الدعاء
وهو ملخص قصيدة لفيكتور هوجو (بتصرف)
قومي يا بنية إلى الصلاة، فقد نزل ستار الليل، ودب الشفق الأحمر في حاشية الأفق، وأطلت عيون الكواكب من فروج السحب، وأجرى البدر المنير لِيقَتَه البيضاء على صفحة النهر، ومسحت أيدي النسائم المبتلة بندى الليل عن أوراق الأشجار غبار النهار.
قومي يا بنية إلى الصلاة، فقد مات النهار، وماتت بموته الآلام والأحزان، والأحقاد والأضغان، والمظالم والمآثم، ولم يبقَ من تلك الأعاصير والزوابع ما يعترض وفد الدعاء في طريقه إلى أبواب السماء.
قومي يابنية إلى الصلاة، فقد أوى الناس إلى منازلهم، والطيور إلى وكناتها، والوحش إلى أوجرته، وأخذت الطبيعة مكانها من مرقدها، ولم يبقَ من أصواتها إلا أنين الراحة المتمثل في رنين هذه المركبة المقبلة في جوف الليل، وجؤار هذه السائمة العائدة من حقولها، وهدير تلك الرياح الضاربة في ذوائب الأشجار ورءوس الأبراج.
قومي يا بنية إلى الصلاة، فقد جاءت الساعة التي يجثو فيها الأطفال حول أَسرَّتهم حفاة عراة الرءوس شواخص الأبصار، يطلبون الرحمة من الله تعالى لآبائهم وأمهاتهم وللناس أجمعين، فترن أصواتهم في الملأ الأعلى رنين نغمات الموسيقى في أجواف الفضاء، فيرددها الملائكة طائرين بها إلى عرش الرحمن، فإذا فرغوا من دعائهم، وقضوا حق الله عندهم وحقهم عند أنفسهم، ذهبوا إلى مضاجعهم، وناموا نومًا هادئًا مطمئنًا تتطاير فيه الأحلام الجميلة حول ثناياهم الباسمة، كما تتطاير أسراب النحل حول أحواض الأزهار.
قومي يا بنية إلى الصلاة واطلبي الرحمة لتلك التي التقطت ذرتك الأولى من عالمها، ثم اتخذت لك من حنايا ضلوعها سريرًا قبل سريرك، ومن أحشائها مهادك قبل مهادك، والتي قدم لها الدهر كأسي شقائه ونعيمه، فشربت الأولى وآثرتك بالأخرى.
اطلبي لها الرحمة، فإنها كانت بيضاء القلب صافية النفس تحب من لا يحبها وترحم من لا يرحمها، وتبتسم ابتسامة عذبةً رائقة لا تمازجها ريبةٌ، وتمد يدها إلى اجتناء كل ثمرة إلا ثمرة الشجرة المنهي عنها. وكانت تقف أمام مسرح الحياة الحافل بالزخارف والتهاويل وقفة المتريث المرتاب الذي يتهم سمعه وبصره، وتنظر إليه نظر الحكيم العاقل الذي يعلم أنَّ السعادة الكاذبة أمرُّ مذاقًا في الأفواه من الشقاء الصادق، وأنَّ هؤلاء الذين يضحكون سرورًا بهذا الصور الخيالية لا يعلمون أنهم يبكون من حيث لا يشعرون، وأنَّ أولئك الجالسين حول مائدة الشهوات إنما يقامرون بأنفسهم، ولا بد أنهم خاسرون، فتغض بصرها، وتشيح بوجهها، وتعود أدراجها بقلب غير مخدوعٍ، وفؤاد غير مصدوع.
اذكري يا بنية أن تطلبي الرحمة لأبيك، كما تطلبينها لأمك، فهو أحوج إليها منها؛ لأن الخطايا قد أثقلت ظهره، فأصبح لا يستطيع أن يرفع رأسه إلى السماء، وغلَّت يده، فلا يستطيع أن يمدها إلى الله بالدعاء.
إنني أشعر يا بنية حينما أسمع دعاءك لي كأنني أسمع صوت انفصام القيود عن قدمي، وكأن سحابةً سوداء تنقشع عن قلبي قليلًا قليلًا، وكأن جناحي المهيض قد نبت له ريشٌ ناعم جميلٌ أحاول أن أطير به إلى أعالي السماء.
اطلبي الرحمة لجميع الآباء العائدين إلى منازلهم تحت ستار الظلام بدموعٍ منهلةٍ وقلوبٍ واجمة بعد أن سايروا الشمس من مشرقها إلى مغربها، فلم يجدوا ما يمسحون به دموع أبنائهم حينما يعودون إليهم.
اطلبي الرحمة لجميع الأمهات الجالسات حول أسرَّة أبنائهن المرضى، وقد خفقت قلوبهن، وحارت أبصارهن مخافةَ أن يذقن مرارة الثكل، والثكل كثيرٌ على قلوب الأمهات.
اطلبي الرحمة للبخيل الذي يجيع بطنه ويشبع صندوقه، والأحمق الذي يبتسم للمعان الحرير في صدره، والذهب في أصابعه، والقاضي الذي يبرئ القاتل المتعمد، ويدين السارق المضطر، والملك الذي يشعل نار الحرب في أمته ليطفئ نار غضبه، والظالم الذي لا يحاسب نفسه على ليلة سوءٍ يقضيها خارج بيته، ويحاسب زوجته على ابتسامة كرم تبسمها لغيره، وسائر البؤساء الذين لا يشعرون ببؤسهم، والأشقياء الذين يظنون أنهم سعداء.
اطلبي الرحمة لأولئك الذين عمروا الأرض، وبنوا دورها، وشادوا قصورها، وزخرفوا سهولها وجبالها وأغوارها وأنجادها، فجازتهم سوءًا بما عملوا، وابتلعتهم في جوفها، فأصبحوا في تلك الحفرة المظلمة المخيفة التي تختلط فيها الرءوس بالأقدام، والقوادم بالخوافي، والنعال بالتيجان، والتي ينطوي فيها كل قديم تحت كل حديث انطواء اللجج المتراكبة في البحر العميق، يتألمون ولا ينطقون، ويستصرخون فلا يجدون من يسمع نداءهم أو يلبي دعاءهم.
اطلبي الرحمة لهم، فإن الدعاء الخالص يستحيل في أنظارهم إلى روضة من رياض الجنان تنبت فوق أجداثهم، فتمد إليهم ظلالها، وتنثر بينهم أوراقها وأزهارها، واركعي فوق التربة التي يئنون تحتها، واسقيها من دموعك قطرات باردة تبل غلتهم، وتطفئ جذوة الندم المتوقدة في أحشائهم، إنهم إلى الرحمة محتاجون، وإلى الله راغبون.
اطلبي الرحمة للأبرار والفجار، والعصاة والطائعين، والمؤمنين والملحدين، وكل دارجةٍ في الأرض، وكل سانحةٍ في السماء، ولا تيأسي أن يستجيب الله دعاءك، فلكل بدايةٍ نهايةٌ، ولكل سائلةٍ قرارٌ، فكما أنَّ النهر يتسرب إلى البحر، والطائر يقع على الغصن، والشمس تجري لمستقرها، والنفس تصعد إلى عالمها، كذلك أبواب السماء مفتحةٌ لخالص الدعاء.