في الليلة الأولى من عشر المُحرّم، وفيه أبواب ثلاثة:
الباب الأول
أيّها المؤمنون المُخلصون والاُمناء الصّالحون : اعلموا إنّ الله عزّ وجلّ قد ابتلى ابن بنت نبيّه وأهل بيته (عليهم السّلام) , بمصائب جليلة ورزايا عظيمة وبلايا جسيمة , لم يبتل بها أحد من نبيّ أو وليّ أو شريف أو دنيّ من ؛ القتل والصّلب والحرق والضّرب , والغيلة والحبس والسّبي والخلس , وضروب النّكال والوبال ، حتّى بنوا عليهم الأبنية وضيّقوا عليهم الأودية , فتفرّقوا في البلاد , وتركوا الأهل والأولاد , وكتموا الأنساب من الأحباب ؛ خوفاً من الأعداء والطّلاب ، ولم يزل السّيف يقطر من دمائهم , والسّجون مشحونة بأحرارهم وإمائهم , ولله درّ مَن قال من الرّجال:
ولـقد بـكيت لـقتل آل محمّد بـالطف حتّى كل عضو مدمع
عفرت بنات الأعوجية هل درت مـا يـستباح بـها وماذا يصنع
وحـريم آل مـحمّد بين العدى نـهباً تـقاسمها الـلئام الوضع
تلك الضعائن كالإماء متى تُسق يـعنف بـهن وبـالسياط تقنع
مـن فـوق أقتاب المطى يشلها لـكع عـلى حـنق وعبد أكوع
مـثل السبايا بل أذل يشق منهن الـخـمار ويـستباح الـبرقع
فـمضفد فـي قـيده لا يـفتدى وكـريمة تـسبى وفـرط ينزع
تالله لا أنـسى الـحُسين وشلوه تـحت الـسنابك بالعراء موزع
مـتلفعاً حـمر الـثياب وفي غد بـالخضر مـن فـردوسها يتلفع
تـطأ الـسنابك صـدره وجبينه والأرض ترجف خيفة وتضعضع
والـشمس نـاشرة الذوائب ثاكل والـدهر مـشقوق الـرداء مقنع
لـهفي على تلك الدماء تراق في أيـدي اُمـية عـنوة وتـضيع
روى الصّدوق القُمّي : أنّ جميع الأئمّة (عليهم السّلام) خرجوا من الدّنيا على الشّهادة ؛ قُتل عليّ (ع) فتكاً ، وسُمّ الحسن (ع) سرّاً ، وقُتل الحُسين (ع) جهراً , وسمّ الوليد زين العابدين (ع) ، وسمّ إبراهيم بن الوليد الباقر (ع) ، وسمّ جعفر المنصور الصّادق (ع) ، وسمّ الرّشيد الكاظم (ع) ، وسمّ المأمون الرّضا (ع) ، وسمّ المُعتصم مُحمّد الجواد (ع) ، وسمّ المُعتز عليّ بن مُحمّد الهادي (ع) ، وسمّ المُعتمد الحسن بن عليّ العسكري (ع) ، وأمّا القائم المهدي ( عجّل الله تعالى فرجه الشّريف) فروي : أنّه هرب خوفاً من المُتوكل ؛ لأنّه أراد قتله : ( وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(1) .
وكان أوّل من استفتح بالظّلم ؛ مَن أخّر عليّاً (عليه السّلام) عن الخلافة , وغصب فاطمة (عليها السّلام) ميراث أبيها , وقتل المُحسن في بطن اُمّه , ووجأ عنق سلمان ، وقتل سعد بن عُبادة ومالك بن نويرة ، وداس بطن عمّار بن ياسر , وكسر أضلاع عبد الله بن مسعود بالمدينة ، ونفى أبا ذر إلى الرّبذة , وأشخص عمّار بن قيس ، وغرب الأشتر النّخعي ، وأخرج عدي بن حاتم الطّائي ، وسيّر عميراً بن زرارة إلى الشّام , ونفى كُميل بن زياد إلى العراق , وخاض في دم مُحمّد بن أبي بكر , ونكب كعب بن جبل , ونفى جارية بن قُدامة , وعذّب عثمان بن حُنيف , وعمل ما عمل بحبّاب بن زهير وشريح بن هاني , ونحو هؤلاء ممّن مضى قتيلاً أو عاش في غصّة ذليلاً ، ولله درّ مَن قال:
لو لا حدود من صوارم أمضى مضاربها الخليفة
لـنشرت من أسرار آل مـحمّد نـكتاً لـطيفة
وأريـتكم أن الـحُسين اُصيب في يوم السقيفة
ولأي شـيء ألـحدت بـالليل فاطمة الشريفة
فانظروا يا إخواني إلى فعل أوائلهم واقتفاء أرجاس بني اُميّة آثارهم , يقتلون مَن قاربهم , ويُعذّبون مَن ظاهرهم , كقتل معاوية ؛ عمّار بن ياسر , وزيد بن صوحان وصعصعة بن صوحان , وحُنيف بن ثابت وأويس القرني , ومالك الأشتر، ومحمّد بن أبي بكر , وهاشم المرقال وعبد الرّحمن بن حسّان , وغيرهم .
وتسليط زياد بن سُمّية على قتل الألوف من الشّيعة بالكوفة , وهو الذي دسّ في قتل الحسن (عليه السّلام) إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس , وتبعه ابنه يزيد على ذلك , حتّى قتل الحُسين بن عليّ في نيف وسبعين رجُلاً ، منهم ؛ تسعة من بني عقيل ، وثلاثة من بني جعفر , وتسعة من بني عليّ (عليهم السّلام) ، وأربعة من بني الحسن (عليه السّلام) , وستّة من بني الحُسين (عليه السّلام) , والباقي من أصحابه , مثل ؛ حبيب بن مُظاهر ومُسلم بن عوسجة , ونافع بن هلال وأحزابهم .
ثمّ تسلّط على الشّيعة عُبيد الله بن زياد (لع) , فجعل يصلبهم على جذوع النّخل ، ويقتلهم ألوان القتل ، وهو الذي خرّب سناباد لمّا رجم أهلها مَن كان مع رأس الحُسين (عليه السّلام) , فبقيت خراباً إلى يومنا هذا .
ثمّ تسلّط آل الزّبير على الحجاز والعراق , فقتلوا ؛ المُختار بن أبي عُبيدة الثّقفي , والسّائب بن مالك وعبد الله بن كامل ونحوهم ، وكانوا قد حبسوا مُحمّد بن الحنفيّة ؛ يُريدون إحراقه ، ونفوا عبد الله بن العبّاس إلى الطّائف ومات بها .
ثمّ استولى عبد الملك بن مروان , وسلّط الحجاج على الحجازيين والعراقيين , فقتل ؛ سعيد بن جُبير بن اُمّ الطّويل , وميثم التّمار , وكُميل بن زياد , وقنبر عبد عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) , وأشباههم , حتّى محى آثار أهل البيت (عليهم السّلام) , وقُتل زيد بن عليّ بن الحُسين (عليه السّلام) على يد نصر بن خُزيمة الأسدي , وصلبه يوسف بن عمر بالكناسة ( اسم موضع الكوفة ) عرياناً , فكسى من بطنه جلدة سترت عورته , وبقي مصلوباً أربع سنوات , وكان لا يقدر أحد أن يندب عليه , وألقوا امرأة زيد بن عليّ على المزبلة , بعدما دُقّت بالضّرب حتّى ماتت .
ثمّ تبعه الوليد بن زيد , وأنفذ إلى يحيى , بن مُسلم بن جون في عشرة آلاف فارس , وليس مع يحيى ـ يومئذٍ ـ إلاّ مئة وخمسون رجُلاً , فقُتلوا أجمعين وبقي يحيى يُقاتل حتّى قُتل يوم الجُمعة ، ثمّ صُلب واُحرق وذُرّي.
وهكذا فعل بأشياعهم والتّابعين لهم ، ولله درّ مَن قال:
أبيت كأن الدهر يهوي إلى الأسى فـأقداره طـول الزمان به تسري
فـفي كـل يوم تنتحبني صروفه وقد خانني صبري وضيّعني فكري
كـأن الـرزايا ظـل آل مـحمّد إذا مـرّ قـوم جاء قوم على الأثر
فانظروا يا إخواني إلى حال مَن تبع بني اُميّة الأرجاس , إلى أن ظهرت الدّولة العبّاسية .
افتتح أبو مُسلم بقتل عبد الله بن الحسن بن الحسن بخراسان , ثمّ سلّ المنصور سيفه في آل عليّ (عليهم السّلام) , فقتلهم في كلّ ناحية , وقصدهم بالجيوش من كُلّ وجه , وحُمل عبد الله بن الحسن بن عليّ في أحد عشر رجُلاً , وهم ؛ عليّ بن الحسن بن عليّ ، والحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن بن عليّ , ونحوّهم من الحجاز إلى العراق فوق الأقتاب بالقيود والأغلال , وخلّدهم في سجنه معذّبين حتّى ماتوا كلّهم .
وخرج مُحمّد بن عبد الله , وقاتل حتّى قتله حميد بن قحطبة بن عيسى بن موسى ، وبنى جامع المنصور وجعل أساسه على السّادات من آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , ويُقال : إنّه دسّ في سوق الرّقة كثيراً منهم .
نُقل : إنّه لمّا بنى المنصور الأبنية ببغداد , جعل يطلب العلويّين طلباً شديداً , وجعل مَن ظفر به منهم , بالإسطوانات المجوّفة المبنيّة من الجصّ والآجر , فظفر ذات يوم بغلام منهم حسن الوجه عليه شعر أسود من ولد الحسن بن عليّ بن أبي طالب , فسلّمه إلى البنّاء الذي كان يبني له , فأمر أن يجعله في جوف إسطوانة ويبني عليه , فوكّل به من ثقاته من يرعى ذلك حتّى يجعله في جوف إسطوانة بمشهده , فجعله البنّاء في جوف إسطوانة , فدخلته رقّة عليه ورحمة له , فترك في الإسطوانة فرجة يدخل منها الرّوح , وقال للغُلام : لا بأس عليك فاصبر , فإنّي سأخرجك من هذه الإسطوانة إذا جنّ الليل . فلمّا جنّ الليل , جاء البنّاء في ظلمته وأخرج ذلك العلوي من جوف تلك الإسطوانة , وقال له : إتّق الله في دمي ودماء الفعلة الذين معي وغيّب شخصك , فإنّي إنّما أخرجتك في ظلمة هذا الليل من جوف هذه الإسطوانة ؛ إلاّ خفت إن تركتك في جوفها , يكون جدّك رسول الله خصمي يوم القيامة بين يدي الله عزّ وجلّ .
ثمّ أخذ شعره بألآت الجصّاصين ما أمكن , وقال له : غيّب شخصك وانج بنفسك ولا ترجع إلى اُمّك . قال الغُلام : إن كان هكذا , فعرّف اُمّي إنّي قد نجوت وهربت ؛ لتطبب نفسها ويقلّ جزعها وبكاؤها , وإنّه لم يكن لعودي إليها وجه .
فهرب الغُلام ولا يدري إلى أين قصد من أرض الله تعالى , ولا أيّ بلد وقع , قال البنّاء : وكان الغُلام عرّفني مكان اُمّه وأعطاني شعره , فانتهيت إليها في الموضع الذي دلّني عليه , فسمعت دويّاً كدويّ النّحل من البكاء , فعلمت أنّها اُمّه , فدنوت منها وعرّفتها خبر ابنها , وأعطيتها شعره وانصرفت . كذا في (عيون أخبار الرّضا)
فلمّا ولي الدّوانيقي قتل عبد الله بن مُحمّد بن عبد الله الحُسيني , بالسّند على يد هشام بن عمر التّغلبي , وخنق عبد الله بن الحسن في حبسه , وقتل ابنيه مُحمّداً وإبراهيم على يد عيسى بن موسى العبّاسي , وهزم إدريس بفخّ حتّى وقع على الأندلس فريداً .
وما مات الدّوانيقي , إلاّ أن ملأ سجونه من أهل بيت النّبوة والرّسالة , واقتفيت هذه الآثار حتّى قُتل في أيّام المهدي ؛ الحُسين بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السّلام) ، وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن عليّ (عليهم السّلام) ، وعبد الله بن الحسن بن عليّ بن الحسن (عليهم السّلام) ـ المعروف بالأفطس ـ وكان مع القوم بفخّ .
وسمّ هارون الرّشيد موسى بن جعفر (عليهم السّلام) , وقتل يحيى بن زيد بالسّجن بالجوع والعطش , ويحيى بن الحسن , إلى تمام السّتمئة رجل من أولاد فاطمة (عليهم السّلام) , قُتلوا في مقام واحد .
وقتل المأمون مُحمّد بن إبراهيم بن إسماعيل بن الحسن بن الحسن بن عليّ (عليهم السّلام) , وكان قد خرج ومعه أبو السّرايا , عليّ بن هرثمة بن أعين ، وقتلوا من أصحاب زين العابدين (ع) مثل : خالد الكابُلي وسعيد بن جُبير ، ومن أصحاب الباقر (عليه السّلام) مثل : بشر الرّحال والكُميت بن زيد , ومن أصحاب الصّادق (عليه السّلام) مثل : المُعلّى بن خُنيس ، وقتل المُتوكل من أصحاب الرّضا (عليه السّلام) مثل : يعقوب بن السّكّيت ـ الأديب ـ وسبب قتله ؛ إنّه كان مُعلّماً للمُعين والمؤيد ابني المتوكل , إذ أقبل فقال له : يا يعقوب , أهُما أحبّ إليك أم الحسن والحُسين ؟ فقال : والله , إنّ قنبراً غلام عليّ خير منهما ومن أبيهما . فقال المُتوكل : سلّوا لسانه من قفاه . فسلّوه فمات (رحمة الله عليه) , ومثل دعبل الخُزاعي .
وانتهت بالمُتوكل العداوة لأهل البيت (عليهم السّلام) , إلى أن أمر بهجو عليّ وفاطمة وأولادها (عليهم السّلام) , فهجاهم ؛ ابن المُعتز وابن الجهم , وابن سكرة وآل أبي حفصة , ونحوهم لعنهم الله جميعاً , وصار من أمر المتوكل إلى أن أمر بهدم البناء على قبر الحُسين (عليه السّلام) , وإحراق مقابر قُريش , وفي ذلك أنشد حيث قال :
قام الخليفة من بني iiالعبّاس بخلاف أمر إلهه في iiالناس
ضاها بهتك حريم آل محمّد سـفهاً فعال اُميّة iiالأرجاس
والله مـا فـعلت اُميّة iiفيهم معشار ما فعلوا بنو iiالعبّاس
ما قتلهم عندي بأعظم مأتماً من حرقهم من بعد في الأرماس
ثمّ جرى الظُلم على ذلك , إلى أن هدم سبكتكين مشهد الرّضا (عليه السّلام) , وأخرج أبوابه وأخرج منه وقر ألف جمل مالاً وثياباً , وقتل عدّة من الشّيعة .
قيل : وممّن دُفن حيّاً من الطّالبيين ؛ عبد العظيم الحسني بالرّي , ومُحمّد بن عبد الله بن الحُسين , ولم يبق في بيضة الإسلام بلدة إلاّ قُتل فيها طالبي أو شيعي , حتّى ترى الظَّلَمة يُسلّمون على مَن يعرفونه ؛ دهريّاً أو يهوديّاً أو نصرانيّاً ويقتلون مَن عرفوه شيعيّاً , ويسفكون دم مَن اسمه عليّ , ألا تسمعون ؛ بيحيى المُحدّث , كيف قطعوا لسانه ويديه ورجليه , وضربوه ألف سوط ثمّ صلبوه ؟ وبعليّ بن يقطين كيف اتهموه ؟ وزرارة بن أعين كيف جبهوه ؟ وأبي تراب الرّموزي كيف حبسوه ؟ ومنصور بن الزّبرقان من قبره كيف نبشوه ؟
ولقد لعن بنو اُميّة عليّاً (عليه السّلام) ألف شهر في الجُمع والأعياد , وطافوا بأولاده في الأمصار والبلاد وليس فيها مُسلم ينكر ذلك , حتّى أنّ خطيباً من خُطبائهم بمصر , نسي اللعنة في الخطبة , فلمّا ذكرها , قضاها في الطّريق , فبني في ذلك الموضع مسجداً وسمّوه مسجد الذّكر يتبرّكون به .
ثمّ إنّهم لم يرضوا بذلك حتّى قالوا : مات أبو طالب كافراً . ولا تزال تسمع بذلك , دون أن تسمع عن أبي أو عن .. أو عن.. شيئاً من ذلك .
فيا عجباه , بقيت آثار كسرى إلى الآن وآثار رسول الله دارسة وأعلامه طامسة ! استولوا على ماله بعده وخرّبوا بيته , وأضرموا ناراً على أهل العبا , وحرّفوا كتاب الله , وغيرّوا السّنن وأبدعوا في الدّين , وخذلوا الأوصياء وقتلوا العترة ، وسبوا نساء النّبي وذرّيّته , وذبحوا أطفاله وصبيته , وداروا برؤوسهم في البُلدان من فوق عالي السّنان , فهذه رزيّة لم تُماثلها رزيّة , وبليّة عظمت على كُلّ بليّة ، ولله درّ مَن قال ـ وهو على ما نُقل : أوّل شعر قيل في الحُسين (عليه السّلام) ـ :
إذا الـعين قرت في الحياة وأنتم تـخافون في الدنيا فأظلم iiنورها
مررت على قبر الحُسين iiبكربلا ففاض عليه من دموعي غزيرها
فـما زلت أبكيه وأرثي iiلشجوه ويـسعد عـيني دمها iiوزفيرها
وأبكيت من بعد الحُسين iiعصائبا أطـافت به من جانبيه iiقبورها
سـلام على أهل القبور iiبكربلا وقُـل لـها مني سلام iiيزورها
سـلام بآصال العشي وبالضحى تـؤدّيه نـكبات الرياح ومورها
ولا يبرح الوفاد زوار قبره يفوح عليهم مسكها وعبيرها
وممّا يحسن في هذا الباب , ذكرُ مَن قتله الرّشيد من أولاد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , بعد قتله لموسى بن جعفر (عليه السّلام) بالسّم في ليلة واحدة , سوى مَن قُتل منهم في الليالي والأيّام:
روي عن عبد الله البزاز النّيسابوري , قال : كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطّائي معاملة , فدخلت في بعض الأيّام فبلغه قدومي , فاستحضرني للوقت وعليّ ثياب السّفر لم أغيّرها , وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظّهر , فلمّا دخلت عليه , رأيته في بيت يجري فيه الماء , فسلّمت عليه وجلست , فأتى بطشت وإبريق فغسّل يده وأمرني فغسلت يدي , واُحضرت المائدة وذهب عنّي , فقلت : إنّي صائم وإنّي في شهر رمضان . ثمّ ذكرت فأمسكت يدي , فقال حميد : مالك لا تأكل ؟ فقلت : أيّها الأمير , هذا شهر رمضان ولست بمريض ولا بي علّة توجب الإفطار , وإنّي لصحيح البدن . ثمّ دمعت عيناه وبكى , فقلت له ـ بعدما فرغ من طعامه ـ : ما يبكيك أيّها الأمير ؟ فقال : أنفذ إليّ هارون الرّشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل أن أجب الأمير ، فلمّا دخلت عليه , رأيت بين يديه خادماً واقفاً , فلمّا قمت بين يديه , أذِن لي بالانصراف , فلم ألبث في منزلي حتّى عاد إليّ الرّسول وقال : أجب الأمير . فقلت في نفسي : إنّا لله وإنّا إليه راجعون . وأخاف على نفسي أن يكون قد عزم على قتلي , وإنّه لمّا رآني , استحى منّي فعدت إلى بين يديه , فرفع رأسه وقال : كيف طاعتك لأمير المؤمنين ؟ قلت بالنّفس والمال والأهل والولد . فتبسّم ضاحكاً ، ثمّ قال : أذنت لك بالإنصراف . فلمّا دخلت منزلي , لم ألبث أن عاد إليّ الرّسول , فقال : أجب أمير المؤمنين . فحضرت بين يديه وهو على حاله , فرفع رأسه وقال : كيف طاعتك لأمير المؤمنين ؟ فقلت : بالنّفس والمال والأهل والولد والدّين . فضحك ثمّ قال : خُذ هذا السّيف , وامتثل ما يأمرك به هذا الخادم .
قال : فتناول الخادم السّيف وناولنيه , وجاء إلى بيت بابه مُغلق ففتحه , فإذا فيه بئر في وسطه , وثلاث بيوت أبوابها مُغلقة , ففتح باب بيت منها , فإذا فيه عشرون نفساً عليهم الشّعور والذّوائب , شيوخ وكهول وشبّان مقيّدون , فقال لي : إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء . ـ وكانوا كلّهم علويين من ولد عليّ وفاطمة (عليهم السّلام) ـ فجعل يخرج إليّ واحداً بعد واحد فاضرب عُنقه , حتّى أتيت على آخرهم , فرمى بأجسامهم ورؤوسهم في البئر .
ثمّ فتح باب آخر , فإذا فيه أيضاً عشرون نفساً من العلويين من ولد عليّ وفاطمة مقيّدون , فقال لي : إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء . فجعل يخرج إليّ واحداً بعد واحد , فاضرب عُنقه ويرمي به في تلك البئر , حتّى اتيت على أخرهم .
ثمّ فتح باب البيت الثّالث , فإذا فيه مثلهم عشرون نفساً من ولد عليّ وفاطمة مقيّدون , عليهم الشّعور والدّوائب , فقال لي : إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء أيضاً . أتيت على تسعة عشر نفساً منهم , وبقي شيخ منهم عليه شعر , فقال لي : تبّاً لك يا ميشوم , أيّ عذر لك يوم القيامة إذا قدمت على جدّنا رسول الله , وقد قتلت من أولاده ستّين نفساً من ولد عليّ وفاطمة (عليها السّلام) ؟! ثمّ قال : فارتعشت يدي وارتعدت فرائصي , فنظر إليّ الخادم فزجرني , فاتيت على ذلك الشّيخ أيضاً فقتلته ورميت به في تلك البئر , فإذا كان فعلي هذا وقد قتلت ستّين نفساً من ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , فما ينفعني صومي ولا صلاتي , وأنا لا أشكّ إنّي مُخلد في النّار . كذا في (عيون أخبار الرّضا) .
فيا إخواني , أيّ قلب يستر بعد قتلهم ؟! وأيّ فؤاد يفرح بعد فقدهم ؟! أم أيّة عين تحبس دمعها وتبخل بأنّهما لها ودفعها ؟! كيف وقد بكت لهم ؛ السّبع الشّداد والجبال والأوتاد , والأرض بأرجائها والأشجار بأغصانها , والحيتان في لجج البحار , ومَن في جميع الأمصار والأقطار , والملائكة المقرّبون وأهل السّماوات أجمعين , وكيف لا , وقد أصبح أهل البيت ؛ مطرّدين مشرّدين مذوّدين عن الدّيار , والأوطان والأهل والولدان .
فيا إخواني , اجتهدوا في النّياحة والعويل , وتساعدوا على إقامة هذا المصاب الجليل , والبسوا لباس الأحزان , وتخلّقوا بجلباب الأشجان , وخاطبوا السّلوة خطاب الهجر متمثّلين بقول مَن قال : أيا سلوة الأيّام موعدك الحشر .
فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان والأشجان , فنظم وقال فيهم .
القصيدة للشيخ الخليعي (رحمه الله)
لـم أبـك ربعاً للأحبّة قد iiخلا وعـفا وغـيره الجديد iiوامحلا
كـلا ولا كـلفت صحبي iiوقفة في الدار إن لم أشف صباً عللا
ومـطارح الـنادي وغزلان iiالنقا والـجزع لـم أحـفل بها iiمتغزلا
وبـواكر الأضـعان أسـكب iiلها دمـعاً ولا خـل نـأى iiوتـرحلا
لـكـن بـكيت لـفاطم iiولـمنعها (فـدكاً) وقـد أتت الخؤون iiالأولا
إذ طـالبته بـإرثها فـروى iiلـها خـبراً يـنافي الـمحكم iiالمتنزلا
لـهفي لـها وجـفونها فرحى وقد حـملت مـن الأحزان عبئاً iiمثقلا
وقـد اعـتدت مـنفية iiوحـميها مـتـطيراً بـبـكائها iiمـتـثقلا
تـخفي تـفجعها وتخفض iiصوتها وتـظل نـادبة أبـاها iiالـمرسلا
تـبكي عـلى تكدير دهر ما iiصفا مـن بـعده وقرير عيش ما iiحلا
لـم أنـسها إذ أقـبلت في iiنسوة مـن قـومها تروي مدامعها iiالملا
وتـنفست صـعداً ونـادت أيـها الأنـصار يـا أهل الحماية والكلا
أخـذ الإله لك العهود على iiالورى فـي الذر لما أن يرى وبك iiابتلى
فـي يـوم قال لهم : ألست iiبربكم وعـلي مـولاكم معاً قالوا : iiبلى
قـسماً بوردي من حياض iiمعارفي وبشربتي العذب الرحيق iiالسلسلا
ومـن اسـتجارك من نبي iiمرسلا ودعـى بـحقك ضارعاً iiمتوسلا
لـو قـلت إنـك رب كل iiفضيلة مـا كـنت فـيما قـلته iiمـتنحلا
أو بحت بالخطر الذي أعطاك رب الـعرش كـادوني وقالوا قد iiغلا
فـإليك مـن تقصير عبدك iiعذره فـكـثير مـا أبـكي أراه iiمـقللا
بـل كـيف يبلغ كنه وصفك iiقائل وأبـيه فـي عـلياك أبـلغ مقولا
ونـفائس الـقرآن فـيك iiتنزّلت وبـك اغـتدى مـتحلياً iiمـتجملا
فـاستحلها بـكراً فـأنت iiمـليكها وعـلى سواك تجل من أن iiيجتلى
ولـئن بـقيت لأنـظمن iiقـلائداً يـنسى تـرصعها الـنظام iiالأولا
شـهـد الإلــه بـأني iiمـتبرئ مـن حـبتر ومـن الدلام ونعثلا
وبـراءة الخلعي من عصب iiالخنا تـبنى عـلى أن البرا أصل iiالولا