباب، فما بلغت منزلي حتى هلكت أو كدت، فما مررت بعد ذلك بطائفة من العامة إلا رموني بالنظر الشزر، وعاذوا بالله من رؤيتي كما يعوذون به من الشيطان الرجيم.

الموقف الثالث: لا أكتمك يا سيدي أني كنت أبغض زوجتي بغضًا يتصدَّع له القلب، غير أني كنت أصانعها وأتودَّد إليها وأمنحها من لساني ما ليس له أثرٌ في قلبي؛ خداعًا لها وإبقاءً على ما تحتويه يدي من صبابة مالٍ كانت لها، فرأيت أنَّ ذلك أكذب الكذب وأقبحه، فآليت على نفسي ألا أسدل بعد اليوم أمام عينيها حجابًا يحول بينها وبين سريرتي، فانقطع عن سمعها ذلك السلسبيل العذْبُ من كلمات الحب، فاستوحشت مني وأظلم ما بيني وبينها، فما هي إلا عشيةٌ أو ضحاها حتى انحلَّ ذلك الوَثاق، وختمت سُورة الفراق بآية الطلاق.

الموقف الرابع: حضرت مجتمعًا يضمُّ بين حاشيتيه جماعةً من الفضوليين الذين تضيق بهم مذاهب القول، فيلجئون إلى الحديث عن الناس والمفاضلة بينهم، ويحاولون أن ينبشوا دفائن صدورهم ويتغلغلوا بين أطواء سرائرهم، ويغالون في ذلك مغالاة الكيميائيِّ في تحليله وتركيبه، فرأيتهم يتناولون بألسنتهم رجلًا عظيمًا من أصحاب الآراء السياسية، لا أعتقد أنَّ بين السالكين مسلكه والآخذين إخْذَهُ مَن أخلص لأمته إخلاصه، أو وقف في المواقف المشهودة موقفه، أو لاقى في ذلك السبيل من صدمات الدهر وضربات الأيام ما لاقاه، سمعتهم يسمُّونه خائنًا، فوالله لأن تقع السماء على الأرض أحبُّ إليَّ من أن يُتَّهَمَ البريء أو يجازى المحسن سوءًا على إحسانه. سمعت ما لم أملك نفسي معه، فقلت: «يا قوم، أتطالعون من كتاب الحرية مائة صفحةٍ ونيفًا ثم لا تزالون عبيد الأوهام، أسرى الخيالات، سِراعًا إلى كل داعٍ، سُعاةً مع كل ساعٍ، تنظرون بغير رويةٍ، وتحكمون بغير علمٍ؟! إنكم بعملكم هذا تزهِّدون المحسن في إحسانه، وتلقون الرعب في قلب كل عاملٍ يعمل لأجلكم، وتثبِّطون همَّة كل من يحدِّث نفسه بخدمتكم وخدمة بلادكم. أليس مما يلقي في النفس اليأس من نجاحكم وصلاح حالكم أنْ نراكم طُعْمَةَ كل آكلٍ، ولعبة كل عابثٍ، يستهويكم الكاذب بالكلمات التي تستهوي بها المرضعات أطفالهن، ثم يدعوكم إلى مناوأة الصادق، فتمنحون الأول ودَّكم وإخلاصكم، والثاني بغضكم وموجدتكم؟!» خاطبتهم بهذه الكلمات أريد بها خيرًا لهم فأرادوا شرًّا بي، فما خلصت من بينهم إلا وأنا ألمس رأسي بيدي لأعلم أين مكانها من عنقي.

الموقف الخامس: قابلني في الطريق شاعرٌ يحمل في يده طُومارًا كبيرًا، وكنت ذاهبًا إلى موعد لا بدَّ لي من الوفاء به، فعرَض عليَّ أنْ يُسمعني قصيدةً من طريف شِعره، وأنا أعلم الناس بطريفه وتليده، فاستعفيته بعد أنْ كاشفته بأمري فأبى، فانتحيت به ناحيةً من الطريق، فأنشأ يترنم بالقصيدة بيتًا بيتًا وأنا أشعر كأنما يُجرِّعني السُّمَّ قطرةً قطرة، حتى تمنيت أن لو ضربني بها ضربةً واحدة يكون فيها انقضاء أجلي ليريحني من هذا العذاب المتقطع والتمثيل الفظيع! وكلما أتى على بيتٍ منها أقبل عليَّ بوجهه، وأطال النظر في وجهي، وحدَّق في عيني ليعلم كيف كان وقع شِعره من نفسي، فإذا رأى تقطيب وجهي ظنه تقطيب الشارب لارتشاف الكأس، فيستمر في شأنه حتى أنشد نحو خمسين بيتًا، ثم وقف وقال: «هذا هو الباب الأول من أبواب القصيدة!» فقلت: «وكم عدد أبوابها يرحمك الله؟» قال: «عشرة ليس فيها أصغر من أولها!» قلت: «أتأذن لي أن أقول لك يا سيدي: إنَّ شعرك قبيحٌ، وأقبح منه طوله، وأقبح من هذا وذاك صوتك الأجش الخشن، وأقبح من الثلاثة اعتقادك أني من سَخافة الرأي وفساد الذوق بحيث يُعْجِبُنِي مثل هذا الشعر البارد عجبًا يسهِّل عليَّ فوات الغرض الذي أريده، والذي ما خرجت من منزلي إلا من أجله؟» فتلقاني بضربةٍ بجمع يده في صدري، فتلقيته بمثلها، وما زالت أكفنا تأخذ مأخذها من خدودنا وأقفائنا حتى كَلَّتْ، فجرَّدت عصايَ وضربته في رأسه ضربةً ما أردت بها — يعلم الله — إلا أن أصيبَ مركز الشِّعر من مخه فأفسده عليه! فسقط مغشيًّا عليه، وسقطت القصيدة من يده، فأسرعت إليها ومزقتها وأرحت نفسي منها وأرحت الناس من مثل مصيبتي فيها. وكان الشرطي قد وصل إلينا فاحتملنا جميعًا إلى المخفر، ثم إلى السجن حيث أكتب إليك كتابي هذا. فيا صاحب النظرات: أَفْتِني في أمري وأَنِرْ ظلمة نفسي فقد أَشْكَلَ عليَّ الأمر وأصبحت أسوأ الناس بالصدق ظنًّا، بعدما رأيت أني ما وقفت موقفه في حياتي إلا خمس مرات، فكانت نتيجة ذلك إفلاسي، وخراب بيتي، واتهامي بالخيانة مرة والزندقة أخرى، ذلك إلى ما أقاسيه اليوم في هذا السجن من أنواع الآلام وصنوف الأسقام.»

أيها السجين

كتبت إليَّ — مسح الله ما بك وألهمك صواب الرأي في حاليك — تشكو من جناية الصدق عليك ما وقف بك موقف الشك في أمره، وكاد يزلق بك إلى الاعتقاد أنه رذيلة الرذائل لا فضيلة الفضائل، وما كان لك أن تجعل لليأس هذا السبيل إلى نفسك، وأن يبلغ بك الجزع من نكبات العيش وضربات الأيام مبلغًا يذهب برشدك، ويطير بلبك، فما أنت أول صادقٍ في الأرض، ولا أول من لقي في سبيل الصدق شرًّا وكابد ضرًّا.

إنك لو فهمت معنى الفضيلة حق الفهم، وصبرت على مرارتها حق الصبر، لذقت من حلاوتها ما تقطع دونه أعناق الرجال.

ليست الفضيلة وسيلةً من وسائل العيش أو كسب المال، وإنما هي حالة من حالات النفس تسمو بها إلى أرقى درجات الإنسانية وتبلغ بها غاية الكمال.

إنَّ الذي يطلب الفضيلة ليستكثر بها ماله أو يُرَفِّهَ بها عيشه، يحتقرها ويزدريها؛ لأنه لا يفرِّق بينها وبين سلعة التاجر وآلة الصانع.

ليس من صواب الرأي أن يجعل الإنسان حالةَ عيشه ميزانًا يزن به أخلاقه، فإن اتسع عيشه اطمأن إليها، وإن ضاق أساء الظن بها، فكم رأينا بين الفاضلين أشقياء، وبين الأرذلين كثيرًا من ذوي النعمة والثراء.

لا يستطيع الرجل الفاضل أن يبلغ غايته من عيشه إلا إذا استطاع أن ينزل من نفوس الناس منازل الحب والإكرام، ولن يستطيع ذلك إلا إذا عاش بين قوم يعرفون الفضيلة ويعظمون شأنها، ولن يكونوا كذلك إلا إذا كانوا فضلاء أو أشباه فضلاء. والسواد الأعظم الذي يمسك بيده أسباب العيش، ويملك ينابيعه سوادٌ أبله ساذجٌ يبغض الصادق؛ لأنه يصادره في ميوله وأهوائه، وينقم منه جهله وغباوته، ويحب الكاذب؛ لأنه لا يزال يُزَيِّنُ له أمره حتى يحبب إليه نفسه، فلا بُدَّ للصادق من صدرٍ يسع هموم العيش وقلبٍ يحتمل بغض القلوب؛ ليبلغ غايته من إصلاح النفوس وتهذيبها، كما يبذل المجاهد حياته ودمه ليبلغ غايته من الفوز والانتصار.

الصدق جَنةٌ حُفَّت بالمكاره، فإن كان للصادق في جنة الصدق أربٌ فليحمل في سبيلها ما حمله الأنبياء والمرسلون، والحكماء والقائمون بإصلاح المجتمع الإنساني، ودعاة المطالب الدينية والسياسية.

كما أن الجود يُفْقِرُ والإقدام قتَّال، وكما أن لكل فضيلةٍ من الفضائل آفةً من الآفات ترفع درجتها وتبعد منازلها — إلَّا على الصابرين المخلصين — كذلك للصدق آفة من مصادمة الكاذبين (وهم الأكثرون) للصادقين (وهم الأقلون).

أتريد أيها الرجل أن تُسمَّى صادقًا، وأن تنال أشرف لقبٍ يستطيع أن يناله بشرٌ، وأن يوافيك المجد طائعًا مُذْعِنًا دون أن تبذل في سبيله شيئًا من مالك أو راحتك؟

إنك إن أردت ذلك — أو قَدَّرْتَهُ في نفسك — تظلم الفضيلة ظلمًا بينًا، وترخص قيمتها، وتلقي بها في مدارج الطرق وتحت مواطئ النِّعال.

أيحزنك انصراف الأغبياء عن حانوتك، أو اتهامك بالزندقة والإلحاد، أو المروق والخيانة، وترى أنَّ ذلك كثير في سبيل بلوغك منزلة الصدق وإحرازك فضيلته، وأنت تعلم أنَّ الفاضلين قد بذلوا من قبلك أكثر مما بذلت في سبيل إحراز ما أحرزت، فما ندموا ولا حزنوا؟

أيها السجين الشريف

هنيئًا لك السجن الذي تكابده، وهنيئًا لك البغض الذي تَحَمَّلْتَهُ، وهنيئًا لك العيش الذي تعالج هموهه! فوالله لأنت أرفع في نظري من كثيرٍ من أولئك الذين يَعدَّهم الناس سعداء، ويسمونهم عظماء.

لا تظلم الصدق ولا تكن سَيِّئ الظن به، وكن أحرص الناس على ولائه ومودته، وإياك أن يخدعك عنه خادعٌ، واصبر قليلًا يُثْمرْ لك غرسه، ويمتد عليك ظله، وهنالك تجد في نفسك من اللذة والغبطة ما لو بذل فيه ذوو التيجان تيجانهم، وأرباب الكنوز كنوزهم، لما استطاعوا إليه سبيلًا.