الرثاء
ما أنسَ لا أنسى رجلًا كان خير من لقيت من الرجال، وكان يعجبني منه أدبه وفضله وعفَّته وحياؤه وشرف نفسه وطهارة قلبه، وأنه كان صبورًا محتملًا، تقرع الخطوب صفاة قلبه، فترتد عنها نابيةً كما ترتد الكرة عن الحائط إذا قرعتها.
كان فقيرًا لا يملك من هذه الدنيا أكثر مما يقيم صلبه، ويمسك حوباءه، ويستر سوءته، فزوجه أبوه بابنة عمٍّ له ذات مالٍ، لم يكُ مثلها في دمامتها وسوء خلقها وجفاء طبعها ممن يطمع في مثله في جمال خلقه ولين حاشيته وانسجام طبعه، فكبرت نفسه عن مخالفة أبيه؛ لأنه كان برًّا به مطيعًا له، نازلًا عند أمره ونهيه، وعن مجافاة زوجه واطراحها والانقباض عنها؛ لأنه كريم الأخلاق واسع الصدر، رفيقًا بالضعفاء والمنكوبين، فتزوجها وفي نفسه من المضض والارتماض ما يلهب الجوانح، ويذيب لفائف القلوب.
وأذكر أني على طول معاشرتي له ولصوقي بنفسه ما سمعته ولا سمعت عنه أنه شكا إلى أحدٍ من الناس ما يواثب قلبه عند النظر إليها، أو إلى ما يدب من عقارب شرها إليه، ثقةً منه بالله ورحمته، وإيثارًا لفضيلة الصبر، وسكونًا إلى ما جرت به الأقلام في ألواح المقادير، فكنت أرحم صمته وسكونه، وأبكي لجمود عينيه عن البكاء؛ لأني أعلم أنَّ نيران الأحزان لا يسكن اضطرامها، ولا يهدأ اعتلاجها إلا باطراد العبرات وتصاعد الزفرات.
وكان كل ما ينعم به من لذائذ هذه الحياة وأنعمها أنه كان يسافر في كل شهرٍ مرةً أو مرتين إلى صديقٍ له في بلد ريفي ناءٍ يقضي فيه يومين أو ثلاثة، ثم يعود وفي ثغره ابتسامةٌ تتلألأ تلألؤ نجمة الصبح عند انحدارها إلى الغروب، ثم لا تلبث أن تتلاشى، ولا يلبث أن يعود إلى جموده الأول، لا يحزن فيبكي ولا يفرح فيبتسم، حتى يُخَيَّل للناظر إليه أنه في عالم غير هذا العالم، لا يظله ليل ولا يضيئه نهار.
قضيت في صحبته على حاله تلك بضع سنين أعلم من آلام قلبه ما يحسب أني أجهله، فأكاتمه ذلك العلم جهدي رفقًا به وإجلالًا وإشفاقًا عليه، حتى زرته في منزله ذات يومٍ فرأيته جاثمًا في مقعده الذي كان يقتعده من غرفته وقد أطرق إطراقًا طويلًا ذهب فيه عن نفسه، فلم يشعر بخفق نعلي حتى أخذت مكاني، فرفع رأسه، فأدهشني من منظره اصفرار وجهه، وذبول عينيه، وما كان يغشى جبينه من دخان تلك النار التي تشتعل بين جوانحه، ثم نظر إليَّ نظرةً طويلة لا عهد لي بمثلها من قبل، ثم قال بصوتٍ خافتٍ مضطرب: «أتعتقد أنَّ الله موجود؟»
فقلت: «نعم»؛ معالجًا نفسي على كتمان ما كاد يذهب بلبي من تنكر حاله وغرابة أمره.
فقال: «وتعتقد أنه عادل؟»
قلت: «نعم.»
قال: «وراحمٌ؟»
قلت: «نعم.»
فبسط يده إليَّ فعل الضارع المستصرخ، وقال: هل لك أن تحدثني أيها الصديق عن نزول الصواعق، وثورة البراكين، وطغيان البحور، وغرق السفن، وانتشار الأوباء، وفتك الأدواء، ونكبات الفقر والجوع، وتلك العيون التي لا تزال منهلة بالبكاء، والضلوع التي لا تزال ملتهبة بالآلام والأحزان؟ هل تعتقد أنَّ ذلك كله عدلٌ من الله ورحمة؟
قلت: «نعم، إنَّ الله يمتحن عباده ليعلم الذين صبروا، فيدخر لهم في دار نعيمه من المثوبة والأجر أضعاف ما كانوا يقدرون لأنفسهم من سعادة الحياة وهنائها.»
قال: «إنَّ الله أكرم من أن يجعل الشر طريقًا إلى الخير، وألا يحسن إلا بعد أن يسلف الإساءة!»
قلت: «ذلك ما كتب على نفسه أن يجازي كل عاملٍ بعمله إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشر.»
قال: «إنه قد كتب على نفسه الرحمة.»
قلت: «نعم، إنه أكرم الكرماء، وأرحم الرحماء.»
قال: «حدثني إذن عن الولد الصغير الذي لم يخالط نفسَه شرٌ ولم يتسرب إلى قلبه كيدٌ، ما لي أراه مفترشًا حجر أمه، وقد تولى الليل إلا أقله يتقلب على مثل شوك القتاد من الآلام التي تساوره، فيثب تارةً ويضطرب أخرى، ويصرخ صرخاتٍ تستمطر المدامع وتحول بين الجنوب ومضاجعها؟! وما لي أرى أمه باكيةً مولهةً مقرحة الجفون، منحلة الشعور موجعة القلب، تفزع لفزعاته وتصرخ لصرخاته، وقد اختبل عقلها واضطرب أمرها، وعظم يأسها وفنيت حيلتها، وقل مساعدها، وضعف ناصرها، فأنشأت تقلب وجهها في السماء ضارعةً إلى الله تعالى أن يأخذ بيدها، ويرحم نفسها برحمة ولدها، وبينا هي تنتظر صوت الإجابة يرن في أفق السماء، إذ بها تسمع حشرجة الموت في صدر ولدها، وإذا به ينزع نزعًا مؤلمًا يطير باللب، ويذهب ببقية الصبر حتى تفيض نفسه، فماذا جنى هذا الولد الصغير حتى أصبح لا يستحق رحمة من الله ولا رأفة؟!»
قلت: «وما يدريك؟ لعل الله أراد به خيرًا فرحمه بالموت المعجل من حياةٍ علم أنه سيلقى فيها — كما تلقى أنت اليوم — عذابًا أليمًا وشقاء ممضًّا.»
فنالت هذه الكلمة من نفسه وانتفض لها، ثم قال: «أحسنت يا صديقي، ليت الذين يشقون في هذه الحياة يشعرون بصغر هذه الدنيا وحقارة شأنها، فيتمنون لو لم تلدهم أمهاتهم، ولم يكتب لهم سطرٌ واحد في ألواح المقادير. وبعد، فهل لك في سفرةٍ معي إلى صديقي الريفي نقضي عنده يومًا واحدًا ثم نعود، على أن تكون معي كما كان فتى موسى مع مولاه فلا تسألني عن شيءٍ حتى أحدث لك منه ذكرًا؟»
فوافيت رغبته، وقبلت شرطه، ثم قام وقمت، وبودِّي لو ملكت الدنيا بحذافيرها لحظة واحدة لأهبها لمن يكشف لي سر صديقي ويدلني على نكبته التي زعزعت نفسه وصهرت قلبه وملكت عليه لبه وكادت تعبث بيقينه. وما هي إلا ساعات قلائل حتى كنا في المنزل الذي أردناه، وقد أظل الليل بجناحيه، فقضينا واجب التحية والسلام، ثم خلا الصديق بصديقه خلوةً طويلة لا أعلم ما دار فيها بينهما، ثم خرجا إليَّ، فجلسنا ساعة نتحدث، ثم قمنا إلى فراشنا، فنمت نومًا متقطعًا مملوءًا بالوساوس والهواجس. فما انتصف الليل حتى شعرت أنَّ صديقي يتحرك في فراشه، وينظر إليَّ ليعلم أنائم أنا أم مستيقظ، فتناومت حتى رأيته قد قام من مكانه يختلس الخطى حتى وصل إلى مشجب الملابس، فلبس أثوابه، ثم خرج من الغرفة، فخفق قلبي خفقة الرعب والفزع، وقلت: «لا بد أنَّ الرجل يريد بنفسه شرًّا، وإني أكون ألأم صديقٍ إنْ أنا تركته وشأنه!» فقمت على أثره أترسم خطواته، وأتتبع مخرجه ومدخله من مدرجةٍ إلى أخرى حتى بلغ ضاحية البلد، ثم استمر في شأنه حتى أطل على مقبرة واسعة قد جثمت قبورها في أرجائها جثوم الآبال في مرابعها، فوقف هنيهةً ثم مشى، فمشيت على أثره من حيث لا يشعر بمكاني منه، ثم أنشأ يتصفح القبور قبرًا قبرًا، فَخُيِّلَ لي أنه شبحٌ من أشباح الموتى يتنقل في أرجاء تلك المقبرة، فملكني من الخوف والرعب ما كاد يحل عقدة لساني لولا إجلالي هذا الموقف المرهب، وشعوري أنني واقف على أبواب تلك الدور التي سلب خوفها العاقلين عقولهم، وأطار طائر الاغتماض عن أجفانهم، ونغص عليهم ما يتمنون أن ينعموا به من مطاعمهم ومشاربهم، والتي يفد إليها كل يوم وفود البشر محمولين على أيدي آبائهم وأمهاتهم، ليقدموهم بأنفسهم هدايا ثمينة إلى الدود، ثم يخلون بينهم وبينه يأكل لحومهم، ويمتص دماءهم، ويتخذ من أحداق عيونهم، ومباسم ثغورهم مراتع يرتع فيها كما يشاء بلا رقبى ولا حذر من حيث لا يملك مالك عن نفسه دفعًا، ولا يعرف إلى نجاةٍ سبيلًا.
مرت بخاطري تلك الذكرى، فملكت عليَّ نفسي حتى ذهلت عن موقفي، وأنستني الحيرة في أمر نفسي الحيرة في أمر صديقي، وفيما ساقه إلى هذا الموطن، وأين يذهب، وماذا يريد، وعمَّ يفتش؟ ثم استفقت، فرأيته جاثيًا فوق قبر من تلك القبور جثو العابد أمام معبده، فدلفت إليه حتى دنوت منه، فسمعته يقول:
اللهم إنك تعلم أني ما كفرت بنعمتك، ولا خفرت ذمتك، ولا هتكت حرمةً من حرمك، ولا نزلت عند سخطك، ولا تبرمت بقضائك وقدرك، وأنك جازيتني فأحسنت جزائي، ووهبتني تلك الفتاة، فكانت كل ما أفدت من نعيم هذه الحياة وهنائها، ثم لم تلبث أن سلبتنيها وشيكًا أشوق ما كنت إليها وإلى قضاء ساعات العمر بجانبها، فاغفر لي جزعي وحزني، فكثيرٌ عليَّ ألا أجزع ولا أحزن.
لقد تبدلت الأرض غير الأرض والسموات، وكأنما استحالت في نظري حقائق الأشياء، فأصبحتُ لا أرى في النجمة لألاءها، ولا في الزهرة جمالها، ولا في السماء صفاءها، ولا في البحر جلاله، فهل كانت فتاتي سر هذا الوجود حتى ذهبت فذهب بذهابها كل شيء؟!
ذهبت بي الأيام كل مذهبٍ، وجرعتني من كئوس الشقاء جرعًا ما احتمل فمٌ قبل فمي مرارتها، فاغتفرت لها كل ذنوبها عندي؛ لأنها أسدت إليَّ صنيعةً كانت هي العزاء لي عن هموم الحياة وأحزانها، أما اليوم وقد صفرت منها يدي، وأقفر بفراقها ربعي، وحالت تلك الصفائح بيني وبينها، فلا سلوى ولا عزاء.
من لي بضربةٍ من ضربات الدهر تذهب بذاكرتي فلا أعود أذكر أيام حياتها ومقعدها بجانبي، وابتسامها إليَّ واعتناقها إياي، وصوتها الرقيق وحديثها العذب، وصفاء عينيها، وجمال وجهها، وقيامها وقعودها، وجيئتها وذهوبها، وضحكها وبكاءها، ويقظتها ومنامها، وحزنها لفراقي وسرورها بلقائي؟! فإني كلما ذكرت ذلك شعرت كأن قلبي المجموع قد استحال إلى أفلاذٍ صغيرةٍ لا يلوي بعضها على بعضٍ.
اللهم إني أعلم أنَّ الدنيا ليست بدار قرارٍ، فلا أمل في البقاء فيها والركون إليها والاستمتاع بلذة الحياة فيها، وأنها الجسر الذي يمر به الأحياء إلى الدار الأخرى، وقد أحسنت إلى كل عبدٍ من عبيدك برفيقٍ يكون عونًا له على قطع تلك الشقة، واختصصتني وحدي بالحرمان من ذلك المعين، فكيف أسير؟ وأين أذهب؟ ومن أين أبتدئ؟ وإلى أين أنتهي؟
اللهم إنك سلبتني كل شيءٍ حتى الدموع التي يريح بها الباكون أنفسهم، ويطفئ بها المحزونون لوعات قلوبهم، فأصبح الحزن يغلي بين جوانحي غليان الماء في قدر محكمة الغطاء، فامنن عليَّ بدمعةٍ واحدة أبرد بها غليلي، ولا أحسب أنك تمنعنيها، فالدموع هي الرحمة العامة التي كتبت على نفسك أن تعالج بها جراح المنكوبين.
اللهم لا ريبة في عدلك، ولا ظنة في كرمك، ولا اعتراض على قضائك وقدرك، ولا سخط في ابتلاك ومحنتك، ولكنك سلبتني عقلي بعدما سلبتني راحتي وهنائي وفتاتي، فخرج أمر نفسي من يدي، وأصبحت لا أعرف لي مذهبًا في هذه الأرض ولا مضطربًا.
اللهم إنك منعتني حظي من الحياة فلا تمنعني حظي من الموت، فاستردَّ إليك عاريتك التي أعرتنيها، فقد عجزت عن احتمالها، وضقت ذرعًا بأمرها، إنك بعبادك رءوف رحيم.
وما أتم كلمته هذه حتى سقط على صفائح القبر مكبًّا على وجهه، فعلمت أنَّ المرجل قد انفجر، وأنَّ الله قد اجتبى هذا الرجل لنفسه، واختار له ما عنده. فصرخت صرخةً كانت ثانيةً لصرخةٍ أخرى بجانبي، فالتفت فإذا صديقه واقفٌ ورائي، فدنونا منه معًا وحركناه فإذا هو ميت. فنقلناه إلى المنزل، وبتنا حول سريره نقضي حق صحبته تارةً بالدموع وأخرى بالخشوع، وهنالك قص عليَّ صديقه قصته، وكشف لي عن ذلك السر الذي كان يكتمه عني، فحدثني أنه قضى زمنًا طويلًا يشكو إليَّ ما يجد في نفسه من البغضاء لزوجته التي زوجه أبوه منها على الرغم منه، فخفت عليه التلف حزنًا وكمدًا، فزوجته منذ عشر سنين بأختي سرًّا من حيث لا يعلم أبوه؛ لأنه كان يخاف غضبه، ولا زوجته؛ لأنه كان يرحمها. فكان يزورنا في كل شهر مرة أو مرتين حتى ماتت تلك الأخت رحمة الله عليها وتركت له هذه الفتاة، فما زال يزورها كما كان يزور أمها، ويعزي بالثانية نفسه عن الأولى. فشغف بها شغفًا بلغ به حد الجنون، وكان كثيرًا ما يقول لي: «إني أشعر أن حياتينا حياةٌ واحدة، وأنَّا إما أن نعيش معًا، أو نموت معًا.» وكأنه ألهم بما سيكون، فحُمَّت الفتاةُ منذ ستة أيام، فما نشبت أن هصر الموت غصنها النضير، ولم تسلخ ثماني حججٍ، فنعيتها إليه بكتابٍ أرسلته له، فجاء وجئت معه، ثم كان بعد ذلك ما قدر الله أن يكون.»
دفنت صديقي بيدي، وألحدته بجانب تلك الصغيرة التي قطع جسر الحياة الطويل في لحظةٍ واحدةٍ شوقًا إليها ووجدًا عليها. ثم عدت إلى بلدتي صفر اليد من ذلك الإنسان الذي كنت مالئًا منه يدي، والذي كنت أجلُّه وأعظمه حيًّا، ولا أزال أبكيه وأذكره ميتًا، وأتخذ حياته الشريفة الحافلة بموقف الصبر والجلد والوفاء والكرم درسًا أتعلمه، وأعلمه الناس حتى يجمع الله بيني وبينه:
كفى حزنًا بموتك ثم إني ـــــــــ نفضت تراب قبرك من يديا
وكانت في حياتك لي عظات ــــوأنت اليوم أوعظ منك حيا