الرئيسيةبحث

النظرات/البعوض والإنسان


البعوض والإنسان

جلستُ ليلةَ أمس إلى مكتبتي، وعَلَّقْتُ قلمي بين أصابعي، وأنشأتُ أُفكِّر في الموضوع الذي يجملُ بي أن أكتب فيه. وتلك عادتي التي يعرفها عني كثير من خلطائي وعشرائي؛ أنني لا أميل إلى الكتابة في بياض النهار، ولا أحبُّ أن أخطَّ حرفًا على ما أحب وأرتضي إلا في ظلام الليل وهدوئه.

ولا يظن المُتَفَلْسِفُونَ في اكْتِنَاهِ الحقائق والمولعون بالصناعة اللفظية، والأنواع البديعية، أنني أريد بذلك مراعاة النظير بين سواد المداد وسواد الظلام، أو أنني أترقب طلوع النجم لأتسلق أشعته إلى سماء الخيال، فكلُّ ذلك لم يكن، وليس في الناس من هو أدرى بدخيلة نفسي مني، وكل ما في المسألة أنَّ هذه عادتي، وتلك حكايتي، وكفى.

لم أكد أفرغ من التفكير في الموضوع حتى شعرت بطنين البعوض في أذني، ثم أحسست بلذعاته في يدي، فتفرَّق من ذهني ما كان مجتمعًا، وتجمَّع من همِّي ما كان مفترقًا، ولم أرَ بُدًّا من إلقاء القلم وإعداد العُدَّة لمقاومة هذا الزائر الثقيل.

طاردته بِالمِذَبَّةِ فما أجدى ذلك نفعًا؛ لأنَّه على الطيران أقوى من يميني على المطاردة، وفتحت النوافذ لِأُخْرِجَ ما كان داخلًا، فَدَخَلَ ما كان خارجًا، وحاولت قتله فوجدته متفرقًا، ولو كان مجتمعًا في دائرة واحدة لهلك بضربة واحدة، ولم أرَ في حياتي أمةً ينفعها تفرقها ويؤذيها تجمُّعها غيرَ أمَّة البعوض، فما أضعف هذا الإنسان! وما أضل عقله في اغتراره بقوته، واعتداده بنفسه، واعتقاده أنَّ في يده زمام الكائنات يُصَرِّفُها كيف يشاء، ويسيرها كما يهوى، وأنه لو أراد أن يذهب بنظام هذا الوجود ويأتي له بنظام جديد، لما كان بينه وبين ذلك إلا أن يرسل أشعة عقله ويبتعث عزيمته، ويقتدح فكرته!

يزعم ذلك وهو يعلم أنه أضعف من أن يحتال لنفسه في مدافعة أصغر الحيوان جسمًا وعقلًا، وأدناها قيمة وشأنًا، بَيْدَ أنه يعلم ذلك بلسانه وفي فلتات وهمه، ولو علمه علمًا يتغلغل في نفسه، ويتمثَّل في سويداء قلبه لكفكفَ من غُلَوائِه، وخفَّض من كبريائه، وعَلِمَ عِلْمَ اليقين أنَّ الإنسان العاقل والحيوان الملهم والنبات النامي والجماد سواءٌ بين يدي القوة الإلهية الكبرى التي لا ينفع معها حولٌ ولا قوة.

علمت أني عييت بأمر هذه الحشرة الضئيلة فَلُذْتُ بجانب الصبر، والصبر كما يعلم إخواننا الصابرون حُجَّةُ العاجز، وحيلة الضعيف، وأيسر ما يستطيع أن يدفع به دافعٌ عن نفسه مَلامَة اللائمين، وفضول المتطفلين، وقلت في نفسي: «لو كان البعوض يفهم ما أقول لَقَصصتُ عليه قِصَّتي، وشرحت له عذري، وسألته أن يمنحني ساعة واحدة أقوم فيها بكتابة رسالتي هذه، ثم هو بعد ذلك في حِلٍّ من جسمي ودمي ينزل منهما حيث يشاء، ويمتص منهما ما يشاء، ولكنه ويا للأسف! لا يسمع شكَاتي ولا يرحم ضراعتي، ولا يفهم معنى الرحمة، ولا يعرف قيمة المروءة؛ لأنه ليس بإنسان.»

أحسب أنَّ لدغات البعوض قد أخذت مأخذها من عقلي وفهمي، وأني قد بدأت أهذي هذيان المحموم! فمن أين لي أنْ لو كان البعوض إنسانًا كان يسمع شَكَاتي، ويكشف ظلامتي، أو يفهم معنى الرحمة، ويعرف قيمة المروءة؟! ومتى كان الإنسان أحسن حالًا من البعوض وأرحم منه قلبًا وأشرف غاية فأتمنَّى أنْ لو كان مكانه؟! بل مِن أين لي أنَّ هذا الذي أحسبه بعوضًا ليس بإنسانٍ تقمَّص البعوض وتمثَّل لي في جسمه الصغير وجناحه الرقيق؟! وأيُّ غرابة في أن أتخيَّل ذلك ما دام الإنسان والبعوض سواءً في حب الشرِّ والميل إلى الأذى؟! وما دامت الصورة الجثمانية لا قيمة لها في جانب الأعراض الذاتية والصفات المقوِّمة للماهية.

أيُّ قيمة لما يمتصُّه البعوض مجتمعًا من جسم الإنسان في جانب ما يمتصه القاتل منفردًا من جسم المقتول؟!

إنَّ البعوض في امتصاصه الدمَ من الجسم أقلُّ من القاتل ضررًا وأشرف غاية وأجمل مقصدًا؛ لأنه إنْ آذى الجسم فقد أبقى على الحياة، ولأنه يطلب عيشه، وهذا طريقه الطبيعي لا يعرف سواه، ولا يستطيع أن يدير لنفسه غيره، ولو استطاع لعافت نفسه أن يكون كالإنسان يتطوَّع للشر، ويتعبَّد بالضُّرِّ.

إني وجدت بين الإنسان والبعوض شبهًا قريبًا في صفاتٍ كثيرة أنا ذاكرٌ لك طرفًا منها وتاركٌ لفطنتك الباقي: البعوض يمتص من الدم فوق ما يستطيع احتماله، فلا يزال يشرب حتى يمتلئ فينفجر، فهو يطلب الحياة من طريق الموت، ويفتش عن النجاة في مكامن الهلاك، وهو أشبه شيء بشارب الخمر، يتناول الكأس الأولى منها؛ لأنه يرى فيها وجه سروره وصورة سعادته، فتطمعه الأولى في الثانية، والثانية في الثالثة، ثم لا يزال يُلِحُّ بالشراب على نفسه حتى يُتْلِفَها وَيُودِي بها من حيث يظن أنه يُنعشها ويجلب إليها سرورها وهناءها.

البعوض سيِّئ التصرف في طلب العيش؛ لأنه لا يسقط على الجسم إلا بعد أن يَدُلُّ على نفسه بطنينه وضوضائه، فيأخذ الجالس منه حِذْرَهُ ويدفعه عن مطلبه أو يقتله قبل البلوغ إليه، فَمَثَلُهُ في ذلك مَثَلُ بعض الجهلة من أصحاب المطالب السياسية يطلبون المآرب النافعة المفيدة لأنفسهم ولأمتهم، غير أنهم لا يكتمونها، ولا يحسنون الاحتفاظ بها في صدورهم، ولا يبتغون الوسيلةَ إليها بين الصراخ والضجيج، ولا يمسكون بالحلْقة الأولى من سلسلتها حتى يَمْلَئُوا الخافقين بذكرها، ويُشْهِدُوا الملأ الأعلى والأدنى عليها، وهناك يدرك عدوهم مقاصدهم، فيعد لها عدتها، ويتلمَّس وجهَ الحيلة في إفسادها عليهم هادئًا ساكنًا من حيث لا يشعرون.

البعوض خفيفٌ في وطأته ثقيلٌ في لذعته، فهو كذلك الصاحب الذي يَسُرُّكَ منظره، ويسوءك مخبره، يلقاك بابتسامةٍ هي العذْبُ الزلال عذوبةً وصفاء، والسحر الحلال جمالًا وبهاء، وبين جنبيه في مكان القلب صخرة لا تنفذها أشعة الحب، ولا يتسرَّب إليها ماء الوفاء، يقول لك: إني أحبك؛ ليغلبك على قلبك، ويملك عليك نفسك، فإن تم له ما أراد سلبك مالك إن كنت من ذوي المال، أو استخدم جاهك إن كنت من ذوي الجاه، فإن لم تكن هذا ولا ذاك أغراك بالسير في طريقٍ يُسقط مروءتك وَيَثْلَم شَرَفَكَ، فإن فاته ما يَشفي به داء بِطنته، لا يفوته ما يطفئ به نار حقده وحسده.

لا يزال البعوض مُلحًّا في مهاجمتي، فلا طاقةَ لي بكتابة سطرٍ واحدٍ أكثر مما كتبت، والسلام.