إلى تولستوي
قف ساعةً واحدةً نودِّعك فيها قبل أن ترحل لطيتك، وتتخذ السبيل إلى دار عزلتك، فقد عشنا في كنفك — على ما بيننا وبينك من بعد الدار وشطِّ المزار — عهدًا طويلًا كنا فيه أصدقاءك وإنْ لم نرك، وأبناءك وإنْ كنا لنا آباء من دونك. وعزيزٌ علينا أن تفارقنا قبل أن نقضيَ حقَّ عِشْرتك بدمعةٍ واحدة نسفحها بين يديك في موقف الوداع.
حدثنا الناس، أنك ضقت بهذا المجتمع الإنساني ذرعًا بعد أن أعجزك إصلاحه وتقويمه، فأبغضته وعِفت النظر إليه، وأبغضت لبغضه كلَّ شيءٍ حتى زوجَك وولدك، ففررت بنفسك منه إلى غابٍ تسمع زئير سباعه، أو دَيرٍ تأنس برنَّة ناقوسه. وأَسْجَلْتَ ألا تعود إليه، وأن تقطع كل سبيلٍ بينك وبينه، فعذرناك ولم نعتب عليك، ولم نُسمِّك جبانًا ولا منهزمًا ولا مولِّيًا ولا مدبرًا؛ لأنك قاتلت فأبليت حتى لم يبقَ في غمدك سيف، ولا فوق عاتقك رمح، ولا في كنانتك سهمٌ، والعدو كثيرٌ عدده، صعبٌ مراسه، وافرة قوته، والشجاعة في غير موطنها جنونٌ، والوقوف أكثر من ثمانين عامًا أمام عدوٍّ لا أمل في براحه ولا مطمع في زياله عنادٌ. وهل كان يكون مصيرك إن أنت قاتلت حتى سقطت قتيلًا في المعركة إلا مصير الفلاسفة من قبلك الذين قاتلوا حتى قتلوا، فهدرت دماؤهم، واغتمضت عيونهم قبل أن يروا منظرًا من مناظر الصلاح والاستقامة في المجتمع البشريِّ يعزون به أنفسهم عن أنفسهم، ويروحون به ما يجدون بين جوانحهم من ألم النزع، وفي أفواههم من مرارات الموت.
ماذا لقيت من الدنيا؟ وماذا أفدت منها؟ وأين وقع علمك وفضلك، ولسانك وقلمك، وقوة عارضتك ومضاء حجتك من آثام الناس وشرورهم وقسوة قلوبهم، وظلم ألسنتهم وأيديهم؟
قلت للقيصر: «أيها الملك، إنك صنيعة الشعب وأجيره لا إلهه وربه، وإنك في مقعدك فوق عرشك لا فرق بينك وبين ذلك الأكَّار في المزرعة، وذلك العامل في المصنع، كلاكما مأجورٌ على عملٍ يعمله فيسدده، وكلاكما مأخوذٌ بتبعة زَلَلـه وسَقَطه، فكما أنَّ صاحب المصنع يسأل العامل هل وفَّى عمله ليمنحه أجره، كذلك يسألك الشعب هل قمت بحماية القانون الذي وكل إليك حراسته فأنفذته كما هو من غير تبديلٍ ولا تأويل؟ وهل عدلت بين الناس، فآسيت بين قويهم وضعيفهم، وغنيهم وفقيرهم، وقريبهم وبعيدهم؟ وهل استطعت أن تستخلص عقلك من يدي هواك فلم تدع للحب ولا للبغض سلطانًا على نفسك يعدل بك عن منهج العدل ومَحجَّته؟ وهل أصممت أذنك عن سماع الملَق والدهان، والمدح والثناء، فلم تفسد على الناس فضائلهم، ولم تقتل عزة نفوسهم، ولم يذهب بهم الخوف من ظلمك أو الطمع في غفلتك مذهب التوسل إليك بالكذب والنميمة والتجسس وذلة الأعناق وضرع الخدود؟ فإن وجدك الشعب عند ظنه، ورآك أمينًا على العهد الذي عهد به إليك أبقى عليك، وأبقى لك سلطانك، وعرف لك يدك عنده، وأحسن إليك كما أحسنت إليه، أوْ لا، كان له معك شأنٌ غير ذلك الشأن، ورأي غير ذلك الرأي.»
فما سمع منك هذه الكلمات حتى أكبرها وأعظمها؛ لأنه لم يجد بين الكثير الذي يعاشره من يُسمعه مثلها، فحقد عليك، ونقِم منك، وأزعجك من مكانك، واستعان على مطاردتك بأولئك الذين أذلَّ نفوسهم وأفسد ضمائرهم بظلمه وجوره من قبل، لِيعدَّهم لمقاتلة الحق ومصارعته في أيام خوفه وقلقه.
وقلت للجبَّار الروسيِّ: «ليس من العدل أن تملك وحدَك — وأنت نائمٌ في سريرك في قصرك بين روضك ونسيمك، وظلك ومائك — هذه الأرض التي تضم بين أطرافها مليون فدان، ولا يملك واحد من هؤلاء الملايين الذين يحرثونها، ويبذرون بذورها ويستنبتون نباتها، ويربون ماشيتها، ويتقلبون بين حرها وبردها، وأجيجها وثلجها، شبرًا واحدًا فيها، فاعرف لهم حقهم، وأحسن القسمة بينك وبينهم، وأَشْعِرْ قلبَك الخجل من منظر شقائهم في سبيل سعادتك، وموتهم في سبيل حياتك، واعلم أنَّ الأرض لله يورثها من يشاء.» ثم لم تقنع بما بذلت له من العظة والنصيحة حتى ضربت له مثلًا من نفسك، فعمدت إلى أرضك، فجعلتها قسمةً بينك وبين القائمين عليها من الزارعين، ثم عمدت إلى فأسك فاعتقلتها، وماشيتك فأخذت بزمامها، وما زلت حتى بلغت مزرعتك الصغيرة التي استبقيتها لنفسك فضربت مع الضاربين وخضت مع الخائضين، لتعلم ذلك الجبار بيدك ما عجزت عنه بلسانك، فسخر منك ورثى لعقلك، وألَّف من حادثتك روايةً غريبة يروِّح بها عن قلبه في مجتمعات أنسه ولهوه ما يكابده من ألم السآمة والضجر.
وقلت للكاهن: «إنَّ المسيح عاش معذَّبًا مضطهدًا؛ لأنه لم يرضَ أن يقرَّ الظالمين على ظلمهم، وأبى أن يخفي ذلك المصباح الذي في يده تحت ثوبه، بل رفعه فوق رأسه غير مبالٍ بنقمة الملوك على ذلك النور الذي يكشف سوءتهم، ويهتك سترهم، وأنت تزعم أنك خليفته وحامل أمانته والقائم بنشر آياته وكلماته، والمترسِّم مواقع أقدامه في خطواته، فما هذه الجلسة الذليلة التي أراك تجلسها تحت عروش الظالمين؟! وما هذه اليد التي تضعها في أيديهم كأنك تأخذ عليهم العهود والمواثيق أن يقتلوا ويسلبوا باسمك، وفي حمايتك وحماية الكتاب المقدس؟! وما هذا السلطة التي تزعمها لنفسك أن تُدخل الجنة من تشاء، وتخرج منها من تشاء؟! وما هذه القصور التي تسكنها، والديباج الذي تلبسه، والعيش البارد الذي تنعم به وأنت الراهب المتبتل الذي كتب على نفسه الانقطاع عن زخرف الدنيا ونعيمها إلى عبادة الله والانكماش في طاعته؟!»
ذلك ما قلت للكاهن، فكان جوابه أن أرسل إليك كتاب الحرمان، وهو يعلم أنك لا تعترف له بالقدرة على إعطاءٍ أو منعٍ، ولكنه أراد تشويه سمعتك والغضَّ منك، وإغراء العامة بك، وصرف القلوب عنك، فكان ذلك كلَّ ما استفدت من نصيحتك وعظتك.
وأبكاك منظر المنفيين في سيبريا، وما يلاقون من صنوف العذاب ويعالجون من أنواع الآلام، فصرخت صرخةً دوَّى بها الملأ الأعلى والملأ الأدنى، وقلت: «أيها الناس، إنَّ الشر لا يدفع الشر، والأشقياء مرضى فعالجوهم ولا تنتقموا منهم، فالتربية الصالحة تمحو الجرائم والانتقام يلهب نارها، واجعلوا مكان السجون مدارس، ومكان السجَّانين معلمين.» فلم يسمع صرختك سامعٌ، ولا بكى لبكائك باكٍ، وما زال القضاة يحكمون، والجند يصادرون، والسجانون يعذبون، والمسجونون يصرخون.
وأزعجك منظر الدماء المتدفقة في معارك الحروب، وبكاء النساء المعوِلات خلف أزواجهن وأولادهن وأخواتهن، وهم سائرون إلى حربٍ لا يعرفون لها مصدرًا ولا موردًا، وقد حمل بعضهم لبعضٍ بين الجنوب ضغائن وسخائم لا سبب لها إلا ذلك الوهم الذي غرسه في قلوبهم قساة السياسة، فتخليوا أنهم أعداء وهم أصدقاء، فتسلبوا من لباس الإنسانية، ولبسوا فراء السباع، وتقلدوا أظفارها، وأنشب كلٌّ منهم ظفره في صدر أخيه كأنما يفتش عن قلبه، فينتزعه من مكانه فيلوكه في فمه ثم يلفظه، ذلك القلب الذي لو شق عن سويدائه لوجد لنفسه فيه مكانًا عليًّا لولا جور السياسة وضلالها.
فما أغنى عنك بكاؤك وحنينك، ولا أجدى عويلك وأنينك، فالحرب لم تزل باقية، ومصانع الموت لم يقنعها ما أعدت من المهلكات لمعارك الأرض، حتى أصبحت تعد مثلها لمعارك السماء!
فهنيئًا لك أيها الرجل العظيم ما اخترت لنفسك من تلك العزلة المطمئنة، فقد نجوت بها من حياةٍ لا سبيل للعاقل فيها إلا أن يسكت فيهلك غيظًا، أو ينطق فيموت كيدًا.
إنَّ الحكيم يستطيع أن يحيل الجهل علمًا والظلمة نورًا والسواد بياضًا والبحر برًّا والبر بحرًا، وأن يتخذ نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء، ولكنه لا يستطيع أن يحيل رذيلة المجتمع الإنساني فضيلةً وفساده صلاحًا.
ما دام الإنسان لا ينتهي عن ظلم الإنسان حتى يخافه، وما دام لا يحسن إليه إلا إذا أراد أن يتخذه عبدًا يعبده من دون الله، وما دام للأثرة هذا السلطان الأكبر على أفراد المجتمع — من أكبر كباره إلى أصغر صغاره — فالإنسان اليوم هو بعينه إنسان الغابات والأحراش بالأمس، لا فرق بينه وبينه إلا أنه اليوم قد آوى بشروره ومفاسده إلى بيتٍ من الزجاج يفعل فَعَلاته من ورائه، ولكن الزجاج شفافٌ كثوب الرياء.