والذين سلكوا خلف أبي حامد أو ضاهوه في السلوك كابن سبعين وابن عربي صرحوا بحقيقة ما وصلوا اليه وهو أن الوجود واحد وعلموا أن أبا حامد لا يوافقهم على هذا فاستضعفوه ونسبوه الى أنه مقيد بالشرع والعقل وأبو حامد بين علماء المسلمين وبين علماء الفلاسفة علماء المسلمين يذمونه على ما شارك فيه الفلاسفة مما يخالف دين الاسلام والفلاسفة يعيبونه على ما بقي معه من الاسلام وعلى كونه لم ينسلخ منه بالكلية الى قول الفلاسفة ولهذا كان الحفيد ابن رشد ينشد فيه
يوما يمان اذا ما جئت ذا يمن ... وان لقيت معديا فعدناني
وأبو نصر القشيري وغيره ذموه على الفلسفة وأنشدوا فيه أبياتا معروفة يقولون فيها
برئنا الى الله من معشر بهم مرض من كتاب الشفا
وكم قلت يا قوم أنتم على ... شفا حفرة مالها من شفا
فلما استهانوا بتعريفنا ... رجعنا الى الله حتى كفى
فماتوا على دين رسطاليس وعشنا على سنة المصطفى
ولهذا كانوا يقولون أبو حامد قد أمرضه الشفاء وكذلك الطرطوسي والمازري وابن عقيل وأبو البيان وابن حمدين ورفيق أبي حامد أبو نصر المرغيناني وأمثال هؤلاء لهم كلام كثير في ذمه على ما دخل فيه من الفلسفة ولعلماء الاندلس في ذلك مجموع كبير ولهذا لما سلك خلفه ابن عربي وابن سبعين كان ابن سبعين في كتاب اليد وغيره يجعل الغاية هو المقرب وهو نظير المقرب في كلام أبي حامد ويجعل المراتب خمسة أدناها الفقيه ثم المتكلم ثم الفيلسوف ثم الصوفي الفيلسوف وهو السالك ثم المحقق وابن عربي له أربع عقائد الأولى عقيدة أبي المعالي وأتباعه مجردة عن حجة والثانية تلك العقيدة مبرهنة بحججها الكلامية والثالثة عقيدة الفلاسفة ابن سينا وأمثاله الذين يفرقون بين الواجب والممكن والرابعة التحقيق الذي وصل اليه وهو أن الوجود واحد وهؤلاء يسلكون مسلك الفلاسفة الذي ذكره أبو حامد في ميزان العمل وهو أن الفاضل له ثلاث عقائد عقيدة مع العوام يعيش بها في الدنيا كالفقه مثلا وعقيدة مع الطلبة يدرسها لهم كالكلام والثالثة لا يطلع عليها أحد إلا الخواص ولهذا صنف الكتب المضنون بها على أهلها وهي فلسفة محضة سلك فيها مسلك ابن سيا ولهذا يجعل اللوح المحفوظ هو النفس الفلكية إلى امور أخرى قد بسطت في غير هذا الموضع ذكرنا ألفاظه بعينها في مواضع منها الرد على ابن سبعين وأهل الوحدة وغير ذلك فانه لما انتشر الكلام في مذهب أهل الوحدة وكنت لما دخلت إلى مصر بسببهم ثم صرت في الاسكندريةجاءني من فضلائهم من يعرف حقيقة أمرهم وقال ان كنت تشرح لنا كلام هؤلاء وتبين مقصودهم ثم تبطله وإلا فنحن لا نقبل منك كما لا نقبل من غيرك فان هؤلاء لا يفهمون كلامهم فقلت نعم أنا أشرح لك ما شئت من كلامهم مثل كتاب اليد والاحاطة لابن سبعين وغير ذلك فقال لي لا ولكن لوح الاصالة فان هذا يعرفون وهو في رءوسهم فقلت له هاته فلما أحضره شرحته له شرحا بينا حتى تبين له حقيقة الامر وأن هؤلاء ينتهي أمرهم إلى الوجود المطلق فقال هذا حق وذكر لي أنه تناظر اثنان متفلسف سبعيني ومتكلم على مذهب ابن التومرت فقال ذاك نحن شيخنا يقول بالوجود المطلق فقال الآخر ونحن كذلك إمامنا قلت له والمطلق في الاذهان لا في الأعيان فتبين له ذلك وأخذ يصنف في الرد عليهم ولم أكن أظن ابن التومرت يقول بالوجود المطلق حتى وقفت بعد هذا على كلامه المبسوط فوجدته كذلك وأنه كان يقول الحق حقان الحق المقيد والحق المطلق وهو الرب وتبينت أنه لا يثبت شيئا من الصفات ولا ما يتميز به موجود عن موجود فان ذلك يقيد شيئا من الاطلاق وسألني هذا عما يحتجون به من الحديث مثل الحديث المذكور في العقل وأن أول ما خلق الله تعالى العقل ومثل حديث كنت كنزا لا أعرف فأحببت أن اعرف وغير ذلك فكتبت له جوابا مبسوطا وذكرت أن هذه الاحاديث موضوعة وأبو حامد وهؤلاء لا يعتمدون على هذا وقد نقلوه إما من رسائل اخوان الصفا أو من كلام أبي حيان التوحيدي أو من نحو ذلك وهؤلاء في الحقيقة هم من جنس الباطنية الاسماعيلية لكن أولئك يتظاهرون بالتشيع والرفض وهؤلاء غالبهم يميلون الى التشيع ويفضلون عليا ومنهم من يفضله بالعلم الباطن ويفضل أبا بكر في العلم الظاهر كأبي الحسن الحرلي وفيه نوع من مذهب الباطنية الاسماعيلية لكن لا يقول بوحدة الوجود مثل هؤلاء ولا أظنه يفضل غير الانبياء عليهم فهو أنبل من هؤلاء من وجه لكنه ضعيف المعرفة بالحديث والسير وكلام الصحابة والتابعين فيبني له أصولا على أحاديث موضوعة ويخرج كلامه من تصوف وعقليات وحقائق وهو خير من هؤلاء وفي كلامه أشياء حسنة صحيحة وأشياء كثيرة باطلة والله سبحانه وتعالى أعلم
الثاني أن صلاح النفس في محبة المعلوم المعبود وهي عبادته لا في مجرد علم ليس فيه ذلك وهم جعلوا غاية النفس التشبه بالله على حسب الطاقة وكذلك جعلوا حركة الفلك للتشبه به وهذا ضلال عظيم فان جنس التشبه يكون بين اثنين مقصودهما واحد كالإمام والمؤتم به وليس الأمر هنا كذلك بل الرب هو يعرف نفسه ويحب نفسه ويثني على نفسه والعبد نجاته وسعادته في أن يعرف ربه ويحبه ويثني عليه والتشبه به أن يكون هو محبوبا لنفسه مثنيا بنفسه على نفسه وهذا فساد في حقه وضار به والقوم أضل من اليهود والنصارى بل ومن مشركي العرب فانه ليس الرب عندهم رب العالمين وخالقهم ولا إلههم ومعبودهم ومشركو العرب كانوا يقرون بانه خالق كل شيء وما سواء مخلوق له محدث وهؤلاء الضالون لا يعترفون بذلك كما قد بسط في غير هذا الموضع
الوجه الثالث أنهم يظنون أن ما عندهم هو علم بالله وليس كذلك بل هو جهل والرازي لما شاركهم في بعض أمورهم صار حائرا معترفا بذلك لما ذكر أقسام اللذات وأن اللذة العقلية هي الحق وهي لذة العلم وأن شرف العلم بشرف المعلوم وهو الرب وأن العلم به ثلاث مقامات العلم بالذات والصفات والأفعال قال وعلى كل مقام عقدة فالعلم بالذات فيه أن وجود الذات هل هو زائد عليها أم لا وفي الصفات هل الصفات زائدة على الذات أم لا وفي الأفعال هل الفعل مقارن أم لا ثم قال ومن الذي وصل الى هذا الباب أو من الذي ذاق من هذا الشراب
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفيه فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات الرحمن على العرش استوى اليه يصعد الكلم الطيب واقرأ في النفي ليس كمثله شيء ولا يحيطون به علما ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي فالسعادة أن يكون العلم المطلوب هو العلم بالله وما يقرب اليه ويعلم أن السعادة في أن يكون الله هو المحبوب المراد المقصود ولا يحتجب بالعلم عن المعلوم كما قال ذلك الشيخ العارف للغزالي لما قال له أخلصت أربعين صباحا فلم يتفجر لي شيء فقال يا بني أنت أخلصت للحكمة لم يكن الله هو مرادك والاخلاص لله أن يكون الله هو مقصود المرء ومراده فحينئذ تتفجر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه كما في حديث مكحول عن النبي ﷺ من أخلص لله أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ولهذا تقول العامة قيمة كل امرئ ما يحسن والعارفون يقولون قيمة كل امرئ ما يطلب وفي الاسرائيليات يقول اني لا أنظر الى كلام الحكيم وإنما أنظر الى همته فالنفس لها قوة الإرادة مع الشعور وهما متلازمان وهؤلاء لحظوا شعورها وأعرضوا عن أرادتها وهي تتقوم بمرادها لا بمجرد ما تشعر به فانها تشعر بالخير والشر والنافع والضار ولكن لا يجوز أن يكون مرادها ومحبوبها إلا ما يصلحها وينفعها وهو الآله المعبود الذي لا يستحق العبادة غيره وهو الله لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ثم مع هذا يكون العلم حقا وهو ما أخبرت به الرسل فالعلم الحق هو ما أخبروا به والارادة النافعة إرادة ما أمروا به وذلك عبادة الله وحده لا شريك له فهذا هو السعادة وهو الذي اتفقت عليه الانبياء كلهم فكلهم دعوا الى عبادة الله وحده لا شريك له وذلك إنما يكون بتصديق رسله وطاعتهم فلهذا كانت السعادة متضمنة لهذين الأصلين الاسلام والايمان عبادة الله وحده وتصديق رسله وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال تعالى فلنسألن الذين أرسل اليهم ولنسألن المرسلين قال أبو العالية هما خصلتان يسأل عنهما كل أحد يقال لمن كنت تعبد وبماذا أجبت المرسلين وقد بسط هذا في غير هذا الموضع والله أعلم
واتبع لها أسعد الناس في الدنيا والآخرة وخير القرون القرن الذي شاهدوه مؤمنين به وبما يقول إذ كانوا أعرف الناس بالفرق بين الحق الذي جاء به وبين ما يخالفه وأعظم محبة لما جاء به وبغضا لما خالفه وأعظم جهادا عليه فكانوا أفضل ممن بعدهم في العلم والدين والجهاد أكمل علما بالحق والباطل وأعظم محبة للحق وبغضا للباطل وأصبر على متابعة الحق واحتمال الأذى فيه وموالاة أهله ومعاداة أعدائه واتصل بهم ذلك الى القرن الثاني والثالث فظهر ما بعث به من الهدى ودين الحق على كل دين في مشارق الارض ومغاربها كما قال ﷺ زويت لي الارض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها وكان لا بد أن يظهر في أمته ما سبق به القدر واقتضته نشأة البشر من نوع من التفرق والاختلاف كما كان فيما غبر لكن كانت أمته خير الأمم فكان الخير فيهم أكثر منه في غيرهم والشر فيهم أقل منه في غيرهم كما يعرف ذلك من تأمل حالهم وحال بني إسرائيل قبلهم وبنو إسرائيل هم الذين قال الله فيهم ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الامر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون انهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وان الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين وقال لهم موسى يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم مالم يؤت أحدا من العالمين فاذا كان بنو اسرائيل الذين فضلهم على العالمين في تلك الازمان وكانت هذه الامة خيرا منهم كانوا خيرا من غيرهم بطريق الاولى فكان مما خصهم الله به أنه لا يعذبهم بعذاب عام لا من السماء ولا بأيدي الخلق فلا يهلكهم بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم كما كان يسلط على بني إسرائيل عدوا يجتاحهم حتى لا يبقى لهم دين قائم منصور ومن لا يقتل منهم يبقى مقهورا تحت حكم غيرهم بل لا تزال في هذه الامة طائفة ظاهرة على الحق الى يوم القيامة ولا يجتمعون على ضلالة فلا تزال فيهم أمة يدعون الى الخبر ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها وهذا البأس نوعان أحدهما الفتن التي تجري عليهم والفتنة ترد على القلوب فلا تعرف الحق ولا تقصده فيؤذي بعضهم بعضا بالاقوال والاعمال والثاني أن يعتدي أهل الباطل منهم على اهل الحق منهم فيكون ذلك محنة في حقهم يكفر الله بها سيآتهم ويرفع بالصبر عليها درجاتهم وبصبرهم وتقواهم لا يضرهم كيد الظالمين لهم بل تكون العاقبة للتقوى ويكونون من أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وجند الله الغالبين إذا كانوا من أهل الصبر واليقين فانه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين والمتعدي منهم إما أن يتوب الله عليه كما تاب على إخوة يوسف بعد عدوانهم عليه وآثره الله عليهم بصبره وتقواه كما قال لما قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وان كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين وكما فعل سبحانه بقادة الاحزاب الذين كانوا عدوا لله وللمؤمنين وقال فيهم لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ثم قال عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتهم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم وفي هذا ما دل على أن الشخص قد يكون عدوا لله ثم يصير وليا لله مواليا لله ورسوله والمؤمنين فهو سبحانه يتوب على من تاب ومن لم يتب فالى الله إيابه وعليه حسابه وعلى المؤمنين أن يفعلوا معه ومع غيره ما أمر الله به ورسوله من قصد نصيحتهم وإخراجهم من الظلمات الى النور وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كما أمر الله ورسوله لا اتباعا للظن وما تهوى الأنفس حتى يكون من خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله وهؤلاء يعلمون الحق ويقصدونه ويرحمون الخلق وهم أهل صدق وعدل أعمالهم خالصة لله صواب موافقة لأمر الله كما قال تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا قال الفضيل ابن عياض وغيره أخلصه وأصوبه والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة وهو كما قالوا فان هذين الأصلين هما دين الإسلام الذي ارتضاه الله كما قال ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا فالذي أسلم وجهه لله هو الذي يخلص نيته لله ويبتغي بعمله وجه الله والمحسن هو الذي يحسن عمله فيعمل الحسنات والحسنات هي العمل الصالح والعمل الصالح هو ما أمر الله به ورسوله من واجب ومستحب فما ليس من هذا ولا هذا ليس من الحسنات والعمل الصالح فلا يكون فاعله محسنا وكذلك قال لمن قال لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى قال تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقد قال تعالى ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين والاسلام هو دين جميع الانبياء والمرسلين ومن اتبعهم من الامم كما أخبر الله بنحو ذلك في غير موضع من كتابه فأخبر عن نوح وابراهيم واسرائيل انهم كانوا مسلمين وكذلك عن اتباع موسى وعيسى وغيرهم والاسلام هو أن يستسلم لله لا لغيره فيعبد الله ولا يشرك به شيئا ويتوكل عليه وحده ويرجوه ويخافه وحده ويحب الله المحبة التامة لا يحب مخلوقا كحبه لله ويبغض لله ويوالي لله ويعادي لله فمن استكبر عن عبادة الله لم يكن مسلما ومن عبد مع الله غيره لم يكن مسلما وإنما تكون عبادته بطاعته وطاعة رسله من يطع الرسول فقد أطاع الله فكل رسول بعث بشريعة فالعمل بها في وقتها هو دين الاسلام وأما ما بدل منها فليس من دين الاسلام وإذا نسخ منها ما نسخ لم يبق من دين الاسلام كاستقبال بيت المقدس في أول الهجرة بضعة عشر شهرا ثم الامر باستقبال الكعبة وكلاهما في وقته دين الاسلام فبعد النسخ لم يبق دين الاسلام إلا أن يولي المصلي وجهه شطر المسجد الحرام فمن قصد أن يصلي إلى غير تلك الجهة لم يكن على دين الاسلام لانه يريد أن يعبد الله بما لم يأمره وهكذا كل بدعة تخالف أمر الرسول إما أن تكون من الدين المبدل الذي ما شرعه الله قط أو من المنسوخ الذي نسخه الله بعد شرعه كالتوجه الى بيت المقدس فلهذا كانت السنة في الاسلام كالاسلام في الدين هو الوسط كما قد شرح هذا في غير موضع والمقصود هنا أنه اذا رد ما تنازع فيه الناس إلى الله والرسول سواء كان في الفروع أو الأصول كان ذلك خيرا وأحمد عاقبة كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا وقال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنه والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم وفي صحيح مسلم عن عائشة أن النبي ﷺ كان اذا قام من الليل يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق باذنك إنك تهدي من تشاء الى صراط مستقيم وهذه حال أهل العلم والحق والسنة يعرفون الحق الذي جاء به الرسول وهو الذي اتفق عليه صريح المعقول وصحيح المنقول ويدعون اليه ويأمرون به نصحا للعباد وبيانا للهدى والسداد ومن خالف ذلك لم يكن لهم معه هوى ولم يحكموا عليه بالجهل بل حكمه الى الله والرسول فمنهم من يكفره الرسول ومنهم من يجعله من أهل الفسق أو العصيان ومنهم من يعذره ويجعله من أهل الخطأ المغفور والمجتهد من هؤلاء المأمور بالاجتهاد يجعل له أجرا على فعل ما أمر به من الاجتهاد وخطؤه مغفور له كما دل الكتاب وأما أهل البدع فهم أهل أهواء وشبهات يتبعون أهواءهم فيما يحبونه ويبغضونه ويحكمون بالظن والشبه فهم يتبعون الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى فكل فريق منهم قد أصل لنفسه أصل دين وضعه إما برأيه وقياسه الذي يسميه عقليات وإما بذوقه وهواه الذي يسميه ذوقيات وإما بما يتأوله من القرآن ويحرف فيه الكلم عن مواضعه ويقول انه إنما يتبع القرآن كالخوارج وإما بما يدعيه من الحديث والسنة ويكون كذبا وضعيفا كما يدعيه الروافض من النص والآيات وكثير ممن يكون قد وضع دينه برأيه أو ذوقه يحتج من القرآن بما يتأوله على غير تأوله ويجعل ذلك حجة لا عمدة وعمدته في الباطن على رأيه كالجهمية والمعتزلة في الصفات والافعال بخلاف مسائل الوعد والوعيد فانهم قد يقصدون متابعة النص فالبدع نوعان نوع كان قصد أهلها متابعة النص والرسول لكن غلطوا في فهم المنصوص وكذبوا بما يخلف ظنهم من الحديث ومعاني الآيات كالخوارج وكذلك الشيعة المسلمين بخلاف من كان منافقا زنديقا يظهر التشيع وهو في الباطن لا يعتقد الاسلام وكذلك المرجئة قصدوا اتباع الامر والنهي وتصديق الوعيد مع الوعد ولهذا قال عبد الله بن المبارك ويوسف ابن أسباط وغيرهما ان الثنتين والسبعين فرقة أصولها أربعة الشيعة والخوارج والمرجئة والقدرية وأما الجهمية النافية للصفات فلم يكن أصل دينهم اتباع الكتاب والرسول فانه ليس في الكتاب والسنة نص واحد يدل على قولهم بل نصوص الكتاب والسنة متظاهرة بخلاف قولهم وإنما يدعون التمسك بالرأي المعقول وقد بسط القول على بيان فساد حججهم العقلية وما يدعيه بعضهم من السمعيات وبين أن المعقول الصريح موافق للمنقول الصحيح في بطلان قولهم لا مخالف له والمقصود هنا الكلام في أفعال الرب فان الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم صاروا يسلكون فيه بأصل أصل بالمعقول ويجعلونه العمدة وخاضوا في لوازم القدر برأيهم المحض فتفرقوا فيه تفرقا عظيما وظهر بذلك حكمة نهي النبي ﷺ لأمته عن التنازع في القدر مع أن المتنازعين كان كل منهما يدلي بآية لكن كان ذلك يفضي إلى إيمان كل طائفة ببعض الكتاب دون البعض فكيف إذا كان المتنازعون عمدتهم رأيهم والحديث رواه أهل المسند والسنن مفصلا ورواه مسلم مجملا عن عبد الله بن رباح الانصاري أن عبد الله بن عمرو قال هجرت إلى رسول الله ﷺ يوما فسمع صوت رجلين اختلفا في آية فخرج علينا ﷺ يعرف في وجهه الغضب فقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب وقال الإمام أحمد في المسند حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله ﷺ ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب قال فقال مالكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم قال فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله ﷺ لم اشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده وهذا حديث محفوظ من رواية عمرو بن شعيب وقد رواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية وكتب أحمد في رسالته إلى المتوكل هذا الحديث وجعل يقول في مناظرته لهم يوم الدار في المحنة إنا قد نهينا عن أن نضرب كتاب الله بعضه ببعض وروى هذا المعنى الترمذي من حديث أبي هريرة وقال حديث حسن غريب قال وفي الباب الذي فررت منه فانه كما قيل ان له حياة وعلما وقدرة وإرادة وغضبا ورضى ونحو ذلك قلت هذا يستلزم أن يكون موافقا للمخلوق في مسمى هذه الاسماء وهذا تشبيه فقيل هذا يلزم مثله في الذات فان قيل بتعطيل الذات فذلك يستلزم ما فررت منه من ثبوت جسم قديم حامل للاعراض والحركات وإذا كان هذا لازما لك على تقدير نفي الذات كما ثبت انه لازم على تقدير إثباتها كان لازما على تقدير النقيضين النفي والإثبات وما كان كذلك لم يمكن نفيه وأما نحن فقد بينا أن اللازم على تقدير إثباتها لا محذور فيه وإنما المحذور لازم على تقدير نفيها وهذا قد بسط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أنه يقال لهؤلاء الذين ينفون الحكمة ثم الارادة ثم الفعل في الأفعال نظير ما قيل لأولئك في الصفات ويجعل مبدأ الكلام من الارادة في الموضعين فيقال لمن أثبتها ونفي الحكمة من المنتسبين الى إثبات القدر والمنتسبين الى السنة والجماعة لم نفيتم الحكمة فاذا قالوا لأنا لا نعرف من يفعل لحكمة إلا من يفعل لغرض يعود اليه وهذا لا يكون إلا فيمن يجوز عليه اللذة والألم والانتفاع والضرر والله منزه عن ذلك فيقال لهم ما قاله نفاة الارادة وأنتم لا تعقلون ارادة إلا فيمن يجوز عليه اللذة والالم والانتفاع والضرر وقد قلتم ان الله تعالى مريد فاما أن تطردوا أصلكم النافي فتنفوا الارادة أو المثبت فتثبتوا اللذة والا فما الفرق فاذا قال نفاة الارادة فلهذا نفينا الارادة كما رجحه الرازي في المطالب العالية واحتج به الفلاسفة قيل لهم فانفوا أن يكون فاعلا فانكم لا تعملون فاعلا غير مقهور إلا بارادة ولا تعقلون ما يفعل ابتداء إلا بارادة أو فاعلا حياء إلا بارادة أو فاعلا مطلقا إلا بارادة فان قال أتباع أرسطو فلهذا قلنا أنه لا يفعل شيئا وليس بموجب بذاته شيئا لكن قلنا ان الفلك يتشبه به أو قال من هو أعظم تعطيلا منهم فلهذا نفينا الأول بالكلية ولم يثبت علة تفعل ولا علة يتشبه بها قيل لهم فهذه الحوادث مشهودة وحركة الكواكب والشمس والقمر مشهودة فهذه الحركات الحادثة وغيرها من الحوادث مثل السحاب والمطر والنبات والحيوان والمعدن وغير ذلك مما يشهد حدوثه أحدث بنفسه من غير أن يحدثه محدث قديم أو لا بد للحوادث من محدث قديم فان قالوا بل حدث كل حادث بنفسه من غير أن يحدثه أحد كان هذا ظاهر الفساد يعلم بضرورة العقل أنه في غاية المكابرة ونهاية السفسطة مع لزوم ما فروا منه فانهم فروا من أن يكون ثم فاعل محدث وقد أثبتوا فاعلا محدثا لكن جعلوا كل حادث هو يحدث نفسه ويفعلها فجعلوا ما ليس بشيء يجعل الشيء وجعلوا المعدوم يحدث الموجود فلزمهم ما فروا منه من إثبات فاعل مع ما لزمهم من الكفر العظيم وغاية الجهل وغاية فساد العقل وان قالوا بل كل محدث يحدثه محدث وللمحدث محدث قيل لهم هذا أيضا ممتنع في صريح العقل فان التسلسل في الفاعل ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء فانه كلما كثر ما يقدر أنه حادث كان أحوج إلى القديم فليس في تقدير حوادث لا تتناهى ما يوجب استغناءها عن القديم بل إذا كان المحدث الواحد لا بد له من محدث غيره فمجموع الحوادث أولى بالافتقار إلى محدث لها خارج عنها كلها فان المحدث لمجموعها يمتنع أن يكون واحدا منها فانه يلزم أن يحدث نفسه ويمتنع أن يكون المجموع أحدث المجموع فان الشيء لا يحدث نفسه والمجموع هي الآحاد الحادثة وهيئتها الاجتماعية وتلك الهيئة محتاجة الى المجموع الذي هو كل واحد واحد والمجموع ليس إلا الآحاد واجتماعها وكل ذلك مفتقر إلى محدث مباين لها فلا بد للحوادث من قديم ليس بحادث ثم يقال لهم إذا قدر تسلسل الفاعلين وان ما كان محدثا له محدث وهلم جرا فهذا فيه إثبات ما فررتم منه وهو أن هذا المحدث فعل هذا وهذا فعل هذا لكن أثبتم مالا يتناهى من ذلك في آن واحد فركبتم ما فررتم منه مع لزوم هذه الجهالات التي تقتضي غاية فساد العقل والكفر بالسمع وإذا كان المحذور يلزمهم على تقدير أن يكون الحادث أحدث نفسه أو أحدث كل حادث حادثا آخر مع فساد هذين تبين أنه لا ينفعه انكار القديم وان قال بل أقر بالمحدث القديم قيل فقد أقررت بفعل القديم للمحدث وإذا ثبت أن القديم فعل المحدث وأنت لا تعلم فاعلا إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة قيل له فما كان جوابك عن هذا كان جوابا عن كونه يفعل بارادته وقيل لمثبت الارادة ما كان جوابك عن هذا كان جوابا عن حكمته فقد بين أن من نفي الحكمة فلا بد أن ينقض قوله ويلزمه مع التناقض نفي الصانع وهو مع نفي الصانع تناقضه أشد والمحذور الذي فر منه ألزم فلم يغن عنه فراره من إثبات الحكمة إلا زيادة الجهل والشر وهكذا يقال لمن نفى حبه ورضاه وبغضه وسخطه وهذا مقام شريف من تدبره وتصوره تبين له أنه لا بد من الإقرار بما جاء به الرسول وأنه هو الذي يوافق صريح المعقول وأن من خالفه فهو ممن لا يسمع ولا يعقل وهو أسوأ حالا ممن فر من الملك العادل الذي يلزمه بطعام امرأته وأولاده والزكاة الشرعية إلى بلاد ملكها ظالم ألزمه باخراج أضعاف ذلك لخنايزه وكلابه مع قلة الكسب في بلاده وبمنزلة من فر من معاشرة أقوام أهل صلاح وعدل ألزموه ما يلزم واحدا منهم من الأمور المشتركة إذا كانوا مقيمين أو مسافرين أن يخرج مثلما يخرجه الواحد منهم فكره هذا وفر إلى بلد فألزمه أهلها بأن ينفق عليهم ويخدمهم وإلا قتلوه وما أمكنه الهرب منهم فمن فر من حكم الله ورسوله أمرا وخبرا أو ارتد عن الاسلام أو بعض شرائعه خوفا من محذور في عقله أو علمه أو دينه أو دنياه كان ما يصيبه من الشر أضعاف ما ظنه شرا في اتباع الرسول قال تعالى ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما انزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا واذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزل الله والى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف اذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله ان أردنا إلا احسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع باذن الله ولو أنهم اذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
فصل
ويقال لهم لم فررتم من إثبات المحبة والحكمة والارادة والفعل فان قالوا لأن ذلك لا يعقل إلا في حق من يلتذ ويتألم وينتفع ويتضرر والله منزه عن ذلك قيل للفلاسفة فأنتم تثبتون أنه مستلذ مبتهج فهذا غير محذور عندكم وان قلتم لان ذلك يستلزم لذة حادثة قيل لكم في حلول الحوادث قولان وليس معكم في النفي إلا ما يدل على نفي الصفات مطلقا كدليل التركيب وقد عرف فساده من وجوه وقيل للجهمية والمعتزلة أن أردتم أن ذلك يقتضي حاجته الى العباد وأنهم يضرونه أو ينفعونه فهذا ليس بلازم ولهذا كان الله منزها عن ذلك كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح الإلهي يا عبادي انكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني فالله أجل من أن يحتاج إلى عباده لينفعوه أو يخاف منهم أن يضروه واذا كان المخلوق العزيز لا يتمكن غيره من قهره فمن له العزة جميعا وكل عزة فمن عزته أبعد عن ذلك وكذلك الحكيم المخلوق اذا كان لا يفعل بنفسه ما يضرها فالحق جل جلاله أولى أن لا يفعل ذلك لو كان ممكنا فكيف اذا كان ممتنعا قال تعالى الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا وقال تعالى وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن السلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فقد بين أن العصاة لا يضرونه ولا يظلمونه كعصاة المخلوقين فان مماليك السيد وجند الملك وأعوان الرجل وشركاءه اذا عصوه فيما يأمرهم ويطلبه منهم فقد يحصل له بذلك ضرر في نفسه أو ماله أو عرضه أو غير ذلك وقد يكون ذلك ظلما له والله تعالى لا يقدر أحد على أن يضره ولا يظلمه وان كان الكافر على ربه ظهيرا فمظاهرته على ربه ومعاداته له ومشاقته ومحاربته عادت عليه بضرره وظلمه لنفسه وعقوبته في الدنيا والآخرة وأما النفع فهو سبحانه غني عن الخلق لا يستطيعون نفعه فينفعوه فما أمرهم به اذا لم يفعلوه لم يضروه بذلك كما قال تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا ومن كفر فان الله غني عن العالمين وقال ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فان ربي غني كريم وقال إن تكفروا فان الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وان تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى وان أردتم أنه سبحانه لا يريد ولا يفعل ما يفرح به ويجعل عباده المؤمنين يفعلون ما يفرح به فمن أين لكم هذا وان سمى هذا لذة فالالفاظ المجملة التي قد يفهم منها معنى فاسد اذا لم ترد في كلام الشارع لم نكن محتاجين الى اطلاقها كلفظ العشق وان أريد به المحبة التامة وقد أطلق بعضهم على الله أنه يعشق ويعشق وأراد به أنه يحب ويحب محبة تامة فالمعنى صحيح والمعنى فيه نزاع واللذة يفهم منها لذة الاكل والشرب والجماع كما يفهم من العشق المحبة الفاسدة والتصور الفاسد ونحو ذلك مما يجب تنزيه الله عنه فان الذين قالوا لا يجوز وصفه بأنه يعشق منهم من قال لأن العشق هو الإفراط في المحبة والله تعالى لا افراط في حبه ومنهم من قال العشق لا يكون الا مع فساد التصور للمعشوق والا فمع صحة التصور لا يحصل إفراط في الحب وهذا المعنى لا يمدح فاعله فان من تصور في الله ما هو منزه عنه فهو مذموم على تصوره ولوازم تصوره ومنهم من قال لان الشرع لم يرد بهذا اللفظ وفيه إبهام وإيهام فلا يطلق وهذا أقرب وآخرون ينكرون محبة الله وأن يحب ويحب كالمعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الاشعرية وغيرهم فهؤلاء يكون الكلام معهم في كونه يحب ويحب كما نطق به الكتاب والسنة في مثل قوله فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه لا في لفظ العشق كذلك لفظ اللذة فيه إبهام وإيهام والشرع لم يرد باطلاقه ولكن استفاض عن النبي ﷺ ان الله يفرح بتوبة التائب أعظم من فرح من وجد راحلته بعد أن أفقدها وأيس منها في مفازة مهلكة ويئس من الحياة والنجاة من تلك الارض ومن وجود مركبه ومطعمه ومشربه ثم وجد ذلك بعد اليأس قال النبي ﷺ فكيف تجدون فرحه بدابته قالوا عظيما يا رسول الله قال لله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته وقد نطق الكتاب والسنة بأنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين والتوابين والمتطهرين والذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وأنه يرضى عن المؤمنين فاذا كنتم نفيتم حقيقة الحب والرضى لأن ذلك يستلزم اللذة بحصول المحبوب قيل لكم إن كان هذا لازما فلازم الحق حق وان لم يكن لازما بطل نفيكم والفرح في الانسان هو لذة تحصل في قلبه بحصول محبوبه وقد جاء أيضا وصفه تعالى بأنه يسر في الأثر والكتب المتقدمة وهو مثل لفظ الفرح وأما الضحك فكثير في الأحاديث ولفظ البشبشة جاء أيضا أنه يتبشبش للداخل الى المسجد كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم اذا قدم وجاء في الكتاب والسنة ما يلائم ذلك ويناسبه شيء كثير فيقال لمن نفى ذلك لم نفيته ولم نفيت هذا المعنى وهو وصف كمال لا نقص فيه ومن يتصف به أكمل ممن لا يتصف به وإنما النقص فيه أن يحتاج فيه الى غيره والله تعالى لا يحتاج الى أحد في شيء بل هو فعال لما يريد لكن القدرية قد يشكل هذا على قولهم فان العباد عندهم مستقلون بإحداث فعلهم ولكن هذا مثل إجابة دعائهم وإثابتهم على أفعالهم ونحو ذلك مما فيه أن أفعالهم تقتضي أمورا يفعلها هو وهم لا يفرون من كونه يجب عليه أشياء وأنه يفعل ما يجب عليه فيكون العبد قد جعله مريدا لما لم يكن مريدا له وحينئذ فاذا كان العبد يجعلونه مريدا عندهم فالقول في لوازم الارادة كالقول فيها وهذا إما أن يدل على فساد قولهم في القدر وهو الصواب وإما أن يكون هو الذي شاء ذلك من العبد فيلزمهم في لوازمها ما يلزمهم فيها واما على قول المثبتة فكل ما يحدث فهو بمشيئته وقدرته فما جعله أحدا مريدا فاعلا بل هو الذي يحدث كل شيء ويجعل بعض الاشياء سببا لبعض فان قال نافي المحبة والفرح والحكمة ونحو ذلك هذا يستلزم حاجته الى المخلوق ظهر فساد قوله وان قيل ان ذلك ان كان وصف كمال فقد كان فاقدا له وان كان نقصا فهو منزه عن النقص قيل له هو كمال حين اقتضت الحكمة حدوثه وحدوثه قبل ذلك قد يكون نقصا في الحكمة أو يكون ممتنعا غير ممكن كما يقال في نظائر ذلك وتمام البسط في هذا الأصل مذكور في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على لوازم ذلك فان نفاة ذلك نفوا أن يكون في الممكن فعل ينزه عنه فليس عندهم فعل يحسن منه وفعل ينزه عنه بل عنده تقسيم الأفعال أفعال الرب والعبد الى حسن وقبيح لا يكون عندهم إلا بالشرع وذلك لا يرجع الى صفة في الفعل بل الشارع عندهم يرجح مثلا على مثل والحسن والقبيح إنما يعقل إذا كان الحسن ملائما للفاعل وهو الذي يلتذ به والقبيح ينافيه وهو الذي يتألم به والحسن والقبح في أفعال العباد بهذا الاعتبار متفق على جوازه وإنما النزاع في كونه يتعلق به المدح والثواب وهذا في الحقيقة يرجع الى الالم واللذة فلهذا سلم الرازي في آخر عمره ما ذكره في كتاب ان الحسن والقبح العقليين ثابتان في أفعال العباد دون الرب اذا كان معناهما يؤول الى اللدة والالم والمعتزلة أثبتوا حسنا وقبحا عقليين في فعل القادر مطلقا سواء كان قديما أو محدثا وقال الحسن ما للقادر فعله والقبيح ما ليس له فعله وقالوا ان ذلك ثابت بدون كونه مستلزما للذة والألم كما ادعوا ثبوت حكمته للفاعل القادر ولا تعود اليه ولا يستلزم اللذة فادعوا ما هو خلاف الموجود والمعقول ولهذا تسلط عليهم النفاة فكان حجتهم عليهم أن يثبتوا أن هذا أمر لا يعقل إلا مع اللذة والالم ثم يقولون وذلك في حق الله محال فحجتهم مبنية على مقدمتين أن الحسن والقبح والحكمة مستلزم للذة والالم وذلك في حق الله محال والمعتزلة منعوا المقدمة الأولى فغلبوا معهم والمقدمة الثانية جعلوها محل وفاق وهي مناسبة المعتزلة لكونهم ينفون الصفات فنفى الفعل القائم به أولى على أصلهم ونفى مقتضي ذلك أولى على أصلهم وهذه المقدمة التي اشتركوا فيها تقتضي نفي كونه مريدا ونفي كونه فاعلا ونفي حدوث شيء من الحوادث كما أن نفي الصفات يقتضي نفي قائم بنفسه موصوف بالصفات فنفي اتصافه بالصفات يستلزم أن لا يكون في الوجود شيء يتصف بصفة ونفي فعله وأحداثه يقتضي أن لا يكون في الوجود شيء حادث فكان ما نفوه مستلزما نهاية السفسطة وجحد الحقائق ولهذا كان من وافق هؤلاء على نفي محبة الله لما أمر به من الصوفية يلزمهم تعطيل الأمر والنهي وان لا ينفي إلا القدر العام وقد التزم ذلك طائفة من محققيهم وكان نفي الصفات يستلزم نفي الصفات وان لا يكون موجودان أحدهما واجب قديم خالق والآخر ممكن أو محدث أو مخلوق وهكذا التزمه طائفة من محققيهم وهم القائلون بوحدة الوجود وهم يقولون بكون العبد أولا يشهد الفرق بين الطاعة والمعصية ثم يشهد طاعة بلا معصية ثم لا طاعة ولا معصية بل الوجود واحد فالذين اثبتوا الحسن والقبح في الافعال وأن لها صفات تقتضي ذلك قالوا بما قاله جمهور العقلاء من المسلمين وغيرهم قال أبو الخطاب هذا قوله أكثر الفقهاء والمتكلمين لكن تناقضوا فلم يثبوا لازم ذلك فتسلط عليهم النفاء أكثر الفقهاء والمتكلمين لكن تناقضوا فلم يثبوا لازم ذلك فتسلط عليه النفاء لما نفوا الحسن والقبح في نفس الأمر قالوا لا فرق في ما يخلقه الله وما يأمره به بين فعل وفعل وليس في نفس الأمر حسن ولا قبيح ولا صفات توجب ذلك واستثنوا ما يوجب اللذة والألم لكن اعتقدوا ما اعتقدته المعتزلة أن هذا لا يجوز اثباته في حق الرب وأما في حق العبد فظنوا أن الأفعال لا تقتضي إلا لذة وأما في الدنيا وأما كونها مشتملة على صفات تقتضي لذة وألما في الآخرة فذلك عندهم باطل ولم يمكنهم أن يقولوا إن الشارع يأمر بما فيه لذة مطلقا وينهيى عما فيها ألم مطلقا وكو الفعل يقتضي ما يوجب اللذة هو عندهم من باب التولد وهم لا يقولون به بل قدرة العبد عندهم لا تتعلق إلا بفعل في محلها مع أنها عند شيخهم غير مؤثرة في المقدور ولا يقول إن العبد فاعل في الحقيقة بل كاسب ولم يذكروا بين الكسب والفعل فرقا معقولا بل حقيقة قولهم قول جهم أن العبد لا قدرة له ولا فعل ولا كسب والله عندهم فاعل فعل العبد وعله هو نفس مفعوله فصار الرب عندهم فاعلا لكل ما يوجد من أفعلا العباد ويلزمهم أن يكون هو الفاعل للقبائح وان يتصف بها على قولهم أنه بوصف بالصفات الفعلية القائمة بغيره وقد تناقضوا في هذا الموضع فجعلوه متكلما بكلام يقوم بغيره وجعلوه عادلا ومحسنا بعدل واحسان يقوم بغيره كما قد بسط في غير هذا الموضع وحينئذ فما بقي يمكنهم ان يفرقوا بين ممكن وممكن من جميع الأجناس أي يقولوا هذا يحسن من الرب فعله وهذا ينزه عنه بل يجوز عندهم ان يفعل كل ممكن مقدور والظلم عندهم هو فعل ما نهى المرء عنه أو التصرف في ملك الغير وكلاهما ممتنع في حق الله فأما ان يكون هناك امر ممكن مقدور وهو منزه عنه فهذا عندهم لا يجوز فلهذا جوزوا عليه كل ما يمكن ولا ينزهونه عن فعل لكونه قبيحا أو نقصا او مذموما ونحو ذلك بل يعلم ما يقع وما لا يقع بالخبر أي بخبر الرسول كما علم بخبره المأمور والمحظور والوعد والوعيد والثواب والعقاب أوبالعادة مع أن العادة يجوز انتقاضها عندهم لكن قالوا قد يعلم بالضرورة عدم ما يجوز وقوعه من غير فرق لا في الوجود ولا في العلم بين ما علموا انتفاءه وما لم يعلموه إذ كان أصل قولهم هو جواز التفريق بين التماثلين بلا سبب فالارادة القديمة عندهم ترجح مثلا على مثل بلا سبب في خلق الرب وفي أمره وكذلك عندهم قد يحدث في قلب العبد علما ضروريا بالفرق بين المتماثلين بلا سبب فلهذا قالوا أن الشرع لا يأمر وينهى لحكمة ولم يعتمدوا على المناسبة وقالوا علل الشرع أمارات كما قالوا ان أعفال العباد أمارة على السعادة والشقاء فقط من غير أن يكون في أحد الفعلين معنى يناسب الثواب أو العقاب ومن أثبت المناسبة من متأخريهم كأبي حامد ومن تبعه قالوا عرفنا بالاستقراء أن المأمور به قترن به مصلحة العباد وهو حصول ما ينفعهم والمنهى عنه تقترن به المفسدة فإذا وجد الأمر والنهى علم وجود قرينه الذي علم بعادة الشرع من غير أن يكون الرب أمر به لتلك المصلحة ولا نهى عنه لتلك المفسدة وجمهوةهم وأئمتهم على أنه يمتنع أن يفعل لحكمة لكن الآمدي قال إن ذلك جائز غير واجب فلم يجعله واجبا ولا ممتنعا
فصل
وهذا الأصل دخل في جميع أبواب الدين أصضوله وفروعه في خلق الرب لما يخلقه ورزقه واعطائه ومنعه وسائر ما يفعله تبارك وتعالى وجهل في أمره ونهيه وجميع ما يأمر به وينهى عنه ودخل في المعاد فعندهم يجوز أن يعذب الله جميع أهل العدل والصلاح والدين والأنبياء والمرسلين بالعذاب الأبدي وأن ينعم دميع أهل الكذب والظلم والفواحش بالنعيم الأبدي لكن بمجرد الخبر عرفنا أنه لا يفعل هذا ويجوز عندهم أن يعذب من لا له ذنب أصلا بالعذاب الأبدي بل هذا واقع عند من يقول بأن أطفال الكفار يعذبون في النار مع آبائهم كلهم يجوزون تعذيبهم إذ كان عندهم يجوز تعيب كل حي العذاب المؤبد بلا ذنب ولا غلاض ولا حكمة لكن هل يقع هذا في أطفال المشركين منهم جزم بوقوعه كالقاضي أبي يعلى ومن وافقه ومنهم من توقفت لعدم الدليل السمعى عنده لا لمانع عقلي كالقاضي أبي بكر ونحوه وليس عندهم من أفعال الرب ما ينزهونه عنه أو ما تقتضي الحكمة وجوده بل يجوز عندهم أن يفعل كل ممكن ويجوز أن لا يفعل شيئا من الخير لكن إذا أخبر أنه يفعل شيئا أو أنه لا يفعله علم أنه واقع أو غير واقع بالخبر ويجوز عندهم أن يعذب من لا ذنب له ومن هو أبر الناس وأعدلهم وأفضلهم عذابا مؤبدا لا يعذبه أحدا من العالمين ويجوز أن ينعم شر الخلق من شياطين الإنس والجن نعيما في أعلى درجات الجنة لا ينعم مثله لمخلوق لكن لما أخبر بأن المؤمنين يدخلون الجنة والكفار يدخلون النار علم ما يقع مع أنه لو وقع ضده لم يكن بينهما فرق عندهم ثم مع مجيء الخبر فكثير منهم وافقه أما في جنس الفساق مطلقا فيجوزون أن يدخل جميعهم الجنة ويجوزون أن يدخل جميعهم النار ويجوزون أن يدخل بعضهم كما يقوله من يقوله ممن وافق الشيعة والأشعرية كالقاضي أبي بكر لأن القرآن عنده لم يدل على شيء والأخبار أخبار آحاد بزعمه فلا يحتج بها في ذلك وأما جمهور المنتسبين الى السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم فيقطعون بان الله يعذب بعض أهل الذنوب بالنار ويعفو عن بعضهم كما قال تعالى ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فهذا فيه الإخبار بانه يغفر ما دون الشرك وأنه يغفر لمن يشاء لا لكل أحد لكن هل الجزاء والثواب والعقاب مبني على الموازنة بالحكمة والعدل كما اخبر الله بوزن الأعمال أو يغفر ويعذب بلا سبب ولا حكمة ولا اعتبار الموازنة فيه لهؤلاء قولان فمن جوز ذلك فانه يجوز عندهم أن يعذب الله من هو من أبر الناس وأكثرهم طاعات وحسنات على سيئة صغيرة عذابا أعظم من عذاب أفسق الفاسقين ويجوز عندهم أن يغفر لأفسق الفاسقين من المسلمين وأعظمهم كبائر كل ذنب ويدخله الجنة ابتداء مع تعذيبهم ذلك في النار على صغيرة ولهذا قال جمهور الناس عن هؤلاء إنهم لا ينزهون الرب على السفه والظلم بل يصفونه بالأفعال التي يوصف بها المجانين والسفهاء فان المجنون والسفيه قد يعطي مالا عظيما لمن ليس هو له بأهل وقد يعاقب عقوبة عظيمة من هو أهل للإكرام والإحسان والرب تعالى أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وخير الراحمين والحكمة وضع الأشياء مواضعها والظلم وضع الشيء في غير موضعه ومن تدبر حكمته في مخلوقاته ومشروعاته رأى ما يبهر العقول فانه مثلا خلق العين واللسان ونحوهما من الاعضاء لمنفعة وخلق الرجل والظفر ونحو ذلك لمنفعة فلا تقتضي الحكمة أن يستعمل العين واللسان حيث يستعمل اليد والرجل والظفر ولا أن يستعمل الرجل واليد حيث يستعمل العين واللسان وهذا من حكمته موجود في أعضاء الانسان وسائر الحيوان والنبات وسائر المخلوقات فكيف يجوز في حكمته وعدله ورحمته في من هو دائما يفعل ما يرضيه من الطاعات والعبادات والحسنات وقد نظر نظرة منهيا عنها أن يعاقبه على هذه النظرة بما يعاقب به أفجر الفساق وأن يكون أفجر الفساق في أعلى عليين وهو سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لكن لا يشاء إلا ما يناسب حكمته ورحمته وعدله كما لا يشاء ويريد إلا ما علم أنه سيكون فلو قيل هل يجوز أن يشاء ما علم أنه لا يكون لم يجر ذلك باتفاقهم لمناقضة علمه والعلم يطابق المعلوم فكيف يشاء ما يناقض حكمته ورحمته وعدله وبسط هذه الامور له مواضع متعددة
والمقصود أن هؤلاء لما احتاجوا الى إثبات النبوات اضطربوا في صفة النبي وما يجوز عليه وفي الآيات التي بها يعلم صدقه فجوزوا أن يرسل الله من يشاء بما يشاء لا يشترطون في النبي إلا أن يعلم ما أرسل به لأن تبليغ الرسالة بدون العلم ممتنع ومن جوز منهم تكليف ما لا يطاق مطلقا يلزمه جواز أن يأمره الله بتبليغ رسالة لا يعلم ما هي وجوزوا من جهة العقل ما ذكره القاضي أبو بكر أن يكون الرسول فاعلا للكبائر إلا أنه لا بد أن يكون عالما بمرسله لكن ما علم بالخبر أن الرسول لا يتصف به علم من جهة الخبر فقط لا لأن الله منزه عن إرسال ظالم أو مرتكب للفواحش أو مكاس أو مخنث أو غير ذلك فانه لا يعلم نفي شيء من ذلك بالعقل لكن بالخبر وهم في السمعيان عمدتهم الإجماع وأما الاحتجاج بالكتاب والسنة فأكثر ما يذكرونه تبعا للعقل او الاجماع والعقل والاجماع مقدمان عندهم على الكتاب والسنة فلم يعتمد القاضي أبو بكر وأمثاله في تنزيه الانبياء لا على دليل عقلي ولا سمعي من الكتاب والسنة فان العقل عنده لا يمنع أن يرسل الله من شاءاذ كان يجوز عنده على الله فعل كل ما يقدر عليه وإنما اعتمد على الإجماع فما أجمع المسلمون عليه أنه لا يكون في النبي نزه عنه ثم ذكر ما ظنه إجماعا كعاداته وعادات أمثاله في نقل إجماعات لا يمكن نقلها عن واحد من الصحابة ولا ثلاثة من التابعين ولا أربعة من الفقهاء المشهورين كدعواه الاجماع على أن الصلاة في الدار المغصوبة مجزئة مع قوله إن العقل يحيل أن يكون مأمورا به فيدعي الاجماع على براءة المأمور من فعل ما أمر به لكونه فعل ما نهي عنه ولأهل الكلام والرأي من دعوى الإجماعات التي ليست صحيحة بل قد يكون فيها نزاع معروف وقد يكون إجماع السلف على خلاف ما ادعوا فيه الاجماع ما يطول ذكره هنا وقد ذكرنا قطعة من الاجماعات الفروعية حكاها طائفة من أعيان العلماء العالمين بالاختلاف مع أنها منتقضة وفيها نزاع ثابت لم يعرفوه وقد يكون غيرهم حكى الاجماع على نقيض قولهم وربما كان من السلف كقول الشافعي ما اعلم أحدا قبل شهادة العبد وقبله من الصحابة أنس بن مالك يقول ما أعلم أحد رد شهادة العبد وكدعوى ابن حزم الاجماع على إبطال القياس وأكثر الأصوليين يذكرون الاجماع على إثبات القياس وبسط هذا له موضع آخر
فصل
ولما أرادوا إثبات معجزات الانبياء عليهم السلام وأن الله سبحانه لا يظهرها على يد كاذب مع تجويزهم عليه فعل كل شيء فنفوا منعا فقالوا لو جاز ذلك لزم أن لا يقدر على تصديق من ادعى النبوة وما لزم منه نفي القدرة كان ممتنعا فهذا هو المشهور عن الأشعري وعليه اعتمد القاضي أبو بكر وابن فورك والقاضي أبو يعلى وغيرهم وهو مبني على مقدمات أحدها أن النبوة لا تثبت الا بما ذكروه من المعجزات وأن الرب لا يقدر على إعلام الخلق بأن هذا نبي إلا بهذا الطريق وأنه لا يجوز أن يعلموا ذلك ضرورة وان اعلام الخلق بان هذا نبي بهذا الطريق ممكن فلو قيل لهم لا نسلم أن هذا ممكن على قولكم فانكم إذا جوزتم عليه فعل كل شيء وارادة كل شيء لم يكن فرق بين أن يظهرها على يد صادق أو كاذب ولم يكن ارسال رسول يصدقه بالمعجزات ممكنا على أصلكم ولم يكن لكم حجة على جواز إرسال الرسول وتصديقه بالمعجزات إذ كان لا طريق عندهم إلا خلق المعجز وهذا إنما يكون دليلا اذا علم أنه إنما خلقه لتصديق الرسول وأنتم عندكم لا يفعل شيئا لشيء ويجوز عليه فعل كل شيء وسلك طائفة منهم طريقا آخر وهي طريقة أبي المعالي وأتباعه وهو أن العلم بتصديقه لمن أظهر على يديه المعجز علم ضروري وضربوا له مثلا بالملك وهذا صحيح اذا منعت أصولهم فان هذه تعلم اذا كان المعلم بصدق رسوله ممن يفعل شيئا لحكمة فاما من لا يفعل شيئا لشيء فكيف يعلم أنه خلق هذه المعجزات لتدل على صدقه لا لشيء آخر ولم لا يجوز أن يخلقها لالشيء على أصلهم وقالوا أيضا ما ذكره الأشعري المعجز علم الصدق ودليله فيستحيل وجوده بدون الصدق فيمتنع وجوده على يد الكاذب وهذا كلام صحيح لكن كونه علم الصدق مناقض لاصولهم فانه إنما يكون علم الصادق اذا كان الرب منزها عن ان يفعله على يد الكاذب أو علم بالاضطرار أنه إنما فعله لتصديق الصادق أو أنه لا يفعله على يد كاذب وإذا علم بالاضطرار تنزهه عن بعض الأفعال بطل أصلهم
فصل
والمعتزلة قبلهم ظنوا أن مجرد كون الفعل خارقا للعادة هو الآية على صدق الرسول فلا يجوز ظهور خارق إلا لنبي والتزموا طردا لهذا انكار أن يكون للسحر تأثير خارج عن العادة مثل أن يموت ويمرض بلا مباشرة شيء وأنكروا الكهانة وأن تكون الجن تخبر ببعض المغيبات وأنكروا كرامات الاولياء فاتى هؤلاء فأثبتوا ما أثبته الفقهاء وأهل الحديث من السحر والكهانة والكرامات لكن قيل لهم فميزوا بين هذا وبين المعجزات فقالوا لا فرق في نفس الجنس وليس في جنس مقدورات الرب ما يختص بالانبياء لكن جنس خرق العادة واحد فهذا اذا اقترن بدعوى النبوة وسلم عن المعارضة عند تحدي الرسول بالمثل فهو دليل فهي عندهم لم تدل لكونها في نفسها وجنسها دليلا بل اذا استدل بها المدعي للنبوة كانت دليلا وإلا لم تكن دليلا ومن شرط الدليل سلامته عن المعارضة وهي عندهم غاية الفرق فاذا قال المدعي للنبوة ائتوا بمثل هذه الآية فعجزوا كان هذا هو المعجز المختص بالنبي وإلا فيجوز عندهم أن تكون معجزات الرسول من جنس ما للسحرة والكهان من الخوارق اذا استدل بها الرسول فالحجة عنده مجموع الدعوى والخارق لا الخارق وحده والاعتبار بالسلامة عن المعارض بل قد لا يشترطون أن يكون خارقا للعادة لكن يشترطون أن لايعارض وعجز الناس عن المعارضة مع أنه معتاد لا خارق للعادة فالاعتبار عندهم بشيئين باقترانه بالدعوى وتحديه لمن دعاهم أن يأتوا بمثله فلا يقدرون قالوا وخوارق الأنبياء يظهر مثلها على يد الساحر والكاهن والصالح ولا تدل على النبوة لأنه لم يدعها قالوا ولو ادعى النبوة أحد من أهل هذه الخوارق مع كذبه لم يكن بد من أن الله يعجزه عنها فلا يخلقها على يده أو يقيض له من يعارضه فتبطل حجته واذا قيل لهم لم قلتم ان الله لا بد أن يفعل هذا وهذا وعندكم يجوز عليه كل شيء ولا يجب عليه فعل شيء ولا يجب منه فعل شيء قالوا لأنه لو لم يمنعه من ذلك أو يعارضه بآخر لكان قد أتى بمثل ما يأتي به النبي الصادق فتبطل دلالة آيات الانبياء فاذا قيل لهم وعلى أصلكم يجوز أنه تبطل دلالتها وعندكم يجوز عليه فعل كل شيء أجابوا بالوجهين المتقدمين إما لزوم أنه ليس بقادر أو أن الدلالة معلومة بالاضطرار وقد عرف ضعفهما ثم هنا يلزمهم شيء آخر وهو أنه لم قلتم إن المعجز الذي يدل به على صدق الانبياء ما ذكرتموه من مجرد كونه خارقا مع الدعوى وعدم المعارضة فان هذا يقال إنه باطل من وجوه
أحدها أنه إذا كان ما يأتي به النبي يأتي به الساحر والكاهن لكان أولئك يعارضون وهذا لا يعارض فالاعتبار إذن بعدم المعارضة فقولوا لكل من ادعى النبوة وقال معجزتي أن لا يدعيها غيري فهو صادق أو لا يقدر غيري على دعواها فهو صادق أو أفعل أمرا معتادا من الأكل والشرب واللباس ومعجزتي أن لا يفعله غيري أو لا يقدر غيري على فعله فهو صادق فالتزموا هذا وقالوا المنع من المعتاد كإحداث غير المعتاد وعلى هذا فلو قال الرسول معجزتي أني أركب الحمار أو الفرس أو آكل هذا الطعام أو ألبس هذا الثوب أو أعدو إلى ذلك المكان وأمثال ذلك وغيره لا يقدر على ذلك كان هذا آية دعواه وهذا لا ضابط له فان ما يعجز عنه قوم دون قوم لا ينضبط ولكن هذا يفسد قول من فسرها بخرق العادة فان العادات تختلف وقد ذكروا هذا وقالوا المعجزة عند كل قوم ما كان خرقا لعادتهم وقالوا يشترط أن تكون خارقة لعادة من دعاهم وان كان معتادا لغيرهم وقالوا إذا كان المدعي كذابا فان الله يقيض له من يعارضه من أهل تلك الصناعة أو يمنعه من القدرة عليها وهذا وجه ثان يدل على فساد ما أصلوه هم والمعتزلة
الوجه الثالث المعارضة بالمثل أن يأتي بحجة مثل حجة النبي وحجته عندهم مجموع دعوى النبوة والاثبات بالخارق فيلزم على هذا أن تكون المعارضة بأن يدعي غيره النبوة ويأتي بالخارق وعلى هذا فليست معارضة الرسول بأن يأتوا بالقرآن أو عشر سور أو سورة بل أن يدعي أحدهم النبوة ويفعل ذلك وهذا خلاف العقل والنقل ولو قال الرسول لقريش لا يقدر أحد منكم أن يدعي النبوة ويأتي بمثل القرآن وهذا هو الآية وإلا فمجرد تلاوة القرآن ليس آية بل قد يقرأه المتعلم له فلا تكون آيه لأنه لم يدع النبوة ولو ادعاها لكان الله ينسيه إياه أو يقيض له من يعارضه كما ذكرتم لكانت قريش وسائر العلماء يعلمون أن هذا باطل
الرابع أنه إذا كان اعتمادكم على عدم المعارضة فقولوا ما قاله غيركم وهو أن آية سلامة ما يقوله من التناقض وأن كل من ادعى النبوة وكان كاذبا فلا بد أن يتناقض أو يقيض الله له من يقول مثل ما قال وأما السلامة من التناقض من غير دعوى النبوة فليست دليلا فهذا خير من قولكم فانه قد علم أن كل ما جاء من عند غير الله فانه لا بد أن يختلف ويتناقض وما جاء من عند الله لا يتناقض كما قال تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وأما دعوى الضرورة فمن ادعى الضرورة في شيء دون شيء مع تماثلهما وعدم الفرق بينهما في نفس الأمر كانت دعواه مردودة بل كذبا فان وجود العلم الضروري بشيء دون شيء لا بد أن يكون لفرق إما في المعلوم وإما في العالم وإلا فاذا قدر تساوي المعلومات وتساوي حال العالم بها لم يعلم بالضرورة أحد المتماثلين دون الآخر
الخامس انه لا بد أن تكون الآية التي للنبي أمرا مختصا بالانبياء فان الدليل مستلزم للمدلول عليه فآية النبي هي دليل صدقه وعلامة صدقه وبرهان صدقه فلا توجد قط إلا مستلزمة لصدقه وقد ادعوا أن آيات صدقهم التي تكون منفكة عن صدقهم تكون لساحر وكاهن ورجل صالح ولمدعي الإلهية لكن لا تكون لمن يكذب في دعوى النبوة فجوزوا وجود الدليل مع عدم المدلول عليه إلا اذا ادعى المدلول عليه كاذب واستدلوا على ذلك بأن الساعة تخرق عندها خوارق ولا تدل على صدق أحد ولو ادعى مدع النبوة مع تلك الخوارق لدلت قالوا فعلم أن جنس ما هو معجز يوجد بدون صدق النبي لكن مع دعوى النبوة لا يوجد إلا مع الصدق والآية عندهم الدعوى والخارق والصدق هو المدلول عليه فلا يكون ذلك كذلك إلا مع هذا وأما وجود الخارق مجردا عن الدعوى فليس بدليل ولا فرق عندهم بين خارق وخارق وخارق معتاد عند قوم دون قوم وليس لهم ضابط في العادات ولسائل أن يقول جميع ما يفعله الله من الآيات في العالم فهو دليل على صدق الانبياء ومستلزم له وإن كانت الآيات معتادة لجنس الانبياء أو لجنس الصالحين الذين يتبعون الانبياء فهي مستلزمة لصدق مدعي النبوة فانها إذا لم تكن إلا لنبي أو من يتبعه لزم أن يكون من أحد القسمين والكاذب في دعوى النبوة ليس واحدا منهما فالتابع للانبياء الصالح لا يكذب في دعوى النبوة قط ولا يدعيها إلا وهو صادق كالانبياء المتبعين لشرع موسى فاذا كان آية نبي إحياء الله الموتى لم يمتنع أن يحي الله الموتى لنبي آخر أو لمن يتبع الانبياء كما قد أحيي الميت لغير واحد من الانبياء ومن تبعهم وكان ذلك آية على نبوة محمد ﷺ ونبوة من قبله إذا كان إحياء الموتى مختصا بالانبياء وأتباعهم وكذلك ما يفعله الله من الآيات والعقوبات بمكذبي الرسل كتغريق فرعون وإهلاك قوم عاد بالريح الصرصر العاتية وإهلاك قوم صالح بالصيحة وأمثال ذلك فان هذا جنس لم يعذب به إلا من كذب الرسل فهو دليل على صدق الرسل وقد يميت الله بعض الناس بأنواع معتادة من البأس كالطواعين ونحوها لكن هذا معتاد لغير مكذبي الرسل أما ما عذب الله به مكذبي الرسل فمختص بهم ولهذا كان من آيات الله كما قال وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا وكذلك ما يحدثه من أشراط الساعة كظهور الدجال ويأجوج ومأجوج وظهور الدابة وطلوع الشمس من مغربها بل والنفخ في الصور وغير ذلك هو من آيات الانبياء فانهم أخبروا به قبل ان يكون فكذبهم المكذبون فاذا ظهر بعد مئين أو ألوف من السنين كما أخبروا به كان هذا من آيات صدقهم ولم يكن هذا إلا لنبي أو لمن يخبر عن نبي والخبر عن النبي هو خبر النبي ولهذا كان وجود ما أخبر به الرسول من المستقبلات من آيات نبوته إذا ظهر المخبر به كما كان أخبر فيما مضى عرف صدقه فيما أخبر به إذ كان هذا وهذا لا يمكن أن يخبر به إلا نبي أو من أخذ عن نبي وهو لم يأخذ عن أحد من الانبياء شيئا فدل على نبوته ولهذا يحتج الله له في القرآن بذلك كما بسط في غير هذا الموضع وأخبار الكهان فيها كذب كثير والكاهن قد عرف أنه يكذب كثيرا مع فجوره قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والكهانة جنس معروف ومعروف أن الكاهن يتلقى عن الشيطان ولا بد من كذبهم وفجورهم والنبي لا يكذب قط ولا يكون إلا برا تقيا فالفرق بينهما ثابت في نفس صفاتهما وأفعالهما وآياتهما لا يقول عاقل إن مجرد ما يفعله الكاهن هو دليل إن اقترن بصادق وليس بدليل إذا لم يقترن بصادق وانه متى ادعاه كاذب لم يظهر على يده وهذا أيضا باطل
ويظهر بالوجه السادس وهو أنه قد ادعى جماعة من الكذابين النبوة وأتوا بخوارق من جنس خوارق الكهان والسحرة ولم يعارضهم أحد في ذلك المكان والزمان وكانوا كاذبين فبطل قولهم إن الكذاب إذا أتى بمثل خوارق السحرة والكهان فلا بد أن يمنعه الله ذلك الخارق أو يقيض له من يعارضه وهذا كالاسود العنسي الذي ادعى النبوة باليمن في حياة النبي ﷺ واستولى على اليمن وكان معه شيطان سحيق ومحيق وكان يخبر بأشياء غائبة من جنس أخبار الكهان وما عارضه أحد وعرف كذبه بوجوه متعددة وظهر من كذبه وفجوره ما ذكره الله بقوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم وكذلك مسيلمة الكذاب وكذلك الحارث الدمشقي ومكحول الحلبي وبابا الرومي لعنة الله عليهم وغير هؤلاء كانت معهم شياطين كما هي مع السحرة والكهان
السابع أن آيات الأنبياء ليس من شرطها استدلال النبي بها ولا تحديه بالإتيان بمثلها بل هي دليل على نبوته وان خلت عن هذين القيدين وهذا كإخبار من تقدم بنبوة محمد فانه دليل على صدقه وان كان هو لم يعلم بما أخبروا به ولا يستدل به وأيضا فما كان يظهره الله على يديه من الآيات مثل تكثير الطعام والشراب مرات كنبع الماء من بين أصابعه غير مرة وتكثير الطعام القليل حتى كفى أضعاف من كان محتاجا اليه وغير ذلك كله من دلائل النبوة ولم يكن يظهرها للاستدلال بها ولا يتحدى بمثلها بل لحاجة المسلمين اليها وكذلك إلقاء الخليل في النار إنما كان بعد نبوته ودعائه لهم الى التوحيد
الثامن أن الدليل الدال على المدلول عليه ليس من شرط دلالته استدلال أحد به بل ما كان النظر الصحيح فيه موصولا الى علم فهو دليل وان لم يستدل به أحد فالآية أدلة وبراهين تدل سواء استدل بها النبي أو لم يستدل وما لا يدل اذا لم يستدل به لا يدل إذا استدل به ولا ينقلب ما ليس بدليل دليلا اذا استدل به مدع لدلالته