الإحسان في الزواج
ورد إليَّ في البريد هذا الكتاب بهذا التوقيع:
حضرة السيد الفاضل
ضمَّني وجماعةً من الأصدقاء مجلسٌ جرى فيه الحديث عن صديقٍ لنا عرف امرأةً من البغايا، فأخذته الرأفة بها فتزوجها، وكان القوم ما بين مستحسنٍ لهذا العمل ومستهجنٍ له، وطالت مدة الجَدَل بيننا ساعاتٍ ولم يستطع أحد الفريقين أن يُقنع الآخر برأيه، فاتفق رأينا جميعًا على أن نكتب إليك بذلك؛ عَلَّكَ تلقي على هذا الموضوع نظرةً من نظراتك الصادقة، والسلام.
ف. س.
أيها السائل الكريم
إن كان باعث الرجل على الزواج بهذه البَغِيِّ شهوةً يريد قضاءها من امرأةٍ يعشقها، ولا يرى له سبيلًا إلى طول استمتاعه بها والاستئثار بحظه منها إلا هذا السبيل — كما هو شأن أكثر الذي يتزوجون من البغايا — فقد أخطأ خطأً جمًّا؛ لأن من كان هذا شأنه لا يعنيه إلا ذات نفسه، ولا يشغله من شئون تلك المرأة إلا الشأنُ الذي يرتبط بشهوته ويتعلَّق بلذته؛ وآية ذلك أنه لا ينظر بعد اتصاله بها في إصلاح قلبها، ولا يحاول أن ينزع من بين جنبيها ملكة الفساد الراسخة في نفسها، ولا يُدَاخِلَها مُدَاخلةَ المُؤَدِّبِ المُهَذِّبِ الذي يُصور في نظرها معيشةَ الفساد بصورة تَنفِرُ منها وتشمئز لها، بل لا يكفيها مئونة العيش، ولا يرفِّهها ولا يقلِّبها في الرغد والنعمة إلا إذا شعر بأن في قلبه بقيةً من الوجد والشغف بها، فإذا أقفر قلبه من حبها وعلم أنَّ فراقها لا يهيج له وجدًا، ورجوعها إلى عيشها السالف لا يثير منه غَيْرةً، فارقها فراقًا هادئًا مطمئنًّا لا يمازجه حزنٌ على فسادها، ولا يخالطه أسفٌ على سقوطها، وهنالك تعود تلك المرأة إلى عُشِّها الذي طارت منه، وقد أمسكت بين جوانحها من الحقد والموجدة على معيشة الصلاح والاستقامة ما الله عالم به.
فالرجل الذي يتزوج من البَغِيِّ قضاءً لشهوته وإيثارًا لِلَذَّتِهِ، لا ينفعها ولا يحسن إليها؛ لأنه لا يُهذِّب نفسها، ولا يَفي لها بما عاهدها عليه من البقاء معها والاستمرار على عِشْرتها، بل يسيء إليها بسوء تصرفه معها، فَيُبَغِّضُ إليها الصلاح ويُحَبِّبُ إليها الفساد، وعندي أنه في عمله هذا فاسق لا متزوجٌ؛ لأنه لو لم ير أنَّ الزواج وسيلةٌ من وسائل الاستئثار والتوسع في الاستمتاع ما سَمَّى الأجر مهرًا ولا المتعة عقدًا.
فإن كان حقًّا ما تقول من أنَّ باعثه إلى ذلك الرحمة والرأفة والحنان والشفقة، فقد أحسن كلَّ الإحسان، ولا أحسب أنَّ بين أعماله الصالحة عملًا هو أفضل عند الله ذُخرًا وأعظم أجرًا من هذا العمل الصالح.
العِرْضُ أثمن من الحياة، فإن كان من يمنح الحياةَ فَاقِدَهَا شريفًا، فأشرف منه من يَرُدُّ العِرْضَ الضالَّ إلى صاحبه المفجوع فيه.
ليت الرجال يتفقون جميعًا على أن يستنقذوا بهذه الوسيلة الشريفة كلَّ امرأةٍ ساقها فقرها وعُدْمُها أو فَقْدُ عائلها إلى البِغاء، بل ليتهم يتفقون على الزواج منهنَّ قبل أن تضيق بهن حلَقات العيش فيسقُطنَ.
لم لا يكون بابًا من أبواب الإحسان أن يتفقد المحسنون من الرجال الفقيراتِ من النساء فيتزوجوا منهن أو يُزَوِّجُوهُنَّ من أولادهم وأقربائهم، وإن لم يكنَّ من ذوات الجمال أو ذوات النسب؟ لأنه إحسان، والإحسان لا يجمُل إلا إذا أصاب موضعَه من الشدة ومكانَه من الشقاء.
لو عرف المحسنون معنى الإحسان لَعَرَفوا أنَّ إنفاق الأموال على بناء التكايا والزوايا، وتوزيعه على المستولين والمتكففين ووقفه على القارئين والذاكرين لا يَدَّخِرُ لهم من المثوبة والأجر عند الله ما يَدَّخِرُهُ لهم الإحسان إلى النساء، بالعصمة من البِغاء.
البِغاء للبَغِيِّ شقاءٌ ما جناه عليها إلا الرجل، فجديرٌ به أن يَغْرمَ ما أتلف ويصلح ما أفسد.
يهجم الرجل على المرأة ويعدُّ لمهاجمتها ما شاء الله أن يعده من وعدٍ كاذب، وقول خالبٍ، وسحر جاذبٍ، حتى إذا خدعها عن نفسها وغلبها على أمرها وسلبها أثمن ما تملك يدها، نَفَضَ يده منها وفارقها فراقًا لا لقاء بينهما من بعده.
هنالك تجلس في كِسْرِ بيتها جِلسة الكئيب الحزين مُسْبِلَةً دمعها على خدها، مسندةً رأسها بكفِّها، تَفْلِي أناملها التراب، لا تدري أين تذهب، ولا ماذا تصنع، ولا كيف تعيش!
تطلب العيش عن طريق الزواج فلا تجد من يتزوجها؛ لأن الرجل يسميها ساقطةً، وتطلبه من طريق العمل فلا تجد ما تحسنه منه؛ لأن الرجل أهمل شأنها، فلم يعلمها من العلم ما تستعين به على ضائقة العيش، وتطلبه من طريق التسول فلا تجده؛ لأن الرجل يؤثر أن يمنحها القنطار حرامًا على أن يمنحها الدِّرهم حلالًا، فلا تجد لها بدًّا من أن تطلبه من طريق البِغاء.
فهأنتذا ترى أنَّ شقاء المرأة الساقطة روايةٌ من الروايات المحزنة، وأنَّ الرجل هو الذي يُمِثَّل جميع أدوارها، ويَظهر في كل فصل من فصولها، ومهما حال بيننا وبينه من ذلك الستار المُسْبَل، فإنَّا لا نزال نعتقد أنَّ الرجل غريمُ المرأة، وأنَّ حقًّا عليه أن يؤدي دَيْنَه ويَغْرَم أَرْشَ جِنَايته.
إنْ أبى الرجل أنْ يتزوج المرأة بغيًّا فَلْيَحُلْ بينها وبين البِغاء، ولا سبيلَ له إلى ذلك إلا إذا اعتبر الزواج بابًا من أبواب الإحسان؛ أي إنه يتزوجها لها أكثر مما يتزوجها لنفسه، وأحق النساء بالإحسان أولئك اللواتي لم يرزقهن الله الجمالَ والمالَ والحسبَ والنسبَ، فإن أَبَى إلا أنْ يتزوج المرأة السعيدةَ فليعلم أنه هو الذي أخذ الشقية من يدها وساقها بنفسه إلى قرارة الشقاء، ورماها بيده في هوة الفسق والبِغَاء.