يوم الحساب | النظرات الشعرة البيضاء المؤلف: مصطفى لطفي المنفلوطي |
الصياد |
مررت صباح اليوم أمام المرآة فلمحت في رأسي شعرةً بيضاء تلمع في تلك اللِّمِّة السوداء لمعان شرارة البرق في الليلة الظِّلْمَاء.
رأيت الشعرة البيضاء في فَوْدَيَّ، فارتعت لمرآها، كأنما خُيِّلَ إليَّ أنها سيفٌ جرَّده القضاء على رأسي، أو عَلمٌ أبيض يحمله رسولٌ جاء من عالم الغيب ينذرني باقتراب الأجل، أو يأسٌ قاتلٌ عرض دون الأمل، أو جذوة نار علقت بأهداب حياتي عُلوقَها بالحطب الجَزْل، ولا بُدَّ مهما ترفَّقت في مشيتها واتَّأدت في مسيرها من أن تبلغ مداها، أو خيطٌ من خيوط الكفن الذي تَنسجه يد الدهر وتُعدُّه لباسًا لجثتي عندما تجردها من لباسها يد الغاسل.
أيتها الشعرة البيضاء! ما رأيت بياضًا أشبه بالسواد من بياضك، ولا نورًا أقرب إلى الظلمة من نورك، لقد أبغضت من أجلك كلَّ بياضٍ حتى بياض القمر، وكلَّ نورٍ حتى نور البصر، وأحببت فيك كلَّ سوادٍ حتى سواد الغربان، وكلَّ ظلامٍ حتى ظلام الوجدان.
أيتها الشعرة البيضاء! ليت شِعري من أيِّ نافذةٍ خَلَصتِ إلى رأسي؟ وفي أي مسلكٍ من مسالك الدهر مشيت إلى فَوْدَيَّ؟
كيف طاب لك المُقامُ في هذه الأرض الموحشة التي لا تجدين فيها أنيسًا يسامرك، ولا جليسًا يساهرك؟ وكيف لم يُرَع قلبُك لمنظر هذا الليل الفاحم؟ ولم يَعشَ بصرك في هذا الظلام القاتم؟
أيتها الشعرة البيضاء! لقد عييتُ بأمرك، وبَعلْتُ بحملك، وأصبحت لا أعرف وجه الحيلة في البعد عنك، والفرار من وجهك.
لا ينفعني معك أن أنزعك من مكانك لأنك لا تلبثين أن تعودي إليه، ولا ينقذني منك أن أُخضِّبك بالسَّواد لأنَّك لا تلبثين أن تَنْصُلِي، ولأني لا أُحبُّ أن أجمع على نفسي بين مصيبتين: مصيبة الشيب، ومصيبة الكذب!
أيتها الشعرة البيضاء! يُخَيَّلُ إليَّ وأنا أنظر إليك أنك من ذوات الحيلة والدهاء والكيد والخبث، وأنك تهمسين في آذان أخواتك السُّودِ اللواتي بجانبك، تحاولين إغراءهن بالتشبه بك والتردِّي بردائك، وكأني بك وقد أشعلت في هذه البيئة الهادئة المطمئنة حربًا شعواء، وفتنة عمياء، يختلط فيها الرامح بالنابل والدارع بالحاسر، ويَهلِكُ فيها القاعد والقائم، والمظلوم والظالم.
إن كان هذا مصيرك، فسيكون شأنك شأن ذلك السائح الأبيض الذي ينزل بأمَّة الزنج مُستكشفًا فيصبح مستعمرًا، ويدخل أرضها سَلْمًا، ويفارقها حربًا، فأسأل الله لرأسي العافية منك، ولأمة الزنج السلامة من صاحبك، فكلاكما مشئوم الطلعة في مُقامه وارتحاله، وكوكب النحس في وقوفه وتَسْيَارِهِ.
أيتها الشعرة البيضاء! ما أنت؟ وما وُفودك إليَّ؟ وما مكانك مني ومُقامك عندي؟ إنْ كنتِ ضيفًا فأين استئذان الضيف وتلطُّفه وتجمُّله وتودُّده؟ وإنْ كنت نذيرًا فأنا أعلم من الموت وشأنه ما لا أحتاج معه إلى نذير، فلم يبق إلا أن تكوني أوقح الخلائق وجهًا، وأصلبها خدًّا، وأنك قد نزلت من السماجة والفضول منزلةً لا أرى لك فيها شبيهًا إلا تلك الحية التي تلج كل جحر من أجحار الهوامِّ والحشرات تَعدُّه جحرَها، وتحسَبه بيتها.
أيبلغ بك الشأن — وأنت التي ضربوا الأمثال بدقتها وخفائها ويبعثون وراءها الملاقط والمقاريض، فلا يكادون يعرفون السبيل إلى مدارجها ومكامنها — أن تملئي من الرعب قلبًا لا يروعه السيف المجرَّد، ولا السهم المسدَّد؟!
لا، لا، ما ذُعِرْتُ ولا ارتعت، وما حزنتُ ولا بكيت، وإنما هي خطرةٌ من خطرات الأمل الكاذب، ولمحةٌ من لمحات البرق الخالب.
أيتها الشعرة البيضاء، هل لك أن تتجاوزي عمَّا أسأت به إليك في إطالة عتبك، واستثقال ظِلِّكِ؟ فلقد رجعت إلى نفسي، فعلمتُ أنك أكرم الخلائق عندي، وأعظمها في عيني. هنيئًا لك رأسي مصيفًا ومرتبعًا، وهنيئًا لك فَوْدَيَّ مَرادًا ومسرحًا، فأنتِ رسولُ الموت الذي ما زلت أطلبه مذ عرفته فلا أجد له سبيلًا، ولا أعرف له رسولًا.
ما الذي يحمله في صدره لك من الحقد والموْجدَة رجلٌ لم ينعم بشبابه فيحزن على ذهابه؟ ولم يذق حلاوة الحياة فيجزع لمرارة الممات؟ ولم يستنشق نسمات السعادة غصنًا رطبًا فيأسى عليها عُودًا يابسًا.
ما الذي يَنْقِمُهُ منك من الشئون رجلًا يعلم أنك وحي الأمل الذي يبشره بقرب النجاة من حياةٍ ليس فيها من السعادة والهناء إلا لحظاتٌ قليلة يكدرها ما يحيط بها من الهموم والأحزان، كما تكدر أنفاسُ الحزن الحارَّةُ صفحةَ المرآة؟!
أليس كلُّ ما أعده عليك من الذنوب أنك طليعة الموت؟ والموت هو الذي يخلصني من منظر هذا العالم المملوء بالشرور والآثام، الحافل بالآلام والأسقام، الذي لا أغمض عَينِي فيه إلَّا لأفتحها على صديقٍ يغدر بصديقه، وأخٍ يخون أخاه، وعشيرٍ يحدد أنيابه ليمضغ عَشِيرَهُ، وغنيٍّ يضن على الفقير بفتات مائدته، وفقيرٍ يقترح على الدهر حتى بلغة الموت فلا يظفر بأمنيته، وملكٍ لا يفرق بين رعيته وماشيته، ومملوكٍ لا يميز بين مُلك الملك وربوبيته، وقلوبٍ تضطرم حقدًا على غير طائل، ونفوسٍ تتفانى قتلًا على لونٍ حائلٍ، وظلٍّ زائلٍ، وغرضٍ باطلٍ، وعقولٍ تتهالك وَجْدًا على نارٍ تُحرقها، وأنياب تمزقها، وعيون حائرة، في رءوسٍ طائرة، تنظر ولا ترى شيئًا مما حولها، وتلمع ولا تكاد تبصر ما تحتها، إن كان هذا هو ذنبك عندي، فاستكثري من ذنوبك فإني لك من الغافرين.
أيتها الشعرة البيضاء! مرحبًا بك اليوم ومرحبًا بأخواتك غدًا، ومرحبًا بهذا القضاء الواقف وراءك أو الكامن في أطوائك، ومرحبًا بتلك الغرفة التي أَخْلُو فيها بربي وآنَسُ فيها بنفسي، من حيث لا أسمع حتى دَوِيَّ المدافع، ولا أرى حتى غبار الوقائع.
| ||
أهلًا بوافدةٍ للشيب واحدةٍ | وإن تراءت بشكلٍ غيرِ مَوْدُودِ |