أدوار الشعر العربي
كانت العرب في جاهليتها أمةً هائمةً متبديةً على الفطرة البيضاء النقية لا تعبث الحضارة بجمالها، ولا تُغبِّر المدنية في وجهها. تطلع الشمس في آفاقها فتتبسط على سهولها وحزونها ونجادها ووهادها من حيث لا تعترض في سبيلها من المظلات سحبٌ ولا من السقوف حُجبٌ. وينبت نباتها حيث يجري ماؤها لا تعبث فيه الأيدي بتربيعٍ ولا تدوير، ولا تقويس ولا تعريج. ويجري ماؤها في سبيله متدفقًا حيث ينساب به تسلسله واطراده، لا تلوي به عن قصده الحفائر، ولا تتنصب في وجهه القناطر. ويهيم وحشها في جبالها، وطيرها في أجوائها من حيث لا يحبس الأول عرينٌ موصودٌ، ولا الآخر قفص محدود. والشِّعْر من وراء ذلك كله مِرآة صافية، تتمثَّل فيها تلك المناظر الفطرية على طبيعتها وجوهرها.
ينطق العربي بما يعلم، ويقول ما يفهم، ويصور ما يرى، ويُحَدِّث عما تمثل في نفسه حديثًا صادقًا لا تكلف فيه ولا تعمُّل؛ لأن كل ما هو محيط به من هواء وماء، وأرض وسماء، وطعام وشراب، ومرافق وأدوات، على الفطرة السليمة الخالصة، فأَحْرَى أن يكون شِعْرُه كذلك.
ذلك كان شأن الشعر العربي — والعرب على فطرتهم — وذلك معنى قولهم: «الشعر ديوان العرب»؛ لأنه صورة حياتهم الاجتماعية والأدبية، وتمثال خواطرهم الحقيقة والخيالية، فإن ظن ظانٌّ أنَّ التماثيل والنُّصُب، والمخطوطات والمنسوجات، والصور والتهاويل، وبقايا الآثار وقطع الأحجار التي نراها في خرائب اليونان والرومان والفينيقيين والفراعنة أدل على تواريخ أولئك الأقوام من الشعر العربي على تاريخ العرب، قلنا له: «ما من ديوان من دواوين الأمم الماضية إلا وتحدَّث المؤرخون بعبث الأيدي به ولعبها بسطوره وسجلاته، أما الديوان العربي فصورةٌ صحيحة، وآية مقدسةٌ لا تغيير فيها ولا تبديل.»
ثم جرت بعد ذلك جَوَارٍ بالسعد والنَّحْس، فانتقلت الأمة العربية من بداوتها إلى حضارتها، وهاجر معها شعرها بهجرتها، فطلع جيش المولدين يحمل لواءه الشاعران المجيدان بشار وأبو نواس، فطرقوا معانيَ لم تكن مطروقة، ونهجوا مناهج لم تكن معروفة، فقلنا: لا بأس، فالشعر العربي أوسع من أن يضيق بحاجات أمته في جميع شئونها وحالاتها، حتى جاء أبو تمام شيخ المحسنات اللفظية، فسلك — إلى أكثر معانيه البديعة — طريق اللفظ المصنوع والأسلوب المزخرف، فثغر في الشعر العربي ثغرةً ألح عليها السائرون على أثره من بعده بأظفارهم وأنيابهم حتى صيروها بابًا أفوه، لا يمنع ما وراءه ولا يدفع ما أمامه. فأصبح الشعر على عهد ابن حجة، وابن الفارض، وابن مليك، والصفدي، والسراج، والجزار، والحلي، وأمثالهم، أشبه شيء بتلك الآنية الفضية — أو الصينية — التي يضعها المترفون في زوايا مجالسهم، وعلى أطراف موائدهم، ظهرًا زاهيًا، وبطنًا خاويًا، لا تشفي غلة، ولا تبض بقطرة، ولا تسمن ولا تغني من جوع، ثم جاء على أثر هؤلاء من تدلى إلى منزلةٍ أدون من هذه المنزلة، فجاءوا بشيءٍ هو أشبه الأشياء بتلك المقاييس والتفاعيل التي وضعها الخليل ميزانًا للشعر لا يروق لفظها، ولا يُفْهم معناها.
وعلى هذا المورد الوبيل وقف الشعر بضعة قرونٍ وقفةً لا يتزحزح عنها ولا يتحلحل، حتى أنزل الله إليه من ملائكة البيان رسلًا في هذا العهد الأخير أخذوا بيده، ونشروه من قبره، ونفضوا عنه غباره، فأصبحنا نرى في أبراد الكثير منهم أجسام أبي نواس، وأبي عبادة، وأبي تمام، والشريف، وبشار، لا فرق بينهم وبينهم، إلا أن هؤلاء مقلدون يتبعون الآثار، وأولئك مبتدعون يفترعون الأبكار.