الرجل والمرأة
حضرة السيد المحترم
لا تعجب إنْ رأيت إعجابي بك ظاهرًا في كل سطرٍ من سطور كتابي هذا؛ فإنما أنا أنطق بلسان كثيرٍ من العقلاء الذين يحبونك حبًّا جمًّا، ويعتقدون أنك فريدٌ في أدبك، فريدٌ في قلمك، فريد في تسامُحِكَ وتساهلك، لذلك أردنا أن نوجه إليك السؤال الآتي راجين منك الإجابة عليه: لماذا نرى الهيئة الاجتماعية تَحْكُمُ على المرأة الفاسقة حكمًا صارمًا فتنبذها وتحتقرها، ولا تحكم بمثل هذا الحكم على الرجل الفاسق مع أنَّ جريمتهما واحدة؟
هذا ما أردنا أن نسترشد برأيك فيه، والسلام.
سائل
يعتقد كثيرٌ من الناس أنَّ الرجل والمرأة سواءٌ في العقل والذكاء، وعندي أنهم أخطئوا في الأولى وأصابوا في الأخرى.
تستطيع المرأة أنْ تجاري الرجل في سرعة الفهم وحضور البديهة، ولا تستطيع أنْ تجاريه في الأناة والرفق والاستمساك وامتلاك هوى النفس والأخذ بفضيلة الصبر على ما تكره وعمَّا تحب.
تستطيع المرأة أنْ تدرك ما يدركه الرجل من الشئون والأطوار، وأن تستخرج كما يستخرج المجهولات من المعلومات، ولكنها لا تستطيع أن تنتفع بمعلوماتها كما ينتفع؛ لأن بين جنبيها نفسًا غير نفسه، وهوًى غير هواه، ولأن لها قلبًا صغيرًا لا يقوى على احتمال ما يحتمله عقله الكبير.
يمشي الرجل وراء عقله فيهديه، وتمشي المرأة وراء قلبها فَيُضِلُّها. فما وقفتْ معه في موقفٍ إلا سقطت بين يديه عجزًا وضعفًا؛ لأنه يعرف السبيل إلى قلبها، ولا تعرف السبيل إلى عقله.
لا تعجب إنْ قلت لك: إنَّ الذكاء غير العقل، فاللصوص والمحتالون والمزورون والكاذبون والفاسقون والمنافقون أذكياء، وليس بينهم عاقلٌ واحد؛ لأنهم يوردون أنفسَهم موارد التلف والهلاك من حيث لا يُغني عنهم ذكاؤهم شيئًا. وكثيرًا ما يكون الذكاء الشديد داعية الجنون، حتى إنك لا تكاد ترى ذكيًّا من الأذكياء إلا وترى له في شئونه وأطواره أحوالًا شاذة لا تنطبق على قانون من قوانين العقل ولا قاعدةٍ من قواعد الطبيعة.
وعندي أنَّ أكثر ما يصيب النوابغ والأذكياء من بؤس العيش وسوء الحال عائدٌ إلى ضَعْفٍ في عقولهم، ونقصٍ في تصوراتهم. وبعد، فالذكاء في رأس الإنسان كالسيف في يد الشجاع، وكثيرًا ما يضرب الشجاع رأسَ نفسِه بسيفه إذا كان طائشًا أهوجَ، لا يملك نفسه في موقفٍ من مواقف الحزن أو الغضب.
فماذا يغني المرأةَ ذكاؤها إذا لم يكن وراءه عقلٌ يملكها ويصرفها، ويمسك بيدها أنْ تعثر في جريانها واشتدادها بعقبةٍ من عقبات هذه الحياة؟
سيثقل هذا الحكم على نفوس النساء ونفوس الرجال الذين يُجَامِلُونَهُنَّ، ولكن ماذا أعمل وبين يديَّ برهانٌ قاطعٌ ليس في استطاعتهن أنْ ينازعنني فيه مع شدة ذكائهن، ولا في استطاعة أنصارهنَّ من الرجال أن يَنقضوه ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا!
لولا أنَّ الرجل أعقل من المرأة ما كان له عليها هذا السلطان وذلك الغلَبُ، ولا استطاع أنْ يقودها وراءه كما يقاد الجَنِيبُ، ولا أنْ يملك عليها أمر فقرها وغناها، وحبسها وإطلاقها، وحجابها وسفورها، ويستأثر من دونها بوضع القوانين والشرائع الخاصة بها من حيث لا ترى في نفسها قوَّةً لدفعها والخروج عليها.
القويُّ يملك على الضعيف بحكم الطبيعة كلَّ شيءٍ حتى نفسَه وهواه، وكذلك كان شأن الإنسان مع الحيوان وشأن الرجل مع المرأة.
الإنسان نوعٌ من أنواع الحيوان، لم يكن في مبدأ خليقته خيرًا منها في شأن من شئون الحياة، ولكنه كان أوفر منها عقلًا وأوسع حيلةً، فما زال يطلب لنفسه الغاية التي تناسب استعداده وفطرته حتى أصبح سيد الحيوان، فَمَدَّنَ المدن ومَصَّرَ الأمصار وشاد وبنى، وتأنق وترفَّه، ثم طرد صاحبه إلى تلال الرمال، ورءوس الجبال، يأكل بعضه بعضًا. والرجل أخو المرأة وقسيمها في الرحم والمهد، والأبوة والأمومة، والقَوْمَة والقَعْدَة، والنومة واليقظة، ولكنه وجد في نفسه فضلًا من قوة العقل والتدبير عليها، وكان ظالمًا خشن النفس قاسي القلب، فأبى إلا أنْ يَأسِرَها ويغلبها على أمرها، ويملك عليها جسمها ونفسها، فتمَّ له ما أراد.
ملك عليها جسمها؛ لأنه حجبها عن النور والهواء فَأَذْعَنَتْ، وملك عليها نفسها؛ لأنه ألقى في رُوعها أنَّ ذنبها في الفسق المشترك بينه وبينها أكبر من ذنبه، وأنَّ جريمتها ضِعفُ جريمته فصدَّقت، وطلب منها أنْ تُسَلِّمَ إليه الأمر في تدبير شئونها والتصرف بأموالها فسلَّمت، وأصبحت تنظر إلى هذه القوانين الجائرة التي وضعها لها، والاعتبارات الفاسدة التي اعتبرها بالنسبة إليها — كما ينظر إليها هو — بعين الإجلال والإعظام.
يخدع الرجل المرأة عن شرفها فيسلبها إياه، فإذا سقطت هاج المجتمع الإنسانيُّ عليها وملأ قلبها هولًا ورعبًا، وأوسع نفسها تقريعًا وتأنيبًا من حيث لا تطير على الرجل شرارةٌ واحدة من هذه النار المتأججة؛ لأنه هو الذي وضع هذا القانون وتلك الشريعة، وما كان له أن يقصِّر في مجاملة نفسه ومحاباتها؛ لأنه شَرِهٌ طماعٌ محبٌّ لذاته، ولا أنْ يعدل في القضاء في قضية غيره؛ لأنه ظالم جبار.
ولو كان للمرأة ما للرجل من قوة العقل لاستطاعت أنْ تحجبه في المنزل، وأنْ تتولى شأنه، وأنْ تعبث بعقله، فتُعظِّم جريمته وتُصغِّر جريمتها في عينه، وأن تنفذ إلى قلبه فتلعب به لعب الصبي بالكرة، وأن تحدثه فيصدِّق، وتأمره فيأتمر، وأن تسن له القوانين الجائرة والشرائع الفاسدة فيؤمن بها إيمانه بالإله المعبود، كما صنع هو بها في جميع ذلك فبلغ منها ما أراد.
لا أريد أنَّ هذا الفرق في القوة العقلية بين الرجل والمرأة يمنحه هذا الحق في ظلمها وغلبتها على حقها؛ بل أريد أنَّ هذا الفرق هو سبب ذلك السلطان القاهر، والحكم الجائر.
وجملة القول: إنَّ حكم المجتمع الإنساني بإدانة المرأة الزانية وبراءة الرجل الزاني حكمٌ ظالمٌ، ولو أنه أنصفهما لعرف فرق ما بينهما في القوة العقلية، فجعل عقاب الرجل القوي المهاجم فوق عقاب المرأة الضعيفة المدافعة، ولكنه لم يفعل ذلك؛ لأن رجاله ظلمةٌ جائرون، ولأن نساءه ساذجاتٌ ضعيفاتٌ، يُصدِّقن الرجال في أقوالهم، وينظرن إلى المستحسنات والمستهجنات بأنظارهم، فإن أردنا أنْ تنال المرأة حقها من الرجل وأنْ تنتصف منه، فليس سبيلها إلى ذلك المغالبة والمصارعة، فإنها أضعف منه جسمًا وعقلًا، بل السبيل إليه أنْ نُعَلِّمَها العلم لتعرف كيف تستعطفه وتسترحمه، وكيف تحمله على إجلالها وإعظامها، وأنْ نُعَلِّمَهُ كذلك ليستطيع أن يكون شخصًا كريمًا، وإنسانًا رحيمًا.