المغني موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي
(الجزء الخامس والعشرون – كتاب اللقطة) •كتاب اللقطة o فصل: الأفضل ترك الالتقاط o مسألة: من وجد لقطة عرفها سنة في الأسواق وأبواب المساجد o الفصل الثاني: في قدر التعريف o الفصل الثالث: زمان تعريف اللقطة o الفصل الرابع: مكان تعريف اللقطة o الفصل الخامس: مسئوليات الملتقط o الفصل السادس: في كيفية التعريف o فصل: لم يفرق الخرقي بين يسير اللقطة وكثيرها o فصل: إذا أخر التعريف عن الحول الأول مع إمكانه o فصل: إن ترك التعريف في الحول الأول لعجزه عنه o مسألة: إن جاء ربها وإلا كانت كسائر ماله o فصل: تدخل اللقطة في ملكه عند تمام التعريف حكما كالميراث o فصل: فإن التقطها اثنان فعرفاها حولًا ملكاها جميعًا o فصل: تملك اللقطة ملكًا مراعى o فصل: كل ما جاز التقاطه ملك بالتعريف عند تمامه أثمانا كانت أو غيرها o فصل: ظاهر كلام أحمد والخرقي أن لقطة الحل والحرم سواء o فصل: إذا التقط لقطة عازمًا على تملكها بغير تعريف فقد فعل محرمًا o مسألة: حفظ وكاءالدابة الملتقطة وعفاصها وحفظ عددها وصفتها o فصل: استحباب الإشهاد علي الراحلة الملتقطة o مسألة: إن جاء رب الراحلة فوصفها له دفعت إليه بلا بينة o فصل: إن وصفها اثنان أقرع بينهما o فصل: لو جاء مدع للقطة فلم يصفها ولا أقام بينة أنها له لم يجز دفعها إليه o مسألة: اللقطة في الحول أمانة في يد الملتقط o فصل: وجود العين بعد خروجها من ملك الملتقط ببيع أو هبة o فصل: إذا أخذ اللقطة ثم ردها إلى موضعها ضمنها o فصل: إن ضاعت اللقطة من ملتقطها بغير تفريط فلا ضمان عليه o فصل: من اصطاد سمكة فوجد فيها درة فهي للصياد o فصل: إن وجد عنبرة على ساحل البحر فهي له o فصل: إن صاد غزالا فوجده مخضوبا أو في عنقه حرز o فصل: في من عنده رهون قد أتى عليها زمان لا يعرف صاحبها o فصل: إذا تنازع صاحب الدار والساكن في دفن في الدار o فصل: وجود اللقطة في دار الحرب o مسألة: إن كان الملتقط قد مات فصاحبها غريم بها o مسألة: إن كان صاحبها جعل لمن وجدها شيئًا معلومًا فله أخذه إن كان التقطها بعد أن بلغه الجعل o فصل: يجوز أن يجعل الجعل في الجعالة لواحد بعينه o فصل: إن قال: من رد عبدي من بلد كذا فله دينار o فصل: الجعالة تساوي الإجارة o فصل: من رد لقطة أو ضالة أو عمل لغيره عملاً غير رد الآبق o فصل: رد العبد الآبق o فصل: جواز أخذ الآبق لمن وجده o فصل: إذا أبق العبد فحصل في يد حاكم o مسألة: إذا التقطها قبل أن يبلغه الجعل فقد التقطها بغير عوض o مسألة: إن كان الذي وجد اللقطة سفيها أو طفلًا o فصل: فيمن له عشر سنين التقط لقطة ثم كبر o فصل: إذا وجد العبد لقطة فله أخذها بغير إذن سيده o فصل: المكاتب كالحر في اللقطة o فصل: الذمي في الالتقاط كالمسلم o مسألة: إذا وجد الشاة بمصر أو بمهلكة فهي لقطة o فصل: ضالة الغنم في الموضع المخوف عليها له أكلها o فصل: إذا أكل اللقطة ثبتت قيمتها في ذمته ولا يلزمه عزلها o فصل: إذا التقط ما لا يبقى عامًا o مسألة: عدم التعرض لبعير ولا لما فيه قوة يمنع عن نفسه o فصل: الصيود المستوحشة o فصل: البقرة كالإبل o فصل: إن أخذ هذا الحيوان الذي لا يجوز أخذه على سبيل الالتقاط ضمنه o فصل: للإمام أو نائبه أخذ الضالة على وجه الحفظ لصاحبها o فصل: إن أخذ اللقطة غير الإمام أو نائبه ليحفظها لصاحبها لم يجز له ذلك ولزمه ضمانها o فصل: من ترك دابة بمهلكة فأخذها إنسان فأطعمها وسقاها وخلصها ملكها o فصل: إن ترك متاعًا فخلصه إنسان لم يملكه o فصل: إذا التقط عبدًا صغيرًا أو جارية فقياس المذهب أنه لا يملك بالتعريف
كتاب اللقطة وهي المال الضائع من ربه يلتقطه غيره قال الخليل بن أحمد اللقطة, بفتح القاف: اسم للملتقط لأن ما جاء على فعلة فهو اسم للفاعل كقولهم: همزة ولمزة وضحكة وهزأة, واللقطة بسكون القاف: المال الملقوط مثل الضحكة الذي يضحك منه, والهزأة الذي يهزأ به وقال الأصمعي وابن الأعرابي والفراء: هي بفتح القاف اسم للمال الملقوط أيضا والأصل في اللقطة ما روى زيد بن خالد الجهني قال: (سئل رسول الله ـ ﷺ ـ عن لقطة الذهب والورق فقال: اعرف وكاءها, وعفاصها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك, فإن جاء طالبها يوما من الدهر فادفعها إليه وسأله عن ضالة الإبل فقال: مالك ولها, دعها فإن معها حذاءها وسقاها ترد الماء, وتأكل الشجر حتى يجدها ربها وسأله عن الشاة فقال: خذها, فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) متفق عليه والوكاء: الخيط الذي يشد به المال في الخرقة والعفاص: الوعاء الذي هي فيه, من خرقة أو قرطاس أو غيره قاله أبو عبيد والأصل في العفاص أنه الجلد الذي يلبسه رأس القارورة قوله: (معها حذاءها) يعني خفها فإنه لقوته وصلابته يجري مجرى الحذاء وسقاؤها: بطنها لأنها تأخذ فيه ماء كثيرا, فيبقى معها يمنعها العطش والضالة: اسم للحيوان خاصة دون سائر اللقطة والجمع ضوال, ويقال لها أيضا: الهوامي والهوافي والهوامل.
فصل:
قال إمامنا ـ رحمه الله ـ: الأفضل ترك الالتقاط وروي معنى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وبه قال جابر بن زيد والربيع بن خيثم وعطاء ومر شريح بدرهم, فلم يعرض له واختار أبو الخطاب أنه إذا وجدها بمضيعة وأمن نفسه عليها فالأفضل أخذها وهذا قول الشافعي وحكي عنه قول آخر أنه يجب أخذها لقول الله تعالى {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة: 71]. فإذا كان وليه, وجب عليه حفظ ماله وممن رأى أخذها سعيد بن المسيب والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأخذها أبي بن كعب وسويد بن غفلة وقال مالك إن كان شيئا له بال يأخذه أحب إلي ويعرفه لأن فيه حفظ مال المسلم عليه, فكان أولى من تضييعه وتخليصه من الغرق ولنا قول ابن عمر وابن عباس ولا نعرف لهما مخالفا في الصحابة ولأنه تعريض لنفسه لأكل الحرام, وتضييع الواجب من تعريفها وأداء الأمانة فيها فكان تركه أولى وأسلم, كولاية مال اليتيم وتخليل الخمر وما ذكروه يبطل بالضوال فإنه لا يجوز أخذها مع ما ذكروه وكذلك ولاية مال الأيتام.
مسألة:
قال: [ومن وجد لقطة, عرفها سنة في الأسواق وأبواب المساجد] وجملته أن في التعريف ستة فصول في وجوبه وقدره وزمانه ومكانه وكيفيته, ومن يتولاه. أما وجوبه فإنه واجب على كل ملتقط سواء أراد تملكها أو حفظها لصاحبها وقال الشافعي: لا تجب على من أراد حفظها لصاحبها ولنا أن النبي ـ ﷺ ـ أمر به زيد بن خالد وأبي بن كعب, ولم يفرق ولأن حفظها لصاحبها إنما يقيد بإيصالها إليه وطريقه التعريف أما بقاؤها في يد الملتقط من غير وصولها إلى صاحبها, فهو وهلاكها سيان ولأن إمساكها من غير تعريف تضييع لها عن صاحبها, فلم يجز كردها إلى موضعها أو إلقائها في غيره, ولأنه لو لم يجب التعريف لما جاز الالتقاط لأن بقاءها في مكانها إذا أقرب إلى وصولها إلى صاحبها إما بأن يطلبها في الموضع الذي ضاعت فيه فيجدها, وإما بأن يجدها من يعرفها وأخذه لها يفوت الأمرين فيحرم, فلما جاز الالتقاط وجب التعريف كي لا يحصل هذا الضرر ولأن التعريف واجب على من أراد تملكها فكذلك على من أراد حفظها, فإن التملك غير واجب فلا تجب الوسيلة إليه فيلزم أن يكون الوجوب في المحل المتفق عليه, لصيانتها عن الضياع عن صاحبها وهذا موجود في محل النزاع.
الفصل الثاني:
في قدر التعريف وذلك سنة روي ذلك عن عمر, وعلي وابن عباس وبه قال ابن المسيب والشعبي, ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وروي عن عمر, رواية أخرى أنه يعرفها ثلاثة أشهر وعنه ثلاثة أعوام لأن أبي بن كعب روى أن رسول الله ـ ﷺ ـ أمره بتعريف مائة الدينار ثلاثة أعوام وقال أبو أيوب الهاشمي ما دون الخمسين درهما يعرفها ثلاثة أيام إلى سبعة أيام وقال الحسن بن صالح: ما دون عشرة دراهم يعرفها ثلاثة أيام وقال الثوري في الدرهم: يعرفه أربعة أيام وقال إسحاق: ما دون الدينار يعرفه جمعة أو نحوها وروى أبو إسحاق الجوزجاني بإسناده, عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله ـ ﷺ ـ : (من التقط درهما أو حبلا أو شبه ذلك, فليعرفه ثلاثة أيام فإن كان فوق ذلك فليعرفه سبعة أيام) ولنا: حديث زيد بن خالد الصحيح فإن النبي ـ ﷺ ـ أمره بعام واحد, ولأن السنة لا تتأخر عنها القوافل ويمضي فيها الزمان الذي تقصد فيه البلاد من الحر والبرد والاعتدال, فصلحت قدرا كمدة أجل العين وأما حديث أبي فقد قال الراوي: لا أدري ثلاثة أعوام أو عاما واحدا قال أبو داود: شك الراوي في ذلك وحديث يعلى لم يقل به قائل على وجهه وحديث زيد وأبي أصح منه وأولى إذا ثبت هذا, فإنه يجب أن تكون هذه السنة تلي الالتقاط وتكون متوالية في نفسها لأن النبي ـ ﷺ ـ أمر بتعريفها حين سئل عنها والأمر يقتضي الفور, ولأن القصد بالتعريف وصول الخبر إلى صاحبها وذلك يحصل بالتعريف عقيب ضياعها متواليا لأن صاحبها في الغالب إنما يتوقعها ويطلبها عقيب ضياعها فيجب تخصيص التعريف به.
الفصل الثالث:
في زمانه وهو النهار دون الليل لأن النهار مجمع الناس وملتقاهم دون الليل, ويكون ذلك في اليوم الذي وجدها والأسبوع أكثر لأن الطلب فيه أكثر ولا يجب فيما بعد ذلك متواليا وقد روى الجوزجاني بإسناده, عن معاوية بن عبد الله عن زيد الجهني قال: نزلنا مناخ ركب فوجدت خرقة فيها قريب من مائة دينار, فجئت بها إلى عمر فقال: عرفها ثلاثة أيام على باب المسجد ثم أمسكها حتى قرن السنة, ولا يفد من ركب إلا نشدتها وقلت: الذهب بطريق الشام ثم شأنك بها.
الفصل الرابع:
في مكانه وهو الأسواق, وأبواب المساجد والجوامع في الوقت الذي يجتمعون فيه كأدبار الصلوات في المساجد, وكذلك في مجامع الناس لأن المقصود إشاعة ذكرها وإظهارها ليظهر عليها صاحبها, فيجب تحري مجامع الناس ولا ينشدها في المسجد لأن المسجد لم يبن لهذا وقد روى أبو هريرة عن النبي ـ ﷺ ـ أنه قال: (من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد, فليقل: لا ردها الله إليك فإن المساجد لم تبن لهذا) وأمر عمر واجد اللقطة بتعريفها على باب المسجد.
الفصل الخامس:
فيمن يتولاه وللملتقط أن يتولى ذلك بنفسه, وله أن يستنيب فيه فإن وجد متبرعا بذلك وإلا إن احتاج إلى أجر, فهو على الملتقط وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي واختار أبو الخطاب أنه إن قصد الحفظ لصاحبها دون تملكها رجع بالأجر على مالكها وكذلك قال ابن عقيل فيما لا يملك بالتعريف لأنه من مؤنة إيصالها إلى صاحبها, فكان على مالكها كأجر مخزنها ورعيها وتجفيفها ولنا أن هذا أجر واجب على المعرف فكان عليه, كما لو قصد تملكها ولأنه لو وليه بنفسه لم يكن له أجر على صاحبها, فكذلك إذا استأجر عليه لا يلزم صاحبها شيء ولأنه سبب لتملكها فكان على الملتقط, كما لو قصد تملكها وقال مالك: إن أعطى منها شيئا لمن عرفها فلا غرم عليه كما لو دفع منها شيئا لمن حفظها وقد ذكرنا الدليل على ذلك.
الفصل السادس:
في كيفية التعريف, وهو أن يذكر جنسها لا غير فيقول: من ضاع منه ذهب أو فضة أو دنانير أو ثياب ونحو ذلك لقول عمر رضي الله عنه لواجد الذهب قل: الذهب بطريق الشام ولا تصفها لأنه لو وصفها لعلم صفتها من يسمعها فلا تبقى صفتها دليلا على ملكها, لمشاركة غير المالك في ذلك ولأنه لا يأمن أن يدعيها بعض من سمع صفتها ويذكر صفتها التي يجب دفعها بها, فيأخذها وهو لا يملكها فتضيع على مالكها.
فصل:
لم يفرق الخرقي بين يسير اللقطة وكثيرها وهو ظاهر المذهب إلا في اليسير الذي لا تتبعه النفس, كالتمرة والكسرة والخرقة وما لا خطر له فإنه لا بأس بأخذه والانتفاع به من غير تعريف لأن النبي ـ ﷺ ـ لم ينكر على واجد التمرة حيث أكلها, بل (قال له: لو لم تأتها لأتتك) (ورأى النبي ـ ﷺ ـ تمرة فقال: لولا إني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في إباحة أخذ اليسير والانتفاع به وقد روي ذلك عن عمر, وعلي وابن عمر وعائشة, وبه قال عطاء وجابر بن زيد وطاوس, والنخعي ويحيى بن أبي كثير ومالك, والشافعي وأصحاب الرأي وليس عن أحمد وأكثر من ذكرنا تحديد اليسير الذي يباح وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجب تعريف ما لا يقطع به السارق, وهو ربع دينار عند مالك وعشرة دراهم عند أبي حنيفة لأن ما دون ذلك تافه فلا يجب تعريفه, كالكسرة والتمرة والدليل على أنه تافه قول عائشة رضي الله عنها: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه وروى عن على ـ رضي الله عنه ـ أنه وجد دينارا فتصرف فيه وروى الجوزجاني, عن سلمى بنت كعب قالت: وجدت خاتما من ذهب في طريق مكة, فسألت عائشة عنه فقالت: تمتعي به وروى أبو داود بإسناده عن جابر, قال: (رخص لنا رسول الله ـ ﷺ ـ في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به) والحبل قد يكون قيمته دراهم وعن ابن ماجه بإسناده عن سويد بن غفلة, قال: خرجت مع سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان حتى إذا كنا بالعذيب, التقطت سوطا فقالا لي: ألقه فأبيت فلما قدمنا المدينة, أتيت أبي بن كعب فذكرت ذلك له فقال: أصبت قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وللشافعية فيه ثلاثة أوجه كالمذاهب الثلاثة ولنا على إبطال تحديده بما ذكروه, أن حديث زيد بن خالد عام في كل لقطة فيجب إبقاؤه على عمومه إلا ما خرج منه بالدليل, ولم يرد بما ذكروه نص ولا هو في معنى ما ورد النص به ولأن التحديد والتقدير لا يعرف بالقياس وإنما يؤخذ من نص أو إجماع, وليس فيما ذكروه نص ولا إجماع وأما حديث على فهو ضعيف رواه أبو داود وقال: طرقه كلها مضطربة ثم هو مخالف لمذهبهم ولسائر المذاهب, فتعين حمله على وجه من الوجوه غير اللقطة إما لكونه مضطرا إليه أو غير ذلك وحديث عائشة قضية في عين, لا يدري كم قدر الخاتم ثم هو قول صحابي وكذلك حديث علي, وهم لا يرون ذلك حجة وسائر الأحاديث ليس فيها تقدير لكن يباح أخذ ما ذكره النبي ـ ﷺ ـ وخص في أخذه من السوط والعصا والحبل, وما قيمته كقيمة ذلك وقدره الشيخ أبو الفرج في كتابه بما دون القيراط ولا يصح تحديده لما ذكرنا.
فصل:
إذا أخر التعريف عن الحول الأول مع إمكانه أثم لأن النبي ـ ﷺ ـ أمر به فيه, والأمر يقتضي الوجوب وقال في حديث عياض بن حمار: (لا يكتم ولا يغيب) ولأن ذلك وسيلة إلى أن لا يعرفها صاحبها فإن الظاهر أنه بعد الحول ييأس منها ويسلو عنها, ويترك طلبها ويسقط التعريف بتأخيره عن الحول الأول في المنصوص عن أحمد لأن حكمة التعريف لا تحصل بعد الحول الأول وإن تركه في بعض الحول عرف بقيته ويتخرج أن لا يسقط التعريف بتأخره لأنه واجب, فلا يسقط بتأخيره عن وقته كالعبادات وسائر الواجبات ولأن التعريف في الحول الثاني يحصل به المقصود على نوع من القصور فيجب الإتيان به لقول النبي ـ ﷺ ـ : (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) فعلى هذا إن أخر التعريف بعض الحول, أتى بالتعريف في بقيته وأتمه من الحول الثاني وعلى كلا القولين لا يملكها بالتعريف فيما عدا الحول الأول لأن شرط الملك التعريف في الحول الأول, ولم يوجد وهل له أن يتصدق بها أو يحبسها عنده أبدا؟ على روايتين ويحتمل أن يلزمه دفعها إلى الحاكم كقولنا فيما إذا التقط ما لا يجوز التقاطه ولو ترك التعريف في بعض الحول الأول لم يملكها أيضا بالتعريف فيما بعده لأن الشرط لم يكمل, وعدم بعض الشرط كعدم جميعه كما لو أخل ببعض الطهارة أو ببعض السترة في الصلاة.
فصل:
وإن ترك التعريف في الحول الأول لعجزه عنه, مثل أن يتركه لمرض أو حبس أو نسيان ونحوه ففيه وجهان أحدهما أن حكمه حكم ما لو تركه مع إمكانه لأن تعريفه في الحول سبب الملك, والحكم ينتفي لانتفاء سببه سواء انتفى لعذر أو غير عذر والثاني أنه يعرفه في الحول الثاني, ويملكه لأنه لم يؤخر التعريف عن وقت إمكانه فأشبه ما لو عرفه في الحول الأول.
مسألة:
قال: [فإن جاء ربها وإلا كانت كسائر ماله] وجملته أنه إذا عرف اللقطة حولا, فلم تعرف ملكها ملتقطها وصارت من ماله, كسائر أمواله غنيا كان الملتقط أو فقيرا وروي نحو ذلك عن عمر وابن مسعود, وعائشة رضي الله عنهم وبه قال عطاء والشافعي وإسحاق, وابن المنذر وروى ذلك عن على وابن عباس والشعبي, والنخعي وطاوس وعكرمة وقال مالك, والحسن بن صالح والثوري وأصحاب الرأي: يتصدق بها, فإذا جاء صاحبها خيره بين الأجر والغرم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ـ ﷺ ـ (أنه سئل عن اللقطة فقال: عرفها حولا وروي: ثلاثة أحوال فإن جاء ربها, وإلا تصدق بها فإذا جاء ربها فرضي بالأجر, وإلا غرمها) ولأنها مال لمعصوم لم يرض بزوال ملكه عنها ولا وجد منه سبب يقتضي ذلك, فلم يزل ملكه عنه كغيرها قالوا: وليس له أن يتملكها إلا أن أبا حنيفة قال: له ذلك إن كان فقيرا من غير ذوي القربى لما روى عياض بن حمار المجاشعي, أن النبي ـ ﷺ ـ قال: (من وجد لقطة فليشهد عليها ذا عدل ولا يكتم ولا يغيب فإن وجد صاحبها فليرددها عليه, وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء) رواه النسائي قالوا: وما يضاف إلى الله تعالى إنما يتملكه من يستحق الصدقة ونقل حنبل عن أحمد مثل هذا القول وأنكره الخلال, وقال: ليس هذا مذهبا لأحمد ولنا قول النبي ـ ﷺ ـ في حديث زيد بن خالد: (فإن لم تعرف فاستنفقها) وفي لفظ: " وإلا فهي كسبيل مالك " وفي لفظ: " ثم كلها " وفي لفظ: " فانتفع بها " وفي لفظ: " فشأنك بها " وفي حديث أبي بن كعب: " فاستنفقها " وفي لفظ: " فاستمتع بها " وهو حديث صحيح ولأن من ملك بالقرض ملك باللقطة كالفقير ومن جاز له الالتقاط ملك به بعد التعريف, كالفقير وحديثهم عن أبي هريرة لم يثبت ولا نقل في كتاب يوثق به ودعواهم في حديث عياض أن ما يضاف إلى الله لا يتملكه إلا من يستحق الصدقة لا برهان لها ولا دليل عليها, وبطلانها ظاهر فإن الأشياء كلها تضاف إلى الله تعالى خلقا وملكا قال الله تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور: 33].
فصل:
وتدخل اللقطة في ملكه عند تمام التعريف حكما كالميراث هذا ظاهر كلام الخرقي لقوله: " وإلا كانت كسائر ماله " وكذلك قال أحمد في رواية الجماعة: إذا جاء صاحبها, وإلا كانت كسائر ماله واختار أبو الخطاب أنها لا تدخل في ملكه حتى يختار واختلف أصحاب الشافعي فمنهم من قال كقولنا ومنهم من قال: يملكها بالنية ومنهم من قال: يملكها بقوله: اخترت تملكها ومنهم من قال: لا يملكها إلا بقوله والتصرف فيها لأن هذا تملك بعوض فلم يحصل إلا باختيار المتملك, كالشراء ولنا قول النبي ـ ﷺ ـ : (فإذا جاء صاحبها وإلا فهي كسبيل مالك) وقوله: " فاستنفقها " ولو وقف ملكها على تملكها لبينه له ولم يجوز له التصرف قبله وفي لفظ: " فهي لك " وفي لفظ: " كلها " وهذه الألفاظ كلها تدل على ما قلنا ولأن الالتقاط والتعريف سبب للتملك, فإذا تم وجب أن يثبت به الملك حكما كالإحياء والاصطياد ولأنه سبب يملك به فلم يقف الملك بعده على قوله, ولا اختياره كسائر الأسباب وذلك لأن المكلف ليس إليه إلا مباشرة الأسباب فإذا أتى بها, ثبت الحكم قهرا وجبرا من الله تعالى غير موقوف على اختيار المكلف وأما الاقتراض فهو السبب في نفسه فلم يثبت الملك بدونه.
فصل:
فإن التقطها اثنان, فعرفاها حولا ملكاها جميعا وإن قلنا بوقوف الملك على الاختيار فاختار أحدهما دون الآخر, ملك المختار نصفها دون الآخر وإن رأياها معا فبادر أحدهما فأخذها أو رآها أحدهما, فأعلم بها صاحبه فأخذها فهي لآخذها لأن استحقاق اللقطة بالأخذ لا بالرؤية, كالاصطياد وإن قال أحدهما لصاحبه: هاتها فأخذها نظرت في نيته فإن أخذها لنفسه فهي له دون الآمر, وإن أخذها للآمر فهي له كما لو وكله في الاصطياد له.
فصل:
وتملك اللقطة ملكا مراعى, يزول بمجيء صاحبها ويضمن له بدلها إن تعذر ردها والظاهر أنه يملكها بغير عوض يثبت في ذمته وإنما يتجدد وجوب العوض بمجيء صاحبها, كما يتجدد زوال الملك عنها بمجيئه وكما يتجدد وجوب نصف الصداق للزوج أو بدله إن تعذر ثبوت الملك فيه بالطلاق وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال أكثرهم: لا يملكها إلا بعوض يثبت في ذمته لصاحبها وهذا قول القاضي وأصحابه, بدليل أنه يملك المطالبة به فأشبه القرض ولنا قول النبي ـ ﷺ ـ : (فإن جاء صاحبها وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء) فجعلها من المباحات, ولأنه لو مات لم يعزل من تركته بدلها ولا يستحق أن يأخذ من الزكاة بسبب الغرم ولا يلزمه أن يوصي به, ولا يمتنع وجوب الزكاة في ماله بسبب الدين ولا يثبت شيء من أحكام الدين في حقه وانتفاء أحكامه دليل على انتفائه وقال القاضي: يمنع ذلك وجوب الزكاة, ولأنه لو ملكها بعوض لم يزل ملكه عنها بمجيء صاحبها ولو وقف ملكه لها على رضاه بالمعاوضة واختياره لأحدهما كالقرض والأمر بخلاف ذلك وإنما يستحق صاحبها المطالبة بعد مجيئه, بشرط تلفها فإنها لو كانت موجودة لأخذها ولم يستحق لها بدلا وإن كانت تالفة تجدد له ملك المطالبة ببدلها, كما يتجدد له الملك فيها لو كانت موجودة وكما يتجدد له الملك في نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول وفي بدله إن كان معدوما وهذا أشبه بمسألتنا, وبه يبطل ما ذكروه وأما القرض فإنه لما ثبت بدله في الذمة لم يعد الملك له في المقرض إلا برضاء المقرض واختياره. فصل: وكل ما جاز التقاطه, ملك بالتعريف عند تمامه أثمانا كانت أو غيرها هذا كلام الخرقي فإن لفظه عام في كل لفظه وقد نقل ذلك عن أحمد, فإن محمد بن الحكم روى عنه في الصياد يقع في شصه الكيس أو النحاس: يعرفه سنة فإن جاء صاحبه, وإلا فهو كسائر ماله وهذا نص في النحاس وقال الشريف بن أبي موسى: هل حكم العروض في التعريف وجواز التصرف فيها بعد ذلك حكم الأثمان؟ على روايتين, أظهرهما أنها كالأثمان ولا أعلم بين أكثر أهل العلم فرقا بين الأثمان والعروض في ذلك وقال أكثر أصحابنا: لا تملك العروض بالتعريف قال القاضي: نص أحمد على هذا في رواية الجماعة واختلفوا فيما يصنع بها, فقال أبو بكر وابن عقيل: يعرفها أبدا وقال القاضي: هو بالخيار بين أن يقيم على تعريفها حتى يجيء صاحبها وبين دفعها إلى الحاكم ليرى رأيه فيها وهل له بيعها بعد الحول, ويتصدق بها؟ على روايتين وقال الخلال: كل ما روي عن أحمد أنه يعرفه سنة, ويتصدق به والذي نقل أنه يعرف أبدا قول قديم رجع عنه واحتجوا بما روي عن ابن عمر, وابن عباس وابن مسعود مثل قولهم, ولأنها لقطة لا تملك في الحرم فلا تملك في غيره كالإبل ولأن الخبر ورد في الأثمان, وغيرها لا يساويها لعدم الغرض المتعلق بعينها فمثلها يقوم مقامها من كل وجه بخلاف غيرها ولنا عموم الأحاديث في اللقطة جميعها (فإن النبي ـ ﷺ ـ سئل عن اللقطة, فقال: عرفها سنة ثم قال في آخره: فانتفع بها أو فشأنك بها) وفي حديث عياض بن حمار: " من وجد لقطة " وهو لفظ عام وروى الجوزجاني والأثرم في " كتابيهما ", قالا: حدثنا أبو نعيم ثنا هشام بن سعد قال حدثني عمرو بن شعيب, عن أبيه عن جده قال: (أتى رجل رسول الله ـ ﷺ ـ فقال: يا رسول الله, كيف ترى في متاع يوجد في الطريق الميتاء أو في قرية مسكونة؟ فقال: عرفه سنة فإن جاء صاحبه, وإلا فشأنك به) ورويا أن سفيان بن عبد الله وجد عيبة فأتى بها عمر بن الخطاب فقال: عرفها سنة فإن عرفت, وإلا فهي لك زاد الجوزجاني: فلم تعرف فلقيه بها العام المقبل فذكرها له, فقال عمر: هي لك إن رسول الله ـ ﷺ ـ أمرنا بذلك ورواه النسائي كذلك وهذا نص في غير الأثمان وروى الجوزجاني بإسناده عن الحر بن الصباح قال: كنت عند ابن عمر بمكة, إذ جاءه رجل فقال: إني وجدت هذا البرد وقد نشدته وعرفته فلم يعرفه أحد وهذا يوم التروية, ويوم يتفرق الناس فقال: إن شئت قومته قيمة عدل ولبسته وكنت له ضامنا, متى جاءك صاحبه دفعت إليه ثمنه وإن لم يجئ له طالب فهو لك إن شئت ولأن ما جاز التقاطه ملك بالتعريف كالأثمان, وما حكوه عن الصحابة إن صح فقد حكينا عن عمر وابنه خلافه وقولهم: إنها لقطة لا تملك في الحرم ممنوع ثم هو منقوض بالأثمان, ولا يصح قياسها على الإبل لأن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر, حتى يأتيها ربها ولا يوجد ذلك في غيرها ولأن الإبل لا يجوز التقاطها, فلا تملك به وهاهنا يجوز التقاطها فتملك به, كالأثمان ثم إذا لم تملك في الحرم لا تملك في الحل وذلك لأن الحرم ميز بكون لقطته لا يلتقطها إلا منشد ولهذا لم تملك الأثمان بالتقاطها فيه, فلا يلزم أن لا تملك في موضع لم يوجد المانع فيه وقولهم: إن النص خاص في الأثمان قلنا: بل هو عام في كل لقطة فيجب العمل بعمومه وإن ورد فيها نص خاص, فقد روي خبر عام فيعمل بهما ثم قد روينا نصا خاصا في العروض, فيجب العمل به كما وجب العمل بالخاص في الأثمان ثم لو اختص الخبر بالأثمان, لوجب أن يقاس عليها ما كان في معناها كسائر النصوص التي عقل معناها ووجد في غيرها وهاهنا قد وجد المعنى, فيجب قياسه على المنصوص عليه أو نقول: إن المعنى ها هنا آكد فيثبت الحكم فيه بطريق التنبيه وبيانه أن الأثمان لا تتلف بمضي الزمان عليها, وانتظار صاحبها بها أبدا والعروض تتلف بذلك ففي النداء عليها دائما هلاكها, وضياع ماليتها على صاحبها وملتقطها وسائر الناس, في إباحة الانتفاع بها وملكها بعد التعريف حفظا لماليتها على صاحبها بدفع قيمتها إليه وتقع لغيره, فيجب ذلك لنهي النبي ـ ﷺ ـ عن إضاعة المال ولما فيه من المصلحة والحفظ لمال المسلم عليه وعلى أخيه ولأن في إثبات الملك فيها حثا على التقاطها وحفظها وتعريفها, لكونه وسيلة إلى الملك المقصود للآدمي وفي نفي ملكها تضييع لها لما في التقاطها من الخطر والمشقة والكلفة من غير نفع يصل إليه, فيؤدي إلى أن لا يلتقطها أحد لتعريفها فتضيع وما ذكروه في الفرق ملغى بالشاة فقد ثبت الملك فيها مع هذا الفرق ثم يمكننا أن نقيس على الشاة, فلا يحصل هذا الفرق بين الأصل والفرع والله أعلم ثم نقلب دليلهم فنقول: لقطة لا تملك في الحرم فما أبيح التقاطه منها ملك إذا كان في الحل, كالإبل.
فصل:
وظاهر كلام أحمد والخرقي أن لقطة الحل والحرم سواء وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس, وعائشة وابن المسيب وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وروي عن أحمد رواية أخرى, أنه لا يجوز التقاط لقطة الحرم للتملك وإنما يجوز حفظها لصاحبها فإن التقطها عرفها أبدا حتى يأتي صاحبها وهو قول عبد الرحمن بن مهدي, وأبي عبيد وعن الشافعي كالمذهبين والحجة لهذا القول قول النبي ـ ﷺ ـ في مكة: (لا تحل ساقطتها إلا لمنشد) متفق عليه وقال أبو عبيد: المنشد المعرف والناشد الطالب وينشد: إصاخة الناشد للمنشد فيكون معناه لا تحل لقطة مكة إلا لمن يعرفها لأنها خصت بهذا من سائر البلدان وروى يعقوب بن شيبة في " مسنده " عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي, أن النبي ـ ﷺ ـ (نهى عن لقطة الحاج) قال ابن وهب: يعني يتركها حتى يجدها صاحبها رواه أبو داود أيضا ووجه الرواية الأولى عموم الأحاديث وأنه أحد الحرمين فأشبه حرم المدينة, ولأنها أمانة فلم يختلف حكمها بالحل والحرم كالوديعة وقول النبي ـ ﷺ ـ : (إلا لمنشد) يحتمل أن يريد إلا لمن عرفها عاما وتخصيصها بذلك لتأكيدها, لا لتخصيصها كقوله عليه السلام: (ضالة المسلم حرق النار) وضالة الذمي مقيسة عليها.
فصل:
إذا التقط لقطة عازما على تملكها بغير تعريف فقد فعل محرما, ولا يحل له أخذها بهذه النية فإذا أخذها لزمه ضمانها سواء تلفت بتفريط أو بغير تفريط, ولا يملكها وإن عرفها لأنه أخذ مال غيره على وجه لا يجوز له أخذه فأشبه الغاصب نص على هذا أحمد ويحتمل أن يملكها لأن ملكها بالتعريف والالتقاط, وقد وجد فيملكها به كالاصطياد والاحتشاش, فإنه لو دخل حائطا لغيره بغير إذنه فاحتش أو اصطاد منه صيدا ملكه, وإن كان دخوله محرما كذا ها هنا ولأن عموم النص يتناول هذا الملتقط فيثبت حكمه فيه, ولأننا لو اعتبرنا نية التعريف وقت الالتقاط لافترق الحال بين العدل والفاسق والصبي والسفيه لأن الغالب على هؤلاء الالتقاط للتملك من غير تعريف.
مسألة:
قال: ( وحفظ وكاءها وعفاصها وحفظ عددها وصفتها ) الأصل في هذا قول النبي ـ ﷺ ـ في حديث زيد بن خالد: (اعرف وكاءها وعفاصها) وقال في حديث أبي بن كعب: (اعرف عفاصها ووكاءها وعددها, ثم عرفها سنة) وفي لفظ عن أبي بن كعب أنه قال: (وجدت مائة دينار فأتيت بها النبي ـ ﷺ ـ , فقال: عرفها حولا فعرفتها حولا فلم تعرف فرجعت إليه فقال: اعرف عدتها ووعاءها ووكاءها, واخلطها بمالك فإن جاء ربها فأدها إليه) ففي هذا الحديث أنه أمره بمعرفة صفاتها بعد التعريف وفي غيره أمره بمعرفتها حين التقاطها قبل تعريفها وهو الأولى ليحصل عنده علم ذلك, فإذا جاء صاحبها فنعتها غلب على ظنه صدقه فيجوز الدفع إليه حينئذ وإن أخر معرفة ذلك إلى حين مجيء باغيها جاز لأن المقصود يحصل بمعرفتها حينئذ وإن لم يجئ طالبها, فأراد التصرف فيها بعد الحول لم يجز له حتى يعرف صفاتها لأن عينها تنعدم بالتصرف فلا يبقى له سبيل إلى معرفة صفاتها إذا جاء صاحبها وكذلك إن خلطها بماله على وجه لا تتميز منه, فيكون أمر النبي ـ ﷺ ـ لأبي بمعرفة صفاتها عند خلطها بماله أمر إيجاب مضيق وأمره لزيد بن خالد بمعرفة ذلك حين الالتقاط واجبا موسعا والله أعلم قال القاضي: ينبغي أن يعرف جنسها دراهم أو دنانير ونوعها, وإن كانت ثيابا عرف لفافتها وجنسها ويعرف قدرها بالكيل وبالوزن أو بالعدد, أو الذرع ويعرف العقد عليها هل هو عقد واحد أو أكثر, أنشوطة أو غيرها ويعرف صمام القارورة الذي تدخل رأسها وعفاصها الذي تلبسه.
فصل:
ويستحب أن يشهد عليها حين يجدها قال أحمد, ـ رحمه اللهـ : لا أحب أن يمسها حتى يشهد عليها فظاهر هذا أنه مستحب غير واجب وأنه إن لم يشهد عليها لا ضمان عليه وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: إذا لم يشهد عليها ضمنها لقول رسول الله ـ ﷺ ـ : (من وجد لقطة فليشهد ذا عدل, أو ذوي عدل) وهذا أمر يقتضي الوجوب ولأنه إذا لم يشهد كان الظاهر أنه أخذها لنفسه ولنا خبر زيد بن خالد وأبي بن كعب, فإنه أمرهما بالتعريف دون الإشهاد ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة فلو كان واجبا لبينه النبي ـ ﷺ ـ سيما وقد سئل عن حكم اللقطة فلم يكن ليخل بذكر الواجب فيها, فيتعين حمل الأمر في حديث عياض على الندب والاستحباب ولأنه أخذ أمانة فلم يفتقر إلى الإشهاد كالوديعة والمعنى الذي ذكروه غير صحيح, فإنه إذا حفظها وعرفها فلم يأخذها لنفسه وفائدة الإشهاد صيانة نفسه عن الطمع فيها وكتمها وحفظها من ورثته إن مات, ومن غرمائه إن أفلس وإذا أشهد عليها لم يذكر للشهود صفاتها لئلا ينتشر ذلك فيدعيها من لا يستحقها, ويذكر صفاتها كما قلنا في التعريف ولكن يذكر للشهود ما يذكره في التعريف من الجنس والنوع قال أحمد, في رواية صالح وقد سأله: إذا أشهد عليها هل يبين كم هي؟ قال: لا ولكن يقول: قد أصبت لقطة ويستحب أن يكتب صفاتها ليكون أثبت لها مخافة أن ينساها إن اقتصر على حفظها بقلبه, فإن الإنسان عرضة النسيان.
مسألة:
قال: [فإن جاء ربها فوصفها له دفعت إليه بلا بينة] يعني إذا وصفها بصفاتها المذكورة دفعها إليه, سواء غلب على ظنه صدقه أو لم يغلب وبهذا قال مالك وأبو عبيد وداود, وابن المنذر وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجبر على ذلك إلا ببينة ويجوز له دفعها إليه إذا غلب على ظنه صدقه قال أصحاب الرأي: إن شاء دفعها إليه وأخذ كفيلا بذلك لأن النبي ـ ﷺ ـ قال: (البينة على المدعي) ولأن صفة المدعي لا يستحق بها كالمغصوب ولنا قول النبي ـ ﷺ ـ : (فإن جاءك أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها, فادفعها إليه) قال ابن المنذر: هذا الثابت عن رسول الله ـ ﷺ ـ وبه أقول ورواه ابن القصار: " فإن جاء باغيها ووصف عفاصها وعددها فادفعها إليه " وفي حديث زيد الذي ذكرناه (اعرف وكاءها وعفاصها, ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها, وإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه) يعني إذا ذكر صفاتها لأن ذلك هو المذكور في صدر الحديث ولم يذكر البينة في شيء من الحديث, ولو كانت شرطا للدفع لم يجز الإخلال به ولا أمر بالدفع بدونه, ولأن إقامة البينة على اللقطة تتعذر لأنها إنما سقطت حال الغفلة والسهو فتوقيف دفعها منع لوصولها إلى صاحبها أبدا وهذا يفوت مقصود الالتقاط, ويفضي إلى تضييع أموال الناس وما هذا سبيله يسقط اعتبار البينة فيه كالإنفاق على اليتيم والجمع بين هذا القول وبين تفضيل الالتقاط على تركه متناقض جدا لأن الالتقاط حينئذ يكون تضييعا لمال المسلم يقينا, وإتعابا لنفسه بالتعريف الذي لا يفيد والمخاطرة بدينه بتركه الواجب من تعريفها وما هذا سبيله يجب أن يكون حراما, فكيف يكون فاضلا وعلى هذا نقول: لو لم يجب دفعها بالصفة لم يجز التقاطها لما ذكرناه وقول النبي ـ ﷺ ـ : (البينة على المدعي) يعني إذا كان ثم منكر لقوله في سياقه: (واليمين على من أنكر) ولا منكر ها هنا, على أن البينة تختلف وقد جعل النبي ـ ﷺ ـ بينة مدعي اللقطة وصفها فإذا وصفها فقد أقام بينته وقياس اللقطة على المغصوب غير صحيح فإن النزاع ثم في كونه مغصوبا, والأصل عدمه وقول المنكر يعارض دعواه فاحتيج إلى البينة, وها هنا قد ثبت كون هذا المال لقطة وأن له صاحبا غير من هو في يده ولا مدعي له إلا الواصف, وقد ترجح صدقه فينبغي أن يدفع إليه.
فصل:
فإن وصفها اثنان أقرع بينهما, فمن وقعت له القرعة حلف أنها له وسلمت إليه وهكذا إن أقاما بينتين أقرع بينهما, فمن وقعت له القرعة حلف ودفعت إليه ذكره القاضي وقال أبو الخطاب: تقسم بينهما لأنهما تساويا فيما يستحق به الدفع, فتساويا فيها كما لو كانت في أيديهما والذي قلناه أصح وأشبه بأصولنا فيما إذا تداعيا عينا في يد غيرهما, ولأنهما تداعيا عينا في يد غيرهما وتساويا في البينة أو في عدمها, فتكون لمن وقعت له القرعة كما لو ادعيا وديعة في يد إنسان فقال: هي لأحدكما, لا أعرفه عينا وفارق ما إذا كانت في أيديهما لأن يد كل واحد منهما على نصفه فرجح قوله فيه وإن وصفها إنسان فأقام آخر البينة أنها له فهي لصاحب البينة لأنها أقوى من الوصف, فإن كان الواصف قد أخذها انتزعت منه وردت إلى صاحب البينة لأننا تبينا أنها له, فإن كانت قد هلكت فلصاحبها تضمين من شاء من الواصف أو الدافع إليه وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ويتخرج أن لا يلزم الملتقط شيء وهذا قول ابن القاسم صاحب مالك, وأبي عبيد لأنه فعل ما أمر به لأنه أمين غير مفرط ولا مقصر فلا يضمن كما لو دفعها بأمر الحاكم, ولأن الدفع واجب عليه فصار الدفع بغير اختياره فلم يضمنها, كما لو أخذها كرها ولنا أنه دفع مال غيره إلى غير مستحقه اختيارا منه فضمنه كما لو دفع الوديعة إلى غير مالكها, إذا غلب على ظنه أنه مالكها فأما إن دفعها بحكم حاكم لم يملك صاحبها مطالبة الدافع لأنها مأخوذة منه على سبيل القهر فلم يضمنها, كما لو غصبها غاصب ومتى ضمن الواصف لم يرجع على أحد لأن العدوان منه والتلف عنده فإن ضمن الدافع رجع على الواصف لأنه كان سبب تغريمه إلا أن يكون الملتقط قد أقر للواصف أنه صاحبها ومالكها, فإنه لا يرجع عليه لأنه اعترف أنه صاحبها ومستحقها وأن صاحب البينة ظلمه بتضمينه, فلا يرجع به على غير من ظلمه وإن كانت اللقطة قد تلفت عند الملتقط فضمنه إياها, رجع على الواصف بما غرمه وليس لمالكها تضمين الواصف لأن الذي قبضه إنما هو مال الملتقط لا مال صاحب اللقطة, بخلاف ما إذا سلم العين فأما إن وصفها إنسان فأخذها ثم جاء آخر فوصفها وادعاها, لم يستحق شيئا لأن الأول استحقها لوصفه إياها وعدم المنازع فيها وثبتت يده عليها, ولم يوجد ما يقتضي انتزاعها منه فوجب إبقاؤها له كسائر ماله.
فصل:
ولو جاء مدع للقطة, فلم يصفها ولا أقام بينة أنها له لم يجز دفعها إليه, سواء غلب على ظنه صدقه أو كذبه لأنها أمانة فلم يجز دفعها إلى من لم يثبت أنه صاحبها كالوديعة, فإن دفعها فجاء آخر فوصفها أو أقام بينة لزم الواصف غرامتها له لأنه فوتها على مالكها بتفريطه, وله الرجوع على مدعيها لأنه أخذ مال غيره ولصاحبها تضمين آخذها فإذا ضمنه لم يرجع على أحد وإن لم يأت أحد يدعيها فللملتقط مطالبة آخذها بها لأنه لا يأمن مجيء صاحبها, فيغرمه إياها ولأنها أمانة في يده فملك أخذها من غاصبها, كالوديعة.
مسألة:
قال: [أو مثلها إن كانت قد استهلكت] وجملة ذلك أن اللقطة في الحول أمانة في يد الملتقط إن تلفت بغير تفريطه أو نقصت فلا ضمان عليه, كالوديعة ومتى جاء صاحبها فوجدها أخذها بزيادتها المتصلة والمنفصلة لأنها نماء ملكه وإن أتلفها الملتقط أو تلفت بتفريطه, ضمنها بمثلها إن كانت من ذوات الأمثال وبقيمتها إن لم يكن لها مثل لا أعلم في هذا خلافا وإن تلفت بعد الحول ثبت في ذمته مثلها أو قيمتها بكل حال لأنها دخلت في ملكه, وتلفت من ماله وسواء فرط في حفظها أو لم يفرط وإن وجد العين ناقصة وكان نقصها بعد الحول, أخذ العين وأرش نقصها لأن جميعها مضمون إذا تلفت فكذلك إذا نقصت وهذا قول أكثر الفقهاء الذين حكموا بملكه لها بمضي حول التعريف وأما من قال: لا يملكها حتى يتملكها لم يضمنه إياها حتى يتملكها, وحكمها قبل تملكه إياها حكمها قبل مضي حول التعريف ومن قال: لا تملك اللقطة بحال لم يضمنه إياها وبهذا قال الحسن والنخعي وأبو مجلز والحارث العكلي, ومالك وأبو يوسف قالوا: لا يضمن, وإن ضاعت بعد الحول وقد ذكرنا فيما تقدم دليل دخولها في ملكه وقال داود: إذا تملك العين وأتلفها لم يضمنها وحكى ابن أبي موسى عن أحمد, أنه لوح إلى مثل هذا القول لحديث عياض بن حمار عن النبي ـ ﷺ ـ أنه قال: (فإن جاء ربها وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء) فجعله مباحا وقوله في حديث أبي بن كعب: (فإن جاء من يعرفها, وإلا فهي كسبيل مالك) وفي حديث زيد: (فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) وروي: " فهي لك " ولم يأمره برد بدلها ولنا قول النبي ـ ﷺ ـ : (فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك, فإن جاء طالبها يوما من الدهر فادفعها إليه) وقال الأثرم: قال أحمد: أذهب إلى حديث الضحاك بن عثمان جوده ولم يروه أحد مثل ما رواه: (إن جاء صاحبها بعد سنة, وقد أنفقها ردها إليه) لأنها عين يلزم ردها لو كانت باقية فيلزمه ضمانها إذا أتلفها, كما قبل الحول ولأنه مال معصوم فلم يجز إسقاط حقه منه مطلقا, كما لو اضطر إلى مال غيره وإن وجد العين زائدة بعد الحول زيادة متصلة أخذها بزيادتها لأنها تتبع في الرد بالعيب والإقالة, فتبعت ها هنا وإن حدث بعد الحول لها نماء منفصل فهو للملتقط لأنه نماء ملكه متميز لا يتبع في الفسوخ فكان له, كنماء المبيع إذا رد بعيب وذكر أبو الخطاب فيه وجها آخر بناء على المفلس إذا استرجعت منه العين بعد أن زادت زيادة متميزة والولد إذا استرجع أبوه ما وهبه له بعد زيادته والصحيح أن الزيادة للملتقط لما ذكرناه وكذلك الصحيح في الموضعين اللذين ذكرهما أن الزيادة لمن حدثت في ملكه ثم الفرق بينهما أنه في مسألتنا يضمن النقص, فتكون له الزيادة ليكون الخراج بالضمان وثم لا ضمان عليه, فأمكن أن لا يكون الخراج له والله أعلم ومتى اختلفا في القيمة أو المثل فالقول قول الملتقط مع يمينه لأن الأصل براءة ذمته مما حلف عليه.
فصل:
وإن وجد العين بعد خروجها من ملك الملتقط ببيع أو هبة أو نحوهما, لم يكن له الرجوع فيها وله أخذ بدلها لأن تصرف الملتقط وقع صحيحا لكونها صارت في ملكه وإن صادفها قد رجعت إلى الملتقط بفسخ أو شراء أو غير ذلك فله أخذها لأنه وجد عين ماله في يد ملتقطه, فكان له أخذه كالزوج إذا طلق قبل الدخول فوجد الصداق قد رجع إلى المرأة وسائر أحكام الرجوع ها هنا كحكم رجوع الزوج على ما نذكره في موضعه ـ إن شاء الله تعالى ـ .
فصل:
إذا أخذ اللقطة, ثم ردها إلى موضعها ضمنها روي ذلك عن طاوس وبه قال الشافعي وقال مالك: لا ضمان عليه لما روى الأثرم عن القعنبي, عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن ثابت بن الضحاك عن عمر, أنه قال لرجل وجد بعيرا: أرسله حيث وجدته ولما روي عن جرير بن عبد الله أنه رأى في بقره بقرة قد لحقت بها فأمر بها فطردت حتى توارت ولنا: أنها أمانة حصلت في يده, فلزمه حفظها فإذا ضيعها لزمه ضمانها كما لو ضيع الوديعة ولأنها لما حصلت في يده لزمه حفظها, وتركها تضييعها فأما حديث عمر فهو في الضالة التي لا تحل فأما ما لا يحل التقاطه إذا أخذه فيحتمل أن له رده إلى مكانه ولا ضمان عليه لهذه الآثار, ولأنه كان واجبا عليه تركه في مكانه ابتداء فكان له ذلك بعد أخذه ويحتمل أن لا يبرأ من ضمانه برده لأنه دخل في ضمانه, فلم يبرأ من ضمانه برده إلى مكانه كالمسروق وما يجوز التقاطه فعلى هذا لا يبرأ إلا برده إلى الإمام أو نائبه وأما عمر فهو كان الإمام, فإذا أمر برده كان كأخذه منه وحديث جرير لا حجة فيه لأنه لم يأخذ البقرة ولا أخذها غلامه إنما لحقت بالبقر من غير فعله ولا اختياره.
فصل:
وإن ضاعت اللقطة من ملتقطها بغير تفريط, فلا ضمان عليه لأنها أمانة في يده فأشبهت الوديعة فإن التقطها آخر فعرف أنها ضاعت من الأول, فعليه ردها إليه لأنه قد ثبت له حق التمول وولاية التعريف والحفظ فلا يزول ذلك بالضياع فإن لم يعلم الثاني بالحال حتى عرفها حولا ملكها لأن سبب الملك وجد منه من غير عدوان, فيثبت الملك به كالأول ولا يملك الأول انتزاعها لأن الملك مقدم على حق التملك وإذا جاء صاحبها فله أخذها من الثاني, وليس له مطالبة الأول لأنه لم يفرط وإن علم الثاني بالأول فردها إليه, فأبى أخذها وقال: عرفها أنت فعرفها ملكها أيضا لأن الأول ترك حقه فسقط وإن قال: عرفها, ويكون ملكها لي ففعل فهو مستنيب له في التعريف ويملكها الأول لأنه وكله في التعريف, فصح كما لو كانت في يد الأول وإن قال: عرفها وتكون بيننا ففعل, صح أيضا وكانت بينهما لأنه أسقط حقه من نصفها ووكله في الباقي وإن قصد الثاني بالتعريف تملكها لنفسه دون الأول, احتمل وجهين أحدهما يملكها لأن سبب الملك وجد منه فملكها, كما لو أذن له الأول في تعريفها لنفسه والثاني لا يملكها لأن ولاية التعريف للأول أشبه ما لو غصبها من الملتقط غاصب فعرفها وكذلك الحكم إذا علم الثاني بالأول فعرفها ولم يعلمه بها ويشبه هذا المتحجر في الموات إذا سبقه غيره إلى ما حجره, فأحياه بغير إذنه فأما إن غصبها غاصب من الملتقط فعرفها لم يملكها, وجها واحدا لأنه معتد بأخذها ولم يوجد منه سبب تملكها فإن الالتقاط من جملة السبب ولم يوجد منه ويفارق هذا ما إذا التقطها ثان, فإنه وجد منه الالتقاط والتعريف.
فصل:
ومن اصطاد سمكة فوجد فيها درة فهي للصياد لأن الدر يكون في البحر, بدليل قول الله تعالى: {وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} [النحل: 14]. فتكون لآخذها فإن باعها الصياد ولم يعلم فوجدها المشتري في بطنها, فهي للصياد نص عليه أحمد لأنه إذا لم يعلم ما في بطنها فلم يبعه ولم يرض بزوال ملكه عنه فلم يدخل في البيع, كمن باع دارا له مال مدفون فيها وإن وجد في بطنها عنبرة أو شيئا مما يكون في البحر فهو للصياد لما ذكرنا وحكمه حكم الجوهرة وإن وجد دراهم أو دنانير فهي لقطة لأن ذلك لا يخلق في البحر, ولا يكون إلا لآدمي فيكون لقطة كما لو وجده في البحر وكذلك الحكم في الدرة إذا كان فيها أثر لآدمي, مثل أن تكون مثقوبة أو متصلة بذهب أو فضة أو غيرهما فإنها تكون لقطة لا يملكها الصياد لأنها لم تقع في البحر حتى تثبت اليد عليها فهي كالدينار وكذلك الحكم في العنبرة إذا كانت موصولة بذهب أو فضة, أو مصنوعة كالتفاحة مثقوبة ونحو ذلك مما لا يخلق عليه في البحر, فهي لقطة وإن وجدها الصياد فعليه تعريفها لأنه ملتقطها وإن وجدها المشتري فالتعريف عليه لأنه واجدها, ولا حاجة إلى البداية بالبائع فإنه لا يحتمل أن تكون السمكة ابتلعت ذلك بعد اصطيادها وملك الصياد لها فاستوى هو وغيره فأما إن اشترى شاة, ووجد في بطنها درة أو عنبرة أو دنانير أو دراهم فهي لقطة يعرفها ويبدأ بالبائع لأنه يحتمل أن تكون ابتلعتها من ملكه فيبدأ به, كقولنا في مشترى الدار إذا وجد فيها مالا مدفونا وإن اصطاد السمكة من غير البحر كالنهر والعين فحكمها حكم الشاة, في أن ما وجد في بطنها من ذلك فهو لقطة درة كانت أو غيرها لأن ذلك لا يكون إلا في البحر بحكم العادة ويحتمل أن تكون الدرة للصياد لقول الله تعالى: (ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها).
فصل:
وإن وجد عنبرة على ساحل البحر فهي له لأنه يمكن أن يكون البحر ألقاها, والأصل عدم الملك فيها فكانت مباحة لآخذها كالصيد وقد روى سعيد, قال: حدثنا إسماعيل بن عياش عن معاوية بن عمرو العبدي قال: ألقى بحر عدن عنبرة مثل البعير, فأخذها ناس بعدن فكتب إلى عمر بن عبد العزيز فكتب إلينا أن خذوا منها الخمس, وادفعوا إليهم سائرها وإن باعوكموها فاشتروها فأردنا أن نزنها فلم نجد ميزانا يخرجها فقطعناها اثنين, ووزناها فوجدناها ستمائة رطل فأخذنا خمسها, ودفعنا سائرها إليهم ثم اشتريناها بخمسة آلاف دينار وبعثنا بها إلى عمر بن عبد العزيز, فلم يلبث إلا قليلا حتى باعها بثلاثة وثلاثين ألف دينار.
فصل:
وإن صاد غزالا فوجده مخضوبا أو في عنقه حرز, أو في أذنه قرط ونحو ذلك مما يدل على ثبوت اليد عليه فهو لقطة لأن ذلك دليل على أنه كان مملوكا وقال أحمد, في من ألقي شبكة في البحر فوقعت فيها سمكة فجذبت الشبكة, فمرت بها في البحر فصادها رجل فإن السمكة للذي حازها, والشبكة يعرفها ويدفعها إلى صاحبها فجعل الشبكة لقطة لأنها مملوكة لآدمي والسمكة لمن صادها لأنها كانت مباحة ولم يملكها صاحب الشبكة لكون شبكته لم تثبتها, فبقيت على الإباحة وهكذا لو نصب فخا أو شركا فوقع فيه صيد من صيود البر, فأخذه وذهب به وصاده آخر فهو لمن صاده, ويرد الآلة إلى صاحبها فهي لقطة يعرفها وقال أحمد في رجل انتهى إلى شرك فيه حمار وحش, أو ظبية قد شارف الموت فخلصه وذبحه: هو لصاحب الأحبولة, وما كان من الصيد في الأحبولة فهو لمن نصبها وإن كان بازيا أو صقرا أو عقابا وسئل عن بازي أو صقر أو كلب معلم أو فهد ذهب عن صاحبه, فدعاه فلم يجبه ومر في الأرض حتى أتى لذلك أيام فأتى قرية, فسقط على حائط فدعاه رجل فأجابه؟ قال: يرده على صاحبه قيل له: فإن دعاه فلم يجبه فنصب له شركا فصاده به؟ قال: يرده على صاحبه فجعل هذا لصاحبه لأنه قد ملكه فلم يزل ملكه عنه بذهابه عنه, والسمكة في الشبكة لم يكن ملكها ولا حازها وكذلك جعل ما وقع في الأحبولة من البازي والصقر والعقاب لصاحب الأحبولة ولم يجعله ها هنا لمن وقع في شركه لأن هذا فيما علم أنه قد كان مملوكا لإنسان فذهب وإنما يعلم هذا بالخبر, أو بوجود ما يدل على الملك فيه مثل وجود السير في رجله أو آثار التعلم, مثل استجابته للذي يدعوه ونحو ذلك ومتى لم يوجد ما يدل على أنه مملوك فهو لمن اصطاده لأن الأصل عدم الملك فيه وإباحته. فصل: قال أحمد, في من عنده رهون قد أتى عليها زمان لا يعرف صاحبها: يبيعها ويتصدق بثمنها, فإن جاء صاحبها غرمها له وهذا محمول على من استوفى ديونه التي رهن الرهن بها فأما من لم يستوف دينه فإن كان قد أذن له في بيعها, باعها واستوفى دينه من ثمنها وتصدق بالباقي, وإن لم يكن أذن له في بيعها رفعها إلى الحاكم ليبيعها ويقبضه حقه من ثمنها, ويتصدق بباقيه.
فصل:
نقل الفضل بن زياد عن أحمد إذا تنازع صاحب الدار والساكن في دفن في الدار, فقال كل واحد منهما: أنا دفنته بين كل واحد منهما ما الذي دفن فكل من أصاب الوصف فهو له وذلك لأن ما يوجد في الأرض من الدفن مما عليه علامة المسلمين, فهو لقطة واللقطة تستحق بوصفها ولأن المصيب للوصف في الظاهر هو من كان ذلك في يده, فكان أحق به كما لو تنازعه أجنبيان فوصفه أحدهما.
فصل:
ومن وجد لقطة في دار الحرب, فإن كان في الجيش فقال أحمد: يعرفها سنة في دار الإسلام ثم يطرحها في المقسم إنما عرفها في دار الإسلام لأن أموال أهل الحرب مباحة, ويجوز أن تكون لمسلم ولأنه قد لا يمكنه المقام في دار الحرب لتعريفها ومعناه ـ والله أعلم ـ يتمم التعريف في دار الإسلام فأما ابتداء التعريف فيكون في الجيش الذي هو فيه لأنه يحتمل أن تكون لأحدهم, فإذا قفل أتم التعريف في دار الإسلام فأما إن كان دخل دارهم بأمان فينبغي أن يعرفها في دارهم لأن أموالهم محرمة عليه فإذا لم تعرف, ملكها كما يملكها في دار الإسلام وإن كان في الجيش طرحها في المقسم بعد التعريف لأنه وصل إليها بقوة الجيش فأشبهت مباحات دار الحرب إذا أخذ منها شيئا وإن دخل إليهم متلصصا, فوجد لقطة عرفها في دار الإسلام لأن أموالهم مباحة له ثم يكون حكمها حكم غنيمته ويحتمل أن تكون غنيمة له, لا تحتاج إلى تعريف لأن الظاهر أنها من أموالهم وأموالهم غنيمة.
مسألة:
قال: [وإن كان الملتقط قد مات فصاحبها غريم بها] وجملة ذلك أن الملتقط إذا مات, واللقطة موجودة بعينها قام وارثه مقامه في إتمام تعريفها إن مات قبل الحول ويملكها بعد إتمام التعريف, فإن مات بعد الحول ورثها الوارث كسائر أموال الميت, ومتى جاء صاحبها أخذها من الوارث كما يأخذها من الموروث, فإن كانت معدومة العين فصاحبها غريم للميت بمثلها إن كانت من ذوات الأمثال أو بقيمتها إن لم تكن كذلك, فيأخذ ذلك من تركته إن اتسعت لذلك وإن ضاقت التركة زاحم الغرماء ببدلها سواء تلفت بعد الحلول بفعله أو بغير فعله لأنها قد دخلت في ملكه بمضي الحول وإن علم أنها تلفت قبل الحول بغير تفريطه, فلا ضمان عليه ولا شيء لصاحبها لأنها أمانة في يده تلفت بغير تفريطه فلم يضمنها, كالوديعة وكذلك إن تلفت بعد الحول قبل تملكها من غير تفريط على رأي من رأى أنها لا تدخل في ملكه حتى يتملكها وقد مضي الكلام في ذلك فأما إن لم يعلم تلفها, ولم يجدها في تركته فظاهر كلام الخرقي أن صاحبها غريم بها سواء كان قبل الحول أو بعده لأن الأصل بقاؤها ويحتمل أن لا يلزم الملتقط شيء, ويسقط حق صاحبها لأن الأصل براءة ذمة الملتقط منها ويحتمل أن تكون قد تلفت بغير تفريطه فلا تشغل ذمته بالشك ويحتمل أنه إن كان الموت قبل الحول فلا شيء عليه لأنها كانت أمانة عنده, ولم تعلم جنايته فيها والأصل براءة ذمته منها وإن مات بعد الحول فهي في تركته لأن الأصل بقاؤها إلى ما بعد الحول, ودخولها في ملكه ووجوب بدلها عليه فإن قيل: فقد قلتم إن صاحبها لو جاء بعد بيع الملتقط لها أو هبته, لم يكن له إلا بدلها فلم قلتم إنها إذا انتقلت إلى الوارث يملك صاحبها أخذها؟ قلنا: لأن الوارث خليفة الموروث وإنما يثبت له الملك فيها على الوجه الذي كان ثابتا لموروثه, وملك موروثه فيها كان مراعاة مشروطا بعدم مجيء صاحبها فكذلك ملك وارثه بخلاف ملك المشتري والمتهب, فإنهما يملكان ملكا مستقرا.
مسألة:
قال: [وإن كان صاحبها جعل لمن وجدها شيئا معلوما فله أخذه إن كان التقطها بعد أن بلغه الجعل] وجملة ذلك أن الجعالة في رد الضالة والآبق وغيرهما جائزة وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم فيه مخالفا والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف: 72]. وروى أبو سعيد (أن ناسا من أصحاب رسول الله ـ ﷺ ـ أتوا حيا من أحياء العرب, فلم يقروهم فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك فقالوا: هل فيكم راق؟ فقالوا: لم تقرونا, فلا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا فجعلوا لهم قطيع شياه فجعل رجل يقرأ بأم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل, فبرأ الرجل فأتوهم بالشاء فقالوا: لا نأخذها حتى نسأل عنها رسول الله ـ ﷺ ـ فسألوا النبي ـ ﷺ ـ فقال: وما أدراك أنها رقية؟ خذوها, واضربوا لي معكم بسهم) رواه البخاري ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك فإن العمل قد يكون مجهولا كرد الآبق والضالة ونحو ذلك, ولا تنعقد الإجارة فيه والحاجة داعية إلى ردهما وقد لا يجد من يتبرع به, فدعت الحاجة إلى إباحة بذل الجعل فيه مع جهالة العمل لأنها غير لازمة بخلاف الإجارة, ألا ترى أن الإجارة لما كانت لازمة افتقرت إلى تقدير مدة والعقود الجائزة كالشركة والوكالة لا يجب تقدير مدتها, ولأن الجائزة لكل واحد منهما تركها فلا يؤدي إلى أن يلزمه مجهول عنده بخلاف اللازمة إذا ثبت هذا, فإذا قال: من رد على ضالتي أو عبدي الآبق أو خاط لي هذا القميص أو بنى لي هذا الحائط, فله كذا وكذا صح وكان عقدا جائزا لكل واحد منهما الرجوع فيه قبل حصول العمل لكن إن رجع الجاعل قبل التلبس بالعمل, فلا شيء عليه وإن رجع بعد التلبس به فعليه للعامل أجرة مثله لأنه إنما عمل بعوض, فلم يسلم له وإن فسخ العامل قبل إتمام العمل فلا شيء له لأنه أسقط حق نفسه حيث لم يأت بما شرط عليه العوض, ويصير كعامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح ولا بد أن يكون العوض معلوما والفرق بينه وبين العمل من وجهين أحدهما أن الحاجة تدعو إلى كون العمل مجهولا بأن لا يعلم موضع الضالة والآبق ولا حاجة تدعو إلى جهالة العوض والثاني أن العمل لا يصير لازما, فلم يجب كونه معلوما والعوض يصير لازما بإتمام العمل فوجب كونه معلوما ويحتمل أن تجوز الجعالة مع جهالة العوض إذا كانت الجهالة لا تمنع التسليم, نحو أن يقول: من رد عبدي الآبق فله نصفه ومن رد ضالتي فله ثلثها فإن أحمد قال: إذا قال الأمير في الغزو: من جاء بعشرة رءوس فله رأس جاز وقالوا: إذا جعل جعلا لمن يدله على قلعة أو طريق سهل, وكان الجعل من مال الكفار جاز أن يكون مجهولا كجارية يعينها العامل فيخرج ها هنا مثله فأما إن كانت الجهالة تمنع التسليم, لم تصح الجعالة وجها واحدا وإن كان العمل معلوما مثل أن يقول: من رد عبدي من البصرة, أو بنى لي هذا الحائط أو خاط قميصي هذا فله كذا صح لأنه إذا صح مع الجهالة فمع العلم أولى وإن علقه بمدة معلومة, فقال: من رد لي عبدي من العراق في شهر فله دينار أو من خاط قميصي هذا في اليوم فله درهم صح لأن المدة إذا جازت مجهولة, فمع التقدير أولى فإن قيل: الصحيح من المذهب أن مثل هذا لا يجوز في الإجارة فكيف أجزتموه في الجعالة؟ قلنا: الفرق بينهما من وجوه أحدها أن الجعالة يحتمل فيها الغرر, وتجوز مع جهالة العمل والمدة بخلاف الإجارة الثاني أن الجعالة عقد جائز فلا يلزمه بالدخول فيها مع الغرر ضرر, بخلاف الإجارة فإنها عقد لازم فإذا دخل فيها مع الغرر, لزمه ذلك الثالث أن الإجارة إذا قدرت بمدة لزمه العمل في جميعها ولا يلزمه العمل بعدها, فإذا جمع بين تقدير المدة والعمل فربما عمله قبل المدة فإن قلنا: يلزمه العمل في بقية المدة فقد لزمه من العمل أكثر من المعقود عليه, وإن قلنا: لا يلزمه فقد خلا بعض المدة من العمل إن انقضت المدة قبل عمله فألزمناه إتمام العمل, فقد لزمه العمل في غير المدة المعقود عليها وإن قلنا: لا يلزمه العمل فما أتى بالمعقود عليه من العمل بخلاف مسألتنا, فإن العمل الذي يستحق به الجعل هو عمل مقيد بمدة إن أتى به فيها استحق الجعل ولا يلزمه شيء آخر, وإن لم يف به فيها فلا شيء له إذا ثبت هذا فإنما يستحق الجعل من عمل العمل بعد أن بلغه ذلك, لأنه عوض يستحق بعمل فلا يستحقه من لم يعمل كالأجر في الإجارة.
فصل: ويجوز أن يجعل الجعل في الجعالة لواحد بعينه, فيقول له: إن رددت عبدي فلك دينار فلا يستحق الجعل من يرده سواه ويجوز أن يجعله لغير معين فيقول: من رد عبدي فله دينار فمن رده استحق الجعل ويجوز أن يجعل لواحد في رده شيئا معلوما ولآخر أكثر منه أو أقل ويجوز أن يجعل للمعين عوضا, ولسائر الناس عوضا آخر لأنه يجوز أن يكون الأجر في الإجارة مختلفا مع التساوي في العمل فهاهنا أولى فإن قال: من رد لقطتي فله دينار فردها ثلاثة فلهم الدينار بينهم أثلاثا لأنهم اشتركوا في العمل الذي يستحق به العوض, فاشتركوا في العوض كالأجر في الإجارة فإن قيل: أليس لو قال: من دخل هذا النقب فله دينار فدخله جماعة استحق كل واحد منهم دينارا كاملا, فلم لا يكون ها هنا كذلك؟ قلنا: لأن كل واحد من الداخلين دخل دخولا كاملا كدخول المنفرد فاستحق العوض كاملا, وها هنا لم يرده واحد منهم كاملا إنما اشتركوا فيه فاشتركوا في عوضه فنظير مسألة الدخول ما لو قال: من رد عبدا من عبيدي فله دينار فرد كل واحد منهم عبدا ونظير مسألة الرد ما لو قال: من نقب السور فله دينار فنقب ثلاثة نقبا واحدا فإن جعل لواحد في ردها دينارا, ولآخر دينارين ولثالث ثلاثة فرده الثلاثة فلكل واحد منهم ثلث ما جعل له لأنه عمل ثلث العمل, فاستحق ثلث المسمى فإن جعل لواحد دينارا ولآخرين عوضا مجهولا فردوه معا, فلصاحب الدينار ثلاثة وللآخرين أجر عملهما وإن جعل لواحد شيئا في ردها فردها هو وآخران معه, وقالا: رددنا معاونة له استحق جميع الجعل ولا شيء لهما وإن قالا: رددناه لنأخذ العوض لأنفسنا فلا شيء لهما, وله ثلث الجعل لأنه عمل ثلث العمل فاستحق ثلث الجعل ولم يستحق الآخران شيئا لأنهما عملا من غير جعل وهذا كله مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافا.
فصل: وإن قال: من رد عبدي من بلد كذا فله دينار فرده إنسان من نصف طريق ذلك البلد, استحق نصف الجعل لأنه عمل نصف العمل وكذلك لو قال: من رد عبدي فله دينار فرد أحدهما فله نصف الدينار لأنه رد نصف العبدين وإن رد العبد من غير البلد المسمى, فلا شيء له لأنه لم يجعل في رده منه شيئا فأشبه ما لو جعل في رد أحد عبديه شيئا فرد الآخر ولو قال: من رد عبدي فله دينار فرده إنسان إلى نصف الطريق فهرب منه, لم يستحق شيئا لأنه شرط الجعل برده ولم يرده وكذلك لو مات كما لو استأجره لخياطة ثوب فخاطه, ولم يسلمه حتى تلف لم يستحق أجرة فإن قيل: فإن كان الجاعل قال: من وجد لقطتي فله دينار فقد وجد الوجدان؟ قلنا: قرينة الحال تدل على اشتراط الرد والمقصود هو الرد لا الوجدان المجرد, وإنما اكتفى بذكر الوجدان لأنه سبب الرد فصار كأنه قال: من وجد لقطتي فردها على.
فصل: والجعالة تساوي الإجارة في اعتبار العلم بالعوض وما كان عوضا في الإجارة جاز أن يكون عوضا في الجعالة, وما لا فلا وفي أن ما جاز أخذ العوض عليه في الإجارة من الأعمال جاز أخذه عليه في الجعالة, وما لا يجوز أخذ الأجرة عليه في الإجارة مثل الغناء والزمر وسائر المحرمات لا يجوز أخذ الجعل عليه, وما يختص فاعله أن يكون من أهل القربة مما لا يتعدى نفعه فاعله كالصلاة والصيام, لا يجوز أخذ الجعل عليه فإن كان مما يتعدى نفعه كالأذان والإقامة والحج, ففيه وجهان كالروايتين في الإجارة ويفارق الإجارة في أنه عقد جائز وهي لازمة, وأنه لا يعتبر العلم بالمدة ولا بمقدار العمل ولا يعتبر وقوع العقد مع واحد معين فعلى هذا متى شرط عوضا مجهولا, كقوله: إن رددت عبدي فلك ثوب أو فلك سلبه أو شرط عوضا محرما كالخمر والحر, أو غير مقدور عليه كقوله: من رد عبدي فله ثلثه أو من رد عبدي فله أحدهما فرده إنسان استحق أجر المثل لأنه عمل عملا بعوض لم يسلم له, فاستحق أجره كما في الإجارة.
فصل: ومن رد لقطة أو ضالة أو عمل لغيره عملا غير رد الآبق, بغير جعل لم يستحق عوضا لا نعلم في هذا خلافا لأنه عمل يستحق به العوض مع المعاوضة فلا يستحق مع عدمها, كالعمل في الإجارة فإن اختلفا في الجعل فقال: جعلت لي في رد لقطتي كذا فأنكر المالك فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل معه وإن اتفقا على العوض, واختلفا في قدره فالقول قول المالك لأن الأصل عدم الزائد المختلف فيه ولأن القول قوله في أصل العوض, فكذلك في قدره كرب المال في المضاربة ويحتمل أن يتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن, والأجير والمستأجر إذا اختلفا في قدر الأجر فعلى هذا إن تحالفا فسخ العقد ووجب أجر المثل وكذلك الحكم إن اختلفا في المسافة فقال: جعلت لك الجعل على ردها من حلب فقال: بل على ردها من حمص وإن اختلفا في عين العبد الذي جعل الجعل في رده, فقال: رددت العبد الذي شرطت لي الجعل فيه قال: بل شرطت لك الجعل في العبد الذي لم ترده فالقول قول المالك لأنه أعلم بشرطه ولأنه ادعى عليه شرطا في هذا العقد فأنكره والأصل عدم الشرط.
فصل: أما رد العبد الآبق, فإنه يستحق الجعل برده وإن لم يشرط له روي هذا عن عمر وعلي وابن مسعود وبه قال شريح, وعمر بن عبد العزيز ومالك وأصحاب الرأي وقد روي عن أحمد أنه لم يكن يوجب ذلك قال ابن منصور: سئل أحمد عن جعل الآبق؟ فقال: لا أدري, قد تكلم الناس فيه لم يكن عنده فيه حديث صحيح فظاهر هذا أنه لا جعل له فيه وهو ظاهر قول الخرقي فإنه قال: " وإذا أبق العبد فلمن جاء به إلى سيده ما أنفق عليه " ولم يذكر جعلا وهذا قول النخعي والشافعي, وابن المنذر لأنه عمل لغيره عملا من غير أن يشرط له عوضا فلم يستحق شيئا كما لو رد جمله الشارد ووجه الرواية الأولى, ما روى عمرو بن دينار وابن أبي مليكة أن النبي ـ ﷺ ـ جعل في جعل الآبق, إذا جاء به خارجا من الحرم دينارا وأيضا فإنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم في زمنهم مخالفا, فكان إجماعا ولأن في شرط الجعل في ردهم حثا على رد الإباق وصيانة لهم عن الرجوع إلى دار الحرب وردتهم عن دينهم, وتقوية أهل الحرب بهم فينبغي أن يكون مشروعا لهذه المصلحة وبهذا فارق رد الشارد فإنه لا يفضي إلى ذلك والرواية الأخرى أقرب إلى المصلحة لأن الأصل عدم الوجوب, والخبر المروي في هذا مرسل وفيه مقال ولم يثبت الإجماع فيه ولا القياس, فإنه لم يثبت اعتبار الشرع لهذه المصلحة المذكورة فيه ولا تحققت أيضا فإنه ليس الظاهر هربهم إلى دار الحرب إلا في المجلوب منها, إذا كانت قريبة وهذا بعيد فيهم فأما على الرواية الأولى فقد اختلفت الرواية في قدر الجعل, فروي عن أحمد أنه عشرة دراهم أو دينار إن رده من المصر, وإن رده من خارجه ففيه روايتان إحداهما يلزمه دينار أو اثنا عشر درهما, للخبر المروي فيه ولأن ذلك يروى عن عمر وعلي رضي الله عنهما والثانية له أربعون درهما إن رده من خارج المصر اختارها الخلال, وهو قول ابن مسعود وشريح فروى أبو عمرو الشيباني قال: قلت لعبد الله بن مسعود: إني أصبت عبيدا إباقا فقال: لك أجر وغنيمة فقلت: هذا الأجر فما الغنيمة؟ قال: من كل رأس أربعين درهما وقال أبو إسحاق: أعطيت الجعل في زمن معاوية أربعين درهما وهذا يدل على أنه مستفيض في العصر الأول قال الخلال: حديث ابن مسعود أصح إسنادا وروي عن عمر بن عبد العزيز, أنه قال: إذا وجده على مسيرة ثلاث فله ثلاثة دنانير وقال أبو حنيفة: إن رده من مسيرة ثلاثة أيام فله أربعون درهما, وإن كان من دون ذلك يرضخ له على قدر المكان الذي تعنى إليه ولا فرق عند إمامنا بين أن يزيد الجعل على قيمة العبد أو لا يزيد وبهذا قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة: إن كان قليل القيمة نقص الجعل من قيمته درهما لئلا يفوت عليه العبد جميعه ولنا عموم الدليل, ولأنه جعل يستحق في رد الآبق فاستحقه وإن زاد على قيمته كما لو جعله له صاحبه, ويستحقه إن مات سيده في تركته وبهذا قال أبو حنيفة وقال أبو يوسف: إن كان الذي رده من ورثة المولى سقط الجعل ولنا أن هذا عوض عن عمله فلا يسقط بالموت, كالأجر في الإجارة وكما لو كان من غير ورثة المولى إذا ثبت هذا فلا فرق بين كون من رده معروفا برد الإباق أو لم يكن وبهذا قال أصحاب الرأي وقال مالك: إن كان معروفا بذلك, استحق الجعل وإلا فلا ولنا الخبر والأثر المذكور من غير تفريق, ولأنه رد آبقا فاستحق الجعل كالمعروف بردهم.
فصل:
ويجوز أخذ الآبق لمن وجده وبهذا قال مالك, والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا وذلك لأن العبد لا يؤمن لحاقه بدار الحرب وارتداده, واشتغاله بالفساد في سائر البلاد بخلاف الضوال التي تحفظ نفسها فإذا أخذه فهو أمانة في يده إن تلف بغير تفريطه, فلا ضمان عليه وإن وجد صاحبه دفعه إليه إذا أقام به البينة, أو اعترف العبد أنه سيده وإن لم يجد سيده دفعه إلى الإمام أو نائبه فيحفظه لصاحبه, أو يبيعه إن رأى المصلحة في بيعه ونحو ذلك قال مالك وأصحاب الرأي, ولا نعلم فيه مخالفا وليس لملتقطه بيعه ولا تملكه بعد تعريفه لأن العبد ينحفظ بنفسه فهو كضوال الإبل فإن باعه فالبيع فاسد, في قول عامة أهل العلم منهم أبو حنيفة والشافعي وإن باعه الإمام لمصلحة رآها في بيعه فجاء سيده فاعترف أنه كان أعتقه, قبل منه لأنه لا يجر إلى نفسه بهذا نفعا ولا يدفع عنها ضررا ويحتمل أن لا يقبل لأنه ملك لغيره فلا يقبل إقراره في ملك غيره, كما لو باعه السيد ثم أقر بعتقه فعلى هذا ليس لسيده أخذ ثمنه لأنه يقر أنه حر ولا يستحق ثمنه ولكن يؤخذ إلى بيت المال لأنه لا مستحق له فهو كتركة من مات ولا وارث له فإن عاد السيد فأنكر العتق, وطلب المال دفع إليه لأنه مال لا منازع له فيه.
فصل:
وإذا أبق العبد فحصل في يد حاكم, فأقام سيده بينة عند حاكم بلد آخر أن فلانا الذي صفته كذا وكذا واستقصى صفاته عبد فلان بن فلان أبق منه, فقبل الحاكم بينته وكتب الحاكم إلى الحاكم الذي عنده العبد: ثبت عندي إباق فلان الذي صفته كذا وكذا قبل كتابه وسلم إليه العبد وهذا قول أبي يوسف, وأحد قولي الشافعي إلا أن أبا يوسف قال: يأخذ به كفيلا لأن البينة أثبتته بصفاته كما ثبت في الذمة بوصفه في السلم وقال أبو حنيفة, ومحمد: لا يجب تسليمه لأنهم لا يشهدون على عينه وإنما يشهدون بالصفات وقد تتفق الصفات مع اختلاف الأعيان, ويفارق المسلم فيه فإن الواجب أقل ما يوجد منه الصفة وهو غير معين ولنا أنه يقبل كتاب الحاكم إلى الحاكم على شخص غائب, ويؤخذ المحكوم عليه بالحق وليس ثم شهادة على عين وإنما يؤخذ المحكوم عليه باسمه ونسبه وصفته, فكذا ها هنا إذا ثبت وجوب تسليمه فإن الحاكم الذي يسلمه يختم في عنقه خيطا ضيقا لا يخرج من رأسه, ويدفعه إلى المدعي أو وكيله ليحمله إلى الحاكم الكاتب ليشهد الشهود على عينه, فإن شهدوا بعينه سلم إلى مدعيه وإن لم يشهدوا وجب رده إلى الحاكم الأول, ويكون في ضمان الذي أخذه لأنه أخذه بغير استحقاق.
مسألة:
قال: [وإن كان التقطها قبل ذلك فردها لعلة الجعل لم يجز له أخذه] إنما كان كذلك لأنه إذا التقطها قبل أن يبلغه الجعل, فقد التقطها بغير عوض وعمل في مال غيره بغير جعل فلا يستحق شيئا, كما لو التقطها ولم يجعل ربها فيها شيئا وفارق الملتقط بعد بلوغه الجعل فإنه إنما بذل منافعه بعوض جعل له فاستحقه كالأجير إذا عمل بعد العقد وسواء كان التقاطه لها بعد الجعل أو قبله لما ذكرنا ولا يستحق أخذ الجعل بردها لأن الرد واجب عليه من غير عوض, فلم يجز أخذ العوض عن الواجب كسائر الواجبات وإنما يأخذه الملتقط في موضع يجوز له أخذه عوضا عن الالتقاط المباح إذا ثبت هذا فإن ملتقطها قبل أن يبلغه الجعل لا يستحق شيئا, سواء ردها لعلة الجعل أو لغيره لأنه إذا لم يستحقه مع قصده إياه وعمله من أجله فلأن لا يستحقه مع عدم ذلك أولى وإنما ذكر الخرقي ردها لعلة الجعل, إن شاء الله لينبه به على عدم استحقاقه فيما إذا ردها لغير علته ولأن الحاجة إنما تدعو إلى معرفة الحكم في من يريد الجعل, أما من تركه ولا يريده فلا يقع التنازع فيه غالبا والله أعلم.
مسألة:
قال: [وإن كان الذي وجد اللقطة سفيها أو طفلا قام وليه بتعريفها, فإن تمت السنة ضمها إلى مال واجدها] وجملة ذلك أن الصبي والمجنون والسفيه إذا التقط أحدهم لقطة, ثبتت يده عليها لعموم الأخبار ولأن هذا تكسب فصح منه, كالاصطياد والاحتطاب وإن تلفت في يده بغير تفريط فلا ضمان عليه لأنه أخذ ما له أخذه وإن تلفت بتفريطه ضمنها في ماله وإذا علم بها وليه, لزمه أخذها لأنه ليس من أهل الحفظ والأمانة فإن تركها في يده ضمنها لأنه يلزمه حفظ ما يتعلق به حق الصبي وهذا يتعلق به حقه فإذا تركها في يده كان مضيعا لها, وإذا أخذها الولى عرفها لأن واجدها ليس من أهل التعريف فإذا انقضت مدة التعريف, دخلت في ملك واجدها لأن سبب الملك تم شرطه فيثبت الملك له كما لو اصطاد صيدا وهذا مذهب الشافعي, إلا أن أصحابه قالوا: إذا انقضت مدة التعريف فكأن الصبي والمجنون بحيث يستقرض لهما يتملكه لهما, وإلا فلا وقال بعضهم: يتملكه لهما بكل حال لأن الظاهر عدم ظهور صاحبه فيكون تملكه مصلحة له ولنا عموم الأخبار ولو جرى هذا مجرى الاقتراض لما صح التقاط صبي لا يجوز الاقتراض له لأنه يكون تبرعا بحفظ مال غيره من غير فائدة.
فصل:
قال أحمد, في رواية العباس بن موسى في غلام له عشر سنين التقط لقطة, ثم كبر: فإن وجد صاحبها دفعها إليه وإلا تصدق بها قد مضى أجل التعريف فيما تقدم من السنين ولم ير عليه استقبال أجل التعريف قال: وقد كنت سمعته قبل هذا أو بعده يقول في انقضاء أجل التعريف إذا لم يجد صاحبها: أيتصدق بمال الغير؟, وهذه المسألة: قد مضى نحوها فيما إذا لم يعرف الملتقط اللقطة في حولها فإنه لا يملكها وإن عرفها فيما بعد ذلك لأن التعريف بعده لا يفيد ظاهرا لكون صاحبها يئس منها, وترك طلبها وهذه المسألة: تدل على أنه إذا ترك التعريف لعذر كان كتركه لغير عذر لكون الصبي من أهل العذر وقد ذكرنا في هذا وجهين فيما تقدم وقال أحمد, في غلام لم يبلغ أصاب عشرة دنانير فذهب بها إلى منزله, فضاعت فلما بلغ أراد ردها فلم يعرف صاحبها: تصدق بها, وإن لم يجد عشرة وكان يجحف به تصدق قليلا قليلا قال القاضي: معنى هذا أنها تلفت بتفريط الصبي, وهو أنه لم يعلم وليه حتى يقوم بتعريفها.
فصل:
وإذا وجد العبد لقطة فله أخذها بغير إذن سيده ويصح التقاطه وبهذا قال أبو حنيفة, وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر: لا يصح التقاطه لأن اللقطة في الحول الأول أمانة ولاية في الثاني تملك والعبد ليس من أهل الولايات ولا الملك ولنا عموم الخبر, ولأن الالتقاط سبب يملك به الصبي ويصح منه فصح من العبد كالاحتطاب والاصطياد, ولأن من جاز له قبول الوديعة صح منه الالتقاط كالحر وقولهم: إن العبد ليس من أهل الولايات والأمانات يبطل بالصبي والمجنون, فإنهما أدنى حالا منه في هذا وقولهم: إن العبد لا يملك ممنوع وإن سلمنا فإنه يتملك لسيده, كما يحصل بسائر الاكتساب ولأن الالتقاط تخليص مال من الهلاك فجاز من العبد بغير إذن سيده, كإنقاذ المال الغريق والمغصوب إذا ثبت هذا فإن التقط العبد لقطة كانت أمانة في يده إن تلفت بغير تفريط في حول التعريف, لم يضمن وإن تلفت بتفريط أو إتلاف وجب ضمانها في رقبته, كسائر جناياته وإن عرفها صح تعريفه لأن له قولا صحيحا, فصح تعريفه كالحر فإذا تم حول التعريف, ملكها سيده لأن الالتقاط كسب العبد وكسبه لسيده وإن علم السيد بلقطة عبده كان له انتزاعها منه لأنها من كسب العبد, وللسيد انتزاع كسبه من يده فإذا انتزعها بعد أن عرفها العبد ملكها وإن كان لم يعرفها, عرفها سيده حولا كاملا وإن كان العبد قد عرفها بعض الحول عرفها السيد تمامه فإن اختار السيد إقرارها في يد عبده, نظرت فإن كان العبد أمينا جاز وكان السيد مستعينا بعبده في حفظها كما يستعين به في حفظ ماله, وإن كان العبد غير أمين كان السيد مفرطا بإقرارها في يده ولزمه ضمانها, كما لو أخذها من يده ثم ردها إليه لأن يد العبد كيده وما يستحق بها فهو لسيده وإن أعتق السيد عبده بعد الالتقاط فله انتزاع اللقطة من يده لأنها من كسبه, وأكسابه لسيده ومتى علم العبد أن سيده غير مأمون عليها لزمه سترها عنه وتسليمها إلى الحاكم, ليعرفها ثم يدفعها إلى سيده بشرط الضمان فإن أعلم سيده بها فلم يأخذها منه, أو أخذها فعرفها وأدى الأمانة فيها فتلفت في الحول الأول بغير تفريطه فلا ضمان فيها لأنها لم تتلف بتفريط من أحدهما وإن لم يؤد الأمانة فيها, وجب ضمانها ويتعلق الضمان برقبة العبد وذمة السيد جميعا لأن التفريط حصل منهما جميعا.
فصل:
والمكاتب كالحر في اللقطة لأن المال له في الحال وأكسابه له دون سيده, واللقطة من أكسابه فإن عجز عاد عبدا وصار حكمه في اللقطة حكم العبد, على ما مر بيانه وأم الولد والمعلق عتقه بصفة والمدبر كالقن ومن نصفه حر إذا التقط شيئا, ولم يكن بينه وبين سيده مهايأة فهو بينهما بعد التعريف نصفين كسائر أكسابه, وهي بينهما في حول التعريف كالحرين إذا التقطا لقطة وإن كان بينهما مهايأة ففيها وجهان أحدهما لا تدخل في المهايأة لأنها كسب نادر, لا يعلم وجوده ولا يظن فلم تدخل في المهايأة وتكون بينهما والثاني: تدخل في المهايأة لأنها من كسبه, فأشبهت سائر أكسابه فإن وجدها في يومه فهي له وإن وجدها في يوم سيده فهي له, وإن كان العبد مشتركا بين اثنين فلقطته بينهما على ما ذكرنا في من بعضه حر وبعضه رقيق.
فصل:
والذمي في الالتقاط كالمسلم ومن أصحاب الشافعي من قال: ليس له الالتقاط في دار الإسلام لأنه ليس من أهل الأمانة ولنا أنها نوع اكتساب, فكان من أهلها كالحش والاحتطاب وما ذكروه يبطل بالصبى والمجنون فإنه يصح التقاطهما, مع عدم الأمانة إذا ثبت هذا فإنه إن عرف اللقطة حولا كاملا ملكها كالمسلم, وإن علم بها الحاكم أو السلطان أقرها في يده وضم إليه مشرفا عدلا يشرف عليه ويعرفها لأننا لا نأمن الكافر على تعريفها, ولا نأمنه أن يخل في التعريف بشيء من الواجب عليه فيه وأجر المشرف عليه فإذا تم حول التعريف ملكها الملتقط ويحتمل أن تنزع من يد الذمي, وتوضع على يد عدل لأنه غير مأمون عليها.
مسألة:
قال: ء[وإذا وجد الشاة بمصر أو بمهلكة فهي لقطة] يعني أنه يباح أخذها والتقاطها, وحكمها إذا أخذها حكم الذهب والفضة في التعريف والملك بعده هذا الصحيح من مذهب أحمد وقول أكثر أهل العلم قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن ضالة الغنم في الموضع المخوف عليها له أكلها, وكذلك الحكم في كل حيوان لا يمتنع بنفسه من صغار السباع وهي الثعلب وابن آوى, والذئب وولد الأسد ونحوها فما لا يمتنع منها كفصلان الإبل, وعجول البقر وأفلاء الخيل والدجاج, والإوز ونحوها يجوز التقاطه ويروى عن أحمد رواية أخرى ليس لغير الإمام التقاطها وقال الليث بن سعد: لا أحب أن يقربها, إلا أن يحوزها لصاحبها لقول رسول الله ـ ﷺ ـ : (لا يؤوي الضالة إلا ضال) ولأنه حيوان أشبه الإبل ولنا قول النبي ـ ﷺ ـ (لما سئل عن الشاة: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) متفق عليه ولأنه يخشى عليه التلف والضياع فأشبه لقطة غير الحيوان, وحديثنا أخص من حديثهم فنخصه به والقياس على الإبل لا يصح فإن النبي ـ ﷺ ـ علل منع التقاطها بأن معها حذاءها وسقاءها, وهذا معدوم في الغنم ثم قد فرق النبي ـ ﷺ ـ بينهما في خبر واحد فلا يجوز الجمع بين ما فرق الشارع بينهما, ولا قياس ما أمر بالتقاطه على ما منع ذلك فيه إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يجدها بمصر أو بمهلكة وقال مالك وأبو عبيد, وابن المنذر في الشاة توجد في الصحراء: اذبحها وكلها وفي المصر: ضمها حتى يجدها صاحبها لأن النبي ـ ﷺ ـ قال: (هي لك أو لأخيك أو للذئب) والذئب لا يكون في المصر ولنا أن النبي ـ ﷺ ـ قال: " خذها " ولم يفرق, ولم يستفصل ولو افترق الحال لسأل واستفصل ولأنها لقطة, فاستوى فيها المصر والصحراء كسائر اللقطات وقولهم: إن الذئب لا يكون إلا في الصحراء قلنا: كونها للذئب في الصحراء لا يمنع كونها لغيره في المصر إذا ثبت هذا فإنه متى عرفها حولا كاملا, ملكها وذكر القاضي وأبو الخطاب عن أحمد, رواية أخرى أنه لا يملكها ولعلها الرواية التي منع من التقاطها فيها ولنا قول النبي ـ ﷺ ـ : (هي لك أو لأخيك) فأضافها إليه فاللام التمليك ولأنها يباح التقاطها, فملكت بالتعريف كالأثمان ولأن ذلك إجماع, حكاه ابن عبد البر.
فصل:
ويتخير ملتقطها بين ثلاثة أشياء أكلها في الحال وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي, وغيرهم قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن ضالة الغنم في الموضع المخوف عليها له أكلها والأصل في ذلك قول النبي ـ ﷺ ـ : (هي لك أو لأخيك أو للذئب) فجعلها له في الحال, وسوى بينه وبين الذئب والذئب لا يستأني بأكلها ولأن في أكلها في الحال إغناء عن الإنفاق عليها, وحراسة لماليتها على صاحبها إذا جاء فإنه يأخذ قيمتها بكمالها من غير نقص وفي إبقائها تضييع للمال بالإنفاق عليها والغرامة في علفها, فكان أكلها أولى ومتى أراد أكلها حفظ صفتها فمتى جاء صاحبها غرمها له في قول عامة أهل العلم, إلا مالكا فإنه قال: كلها ولا غرم عليك لصاحبها ولا تعريف لقول النبي ـ ﷺ ـ : " هي لك " ولم يوجب فيها تعريفا ولا غرما, وسوى بينه وبين الذئب والذئب لا يعرف ولا يغرم قال ابن عبد البر: لم يوافق مالكا أحد من العلماء على قوله وقول النبي ـ ﷺ ـ في حديث عبد الله بن عمرو: (رد على أخيك ضالته) دليل على أن الشاة على ملك صاحبها ولأنها لقطة لها قيمة, وتتبعها النفس فتجب غرامتها لصاحبها إذا جاء كغيرها ولأنها ملك لصاحبها, فلم يجز تملكها عليه بغير عوض من غير رضاه كما لو كانت بين البنيان ولأنها عين يجب ردها مع بقائها, فوجب غرمها إذا أتلفها كلقطة الذهب وقول النبي ـ ﷺ ـ : " هي لك " لا يمنع وجوب غرامتها فإنه قد أذن في لقطة الذهب والورق بعد تعريفها, في أكلها وإنفاقها وقال: " هي كسائر مالك " ثم أجمعنا على وجوب غرامتها كذلك الشاة, ولا فرق في إباحة أكلها بين وجدانها في الصحراء أو في المصر وقال مالك وأبو عبيد وأصحاب الشافعي, وابن المنذر: ليس له أكلها في المصر لأنه يمكن بيعها بخلاف الصحراء ولنا أن ما جاز أكله في الصحراء أبيح في المصر, كسائر المأكولات ولأن النبي ـ ﷺ ـ قال: " هي لك " ولم يفرق ولأن أكلها معلل بما ذكرنا من الاستغناء عن الإنفاق عليها, وهذا في المصر أشد منه في الصحراء الثاني أن يمسكها على صاحبها وينفق عليها من ماله, ولا يتملكها وإن أحب أن ينفق عليها محتسبا بالنفقة على مالكها وأشهد على ذلك فهل له أن يرجع بالنفقة؟ على روايتين إحداهما يرجع به نص عليه, في رواية المروذي في طيرة أفرخت عند قوم فقضى أن الفراخ لصاحب الطيرة, ويرجع بالعلف إذا لم يكن متطوعا وقضى عمر بن عبد العزيز في من وجد ضالة فأنفق عليها وجاء ربها, بأنه يغرم له ما أنفق وذلك لأنه أنفق على اللقطة لحفظها فكان من مال صاحبها كمؤنة الرطب والعنب والرواية الثانية, لا يرجع بشيء وهو قول الشعبي والشافعي ولم يعجب الشعبي قضاء عمر بن عبد العزيز لأنه أنفق على مال غيره بغير إذنه فلم يرجع كما لو بنى داره, ويفارق العنب والرطب فإنه ربما كان تجفيفه والإنفاق عليه في ذلك أحظ لصاحبه لأن النفقة لا تتكرر والحيوان يتكرر الإنفاق عليه, فربما استغرق قيمته فكان بيعه أو أكله أحظ فلذلك لم يحتسب المنفق عليها بما أنفق الثالث أن يبيعها ويحفظ ثمنها لصاحبها, وله أن يتولى ذلك بنفسه وقال بعض أصحاب الشافعي: يبيعها بإذن الإمام ولنا أنه إذا جاز له أكلها بغير إذن فبيعها أولى ولم يذكر أصحابنا لها تعريفا في هذه المواضع وهذا قول مالك لحديث زيد بن خالد فإنه ـ ﷺ ـ قال: (خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) ولم يأمر بتعريفها, كما أمر في لقطة الذهب والورق ولنا أنها لقطة لها خطر فوجب تعريفها كالمطعوم الكثير, وإنما ترك ذكر تعريفها لأنه ذكرها بعد بيانه التعريف فيما سواها فاستغنى بذلك عن ذكره فيها ولا يلزم من جواز التصرف فيها في الحول سقوط التعريف, كالمطعوم.
فصل:
إذا أكلها ثبتت قيمتها في ذمته ولا يلزمه عزلها لعدم الفائدة في ذلك فإنها لا تنتقل من الذمة إلى المال المعزول ولو عزل شيئا ثم أفلس, كان صاحب اللقط أسوة الغرماء ولم يختص بالمال المعزول وإن باعها وحفظ ثمنها, وجاء صاحبها أخذه ولم يشاركه فيه أحد من الغرماء لأنه عين ماله, لا شيء للمفلس فيه.
فصل:
وإذا التقط ما لا يبقى عاما فذلك نوعان أحدهما ما لا يبقى بعلاج ولا غيره كالطبيخ, والبطيخ والفاكهة التي لا تجفف والخضراوات فهو مخير بين أكله, وبيعه وحفظ ثمنه ولا يجوز إبقاؤه لأنه يتلف فإن تركه حتى تلف فهو من ضمانه لأنه فرط في حفظه, فلزمه ضمانه كالوديعة فإن أكله ثبتت القيمة في ذمته على ما ذكرناه في لقطة الغنم وإن باعه وحفظ ثمنه, جاز وهذا ظاهر مذهب الشافعي وله أن يتولى بيعه بنفسه وعن أحمد أن له بيع اليسير وإن كان كثيرا دفعه إلى السلطان وقال أصحاب الشافعي: ليس له بيعه إلا بإذن الحاكم, فإن عجز عنه جاز البيع بنفسه لأنه حال ضرورة فأما مع القدرة على استئذانه, فلا يجوز من غير إذنه لأنه مال معصوم لا ولاية عليه فلم يجز لغير الحاكم بيعه, كغير اللقطة ولنا أنه مال أبيح للملتقط أكله فأبيح له بيعه كماله, ولأنه مال أبيح له بيعه عند العجز عن الحاكم فجاز عند القدرة عليه كماله إذا ثبت هذا, فإنه متى أراد أكله أو بيعه حفظ صفاته ثم عرفه عاما, فإذا جاء صاحبه فإن كان قد باعه وحفظ ثمنه دفعه إليه, وإن كان قد أكله أو أكل ثمنه غرمه له بقيمته يوم أكله وإن تلف الثمن بغير تفريط قبل تملكه أو نقص أو تلفت العين, أو نقصت من غير تفريطه فلا ضمان على الملتقط وإن تلفت أو نقصت أو نقص الثمن لتفريطه فعلى الملتقط ضمانه, وكذلك إن تلف الثمن بعد تملكه أو نقص ضمنه النوع الثاني ما يمكن إبقاؤه بالعلاج, كالعنب والرطب فينظر ما فيه الحظ لصاحبه فإن كان في التجفيف جففه ولم يكن له إلا ذلك لأنه مال غيره, فلزمه ما فيه الحظ لصاحبه كولي اليتيم وإن احتاج في التجفيف إلى غرامة, باع بعضه في ذلك وإن كان الحظ في بيعه باعه وحفظ ثمنه, كالطعام والرطب فإن تعذر بيعه ولم يمكن تجفيفه, تعين أكله كالبطيخ وإن كان أكله أنفع لصاحبه فله أكله أيضا لأن الحظ فيه ويقتضي قول أصحابنا: إن العروض لا تملك بالتعريف أن هذا كله لا يجوز له أكله لكن يخير بين الصدقة به وبين بيعه وقد قال أحمد في من يجد في منزله طعاما لا يعرفه: يعرفه ما لم يخش فساده, فإن خشي فساده تصدق به فإن جاء صاحبه غرمه وكذلك قال مالك وأصحاب الرأي, في لقطة ما لا يبقى سنة: يتصدق به وقال الثوري: يبيعه ويتصدق بثمنه ولنا على جواز أكله قول النبي ـ ﷺ ـ في ضالة الغنم: (خذها فإنما هي لك, أو لأخيك أو للذئب) وهذا تجويز للأكل فإذا جاز فيما هو محفوظ بنفسه, ففيما يفسد ببقائه أولى.
مسألة:
قال: [ولا يتعرض لبعير ولا لما فيه قوة يمنع عن نفسه] وجملة ذلك أن كل حيوان يقوى على الامتناع من صغار السباع وورود الماء, لا يجوز التقاطه ولا التعرض له سواء كان لكبر جثته, كالإبل والخيل والبقر, أو لطيرانه كالطيور كلها أو لسرعته كالظباء والصيود, أو بنابه كالكلاب والفهود قال عمر رضي الله عنه: من أخذ ضالة فهو ضال أي مخطئ وبهذا قال الشافعي والأوزاعي, وأبو عبيد وقال مالك والليث في ضالة الإبل: من وجدها في القرى عرفها, ومن وجدها في الصحراء لا يقربها ورواه المزني عن الشافعي وكان الزهري يقول: من وجد بدنة فليعرفها فإن لم يجد صاحبها فلينحرها قبل أن تنقضي الأيام الثلاثة وقال أبو حنيفة: في لفظ يباح التقاطها لأنها لقطة أشبهت الغنم ولنا (قول رسول الله ـ ﷺ ـ لما سئل عنها: ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء, وتأكل الشجر حتى يجدها ربها وسئل رسول الله ـ ﷺ ـ فقيل: يا رسول الله إنا نصيب هوام الإبل قال: ضالة المسلم حرق النار) وروى عن (جرير بن عبد الله, أنه أمر بطرد بقرة لحقت ببقره حتى توارت وقال: سمعت رسول الله ـ ﷺ ـ يقول: لا يؤوي الضالة إلا ضال) رواه أبو داود بمعناه وقياسهم يعارض صريح النص وكيف يجوز ترك نص النبي ـ ﷺ ـ وصريح قوله بقياس نصه في موضع آخر, على أن الإبل تفارق الغنم لضعفها وقلة صبرها عن الماء.
فصل:
فإن كانت الصيود مستوحشة, إذا تركت رجعت إلى الصحراء وعجز عنها صاحبها جاز التقاطها لأن تركها أضيع لها من سائر الأموال, والمقصود حفظها لصاحبها لا حفظها في نفسها ولو كان المقصود حفظها في أنفسها لما جاز التقاط الأثمان, فإن الدينار دينار حيثما كان.
فصل:
والبقرة كالإبل نص عليه أحمد وهو قول الشافعي وأبي عبيد وحكي عن مالك أن البقرة كالشاة ولنا خبر جرير فإنه طرد البقرة ولم يأخذها, ولأنها تمتنع عن صغار السباع وتجزئ في الأضحية والهدي عن سبعة فأشبهت الإبل وكذا الحكم في الخيل والبغال فأما الحمر, فجعلها أصحابنا من هذا القسم الذي لا يجوز التقاطه لأن لها أجساما عظيمة فأشبهت البغال والخيل ولأنها من الدواب, فأشبهت البغال والأولى إلحاقها بالشاة لأن النبي ـ ﷺ ـ علل الإبل بأن معها حذاءها وسقاءها يريد شدة صبرها عن الماء لكثرة ما توعي في بطونها منه وقوتها على وروده وفي إباحة ضالة الغنم بأنها معرضة لأخذ الذئب إياها بقوله: " هي لك, أو لأخيك أو للذئب " والحمر مساوية للشاة في علتها فإنها لا تمتنع من الذئب, ومفارقة للإبل في علتها فإنها لا صبر لها عن الماء ولهذا يضرب المثل بقلة صبرها عنه, فيقال: ما بقي من مدته إلا ظمأ حمار وإلحاق الشيء بما ساواه في علة الحكم وفارقه في الصورة أولى من إلحاقه بما قاربه في الصورة وفارقه في العلة فأما غير الحيوان فما كان منه ينحفظ بنفسه, كأحجار الطواحين والكبير من الخشب وقدور النحاس, فهو كالإبل في تحريم أخذه بل أولى منه لأن الإبل تتعرض في الجملة للتلف إما بالأسد وإما بالجوع أو العطش, وغير ذلك وهذه بخلاف ذلك ولأن هذه لا تكاد تضيع عن صاحبها ولا تبرح من مكانها بخلاف الحيوان, فإذا حرم أخذ الحيوان فهذه أولى.
فصل:
فإن أخذ هذا الحيوان الذي لا يجوز أخذه على سبيل الالتقاط ضمنه, إماما كان أو غيره لأنه أخذ ملك غيره بغير إذنه ولا أذن الشارع له فهو كالغاصب فإن رده إلى موضعه, لم يبرأ من الضمان وبهذا قال الشافعي وقال مالك: يبرأ لأن عمر رضي الله عنه قال: أرسله في الموضع الذي أصبته فيه وجرير طرد البقرة التي لحقت ببقره ولنا أن ما لزمه ضمانه لا يزول عنه إلا برده إلى صاحبه أو نائبه كالمسروق والمغصوب وأما حديث جرير فإنه لم يأخذ البقرة, ولا أخذها راعيه إنما لحقت بالبقر فطردها عنها, فأشبه ما لو دخلت داره فأخرجها فعلى هذا متى لم يأخذها بحيث ثبتت يده عليها لا يلزمه ضمانها, سواء طردها أو لم يطردها وإن أخذها فلزمه ضمانها فدفعها إلى الإمام أو نائبه زال عنه الضمان لأن له نظرا في ضوال الناس, بدليل أن له أخذها فكان نائبا عن أصحابها فيها.
فصل:
وللإمام أو نائبه أخذ الضالة على وجه الحفظ لصاحبها لأن عمر رضي الله عنه حمى موضعا يقال له النقيع لخيل المجاهدين والضوال ولأن للإمام نظرا في حفظ مال الغائب, وفي أخذ هذه حفظ لها عن الهلاك ولا يلزمه تعريفها لأن عمر رضي الله عنه لم يكن يعرف الضوال ولأنه إذا عرف ذلك فمن كانت له ضالة فإنه يجيء إلى موضع الضوال فإذا عرف ضالته أقام البينة عليها وأخذها, ولا يكتفى فيها بالصفة لأنها ظاهرة بين الناس فيعرف صفاتها من رآها من غير أهلها فلا تكون الصفة لها دليلا على ملكه لها ولأن الضالة قد كانت ظاهرة بين الناس حين كانت في يد مالكها, فلا يختص هو بمعرفة صفاتها دون غيره فلم يكن ذلك دليلا ويمكنه إقامة البينة عليها لظهورها للناس, ومعرفة خلطائه وجيرانه بملكه إياها.
فصل:
وإن أخذها غير الإمام أو نائبه ليحفظها لصاحبها لم يجز له ذلك ولزمه ضمانها لأنه لا ولاية له على صاحبها وهذا ظاهر مذهب الشافعي ولأصحابه وجه, أن له أخذها لحفظها قياسا على الإمام ولا يصح لأن النبي ـ ﷺ ـ منع أخذها من غير تفريق بين قاصد الحفظ وقاصد الالتقاط ولا يصح القياس على الإمام لأن له ولاية, وهذا لا ولاية له وإن وجدها في موضع يخاف عليها به مثل أن يجدها بأرض مسبعة يغلب على الظن أن الأسد يفترسها إن تركت به, أو فرسا من دار الحرب يخاف عليها من أهلها أو بموضع يستحل أهله أموال المسلمين, كوادي التيم أو في برية لا ماء بها ولا مرعى فالأولى جواز أخذها للحفظ, ولا ضمان على آخذها لأن فيه إنقاذها من الهلاك فأشبه تخليصها من غرق أو حريق فإذا حصلت في يده سلمها إلى نائب الإمام, وبرئ من ضمانها ولا يملكها بالتعريف لأن الشرع لم يرد بذلك فيها. فصل: ومن ترك دابة بمهلكة فأخذها إنسان, فأطعمها وسقاها وخلصها ملكها وبه قال الليث والحسن بن صالح, وإسحاق إلا أن يكون تركها ليرجع إليها أو ضلت منه وقال مالك: هي لمالكها الأول ويغرم ما أنفق عليها وقال الشافعي, وابن المنذر: هي لمالكها والآخر متبرع بالنفقة لا يرجع بشيء لأنه ملك غيره, فلم يملكه بغير عوض من غير رضاه كما لو كانت في غير مهلكة ولا يملك الرجوع لأنه أنفق على مال غيره بغير إذنه, فلم يرجع بشيء كما لو بنى داره ولنا ما روى الشعبي أن رسول الله ـ ﷺ ـ قال: (من وجد دابة قد عجز عنها أهلها, فسيبوها فأخذها فأحياها, فهي له) قال عبد الله بن حميد بن عبد الرحمن: فقلت ـ يعني للشعبي ـ : من حدثك بهذا؟ قال: غير واحد من أصحاب رسول الله ـ ﷺ ـ رواه أبو داود بإسناده وفي لفظ عن الشعبي عن النبي ـ ﷺ ـ أنه قال: (من ترك دابة بمهلكة فأحياها رجل, فهي لمن أحياها) ولأن في الحكم بملكها إحياءها وإنقاذها من الهلاك وحفظا للمال عن الضياع ومحافظة على حرمة الحيوان, وفي القول بأنها لا تملك تضييع لذلك كله من غير مصلحة تحصل ولأنه نبذ رغبة عنه وعجزا عن أخذه, فملكه آخذه كالساقط من السنبل وسائر ما ينبذه الناس رغبة عنه.
فصل:
وإن ترك متاعا, فخلصه إنسان لم يملكه لأنه لا حرمة له في نفسه ولا يخشى عليه التلف, كالخشية على الحيوان فإن الحيوان يموت إذا لم يطعم ويسقى وتأكله السباع, والمتاع يبقى حتى يرجع إليه صاحبه وإن كان المتروك عبدا لم يملك بأخذه لأن العبد في العادة يمكنه التخلص إلى الأماكن التي يعيش فيها بخلاف البهيمة وله أخذ العبد والمتاع ليخلصه لصاحبه, وله أجر مثله في تخليص المتاع نص عليه وكذلك في العبد على قياسه قال القاضي: يجب أن يحمل قوله في وجوب الأجر على أنه جعل له ذلك أو أمره به, فأما إن لم يجعل له شيئا فلا جعل له لأنه عمل في مال غيره بغير جعل فلم يستحق شيئا, كالملتقط وهذا خلاف ظاهر كلام أحمد فإنه لو جعل له جعلا لاستحقه ولم يجعل له أجر المثل ويفارق هذا الملتقط, فإن الملتقط لم يخلص اللقطة من الهلاك ولو تركها أمكن أن يرجع صاحبها فيطلبها من مكانها فيجدها وها هنا إن لم يخرجه هذا ضاع وهلك, ولم يرجع إليه صاحبه ففي جعل الأجر فيه حفظ للأموال من غير مضرة فجاز ذلك كالجعل في الآبق ولأن اللقطة جعل فيها الشارع ما يحث على أخذها, وهو ملكها إن لم يجئ صاحبها فاكتفى به عن الأجر فينبغي أن يشرع في هذا ما يحث على تخليصه بطريق الأولى, وليس إلا الأجر فأما ما ألقاه ركاب البحر فيه خوفا من الغرق فلم أعلم لأصحابنا فيه قولا, سوى عموم قولهم الذي ذكرناه ويحتمل أن يملك هذا من أخذه وهو قول الليث بن سعد وبه قال الحسن في من أخرجه قال: وما نضب عنه الماء فهو لأهله وقال ابن المنذر: يرده على أصحابه, ولا جعل له ويقتضيه قول الشافعي والقاضي لما تقدم ومقتضى قول الإمام أبي عبد الله أن لمن أنقذه أجر مثله لما ذكرنا ووجه ما ذكرناه من الاحتمال أن هذا مال ألقاه صاحبه فيما يتلف بتركه فيه اختيارا منه فملكه من أخذه, كالذي ألقوه رغبة عنه ولأن فيما ذكروه تحقيقا لإتلافه فلم يجز, كمباشرته بالإتلاف فأما إن انكسرت السفينة فأخرجه قوم فقال مالك: يأخذ أصحاب المتاع متاعهم, ولا شيء للذي أصابوه وهذا قول الشافعي وابن المنذر والقاضي وعلى قياس نص أحمد يكون لمستخرجه أجر المثل لأن ذلك وسيلة إلى تخليصه, وحفظه لصاحبه وصيانته عن الغرق فإن الغواص إذا علم أنه يدفع إليه الأجر بادر إلى التخليص ليخلصه, وإن علم أنه يؤخذ منه بغير شيء لم يخاطر بنفسه في استخراجه فينبغي أن يقضي له بالأجر, كجعل رد الآبق.
فصل:
ذكر القاضي فيما إذا التقط عبدا صغيرا أو جارية أن قياس المذهب أنه لا يملك بالتعريف وقال الشافعي: يملك العبد دون الجارية, لأن التملك بالتعريف عنده اقتراض والجارية عنده لا تملك بالقرض وهذه المسألة: فيها نظر فإن اللقيط محكوم بحريته فإن كان ممن يعبر عن نفسه, فأقر بأنه مملوك لم يقبل إقراره لأن الطفل لا قول له ولو اعتبر قوله في ذلك, لاعتبر في تعريفه سيده والله أعلم.