التوبة
علم فلانٌ — وكان شابًّا من شبان الخلاعة واللهو، وقاضيًا من قضاة المحاكم — أنَّ المنزل الذي يجاور منزله يشتمل على فتاةٍ حسناء من ذوات الثراء والنعمة، والرفاهية والرغد، فرنا إليها النظرة الأولى فتعلَّقها، فكررها أخرى، فبلغت منه، فتراسلا، ثم تزاورا، ثم افترقا، وقد ختمت روايتهما بما تُخْتَمُ به كل روايةٍ غرامية يمثلها أبناء آدم وحواء على مسرح هذا الوجود.
عادت الفتاة إلى أهلها تحمل بين جانحتيها همًّا يضطرم في فؤادها، وجنينًا يضطرب في أحشائها، ولقد يكون لها إلى كتمان الأول سبيل، أما الثاني فسرٌّ مذاعٌ، وحديثٌ مشاع، إن اتسعت له الصدور، لا تتسع له البطون، وإن ضنَّ به اليوم لا يضنُّ به الغد.
ذلك ما أسهر ليلها، وأقضَّ مَضْجَعَهَا، وملك عليها وجدانها وشعورها، فلم ترَ لها بدًّا من الفرار بنفسها والنجاة بحياتها. فعمدت إلى ليلةٍ من الليالي الداجية، فلبستها وتلفَّعت بردائها، ثم رمت بنفسها في بحرها الأسود، فما زالت أمواجها تتلقَّفها وتترامى بها حتى قذفت بها إلى شاطئ الفجر، فإذا هي في غرفةٍ صغيرة في أحد المنازل البالية، في بعض الأحياء الخاملة، وإذا هي وحيدة في غرفتها، لا مؤنس لها إلا ذلك الهم المضطرم، وذلك الجنين المضطرب.
كان لها أم تحنو عليها، وتتفقد شأنها، وتجزع لجزعها، وتبكي لبكائها، ففارقتها. وكان لها أب لا هم له في حياته إلا أن يراها سعيدةً في آمالها، مغتبطةً بعيشها، فهجرت منزله. وكان لها خدمٌ يقمن عليها ويسهرن بجانبها، فأصبحت لا تسامر غير الوحدة، ولا تساهر غير الوحشة. وكان لها شرفٌ يؤنسها ويملأ قلبها غبطةً وسرورًا، ورأسها عظمة وافتخارًا، ففقدته. وكان لها أملٌ في زواجٍ سعيد من زوجٍ محبوب، فَرَزَأَتْهَا الأيام في أملها.
ذلك ما كانت تناجي نفسها به صباحها ومساءها، بكورها وأصائلها، فإذا بدا لها أن تفكر في عِلَّةِ مصائبها وسبب أحزانها، علمت أنه ذلك الفتى الذي وعدها أن يتزوجها فخدعها عن نفسها، ثم لم يفِ لها بعهده، فقذف بها وبكل ما تملك يمينها إلى هذا المصير.
فلا يكاد يستقر ذلك الخاطر في فؤادها ويأخذ مكانه من نفسها حتى تشعر بجذوةٍ نارٍ تتَّقد بين جنبيها من الحقد والموجدة على ذلك الفتى؛ لأنه قتلها، وعلى المجتمع الإنساني؛ لأنه لا يعاقب القاتل على جُرْمِهِ ولا يَسْلُكُهُ في سلسلة المجرمين.
وما هي إلا أيام قلائل حتى جاءها المخاض، فولدت وليدتها من حيث لا ترى بين يديها من يأخذ بيدها أو يساعدها على خَطْبِها غيرَ عجوز من جاراتها ألمَّت بشأنها، فمشت إليها وأعانتها على أمرها بضع ساعات، ثم فارقتها تكابد على فراش مرضها ما تكابد، وتعاني من صروف دهرها ما تعاني.
ولقد ضاق صدرها ذرعًا بهذا الضيف الجديد، وهو أحب المخلوقات إليها وأكثرهم قربًا إلى نفسها. فجلست ذات ليلةٍ وقد حملت طفلتها النائمة على حجرها وأسندت رأسها إلى كفها، وظلت تقول:
ليت أمي لم تلدني وليتني لم أكن شيئًا!
لولا وجودي ما سعدت، ولولا سعادتي ما شقيت.
إن كان في العالم وجودٌ أفضل منه العدم، فهو وجودي!
لقد كان لي قبل اليوم سبيلٌ إلى النجاة من الحياة، أما اليوم وقد أصبحت أمًّا فلا سبيل.
أأقتل نفسي فأقتل طفلتي؟ أم أحيا بجانبها هذه الحياة المريرة؟
لا أحسب الموت تاركي حتى يذهب بي إلى قبري، فماذا يكون حال طفلتي من بعدي؟!
إنها ستعيش من بعدي وتشقى في الحياة شقائي، لا لذنب جنته ولا لجريمة اجترمتها سوى أنني أمها.
هل تعيشين أيتها الفتاة حتى تغفري لي ذنب أمومتي حينما تسمعين قصتي، وتفهمين شكاتي؟
لم يبقَ في يدي يا بنيتي من حُلاي إلا قليلٌ سأبيعه كما بعت سابقه، فكيف يكون شأني وشأنك بعد اليوم؟
محالٌ أن أعود إلى أبي فَأَقُصَّ عليه قصتي؛ لأنه لم يبقَ لي مما يعزيني عن شقاء العيش وبلائه إلا أنَّ أهلي لا يعرفون شيئًا من أمري، فهم يبكونني كما يبكون موتاهم الأعزاء، ولأن يبكوا مماتي خيرٌ لي ولهم من أن يبكوا حياتي!»
وكذلك ظلت تلك البائسة تحدث نفسها تارةً وطفلتها أخرى بمثل هذا الحديث المحزن حتى غلبها صبرها على أمرها، فأرسلت من جفنيها قطراتٍ حارةً من الدموع هي كل ما يملك الضعفاء، ويقدر عليه البؤساء.
دارت الأيام دورتها، وباعت الفتاة جميع ما تملك يدها وما يحمل بدنها وما تشتمل عليه غرفتها من حُلِيٍّ وثياب وأثاث، ولم يبقَ لها إلا قميصها الخَلَقُ وملاءتها وبرقعها، ولم يبقَ لطفلتها إلا ثيابٌ باليات تنمُّ عن جسمها نميمة الوجه عن السريرة، فكانت تقضي ليلها شر قضاءٍ، حتى إذا طار غراب الليل عن مَجْثَمِهِ أسدلت برقعها على وجهها، وائتزرت بمئزرها، وأنشأت تطوف شوارع المدينة وتقطع طرقها لا تبغي مقصدًا ولا تريد غاية سوى الفرار بنفسها من همها، وهمها لا يزال يسايرها، ويترسَّم مواقع أقدامها.
وأحسب أنَّ عجوزًا من عجائز المواخير رأتها، فألمَّت ببعض شأنها فاقتفت أثرها حتى عادت إلى غرفتها، فوغَلت عليها، ثم سألتها ما خطبها، فأنست بها، وكذلك يأنس المصدور بنفثاته، والبائس بشكاته، فكشفت لها عن أمرها، وألقت إليها بخبيئة صدرها، ولم تترك خبرًا من أخبار نعيمها، ولا حادثًا من حوادث بؤسها لم تحدثها به. فعرفت الفاجرة محنتها، ورأت بعينها ذلك الماء من الحسن الذي يجول في أديم وجهها جولان الراح في زجاجتها، وعلمت أنها إنْ أحرزتها في منزلها فقد أحرزت لنفسها غنى الدهر، وسعادة العمر. فلم ترسل إليها عقاربها وتنفث في نفسها عزائمها ورقاها حتى غلبتها على أمرها وقادتها إلى منزلها، فما هي إلا عشيةٌ أو ضحاها، حتى بلغت تلك الفتاة البائسة الغاية التي لا مفر لها ولا لأمثالها من بلوغها.
عاشت تلك البائسة في منزلها الجديد عيشًا أشقى من عيشها الأول في منزلها القديم؛ لأنها ما كانت تستطيع أن تزدرد لقمتها التي هي كل ما حصلت عليه في دورها الثاني إلا إذا بذلت راحتها وشردت نومها، وأحرقت دماغها بالسهر، وأحشاءها بالشراب, وصبرت على كل من يسوقه إليها حظها من سباع الرجال وذئابهم على اختلاف طباعهم، وتنوع أخلاقهم؛ لأنها لم ترَ لها بدًّا من ذلك، فاستسلمت استسلام اليائس الذي لم تترك له ضائقة العيش إلى الرجاء سبيلًا.
ولو أنَّ الدهر وقف معها عند هذا الحد لَأَلِفَتِ الشقاء ومَرَنَتْ عليه، كما يألفه ويمرن عليه كل من أصيب بمثل ما أصيبت به، ولكنه أبى إلا أن يسقيها الكأس الأخيرة من كئوس شقائه، فساق إليها رجلًا كان ينقم عليها شأنًا من شئون شهواته ولذاته، فزعم أنها سرقت كيس دراهمه في إحدى لياليه عندها. ورفع أمرها إلى القضاء، واستعان عليها ببعض أترابها الساقطات اللواتي كن يحسدنها وَيَنْفُسْنَ عليها حسنها وبهاءها حتى أدانها.
جاء يوم الفصل في أمرها، فَسِيقَتْ إلى المحكمة، وفي يدها فتاتها، وقد بلغت السابعة من عمرها، فأخذ القاضي ينظر في القضايا ويحكم فيها بما يشاء ويشاء له قانونه أو ذمته، حتى أتى دور الفتاة، فأدناها منه، فما وقع بصرها عليه حتى شُدِهَتْ عن نفسها وألمَّ بها من الاضطراب والحيرة ما كاد يذهب برشدها؛ ذلك أنها عرفته، إنه ذلك الفتى الذي كان سبب شقائها، وعلة بلائها. فنظرت إليه نظرةً شزراء، ثم صرخت صرخةً دوَّى بها المكان دويًّا وقالت:
رويدك يا مولانا القاضي، ليس لك أن تكون حكمًا في قضيتي، فكلانا سارقٌ وكلانا خائنٌ، والخائن لا يقضي على الخائن، واللص لا يصلح أن يكون قاضيًا بين اللصوص!
فعجب القاضي والحاضرون لهذا المنظر الغريب، وغضب لهذه الجرأة العجيبة، وهم أن يدعو الشُّرْطِيَّ لإخراجها، فحسرت قناعها عن وجهها، فنظر إليها نظرةً ألمَّ فيها بكل شيءٍ، فشعر بالرعدة تتمشى في أعصابه، وسكن في كرسيه سكون المُحْتَضَرِ على سرير الموت. وعادت الفتاة إلى إتمام حديثها فقالت:
أنا سارقة المال، وأنت سارق العرض، والعرض أثمن من المال، فأنت أكبر مني جنايةً، وأعظم جُرمًا.
إنَّ الرجل الذي سرقت ماله يستطيع أن يعزي نفسه باسترداده أو الاعتياض عنه، أما الفتاة التي سرقتَ عِرضها فلا عزاء لها؛ لأن العِرض الذاهب لا يعود. لولاك لما سَرقتُ ولا وصلتُ إلى ما إليه وصلتُ، فاترك كرسيك لغيرك، وقف بجانبي ليحاكمنا القضاء العادل على جريمة واحدة، أنت مدبرها وأنا المسخَّرةُ فيها.
إنَّ شريعةً تعلم أننا شركاء في جريمةٍ واحدة ثم تأتي بنا إلى هذا المكان، فَتَقِفُ أَحَدَنا في أشرف المواقف وتَقِفُ الآخرَ في أدناها لشريعةٌ ظالمة، ليس بينها وبين العدل نسبٌ موصول، أو ذمامٌ غير منقضب.
رأيتك حين دخلت إلى هذا المكان، وسمعت الحاجب يصرخ لمقدمك، ويستنهض الصفوف للقيام لك، ورأيت نفسي حين دخلت والعيون تتخطاني والقلوب تقتحمني، فقلت: يا للعجب! كم تكذب العناوين، وكم تخدع الألقاب، وكم يعيش هذا العالم في ضلالةٍ عمياء، وجهالة جهلاء!
بَخٍ بَخٍ لأولئك القوم الذين منحوك هذه الشهادة؛ شهادة العلم والفضل والأخلاق والآداب! ومرحى مرحى لأولئك الذين أقعدوك هذا المقعد، ووضعوا بين يديك هذا القانون، ووقفوا أمامك هذا الشرطيَّ يأتمر بأمرك، وينفذ حكمك، وينزل على هواك!
إنَّ تحت هذه الثياب التي تلبَسونها — معشرَ القضاة — نفوسًا ليست بأقل من نفوسنا شرًّا، ولا أخبث منها مذهبًا، وربما لا يكون بيننا وبين الكثير منكم فرقٌ إلا العناوين والألقاب، والشمائل والأزياء.
أتيت بي إلى هنا لتحكم عليَّ بالسجن كأن لم يَكْفِكَ ما أسلفتَ إليَّ من الشقاء حتى أردتَ أن تجيءَ بلاحقٍ لذلك السابق.
ألم أحسن إليك بساعةٍ من ساعات السرور فترعاها؟
ألم تكُ إنسانًا فترثي لشقائي وبلائي؟
إن لم تكن عندي وسيلةٌ أَمُتُّ بها إليك، فوسيلتي إليك ابنتك هذه، فهي الصلة الباقية بيني وبينك.
فرفع القاضي رأسه، ونظر إلى ابنته الصغيرة نظرة شفقةٍ ورحمة، وقد قرر في نفسه أن لا بد له من أن ينصف تلك البائسة، وينتصف لها من نفسه. غير أنه أراد أن يَخْلُصَ من هذا الموقف خلوصًا جميلًا، فأعلن أنَّ المرأة قد طاف بها طائفٌ من الجنون، وأن لا بد من إحالتها على الطبيب، فصدق الناس قوله.
ثم قام من مجلسه بنفسٍ غير نفسه، وقلبٍ غير قلبه، وما هي إلا أيامٌ قلائل حتى هجر القاضي منصبه بحجة المرض، وما زال يسعى سعيه حتى ضم إليه ابنته، واستخلص أمها من قرارتها، وهاجر بها إلى بلدٍ لا يعرفهما فيها أحد، فتزوج منها، وأنس بعشرتها، واحترف في دار هجرته بحرفةٍ لولا أن أدل عليه إذا ذكرتها لفعلت. ولا يزال حتى اليوم يُكَفِّر عن سيئاته إلى زوجته بكل ما يستطيعه من صنوف العطف وألوان الإحسان، حتى نسيا ما فات، ولم يبقَ أمامهما إلا ما هو آت.