الرئيسيةبحث

النظرات/الإسلام والمسيحية



الإسلام والمسيحية


ما عجبت لشيءٍ في حياتي عجبي لهؤلاء الناس الذين يعجبون كثيرًا مما كتبه اللورد كرومر عن الإسلام، كأنما كانوا يتوقعون من رجلٍ يدين بدين غير الإسلام ويضنُّ به فوق ضنه بنفسه وماله أن يعتقد الوحدانية، ويصدِّق الرسالة المحمدية، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويحج البيت ما استطاع إليه سبيلًا!

إنَّ اللورد كرومر يعتقد — كما يعتقد كل مسيحيٍّ متمسكٍ بيسوعيته — أنَّ الإسلام دينٌ موضوع، ابتدعه رجل عربيٌّ بدويٌّ أُميٌّ ما قرأ في حياته صحيفةً، ولا دخل مدرسةً، ولا سمع حكمة اليونان، ولا رأى مدنية الرومان، ولا تلقَّى شيئًا من علوم الشرائع والعمران.

هذا مبلغ معتقده فيه، فكيف يرى نفسه بين يديه أصغر من أن يناقشه ويناظره ويخطِّئه فيما وضعه الناس من الشرائع والأحكام؟! وكيف يسمح لنفسه أن ينظر إليه بالعين التي ينظر بها المسلم إليه من حيث كونُه نبيًّا مرسلًا موحًى إليه من عند الله تعالى بكتابٍ كريمٍ لاٍ يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟! أما ما نقرؤه أحيانًا لبعض علماء الغرب المسيحيين من وصف الدين الإسلامي بصفاتٍ جميلة أو مدح آرائه وأحكامه، فهي مكتوبة بأقلام أقوام مؤرخين أدَّوا للتاريخ حق الأمانة والصدق، فلم يعبث التعصُّب الدينيُّ بكتاباتهم، ولا تمشت الروح المسيحية في أقلامهم، ولا ريب في أنَّ اللورد كرومر ليس واحدًا منهم، فإن من قرأ كتابه «مصر الحديثة» تَخَيَّلَ أنه يسمع صوت راهبٍ في صومعته قد لبس قلنسوته ومسوحه وعلق صليبه في زُنَّاره.

فهل يحق بعد ذلك لأحدٍ من المسلمين أن يندهش أو يذهب به العجب كلَّ مذهب إذا رأى في كتاب اللورد كرومر ما يراه كل يومٍ في كتب المبشرين الإنجيليين وجرائدهم ومجلاتهم من الطعن على الإسلام وعقائده وشرائعه؟!

بلغ التعصب الديني بجماعة المبشرين أنْ حكموا بوجود اللحن في القرآن بعد اعترافهم بأنه كتابٌ عربي نطق به — على حسب معتقدهم — رجلٌ هو في نظرهم أفصح العرب. وليست مسألة الإعراب واللحن مسألةً عقلية يكون للبحث العقلي فيه مجال، وإنما الإعراب ما نطق به العرب، واللحن ما لم ينطقوا به، فلو أنهم اصطلحوا على نصب الفاعل ورفع المفعول مثلًا، لكان رفع الأول ونصب الثاني لحنًا، ولكن جهلة المبشرين لم يدركوا شيئًا من هذه المسلمات، واستدلوا على وجود اللحن في القرآن بقواعد النحو التي ما دونها علماؤه إلا بعد أنْ نظروا في كلام العرب، وتتبعوا تراكيبه وأساليبه، وأكبر ما اعتمدوا عليه في ذلك هو القرآن المجيد، فالقرآن حجةٌ على النحاة وليست النحاة حجةً على القرآن، فإذا وجد في بعض تراكيب القرآن أو غيره من الكلام العربيِّ ما يخالف قواعد النحاة حكمنا بأنهم مقصِّرون في التتبع والاستقراء، على أنهم ما قصَّروا في شيءٍ من ذلك، وما تركوا كثيرًا ولا قليلًا ولا نادرًا ولا شاذًّا إلا دَوَّنُوهُ في كتبهم، فما في القرآن لحن، ولا النحاة مقصرون، ولكن المبشرين جاهلون، فإذا كان التعصب الديني الأعمى أنطق ألسنتهم بمثل هذه الخرافة المضحكة، فليس بغريبٍ أن نسمع من هذا الرجل المتشبِّه بهم هذا الطعن على الإسلام في نظاماته وأحكامه.

إنا لا ننازع اللورد كرومر، ولا أمثاله من الطاعنين على الإسلام في معتقدهم، ولكنا نحب منهم ألا ينازعونا في معتقدنا، وأن يعطونا من الحرية في ذلك ما أعطوه لأنفسهم.

يقول اللورد كرومر: «إنَّ الدين الإسلامي دينٌ جامدٌ لا يتسع صدره للمدنية الإنسانية، ولا يصلح للنظام الاجتماعي.» ويقول: «إنَّ ما يصلح له الدين الإسلامي يصلح له الدين المسيحي.» ويستدل على الإسلام بالمسلمين، وعلى المسيحية بالمسيحيين.

في أيِّ عصر أيها الفيلسوف التاريخيُّ كانت الديانة المسيحية مبعث العلم والعرفان، ومطلع أشعة المدنية والعمران؟ أفي العصر الذي كانت تدور فيه رحى الحروب الدموية بين الأُرْثُوذُكْس والكاثوليك تارة، وبين الكاثوليك والبروتستانت تارةً أخرى بصورةٍ وحشية فظيعة اسْوَدَّ لها لباس الإنسانية، وبكت الأرض منها والسماء؟ أم في العصر الذي كانت إرادة المسيحيِّ فيه صورةً من إرادة الكاهن الجاهل فلا يعلم إلا ما يُعَلِّمُهُ إياه، ولا يفهم إلا ما يلقيه إليه؟ فما كان يترك له الحرية حتى في الحكم على نفسه بكفرٍ أو إيمان وبهيمية أو إنسانية، فيكاد يتخيل في نفسه أنَّ له ذنبًا متحركًا وخيشومًا طويلًا، وأنه يمشي على أربع إذا قال له: الكاهن أنت كلبٌ، أو قال له: إنك لست بإنسانٍ! أم في العصر الذي كان يعتقد فيه المسيحي أنَّ دخول الجمل في سَمِّ الخياط أقرب من دخول الغني في ملكوت السموات؟ أم في العصر الذي كان يُحرِّم فيه الكاهن الأعظم على المسيحيِّ أن ينظر في كتابٍ غير الكتاب المقدس، وأن يتلقَّى علمًا في مدرسة غير مدرسة الكنيسة؟ أم في العصر الذي ظهرت فيه النجمة ذات الذَّنَبِ فذعر لرؤيتها المسيحيون ورفعوا إلى البابا عرائض الشكوى فطردها من الجو فولَّتِ الأدبار؟ أم في العصر الذي أهدى فيه الرشيد العباسيُّ الساعة الدقاقة إلى الملك شارلمان، فلما رآها الشعب المسيحيُّ وسمع صوتها فرَّ من وجهها ظنًّا منه أنها تشتمل على الجن والشياطين؟ أم في العصر الذي أُلِّفَتْ فيه محكمةُ التفتيش لمحاكمة المتهمين بمزاولة العلوم، فحكمت في وقتٍ قصير على ثلاثمائة وأربعينَ ألفًا بالقتل حرقًا أو صلبًا؟ أم في العصر الذي أحرق فيه الشعب المسيحي فتاةً حسناء بعدما جرَّد لحمها عن عظمها؛ لأنها كانت تشتغل بعلوم الرياضة والحكمة؟!

هذا الذي نعلمه أيها الفيلسوف التاريخيُّ من تاريخ العلم والعرفان والمدنية والعمران في العصور المسيحية، ولا نعلم أكانت تلك المسيحية التي كان هذا شأنَها وهذا مبلغَ سَعَةِ صدرها صحيحةً في نظرك أم باطلة؟ وإنما نريد أن نستدل بالمسيحيين على المسيحية وإن لم نقف على حقيقتها، كما فعلت أنت في استدلالك بالمسلمين على الإسلام، وإن لم تعرف حقيقته وجوهره، على أنَّ استدلالنا صحيحٌ واستدلالك باطلٌ، فإن المدنية الحديثة ما دخلت أوروبا إلا بعد أن زحزحت المسيحية منها لتحل محلها، كالماء الذي لا يدخل الكأس إلا بعد أن يطرد منها الهواء لأنه لا يتسع لهما، ولا يجمع بينهما، فإن كان قد بقي أثر من آثار المسيحية اليوم في أكواخ بعض العامة في أوروبا فما بقي إلا بعد أن عَفَتْ عنه المدنية ورضيت بالإبقاء عليه، لا باعتبار أنه دينٌ مقدسٌ يجب إجلاله وإعظامه، بل باعتبار أنه زاجرٌ من الزواجر النفسية التي تستعين الحكومات بها وبقوتها على كسر شِرَّةِ النفوس الجاهلة، فلا علاقة بين المسيحية والتمدين الغربيِّ من حيث يُستدل به عليها، أو باعتبار أنه أثرٌ من آثارها، ونتيجةٌ من نتائجها، ولو كان بينه وبينها علاقةٌ ما افترقت عنه نحو تسعة عشر قرنًا كانت فيه أوروبا وراء ما يتصوره العقل من الهمجية والوحشية والجهل، فما نفعتها مسيحيتها، ولا أغنى عنها «كهنوتها» ولا «إكليروسها».

أما المدنية الإسلامية فإنها طلعتْ مع الإسلام في سماءٍ واحدةٍ من مَطْلَعٍ واحدٍ في وقتٍ واحد، ثم سارت إلى جانبه كتفًا لكتفٍ، ما ينكر من أمرها ولا تنكر من أمره شيئًا، فالمتعبِّدُ في مسجده، والفقيه في درسه، والمُعَرِّبُ في مكتبته، والرياضي في مدرسته، والكيميائي في معمله، والقاضي في محكمته، والخطيب في محفله، والفلكي أمام أَسْطُرْلَابِهِ، والكاتب بين محابره وأوراقه، إخوةٌ متصافون، وأصدقاء متحابون، لا يختصمون ولا يقتتلون، ولا يُكَفِّرُ بعضهم بعضًا، ولا يبغي أحدٌ منهم على أحد.

أيها الفيلسوف التاريخيُّ، إن كان لا بد من الاستدلال بالأثر على المؤثر فالمدنية الغربية اليوم أثرٌ من آثار الإسلام بالأمس، والانحطاط الإسلاميُّ اليوم ضربةٌ من ضربات المسيحية الأولى، وإليك البيان:

جاء الإسلام يحمل للنوعِ البشريِّ جميع ما يحتاج إليه في مَعَادِهِ ومَعَاشِهِ، ودنياه وآخرته، وما يفيده منفردًا، وما ينفعه مجتمعًا.

هَذَّبَ عقيدته بعدما أفسدها الشرك بالله، والإسفاف إلى عبادة التماثيل والأوثان، وإحناء الرءوس بين أيدي رؤساء الأديان، أرشده إلى الإيمان بربوبية إلهٍ واحدٍ لا يشرك به شيئًا، ثم أرشده إلى تسريح عقله ونظره في ملكوت السموات والأرض ليقف على حقائق الكون وطبائعه، وليزداد إيمانًا بوجود الإله وقدرته وكمال صنعه وتدبيره، وليكون اقتناعه بذلك اقتناعًا نفسيًّا قلبيًّا، فلا يكون آلة صماء في يد الأهواء تفعل به ما تشاء، ثم أرشده إلى مواقف تُذَكِّرُهُ بربه، وتنبهه من غفلته، وتطرد الشرور والخواطر السيئة عن نفسه كلما ابتغت إليها سبيلًا؛ وهي مواقف العبادات، ثم أطلق له الحرية في القول والعمل، ولم يمنعه إلا من الشرك بالله والإضرار بالناس، وعرَّفه قيمة نفسه بعدما كان يجهلها. وعلَّمه أنَّ الإنسانية لا فرق بين فقيرها وغنيها، ووضيعها ورفيعها، وضعيفها وقويها، وأنَّ الملك والسُّوقة، والشريف الهاشميَّ والعبد الزنجيَّ، أمام الله والحق سواء. وأنَّ الأمر والنهيَّ والتحليل والتحريم والنفع والضرَّ والثواب والعقاب والرحمة والغفران، بيد الله وحده لا ينازعه فيها منازعٌ، ولا يملكها عليه أحدٌ من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين. ثم نظر في أخلاقه فأرشده إلى محاسنها، وحال بينه وبين رذائلها، حتى عَلَّمَهُ آداب الأكل والشرب والنوم والمشي والجلوس والكلام والسلام. ثم دخل معه منزله فعلَّمَه كيف يبرُّ الابنُ أباه، ويرحم الوالدُ ولده، ويعطف الأخُ على أخيه، ويُكْرِمُ الزوج زوجته، وتطيع الزوجة زوجها، وكيف يكون التراحم والتواصل بين الأقرباء وذوي الرحم. ثم نظر في شئونه الاجتماعية ففرض عليه الزكاة التي لو جمعت ووضعت في مصارفها لما كان في الدنيا بائسٌ ولا فقير، ونَدَبَهُ إلى الصدقة ومساعدة الأقوياء للضعفاء، وعطف الأغنياء على الفقراء. ثم شرَّع له شرائع للمعاملة الدنيوية، ووضع له قوانين البيع والشراء والرهن والهبة، والقرض والتجارة، والإجارة والمزارعة، والوقف والوصية والميراث؛ ليعرف كلُّ إنسانٍ حقَّه فلا يغبن أحدٌ أحدًا، ثم قرر له عقوباتٍ دنيويةً تمنعه أن يبغي بعضه على بعضه بشتمٍ أو سبٍّ، أو قتلٍ أو سرقةٍ، أو انتهاك حُرْمَة، أو مجاهرة بمعصيةٍ، أو شروعٍ في فتنة، أو خروجٍ على أميرٍ أو سلطان. ثم نظر في شئونه السياسية، فقرر الخلافة وشروطها، والقضاء وصفاته، والإمارة وحدودها، وقرر كيف يعامل المسلمون مخالفيهم في الدين — البعيدين عنهم، والنازحين إليهم — وذَكَرَ مواطن القتال معهم، ومواضع المسالمة لهم.

وجملة القول: إنَّ الدين الإسلاميَّ ما غادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، ولا ترك الإنسان يمشي في ميدان هذه الحياة خطوةً من مهده إلى لحده إلا مدَّ يده إليه، وأنار له مواقع أقدامه وأرشده إلى سواء السبيل.

طلعت هذه الشمس المشرقة في سماء بلاد العرب فملأت الكون نورًا وإشراقًا، واختلف الناس في شأنها ما بين مُعْتَرِفٍ بها ومُنْكِرٍ وجودَها، ولكنهم كانوا جميعًا سواءً في الانتفاع بنورها، والاستنارة بضيائها، على تفاوتٍ في تلك الاستنارة، وتنوُّع في ذلك الانتفاع.

طلعت هذه الشمس المشرقة، فتمشَّت أشعتها البيضاء إلى أوروبا من طريق إسبانيا وجنوب إيتاليا وفرنسا، فأبصرها عدد قليل من أذكياء الغربيين؛ فانتبهوا من رقدتهم، واستيقظوا من سباتهم، ورأوا من جمال المذاهب الإسلامية وشرائع الكون ونظاماته وقواعد الحرية والمساواة ما لَفَتَ نظرهم إلى المقابلة بين المجتمع الغربيِّ الخامل الضعيف والمجتمع الشرقيِّ اليقظ النابه، فقالوا: «أيمكن أن يعيش الإنسان على ظهر هذه المسكونة حرًّا لا يستعبده ملكٌ ولا يَسْتَرِقُّهُ كاهنٌ؟!

أيمكن أن يبيت الإنسان ليلةً واحدة في حياته هادئًا في مضجعه مطمئنًّا في رقدته، لا يروِّعه دولاب العذاب ولا سيف الجلاد؟! أيمكن أن تملك النفس حريتها في النظر إلى نظام العالم وطبائعه ودراسة العلوم الكونية ومزاولتها؟!

أيمكن أن يطلع فجر المدنية الإسلامية على هذا المجتمع الغربيِّ فيمحو ظلمته التي طال عهدنا بها حتى عَشِيَتْ أبصارنا، فما يكاد يرى بعضُنا بعضًا؟!»

كانت هذه الخواطر المترددة في عقول أولئك الأذكياء هي الخطوة الأولى التي مشتها أوروبا في طريق المدنية والعمران، بفضل الإسلام وشرائعه التي عرفها هؤلاء الأفراد من مخالطة المسلمين في أوروبا ومطالعة كتبهم ومناظرة حضارتهم ومدنيتهم، ثم أخذوا يُعَلِّمُونَها الناس سِرًّا، ويبثونها في نفوس تلاميذهم شيئًا فشيئًا، ويَلْقَوْنَ في سبيل نشرها عناءً شديدًا، واستمر هذا النزاع بين العلم والجهل قُرُونًا عديدة حتى انتهى أمره بالثورة الفرنسية، فكانت هي القضاء الأخير على الوحشية السالفة، والهمجية القديمة.

أيها الفيلسوف التاريخيُّ، إنك لا بدَّ تَعْلَمُ ذلك حق العلم؛ لأنه أقلَّ ما يجب على المؤرخ أن يَعْلَمَه، كما تعلم أنَّ المدنية الإسلامية إذا وَسِعَتْ غيرَها فَأَحْر بها أن تَسَعَ نفسها، ولكن التعصب الدينيَّ قد بلغ من نفسك مبلغه، فما كفاك أن أنكرت فضل صاحب الفضل عليك حتى أنكرت عليه فضله على نفسه؟

لا حاجةَ بي إلى أن أشرح لك المدنية الإسلامية، أو أسرد لك أسماء علمائها وحكمائها ومؤلفاتهم في الطبيعة والكيمياء والفلك والنبات والحيوان والمعادن والطب والحكمة والأخلاق والعمران. أو أُعَدِّدَ لك مدارسها ومجامعها ومراصدها في الشرق والغرب، أو أصف لك مدنها الزاهرة، وأمصارها الزاخرة، وسعادتها وهناءها، وعزَّتها وسطوتها، فأنت تعرف ذلك كلَّه إن كنت مؤرخًا كما تقول.

غير أنِّي لا أنكر عليك ما لحق بالمسلمين في هذه القرون الأخيرة من الضعف والفتور، وما أصاب جامعتَهم من الوهن والانحلال، ولكن ليس السبب في ذلك الإسلام كما تتوهَّم، بل المسيحية التي سرت عدواها إليهم على أيدي قومٍ من المسيحيين أو أشباه المسيحيين لبسوا لباس الإسلام وتَزَيَّوْا بِزيِّه ودخلوا بلاده، وتمكَّنوا من نفوس ملوكه الضعفاء، وأمرائه الجهلاء، فأَمدُّوهم بشيءٍ من السطوة والقوة تمكنوا به من نشر مذاهبهم السقيمة وعقائدهم الخرافية بين المسلمين، حتى أفسدوا عليهم مذاهبهم وعقائدهم، وأوقعوا الفتنة فيهم، وحالوا بينهم وبين الاستمداد من روح الإسلام وقوَّته، فكان من أمرهم بعد ذلك ما كان.

كل ما نراه اليوم بين المسلمين من الخلط في عقيدة القضاء والقدر وعقيدة التوكُّل، وتشييد الأضرحة وتجصيص القبور وتزيينها والترامي على أعتابها، والاهتمام بصور العبادات وأشكالها دون حِكَمها وأسرارها، وإسناد النفع والضرر إلى رؤساء الدين، وأمثال ذلك، أثرٌ من آثار المسيحية الأولى وليس من الإسلام في شيءٍ.

أيها الفيلسوف التاريخيُّ، لا تقل إننا متعصبون تعصُّبًا دينيًّا، فإنك قد أسأت إلينا وإلى ديننا، فلم نرَ بُدًّا من الذَّبِّ عنَّا وعنه بما نعلم أنه حقٌّ وصواب، على أنه لا عار علينا فيما نقول، وهل التعصُّبُ الديني إلا اتحاد المسلمين يدًا واحدة على الذَّوْدِ عن أنفسهم، والدفاع عن جامعتهم، وإعلاء شأن دينهم ونصرته حتى يكون الدين كله لله؟

إن كان رفضًا حُبُّ آل محمدٍ فليشهدِ الثقلان أني رافضي