الرئيسيةبحث

المقامات

المقامات
  ► فهرس :إسلام ☰  
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه.

أما بعد، فليعلم أن هذا الذي علقته في هذه الورقات قد اقتصدت فيه واقتصرت على ما تحصل به الفائدة ويحصل به الثواب من الرب الكريم الوهاب لأنه من أفضل الجهاد في الدين والنصيحة لعامة المسلمين ولمن يصل إليه ممن له رغبة في معرفة حقيقة الدين الذي بعث الله به الأنبياء والمرسلين.

فأقول قبل الشروع في تحرير الجواب: إن عثمان بن منصور اعترض على شيخنا رحمه الله تعالى فيما دعا إليه من توحيد الله تعالى من الحنيفية ملة إبراهيم وما بعث به محمد النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليهما وعلى جميع المرسلين، فقال إنه لم يتخرج على أشياخ في العلم. وهذا مما افتراه واختلقه عمن استند إليه من شيوخه الثلاثة ابن سند وابن جديد وابن سلوم، وهذا من جهلهم بحال شيخنا وشدة عداوتهم له. فتلقى عن هؤلاء الثلاثة ما زعموه من الكذب والبهتان.

فالجواب عن هذا من وجوه:

الأول: أنه لا يعرف شيخنا ولا حيث نشأ كما يعرفه الخبير بحاله ممن يقول الحق ويقصده ويتحرى الصدق ويؤثره، فلا ريب أنه لما قدم جده سليمان بن علي من الروضة ونزل العيينة كان أفقه أهل نجد في وقته، فتخرج عليه خلق كثير من أهل نجد منهم ابناه عبد الوهاب وإبراهيم، وكان المتولي للقضا في العارض أبوه عبد الوهاب، وكان عمه يسافر إلى ما حولهم من البلاد لحاجتهم إليه في الإفتاء وما يقع بينهم من بيع العقارات، وكان عليه اعتمادهم فيما كتبه وأثبته، وأكثر إقامته مع أخيه عبد الوهاب. فظهر شيخنا بين أبيه وعمه فحفظ القرآن وهو صغير، وقرأ في فنون العلم، وصار له فهم قوي وهمة عالية في طلب العلم فصار يناظر أباه وعمه في بعض المسائل بالدليل على بعض الروايات عن الإمام أحمد والوجوه عن الأصحاب. فتخرج عليهما في الفقه وناظرهما في مسائل قرأها في الشرح الكبير والمغني والإنصاف لما فيها من مخالفة ما في متن المنتهى والإقناع، وعلت همته إلى طلب التفسير والحديث، فسافر إلى البصرة غير مرة، كل مرة يقيم بين من كان فيها من العلماء، فأظهر الله له من أصول الدين ما خفي على غيره، وكذلك ما كان عليه أهل السنة في توحيد الأسماء والصفات والإيمان. فيقال في الجواب: أنت يابن منصور إنما افتخرت في رحلتك إلى البصرة والزبير وإقامتك بين أشياخك الثلاثة فما الذي خصك بأخذ العلم منها دونه إذا كان الكل قد سافر إليها وجالس العلماء وتميز عنك بالأخذ عمن لا يتهم في حقه بالكذب والزور، وأنت قبلت فيه قول أهل الريب والفجور. وصنف في البصرة كتاب التوحيد الذي شهد له بفضله بتصنيفه له القريب والبعيد، أخذه من الكتب التي في مدارس البصرة من كتب الحديث. وأما أنت يا ابن منصور فأي علم جئت به من رحلتك، ضيعت زمانك وأخمدت شانك وصرت ضحكة عند من أخذ عن هذا الشيخ، وقد عدوا عليك من الغلطات ما لا فائدة في عده ها هنا، وأنت لم تنقل عنهم واحدة غلطوا فيها، وذلك ببركة ما حصلوه ممن أخذ عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. فكيف حالك لو رأيت من أخذ عنه لكنت في نفسك أحقر. ومن الدليل على ما ذكرته هنا أنه طلب الإجازة من مملي هذا الكلام فأجازه بمروياته في الحديث وغيره ظنا مني أنه على هدى وأنه بأهل العلم قد اقتدى. ثم إن شيخنا رحمه الله تعالى بعد رحلته إلى البصرة وتحصيل ما حصل بنجد وهناك رحل إلى الأحساء، وفيها فحول العلماء منهم عبد الله بن فيروز أبو محمد الكفيف ووجد عنده من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ما سُر به، وأثنى على عبد الله هذا بمعرفته بعقيدة الإمام أحمد، وحضر مشايخ الأحساء ومن أعظمهم عبد الله بن عبد اللطيف القاضي، وطلب منه أن يحضر الأول من فتح الباري على البخاري وبين له ما غلط فيه الحافظ في مسألة الإيمان وبين أن الأشاعرة خالفوا ما صدّر البخاري كتابه من الأحاديث والآثار، وبحث معهم في مسائل وناظر - هذا أمر مشهور يعرفه أهل الأحساء وغيرهم من أهل نجد. فإذا خفي عليك يا ابن منصور هذا أو جحدته فغير مستغرب؛ والعدو يجحد فضايل عدوه.

كل العداوة قد ترجى مودتها ** إلا عداوة من عاداك في الدين

ثم إن شيخنا رحمه الله رجع من الأحساء إلى البصرة وخرج منها إلى نجد قاصدا الحج، فحج رحمه الله تعالى وقد تبين له بما فتح الله تعالى عليه ضلال من ضل باتخاذ الأنداد وعبادتها من دون الله في كل قطر وقرية إلا من شاء الله. فلما قضى الحج وقف في الملتزم وسأل الله تعالى أن يظهر هذا الدين بدعوته وأن يرزقه القبول من الناس فخرج قاصدا المدينة مع الحاج يريد الشام فعرض له بعض سراق الحجيج فضربوه وسلبوه وأخذوا ما معه وشجوا رأسه وعاقه ذلك عن مسيره مع الحاج، فقدم المدينة بعد أن خرج الحاج منها فأقام بها وحضر عند العلماء إذ ذاك منهم محمد حياة السندي، وأخذ عنه كتب الحديث إجازة في جميعها وقرآةً لبعضها ووجد فيها بعض الحنابلة فكتب كتاب الهدي لابن القيم بيده، وكتب متن البخاري وحضر في النحو وحفظ ألفية ابن مالك. ثم رجع إلى نجد وهم على الحال التي لا يحبها الله ولا يرضاها من الشرك بعبادة الأموات والأشجار والأحجار والجن، فقام فيهم يدعوهم إلى التوحيد وأن يخلصوا العبادة بجميع أنواعها لله وأن يتركوا ما كانوا يعبدونه من قبر أو طاغوت أو شجر أو حجر - والناس يتبعه منهم الواحد والاثنان، فصاح به الأكثرون وحذروا منه الملوك وأغروهم بعداوته، حتى إن ابن حميد ملك الأحساء والقطيف والبادية أرسل إلى ابن معمر أمير العيينة أن يقتله أو ينفيه، فنفاه إلى الدرعية وتلقاه محمد بن سعود رحمه الله تعالى وأولاده وإخوته فصبروا على حرب القريب والبعيد حتى أظهر الله هذا الدين فنجا بدعوته من نجاه الله من الشرك والضلال وهلك بدعوته من هلك ممن بغى وطغى واستكبر وحسد. وكل من دعا إلى ما دعت إليه الرسل لا بد أن يقع له من الناس ما وقع لهم. والمقصود ذكر نعمة الله تعالى على شيخنا وبيان كذب المفتري، وأنه نشأ في طلب العلم وتخرج على أهله في سن الصبا، ثم رحل لطلب العلم للبصرة مرارا وللأحساء ثم إلى المدينة، والمعول على ما وهبه الله تعالى من الفهم والحفظ وتمييز الحق من الباطل ومعرفة حقيقة التوحيد وما ينافيه من الشرك الأكبر وسبيل أهل السنة ومعرفة ما خالف السنة من البدع - أعطاه الله في ذلك علما عظيما، فصار بذلك يشبه أكابر علماء السنة وما كان عليه السلف الصالح، فصار آية في العلوم ونفع الله بدعوته الخلق الكثير والجم الغفير، وبقيت علومه في الناس يعرفها العام والخاص من أهل نجد وغيره. وما أنكر هذه الدعوة الإسلامية بعد ظهورها في نجد وما والاه إلا جاهل معاند لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فدحضت بحمد الله حجة كل مجادل ومماحل، فأتم الله نعمته على من قبل هذه الدعوة الإسلامية. وقد قال بعض العلماء رحمهم الله: الإخلاص سبيل الخلاص والإسلام مركب السلامة والإيمان خاتم الأمان. فالحمد لله على هذه النعمة العظيمة التي لا نعمة أكبر منها ولا أعظم منها ولا أنفع.

إذا عرف مما تقدم ما افتراه ابن منصور على شيخنا وأنه صدر عن غير علم ولا معرفة بحاله في نشأته وطلبه فينبغي أن نزيد ما تقدم من الانتصار لإمام الدعوة الإسلامية النبوية رحمة الله عليه فنقول: ما أدراه عن حال شيخنا رحمه الله تعالى وقد تقدم ما يدل على أنه لا دراية له ولا عناية بحاله يعرف ذلك مما قدمناه. ومن المعلوم أنه لا يعتني بمعرفة حال مثله إلا من أحبه وأحب ما قام به ودعا إليه؛ وأما من انحرف عنه وعن دعوته في مبدأ نشأته وتوجه برحلته إلى من اشتدت عداوته له في دينه، كابن سند وابن سلوم وابن جديد، فهؤلاء الثلاثة المذكورون قد أشربوا عداوة التوحيد ومن دعا إليه، فصار أهل التوحيد هم أعداؤهم بما اشربوه من كراهته وكراهة من دان به، فأخذ عنهم ما وضعه في كتبه من الزور والكذب والفجور وانتصر فيها لعباد القبور، وزعم أنهم مسلمون لأنهم يقولون لا إله إلا الله ويصلون - والعدو لا يرى محاسن عدوه خصوصا إذا عاداه في الدين - وصاروا أعداء لكل موحد ونصرة لكل مشرك ملحد. فأخذ عنهم هذه البضاعة وامتنع على إمام المسلمين بما أودعه كتبه من الشناعة. ولا ريب أن شره إنما يعود إليه ويرجع وبال ذلك كله عليه. والمقصود أن يعلم أن هؤلاء الثلاثة هم أشياخه الذين تخرج عليهم بالانحراف عن الدين وتضليل الموحدين، ولولا أنه شحن كتبه بذلك لما ذكرناه. فهذا هو المحصول الذي حصله والأساس الذي أسسه وأصله. فقدم نجدا بعد طول المقام عند أولئك الملحدين المنحرفين عن الدين، فصار حظه جمع الكتب من غير رواية لها ولا دراية، ولم يُر للعلم عليه أثر مع أن هؤلاء مع ما فيهم من العداوة صاروا أعقل منه فلم يكتبوا شيئا من هذه الأكاذيب والزندقة والتخليطات الفاسدة، وهذا لقلة عقله وفساد قصده جرى منه ما جرى. وبالجملة فقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: فالحاسد يحمله بغض المحسود على مماداته والسعي في أذاه بكل ممكن مع علم بفضله وعلمه وأنه لا شيء فيه يوجب عداوته إلا محاسنه وفضائله، ولهذا قيل الحاسد عدو النعم والمكارم، فالحاسد لم يحمله على معادات المحسود جهله بفضله أو كماله، وإنما حمله على ذلك فساد قصده وإرادته كما هي حال أعداء الرسل مع الرسل. انتهى.

وقال العماد بن كثير في تفسيره: قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. والآيات في هذا المعنى كثيرة دالة على أن الله عز وجل يجازي من قصد الخير بالتوفيق له ومن قصد الشر بالخذلان، وكل ذلك بقدر مقدر. ونسأل الله الكريم رب العرش العظيم بكلماته وبيناته التي أنزلها على نبيه محمد ﷺ لهداية عباده أن يجعل ما كتبناه في هذا وغيره نصرة لهذا الدين الذي أكرم به عباده المؤمنين وأن لا يجعله انتصارا لأنفسنا ولا لسلفنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونسأله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

وقد أخبرنا شيخنا رحمه الله تعالى أنه كان في ابتداء طلبه للعلم وتحصيله في فن الفقه وغيره لم يتبين له الضلال الذي كان الناس عليه من عبادة غير الله من جن أو غائب أو طاغوت أو شجر أو حجر أو غير ذلك. ثم إن الله جعل له نهمة في مطالعة كتب التفسير والحديث وتبين له من معاني الآيات المحكمات والأحاديث الصحيحة أن هذا الذي وقع فيه الناس من هذا الشرك أنه الشرك الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بالنهي عنه وأنه الشرك الذي لا يغفره الله لمن لم يتب منه. فبحث في هذا الأمر مع أهله وغيرهم من طلبة العلم فاستنار قلبه بتوحيد الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، فأعلم بالدعوة إليه وبذل نفسه لذلك على كثرة المخالفين وصبر على ما ناله من الأذى العظيم في ابتداء دعوته، فلما اشتهر أمره أجلبوا عليه بالعداوة خصوصا العلماء والرؤساء وحرصوا على قتله، فأتاح الله له من ينصره على قلة منهم وحاجة، وتصدى لحربهم القريب والبعيد، واستجلبوا على حربهم الدول. ونذكر بعض ما جرى عليهم ممن عاداهم وتأييد الله لهم ونصره على قلة منهم وضعف وقوة من عدوهم وكثرة لما فيه من العبرة والشهادة لهم أنهم على الحق، وعدوهم على الباطل، فأخذت من حفظ بعض الوقائع التي جرت عليهم من عدوهم في الدين وفيها شبه بما جرى لنبينا ﷺ من عدوه ونصر الله له فأقول:

المقام الأول

إن شيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى لما ألهمه الله رشده وفتح بصيرته في تمييز الحق من الضلال وأنكر ما عليه الناس من الشرك فبادروه بالعداوة والإنكار لمخالفتهم ما قد اعتادوه ونشؤا عليه هم وأسلافهم من الشرك والبدع وأعظم من عاداه ونفر الناس عن دعوته العلماء والرؤساء كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وفيه مشابهة لنبينا ﷺ فيما ناله من الرؤساء والأحبار في الابتداء، فإن شيخنا رحمه الله تعالى أظهر هذه الدعوة في بلد العيينة وهي في أعلا وادي حنيفة فاستحسن دعوته من استحسنها وقبلها من قبلها وأنكرها من أنكرها. ثم إن أهل الأحساء لما استصرخوا شيخهم سليمان المحمد شيخ بني خالد أرسل إلى ابن معمر شيخ العيينة بأن يقتله، فهاجر إلى الدرعية بلد محمد بن سعود فتلقاه هو وأولاده بالقبول، وتابعهم على ذلك أكثر أهل بلده وقبيلته على قلة منهم وضعف كما قدمناه، فصبروا على مخالفة الناس والملوك ممن حولهم والبعيد عنهم، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. ولهذا تحمل هذا الرجل وأتباعه عداوة كل من عادى هذا الدين. قال تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، وقد قال هرقل لأبي سفيان: "وسألتك هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه فذكرت أن لا، فكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب". فأشبه أمر هذا الشيخ رحمه الله تعالى ما جرى لخاتم النبيين حتى في مهاجره وأنصاره وكثرة من عاداه وناواه في الابتداء، كما هو حال الحق في المبادي يرده الكثير وينكرونه ويقبله القليل وينصرونه، فأول من عاداهم أقرب الناس إليهم بلدا وأقواه كثرة ومالا: بلاد دهام بن دواس، وهو أول من شن الغارة عليهم على غفلة وغرة وعدم الاحتساب منهم، فخرجوا إليه على عجل فقتل منهم رجالا منهم فيصل ابن محمد بن سعود وسعود بن محمد بن سعود. فسبحان من قوى جأش هذا الرجل على نصرة هذا الدين حين قتل ابناه. ثم سطى عليهم مرة ثانية فقتل كثير ممن سطى بهم فأخذ المسلمون الثأر منهم. ثم بعد ذلك استمر الحرب بينهم وبينه أكثر من ثلاثين سنة وفي تلك الثلاثين سنة أو أكثر أعانه على حربهم أهل نجران وابن حميد شيخ بني خالد مرارا فيأتونهم بأنواع الكيد والكثرة فينصرهم الله عليهم، وفي ذلك أعظم عبرة. وبعد هذه المدة وقع بينه وبين المسلمين وقعة بين البلدين فقتل فيها ابناه دواس وسعدون فانتهى أمره فخرج من بلده هاربا في يوم صيف شديد الحر وتبعه من تبعه، فصارت بلده فيئا للمسلمين ولم يبق لآل دواس بعد ذلك عين تطرف، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}.

المقام الثاني

ما في دعوة هذا الشيخ ابتداء من المشابهة لما جرى للنبي ﷺ في أول دعوته قريشا والعرب إلى التوحيد والإيمان بالقرآن، وقد قال ﷺ: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ"، وفي حديث عمرو بن عبسة الذي رواه مسلم وغيره أنه قدم مكة، فاجتمع بالنبي ﷺ في أول بعثته فأخبره أن الله بعثه بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيء، وغير ذلك مما هو مذكور في الحديث من نفي عبادة الأوثان والأمر بمكارم الأخلاق، فقال له عمرو: من معك على هذا؟ قال: "حر وعبد" ومعه يومئذ أبو بكر وبلال. فما زال الحق يزيد بزيادة من قبله ودخل فيه حتى أكمل الله لهذه الأمة الدين وأتم عليهم النعمة. وقد قال هرقل لأبي سفيان لما سأله عن أتباع النبي ﷺ: أيزيدون أم ينقصون؟ قال: بل يزيدون، قال هرقل: وكذلك أتباع الرسل. وبهذه المشابهة يتحقق المنصف أن هذا الدين الذي دعا إليه هو الحق، وأنه هو الذي دعا إليه رسول الله ﷺ كما دلت عليه الآيات المحكمات التي لا يخفى معناها إلا على من عميت بصيرته وفسدت سريرته. فتأمل حماية الله ونصره لمن قبل هذه الدعوة ونصرها على ضعف منهم في الحال وقلة من العدد والرجال مع كثرة من خالفهم من قريب وبعيد وكثير وقليل مع الكيد الشديد؛ فأبطل الله كيدهم وصارت الغلبة للحق وأهله ومحق الله الباطل وأهله.

المقام الثالث

وفيه حجة أيضا ومعتبر ودليل على صحة هذا الدين ومدكر لمن عقل وافتكر. وذلك أن الذين أنكروا هذه الدعوة من الدول الكبار والشيوع وأتباعهم من أهل القرى والأمصار أجلبوا على عداوة هذا العدد القليل في حال تخلف الأسباب عنهم وفقرهم فرموهم عن قوس العداوة من أهل نجد دهام بن دواس المتقدم وابن زامل وآل بجاد أهل الخرج، ومحمد بن راشد راعي الحوطة وتركي الهزاني وزيد ومن والاهم من الأعراب والبوادي، كذلك العنقري في الوشم ومن تبعه وشيوخ قرى سدير والقصيم وبوادي نجد وابن حميد ملك الأحساء ومن تبعه من حاضر وباد، وكلهم تجمعوا لحرب المسلمين مرارا عديدة مع عريعر وأولاده منها نزولهم على الدرعية وهي شعاب لا يمكن تحصينها بالأبواب والبناء، وقد أشار إلى ذلك العلامة حسين بن غنام رحمه الله حيث يقوله:

وجاؤا بأسباب من الكيد مزعج ** مدافعهم يزجي الوحوش رنينها

فنزلوا البلاد واجتمع من اجتمع من أهل نجد حتى من يدعي أنه من العلماء. ولما قيل لرجل منهم وهو من أمثل علمائهم وعقلائهم كيف أشكل عليكم أمر عريعر وفساده وظلمه، وأنتم تعينونه وتقاتلون معه؟ فقال: لو أن الذي حاربكم إبليس كنا معه. والمقصود أن الله تعالى ردهم بغيضهم لم ينالوا خيرا، وحمى الله تلك القرية فلم يشربوا من آبارها. وأما وزير العراق فمشى مرارا عديدة بما يقدر عليه من الجنود والكيد الشديد وأجرى الله تعالى عليهم من الذل ما لا يخطر ببال قبل أن يقع بهم ما وقع، من ذلك أن ثويني في مرة من المرار مشى بجنوده إلى الأحساء بعدما دخل أهلها في الإسلام في حال حداثتهم بالشرك والإضلال، فلما قرب من تلك البلاد أتاه رجل مسكين لا يعرف من غير ممالات أحد من المسلمين فقتله فمات، فنصر الله هذا الدين برجل لا يعرف، وذلك مما به يعتبر، فانفلت تلك الجنود وتركوا ما معهم من المواشي والأموال خوفا من المسلمين ورعبا، فغنمها من حضر. وقد قال الشيخ حسين بن غنام في ذلك.

تقاسمتم الأحساء قبل منالها ** فللروم شطر والبوادي لها شطر

ثم جددوا أسبابا لحرب المسلمين، وساروا بدول عظيمة يتبع بعضها بعضها وكيد عظيم، فنزلوا الأحساء وقائدهم علي كيخيا فتحصن من ثبت على دينه في الكوت وثغر صاهود فنزل بهم وصار يضربهم بالمدافع والقنابل وصفر اللغوب، فأعجزه الله ومن معه ممن ارتد عن الإسلام فولى مدبرا بجنوده، فاجتمع سعود بن عبد العزيز في تاج وغزوه الذين معه رحمه الله، والذين معه من المسلمين أقل من المتفق أو الظفير الذين مع الكيخيا، فألقى الله الرعب في قلوبهم على كثرتهم وقوتهم فصارت عبرة عظيمة، فطلبوا الصلح على أن يدعهم سعود يرجعوا إلى بلادهم، فأعطاهم أمانا على الرجوع فذهبوا في ذل عظيم، فلما قدم كل منهم مكانه مات سليمان باشا وذلك من نصر الله لهذا الدين، فأهلك الله من أنشأ هذه الدول. ثم قام علي كيخيا فصار هو الباشا فأخذ يجدد آلة الحرب فجمع من الكيد والأسباب أعظم مما كان معه في تلك الكرة، فلما كملت أسبابه وجمع الجموع فلم يبق إلا خروجه لحرب المسلمين لينتقم من أهل هذا الدين سلط الله عليه صبيين مملوكين عنده يبيتون فقتلوه آخر الليل فخمدت تلك النيران وتفرقت تلك الأعوان، فما قام لهم قائمة حتى الآن، فيا لها عبرا ما أظهرها لمن له أدنى بصيرة {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} فأين ذهب عقل من أنكر هذا الدين وجادل وكابر في دفع الأدلة على التوحيد وما حل.

المقام الرابع

ما جرى من العبر في حرب أشراف مكة لهذه الدعوة الإسلامية والطريقة المحمدية رجوعه إلى أشراف مكة وذلك أنهم من أول من بدأ المسلمين بالعداوة فحبسوا حاجّهم فمات في الحبس منهم عدد كثير، ومنعوا المسلمين من الحج أكثر من ستين سنة. وفي أثناء هذه المدة سار إليهم غالب الشريف بعسكر كثيف وكيد عنيف، فقدم أخاه عبد العزيز قبله في الخروج فنزل على قصر بسام فأقام مدة يضرب بالمدافع والقنابل وجر عليه الزحافات فأبطل الله كيده على هذا القصر الضعيف بناؤه القليل رجاله، فشد منه ووافى غالبا ومعه أكثر الجنود ومعه من الكيد مثل ما كان مع أخيه أو يزيد، فنزلوا جميعا الشعرا فجد في حربهم بكل كيد فأعجزه الله تعالى عن ذلك البناء الضعيف الذي لم يتأهب أهله لحرب بالبنا ولا بالسلاح، فأبطل الله كيده ورده عنهم بعد الإياس والإفلاس، فسلط الله المسلمين على من كان معه من الأعراب خصوصا مطير، فأوقع الله بهم في العداوة ومعهم مطلق الجربا فهزمهم الله تعالى وغنم المسلمون جميع ما كان معهم من الإبل والخيل وسائر المواشي فصار ما ذكرناه من نصر الله وتأييده لأهل هذا الدين عبرة عظيمة، وفي جملة قتلاهم حصان إبليس. وبعد ما ذكرناه جد غالب في الحرب واجتهد لكن صار حربه للأعراب ولم يتق النير، فيغدوا على من استضعفه ويغير، فأعطى الله أعراب المسلمين الظفر عليه في عدة وقعات من أعظمها وقعة الخرمة على يد ربيع وغزوه من أهل الوادي وبعض قحطان فهزمه الله تعالى واشتد القتل في عسكره فأخذوا جميع ما كان معه من المواشي وغيرها فصار بعد ذلك في ذل وهوان، ففتح الله الطائف للمسلمين وصار أميره عثمان بن عبد الرحمن، فاجتمع فيه دولة للمسلمين وساروا لحرب الشريف ومعهم عبد الوهاب أبو نقطة أمير عسير وسالم ابن شكبان أمير أهل بيشة فنزلوا دون الحرم فخرج إليهم عسكر من مكة فقتلوه فطلب الشريف المذكور منهم الأمان فلم يقبلوا منه إلا الدخول في الإسلام والبيعة للإمام سعود، فأعطاهم البيعة على يد رجال بعثوهم إليه، هذا بعد وقعات تركنا ذكرها كراهة الإطالة لأن القصد بهذا الوضع الاعتبار بما جرى لأهل هذه الدعوة من النصر والتأييد والظهور على قلة أسبابهم وكثرة عدوهم وقوته، وذلك من آيات الله وبيناته على أن ما قام به الشيخ في حال فساد الزمان أنه الدين الذي بعث الله به المرسلين، وتبين أن هذه الطائفة في هذه الأزمنة هي الطائفة المذكورة في قوله ﷺ: "ولا تزال طائفة من أمتى على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك". وقد كانت هذه الطائفة قبل ظهور الشيخ فيما تقدم موجودة في الشام والعراق ومصر وغيرها بوجود أهل السنة وأهل الحديث في القرون المفضلة وبعدها؛ فلما اشتدت غربة الإسلام وقل أهل السنة واشتد النكير عليهم وسعى أهل البدع في إيصال المكر إليهم من الله بهذه الدعوة فقامت بها الحجة واستبانت المحجة، فيا سعادة من قبلها وأحبها ونصرها، وذلك في فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وأهل العلم من أتباع السلف والأئمة لهم المصنفات المفيدة في بيان التوحيد: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، والكثير منها موجود بأيدي علماء المسلمين، وما علمنا أحدا بعد القرن الثامن في حال اشتداد غربة الإسلام يذكر بمعرفة ما عليه أهل السنة في أنواع التوحيد أو يلتفت إلى كتبهم ولا عرفوا الشرك الذي لا يغفره الله، فلذلك لم ينكره فيهم منكر ولا أخبر بوقوعه من علمائهم مخبر، حتى أظهر الله هذا النور وشفى الله به الصدور وظهرت كتب أهل السنة وعظمت بمعرفتها والدعوة إليها المنة، يعرف ذلك من عرفه وشكره وأحبه وقبله، فلا عبرة بمن أخلد إلى أرض الغفلة والإعراض وجهله.

المقام الخامس

إن كان من ذكرنا ممن عاداهم من أهل نجد والأحساء وغيرهم من البوادي أهلكهم الله ولحقتهم العقوبة حتى في الذراري والأموال، فصارت أموالهم فيئا لأهل الإسلام كما يروى عن زيد بن عمرو بن نفيل:

عجبت وفي الليالي معجبات ** وفي الأيام يعرفها البصير

بأن الله قد أفنى رجالا ** كثيرا كان شأنهم الفجور

وأبقى آخرين بدار قوم ** فيربو منهم الطفل الصغير

وانتشر ملكهم، وصار كل من بقي في أماكنهم سامعا مطيعا لإمام المسلمين القائم بهذا الدين، فانتشر ملك أهل الإسلام حتى وصل إلى حدود الشام، مع الحجاز وتهامة وعمان، وصاروا بحمد الله في أمن وأمان، يخافهم كل مبطل وشيطان، ففي هذا معتبر لأهل الاعتبار، مع ما وقع بمن حاربهم من الخراب والدمار واستيلاء المسلمين على ما كان لهم من العقار والديار. فلا يرتاب في هذا الدين بعد هذا البيان إلا من عميت بصيرته وفسدت علانيته وسريرته.

المقام السادس

إن كل من أظهر النفاق وأظهر الشقاق صار مكروها مبغضا ممقوتا، وكل ما أبداه المشبهون والمموهون من زخرفهم وكذبهم وباطلهم وعنادهم وفسادهم في أقوالهم وأحوالهم انعكس عليهم المراد وحرموا التوفيق والسداد، صاروا مثله حتى استوحش منهم أكثر العباد ومقتهم كل حاضر وباد، فما صار لهم باطل يظهر ولا شبهة تذكر اللهم إلا ما كانوا يستخفون به عن الناس حين ظهرت أنوار التوحيد واستعلت وزال بها الالتباس مخافة المقت والشناعة حين فسدت لهم تلك البضاعة، وهذه العبر يعتبر بها الأريب إذ هو من الحق وقبول العلم قريب.

المقام السابع

إن كثيرا ممن عاداهم ابتداء تبين له صحة ما دعا إليه هذا الشيخ وأنه الحق الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وأنه علّم من اتبعه ما أوجب الله عليهم وحرمه وعلّمهم مكارم الأخلاق ونهاهم عن سفسافها. فمن ذلك ما حدثنا به عثمان بن عبد الرحمن المضايفي لما أتانا راغبا في هذا الدين أن جاسر الحسيني الذي جلا من حرمه لعداوته هذا الدين سكن بغداد ثم صار في سنين ظهور الإسلام في نجد وما والاه حضر عند الشريف غالب مجاورا فسمع الشريف المذكور يسب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، فقال له: يا شريف لك علي من المعروف ما يوجب أن أنصح لك، لا تقل هذا في الشيخ محمد بن عبد الوهاب فإنه قام بنجد وهم في أسوأ حال من الفساد والظلم فجمعهم الله تعالى بعد التفرق والاختلاف وعلمهم مكارم الأخلاق، حتى ما ينبغي أن يقولوه في مخاطباتهم وما لا ينبغي أن يقولوه من الألفاظ المستكرهة، فاحذر أن تذكره بسوء. وهذا الذي ذكره جاسر للشريف اعترف به كثير حتى من أهل مصر والشام والعراق، اعترفوا بصحة هذه الدعوة الإسلامية والسنة المحمدية وأكثروا الدعاء له. وهذا من العبر والدلالة على صحة ما جدده شيخ الإسلام من الدين بعدما اشتدت غربته في كل زمان ومكان وصار من يطلب العلم ويعلمه لا يعرف حقيقة التوحيد ولا ما ينافيه من الشرك والتنديد مع قراءتهم للقرآن والأحاديث لكن جهلوا ما هو المراد من الحق الذي يأمرهم به رب العالمين، فظهر الحق بعد الخفا وتبين ما دلت عليهم الآيات المحكمات والبراهين البينات، وتبين الحق بعد أن كان مجهولا وعرف الباطل فصار بهذه الدعوة مخذولا. فهذا مقام لا يخفى إلا على من جحد الحق وكابر وعاند ممن عميت بصيرته، نعوذ بالله من رين الذنوب وموت القلوب.

المقام الثامن

إن الله تعالى ألبس هذه الطائفة أفخر لباس واشتهر في الخاصة والعامة من الناس فلا يسميهم أحد إلا بالمسلمين، وهو الاسم الذي سمى الله به عباده المؤمنين من أصحاب سيد المرسلين، فقال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا}. فهذا الاسم ألحقه الله أصحاب رسوله وألحقه هذه الطائفة كما ألحقه هذه إخوانهم من السابقين الأولين. فيا لها عبرة ما أقطعها لحجة من شك وارتاب وما أنفعها في الاعتبار لمن أراد الحق وطلبه وإليه أناب. فهذا تمام الثمانية فاقرأها وتدبرها سرا وعلانية، وقد اقتصرت فيها غاية الاقتصار وأشرت إلى بعض الوقائع بإيجاز واختصار، نسأل الله أن يجعلها نافعة ولمن أبداها وكتبها وانتفع بها شافعة والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا - سنة 1283هـ.

وهذا هو المقام التاسع

وأما الدول التركية المصرية فابتلى الله بهم المسلمين لما ردوا حجاج الشام عن الحج بسبب أمور كانوا يفعلونها في المشاعر، فطلبوا منهم أن يتركوها وأن يقيموا الصلاة جماعة، فما حصل منهم ذلك، فردهم سعود رحمه الله تعالى، فغضبت الدولة التركية، وجرى عندهم أمور يطول عدها ولا فائدة في ذكرها، فأمروا محمد علي صاحب مصر أن يسير إليهم بعسكره وبكل ما يقدر عليه من القوة والكيد. فبلغ سعودا ذلك فأمر ابنه عبد الله أن يسير لقتالهم وأمره أن ينزل دون المدينة، فاجتمعت عساكر الحجاز على عثمان بن عبد الرحمن المضايفي وأهل بيشة وقحطان وجميع العربان، فنزلوا الجديدة، فاختار عبد الله بن سعود القدوم عليهم والاجتماع بهم، وذلك أن العسكر المصري في ينبع، فاجتمع المسلمون في بلد حرب، وحفروا في مضيق الوادي خندقا وعبوا الجموع، فصار في الخندق من المسلمين أهل نجد، وصار عثمان ومن معه من أهل الحجاز في الجبل فوق الخندق، فحين نزل العسكر أرزت العساكر خيولهم، وعلموا أنه لا طريق لها إلى المسلمين، فأخذوا يضربون بالقبوس فدفع الله شر تلك القبوس الهائلة عن المسلمين إن رفعوها مرّت ولا ضرت، وإن خفضوها اندفنت في التراب، فهذه عبرة، وذلك أن أعظم ما معهم من الكيد أبطله الله في الحال. ثم مشوا على عثمان ومن معه في الجبل، فتركهم حتى قربوا منه بما احتسبوهم به وما أعدو لهم حين أقبلوا عليهم، فما أخطأ لهم بندق، فقتلوا العسكر قتلا ذريعا، وهذه أيضا من العبر، لأن العسكر الذي جاءهم أكثر منهم بأضعاف، ومع كل واحد من الفرود والمزندات، فما أصابوا رجلا من المسلمين وصار القتل فيهم، وهذه أيضا عبرة عظيمة، هذا كله وأنا أشاهده. ثم مالوا إلى الجانب الأيمن من الجبال بجميع عسكرهم من الرجال، وأما الخيل فليس لها فيه مجال، فانهزم كل من كان على الجبل من أهل بيشة وقحطان وسائر العربان إلا ما كان من حرب فلم يحضروا، فاشتد على المسلمين لما صاروا في أعلى الجبل، فصاروا يرمون المسلمين من فوقهم، فحمي الوطيس آخر ذلك اليوم، ثم من الغد، فاستنصر أهل الإسلام ربهم الناصر لمن ينصره، فلما قرب الزوال من اليوم الثاني نظرت فإذا برجلين قد أتيا فصعدا طرف ذلك الجبل، فما سمعنا منهم بندقا ثارت، إلا أن الله كسر ذلك البيرق ونحن ننظر، فتتابعت الهزيمة على جميع العسكر فولوا مدبرين، وجنبوا الخيل والمطرح، وقصدوا لطريقهم الذي جاؤا معه، فتبعهم المسلمون يقتلون ويسلبون، هذا ونحن ننظر إلى تلك الخيول قد حارت وخارت، وظهر عليهم عسكر من الفرسان من جانب الخندق ومعهم بعض الرجال فولت تلك الخيول مدبرة، فتبعتهم خيول المسلمين في أثرهم، وليس معهم زاد ولا مزاد. فانظر إلى هذا النصر العظيم من الإله الحق رب العباد، لأن الله هزم تلك العساكر العظيمة برجلين، فهذه ثلاث عبر لكن أين من يعتبر، فأخذوا بعد ذلك مدة من السنين.

ثم بعد ذلك سار طلسون كبير ذلك العسكر الذي هزمه الله فقصد المدينة فورا، وأمر سعود على عبد الله ومن معه من المسلمين أن ينهضوا لقتالهم، فوجدوهم قد هجموا على المدينة ودخلوها وأخرجوا من كان بها من أهل نجد وعسير، فحج المسلمون تلك السنة، فأقبل ذلك العسكر فنزلوا رابغ ونزل المسلمون وادي فاطمة، فخان لهم شريف مكة وضمهم إليه، وجاؤا مع الخبت على غفلة من المسلمين، فعلم المسلمون أنه لا مقام لهم مع ما جرى من الخيانة، فرجعوا إلى أوطانهم. فخاف عثمان وهو بالطائف أن يكون الحرب منهم ومن الشريف عليه لما يعلم من شدة عداوتهم، فخرج بأهله وترك لهم الطائف أيضا مخافة أن يجتمعوا على حربه وليس معه إلا القليل من عشيرته، ولا يأمن أهل الطائف أيضا. فنزل المسلمون بتربة بعد ذلك نحوا من شهر، ثم رجعوا حين أكلوا ما معهم من الزاد، فجرى بعد ذلك وقعات بينهم وبين المسلمين لا فائدة في الإطالة بذكرها. والمقصود أن استيلاءهم على المدينة ومكة والطائف كان بأسباب قدّرها الملك الغلاب. فيريك عزته ويبدي لطفه، والعبد في الغفلات عن ذا الشأن، وفيها من العبر أن الله أبطل كيد العدو وحمى الحوزة وعافى المسلمين من شرهم، وصار المسلمون يغزونهم فيما قرب من المدينة ومكة في نحو ثلاث سنين أو أربع. فتوفى الله سعودا رحمه الله تعالى وهم غزاة على من كان معينا لهذا العسكر من البوادي، فأخذوا وغنموا، فبقي لهم من الولاية ما كانوا عليه أولا، إلا ما كان من مكة والطائف وبعض الحجاز. وبعد وفاة سعود رحمه الله تجهزوا للجهاد على اختلاف كان من أولئك الأولاد، فصاروا جانبين جانبا مع عبد الله وجانبا مع فيصل أخيه، فنزل الحناكية عبد الله، ونزل فيصل تربة باختيار وأمر من أخيه له، فوافق أن محمد علي حج تلك السنة فواجه فيصل هناك فطلب منه أن يصالحه على الحرمين فأبى فيصل وأغلظ له الجواب، وفيما قال:

لا أصلح الله منا من يصالحكم ** حتى يصالح ذيب المعز راعيها

فأخذت محمد علي العزة والأنفة فسار إلى بسل، الظاهر أنه كان حريصا على الصلح فاستعجل فيصل بمن معه فساروا إليه في بسل، وقد استعد لحربهم خوفا مما جرى منهم، فأقبلوا وهم في منازلهم فسارت عليهم العساكر والخيول فولو مدبرين، لكن الله أعز المسلمين فحبس عنهم تلك الدول والخيول، حتى وقفوا على التلول، فسلم أكثر المسلمين من شرهم واستشهد منهم القليل، ولا بد في القتال من أن ينال المسلم ويُنال منه، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} الآيات، وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه} إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} الآيات. وقد قال هرقل لأبي سفيان فما الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال، ينال منا وننال منه. فهذه سنة الله في العباد زيادة للمؤمنين في الثواب، وتغليظا على الكافرين في العقاب.

وأما عبد الله فرجع بمن معه فلم يلق كيدا دون المدينة. فتفكر في حماية الله لهذه الطائفة مع كثرة من عاداهم وناواهم، ومع كثرة من أعان عليهم ممن ارتاب في هذا الدين وكرهه وقبل الباطل وأحبه، فما أكثر هؤلاء، لكن الله قهرهم بالإسلام، ففي هذا المقام عبرة، وهو أن الله أعزهم وحفظهم من شر من عاداهم، فلله الحمد والمنة.

وبعد ذلك رجع محمد علي إلى مصر، وبعث الشريف غالب إلى إسطنبول، وأمر ابنه طلسون أن ينزل الحناكية دون المدينة، وأمر العطاس بالصلح بينهم وبين عبد الله بن سعود ويركب له من مكة، وأراد الله أن أهل الرس يخافون، لأنهم صاروا في طرف العسكر، وصار عندهم ربيع من المغاربة، وصار في أولاد سعود نوع من العجلة في الأمور فأمروا على الرعايا بالمسير إلى الرس فنزلوا الرويضة، فتحصن أهل الرس بمن عندهم، فأوجبت تلك العجلة أن استفزعوا أهل الحناكية، فلما جاء الخبر بإقبالهم ارتحلوا يلتمسون من أعانهم من حرب ما بينهم وبين المدينة، فصادفوا خزنة العسكر فقتلوهم وأخذوا ما معهم، فهذا مما يسره الله لهم من النصر من غير قصد ولا دراية، فرجع المسلمون إلى عنيزة، والعسكر نزلوا الشبيبية قريبا منهم، ويسر الله للمسلمين سببا آخر، وذلك من توفيق الله ونصره، وجاهدوا جيشا وخيلا فأغاروا على جانب العسكر فخرجوا عليهم، فهزمهم الله وقتل المسلمون فيهم قتلا كثيرا، فألقى الله الرعب في قلوبهم على كثرة من أعانهم وقوة أسبابهم، وذلك من نصر الله لهذا الدين، فرجعوا إلى الرس خوفا من هجوم المسلمين عليهم، فتبعهم المسلمون ونزلوا الحجناوي، فقدم العطاس على الأمر الذي عمده عليه محمد علي فوجد الحال قد تغير فقصدهم ابتداء، فمنعوه مما جاء له، ثم إنهم سعوا في الصلح والمسلمون على الحجناوي، وكل يوم يجري بين الخيل طراد فمل أكثر المسلمين عن الإقامة، فلم يبق منهم إلا شرذمة قليلة، فجاء منهم أناس يطلبون الصلح، فأصلحهم عبد الله رحمه الله تعالى، وطلبوا منه أن يبعث معهم رجلا من أهل بيشة خوفا أن يعرض لهم أحد من المسلمين في طريقهم، فمشى محمد بن حسين بن مشاري إلى المدينة.

والمقصود أن الله سبحانه وتعالى أذلهم وألقى الرعب في قلوبهم، وحفظ المسلمين من شرهم، بل غنمهم مما بأيديهم من حيث بذلهم المال في شراء الهجن، فاشتروا من المسلمين الذلول بضعفي ثمنها. وهذا كله مما يفيد صحة هذا الدين وأنه الذي يحبه الله ويرضاه، وهو الذي يسر أسباب نصر من تمسك به وخذلان من ناوأهم وعاداهم في هذا الدين، فتفكر يا من له قلب. ولولا ما صار في أهل هذا الدين من مخالفة المشروع في بعض الأحوال لصار النصر أعظم مما جرى، لكن الله تعالى عفى عن الكثير وحمى دينه عمن أراد إطفاءه، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه خلقه. فتدبر هذه الوقائع وما فيها من الألطاف العجيبة والدلالات الظاهرة على صدق هذه الدعوة إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله والتجريد وإنكار الشرك والتنديد والاهتمام بإقامة حقوق الإسلام على ما شرعه الله تعالى ورسوله والنهي عما حرمه الله ورسوله من الشرك والبدع والفساد الذي وقع في آخر هذه الأمة لكن خفي على أهل الشقاق والعناد. فلو ساعد القدر وتم هذا الصلح لكان الحال غير الحال، لكن ما أراده الله تعالى وقع على كل حال، لكن جرى من عبد الله بن سعود رحمه الله تعالى ما أوجب نقض ذلك الصلح، وهو أنه بعث عبد الله به كثير لغامد وزهران بخطوط مضمونها أن يكونوا في طرفه وفي أمره، فبعثوا بها إلى محمد علي فلم يرض بذلك، وقال إنهم من جملة من وقع عليهم الصلح، فهذا هو سبب النقض، وأنشأ عسكرا مع إبراهيم باشا ونزل الحناكية، ودار الرأي عند عبد الله بن سعود وأهل الرأي يقولون اضبط ديرتك واحتسب بالزهبة، كذلك أهل البلدان واتركوه على هيبته فإن مشى تبين لكم الرأي وربما أن الله يوفقكم لرأي يصير سبب كسره، وجاء حباب وغصاب يريدون أن يخلوا بعبد الله في السفر وملازمته في مجلسه ومأكله ومشربه ونومه ويقظته فأدركاه على الخروج بالمسلمين والعربان فوصلوا الماوية، وفيها عسيكر فضربوهم بالديز في المدفع ووقع هزيمة وقى الله شرها وغدى فيها قليل من المسلمين. وبعدها جسر إبراهيم باشا على القدوم، فنزل القصيم وحاربهم قدر شهرين وأيدهم الله بالنصر لما كانوا مستقيمين صابرين، وعزم على الرجوع عنهم لكن قوى عزمه فيصل الدويش وطمعه وخوفه، وبعد هذا صالحوه أهل الرس وعبد الله بمن معه في عنيزة وأقفى لبلده وأشار عليهم مبارك الظاهري أنه يجيء بثلاثة آلاف من الإبل عند ابن جلهم ويجعل عليهم الأشدة ويشيل عليها كل ما كان له ولا يخلي في الدرعية له طارفة ويصد مع عربان قحطان ونحوهم وكل من كان له مرؤة من بدوي أو حضري راح معه كذلك الذي يخاف، فلو ساعد القدر لم يظفر به عدوه وتبرأ منهم من أعانهم من مطير وغيرهم ولله فيما جرى حكم قد ظهر بعضها لمن تدبر وتفكر وهذا الرأي أسلم له وللذي يريد القعود، ويكون ظهره على السعة، ويذكر له أنك يا عبد الله إذا صرت كذلك صار لك في العسكر مكائد منها قطع سابلة ما بينه وبين المدينة، وهذا رأي سديد، ولكن لم يرد الله قبوله لأن الأقدار غالبة، ولو قدر هذا لكان فنزل الدرعية وأخذ قدر ثمانية أشهر متحصنين عنه وهو يضربهم بالقنابر والقبوس، فوقى الله شره، وأراد الله بعد ذلك أن يزحمهم مع أماكن خالية ما فيها أحد لأن البلد مطاول وليس فيها سور ينفع والمقاتلة قليل، وانتهى الأمر إلى الصلح، فأعطاهم العهد والميثاق على ما في البلد من رجل أو مال حتى التمرة التي على النخل، لكن لم يف لهم بما صالحهم عليه، لكن الله تعالى وقى شره عن أناس معه عليهم حنانة بسبب أناس من أهل نجد يكثرون فيهم عنده، فكف الله يده ويد العسكر وعذورا سليمان بن عبد الله وآل سويلم وابن كثير عبد الله بسبب البغدادي الخبيث حداه عليهم، فاختار الله لهم، وبعد هذا شتت أهل البلد عنها وقطع النخيل وهدم المساكن إلا القليل وانتقل للحور بعسكره وروّح من روح لمصر بعد روحة عبد الله بن سعود رحمه الله تعالى تبعه عياله وإخوانه وكبار آل الشيخ، وبعد ذلك حج فسلط الله على عسكره الفناء، ولا وصل مصر إلا بالقليل، فلما وصل مصر حل بهم عقوبات أهل الإسلام، فمشى على السودان ولا أظفره الله فرجع مريضا. ثم إن محمد علي بعث ابنه إسماعيل وتمكن منهم بصلح، فلما رأوا منه الخيانة بأخذ عبيد وجوار أحرقوه بالنار في بيته ومن معه من العسكر. ثم بعده روح لهم دفتر دار ولا ذبل منهم شيئا. وأما عساكر الحجاز التي وصلت مصر قبل إبراهيم باشا حسن بيه الذي صار في مكة وعابدين بيه الذي صار في اليمن فسيرهم محمد علي قبل هذا الحرب مورة وجريد لما خرجوا على السلطان، فاستمده السلطان على حربهم، فأمده بهذين العسكرين، فهلكوا عن آخرهم ولم يفلت منهم عين تطرف، وذلك أن مورة وجريد في الأصل ولاية للسلطان، فخرجوا عليه، فهلك من عسكر السلطان والعساكر المصرية في حربهم ما لا يحصى، وهذه عقوبة أجراها الله عليهم بسبب ما جرى منهم على أهل الإسلام، حتى العرناؤوط في جبلهم عصوا على السلطان قبل حادثة مورة وجريد.

وبعد هذا الأمر اشتد الأمر على السلطان، وبعث يستنصر محمد علي، فبعث لهم عسكرا كبيرهم قار علي فهلكوا في البحر قبل أن يصلوا، ثم إن السلطان بعث نجيب أفندي لمحمد علي يطلب منه أن يسير بنفسه، فبعث إليه يعتذر بالمرض وأن إبراهيم باشا يقوم مقامه، وقبل ذلك بعث حسين بيه الذي سبا أهل نجد وقتل منهم البعض في ثرمدا، وفزع للسلطان قبل روحة إبراهيم باشا بعسكره الذي كان معه في نجد، وتبعه إبراهيم باشا يمده، ونزلوا مورة لحرب أهلها، فأذلهم الله لهم فقتلوا فيهم قتلا عظيما. فأما عسكر حسين بيه فلا قدم مصر منه إلا صبي. وأما إبراهيم باشا فاشترى نفسه منهم بالأموال، فانظر إلى هذه العقوبات العاجلة التي أوقعها الله على الآمر والمأمور، وأكثر الناس لا يدري بهذه الأمور.

وهذا الذي ذكرناه فيه عبرة عظيمة، وشاهد لأهل هذا الدين أن الله لما سلط عليهم عدوهم ونال منهم ما نال، صار العاقبة السلامة والعافية لمن ثبت على دينه، واستقام على دين الإسلام. ثم إن الله تعالى أوقع بعدوهم ما ذكرنا وأعظم، لكن ذكرنا الواقع على سبيل الاختصار لقصد الاعتبار {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}.

ثم إن الله أجرى على فئة أعانهم من أهل نجد ممن شك منهم في هذا الدين وأكثر الطعن على المسلمين أن الله تعالى أفناهم، وهذه أيضا من العبر لم يبق أحد ممن ظهر شره وإنكاره وعداوته للمسلمين إلا عوجل بالهلاك والذهاب. ولا فائدة في الإطالة بعدّهم، ومن سألنا أخبرناه عنهم بأعيانهم. وأما ظهور خالد وإسماعيل فإنهم لما جاء الخبر بأنهم وصلوا المدينة وخرجوا منها استشار فيصل رحمه الله تعالى في الغزو أو الإقامة فأشرت بأن يخرج بالمسلمين ويكون في البطينيات من الدجاني إلى ما دونه، وينزل قريبا من العربان، لأن أكثر رعيهم من الدهنا ويؤلف كبارهم بالزاد، وينقل الحب من سدير والوشم وزاد الحسا والقطيف من تمر وعيش ويقرب منه كبار العربان بالزاد، وكذلك من معه من المسلمين، ويصير له رجاجيل في القصيم عند من ثبت وينتظر، فلو ساعد القدر تم هذا الرأي لا يقدر العسكر أن يتعدى القصيم للوشم والعارض، وخافوا من قطع سابلتهم ولا لهم قدرة على حرب فيصل، وهو في ذلك المكان، فلو قدرنا أن يصير بعض عسكرهم يبغون يقصدونه هلكوا في الدهنا والصمان إذا ماج عن وجوههم يوما أو يومين، فلو قدر أن يفعل هذا الرأي لما ظفروا به ولا وصلوا إلى بلده لأسباب معروفة، لكن لما أراد الله سبحانه خيانة أهل الرياض في الإمام فيصل وهم معه في الصريف، قدم الرياض وخلاها لهم خوفا منهم فمشوا على الفرع هم والذين معهم من البادية والحاضرة وصار هلاكهم هجموا على الحلوة على غفلة وأخلا أهل الحلوة البلد لهم، وأراد الله أن تركي الهزاني وبعض أهل الحوطة يفزعون وكسر الله العساكر العظيمة ما بين قتيل وهلاك وكانوا يتتبعونهم موتى تحت الشجرة يأخذون السلاح والمال، والذي فزع عليهم ما يجي عشير معشارهم فصارت آية عظيمة، ورجع فلهم إلى الرياض وساعدهم من ساعدهم، والله حسيبهم وتجلوا معهم إلى أن جاءهم خرشد فزاع ونزل فيصل الدلم، وشير عليه أنه ما يقعد فيه، ويتحصن بمن معه من المسلمين في بعض الشعاب التي بين الحوطة ونعام، ويجعل ثقلته وراءه، فإن حصل منهم ممشى جاهدهم بأهل القرايا ولا أراد الله أنه يفعل فلما تمكنوا من فيصل وأخذوه أرسلوه إلى مصر صار عسكرهم في ذهاب وعذاب وفساد، فأوقع الله الحرب بين السلطان ومحمد علي ورد الله الكرة لأهل نجد فرجعوا كما كانوا أولا على ما كانوا عليه قبل حربهم الدول، كما قال تعالى في بني إسرائيل: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}، نسأل الله أن يمن بالإحسان وينفي عنا أسباب التغيير إنه ولينا وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

والمقصود بما ذكرنا الاعتبار بأن الله حفظ هذا الدين ومن تمسك به، وأيدهم بالنصر على ضعفهم وقلتهم، وأوقع بأسه بهذه الدول على قوتهم وكثرتهم وأسباب كيدهم. ثم إن الله تعالى أهلك تلك الدول بما أجرى عليهم من حرب النصارى في بلاد الروم، فكل دولة مشت على نجد والحجاز لم يبق منهم اليوم عين تطرف، وكانوا لا يحصي عددهم إلا الله، فهلكوا في حرب النصارى، فصارت العاقبة والظهور لمن جاهدهم في الله من الموحدين، فجمع الله لهم بعد تلك الحوادث العظيمة من النعم والعز والنصر ما لا يخطر بالبال ولا يدور في الخيال.

فلا يشك في هذا الدين بعد ما جرى ممن ذكرناه إلا من أعمى الله بصيرته وجعل على قلوبهم أكنة عن فهم أدلة الكتاب والسنة ولم يعتبروا بما جرى لهذا الدين من ابتدائه إلى يومنا هذا. وكل من ذكرنا من الدول والبادي والحاضر رام إطفاءه وكلما أرادوا إطفاءه استضاءت أنواره وعز أنصاره، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، فهذا ما جرى على الدول الذي زعم ابن منصور أن شيخنا جرها على أهل نجد وما جرى بسبب تلك الدول من ظهور هذا الدين والعز والتمكين وذهاب من ناواهم من هذه الدول وغيرها، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه وهو المرجو أن يوزعنا شكر ما أنعم به علينا من هذا الدين الذي رضيه لعباده وخص به المؤمنين، وصلى الله على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا.

ومن عجيب ما اتفق لأهل هذه الدعوة أن محمد بن سعود عفا الله عنه لما وفقه الله لقبول هذا الدين ابتداء بعد تخلف الأسباب، وعدم الناصر شمر في نصرته ولم يبال بمن خالفه من قريب أو بعيد، حتى إن بعض أناس ممن له قرابة به عذله عن هذا المقام الذي شمر إليه، فلم يلتفت إلى عذل عاذل ولا لوم لائم ولا رأي مرتاب، بل جد في نصرة هذا الدين، فملكه الله تعالى في حياته كل من استولى عليه من القرى، ثم بعد وفاته صار الأمر في ذريته يسوسون الناس بهذا الدين ويجاهدون فيه كما جاهدوا في الابتداء، فزادت دولتهم وعظمت صولتهم على الناس بهذا الدين الذي لا شك فيه ولا التباس، فصار الأمر في ذريته لا ينازعهم فيه منازع ولا يدافعهم عنه مدافع، وأعطاهم الله القبول والمهابة، وجمع الله عليهم من أهل نجد وغيرهم ممن لا يمكن اجتماعهم على إمام واحد إلا بهذا الدين. وظهرت لآثار الإسلام في كثير من الأقاليم النجدية وغيرها مما تقدم ذكره، وأصلح الله بهم ما أفسدت تلك الدول التي حاربتهم ودافعتهم عن هذا الدين ليطفئوه، فأبى الله ذلك وجعل لهم العز والظهور، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك. فنسأل الله أن يديم ذلك وأن يجعلهم أئمة هدى وأن يوفقهم لما وفق له خلفاءه الراشدين الذين لهم التقدم في نصرة هذا الدين، وعلينا وعلى المسلمين أن ندعو لمن ولاه الله أمرنا من هذه الذرية أن يصرف عنا وعنهم كل محنة وبلية وأحيا الله بهم ما درس من الشريعة المحمدية، وأصلح لهم القلوب وغفر لنا ولهم الذنوب. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تم بحمد الله.