موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي
(الجزء الأول – كتاب الطهارة)
كتاب الطهارة
أحكام المياه: باب ما تكون به الطهارة من الماء
مسألة: الماء المطلق
فصل: اختصاص حصول الطهارة بالماء
فصل: الماء الذي خالطه طاهر
فصل: الماء الآجن
فصل: تغير الماء وقت الغسل
مسألة: الماء الذي خالطه طاهر لم يغيره
فصل: إذا وقع في الماء مائع
فصل: إذا وقع في الماء ماء مستعمل
فصل: الماء المخلوط بالمائع الطاهر
فصل: الماء المسخن بطاهر
فصل: الماء المشمس
فصل: الماء المسخن بالنجاسة
فصل: ماء زمزم
فصل: ماء الثلج والبرد
مسألة: الطهارة بالماء المستعمل
فصل: الماء المنفصل من الغسل
فصل: الطهارة المستحبة بماء مستعمل
فصل: الماء المستعمل في تعبد من غير حدث
فصل: انغماس الجنب أو المحدث فيما دون القلتين
فصل: اختلاط ماء مستعمل بماء غير مستعمل
مسألة: حكم الماء الكثير وهو ما بلغ القلتين
فصل: تحديد مقدار القلتين
فصل: المائع الذي تخالطه نجاسة
فصل: زوال النجاسة عن الماء إذا كثر
فصل: وقوع النجاسة في الماء الكثير
فصل: لا فرق بين يسير النجاسة وكثيرها
فصل: ماء الغديرين إذا اتصل أحدهما بالآخر
فصل: الماء الجاري
فصل: الماء الواقف في جانب النهر
فصل: اجتماع جريات النهر
فصل: تطهير الماء النجس
فصل: كيفية تطهير الماء
فصل: مكاثرة الماء بما دون القلتين
فصل: حكم تطهير غير الماء من المائعات
فصل: وقوع النجاسة في مائع غير الماء
فصل: وقوع النجاسة في العجين ونحوه
مسألة: حكم الماء إذا تنجس بالبول أو العذرة
فصل: تحديد ما يمكن نزحه
فصل: لا فرق بين البول القليل والكثير
فصل: الشك في وصول النجاسة لماء البئر
فصل: الشك في طهارة ماء الوضوء بعد أداء الصلاة
فصل: تطهير البئر من النجاسة
فصل: طهارة الأرض بكثرة نزول المطر عليها
مسألة: حكم الماء إذا مات فيه ما ليس له نفس سائلة
فصل: الماء المتغير بسقوط جراد أو سمك ونحوه
فصل: موت حيوان مأكول في الماء
فصل: وقوع الحيوان في الماء
فصل: وقوع أجزاء الآدمي في الماء
فصل: وقوع الوزغ في الماء
فصل: إذا مات في الماء حيوان لا يعلم هل ينجس بالموت أم لا
مسألة: حكم الطهارة بسؤر الحيوان
فصل: حكم الماء إذا شربت منه الهرة
فصل: وقوع حيوان في الماء دون أن يموت
فصل: حكم سؤر الحيوان كحكم جلده وشعره ولعابه
مسألة: تطهير الإناء من ولوغ الكلب
فصل: تطهير الإناء من نجاسة غير الكلب والخنزير
فصل: إذا أصاب المحل نجاسات متساوية في الحكم
فصل: إذا غسل محل النجاسة فأصاب ماء بعض الغسلات محلا آخر قبل تمام السبع
فصل: حكم كل جزء من أجزاء الحيوان حكم بقية أجزائه
فصل: غسل النجاسة
فصل: حكم الماء المنفصل عن محل النجاسة
فصل: غسل بعض الثوب النجس
فصل: تطهير ثوب المرأة من دم الحيض
فصل: آنية الخمر
مسألة: اشتباه الطاهر والنجس وكذا الحلال والحرام
فصل: التيمم حال اشتباه الطاهر والنجس
فصل: إذا علم عين النجس استحب إراقته ليزيل الشك عن نفسه
فصل: الاشتباه بين ماء طهور وماء بطلت طهوريته
فصل: اشتباه الثياب الطاهرة بالنجسة
فصل: إن لم يعلم عدد النجس
فصل: حكم خبر العدل وغيره بنجاسة الماء
فصل: إن أخبره أحد أن كلبا ولغ في الإناء لزم قبول خبره
فصل: إذا سقط على إنسان من طريق ماء لم يلزمه السؤال عنه
باب الآنية
مسألة: نجاسة جلد الميتة
فصل: الانتفاع بالجلد المدبوغ
فصل: حكم الجلود السباع
فصل: تطهير الجلود بالدباغ
فصل: حرمة أكل جلد الميتة
فصل: جواز بيع وإجارة الجلد المدبوغ
فصل: صفة ما يدبغ به
فصل: لا يفتقر الدبغ إلى فعل
فصل: جلد ما لا يؤكل لحمه بالذبح
فصل: لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا الخمرة إذا انقلبت بنفسها خلا
مسألة: آنية عظام الميتة
فصل: القرن والظفر والحافر كالعظم
فصل: لبن الميتة وأنفحتها
فصل: بيض الميتة
مسألة: حكم الوضوء في آنية الذهب والفضة
مسألة: جعل آنية الذهب والفضة مصبا لماء الوضوء
فصل: حكم اتخاذ آنية الذهب والفضة
فصل: حكم المضبب بالذهب والفضة
فصل: حكم الآنية من غير الذهب والفضة
مسألة: صوف الميتة وشعرها
فصل: ريش الميتة
فصل: شعر الآدمي
فصل: شعر الحيوان
فصل: حكم الخرز بشعر الخنزير
فصل: حكم أطعمة أهل الكتاب وآنيتهم وثيابهم
فصل: حكم الصلاة في ثياب الصبيان
فصل: الثوب المصبوغ
فصول في الفطرة
فصل: الختان
فصل: الاستحداد
فصل: نتف الإبط
فصل: تقليم الأظافر
فصل: غسل رءوس الأصابع بعد قص الأظافر
فصل: حكم اتخاذ الشعر
فصل: حكم حلق الشعر
فصل: حلق بعض الرأس
فصل: حلق المرأة رأسها
فصل: نتف الشيب
فصل: حلق القفا
فصل: خضاب الشيب
فصل: الاكتحال والادهان
فصل: وصل الشعر ونمص الوجه ووشر الأسنان
فصل: معنى النامصة والواشرة والواشمة
باب السواك وسنة الوضوء
مسألة: استحباب السواك عند كل صلاة
فصل: كيفية الاستياك
فصل: صفة السواك
مسألة: السواك للصائم
مسألة: غسل اليدين عند القيام من نوم الليل
فصل: غسل اليدين عند القيام من نوم النهار
فصل: غمس اليد في الإناء قبل غسلها
فصل: حد اليد المأمور بغسلها
فصل: حكم غسل اليد بعد النوم
فصل: إذا كان القائم من نوم الليل صبيا أو مجنونا أو كافرا
فصل: صفة النوم الذي يتعلق به الأمر بغسل اليد
فصل: النية في غسل اليدين
فصل: إذا انغمس في الماء ولم ينو غسل يديه من نوم الليل
فصل: إذا كان الماء قليلا وليس معه ما يغترف به ويداه نجستان
مسألة: التسمية عند الوضوء
فصل: حكم التسمية
مسألة: المبالغة في الاستنشاق
فصل: المبالغة في سائر أعضاء الوضوء
مسألة: تخليل اللحية
فصل: كيفية تخليل اللحية
مسألة: مسح الأذنين بماء جديد
فصل: مسح العنق
فصل: غسل داخل العينين
مسألة: تخليل الأصابع
فصل: كيفية غسل الأرجل
مسألة: غسل الميامن قبل المياسر
باب فرض الطهارة
مسألة: فرض الطهارة ماء طاهر وإزالة الحدث
مسألة: اشتراط النية للطهارة
فصل: محل النية
فصل: صفة النية
فصل: تقديم النية على الطهارة
فصل: الشك في النية
فصل: النية إذا وضأه غيره
فصل: إذا نسي شيئا من واجبات الوضوء وتذكره بعد الصلاة
مسألة: غسل الوجه
فصل: حد الوجه
فصل: غسل شعور الوجه
فصل: انفصال بعض الشعر بعد الطهارة
فصل: غسل اللحية
فصل: الزيادة في ماء الوجه
مسألة: الفم والأنف من الوجه
فصل: المضمضة والاستنشاق
فصل: كيفية المضمضة والاستنشاق
فصل: الترتيب في المضمضة والاستنشاق
مسألة: غسل اليدين إلى المرفقين
فصل: وجوب غسل ما خلق زائدا في محل الفرض
فصل: وجوب غسل ما انقلع من غير محل الفرض وتدلى من محل الفرض
فصل: وضوء من قطعت يده
فصل: إزالة ما تحت الأظفار من وسخ
فصل: الاغتراف من الماء باليد
مسألة: مسح الرأس
فصل: مسح بعض الرأس
فصل: كيفية مسح الرأس
فصل: تكرار المسح
فصل: إذا وصل الماء إلى بشرة الرأس ولم يمسح على الشعر
فصل: مسح الرأس بماء جديد
فصل: غسل الرأس بدل المسح
فصل: مسح الرأس بخرقة مبلولة
فصل: الأذنان من الرأس
مسألة: غسل الرجلين إلى الكعبين
فصل: إدخال الكعبين في الغسل
مسألة: الترتيب في الوضوء
فصل: الترتيب بين اليمنى واليسرى
فصل: التنكيس في الوضوء
فصل: الموالاة في الوضوء
فصل: كيفية الموالاة الواجبة
فصل: إذا نشفت أعضاؤه لاشتغاله بواجب في الطهارة أو مسنون لم يعد تفريقا
مسألة: التثليث في الوضوء
فصل: غسل بعض الأعضاء مرة وغسل بعضها أكثر
فصل: الزيادة على الثلاث
فصل: ما يقال بعد الوضوء
فصل: المعاونة في الوضوء
فصل: تنشيف الأعضاء بعد الوضوء
مسألة: إذا توضأ لنافلة وصلى فريضة
فصل: صلاة أكثر من فرض بوضوء واحد
فصل: استحباب تجديد الوضوء
فصل: الوضوء في المسجد
مسألة: لا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ولا نفساء
فصل: قراءة آية أو بعض آية
فصل: لبث الجنب والحائض والنفساء في المسجد
فصل: لبث المستحاضة ومن به سلس البول في المسجد
فصل: التيمم للإقامة في المسجد
فصل: وضوء الجنب للإقامة في المسجد
مسألة: الطهارة لمس المصحف
فصل: حمل المصحف بعلاقته ومس غلافه
فصل: مس كتب التفسير والفقه وغيرها
فصل: التيمم لمس المصحف
فصل: السفر بالمصحف إلى دار الحرب
باب الاستطابة والحدث
مسألة: الاستنجاء من الريح
مسألة: الاستنجاء لما خرج من السبيلين
فصل: التخيير بين الماء والحجر في الاستنجاء
مسألة: الاستنجاء بثلاثة أحجار
فصل: الزيادة على ثلاثة أحجار
فصل: المستحب في الاستجمار
فصل: النهي عن الاستجمار باليمين
فصل: كيفية الاستنجاء
مسألة: ما يصح الاستنجاء به
مسألة: النهي عن الاستنجاء بالروث والعظام
فصل: لا يجوز الاستنجاء بما له حرمة
مسألة: الحجر الكبير الذي له ثلاث شعب يقوم مقام ثلاثة أحجار
فصل: الاستجمار بحجر ثم غسله
مسألة: متى يجب الاستنجاء بالماء
فصل: استنجاء المرأة
فصل: استنجاء الأقلف
فصل: إذا انسد المخرج المعتاد وانفتح آخر
فصل: طهارة محل الاستجمار بعد الإنقاء
فصل: إذا استنجى بالماء لم يحتج إلى تراب
فصول في أدب التخلي
فصل: كراهة استقبال الشمس والقمر
فصل: الاستتار عن الناس
فصل: ما يستحب عند التبول
فصل: لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض
فصل: المواضع التي يكره التخلي فيها
فصل: ما يستحب لقاضي الحاجة
فصل: إذا دخل الخلاء ومعه شيء فيه ذكر الله
فصل: آداب التخلي
فصل: التبول في الإناء
باب ما ينقض الطهارة
مسألة: الذي ينقض الطهارة ما خرج من قبل أو دبر
فصل: خروج الريح من القبل
فصل: دخول شيء في الإحليل ثم خروجه
فصل: إذا كان بالفرج رطوبة من مرض
فصل: حكم المذي
مسألة: خروج البول والغائط من غير مخرجهما
مسألة: زوال العقل والنوم الكثير
فصل: صفة النوم الناقض للوضوء
فصل: النائم القاعد والمستند والمحتبي
فصل: حد النوم الكثير الذي ينقض الوضوء
فصل: النعاس لا ينقض الوضوء
مسألة: الردة عن الإسلام تنقض الوضوء
فصل: الكلام الخبيث لا ينقض الوضوء
فصل: القهقهة لا تنقض الوضوء
مسألة: نقض الوضوء بمس الفرج
فصل: مس الفرج عامدا أو ناسيا
فصل: مس الفرج ببطن الكف وظهره
فصل: مس الفرج بالذراع
فصل: مس ذكر الغير
فصل: لا فرق بين ذكر الصغير والكبير
فصل: مس فرج الميت
فصل: مس حلقة الدبر
فصل: مس المرأة فرجها
فصل: مس فرج الخنثى المشكل
فصل: مس ما عدا الفرجين
مسألة: النجاسات الخارجة من غير السبيلين
فصل: انتقاض الوضوء بالخارج الكثير دون اليسير
فصل: حد الخارج الكثير الذي ينقض الوضوء
فصل: القيح والصديد
فصل: القلس
فصل: الجشاء
مسألة: أكل لحم الجزور
فصل: شرب لبن الإبل
فصل: غير لحم الجزور من الأطعمة لا وضوء فيه
مسألة: الوضوء من غسل الميت
مسألة: لمس النساء لشهوة
فصل: الأجنبية وذات المحرم والكبيرة والصغيرة في اللمس سواء
فصل: اللمس بغير اليد
فصل: اللمس من وراء حائل
فصل: لمس المرأة للرجل
فصل: لمس عضو مقطوع من المرأة
مسألة: تيقن الطهارة والشك في الحدث والعكس
فصل: تيقن الطهارة والحدث معا والشك في السابق منهما
فصل: لا يزول عن اليقين بالشك
باب ما يوجب الغسل
مسألة: خروج المني
فصل: خروج المني بغير شهوة
فصل: إمساك الذكر قبل الإنزال
فصل: خروج المني بغير شهوة بعد الغسل
فصل: إذا رأى أنه قد احتلم ولم يجد منيا
فصل: إذا انتبه من النوم فوجد بللا
فصل: إذا رأى في ثوبه منيا
فصل: خروج مني الزوج من فرج المرأة
مسألة: التقاء الختانين
فصل: إيلاج بعض الحشفة والوطء دون الفرج
فصل: الإيلاج في قبل الخنثى المشكل
فصل: إذا كان الواطئ والموطوء صغيرا
مسألة: إسلام الكافر
فصل: إذا أجنب الكافر ثم أسلم
فصل: الاغتسال بالماء والسدر
مسألة: الطهر من الحيض والنفاس
فصل: إذا عريت الولادة عن الدم فلا يجب الغسل
فصل: إذا كان على الحائض جنابة
فصل: الغسل من تغسيل الميت
فصل: الغسل من الجنون والإغماء
مسألة: طهارة جسم الحائض والجنب والمشرك
فصل: الماء لا يجنب
مسألة: النهي عن الوضوء بفضل طهور المرأة
فصل: معنى خلوة المرأة بالماء
فصل: إذا خلت بالماء في بعض أعضائها
فصل: تأثير الخلوة في الماء القليل فقط
فصل: حكمة النهي عن استعمال فضل طهور المرأة
باب الغسل من الجنابة
مسألة: صفة الغسل من الجنابة
مسألة: إغناء الغسل عن الوضوء
فصل: الدلك أثناء الغسل
فصل: الوضوء مع الغسل
فصل: الاغتسال غسلا واحدا بنية الطهارة من شيئين يوجبان الغسل
فصل: إذا بقيت لمعة من الجسد لم يصبها الماء
مسألة: مقدار الماء المستعمل في الطهارة
فصل: تحديد المد والصاع
مسألة: إسباغ الطهارة بأقل من المد والصاع
فصل: الزيادة على المد والصاع
مسألة: نقض المرأة شعرها في غسل الحيض دون الجنابة
فصل: غسل بشرة الرأس
فصل: غسل ما استرسل من الشعر
فصل: غسل الحيض كغسل الجنابة
فصل: الوضوء للجنب
فصول في الحمام
فصل: دخول الحمام
فصل: دخول النساء الحمام
فصل: الاغتسال عريانا
فصل: الغسل بماء الحمام
فصل: ذكر الله في الحمام
فصل: دخول الماء مستترا
باب التيمم
مسألة: جواز التيمم في السفر القصير والطويل
فصل: لا فرق بين سفر الطاعة والمعصية
فصل: انعدام الماء في الحضر
فصل: التيمم إذا فقد الماء في الحضر
مسألة: شروط صحة التيمم
فصل: صفة طلب الماء
فصل: طلب الماء قبل الوقت
فصل: تيمم الجنب لبعض أعضائه
فصل: إذا وجد المحدث ماء لا يكفيه
فصل: إذا حال بينه وبين الماء حائل
فصل: العجز عن تناول الماء
فصل: إذا وجد الماء في بئر
فصل: شراء الماء
فصل: إراقة الماء قبل الوقت
فصل: إذا نسي الماء
فصل: إذا ضل عن مكان الماء
فصل: إذا صلى ثم بان أنه كان بقربه بئر أو ماء
مسألة: تأخير التيمم انتظارا للماء
مسألة: من صلى بالتيمم ثم وجد الماء في الوقت
مسألة: كيفية التيمم
فصل: التيمم بضربة واحدة وبضربتين
فصل: قصد التراب والمسح به
فصل: نفخ التراب عن اليدين
مسألة: ما هو الصعيد الطيب
فصل: الرمل والأرض السبخة
فصل: تراب الخزف والطين المحترق
فصل: التيمم بكل ما فيه غبار
فصل: إذا خالط التراب ما لا يجوز التيمم به
فصل: إذا كان في طين ولا يجد ترابا
فصل: صلاة فاقد الطهورين
مسألة: نية التيمم
فصل: ما يستبيحه المتيمم إذا نوى الفرض
فصل: تيمم الصبي
مسألة: وجوب مسح الوجه والكفين
فصل: كيفية التيمم
فصل: إذا بقي من محل الفرض شيء لم يصله التراب
فصل: مسح اليدين إلى الرسغين في التيمم
فصل: إيصال التراب إلى محل الفرض بخرقة ونحوها
مسألة: إذا كان التراب نجسا فلا يجوز التيمم به
فصل: تيمم الجماعة من موضع واحد
مسألة: التيمم إذا خاف ضرر الماء
فصل: الخوف المبيح للتيمم
فصل: التيمم إذا خاف وصول الماء للعضو المجروح
فصل: إذا كان الجريح جنبا
فصل: إن تيمم الجريح لجرح في بعض أعضائه ثم خرج الوقت
فصل: إن خاف من شدة البرد وأمكنه أن يسخن الماء
مسألة: ما يباح أداؤه بالتيمم
مسألة: حبس الماء والتيمم إذا خاف العطش
فصل: التيمم إذا خاف العطش على رفيقه أو بهائمه
فصل: إذا وجد الخائف من العطش ماء طاهرا وماء نجسا
فصل: الخوف من فوات الوقت إذا اشتغل بتحصيل الماء
مسألة: إذا نسي الجنابة وتيمم للحدث
فصل: إن تيمم للجنابة لم يجزه عن الحدث الأصغر
فصل: ما يباح بالتيمم للجنابة دون الحدث
مسألة: إذا وجد المتيمم الماء وهو في الصلاة
فصل: الخروج من الصلاة عند وجود أحد الطهورين
فصل: إذا يمم الميت ثم قدر على الماء أثناء الصلاة عليه
فصل: الخروج من الصلاة لرؤية الماء
فصل: إذا رأى ماء وهو في الصلاة
فصل: حكم المتيمم يرى سرابا فيظنه ماء
فصل: بطلان التيمم بخروج وقت الصلاة
فصل: مبطلات التيمم
فصل: جواز التيمم لكل ما يتطهر له
فصل: تيمم من على بدنه نجاسة
فصل: اجتماع النجاسة والحدث
فصل: اجتماع جنب وميت وحائض ومعهم ماء لا يكفي إلا أحدهم
فصل: حكم الجماع لفاقد الماء
مسألة: المسح على الجبيرة
فصل: الفرق بين الجبيرة والخف
فصل: لا يحتاج إلى تيمم مع مسح الجبيرة
فصل: لا فرق بين الكسر والجرح
فصل: المسح على الجرح إذا خشي الضرر
فصل: إذا لم يكن على الجرح عصاب
باب المسح على الخفين
فصل: أيهما أفضل المسح أم الغسل؟
مسألة: شرط المسح على الخفين
فصل: إذا أحدث قبل بلوغ الرجل قدم الخف
فصل: لبس الخف بعد التيمم
فصل: حكم تعدد الخفين
فصل: لبس خف مخرق فوق صحيح
فصل: لبس الخف مع المسح على العمامة
فصل: مسح الجبيرة مع الخف
مسألة: مدة مسح الخفين
فصل: انقضاء مدة مسح الخفين
مسألة: خلع الخفين الممسوحين
فصل: نزع العمامة بعد مسحها
فصل: نزع أحد الخفين
فصل: انكشاف بعض القدم من خرق في الخف
فصل: إذا أخرج رجله إلى ساق الخف
فصل: لبس الخف مع مدافعة الأخبثين
مسألة: مسح الخف في السفر
مسألة: المسح في الحضر والسفر
فصل: الشك في ابتداء المسح
مسألة: المسح في السفر أقل من يوم وليلة
مسألة: المسح على الخفين وما أشبههما
فصل: إذا كان للخف قدم
فصل: المسح على خف يحرم لبسه
فصل: المسح على كل خف ساتر
مسألة: المسح على الجورب
فصل: شروط المسح على الجورب
مسألة: إذا كان الجورب يثبت بالنعل
مسألة: إذا كان في الخف خرق
فصل: المسح على اللفائف
مسألة: مسح أعلى الخف
فصل: ما يجزئ في مسح الخف
فصل: مسح الخف بخرقة أو خشبة
فصل: غسل الخف
مسألة: مسح أسفل الخف
فصل: المسح على عقب الخف
مسألة: الرجل كالمرأة في مسح الخفين
فصل: المسح على العمامة
فصل: شروط المسح على العمامة
فصل: إذا كان بعض الرأس مكشوفا
فصل: نزع العمامة بعد المسح عليها
فصل: استيعاب العمامة بالمسح
فصل: مدة مسح العمامة
فصل: مسح العمامة المحرمة
فصل: المسح على القلنسوة
فصل: مسح المرأة على مقنعتها
باب الحيض
مسألة: مدة الحيض
فصل: مدة الطهر بين الحيضتين
مسألة: الفرق بين الحيض والاستحاضة
فصل: المستحاضة التي تميز دم الحيض من غيره
فصل: تمييز لون دم الحيض
فصل: تغير لون الدم
فصل: اختلاف لون الدم في شهر عن لونه في شهر آخر
فصل: استمرار الدم شهرا كاملا
مسألة: المستحاضة التي لها عادة ولا تمييز لها
فصل: ما تثبت به العادة
فصل: ثبوت العادة بالتمييز
فصل: أنواع العادة
فصل: بم تكون المرأة معتادة الحيض؟
فصل: المستحاضة التي لها عادة وتمييز معا
فصل: تغير مدة العادة
فصل: تجاوز الدم وقت العادة
مسألة: المستحاضة التي لا عادة لها ولا تمييز
فصل: المتحيرة في تحديد مدة الحيض
فصل: نسيان العادة
فصل: تكرار نسيان العادة
فصل: تذكر العادة بعد نسيانها
مسألة: المستحاضة المبتدأة
فصل: تحديد العادة بتكرارها ثلاثة أشهر
فصل: العادة المختلفة غير المرتبة
فصل: الوطء في الوقت الزائد عن العادة
مسألة: استمرار الدم أكثر من العادة
فصل: لا ترد إلى ست أو سبع إلا في الشهر الرابع
فصل: المستحاضة المميزة التي تتجاوز العادة
مسألة: الصفرة والكدرة من الحيض
فصل: حكم الصفرة والكدرة
مسألة: ما يحل من الحائض
فصل: وطء الحائض في الفرج
فصل: مقدار كفارة وطء الحائض
فصل: إن وطئ بعد طهرها وقبل غسلها هل عليه كفارة؟
فصل: وطء الحائض عن جهل أو نسيان
فصل: كفارة المرأة
فصل: كفارة وطء النفساء
مسألة: حكم الوطأ قبل الغسل من الحيض
مسألة: وطأ المستحاضة
مسألة: وضوء المستحاضة وصاحب سلس البول ونحوه
فصل: وضوء أصحاب الأعذار
فصل: الوضوء قبل كل وقت
فصل: أداء المستحاضة صلاتين بوضوء واحد
فصل: المستحاضة التي انقطع دمها
فصل: انقطاع الدم زمنا لا يتسع للطهارة والصلاة
مسألة: النفاس
مسألة: أقل مدة للنفاس
فصل: انعدام النفاس
فصل: الطهارة من النفاس قبل أربعين يوما
فصل: إذا وضعت المرأة شيئا غير مكتمل الخلق
فصل: إذا ولدت المرأة توأمين
فصل: الأحكام المتعلقة بالنفاس
مسألة: حكم من زادت عادتها على ما كانت تعرف
فصل: مجاوزة الدم أكثر مدة الحيض
مسألة: انقطاع الدم قبل موعده
فصل: حكم الطهر بين الدمين
فصل: حكم الدم العائد بعد العادة
فصل: معاودة الدم بعد العادة
فصل: في التلفيق
مسألة: حكم الحامل إذا رأت الدم
مسألة: سن اليأس وتحديده
فصل: أقل سن الحيض
مسألة: المستحاضة وما يجب عليها وما يستحب لها
فصل: حكم طهارة المستحاضة
فصل: تناول دواء يقطع الحيض
كتاب الطهارة
أحكام المياه
باب ما تكون به الطهارة من الماء
قال أبو القاسم -رحمه الله-:
التقدير: هذا باب ما تكون به, الطهارة من الماء فحذف المبتدأ للعلم به وقوله " ما تكون الطهارة به " أي تحصل وتحدث وهي ها هنا تامة غير محتاجة إلى خبر ومتى كانت تامة كانت بمعنى الحدث والحصول تقول: كان الأمر, أي حدث ووقع قال الله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} أي: إن وجد ذو عسرة وقال الشاعر:
إذا كان الشتاء فأدفئوني ** فإن الشيخ يهرمه الشتاء
أي إذا جاء الشتاء وفي نسخة مقروءة على ابن عقيل: [ باب ما تجوز به الطهارة من الماء] ومعناهما متقارب والطهارة في اللغة: النزاهة عن الأقذار وفي الشرع: رفع ما يمنع الصلاة من حدث أو نجاسة بالماء أو رفع حكمه بالتراب فعند إطلاق لفظ الطهارة في لفظ الشارع أو كلام الفقهاء ينصرف إلى الموضوع الشرعي دون اللغوي وكذلك كل ماله موضوع شرعي ولغوي, إنما ينصرف المطلق منه إلى الموضوع الشرعي كالوضوء والصلاة والصوم, والزكاة والحج ونحوه لأن الظاهر من صاحب الشرع التكلم بموضوعاته والطهور - بضم الطاء -: المصدر, قاله اليزيدي والطهور - بالفتح - من الأسماء المتعدية وهو الذي يطهر غيره مثل الغسول الذي يغسل به وقال بعض الحنفية: هو من الأسماء اللازمة, بمعنى الطاهر سواء لأن العرب لا تفرق بين الفاعل والمفعول في التعدي واللزوم فما كان فاعله لازما كان فعوله لازما بدليل قاعد وقعود ونائم ونئوم, وضارب وضروب وهذا غير صحيح فإن الله تعالى قال {ليطهركم به} وروى جابر رضي الله عنه أن النبي -ﷺ- قال: (أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) متفق عليه ولو أراد به الطاهر لم يكن فيه مزية لأنه طاهر في حق كل أحد وسئل النبي -ﷺ- عن التوضؤ بماء البحر, فقال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) ولو لم يكن الطهور متعديا لم يكن ذلك جوابا للقوم حيث سألوه عن التعدي, إذ ليس كل طاهر مطهرا وما ذكروه لا يستقيم لأن العرب فرقت بين الفاعل والفعول فقالت: قاعد لمن وجد منه القعود, وقعود لمن يتكرر منه ذلك فينبغي أن يفرق بينهما ها هنا وليس إلا من حيث التعدي واللزوم.
مسألة:
قال أبو القاسم, -رحمه الله-: [ والطهارة بالماء الطاهر المطلق الذي لا يضاف إلى اسم شيء غيره: مثل ماء الباقلا وماء الورد وماء الحمص وماء الزعفران, وما أشبهه مما لا يزايل اسمه اسم الماء في وقت] قولـه " والطهارة " مبتدأ خبره محذوف تقديره: والطهارة مباحة, أو جائزة ونحو ذلك والألف واللام للاستغراق, فكأنه قال: وكل طهارة جائزة بكل ماء طاهر مطلق والطاهر: ما ليس بنجس والمطلق: ما ليس بمضاف إلى شيء غيره وهو معنى قوله " لا يضاف إلى اسم شيء غيره " وإنما ذكره صفة له وتبيينا ثم مثل الإضافة, فقال: " مثل ماء الباقلا وماء الورد وماء الحمص, وماء الزعفران وما أشبهه " وقوله: " مما لا يزايل اسمه اسم الماء في وقت " صفة للشيء الذي يضاف إليه الماء, ومعناه: لا يفارق اسمه اسم الماء والمزايلة: المفارقة قال الله تعالى: {لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما} وقال أبو طالب:
وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
أي المفارق أي: لا يذكر الماء إلا مضافا إلى المخالط له في الغالب ويفيد هذا الوصف الاحتراز من المضاف إلى مكانه ومقره كماء النهر والبئر فإنه إذا زال عن مكانه زالت النسبة في الغالب وكذلك ما تغيرت رائحته تغيرا يسيرا, فإنه لا يضاف في الغالب وقال القاضي: هذا احتراز من المتغير بالتراب لأنه يصفو عنه ويزايل اسمه اسمه وقد دلت هذه المسألة على أحكام منها إباحة الطهارة بكل ماء موصوف بهذه الصفة التي ذكرها على أي صفة كان من أصل الخلقة, من الحرارة والبرودة والعذوبة والملوحة نزل من السماء, أو نبع من الأرض في بحر أو نهر أو بئر أو غدير أو غير ذلك وقد دل على ذلك قول الله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} وقوله سبحانه: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} وقول النبي -ﷺ-: (الماء طهور لا ينجسه شيء) وقوله في البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) وهذا قول عامة أهل العلم, إلا أنه حكي عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو أنهما قالا في البحر: التيمم أعجب إلينا منه هو نار وحكاه الماوردي عن سعيد بن المسيب والأول أولى لقول الله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وماء البحر ماء, لا يجوز العدول إلى التيمم مع وجوده وروي عن أبي هريرة قال: (سأل رجل النبي -ﷺ- فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء, فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله -ﷺ-: هو الطهور ماؤه الحل ميتته) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي, وقال: هذا حديث حسن صحيح وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: " من لم يطهره ماء البحر فلا طهره الله " ولأنه ماء باق على أصل خلقته فجاز الوضوء به كالعذب وقولهم: " هو نار " إن أريد به أنه نار في الحال فهو خلاف الحس وإن أريد أنه يصير نارا, لم يمنع ذلك الوضوء به حال كونه ماء.
ومنها أن الطهارة من النجاسة لا تحصل إلا بما يحصل به طهارة الحدث لدخوله في عموم الطهارة وبهذا قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وزفر وقال أبو حنيفة يجوز إزالة النجاسة بكل مائع طاهر مزيل للعين والأثر كالخل, وماء الورد ونحوهما وروي عن أحمد ما يدل على مثل ذلك لأن النبي -ﷺ- قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا) أطلق الغسل فتقييده بالماء يحتاج إلى دليل ولأنه مائع طاهر مزيل, فجازت إزالة النجاسة به كالماء فأما ما لا يزيل كالمرق واللبن فلا خلاف في أن النجاسة لا تزال به ولنا ما روي أن رسول الله -ﷺ- (قال لأسماء بنت أبي بكر: إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه, ثم لتنضحه بماء ثم لتصل فيه) أخرجه البخاري وعن أنس رضي الله عنه (أن النبي -ﷺ- أمر بذنوب من ماء فأهريق على بول الأعرابي) متفق عليه, وهذا أمر يقتضي الوجوب ولأنها طهارة تراد للصلاة فلا تحصل بغير الماء كطهارة الحدث, ومطلق حديثهم مقيد بحديثنا والماء يختص بتحصيل إحدى الطهارتين فكذلك الأخرى.
فصل:
ومنها اختصاص حصول الطهارة بالماء, لتخصيصه إياه بالذكر فلا يحصل بمائع سواه وبهذا قال مالك والشافعي, وأبو عبيد وأبو يوسف وروي عن علي رضي الله عنه - وليس بثابت عنه - أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بالنبيذ وبه قال الحسن والأوزاعي وقال عكرمة النبيذ وضوء من لم يجد الماء وقال إسحاق: النبيذ حلوا أحب إلي من التيمم وجمعهما أحب إلي وعن أبي حنيفة كقول عكرمة وقيل عنه: يجوز الوضوء بنبيذ التمر, إذا طبخ واشتد عند عدم الماء في السفر لما روى (ابن مسعود أنه كان مع رسول الله -ﷺ- ليلة الجن, فأراد أن يصلي صلاة الفجر فقال: أمعك وضوء؟ فقال: لا معي إداوة فيها نبيذ فقال: تمرة طيبة وماء طهور) ولنا قول الله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وهذا نص في الانتقال إلى التراب عند عدم الماء, وقال النبي -ﷺ-: (الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين) رواه أبو داود ولأنه لا يجوز الوضوء به في الحضر أو مع وجود الماء فأشبه الخل والمرق, وحديثهم لا يثبت وراويه أبو زيد مجهول عند أهل الحديث لا يعرف له غير هذا الحديث, ولا يعرف بصحبة عبد الله قاله الترمذي وابن المنذر وقد روي عن ابن مسعود أنه سئل: هل كنت مع رسول الله -ﷺ- ليلة الجن؟ فقال: ما كان معه منا أحد رواه أبو داود وروى مسلم بإسناده, عن ابن مسعود قال: لم أكن مع رسول الله -ﷺ- ليلة الجن ووددت إني كنت معه.
فصل:
فأما غير النبيذ من المائعات, غير الماء كالخل والدهن, والمرق واللبن فلا خلاف بين أهل العلم, فيما نعلم أنه لا يجوز بها وضوء ولا غسل لأن الله تعالى أثبت الطهورية للماء بقوله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} وهذا لا يقع عليه اسم الماء.
ومنها أن المضاف لا تحصل به الطهارة, وهو على ثلاثة أضرب: أحدها ما لا تحصل به الطهارة رواية واحدة وهو على ثلاثة أنواع: أحدها ما اعتصر من الطاهرات كماء الورد, وماء القرنفل وما ينزل من عروق الشجر إذا قطعت رطبة الثاني ما خالطه طاهر فغير اسمه, وغلب على أجزائه حتى صار صبغا أو حبرا, أو خلا أو مرقا ونحو ذلك الثالث, ما طبخ فيه طاهر فتغير به كماء الباقلا المغلي فجميع هذه الأنواع لا يجوز الوضوء بها ولا الغسل, لا نعلم فيه خلافا إلا ما حكي عن ابن أبي ليلى والأصم في المياه المعتصرة أنها طهور يرتفع بها الحدث, ويزال بها النجس ولأصحاب الشافعي وجه في ماء الباقلا المغلي وسائر من بلغنا قوله من أهل العلم على خلافهم قال أبو بكر بن المنذر: أجمع كل من نحفظ قوله من أهل العلم أن الوضوء غير جائز بماء الورد وماء الشجر, وماء العصفر ولا تجوز الطهارة إلا بماء مطلق يقع عليه اسم الماء ولأن الطهارة إنما تجوز بالماء, وهذا لا يقع عليه اسم الماء بإطلاقه الضرب الثاني ما خالطه طاهر يمكن التحرز منه فغير إحدى صفاته طعمه, أو لونه أو ريحه كماء الباقلا, وماء الحمص وماء الزعفران واختلف أهل العلم في الوضوء به واختلفت الرواية عن إمامنا, -رحمه الله- في ذلك فروي عنه: لا تحصل الطهارة به وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وقال القاضي أبو يعلى وهي أصح وهي المنصورة عند أصحابنا في الخلاف ونقل عن أحمد جماعة من أصحابه, منهم أبو الحارث والميموني وإسحاق بن منصور, جواز الوضوء به وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه لأن الله تعالى قال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وهذا عام في كل ماء لأنه نكرة في سياق النفي والنكرة في سياق النفي تعم فلا يجوز التيمم مع وجوده, وأيضا قول النبي -ﷺ- في حديث أبي ذر: (التراب كافيك ما لم تجد الماء) وهذا واجد للماء ولأن النبي -ﷺ- وأصحابه كانوا يسافرون وغالب أسقيتهم الأدم والغالب أنها تغير الماء, فلم ينقل عنهم تيمم مع وجود شيء من تلك المياه ولأنه طهور خالطه طاهر لم يسلبه اسم الماء ولا رقته ولا جريانه, فأشبه المتغير بالدهن ووجه الأولى: أنه ماء تغير بمخالطة ما ليس بطهور يمكن الاحتراز منه فلم يجز الوضوء به كماء الباقلا المغلي ولأنه زال عن إطلاقه, فأشبه المغلي إذا ثبت هذا فإن أصحابنا لم يفرقوا بين المذرور في الماء مما يخلط بالماء كالزعفران والعصفر والأشنان ونحوه وبين الحبوب من الباقلا والحمص والثمر كالتمر والزبيب والورق وأشباه ذلك وقال أصحاب الشافعي: ما كان مذرورا منع إذا غير الماء, وما عداه لا يمنع إلا أن ينحل في الماء وإن غيره من غير انحلال لم يسلب طهوريته لأنه تغير مجاورة أشبه تغيير الكافور ووافقهم أصحابنا في الخشب والعيدان, وخالفوهم في سائر ما ذكرنا لأن تغير الماء به إنما كان لانفصال أجزاء منه إلى الماء وانحلالها فيه فوجب أن يمنع كما لو طبخ فيه ولأنه ماء تغير بمخالطة طاهر يمكن صونه عنه أشبه ما لو أغلي فيه الضرب الثالث من المضاف ما يجوز الوضوء به رواية واحدة, وهو أربعة أنواع: أحدها: ما أضيف إلى محله ومقره كماء النهر والبئر وأشباههما فهذا لا ينفك منه ماء وهي إضافة إلى غير مخالط وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم الثاني: ما لا يمكن التحرز منه كالطحلب والخز وسائر ما ينبت في الماء, وكذلك ورق الشجر الذي يسقط في الماء أو تحمله الريح فتلقيه فيه وما تجذبه السيول من العيدان والتبن ونحوه, فتلقيه في الماء وما هو في قرار الماء كالكبريت والقار وغيرهما إذا جرى عليه الماء فتغير به, أو كان في الأرض التي يقف فيها الماء فهذا كله يعفى عنه لأنه يشق التحرز منه فإن أخذ شيء من ذلك وألقي في الماء وغيره كان حكمه حكم ما أمكن التحرز منه من الزعفران ونحوه لأن الاحتراز منه ممكن الثالث: ما يوافق الماء في صفتيه الطهارة, والطهورية كالتراب إذا غير الماء لا يمنع الطهورية لأنه طاهر مطهر كالماء فإن ثخن بحيث لا يجري على الأعضاء لم تجز الطهارة به لأنه طين وليس بماء, ولا فرق في التراب بين وقوعه في الماء عن قصد أو غير قصد وكذلك الملح الذي أصله الماء كالبحري والملح الذي ينعقد من الماء الذي يرسل على السبخة فيصير ملحا فلا يسلب الطهورية لأن أصله الماء, فهو كالجليد والثلج وإن كان معدنا ليس أصله الماء فهو كالزعفران وغيره الرابع: ما يتغير به الماء بمجاورته من غير مخالطة كالدهن على اختلاف أنواعه, والطاهرات الصلبة كالعود والكافور والعنبر إذا لم يهلك في الماء ولم يمع فيه, لا يخرج به عن إطلاقه لأنه تغيير مجاورة أشبه ما لو تروح الماء بريح شيء على جانبه ولا نعلم في هذه الأنواع خلافا وفي معنى المتغير بالدهن ما تغير بالقطران والزفت والشمع لأن في ذلك دهنية يتغير بها الماء تغير مجاورة فلا يمنع كالدهن.
فصل:
والماء الآجن, وهو الذي يتغير بطول مكثه في المكان من غير مخالطة شيء يغيره باق على إطلاقه في قول أكثر أهل العلم, قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ قوله من أهل العلم على أن الوضوء بالماء الآجن من غير نجاسة حلت فيه جائز غير ابن سيرين فإنه كره ذلك وقول الجمهور أولى فإنه يروى (أن النبي -ﷺ- توضأ من بئر كأن ماءه نقاعة الحناء) ولأنه تغير من غير مخالطة.
فصل:
وإذا كان على العضو طاهر, كالزعفران والعجين فتغير به الماء وقت غسله لم يمنع حصول الطهارة به لأنه تغير في محل التطهير, أشبه ما لو تغير الماء الذي تزال به النجاسة في محلها.
مسألة:
قال: [ وما سقط فيه مما ذكرنا أو من غيره وكان يسيرا فلم يوجد له طعم ولا لون ولا رائحة كثيرة حتى ينسب الماء إليه توضئ به] قوله: " مما ذكرنا " يعني الباقلا والحمص والورد والزعفران وغيره يعني من الطاهرات سواه وقوله: " حتى ينسب الماء إليه " أي: يضاف إليه, على ما قدمنا واعتبر الكثرة في الرائحة دون غيرها من الصفات لأن لها سراية ونفوذا, فإنها تحصل عن مجاورة تارة وعن مخالطة أخرى فاعتبر الكثرة فيها ليعلم أنها عن مخالطة قال ابن عقيل غير الخرقي من أصحابنا, ذهب إلى التسوية بين الرائحة واللون والطعم لأنها صفة من صفات الماء فأشبهت اللون والطعم وقال القاضي: يجب التسوية بين الرائحة واللون والطعم فإن عفي عن اليسير في بعضها عفي عنه في بقيتها, وإن لم يعف عن اليسير في بعضها لم يعف عنه في بقيتها وقد ذكرنا معنى يقتضي الفرق -إن شاء الله تعالى- ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في جواز الوضوء بماء خالطه طاهر لم يغيره, إلا ما حكي عن أم هانئ في ماء بل فيه خبز: لا يتوضأ به ولعلها أرادت ما تغير به وحكى ابن المنذر عن الزهري في كسر بلت بالماء, غيرت لونه أو لم تغير لونه لم يتوضأ به والذي عليه الجمهور أولى لأنه طاهر لم يغير صفة الماء فلم يمنع كبقية الطاهرات إذا لم تغيره, وقد (اغتسل النبي -ﷺ- وزوجته من جفنة فيها أثر العجين) رواه النسائي وابن ماجه والأثرم.
فصل:
وإذا وقع في الماء مائع, لا يغيره لموافقة صفته وهذا يبعد إذ الظاهر أنه لا بد أن ينفرد عنه بصفة, فيعتبر التغير بظهور تلك الصفة فإن اتفق ذلك اعتبرناه بغيره مما له صفة تظهر على الماء كالحر إذا جنى عليه دون الموضحة قومناه كأنه عبد وإن شك في كونه يمنع بنى على يقين الطهورية لأنها الأصل, فلا يزول عنها بالشك.
فصل:
وإن كان الواقع في الماء ماء مستعملا عفي عن يسيره قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد الرجل يتوضأ فينتضح من وضوئه في إنائه؟ قال: لا بأس به قال إبراهيم النخعي: لا بد من ذلك ونحوه عن الحسن وهذا ظاهر حال النبي -ﷺ- وأصحابه لأنهم كانوا يتوضئون من الأقداح والأتوار ويغتسلون من الجفان, وقد روي (أن النبي -ﷺ- كان يغتسل هو وميمونة من جفنة فيها أثر العجين) (واغتسل هو وعائشة من إناء واحد تختلف أيديهما فيه كل واحد منهما يقول لصاحبه: أبق لي) ومثل هذا لا يسلم من رشاش يقع في الماء وإن كثر الواقع وتفاحش منع على إحدى الروايتين وقال أصحاب الشافعي: إن كان الأكثر المستعمل منع, وإن كان الأقل لم يمنع وقال ابن عقيل: إن كان الواقع بحيث لو كان خلا غير الماء منع وإلا فلا وما ذكرنا من الخبر وظاهر حال النبي -ﷺ- وأصحابه يمنع من اعتباره بالخل لأنه من أسرع المائعات نفوذا, وأبلغها سراية فيؤثر قليله في الماء والحديث دل على العفو عن يسيره, فإذا يرجع في ذلك إلى العرف فما كان كثيرا متفاحشا منع وإلا فلا وإن شك فالماء باق على الطهورية لأنها الأصل, فلا يزول عنه بالشك.
فصل:
فإن كان معه ماء لا يكفيه لطهارته فكمله بمائع لم يغيره, جاز الوضوء به في إحدى الروايتين لأنه طاهر لم يغير الماء فلم يمنع كما لو كان الماء قدرا يجزئ في الطهارة والثانية: لا يجوز لأننا نتيقن حصول غسل بعض أعضائه بالمائع والأولى أولى لأنه لما لم تظهر صفة المائع على الماء صار حكم الجميع حكم الماء, وما ذكرناه للرواية الثانية يبطل بما إذا كان الماء قدرا يجزئ في الطهارة فخلطه بمائع ثم توضأ به وبقي قدر المائع أو دونه, فإنه يجوز مع العلم بأن المستعمل بعض الماء وبعض المائع وكذلك الباقي, لاستحالة انفراد الماء عن المائع والله أعلم.
فصل:
ولا يكره الوضوء بالماء المسخن بطاهر إلا أن يكون حارا يمنع إسباغ الوضوء لحرارته وممن روي عنه أنه رأى الوضوء بالماء المسخن عمر وابنه وابن عباس, وأنس رضي الله عنهم وهو قول أهل الحجاز وأهل العراق جميعهم غير مجاهد ولا معنى لقوله فإن زيد بن أسلم روى: أن عمر كان له قمقمة يسخن فيها الماء, وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه دخل حماما بالجحفة وذكر ابن عقيل حديثا عن شريك رحال النبي -ﷺ- قال: (أجنبت وأنا مع النبي -ﷺ- فجمعت حطبا فأحميت الماء, فاغتسلت فأخبرت النبي -ﷺ- فلم ينكر علي) ولأنها صفة خلق عليها الماء فأشبه ما لو برده.
فصل:
ولا تكره الطهارة بالماء المشمس وقال الشافعي: تكره الطهارة بماء قصد إلى تشميسه في الأواني ولا أكرهه إلا من جهة الطب لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل على رسول الله -ﷺ- وقد سخنت له الماء في الشمس, فقال: لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص) واختاره أبو الحسن التميمي ولنا أنه سخن بطاهر أشبه ما في البرك والأنهار, وما سخن بالنار وما لم يقصد تشميسه فإن الضرر لا يختلف بالقصد وعدمه والحديث غير ثابت, يرويه خالد بن إسماعيل وهو متروك الحديث, وعمرو بن محمد الأعسم وهو منكر الحديث قاله الدارقطني قال: ولا يصح عن الزهري وحكي عن أهل الطب أنهم لا يعرفون لذلك تأثيرا في الضرر.
فصل:
فأما الماء المسخن بالنجاسة, فهو على ثلاثة أقسام: أحدها أن يتحقق وصول شيء من أجزاء النجاسة إلى الماء فينجسه إذا كان يسيرا والثاني, أن لا يتحقق وصول شيء من أجزاء النجاسة إلى الماء والحائل غير حصين فالماء على أصل الطهارة ويكره استعماله وقال الشافعي: لا يكره (لأن النبي -ﷺ- دخل حماما بالجحفة) ولنا, أنه ماء تردد بين الطهارة والنجاسة مع وجود سببها فأقل أحواله الكراهة والحديث لا يثبت عن النبي -ﷺ- وإنما يروى عن ابن عباس, ولم يثبت أن الوقود كان نجسا ولا أن الحائل كان غير حصين والحديث قضية في عين لا يثبت به نفي الكراهة إلا في مثلها, ولا يثبت به نفي الكراهة على الإطلاق القسم الثالث إذا كان الحائل حصينا فقال القاضي: يكره, واختار الشريف أبو جعفر وابن عقيل أنه لا يكره لأنه غير متردد في نجاسته, بخلاف التي قبلها وذكر أبو الخطاب في كراهة المسخن بالنجاسة روايتين على الإطلاق.
فصل:
ولا يكره الوضوء والغسل بماء زمزم لأنه ماء طهور فأشبه سائر المياه وعنه: يكره لقول العباس لا أحلها لمغتسل, لكن لمحرم حل وبل ولأنه يزيل به مانعا من الصلاة أشبه إزالة النجاسة به والأول أولى وقول العباس لا يؤخذ بصريحه في التحريم, ففي غيره أولى وشرفه لا يوجب الكراهة لاستعماله كالماء الذي وضع فيه النبي -ﷺ- كفه, أو اغتسل منه.
فصل:
الذائب من الثلج والبرد طهور لأنه ماء نزل من السماء وفي دعاء النبي -ﷺ-: (اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد) متفق عليه فإن أخذ الثلج فأمره على أعضائه لم تحصل الطهارة ولو انبل به العضو لأن الواجب الغسل, وأقل ذلك أن يجري الماء على العضو إلا أن يكون خفيفا فيذوب ويجري ماؤه على الأعضاء فيحصل به الغسل, فيجزئه.
مسألة:
قال: [ ولا يتوضأ بماء قد توضئ به] يعني: الماء المنفصل عن أعضاء المتوضئ والمغتسل في معناه وظاهر المذهب أن المستعمل في رفع الحدث طاهر غير مطهر, لا يرفع حدثا ولا يزيل نجسا وبه قال الليث والأوزاعي, وهو المشهور عن أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وظاهر مذهب الشافعي وعن أحمد رواية أخرى, أنه طاهر مطهر وبه قال الحسن وعطاء والنخعي, والزهري ومكحول وأهل الظاهر, والرواية الثانية لمالك والقول الثاني للشافعي وروي عن علي وابن عمر, وأبي أمامة فيمن نسي مسح رأسه إذا وجد بللا في لحيته أجزأه أن يمسح رأسه بذلك البلل ووجه ذلك أن النبي -ﷺ- قال: (الماء لا يجنب) وقال: (الماء ليس عليه جنابة) وروي (أن النبي -ﷺ- اغتسل من الجنابة, فرأى لمعة لم يصبها الماء فعصر شعره عليها) رواهما الإمام أحمد في " المسند " وابن ماجه, وغيرهما ولأنه غسل به محل طاهر فلم تزل به طهوريته كما لو غسل به الثوب ولأنه لاقى محلا طاهرا, فلا يخرج عن حكمه بتأدية الفرض به كالثوب يصلي فيه مرارا وقال أبو يوسف: هو نجس وهو رواية عن أبي حنيفة لأن النبي -ﷺ- قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من جنابة) رواه أبو داود فاقتضى أن الغسل فيه, كالبول فيه ولأنه يسمى طهارة والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة إذ تطهير الطاهر لا يعقل ولنا: على طهارته (أن النبي -ﷺ- كان إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه) رواه البخاري (ولأنه -ﷺ- صب على جابر من وضوئه إذ كان مريضا) ولو كان نجسا لم يجز فعل ذلك ولأن النبي -ﷺ- وأصحابه ونساءه كانوا يتوضئون في الأقداح والأتوار ويغتسلون في الجفان, ومثل هذا لا يسلم من رشاش يقع في الماء من المستعمل ولهذا قال إبراهيم النخعي ولا بد من ذلك فلو كان المستعمل نجسا لنجس الماء الذي يقع فيه وقد روي عن النبي -ﷺ- (أنه قدمت إليه امرأة من نسائه قصعة ليتوضأ منها فقالت امرأة: إني غمست يدي فيها, وأنا جنب فقال: الماء لا يجنب) ورواه الإمام أبو عبد الله في " المسند ": " الماء لا ينجس " وعندهم الحدث يرتفع من غير نية ولأنه ماء طاهر لاقى محلا طاهرا فكان طاهرا كالذي غسل به الثوب الطاهر, والدليل على أن المحدث طاهر ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (لقيني رسول الله -ﷺ- وأنا جنب فانخنست منه فاغتسلت ثم جئت, فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قلت: يا رسول الله: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك فذهبت فاغتسلت ثم جئت فقال: سبحان الله, المسلم لا ينجس) متفق عليه ولأنه لو غمس يده في الماء لم ينجسه ولو مس شيئا رطبا لم ينجسه ولو حمله مصل لم تبطل صلاته وقولهم: إنه نهى عن الغسل من الجنابة في الماء الدائم, كنهيه عن البول فيه قلنا: النهي يدل على أنه يؤثر في الماء وهو المنع من التوضؤ به والاقتران يقتضي التسوية في أصل الحكم, لا في تفصيله وإنما سمي الوضوء والغسل طهارة لكونه ينقي الذنوب والآثام كما ورد في الأخبار, بدليل ما ذكرناه إذا ثبت هذا فالدليل على خروجه عن الطهورية قول النبي -ﷺ-: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) رواه مسلم منع من الغسل فيه كمنعه من البول فيه فلولا أنه يفيده منعا لم ينه عنه ولأنه أزيل به مانع من الصلاة, فلم يجز استعماله في طهارة أخرى كالمستعمل في إزالة النجاسة.
فصل:
وجميع الأحداث سواء فيما ذكرنا الحدث الأصغر والجنابة, والحيض والنفاس وكذلك المنفصل من غسل الميت إذا قلنا بطهارته, واختلفت الرواية في المنفصل عن غسل الذمية من الحيض فروي أنه مطهر لأنه لم يزل مانعا من الصلاة أشبه ماء تبرد به وروي أنه غير مطهر لأنها أزالت به المانع من وطء الزوج أشبه ما لو اغتسلت به مسلمة, فإن اغتسلت به من الجنابة كان مطهرا وجها واحدا لأنه لم يزل مانعا من الصلاة ولا استعمل في عبادة أشبه ما لو تبرد به, ويحتمل أن يمنع استعماله لأنه استعمل في الغسل من الجنابة أشبه ما لو اغتسلت به مسلمة.
فصل:
وإن استعمل في طهارة مستحبة غير واجبة كالتجديد, والغسلة الثانية والثالثة في الوضوء والغسل للجمعة والعيدين وغيرهما ففيه روايتان: إحداهما أنه كالمستعمل في رفع الحدث لأنها طهارة مشروعة, أشبه ما لو اغتسل به من جنابة والثانية لا يمنع لأنه لم يزل مانعا من الصلاة أشبه ما لو تبرد به فإن لم تكن الطهارة مشروعة لم يؤثر استعمال الماء فيها شيئا وكان كما لو تبرد به, أو غسل به ثوبه ولا تختلف الرواية أن ما استعمل في التبرد والتنظيف أنه باق على إطلاقه, ولا نعلم فيه خلافا.
فصل:
فأما المستعمل في تعبد من غير حدث كغسل اليدين من نوم الليل فإن قلنا ليس ذلك بواجب لم يؤثر استعماله في الماء, وإن قلنا بوجوبه فقال القاضي: هو طاهر غير مطهر وذكر أبو الخطاب فيه روايتين: إحداهما أنه يخرج عن إطلاقه لأنه مستعمل في طهارة تعبد أشبه المستعمل في رفع الحدث (ولأن النبي -ﷺ- نهى أن يغمس القائم من نوم الليل يده في الإناء قبل غسلها) فدل ذلك على أنه يفيد منعا والرواية الثانية, أنه باق على إطلاقه لأنه لم يرفع حدثا أشبه المتبرد به وعلى قياسه المستعمل في غسل الذكر والأنثيين من المذي, إذا قلنا بوجوبه لأنه في معناه.
فصل:
إذا انغمس الجنب أو المحدث فيما دون القلتين ينوي رفع الحدث صار مستعملا ولم يرتفع حدثه وقال الشافعي يصير مستعملا ويرتفع حدثه لأنه إنما يصير مستعملا بارتفاع حدثه فيه ولنا قول رسول الله -ﷺ-: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) رواه مسلم والنهي يقتضي فساد المنهي عنه ولأنه بانفصال أول جزء من الماء عن بدنه صار الماء مستعملا, فلم يرتفع الحدث عن سائر البدن كما لو اغتسل فيه شخص آخر فإن كان الماء قلتين فصاعدا ارتفع حدثه ولم يتأثر به الماء لأنه لا يحمل الخبث.
فصل:
إذا اجتمع ماء مستعمل إلى قلتين غير مستعمل صار الكل طهورا لأنه لو كان المستعمل نجسا لكان الكل طهورا, فالمستعمل أولى وإن انضم إلى ما دون القلتين وكثر المستعمل ولم يبلغ قلتين منع وإن بلغ قلتين باجتماعه فكذلك ويحتمل أن يزول المنع لقول النبي -ﷺ- (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) وإن انضم مستعمل إلى مستعمل ولم يبلغ القلتين فهو باق على المنع, وإن بلغ قلتين ففيه وجهان لما ذكرناه.
مسألة:
قال: [ وإذا كان الماء قلتين وهو خمس قرب فوقعت فيه نجاسة فلم يوجد لها طعم ولا لون ولا رائحة, فهو طاهر] والقلة: هي الجرة سميت قلة لأنها تقل بالأيدي أي تحمل, ومنه قوله تعالى: {حتى إذا أقلت سحابا ثقالا} ويقع هذا الاسم على الكبيرة والصغيرة والمراد بها ها هنا قلتان من قلال هجر وهما خمس قرب كل قربة مائة رطل بالعراقي, فتكون القلتان خمسمائة رطل بالعراقي هذا ظاهر المذهب عند أصحابنا وهو مذهب الشافعي لأنه روي عن ابن جريج أنه قال: رأيت قلال هجر القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا فالاحتياط أن يجعل قربتين ونصفا وروى الأثرم, وإسماعيل بن سعيد عن أحمد أن القلتين أربع قرب, وحكاه ابن المنذر عن أحمد في " كتابه " وذلك لما روى الجوزجاني بإسناده عن يحيى بن عقيل قال: رأيت قلال هجر, وأظن كل قلة تأخذ قربين وروي نحو هذا عن ابن جريج واتفق القائلون بتحديد الماء بالقرب على تقدير كل قربة بمائة رطل بالعراقي لا أعلم بينهم في ذلك خلافا ولعلهم أخذوا ذلك ممن اختبر قرب الحجاز, وعرف أن ذلك مقدارها وإنما خصصنا هذا بقلال هجر لوجهين: أحدهما أنه قد روي في حديث مبينا رواه الخطابي في " معالم السنن " بإسناده إلى ابن جريج, عن النبي -ﷺ- مرسلا (إذا كان الماء قلتين بقلال هجر) وذكر الحديث والثاني أن قلال هجر أكبر ما يكون من القلال وأشهرها في عصر النبي -ﷺ- ذكره الخطابي قال: وهي مشهورة الصنعة معلومة المقدار لا تختلف كما لا تختلف الصيعان والمكاييل ولأن الحد لا يقع بالمجهول وقال أبو عبيد: هي الحباب, وهي مستفيضة معروفة فينبغي أن يحمل لفظ القلتين عليها لشهرتها وكبرها فإن كل معدود جعل مقدارا واحدا لم يتناول إلا أكبرها لأنها أقرب إلى العلم, وأقل في العدد ولذلك جعل نصاب الزكاة بالأوسق دون الآصع والأمداد وقد دلت هذه المسألة بصريحها على أن ما بلغ القلتين فلم يتغير بما وقع فيه لا ينجس, وبمفهومها على أن ما تغير بالنجاسة نجس وإن كثر وأن ما دون القلتين ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة وإن لم يتغير فأما نجاسة ما تغير بالنجاسة فلا خلاف فيه, قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت للماء طعما أو لونا أو رائحة أنه نجس ما دام كذلك وقد روى أبو أمامة الباهلي, أن النبي -ﷺ- قال: (الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه) رواه ابن ماجه وقال حرب بن إسماعيل: سئل أحمد عن الماء إذا تغير طعمه أو ريحه قال: لا يتوضأ به ولا يشرب وليس فيه حديث, ولكن الله تعالى حرم الميتة فإذا صارت الميتة في الماء فتغير طعمه أو ريحه فذلك طعم الميتة وريحها, فلا يحل له وذلك أمر ظاهر وقال الخلال: إنما قال أحمد: ليس فيه حديث لأن هذا الحديث يرويه سليمان بن عمر ورشدين بن سعد, وكلاهما ضعيف وابن ماجه رواه من طريق رشدين وأما ما دون القلتين إذا لاقته النجاسة فلم يتغير بها فالمشهور في المذهب أنه ينجس, وروي عن ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد, وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو عبيد وروي عن أحمد رواية أخرى, أن الماء لا ينجس إلا بالتغير قليله وكثيره وروي مثل ذلك عن حذيفة وأبي هريرة, وابن عباس قالوا: الماء لا ينجس وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن, وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد, وابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي والثوري, ويحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي وابن المنذر, وهو قول للشافعي لحديث أبي أمامة الذي أوردناه وروى أبو سعيد قال: (قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ - وهي بئر يلقى فيها الحيض, ولحوم الكلاب والنتن - فقال: إن الماء طهور لا ينجسه شيء) رواه أبو داود والنسائي, والترمذي وقال: حديث حسن قال الخلال: قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح وروي أن النبي -ﷺ- (سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر, وعن الطهارة بها فقال: لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر طهور) ولم يفرق بين القليل والكثير ولأنه لم يظهر عليه إحدى صفات النجاسة, فلم ينجس بها كالزائد عن القلتين ووجه الرواية الأولى ما روى ابن عمر رضي الله عنه (أن النبي -ﷺ- سئل عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع فقال إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) رواه أبو داود, والنسائي والترمذي وابن ماجه, وفي لفظ: (إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء) وتحديده بالقلتين يدل على أن ما دونهما ينجس إذ لو استوى حكم القلتين وما دونهما لم يكن التحديد مفيدا وصح أن النبي -ﷺ- قال: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده) فلولا أنه يفيده منعا لم ينه عنه أمر النبي -ﷺ- بغسل الإناء من ولوغ الكلب, وإراقة سؤره ولم يفرق بين ما تغير وما لم يتغير مع أن الظاهر عدم التغير, وخبر أبي أمامة ضعيف وخبر بئر بضاعة والخبر الآخر محمولان على الماء الكثير بدليل أن ما تغير نجس, أو نخصهما بخبر القلتين فإنه أخص منهما والخاص يقدم على العام وأما الزائد عن القلتين, إذا لم يتغير ولم تكن النجاسة بولا أو عذرة فلا يختلف المذهب في طهارته, وروي ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد, وهو قول الشافعي وإسحاق و أبي عبيدة وأبي ثور, وهو قول من حكينا عنهم أن اليسير لا ينجس إلا بالتغير وحكي عن ابن عباس أنه قال: إذا كان الماء ذنوبين لم يحمل الخبث وقال عكرمة: ذنوبا أو ذنوبين وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الكثير ينجس بالنجاسة إلا أن يبلغ حدا يغلب على الظن أن النجاسة لا تصل إليه واختلفوا في حده فقال بعضهم: ما إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الآخر وقال بعضهم: ما بلغ عشرة أذرع في عشرة أذرع, وما دون ذلك ينجس وإن بلغ ألف قلة لأن النبي -ﷺ- قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه) متفق عليه فنهى عن الوضوء من الماء الراكد بعد البول فيه, ولم يفرق بين قليله وكثيره ولأنه ماء حلت فيه نجاسة لا يؤمن انتشارها إليه فينجس بها كاليسير ولنا خبر القلتين وبئر بضاعة, اللذان ذكرناهما فإن النبي -ﷺ- قال: (الماء طهور لا ينجسه شيء) مع قولهم له: أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ وبئر بضاعة لا يبلغ الحد الذي ذكروه قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته, فإذا عرضها ستة أذرع وسألت الذي فتح لي باب البستان: هل غير بناؤها عما كانت عليه؟ قال: لا وسألت قيمها عن عمقها فقلت: أكثر ما يكون فيها الماء؟ قال: إلى العانة قلت: فإذا نقص قال: دون العورة ولأنه ماء يبلغ القلتين, فأشبه ما زاد على عشرة أذرع وحديثهم عام وحديثنا خاص فيجب تقديمه الثاني, أن حديثهم لا بد من تخصيصه فإن ما زاد على الحد الذي ذكروه لا يمنع من الوضوء به اتفاقا وإذا وجب تخصيصه كان تخصيصه بقول النبي -ﷺ- أولى من تخصيصه بالرأي والتشهي من غير أصل يرجع إليه, ولا دليل يعتمد عليه ولأن ما ذكروه من الحد تقدير طريقه التوقيف لا يصار إليه إلا بنص أو إجماع وليس معهم نص ولا إجماع ولأن حديثهم خاص في البول ونحن نقول به على إحدى الروايتين, ونقصر الحكم على ما تناوله النص وهو البول لأن له من التأكيد والانتشار في الماء ما ليس لغيره على ما سنذكره -إن شاء الله تعالى- فإن قيل: المراد بقوله: (لم يحمل الخبث) أي لم يدفع الخبث عن نفسه, أي أنه ينجس بالواقع فيه قلنا هذا فاسد لوجوه: أحدها أن في بعض ألفاظه (لم ينجس) رواه أبو داود وابن ماجه, واحتج به أحمد الثاني أنه لو أراد أن ما بلغ القلتين في القلة ينجس لكان ما فوقهما لا ينجس لتحقق الفرق بينهما فإنه جعل القلتين فصلا بين ما يتنجس وما لم يتنجس فلو سوينا بينهما لم يبق فصل الثالث أن مقتضاه في اللغة أنه يدفع الخبث عن نفسه, من قولهم: فلان لا يحتمل الضيم أي يدفعه عن نفسه والله أعلم.
فصل:
اختلف أصحابنا: هل القلتان خمسمائة رطل تحديدا أو تقريبا؟ قال: أبو الحسن الآمدي: الصحيح أنها تحديد وهو ظاهر قول القاضي, وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن اعتبار ذلك كان احتياطا وما اعتبر احتياطا كان واجبا كغسل جزء من الرأس مع الوجه, وإمساك جزء من الليل مع النهار في الصوم ولأنه قدر يدفع النجاسة عن نفسه فاعتبر تحقيقه كالعدد في الغسلات والصحيح أن ذلك تقريب لأن الذين نقلوا تقدير القلال لم يضبطوهما بحد إنما قال ابن جريج: القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا وقال يحيى بن عقيل: أظنها تسع قربتين وهذا لا تحديد فيه فإن قولهما يدل على أنهما قربا الأمر, والشيء الزائد عن القربتين مشكوك فيه مع أنه يقع على المجهول والظاهر قلته لأن لفظه يدل على تقارب ما بين الأمرين المذكورين, وكلما قل الشيء كان أقرب إلى القربتين وكلام أحمد يدل على هذا فإنه روي عنه أن القلة قربتان وروي قربتان ونصف, وروي: وثلث وهذا يدل على أنه لم يحد في ذلك حدا ثم ليس للقربة حد معلوم فإن القرب تختلف اختلافا كثيرا فلا يكاد قربتان يتفقان في حد واحد, ولهذا لو اشترى منه شيئا مقدرا بالقرب أو أسلم في شيء محدود بالقرب لم يجز ذلك ولأن النبي -ﷺ- قد علم أن الناس لا يكيلون الماء ولا يزنونه فلم يكن ليعرفهم الحد بما لا يعرف به, وإنما أراد أن من وجد ماء فيه نجاسة فظنه مقاربا للقلتين توضأ منه وإن ظنه ناقصا عنهما من غير مقاربة لهما تركه وفائدة هذا أن من اعتبر التحديد, فنقص عن الحد شيئا يسيرا لم يعف عنه ونجس بورود النجاسة عليه, ومن قال بالتقريب عفي عن النقص اليسير عنده وتعلق الحكم بما يقارب القلتين إن شك في بلوغ الماء قدرا يدفع النجاسة أو لا يدفعها ففيه وجهان: أحدهما, يحكم بطهارته لأنه كان طاهرا قبل وقوع النجاسة فيه وشك هل ينجس به أو لا؟ فلا يزول اليقين بالشك والثاني يحكم بنجاسته لأن الأصل قلة الماء فنبني عليه, ويلزم من ذلك النجاسة.
فصل:
فأما غير الماء من المائعات ففيه ثلاث روايات: إحداهن أنه ينجس بالنجاسة وإن كثر لأن النبي -ﷺ- (سئل عن فأرة وقعت في سمن قال: إن كان مائعا فلا تقربوه) رواه الإمام أحمد في " مسنده, إسناده صحيح على شرط " الصحيحين " ولم يفرق بين كثيره وقليله ولأنها لا قوة لها على دفع النجاسة, فإنها لا تطهر غيرها فلا تدفعها عن نفسها كاليسير والثانية أنها كالماء لا ينجس منها ما بلغ القلتين إلا بالتغير قال حرب: سألت أحمد, قلت: كلب ولغ في سمن أو زيت؟ قال: إذا كان في آنية كبيرة مثل جب أو نحوه رجوت أن لا يكون به بأس ويؤكل وإن كان في آنية صغيرة فلا يعجبني وذلك لأنه كثير, فلم ينجس بالنجاسة من غير تغير كالماء والثالثة ما أصله الماء كالخل التمري يدفع النجاسة لأن الغالب فيه الماء, وما لا فلا والأولى أولى.
فصل:
فأما الماء المستعمل وما كان طاهرا غير مطهر من الماء فإنه يدفع النجاسة عن نفسه إذا كثر لقول النبي -ﷺ-: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا) ويحتمل أن ينجس لأنه طاهر غير مطهر, فأشبه الخل.
فصل:
إذا كان الماء كثيرا فوقع في جانب منه نجاسة فتغير بها, نظرت فيما لم يتغير فإن نقص عن القلتين فالجميع نجس لأن المتغير نجس بالتغير والباقي تنجس بملاقاته, وإن زاد عن القلتين فهو طاهر وقال ابن عقيل وبعض الشافعية: يكون نجسا أيضا وإن كثر وتباعدت أقطاره لأنه ماء راكد بعضه نجس, فكان جميعه نجسا كما لو تقاربت أقطاره ولأن المتغير مائع نجس فينجس ما يلاقيه, ثم تنجس بذلك ما يلاقيه إلى آخره فإن اضطرب فزال التغير زال التنجيس لزوال علته ولنا قول النبي -ﷺ-: (إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء) وقوله -ﷺ-: (الماء طهور لا ينجسه شيء) وغير المتغير قد بلغ القلتين ولم يتغير فيدخل في عموم الأحاديث ولأنه ماء كثير لم يتغير بالنجاسة فكان طاهرا, كما لو لم يتغير منه شيء ولأن العلة في نجاسة الماء الكثير التغير فقط فيختص التنجيس بمحل العلة كما لو تغير بعضه بطاهر, فلا يصح القياس على ما إذا كان غير المتغير ناقصا عن القلتين لأنه قليل ينجس بمجرد الملاقاة للنجاسة بخلاف الكثير وأما تباعد الأقطار وتقاربها فلا عبرة بها إنما العبرة بكون غير المتغير قليلا أو كثيرا, فلا يمتنع الحكم بطهارة الماء الملاصق للنجاسة بدليل ما لو كان فيه كلب أو ميتة فإن الملاصق له طاهر, وإن منعت طهارته فالملاصق للملاصق طاهر وعلى قياس قولهم ينبغي أن يتنجس البحر إذا تغير جانبه والماء الجاري وكل ما تغير بعضه ولا قائل به وقد قال أحمد في المصانع التي بطريق مكة: لا ينجس تلك شيء.
فصل:
ولا فرق بين يسير النجاسة وكثيرها, وسواء كان اليسير مما يدركه الطرف أو لا يدركه من جميع النجاسات إلا أن ما يعفى عن يسيره في الثوب كالدم ونحوه, حكم الماء المتنجس به حكمه في العفو عن يسيره وكل نجاسة ينجس بها الماء يصير حكمه حكمها لأن نجاسة الماء ناشئة عن نجاسة الواقع وفرع عليها, والفرع يثبت له حكم أصله وقيل عن الشافعي: إن ما لا يدركه الطرف من النجاسة معفو عنه للمشقة اللاحقة به ونص في موضع على أن الذباب إذا وقع على خلاء رقيق أو بول ثم وقع على الثوب, غسل موضعه ونجاسة الذباب مما لا يدركها الطرف ولأن دليل التنجيس لا يفرق بين يسير النجاسة وكثيرها ولا بين ما يدركه الطرف وما لا يدركه, فالتفريق تحكم بغير دليل وما ذكروه من المشقة غير صحيح لأننا إنما نحكم بنجاسة ما علمنا وصول النجاسة إليه ومع العلم لا يفترقان في المشقة, ثم إن المشقة حكمة لا يجوز تعليق الحكم بها بمجردها وجعل ما لا يدركه الطرف ضابطا لها غير صحيح فإن ذلك إنما يعرف بتوقيف أو اعتبار الشرع له في موضع, ولم يوجد واحد منهما.
فصل:
والغديران إذا اتصل أحدهما بالآخر بساقية بينهما فيها ماء قليل أو كثير فهما ماء واحد, حكمهما حكم الغدير الواحد إن بلغا جميعا قلتين لم يتنجس واحد منهما إلا بالتغير وإن لم يبلغاها تنجس كل واحد منهما بوقوع النجاسة في أحدهما لأنه ماء راكد متصل بعضه ببعض, أشبه الغدير الواحد
فصل:
في الماء الجاري: نقل عن أحمد -رحمه الله- ما يدل على الفرق بين الماء الجاري والراكد فإنه قال في حوض الحمام: قد قيل إنه بمنزلة الماء الجاري وقال في البئر يكون لها مادة: هو واقف لا يجري, ليس هو بمنزلة ما يجري فعلى هذا لا يتنجس الجاري إلا بتغيره لأن الأصل طهارته ولا نعلم في تنجيسه نصا ولا إجماعا فبقي على أصل الطهارة ولأنه يدخل في عموم قوله عليه السلام: (الماء طهور لا ينجسه شيء) وقوله: " الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه " فإن قيل: قد ورد الشرع بتنجيس قليله بقوله عليه السلام: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) قلنا: هذا حجة على طهارته لأن ماء الساقية بمجموعه قد بلغ القلتين, فلا يحمل الخبث وتخصيص الجرية منه بهذا التقدير تحكم لا دليل عليه ثم الخبر إنما ورد في الماء الراكد, ولا يصح قياس الجاري عليه لقوته بجريانه واتصاله بمادته ثم الخبر إنما يدل بمنطوقه على نفي النجاسة عما بلغ القلتين, وإنما يستدل ها هنا بمفهومه وقضاء حق المفهوم يحصل بمخالفة ما دون القلتين لما بلغهما وقد حصلت المخالفة بكون ما دون القلتين يفترق فيه الماء الجاري والراكد في التنجيس, وما بلغهما لا يختلف وهذا كاف وقال القاضي وأصحابه: كل جرية من الماء الجاري معتبرة بنفسها, فإذا كانت النجاسة جارية مع الماء فما أمامها طاهر لأنها لم تصل إليه وما خلفها طاهر لأنه لم يصل إليها, والجرية التي فيها النجاسة إن بلغت قلتين فهي طاهرة إلا أن تتغير بالنجاسة وإن كانت دون القلتين فهي نجسة, وإن كانت النجاسة واقفة في جانب النهر أو قراره أو في وهدة منه, فكل جرية تمر عليها إن كانت دون القلتين فهي نجسة وإن بلغت قلتين فهي طاهرة إلا أن تتغير والجرية: هي الماء الذي فيه النجاسة, وما قرب منها من خلفها وأمامها مما العادة انتشارها إليه إن كانت مما ينتشر مع ما يحاذي ذلك كله مما بين طرفي النهر فإن كانت النجاسة ممتدة فلكل جزء منها مثل تلك الجرية المعتبرة للنجاسة القليلة, ولا يجعل جميع ما يحاذيها جرية واحدة لئلا يفضي إلى تنجيس الماء الكثير بالنجاسة القليلة ونفي التنجيس عن الكثير مع وجود النجاسة الكثيرة, فإن المحاذي للكثيرة كثير فلا يتنجس والمحاذي للقليلة قليل فيتنجس فإننا لو فرضنا كلبا في جانب نهر, وشعرة منه في الجانب الآخر لكان المحاذي للشعرة لا يبلغ قلتين لقلة ما يحاذيها والمحاذي للكلب يبلغ قلالا, وقد ذكر القاضي وابن عقيل أن الجرية المحاذية للنجاسة فيما بين طرفي النهر ويتعين حمله على ما ذكرناه لما بيناه فإن قيل: فهذا يفضي إلى التسوية بين النجاسة الكثيرة والقليلة, قلنا: الشرع سوى بينهما في الماء الراكد وهو أصل فتجب التسوية بينهما في الجاري, الذي هو فرع.
فصل:
فإن كان في جانب النهر ماء واقف مائل عن سنن الماء متصل بالجاري, أو كان في أرض النهر وهدة فيها ماء واقف وكان ذلك مع الجرية المقابلة له دون القلتين نجسا جميعا بوجود النجاسة في أحدهما لأنه ماء متصل دون القلتين, فينجس بها جميعه كالراكد وإن كان أحدهما قلتين لم ينجس واحد منهما ما داما متلاقيين إلا بالتغير لأن القلتين تدفع النجاسة عن نفسها وعما لاقته ثم لا يخلو من كون النجاسة في النهر أو في الواقف, فإن كانت في النهر وهو قلتان فهو طاهر على كل حال وكذلك الواقف وإن كان دون القلتين فهو نجس قبل ملاقاته للواقف, فإذا حاذاه طهر باتصاله به فإذا فارقه عاد إلى التنجس لقلته مع وجود النجاسة فيه وإن كانت النجاسة في الواقف لم ينجس بحال لأنه لا يزال هو وما لاقاه قلتين فإن كان الواقف دون القلتين والجرية كذلك, إلا أنهما بمجموعهما يزيدان عن القلتين وكانت النجاسة في الواقف لم ينجس واحد منهما لأنها مع ما تلاقيه أكثر من قلتين, وإن كانت في النهر فقياس قول أصحابنا أن ينجس الواقف والجرية التي فيها النجاسة, وكل ما يمر بعدها بالواقف لأن الجرية التي فيها النجاسة كانت نجسة قبل ملاقاة الواقف ثم نجس بها الواقف لكونه ماء دون القلتين ورد عليه ماء نجس ولم تطهر الجرية لأنها بمنزلة ماء نجس صب على ما دون القلتين, فلما صار الواقف نجسا نجس ما يمر عليه ويحتمل أن يحكم بطهارة الجرية حال ملاقاتها للواقف ولا يتنجس الواقف بها لأنه ماء كثير لم يتغير فلا ينجس لقول النبي -ﷺ-: (إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء) وهذا مذهب الشافعي وهذا كله ما لم يتغير, فإن تغير فهو نجس وحكمه حكم أعيان النجاسة فإذا كان الواقف متغيرا وحده فالجرية التي تمر به إن كانت قلتين فهي طاهرة, وإن كانت دون القلتين فهي نجسة وإن كانت الجرية متغيرة والواقف قلتان, فهو طاهر وإلا فهو نجس وإن كان بعض الواقف متغيرا وبعضه غير متغير, وكان غير المتغير مع الجرية الملاقية له قلتين لم ينجس لأنه ماء زائد عن القلتين لم يتغير فكان طاهرا كما لو كانت الجرية قلتين وإن كان المتغير منه الواقف يلي الجاري وغير المتغير لا يليه ولا يتصل به من أعلى الماء ولا أسفله, ولا من ناحية من نواحيه وكل واحد منهما دون القلتين فينبغي أن يكون الكل نجسا لأن كل ما يلاقي الماء النجس لا يبلغ القلتين, وإن اتصل به من ناحية فكل ما لم يتغير طاهر إذا بلغ القلتين لأنه كالغديرين اللذين بينهما ساقية وإن شك في ذلك فالماء طاهر لأن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك, والله أعلم.
فصل:
إذا اجتمعت الجريات في موضع فإن كان متغيرا بالنجاسة فهو نجس وإن كثر, وإن كان في بعض الجريات ماء طاهر متوال يبلغ قلتين إما سابقا وإما لاحقا فالجميع طاهر ما لم يتغير لأن القلتين تدفع النجاسة عن نفسها, وعما اجتمعت معه وإن كان المجتمع دون القلتين وفي بعض الجريات شيء نجس فالكل نجس في ظاهر المذهب وإن كان قلتين إلا أن الجريات كلها نجسة, أو بعض الجريات طاهر وبعضها نجس ولا يتوالى من الطاهر قلتان, فظاهر المذهب أن الجميع نجس وإن كثر ويحتمل أن يكون طاهرا, وهو مذهب الشافعي لقوله عليه السلام: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) ولأنه ماء كثير لم يتغير بالنجاسة فكان طاهرا كما لو كان متغيرا فزال تغيره بمكثه ولنا أنه انضم النجس إلى النجس, فصار الجميع نجسا كغير الماء وإن كان بعض الجريات طاهرا لكنه قليل, فهو مما لا يدفع النجاسة عن نفسه فعن غيره أولى فإن كان الماء كثيرا متغيرا بالنجاسة فزال تغيره بنفسه, طهر الجميع وإن زال بماء طاهر دون القلتين أو باجتماع ماء نجس إليه, فظاهر المذهب أنه نجس لأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه فلا يدفعها عن غيره ويحتمل أن يطهر لأنه أزال علة التنجيس, فأزال التنجيس كما لو زال بنزح أو بمكثه.
فصل:
في تطهير الماء النجس وهو ثلاثة أقسام: أحدها ما دون القلتين فتطهيره بالمكاثرة بقلتين طاهرتين, إما أن يصب فيه أو ينبع فيه فيزول بهما تغيره إن كان متغيرا, وإن لم يكن متغيرا طهر بمجرد المكاثرة لأن القلتين لا تحمل الخبث ولا تنجس إلا بالتغير ولذلك لو ورد عليها ماء نجس لم ينجسها ما لم تتغير به, فكذلك إذا كانت واردة ومن ضرورة الحكم بطهارتهما طهارة ما اختلطتا به القسم الثاني: أن يكون وفق القلتين فلا يخلو من أن يكون غير متغير بالنجاسة, فيطهر بالمكاثرة المذكورة لا غير الثاني أن يكون متغيرا فيطهر بأحد أمرين بالمكاثرة المذكورة إذا أزالت التغير أو بتركه حتى يزول تغيره بطول مكثه القسم الثالث, الزائد عن القلتين فله حالان أحدهما, أن يكون نجسا بغير التغير فلا طريق إلى تطهيره بغير المكاثرة الثاني أن يكون متغيرا بالنجاسة, فتطهيره بأحد أمور ثلاثة المكاثرة أو زوال تغيره بمكثه أو أن ينزح منه ما يزول به التغير, ويبقى بعد ذلك قلتان فصاعدا فإنه إن بقي ما دون القلتين قبل زوال تغيره, لم يبق التغير علة تنجيسه لأنه تنجس بدونه فلا يزول التنجيس بزواله ولذلك طهر الكثير بالنزح وطول المكث, ولم يطهر القليل فإن الكثير لما كانت علة تنجيسه التغير زال تنجيسه بزوال علته كالخمرة إذا انقلبت خلا, والقليل علة تنجيسه الملاقاة لا التغير فلم يؤثر زواله في زوال التنجيس.
فصل:
ولا يعتبر في المكاثرة صب الماء دفعة واحدة لأن ذلك غير ممكن لكن يوصل الماء على ما يمكنه من المتابعة, إما من ساقية وإما دلوا فدلوا أو يسيل إليه ماء المطر, أو ينبع قليلا قليلا حتى يبلغ قلتين فيحصل به التطهير.
فصل:
فإن كوثر بما دون القلتين فزال تغيره, أو طرح فيه تراب أو مائع غير الماء أو غير ذلك فزال تغيره به, ففيه وجهان أحدهما لا يطهر بذلك لأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه فعن غيره أولى ولأنه ليس بطهور فلا يحصل به الطهارة كالماء النجس والثاني, يطهر لأن علة نجاسته التغير وقد زال فيزول التنجيس, كما لو زال بمكثه وكالخمرة إذا انقلبت خلا.
فصل:
ولا يطهر غير الماء من المائعات بالتطهير في قول القاضي وابن عقيل قال ابن عقيل: إلا الزئبق فإنه لقوته وتماسكه يجري مجرى الجامد لأن النبي -ﷺ- (سئل عن السمن إذا وقعت فيه الفأرة, فقال: إن كان مائعا فلا تقربوه) رواه أبو داود ولو كان إلى تطهيره طريق لم يأمر بإراقته واختار أبو الخطاب أن ما يتأتى تطهيره كالزيت يطهر به لأنه أمكن غسله بالماء فيطهر به, كالجامد وطريق تطهيره جعله في ماء كثير ويخاض فيه حتى يصيب الماء جميع أجزائه, ثم يترك حتى يعلو على الماء فيؤخذ وإن تركه في جرة وصب عليه ماء, فخاضه به وجعل لها بزالا يخرج منه الماء جاز, والخبر ورد في السمن ويحتمل أن لا يمكن تطهيره لأنه يجمد في الماء ويحتمل أن النبي -ﷺ- ترك الأمر بتطهيره لمشقة ذلك, وقلة وقوعه.
فصل:
وإذا وقعت النجاسة في غير الماء وكان مائعا نجس وإن كان جامدا كالسمن الجامد أخذت النجاسة بما حولها فألقيت والباقي طاهر: لما روت ميمونة رضي الله عنها (أن رسول الله -ﷺ- سئل عن فأرة سقطت في سمن, فقال: ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم) رواه البخاري وعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن النبي -ﷺ- سئل عن الفأرة تموت في السمن فقال: إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه) أخرجه الإمام أحمد, في " مسنده " وإسناده على شرط " الصحيحين " وحد الجامد الذي لا تسري النجاسة إلى جميعه هو المتماسك الذي فيه قوة تمنع انتقال أجزاء النجاسة عن الموضع الذي وقعت عليه النجاسة إلى ما سواه قال المروذي: قيل لأبي عبد الله في الدوشاب يعني: يقع فيه نجاسة؟ قال: إذا كان كثيرا أخذوا ما حوله, مثل السمن وقال ابن عقيل حد الجامد ما إذا فتح وعاؤه لم تسل أجزاؤه وظاهر ما رويناه عن أحمد خلاف هذا فإن الدوشاب لا يكاد يبلغ هذا وسمن الحجاز لا يكاد يبلغه والمقصود بالجمود أن لا تسري أجزاء النجاسة, وهذا حاصل بما ذكرناه فيقتصر عليه.
فصل:
وإن تنجس العجين ونحوه فلا سبيل إلى تطهيره لأنه لا يمكن غسله وكذلك إن نقع السمسم أو شيء من الحبوب في الماء النجس, حتى انتفخ وابتل لم يطهر قيل لأحمد في سمسم نقع في تيغار فوقعت فيه فأرة, فماتت؟ قال: لا ينتفع بشيء منه قيل: أفيغسل مرارا حتى يذهب ذلك الماء؟ قال: أليس قد ابتل من ذلك الماء لا ينقى منه وإن غسل إذا ثبت هذا فإن أحمد قال في العجين والسمسم: يطعم النواضح ولا يطعم لما يؤكل لحمه يعني لما يؤكل لحمه قريبا وقال مجاهد وعطاء, والثوري وأبو عبيد: يطعم الدجاج وقال مالك والشافعي: يطعم البهائم وقال ابن المنذر: لا يطعم شيئا لأن النبي -ﷺ- (سئل عن شحوم الميتة تطلى بها السفن, ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال لا هو حرام) متفق عليه وهذا في معناه ولنا: ما روى أحمد, بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن قوما اختبزوا من آبار الذين ظلموا أنفسهم فقال النبي -ﷺ-: أعلفوه النواضح) واحتج به أحمد وقال في كسب الحجام: " أطعمه ناضحك أو رقيقك " وقال أحمد: ليس هذا بميتة يعني أن نهي رسول الله -ﷺ- إنما تناول الميتة, وليس هذا بداخل في النهي ولا في معناها ولأن استعمال شحوم الميتة فيما سئل عنه النبي -ﷺ- يفضي إلى تعدي نجاستها واستعمال ما دهنت به من الجلود, فيكون مستعملا للنجاسة وليس كذلك ها هنا فإن نجاسة هذا لا تتعدى أكله قال أحمد: ولا يطعم لشيء يؤكل في الحال ولا يحلب لبنه, لئلا يتنجس به ويصير كالجلال.
مسألة:
قال: [ إلا أن تكون النجاسة بولا أو عذرة مائعة فإنه ينجس إلا أن يكون مثل المصانع التي بطريق مكة, وما أشبهها من المياه الكثيرة التي لا يمكن نزحها فذاك الذي لا ينجسه شيء] يعني بالمصانع: البرك التي صنعت موردا للحاج يشربون منها, يجتمع فيها ماء كثير ويفضل عنهم فتلك لا تتنجس بشيء من النجاسات ما لم تتغير لا نعلم أحدا خالف في هذا قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الماء الكثير, مثل الرجل من البحر ونحوه إذا وقعت فيه نجاسة فلم تغير له لونا ولا طعما ولا ريحا, أنه بحاله يتطهر منه فأما ما يمكن نزحه إذا بلغ قلتين فلا يتنجس بشيء من النجاسات إلا ببول الآدميين, أو عذرتهم المائعة فإن فيه روايتين عن أحمد أشهرهما: أنه يتنجس بذلك روي نحو هذا عن علي والحسن البصري قال الخلال: وحدثنا عن علي بإسناد صحيح, أنه سئل عن صبي بال في بئر فأمرهم أن ينزفوها ومثل ذلك عن الحسن البصري ووجه ذلك: ما روى أبو هريرة, عن النبي -ﷺ- أنه قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه) متفق عليه وفي لفظ: " ثم يتوضأ منه " صحيح وللبخاري: (ثم يغتسل فيه) وهذا متناول للقليل والكثير وهو خاص في البول, وأصح من حديث القلتين فيتعين تقديمه والرواية الثانية أنه لا يتنجس ما لم يتغير كسائر النجاسات, اختارها أبو الخطاب وابن عقيل وهذا مذهب الشافعي وأكثر أهل العلم لا يفرقون بين البول وغيره من النجاسات لقول النبي -ﷺ-: (إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس) ولأن بول الآدمي لا تزيد على نجاسة بول الكلب, وهو لا ينجس القلتين فبول الآدمي أولى وحديث أبي هريرة لا بد من تخصيصه, بدليل ما لا يمكن نزحه فيقاس عليه ما بلغ القلتين أو يخص بخبر القلتين, فإن تخصيصه بخبر النبي -ﷺ- أولى من تخصيصه بالرأي والتحكم من غير دليل ولأنه لو تساوى الحديثان لوجب العدول إلى القياس على سائر النجاسات.
فصل:
ولم أجد عن إمامنا -رحمه الله- ولا عن أصحابنا, تحديد ما يمكن نزحه بأكثر من تشبيهه بمصانع مكة قال أحمد: إنما نهى النبي -ﷺ- عن الراكد من آبار المدينة على قلة ما فيها لأن المصانع لم تكن إنما أحدثت وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن ا">فصل:ولم أجد عن إمامنا -رحمه الله- ولا عن أصحابنا, تحديد ما يمكن نزحه بأكثر من تشبيهه بمصانع مكة قال أحمد: إنما نهى النبي -ﷺ- عن الراكد من آبار المدينة على قلة ما فيها لأن المصانع لم تكن إنما أحدثت وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن المصانع التي بطريق مكة؟ فقال: ليس ينجس تلك عندي بول ولا شيء إذا كثر الماء, حتى يكون مثل تلك المصانع وقال إسحاق بن منصور: سئل أحمد عن بئر بال فيها إنسان " قال تنزح حتى تغلبهم قلت: ما حده؟ قال: لا يقدرون على نزحها وقيل لأبي عبد الله: الغدير يبال فيه؟ قال: الغدير أسهل ولم ير به بأسا وقال في البئر يكون لها مادة: هو واقف لا يجري ليس بمنزلة ما يجري يعني أنه يتنجس بالبول فيه إذا أمكن نزحه.
فصل:
ولا فرق بين البول القليل والكثير قال مهنا: سألت أحمد عن بئر غزيرة وقعت فيها خرقة أصابها بول؟ قال: تنزح وقال في قطرة بول وقعت في ماء: لا يتوضأ منه وذلك لأن سائر النجاسات لا فرق بين قليلها وكثيرها.
فصل:
إذا كانت بئر الماء ملاصقة لبئر فيها بول أو غيره من النجاسات, وشك في وصولها إلى الماء فهو على أصله في الطهارة قال أحمد: يكون بين البئر والبالوعة ما لم يغير طعما ولا ريحا - وقال الحسن: ما لم يتغير لونه أو ريحه - فلا بأس أن يتوضأ منها وذلك لأن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك, وإن أحب علم حقيقة ذلك فليطرح في البئر النجسة نفطا فإن وجد رائحته في الماء علم وصوله إليه وإلا فلا, وإن تغير الماء تغيرا يصلح أن يكون من النجاسة ولم يعلم له سببا آخر فهو نجس لأن الملاصقة سبب, فيحال الحكم عليه وما عداه مشكوك فيه ولو وجد ماء متغيرا في غير هذه الصورة ولم يعلم سبب تغيره فهو طاهر, وإن غلب على ظنه نجاسته لأن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك وإن وقعت فيه نجاسة فوجده متغيرا تغيرا يصلح أن يكون منها فهو نجس إلا أن يكون التغير لا يصلح أن يكون من النجاسة الواقعة فيه لكثرته وقلتها, أو لمخالفته لونها أو طعمها فهو طاهر لأننا لا نعلم للنجاسة سببا فأشبه ما لو لم يقع فيه شيء.
فصل:
وإن توضأ من الماء القليل, وصلى ثم وجد فيه نجاسة أو توضأ من ماء كثير, ثم وجده متغيرا بنجاسة وشك هل كان قبل وضوئه أو بعده؟ فالأصل صحة طهارته, وإن علم أن ذلك كان قبل وضوئه بأمارة أعاد وإن علم أن النجاسة قبل وضوئه ولم يعلم أكان دون القلتين أو كان قلتين فنقص بالاستعمال أعاد لأن الأصل نقص الماء.
فصل:
إذا نزح ماء البئر النجس, فنبع فيه بعد ذلك ماء أو صب فيه فهو طاهر لأن أرض البئر من جملة الأرض التي تطهر بالمكاثرة بمرور الماء عليها وإن نجست جوانب البئر, فهل يجب غسلها؟ على روايتين: إحداهما يجب لأنه محل نجس فأشبه رأس البئر والثانية لا يجب للمشقة اللاحقة بذلك فعفي عنه, كمحل الاستنجاء وأسفل الحذاء.
فصل:
قال محمد بن يحيى: سألت أبا عبد الله عن قبور الحجارة التي للروم يجيء المطر فيصير فيها ويشربون من ذلك, ويتوضئون؟ قال: لو غسلت كيف تغسل والماء يجيء المطر إلا أن يكون قد غسلها مرة أو مرتين والأولى الحكم بطهارتها لأن هذه قد أصابها الماء مرات لا يحصى عددها وجرى على حيطانها من ماء المطر ما يطهرها بعضه ولأن هذه يشق غسلها فأشبهت الأرض التي تطهر بمجيء المطر عليها.
مسألة:
قال: [ وإذا مات في الماء اليسير ما ليس له نفس سائلة مثل الذباب والعقرب والخنفساء وما أشبه ذلك, فلا ينجسه] النفس ها هنا: الدم يعني: ما ليس له دم سائل والعرب تسمي الدم نفسا قال الشاعر:
أنبئت أن بني سحيم أدخلوا ** أبياتهم تامور نفس المنذر
يعني: دمه ومنه قيل للمرأة: نفساء لسيلان دمها عند الولادة, وتقول العرب: نفست المرأة إذا حاضت ونفست من النفاس وكل ما ليس له دم سائل: كالذي ذكره الخرقي من الحيوان البري أو حيوان البحر, منه العلق والديدان والسرطان, ونحوها لا يتنجس بالموت ولا يتنجس الماء إذا مات فيه, في قول عامة الفقهاء قال ابن المنذر: لا أعلم في ذلك خلافا إلا ما كان من أحد قولي الشافعي قال فيها قولان: أحدهما: ينجس قليل الماء قال بعض أصحابه: وهو القياس والثاني: لا ينجس وهو الأصلح للناس فأما الحيوان في نفسه فهو عنده نجس, قولا واحدا لأنه حيوان لا يؤكل لا لحرمته فينجس بالموت كالبغل والحمار, ولنا: قول النبي -ﷺ-: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء) رواه البخاري, وأبو داود وفي لفظ: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه سما, وفي الآخر شفاء) قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله -ﷺ- قال ذلك قال الشافعي: مقله ليس بقتله قلنا: اللفظ عام في كل شراب بارد أو حار أو دهن, مما يموت بغمسه فيه فلو كان ينجس الماء كان أمرا بإفساده وقد روي أن النبي -ﷺ- (قال لسلمان: يا سلمان, أيما طعام أو شراب ماتت فيه دابة ليست لها نفس سائلة فهو الحلال: أكله وشربه, ووضوءه) وهذا صريح أخرجه الترمذي والدارقطني قال الترمذي: يرويه بقية, وهو مدلس فإذا روي عن الثقات جود ولأنه لا نفس له سائلة لم يتولد من النجاسة, فأشبه دود الخل إذا مات فيه فإنهم سلموا ذلك ونحوه أنه لا ينجس المائع الذي تولد منه, إلا أن يؤخذ ثم يطرح فيه أو يشق الاحتراز منه أشبه ما ذكرناه, وإذا ثبت أنه لا ينجس لزم أن لا يكون نجسا لأنه لو كان نجسا لنجس كسائر النجاسات.
فصل:
فإن غير الماء فحكمه حكم الطاهرات إن كان مما لا يمكن التحرز منه كالجراد يتساقط في الماء ونحوه, فهو كورق الشجر المتناثر في الماء يعفى عنه وإن كان مما يمكن التحرز منه, كالذي يلقى في الماء قصدا فهو كالورق الذي يلقى في الماء ولو تغير الماء بحيوان مذكى, من غير أن يصيب نجاسة فقد نقل إسحاق بن منصور قال: سئل أحمد عن شاة مذبوحة, وقعت في ماء فتغير ريح الماء؟ قال: لا بأس إنما ذلك إذا كان من نجاسة وقال عبد الله بن أحمد: قال أبي: وأما السمك إذا غير الماء فأرجو أن لا يكون به بأس.
فصل:
ذكر ابن عقيل فيمن ضرب حيوانا مأكولا, فوقع في ماء ثم وجده ميتا ولم يعلم هل مات بالجراحة, أو بالماء فالماء على أصله في الطهارة والحيوان على أصله في الحظر, إلا أن تكون الجراحة موجبة فيكون الحيوان أيضا مباحا لأن الظاهر موته بالجراح والماء طاهر إلا أن يقع فيه دم.
فصل:
الحيوان ضربان: ما ليست له نفس سائلة, وهو نوعان: ما يتولد من الطاهرات فهو طاهر حيا وميتا وهو الذي ذكرناه الثاني, ما يتولد من النجاسات كدود الحش وصراصره فهو نجس حيا وميتا لأنه متولد من النجاسة فكان نجسا, كولد الكلب والخنزير قال أحمد في رواية المروذي: صراصر الكنيف والبالوعة إذا وقع في الإناء أو الحب صب وصراصر البئر ليست بقذرة, ولا تأكل العذرة الضرب الثاني ما له نفس سائلة وهو ثلاثة أنواع: أحدها ما تباح ميتته وهو السمك وسائر حيوان البحر الذي لا يعيش إلا في الماء, فهو طاهر حيا وميتا لولا ذلك لم يبح أكله وإن غير الماء لم يمنع لأنه لا يمكن التحرز منه النوع الثاني ما لا تباح ميتته غير الآدمي كحيوان البر المأكول, وغيره كحيوان البحر الذي يعيش في البر كالضفدع, والتمساح وشبههما فكل ذلك ينجس بالموت, وينجس الماء القليل إذا مات فيه والكثير إذا غيره وبهذا قال ابن المبارك والشافعي, وأبو يوسف وقال مالك وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن, في الضفدع: إذا ماتت في الماء لا تفسده لأنها تعيش في الماء أشبهت السمك ولنا أنها تنجس غير الماء فتنجس الماء كحيوان البر ولأنه حيوان له نفس سائلة, لا تباح ميتته فأشبه طير الماء ويفارق السمك فإنه مباح ولا ينجس غير الماء النوع الثالث, الآدمي الصحيح في المذهب أنه طاهر حيا وميتا لقول النبي -ﷺ-: (المؤمن لا ينجس) متفق عليه وعن أحمد: أنه سئل عن بئر وقع فيها إنسان فمات؟ قال: ينزح حتى يغلبهم وهو مذهب أبي حنيفة قال: ينجس ويطهر بالغسل لأنه حيوان له نفس سائلة, فنجس بالموت كسائر الحيوانات وللشافعي قولان كالروايتين والصحيح ما ذكرنا أولا للخبر ولأنه آدمي فلم ينجس بالموت, كالشهيد ولأنه لو نجس بالموت لم يطهر بالغسل كسائر الحيوانات التي تنجس ولم يفرق أصحابنا بين المسلم والكافر لاستوائهما في الآدمية وفي حال الحياة, ويحتمل أن ينجس الكافر بموته لأن الخبر إنما ورد في المسلم ولا يصح قياس الكافر عليه لأنه لا يصلى عليه وليس له حرمة كحرمة المسلم.
فصل:
وحكم أجزاء الآدمي وأبعاضه حكم جملته, سواء انفصلت في حياته أو بعد موته لأنها أجزاء من جملة فكان حكمها كسائر الحيوانات الطاهرة والنجسة ولأنها يصلى عليها فكانت طاهرة كجملته وذكر القاضي أنها نجسة رواية واحدة لأنها لا حرمة لها, بدليل أنه لا يصلى عليها ولا يصح هذا فإن لها حرمة بدليل أن كسر عظم الميت ككسر عظم الحي ويصلى عليها إذا وجدت من الميت, ثم تبطل بشهيد المعركة فإنه لا يصلى عليه وهو طاهر.
فصل:
وفي الوزغ وجهان: أحدهما لا ينجس بالموت لأنه لا نفس له سائلة, أشبه العقرب ولأنه إن شك في نجاسته فالماء يبقى على أصله في الطهارة والثاني أنه ينجس لما روي عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول إن ماتت الوزغة أو الفأرة في الجب يصب ما فيه وإذا ماتت في بئر فانزحها حتى تغلبك.
فصل:
وإذا مات في الماء حيوان لا يعلم هل ينجس بالموت أم لا؟ فالماء طاهر لأن الأصل طهارته, والنجاسة مشكوك فيها فلا نزول عن اليقين بالشك وكذلك الحكم إن شرب منه حيوان يشك في نجاسة سؤره وطهارته لما ذكرنا.
مسألة:
قال: [ ولا يتوضأ بسؤر كل بهيمة لا يؤكل لحمها إلا السنور وما دونها في الخلقة] السؤر فضلة الشرب والحيوان قسمان: نجس وطاهر فالنجس نوعان: أحدهما ما هو نجس, رواية واحدة وهو الكلب والخنزير, وما تولد منهما أو من أحدهما فهذا نجس, عينه وسؤره وجميع ما خرج منه, روي ذلك عن عروة وهو مذهب الشافعي وأبي عبيد, وهو قول أبي حنيفة في السؤر خاصة وقال مالك والأوزاعي وداود: سؤرهما طاهر, يتوضأ به ويشرب وإن ولغا في طعام لم يحرم أكله وقال الزهري: يتوضأ به إذا لم يجد غيره وقال عبدة بن أبي لبابة والثوري, وابن الماجشون وابن مسلمة: يتوضأ ويتيمم قال مالك: ويغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب تعبدا واحتج بعضهم على طهارته بأن الله تعالى قال: {فكلوا مما أمسكن عليكم} ولم يأمر بغسل ما أصابه فمه وروى ابن ماجه بإسناده, عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -ﷺ- (سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر, وعن الطهارة بها؟ فقال: لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر طهور) ولأنه حيوان فكان طاهرا كالمأكول ولنا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه, أن النبي -ﷺ- قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا) متفق عليه ولمسلم: (فليرقه ثم ليغسله سبع مرات) ولو كان سؤره طاهرا لم تجز إراقته, ولا وجب غسله فإن قيل: إنما وجب غسله تعبدا كما تغسل أعضاء الوضوء وتغسل اليد من نوم الليل قلنا: الأصل وجوب الغسل من النجاسة بدليل سائر الغسل ثم لو كان تعبدا لما أمر بإراقة الماء, ولما اختص الغسل بموضع الولوغ لعموم اللفظ في الإناء كله وأما غسل اليد من النوم فإنما أمر به للاحتفاظ لاحتمال أن تكون يده قد أصابتها نجاسة فيتنجس الماء ثم تنجس أعضاؤه به, وغسل أعضاء الوضوء شرع للوضاءة والنظافة ليكون العبد في حال قيامه بين يدي الله سبحانه وتعالى على أحسن حال وأكملها ثم إن سلمنا ذلك فإنما عهدنا التعبد في غسل اليدين أما الآنية والثياب فإنما يجب غسلها من النجاسات, وقد روي في لفظ: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعا) أخرجه أبو داود ولا يكون الطهور إلا في محل الطهارة وقولهم: إن الله تعالى أمر بأكل ما أمسكه الكلب قبل غسله قلنا: الله تعالى أمر بأكله, والنبي -ﷺ- أمر بغسله فيعمل بأمرهما وإن سلمنا أنه لا يجب غسله فلأنه يشق, فعفي عنه وحديثهم قضية في عين يحتمل أن الماء المسئول عنه كان كثيرا, ولذلك قال في موضع آخر حين سئل عن الماء وما ينوبه من السباع: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) ولأن الماء لا ينجس إلا بالتغير على رواية لنا, وشربها من الماء لا يغيره فلم ينجسه ذلك النوع الثاني ما اختلف فيه وهو سائر سباع البهائم, إلا السنور وما دونها في الخلقة وكذلك جوارح الطير والحمار الأهلي والبغل فعن أحمد أن سؤرها نجس, إذا لم يجد غيره تيمم وتركه وروي عن ابن عمر: أنه كره سؤر الحمار وهو قول الحسن وابن سيرين, والشعبي والأوزاعي وحماد, وإسحاق وعن أحمد -رحمه الله-: أنه قال في البغل والحمار: إذا لم يجد غير سؤرهما تيمم معه وهو قول أبي حنيفة والثوري وهذه الرواية تدل على طهارة سؤرهما لأنه لو كان نجسا لم تجز الطهارة به وروي عن إسماعيل بن سعيد: لا بأس بسؤر السباع لأن عمر قال في السباع: ترد علينا ونرد عليها ورخص في سؤر جميع ذلك الحسن, وعطاء والزهري ويحيى الأنصاري, وبكير بن الأشج وربيعة وأبو الزناد, ومالك والشافعي وابن المنذر لحديث أبي سعيد في الحياض, وقد روي عن جابر أيضا وفي حديث آخر عن جابر أن النبي -ﷺ- (سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم وبما أفضلت السباع كلها) رواه الشافعي في " مسنده ", وهذا نص ولأنه حيوان يجوز الانتفاع به من غير ضرورة فكان طاهرا كالشاة ووجه الرواية الأولى أن النبي -ﷺ- سئل عن الماء, وما ينوبه من السباع؟ فقال: " إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس " ولو كانت طاهرة لم يحده بالقلتين وقال النبي -ﷺ- (في الحمر يوم خيبر: إنها رجس) ولأنه حيوان حرم أكله لا لحرمته, يمكن التحرز منه غالبا أشبه الكلب ولأن السباع والجوارح الغالب عليها أكل الميتات والنجاسات فتنجس أفواهها, ولا يتحقق وجود مطهر لها فينبغي أن يقضى بنجاستها كالكلاب, وحديث أبي سعيد قد أجبنا عنه ويتعين حمله على الماء الكثير عند من يرى نجاسة سؤر الكلب, والحديث الآخر يرويه ابن أبي حبيبة وهو منكر الحديث قاله البخاري وإبراهيم بن يحيى وهو كذاب والصحيح عندي: طهارة البغل والحمار لأن النبي -ﷺ- كان يركبها, وتركب في زمنه وفي عصر الصحابة فلو كان نجسا لبين النبي -ﷺ- ذلك ولأنهما لا يمكن التحرز منهما لمقتنيهما فأشبها السنور, وقول النبي -ﷺ- " إنها رجس " أراد أنها محرمة كقوله تعالى في الخمر والميسر والأنصاب والأزلام إنها " رجس " ويحتمل أنه أراد لحمها الذي كان في قدورهم, فإنه رجس فإن ذبح ما لا يحل أكله لا يطهره القسم الثاني طاهر في نفسه وسؤره وعرقه, وهو ثلاثة أضرب: الأول الآدمي فهو طاهر, وسؤره طاهر سواء كان مسلما أم كافرا عند عامة أهل العلم, إلا أنه حكي عن النخعي أنه كره سؤر الحائض وعن جابر بن زيد لا يتوضأ منه, وقد ثبت أن رسول الله -ﷺ- قال: (المؤمن لا ينجس) وعن عائشة (أنها كانت تشرب من الإناء وهي حائض فيأخذه رسول الله -ﷺ- فيضع فاه على موضع فيها فيشرب, وتتعرق العرق فيأخذه فيضع فاه على موضع فيها) رواه مسلم (وكانت تغسل رأس رسول الله -ﷺ- وهي حائض) متفق عليه وقال -ﷺ- (لعائشة: ناوليني الخمرة من المسجد قالت: إني حائض قال: إن حيضتك ليست في يدك).
الضرب الثاني ما أكل لحمه فقال أبو بكر بن المنذر أجمع أهل العلم على أن سؤر ما أكل لحمه يجوز شربه والوضوء به فإن كان جلالا يأكل النجاسات فذكر القاضي روايتين إحداهما: أنه نجس والثانية: طاهر فيكون هذا من النوع الثاني من القسم الأول المختلف فيه.
الضرب الثالث السنور وما دونها في الخلقة كالفأرة, وابن عرس فهذا ونحوه من حشرات الأرض سؤره طاهر يجوز شربه والوضوء به ولا يكره وهذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة, والتابعين من أهل المدينة والشام, وأهل الكوفة أصحاب الرأي إلا أبا حنيفة فإنه كره الوضوء بسؤر الهر, فإن فعل أجزأه وقد روي عن ابن عمر أنه كرهه وكذلك يحيى الأنصاري وابن أبي ليلى وقال أبو هريرة, يغسل مرة أو مرتين وبه قال ابن المنذر وقال الحسن وابن سيرين: يغسل مرة وقال طاوس: يغسل سبعا كالكلب وقد روى أبو داود, بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -ﷺ- فذكر الحديث وقال: (إذا ولغت فيه الهرة غسل مرة) ولنا ما روي عن كبشة بنت كعب بن مالك, وكانت تحت أبي قتادة أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا, قالت: فجاءت هرة فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم فقال: إن رسول الله -ﷺ- (قال: إنها ليست بنجس, إنها من الطوافين عليكم والطوافات) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح وهذا أحسن شيء في الباب وقد دل بلفظه على نفي الكراهة عن سؤر الهر, وبتعليله على نفي الكراهة عما دونها مما يطوف علينا وروى ابن ماجه عن عائشة قالت: (كنت أتوضأ أنا ورسول الله -ﷺ- من إناء, قد أصابت منه الهرة قبل ذلك) وعن عائشة أنها قالت: (إن رسول الله -ﷺ- قال: إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم وقد رأيت رسول الله -ﷺ- يتوضأ بفضلها) رواه أبو داود.
فصل:
إذا أكلت الهرة نجاسة ثم شربت من ماء يسير بعد أن غابت, فالماء طاهر لأن النبي -ﷺ- نفى عنها النجاسة وتوضأ بفضلها مع علمه بأكلها النجاسات وإن شربت قبل أن تغيب, فقال القاضي وابن عقيل: ينجس لأنه وردت عليه نجاسة متيقنة أشبه ما لو أصابه بول وقال أبو الحسن الآمدي: ظاهر مذهب أصحابنا أنه طاهر, وإن لم تغب لأن النبي -ﷺ- عفي عنها مطلقا وعلل بعدم إمكان الاحتراز عنها ولأننا حكمنا بطهارة سؤرها مع الغيبة في مكان لا يحتمل ورودها على ماء كثير يطهر فاها ولو احتمل ذلك فهو شك لا يزيل يقين النجاسة, فوجب إحالة الطهارة على العفو عنها وهو شامل لما قبل الغيبة.
فصل:
وإن وقعت الفأرة أو الهرة ونحوهما في مائع, أو ماء يسير ثم خرجت حية فهو طاهر نص عليه أحمد, فإنه سئل عن الفأرة تقع في السمن الذائب فلم تمت؟ قال: لا بأس بأكله وفي رواية قال: إذا كان حيا فلا شيء إنما الكلام في الميت وقيل: يحتمل أن ينجس إذا أصاب الماء مخرجها لأن مخرج النجاسة نجس, فينجس به الماء ولنا أن الأصل الطهارة وإصابة الماء لموضع النجاسة مشكوك فيه فإن المخرج ينضم إذا وقع الحيوان في الماء, فلا يزول اليقين بالشك.
فصل:
كل حيوان حكم جلده وشعره وعرقه ودمعه ولعابه حكم سؤره في الطهارة والنجاسة لأن السؤر إنما يثبت فيه حكم النجاسة في الموضع الذي ينجس لملاقاته لعاب الحيوان وجسمه فلو كان طاهرا كان سؤره طاهرا وإذا كان نجسا كان سؤره نجسا. ">فصل: كل حيوان حكم جلده وشعره وعرقه ودمعه ولعابه حكم سؤره في الطهارة والنجاسة لأن السؤر إنما يثبت فيه حكم النجاسة في الموضع الذي ينجس لملاقاته لعاب الحيوان وجسمه فلو كان طاهرا كان سؤره طاهرا وإذا كان نجسا كان سؤره نجسا.
مسألة:
قال: [ وكل إناء حلت فيه نجاسة من ولوغ كلب, أو بول أو غيره فإنه يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب] النجاسة تنقسم قسمين: أحدهما نجاسة الكلب والخنزير والمتولد منهما, فهذا لا يختلف المذهب في أنه يجب غسلها سبعا إحداهن بالتراب وهو قول الشافعي وعن أحمد: أنه يجب غسلها ثمانيا, إحداهن بالتراب وروي ذلك عن الحسن لحديث عبد الله بن المغفل أن رسول الله -ﷺ- (قال: إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات, وعفروه الثامنة بالتراب) رواه مسلم والرواية الأولى أصح ويحمل هذا الحديث على أنه عد التراب ثامنة لأنه وإن وجد مع إحدى الغسلات فهو جنس آخر فيجمع بين الخبرين وقال أبو حنيفة: لا يجب العدد في شيء من النجاسات, وإنما يغسل حتى يغلب على الظن نقاؤه من النجاسة لأنه روي عن النبي -ﷺ- أنه قال في الكلب يلغ في الإناء: (يغسل ثلاثا أو خمسا أو سبعا) فلم يعين عددا ولأنها نجاسة, فلم يجب فيها العدد كما لو كانت على الأرض ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله -ﷺ- قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا) متفق عليه ولمسلم, وأبي داود: (أولاهن بالتراب) وحديث عبد الله بن المغفل الذي ذكرناه وحديثهم يرويه عبد الوهاب بن الضحاك وهو ضعيف وقد روى غيره من الثقات: (فليغسله سبعا) وعلى أنه يحتمل الشك من الراوي, فينبغي أن يتوقف فيه ويعمل بغيره وأما الأرض فإنه سومح في غسلها للمشقة بخلاف غيرها.
فصل:
فإن جعل مكان التراب غيره من الأشنان, والصابون والنخالة ونحو ذلك, أو غسله غسلة ثامنة فقال أبو بكر: فيه وجهان: أحدهما لا يجزئه لأنه طهارة أمر فيها بالتراب فلم يقم غيره مقامه, كالتيمم ولأن الأمر به تعبد غير معقول فلا يجوز القياس فيه والثاني: يجزئه لأن هذه الأشياء أبلغ من التراب في الإزالة فنصه على التراب تنبيه عليها ولأنه جامد أمر به في إزالة النجاسة, فألحق به ما يماثله كالحجر في الاستجمار فأما الغسلة الثامنة فالصحيح أنها لا تقوم مقام التراب لأنه إن كان القصد به تقوية الماء في الإزالة فلا يحصل ذلك بالثامنة لأن الجمع بينهما أبلغ في الإزالة وإن وجب تعبدا امتنع إبداله والقياس عليه وقال بعض أصحابنا: إنما يجوز العدول إلى غير التراب عند عدمه, أو إفساد المحل المغسول به فأما مع وجوده وعدم الضرر فلا وهذا قول ابن حامد.
القسم الثاني: نجاسة غير الكلب والخنزير ففيها روايتان: إحداهما يجب العدد فيها قياسا على نجاسة الولوغ, وروي عن ابن عمر أنه قال: (أمرنا بغسل الأنجاس سبعا) فينصرف إلى أمر النبي -ﷺ- والثانية, لا يجب العدد بل يجزئ فيها المكاثرة بالماء من غير عدد بحيث تزول عين النجاسة, وهذا قول الشافعي لما روي عن ابن عمر قال: (كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرات, والغسل من البول سبع مرات فلم يزل النبي -ﷺ- يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا والغسل من البول مرة, والغسل من الجنابة مرة) رواه الإمام أحمد في " مسنده " وأبو داود في " سننه " وهذا نص, إلا أن في مراجعة أيوب بن جابر وهو ضعيف وقال النبي -ﷺ-: (إذا أصاب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه, ثم لتنضحه بماء ثم لتصل فيه) رواه البخاري ولم يأمر فيه بعدد وفي حديث آخر (أن امرأة ركبت ردف النبي -ﷺ- على ناقته, فلما نزلت إذا على حقيبته شيء من دمها فأمرها النبي -ﷺ- أن تجعل في الماء ملحا ثم تغسل به الدم) رواه أبو داود, ولم يأمرها بعدد، (وأمر النبي -ﷺ- أن يصب على بول الأعرابي سجل من ماء) متفق عليه ولم يأمر بالعدد ولأنها نجاسة غير الكلب فلم يجب فيها العدد, وروي أن العدد لا يعتبر في غير محل الاستنجاء من البدن ويعتبر في محل الاستنجاء وبقية المحال قال الخلال: هذه الرواية وهم ولم يثبتها فإذا قلنا: بوجوب العدد, ففي قدره روايتان: إحداهما سبع لما قدمنا والثانية ثلاث لأن النبي -ﷺ- قال: (إذا قام أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده) متفق عليه إلا قوله " ثلاثا " انفرد به مسلم أمر بغسلها ثلاثا ليرتفع وهم النجاسة, ولا يرفع وهم النجاسة إلا ما يرفع حقيقتها وقد روي أن النجاسة في محل الاستنجاء تطهر بثلاث وفي غيره تطهر بسبع لأن محل الاستنجاء تتكرر فيه النجاسة فاقتضى ذلك التخفيف, وقد اجتزئ فيها بثلاثة أحجار مع أن الماء أبلغ في الإزالة فأولى أن يجتزئ فيها بثلاث غسلات قال القاضي: الظاهر من قول أحمد ما اختار الخرقي, وهو وجوب العدد في جميع النجاسات فإن قلنا لا يجب العدد لم يجب التراب وكذلك إن قلنا: لا يجب الغسل سبعا لأن الأصل عدم وجوبه ولم يرد الشرع به إلا في نجاسة الولوغ وإن قلنا بوجوب السبع, ففي وجوب التراب وجهان: أحدهما يجب قياسا على الولوغ والثاني لا يجب لأن النبي -ﷺ- أمر بالغسل للدم وغيره ولم يأمر بالتراب إلا في نجاسة الولوغ فوجب أن يقتصر عليه ولأن التراب إن أمر به تعبدا وجب قصره على محله, وإن أمر به لمعنى في الولوغ للزوجة فيه لا تنقلع إلا بالتراب فلا يوجد ذلك في غيره والمستحب أن يجعل التراب في الغسلة الأولى لموافقته لفظ الخبر, وليأتي الماء عليه بعده فينظفه ومتى غسل به أجزأه لأنه روي في حديث: " إحداهن بالتراب " وفي حديث: " أولاهن " وفي حديث: " في الثامنة ", فيدل على أن محل التراب من الغسلات غير مقصود.
فصل:
إذا أصاب المحل نجاسات متساوية في الحكم فهي كنجاسة واحدة وإن كان بعضها أغلظ كالولوغ مع غيره, فالحكم لأغلظها ويدخل فيه ما دونه ولو غسل الإناء دون السبع ثم ولغ فيه مرة أخرى, فغسله سبعا أجزأ لأنه إذا أجزأ عما يماثل فعما دونه أولى.
فصل:
وإذا غسل محل النجاسة فأصاب ماء بعض الغسلات محلا آخر قبل تمام السبع, ففيه وجهان: أحدهما يجب غسله سبعا وهو ظاهر كلام الخرقي, واختيار ابن حامد لأنها نجاسة فلا يراعي فيها حكم المحل الذي انفصلت عنه كنجاسة الأرض ومحل الاستنجاء وظاهر قول الخرقي أنه يجب غسلها بالتراب, وإن كان المحل الذي انفصلت عنه قد غسل بالتراب لأنها نجاسة أصابت غير الأرض فأشبهت الأولى والثاني: يجب غسله من الأولى ستا ومن الثانية خمسا, ومن الثالثة أربعا كذلك إلى آخره لأنها نجاسة تطهر في محلها بدون السبع فطهرت في مثله, كالنجاسة على الأرض ولأن المنفصل بعض المتصل والمتصل يطهر بذلك فكذلك المنفصل, وتفارق المنفصل عن الأرض ومحل الاستنجاء لأن العلة في خفتها المحل وقد زالت عنه فزال التخفيف, والعلة في تخفيفها ها هنا قصور حكمها بما مر عليها من الغسل وهذا لازم لها حسب ما كان ثم إن كانت قد انفصلت عن محل غسل بالتراب غسل محلها بغير تراب وإن كانت الأولى بغير تراب غسلت هذه بالتراب وهذا اختيار القاضي, وهو أصح -إن شاء الله تعالى- .
فصل:
ولا فرق بين النجاسة من ولوغ الكلب أو يده أو رجله, أو شعره أو غير ذلك من أجزائه لأن حكم كل جزء من أجزاء الحيوان حكم بقية أجزائه على ما قررناه, وحكم الخنزير حكم الكلب لأن النص وقع في الكلب والخنزير شر منه وأغلظ لأن الله تعالى نص على تحريمه وأجمع المسلمون على ذلك, وحرم اقتناؤه.
فصل:
وغسل النجاسة يختلف باختلاف محلها إن كانت جسما لا يتشرب النجاسة كالآنية فغسله بمرور الماء عليه كل مرة غسلة سواء كان بفعل آدمي أو غير فعله, مثل أن ينزل عليه ماء المطر أو يكون في نهر جار فتمر عليه جريات النهر, فكل جرية تمر عليه غسلة لأن القصد غير معتبر فأشبه ما لو صبه آدمي بغير قصد وإن وقع في ماء قليل راكد نجسه ولم يطهر, وإن كان كثيرا احتسب بوضعه فيه ومرور الماء على أجزائه غسلة فإن خضخضه في الماء وحركه بحيث يمر عليه أجزاء غير التي كانت ملاقية له احتسب بذلك غسلة ثانية, كما لو مرت عليه جريات من الماء الجاري وإن كان المغسول إناء فطرح فيه الماء لم يحتسب به غسلة حتى يفرغه منه لأنه العادة في غسله إلا أن يكون يسع قلتين فصاعدا, فملأه فيحتمل أن إدارة الماء فيه تجرى مجرى الغسلات لأن أجزاءه تمر عليها جريات من الماء غير التي كانت ملاقية له فأشبه ما لو مرت عليها جريات من ماء جار وقال ابن عقيل: لا يكون غسله إلا بتفريغه منه أيضا وإن كان المغسول جسما تدخل فيه أجزاء النجاسة, لم يحتسب برفعه من الماء غسلة إلا بعد عصره وعصر كل شيء بحسبه, فإن كان بساطا ثقيلا أو زليا فعصره بتقليبه ودقه.
فصل:
ما أزيلت به النجاسة إن انفصل متغيرا بالنجاسة أو قبل طهارة المحل, فهو نجس لأنه تغير بالنجاسة أو ماء قليل لاقى محلا نجسا لم يطهره فكان نجسا كما لو وردت عليه وإن انفصل غير متغير من الغسلة التي طهر بها المحل, فإن كان المحل أرضا فهو طاهر رواية واحدة لأن النبي -ﷺ- أمر أن يصب على بول الأعرابي ذنوب من ماء ليطهر الأرض التي بال عليها, فلو كان المنفصل نجسا لنجس به ما انتشر إليه من الأرض فتكثر النجاسة وإن كان غير الأرض, ففيه وجهان قال أبو الخطاب: أصحهما أنه طاهر وهو مذهب الشافعي لأنه انفصل عن محل محكوم بطهارته فكان طاهرا كالغسلة الثامنة, وأن المنفصل بعض المتصل والمتصل طاهر وكذلك المنفصل والثاني: أنه نجس وهو قول أبي حنيفة واختاره أبو عبد الله بن حامد لأنه ماء قليل لاقى محلا نجسا, أشبه ما لو لم يطهرها قال أبو الخطاب: إنما يحكم بطهارة المنفصل من الأرض إذا كانت قد نشفت أعيان البولة فإن كانت أعيانها قائمة فجرى الماء عليها, طهرها وفي المنفصل روايتان كالمنفصل عن غير الأرض قال: وكونه نجسا أصح في كلامه والأولى الحكم بطهارته لأن النبي -ﷺ- أمر بغسل بول الأعرابي عقيب بوله ولم يشترط نشافه.
فصل:
إذا غسل بعض الثوب النجس, جاز ويطهر المغسول دون غيره فإن كان يغمس بعضه في ماء يسير راكد يعركه فيه نجس الماء, ولم يطهر منه شيء لأنه بغمسه في الماء صار نجسا فلم يطهر منه شيئا وإن كان يصب على بعضه في جفنة طهر ما طهره, وكان المنفصل نجسا لأنه لا بد من أن يلاقي الماء المنفصل جزء غير المغسول فينجس به.
فصل:
إذا أصاب ثوب المرأة دم حيضها استحب أن تحته بظفرها, لتذهب خشونته ثم تقرصه ليلين للغسل ثم تغسله بالماء لقول النبي -ﷺ- (لأسماء في دم الحيض: حتيه, ثم اقرصيه ثم غسليه بالماء) متفق عليه فإن اقتصرت على إزالته بالماء جاز فإن لم يزل لونه, وكانت إزالته تشق أو يتلف الثوب ويضره عفي عنه لقول النبي -ﷺ-: (ولا يضرك أثره) وإن استعملت في إزالته شيئا يزيله كالملح وغيره فحسن لما روى أبو داود, بإسناده عن (امرأة من غفار أن النبي -ﷺ- أردفها على حقيبته فحاضت, قالت: فنزلت فإذا بها دم مني فقال: ما لك؟ لعلك نفست؟ قلت: نعم قال: فأصلحي من نفسك, ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم) قال الخطابي: فيه من الفقه جواز استعمال الملح وهو مطعوم, في غسل الثوب وتنقيته من الدم فعلى هذا يجوز غسل الثياب بالعسل إذا كان يفسدها الصابون, وبالخل إذا أصابها الحبر والتدلك بالنخالة وغسل الأيدي بها, والبطيخ ودقيق الباقلا وغيرها من الأشياء التي لها قوة الجلاء والله أعلم.
فصل:
فإذا كان في الإناء خمر أو شبهه من النجاسات التي يتشربها الإناء ثم متى جعل فيه مائع سواه ظهر فيه طعم النجاسة أو لونها لم يطهر بالغسل لأن الغسل لا يستأصل أجزاء النجاسة من جسم الإناء, فلم يطهره كالسمسم إذا ابتل بالنجاسة قال الشيخ أبو الفرج المقدسي في " المبهج ": آنية الخمر منها المزفت فتطهر بالغسل لأن الزفت يمنع وصول النجاسة إلى جسم الإناء, ومنها ما ليس بمزفت فيتشرب أجزاء النجاسة فلا يطهر بالتطهير, فإنه متى ترك فيه مائع ظهر فيه طعم الخمر ولونه.
مسألة:
قال: [ وإذا كان معه في السفر إناءان نجس وطاهر واشتبها عليه أراقهما, ويتيمم] إنما خص حالة السفر بهذه المسألة لأنها الحالة التي يجوز التيمم فيها ويعدم فيها الماء غالبا وأراد: إذا لم يجد ماء غير الإناءين المشتبهين, فإنه متى وجد ماء طهورا غيرهما توضأ به ولم يجز التحري ولا التيمم بغير خلاف ولا تخلو الآنية المشتبهة من حالين: أحدهما أن لا يزيد عدد الطاهر على النجس, فلا خلاف في المذهب أنه لا يجوز التحري فيهما والثاني أن يكثر عدد الطاهرات فذهب أبو علي النجاد من أصحابنا إلى جواز التحري فيها وهو مذهب أبي حنيفة لأن الظاهر إصابة الطاهر ولأن جهة الإباحة قد ترجحت, فجاز التحري كما لو اشتبهت عليه أخته في نساء مصر وظاهر كلام أحمد: أنه لا يجوز التحري فيها بحال وهو قول أكثر أصحابه وهو قول المزني, وأبي ثور وقال الشافعي: يتحرى ويتوضأ بالأغلب عنده في الحالين لأنه شرط للصلاة فجاز التحري من أجله كما لو اشتبهت القبلة ولأن الطهارة تؤدى باليقين تارة, وبالظن أخرى ولهذا جاز التوضؤ بالماء القليل المتغير الذي لا يعلم سبب تغيره وقال ابن الماجشون: يتوضأ من كل واحد منهما وضوءا, ويصلي به وبه قال محمد بن مسلمة إلا أنه قال: يغسل ما أصابه من الأول لأنه أمكنه أداء فرضه بيقين فلزمه, كما لو اشتبه طاهر بطهور وكما لو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها أو اشتبهت عليه الثياب ولنا أنه اشتبه المباح بالمحظور, فيما لا تبيحه الضرورة فلم يجز التحري كما لو استوى العدد عند أبي حنيفة, وكما لو كان أحدهما بولا عند الشافعي فإنه قد سلمه واعتذر أصحابه بأنه لا أصل له في الطهارة قلنا: وهذا الماء قد زال عنه أصل الطهارة, وصار نجسا فلم يبق للأصل الزائل أثر على أن البول قد كان ماء, فله أصل في الطهارة كهذا الماء النجس وقولهم: إذا كثر الطاهر ترجحت الإباحة يبطل بما إذا اشتبهت أخته في مائة أو ميتة بمذكيات فإنه لا يجوز التحري, وإن كثر المباح وأما إذا اشتبهت في نساء مصر فإنه يشق اجتنابهن جميعا, ولذلك يجوز له النكاح من غير تحر وأما القبلة فيباح تركها للضرورة كحالة الخوف ويجوز أيضا في السفر في صلاة النافلة ولأن قبلته ما يتوجه إليه بظنه, ولو بان له يقين الخطأ لم يلزمه الإعادة بخلاف مسألتنا وأما المتغير من غير سبب يعلمه فيجوز الوضوء به استنادا إلى أصل الطهارة, وإن غلب على ظنه نجاسته ولا يحتاج إلى تحر وفي مسألتنا عارض يقين الطهارة يقين النجاسة فلم يبق له حكم, ولهذا لا يجوز استعماله من غير تحر ثم يبطل قياسهم بما إذا كان أحدهما بولا والآخر ماء ويدل على صحة ما قلنا: أنه لو توضأ من أحد الإناءين وصلى ثم غلب على ظنه في الصلاة الثانية أن الآخر هو الطاهر فتوضأ به وصلى من غير غسل أثر الأول, فقد علمنا أنه صلى بالنجاسة يقينا وإن غسل أثر الأول ففيه حرج ونقض لاجتهاده باجتهاده ونعلم أن إحدى الصلاتين باطلة, لا بعينها فيلزمه إعادتهما فإن توضأ من الأول فقد توضأ بما يعتقده نجسا وما قاله ابن الماجشون فباطل فإنه يفضي إلى تنجيس نفسه يقينا وبطلان صلاته إجماعا وما قاله ابن مسلمة ففيه حرج, ويبطل بالقبلة فإنه لا يلزمه أن يصلي إلى أربع جهات.
فصل:
وهل يجوز له التيمم قبل إراقتهما؟ على روايتين: إحداهما لا يجوز لأن معه ماء طاهرا بيقين فلم يجز له التيمم مع وجوده فإن خلطهما, أو أراقهما جاز له التيمم لأنه لم يبق معه ماء طاهر والثانية يجوز التيمم قبل ذلك اختاره أبو بكر وهو الصحيح لأنه غير قادر على استعمال الطاهر أشبه ما لو كان في بئر لا يمكنه استقاؤه, وإن احتاج إليهما للشرب لم تجب إراقتهما بغير خلاف فإنه يجوز له التيمم لو كانا طاهرين فمع الاشتباه أولى وإذا أراد الشرب تحرى وشرب من الطاهر عنده لأنها ضرورة تبيح الشرب من النجس إذا لم يجد غيره, فمن الذي يظن طهارته أولى وإن لم يغلب على ظنه طهارة أحدهما شرب من أحدهما وصار هذا كما لو اشتبهت ميتة بمذكاة في حال الاضطرار ولم يجد غيرها, فإنه إذا جاز استعمال النجس فاستعمال ما يظن طهارته أولى وإذا شرب من أحدهما أو أكل من المشتبهات ثم وجد ماء طهورا, فهل يلزمه غسل فيه؟ يحتمل وجهين: أحدهما لا يلزمه لأن الأصل طهارة فيه فلا تزول عن ذلك بالشك والثاني يلزمه لأنه محل منع استعماله من أجل النجاسة فلزمه غسل أثره, كالمتيقن.
فصل:
وإذا علم عين النجس استحب إراقته ليزيل الشك عن نفسه وإن احتاج إلى الشرب شرب من الطاهر ويتيمم إذا لم يجد غير النجس وإن خاف العطش في ثاني الحال فقال القاضي: يتوضأ بالماء الطاهر ويحبس النجس لأنه غير محتاج إلى شربه في الحال, فلم يجز التيمم مع وجوده والصحيح إن شاء الله أنه يحبس الطاهر ويتيمم لأن وجود النجس كعدمه عند الحاجة إلى الشرب في الحال وكذلك في المآل, وخوف العطش في إباحة التيمم كحقيقته.
فصل:
وإن اشتبه ماء طهور بماء قد بطلت طهوريته توضأ من كل واحد منهما وضوءا كاملا وصلى بالوضوءين صلاة واحدة لا أعلم فيه خلافا لأنه أمكنه أداء فرضه بيقين, من غير حرج فيه فيلزمه كما لو كانا طاهرين ولم يكفه أحدهما, وفارق ما إذا كان نجسا لأنه ينجس أعضاءه يقينا ولا يأمن أن يكون النجس هو الثاني فيبقى نجسا, ولا تصح صلاته فإن احتاج إلى أحد الإناءين للشرب تحرى فتوضأ بالطهور عنده, وتيمم معه ليحصل له اليقين والله أعلم.
فصل:
وإن اشتبهت عليه ثياب طاهرة بنجسة لم يجز التحري, وصلى في كل ثوب بعدد النجس وزاد صلاة وهذا قول ابن الماجشون وقال أبو ثور والمزني: لا يصلي في شيء منها كالأواني, وقال أبو حنيفة والشافعي: يتحرى فيها كقولهم في الأواني والقبلة ولنا أنه أمكنه أداء فرضه بيقين من غير حرج فيلزمه, كما لو اشتبه الطهور بالطاهر وكما لو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها والفرق بين هذا وبين الأواني النجسة من وجهين: أحدهما أن استعمال النجس يتنجس به ويمنع صحة صلاته في الحال والمآل, وهذا بخلافه الثاني أن الثوب النجس تباح له الصلاة فيه إذا لم يجد غيره والماء النجس بخلافه والفرق بينه وبين القبلة من وجوه: أحدها أن القبلة يكثر الاشتباه فيها, فيشق اعتبار اليقين فسقط دفعا للمشقة وهذا بخلافه الثاني أن الاشتباه ها هنا حصل بتفريطه لأنه كان يمكنه تعليم النجس أو غسله, ولا يمكنه ذلك في القبلة الثالث أن القبلة عليها أدلة من النجوم والشمس والقمر وغيرها فيصح الاجتهاد في طلبها ويقوى دليل الإصابة لها, بحيث لا يبقى احتمال الخطأ إلا وهما ضعيفا بخلاف الثياب.
فصل:
فإن لم يعلم عدد النجس صلى فيما يتيقن به أنه صلى في ثوب طاهر, فإن كثر ذلك وشق فقال ابن عقيل: يتحرى في أصح الوجهين دفعا للمشقة والثاني لا يتحرى لأن هذا يندر جدا فلا يفرد بحكم, ويحسب عليه دليل الغالب.
فصل:
وإن ورد ماء فأخبره بنجاسته صبي أو كافر أو فاسق لم يلزمه قبول خبره لأنه ليس من أهل الشهادة ولا الرواية فلا يلزمه قبول خبره, كالطفل والمجنون وإن كان المخبر بالغا عاقلا مسلما غير معلوم فسقه وعين سبب النجاسة, لزم قبول خبره سواء كان رجلا أو امرأة حرا أو عبدا, معلوم العدالة أو مستور الحال لأنه خبر ديني فأشبه الخبر بدخول وقت الصلاة وإن لم يعين سببها, فقال القاضي: لا يلزم قبول خبره لاحتمال اعتقاده نجاسة الماء بسبب لا يعتقده المخبر كالحنفي يرى نجاسة الماء الكثير والشافعي يرى نجاسة الماء اليسير بما لا نفس له سائلة, والموسوس الذي يعتقد نجاسته بما لا ينجسه ويحتمل أن يلزم قبول خبره إذا انتفت هذه الاحتمالات في حقه.
فصل:
فإن أخبره أن كلبا ولغ في هذا الإناء لزم قبول خبره, سواء كان بصيرا أو ضريرا لأن للضرير طريقا إلى العلم بذلك بالخبر والحس وإن أخبره أن كلبا ولغ في هذا الإناء ولم يلغ في هذا وقال آخر: لم يلغ في الأول وإنما ولغ في الثاني وجب اجتنابهما فيقبل قول كل واحد منهما في الإثبات دون النفي لأنه يجوز أن يعلم كل واحد منهما ما خفي على الآخر, إلا أن يعينا وقتا معينا وكلبا واحدا يضيق الوقت عن شربه منهما, فيتعارض قولاهما ويسقطان ويباح استعمال كل واحد منهما فإن قال أحدهما: شرب من هذا الإناء, وقال الآخر: نزل ولم يشرب قدم قول المثبت إلا أن يكون لم يتحقق شربه مثل الضرير الذي يخبر عن حسه, فيقدم قول البصير لأنه أعلم.
فصل:
إذا سقط على إنسان من طريق ماء لم يلزمه السؤال عنه لأن الأصل طهارته قال صالح: سألت أبي عن الرجل يمر بالموضع, فيقطر عليه قطرة أو قطرتان؟ فقال: إن كان مخرجا - يعني خلاء - فاغسله وإن لم يكن مخرجا فلا يسأل عنه فإن عمر رضي الله عنه مر هو وعمرو بن العاص على حوض, فقال عمرو: يا صاحب الحوض أترد على حوضك السباع؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض لا تخبرنا, فإنا نرد عليها وترد علينا رواه مالك في " الموطأ " فإن سأل, فقال ابن عقيل: لا يلزم المسئول رد الجواب لخبر عمر ويحتمل أن يلزمه لأنه سئل عن شرط الصلاة فلزمه الجواب, إذا علم كما لو سأله عن القبلة وخبر عمر رضي الله عنه يدل على أن سؤر السباع غير نجس والله أعلم.
باب الآنية
مسألة:
قال أبو القاسم -رحمه الله-: [ وكل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس] لا يختلف المذهب في نجاسة الميتة قبل الدبغ ولا نعلم أحدا خالف فيه, وأما بعد الدبغ فالمشهور في المذهب أنه نجس أيضا وهو إحدى الروايتين عن مالك ويروى ذلك عن عمر وابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعمران بن حصين, وعائشة رضي الله عنهم وعن أحمد رواية أخرى: أنه يطهر منها جلد ما كان طاهرا في حال الحياة وروي نحو هذا عن عطاء والحسن والشعبي, والنخعي وقتادة ويحيى الأنصاري, وسعيد بن جبير والأوزاعي والليث, والثوري وابن المبارك وإسحاق, وروي ذلك عن عمر وابن عباس وابن مسعود, وعائشة رضي الله عنهم مع اختلافهم فيما هو طاهر في الحياة وهو مذهب الشافعي, وهو يرى طهارة الحيوانات كلها إلا الكلب والخنزير فيطهر عنده كل جلد إلا جلدهما وله في جلد الآدمي وجهان وقال أبو حنيفة: يطهر كل جلد بالدبغ إلا جلد الخنزير وحكي عن أبي يوسف: أنه يطهر كل جلد وهو رواية عن مالك, ومذهب من حكم بطهارة الحيوانات كلها لأن النبي -ﷺ- قال: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) متفق عليه ولأن رسول الله -ﷺ- (وجد شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال رسول الله -ﷺ- هلا انتفعتم بجلدها؟ قالوا: إنها ميتة قال: إنما حرم أكلها) وفي لفظ: (ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به) متفق عليه ولأنه إنما نجس باتصال الدماء والرطوبات به بالموت والدبغ يزيل ذلك فيرتد الجلد إلى ما كان عليه في حال الحياة ولنا ما روى عبد الله بن عكيم (أن النبي -ﷺ- كتب إلى جهينة إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة, فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) رواه أبو داود في " سننه " والإمام أحمد, في " مسنده " وقال الإمام أحمد: إسناد جيد يرويه يحيى بن سعيد عن شعبة عن الحكم, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم وفي لفظ: (أتانا كتاب رسول الله -ﷺ- قبل وفاته بشهر أو شهرين) وهو ناسخ لما قبله لأنه في آخر عمر النبي -ﷺ- ولفظه دال على سبق الترخيص وأنه متأخر عنه, لقوله " كنت رخصت لكم " وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله -ﷺ- فإن قيل: هذا مرسل لأنه من كتاب لا يعرف حامله قلنا: كتاب النبي -ﷺ- كلفظه ولولا ذلك لم يكتب النبي -ﷺ- إلى أحد وقد كتب إلى ملوك الأطراف وإلى غيرهم فلزمتهم الحجة به, وحصل له البلاغ ولو لم يكن حجة لم تلزمهم الإجابة ولا حصل به بلاغ, ولكان لهم عذر في ترك الإجابة لجهلهم بحامل الكتاب وعدالته وروى أبو بكر الشافعي بإسناده عن أبي الزبير عن جابر, أن النبي -ﷺ- قال: (لا تنتفعوا من الميتة بشيء) وإسناده حسن ولأنه جزء من الميتة فكان محرما لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} فلم يطهر بالدبغ كاللحم ولأنه حرم بالموت, فكان نجسا كما قبل الدبغ وقولهم: إنه إنما نجس لاتصال الدماء والرطوبات به غير صحيح لأنه لو كان نجسا لذلك لم ينجس ظاهر الجلد ولا ما ذكاه المجوسي والوثني, ولا ما قد نصفين ولا متروك التسمية لعدم علة التنجيس ولوجب الحكم بنجاسة الصيد الذي لم تنسفح دماؤه ورطوباته ثم كيف يصح هذا عند الشافعي, وهو يحكم بنجاسة الشعر والصوف والعظم؟ وأبو حنيفة يطهر جلد الكلب وهو نجس في الحياة.
فصل:
هل يجوز الانتفاع به في اليابسات؟ فيه روايتان: إحداهما: لا يجوز لقوله: -ﷺ- (لا تنتفعوا من الميتة بشيء) وقوله: -ﷺ- (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) والثانية: يجوز الانتفاع به لقول النبي -ﷺ-: (ألا أخذوا إهابها فانتفعوا به) وفي لفظ: (ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به) ولأن الصحابة رضي الله عنهم لما فتحوا فارس, انتفعوا بسروجهم وأسلحتهم وذبائحهم ميتة ولأنه انتفاع من غير ضرر أشبه الاصطياد بالكلب وركوب البغل والحمار.
فصل:
فأما جلود السباع فقال القاضي: لا يجوز الانتفاع بها قبل الدبغ, ولا بعده وبذلك قال الأوزاعي ويزيد بن هارون وابن المبارك, وإسحاق وأبو ثور وروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما كراهية الصلاة في جلود الثعالب وكرهه سعيد بن جبير, والحكم ومكحول وإسحاق وكره الانتفاع بجلود السنانير عطاء, وطاوس ومجاهد وعبيدة السلماني ورخص في جلود السباع جابر, وروي عن ابن سيرين وعروة أنهم رخصوا في الركوب على جلود النمور ورخص فيها الزهري وأباح الحسن, والشعبي وأصحاب الرأي الصلاة في جلود الثعالب: لأن الثعالب تفدى في الإحرام, فكانت مباحة ولما ثبت من الدليل على طهارة جلود الميتة بالدباغ ولنا: ما روى أبو ريحانة قال: (كان رسول الله -ﷺ- نهى عن ركوب النمور) أخرجه أبو داود, وابن ماجه وعن معاوية والمقدام بن معد يكرب (أن رسول الله -ﷺ- نهى عن لبس جلود السباع, والركوب عليها) رواه أبو داود وروي (أن النبي -ﷺ- نهى عن افتراش جلود السباع) رواه الترمذي ورواه أبو داود ولفظه أن النبي -ﷺ- (نهى عن جلود السباع) مع ما سبق من نهي النبي -ﷺ- عن الانتفاع بشيء من الميتة وأما الثعالب فيبني حكمها على حلها, وفيها روايتان كذلك يخرج في جلودها فإن قلنا بتحريمها فحكم جلودها حكم جلود بقية السباع وكذلك السنانير البرية, فأما الأهلية فمحرمة وهل تطهر جلودها بالدباغ؟ يخرج على روايتين.
فصل:
إذا قلنا بطهارة الجلود بالدباغ لم يطهر منها جلد ما لم يكن طاهرا في الحياة نص أحمد على أنه يطهر وقال بعض أصحابنا: لا يطهر إلا ما كان مأكول اللحم وهو مذهب الأوزاعي, وأبي ثور وإسحاق لأنه روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (دباغ الأديم ذكاته) فشبه الدبغ بالذكاة والذكاة إنما تعمل في مأكول اللحم ولأنه أحد المطهرين للجلد فلم يؤثر في غير مأكول كالذبح وظاهر كلام أحمد أن كل طاهر في الحياة يطهر بالدبغ لعموم لفظه في ذلك ولأن قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) يتناول المأكول وغيره وخرج منه ما كان نجسا في الحياة لكون الدبغ إنما يؤثر في دفع نجاسة حادثة بالموت, فيبقى فيما عداه على قضية العموم وحديثهم يحتمل أنه أراد بالذكاة التطييب من قولهم: رائحة ذكية أي: طيبة وهذا يطيب الجميع, ويدل على هذا: أنه أضاف الذكاة إلى الجلد خاصة والذي يختص به الجلد هو تطييبه وطهارته أما الذكاة التي هي الذبح, فلا تضاف إلا إلى الحيوان كله ويحتمل أنه أراد بالذكاة الطهارة فسمى الطهارة ذكاة, فيكون اللفظ عاما في كل جلد فيتناول ما اختلفنا فيه.
فصل:
ولا يحل أكله بعد الدبغ في قول أكثر أهل العلم, وحكي عن ابن حامد: أنه يحل وهو وجه لأصحاب الشافعي لقوله: -ﷺ- (دباغ الأديم ذكاته) ولأنه معنى يفيد الطهارة في الجلد فأباح الأكل كالذبح ولنا قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} والجلد منها, وقال النبي -ﷺ- (إنما حرم من الميتة أكلها) متفق عليه ولأنه جزء من الميتة فحرم أكله كسائر أجزائها ولا يلزم من الطهارة إباحة الأكل, بدليل الخبائث مما لا ينجس بالموت ثم لا يسمع قياسهم في ترك كتاب الله وسنة رسوله -ﷺ- .
فصل:
ويجوز بيعه وإجارته, والانتفاع به في كل ما يمكن الانتفاع به فيه سوى الأكل لأنه صار بمنزلة المذكى في غير الأكل ولا يجوز بيعه قبل دبغه لأنه نجس متفق على نجاسة عينه, فأشبه الخنزير.
فصل:
ويفتقر ما يدبغ به إلى أن يكون منشفا للرطوبة منقيا للخبث كالشب والقرظ, قال ابن عقيل: ويشترط كونه طاهرا فإن كان نجسا لم يطهر الجلد لأنها طهارة من نجاسة فلم تحصل بنجس, كالاستجمار والغسل وهل يطهر الجلد بمجرد الدبغ قبل غسله بالماء؟ فيه وجهان: أحدهما لا تحصل لقول النبي -ﷺ- في جلد الشاة الميتة: (يطهرها الماء والقرظ) رواه أبو داود ولأن ما يدبغ به نجس بملاقاة الجلد, فإذا اندبغ الجلد بقيت الآلة نجسة فتبقى نجاسة الجلد لملاقاتها له فلا يزول إلا بالغسل والثاني: يطهر لقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) ولأنه طهر بانقلابه فلم يفتقر إلى استعمال الماء, كالخمرة إذا انقلبت خلا والأول أولى والخبر والمعنى يدلان على طهارة عينه ولا يمنع ذلك من وجوب غسله من نجاسة تلاقيه, كما لو أصابته نجاسة سوى آلة الدبغ أو أصابته آلة الدبغ بعد فصله عنها.
فصل:
ولا يفتقر الدبغ إلى فعل لأنها إزالة نجاسة فأشبهت غسل الأرض, فلو وقع جلد ميتة في مدبغة بغير فعل فاندبغ, طهر كما لو نزل ماء السماء على أرض نجسة طهرها.
فصل:
وإذا ذبح ما لا يؤكل لحمه كان جلده نجسا وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك: يطهر لقول النبي -ﷺ-: (دباغ الأديم ذكاته) أي: كذكاته, فشبه الدبغ بالذكاة والمشبه به أقوى من المشبه فإذا طهر الدبغ مع ضعفه فالذكاة أولى ولأن الدبغ يرفع العلة بعد وجودها, والذكاة تمنعها والمنع أقوى من الرفع ولنا أن النبي -ﷺ- (نهى عن افتراش جلود السباع وركوب النمور,) وهو عام في المذكى وغيره ولأنه ذبح لا يطهر اللحم فلم يطهر الجلد كذبح المجوسي أو ذبح غير مشروع, فأشبه الأصل والخبر قد أجبنا عنه فيما مضى ثم نقول: إن الدبغ إنما يؤثر في مأكول اللحم, فكذلك ما شبه به ولو سلمنا أنه يؤثر في تطهير غيره فلا يلزم حصول التطهير بالذكاة, لكون الدبغ مزيلا للخبث والرطوبات كلها مطيبا للجلد على وجه يتهيأ به للبقاء على وجه لا يتغير والذكاة لا يحصل بها ذلك, فلا يستغنى بها عن الدبغ وقولهم: المشبه أضعف من المشبه به غير لازم فإن الله تعالى قال في صفة الحور: {كأنهن بيض مكنون} وهن أحسن من البيض والمرأة الحسناء تشبه بالظبية وبقرة الوحش وهي أحسن منهما وقولهم: إن الدبغ يرفع العلة ممنوع فإننا قد بينا أن الجلد لم ينجس لما ذكرناه, وإن سلمنا فإن الذبح لا يمنع منها ثم يبطل ما ذكروه بذبح المجوسي والوثني والمحرم وبترك التسمية وما شق بنصفين.
فصل:
ظاهر المذهب, أنه لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا الخمرة إذا انقلبت بنفسها خلا, وما عداه لا يطهر كالنجاسات إذا احترقت وصارت رمادا والخنزير إذا وقع في الملاحة وصار ملحا والدخان المترقي من وقود النجاسة, والبخار المتصاعد من الماء النجس إذا اجتمعت منه نداوة على جسم صقيل ثم قطر فهو نجس ويتخرج أن تطهر النجاسات كلها بالاستحالة قياسا على الخمرة إذا انقلبت وجلود الميتة إذا دبغت, والجلالة إذا حبست والأول ظاهر المذهب وقد نهى إمامنا -رحمه الله- عن الخبز في تنور شوي فيه خنزير.
مسألة:
قال: [ وكذلك آنية عظام الميتة] يعني: أنها نجسة وجملة ذلك, أن عظام الميتة نجسة سواء كانت ميتة ما يؤكل لحمه أو ما لا يؤكل لحمه, كالفيلة ولا يطهر بحال وهذا مذهب مالك, والشافعي وإسحاق وكره عطاء, وطاوس والحسن وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم عظام الفيلة, ورخص في الانتفاع بها محمد بن سيرين وغيره وابن جريج لما روى أبو داود بإسناده عن ثوبان, أن رسول الله -ﷺ- قال: (اشتر لفاطمة رضي الله عنها قلادة من عصب وسوارين من عاج) ولنا قول الله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} والعظم من جملتها فيكون محرما والفيل لا يؤكل لحمه فهو نجس على كل حال, وأما الحديث فقال الخطابي: قال الأصمعي: العاج الذبل ويقال: هو عظم ظهر السلحفاة البحرية وذهب مالك إلى أن الفيل إن ذكي فعظمه طاهر, وإلا فهو نجس لأن الفيل مأكول عنده وهو غير صحيح لأن النبي -ﷺ- (نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع) رواه مسلم والفيل أعظمها نابا فأما عظام بقية الميتات فذهب الثوري, وأبو حنيفة إلى طهارتها لأن الموت لا يحلها فلا تنجس به كالشعر ولأن علة التنجيس في اللحم والجلد اتصال الدماء والرطوبات به, ولا يوجد ذلك في العظام ولنا قول الله تعالى {قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} وما يحيا فهو يموت ولأن دليل الحياة الإحساس والألم والألم في العظم أشد من الألم في اللحم والجلد والضرس يألم, ويلحقه الضرس ويحس ببرد الماء وحرارته وما تحله الحياة يحله الموت إذ كان الموت مفارقة الحياة, وما يحله الموت ينجس به كاللحم قال الحسن لبعض أصحابه لما سقط ضرسه: أشعرت أن بعضي مات اليوم وقولهم: إن سبب التنجيس اتصال الدماء والرطوبات, قد أجبنا عنه فيما مضى.
فصل:
والقرن والظفر والحافر كالعظم إن أخذ من مذكى فهو طاهر وإن أخذ من حي فهو نجس لقول النبي -ﷺ-: (ما يقطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب, وكذلك ما يتساقط من قرون الوعول في حياتها ويحتمل أن هذا طاهر لأنه طاهر متصل مع عدم الحياة فيه, فلم ينجس بفصله من الحيوان ولا بموت الحيوان كالشعر والخبر أريد به ما يقطع من البهيمة مما فيه حياة لأنه بفصله يموت, وتفارقه الحياة بخلاف هذا فإنه لا يموت بفصله, فهو أشبه بالشعر وما لا ينجس بالموت لا بأس بعظامه كالسمك لأن موته كتذكية الحيوانات المأكولة.
فصل:
ولبن الميتة وإنفحتها نجس في ظاهر المذهب وهو قول مالك والشافعي, وروي أنها طاهرة وهو قول أبي حنيفة وداود لأن الصحابة رضي الله عنهم أكلوا الجبن لما دخلوا المدائن, وهو يعمل بالإنفحة وهي تؤخذ من صغار المعز فهو بمنزلة اللبن, وذبائحهم ميتة ولنا أنه مائع في وعاء نجس فكان نجسا كما لو حلب في وعاء نجس ولأنه لو أصاب الميتة بعد فصله عنها لكان نجسا, فكذلك قبل فصله وأما المجوس فقد قيل: إنهم ما كانوا يتولون الذبح بأنفسهم وكان جزاروهم اليهود والنصارى, ولو لم ينقل ذلك عنهم لكان الاحتمال موجودا فقد كان فيهم اليهود والنصارى والأصل الحل, فلا يزول بالشك وقد روي أن أصحاب النبي -ﷺ- الذين قدموا العراق مع خالد كسروا جيشا من أهل فارس, بعد أن نصبوا الموائد ووضعوا طعامهم ليأكلوا فلما فرغ المسلمون منهم جلسوا فأكلوا ذلك الطعام والظاهر أنه كان لحما, فلو حكم بنجاسة ما ذبح ببلدهم لما أكلوا من لحمهم شيئا وإذا حكموا بحل اللحم فالجبن أولى وعلى هذا لو دخل أرضا فيها مجوس وأهل كتاب, كان له أكل جبنهم ولحمهم احتجاجا بفعل النبي -ﷺ- وصحابته.
فصل:
وإن ماتت الدجاجة وفي بطنها بيضة قد صلب قشرها, فهي طاهرة وهذا قول أبي حنيفة وبعض الشافعية وابن المنذر وكرهها علي بن أبي طالب وابن عمر وربيعة, ومالك والليث وبعض الشافعية لأنها جزء من الدجاجة ولنا أنها بيضة صلبة القشر, طرأت النجاسة عليها فأشبه ما لو وقعت في ماء نجس وقولهم: إنها جزء منها غير صحيح وإنما هي مودعة فيها, غير متصلة بها فأشبهت الولد إذا خرج حيا من الميتة ولأنها خارجة من حيوان يخلق منها مثل أصلها أشبهت الولد الحي, وكراهة الصحابة لها محمولة على كراهة التنزيه استقذارا لها ولو وضعت البيضة تحت طائر, فصارت فرخا كان طاهرا بكل حال فإن لم تكمل البيضة فقال بعض أصحابنا: ما كان قشره أبيض, فهو طاهر وما لم يبيض قشره فهو نجس لأنه ليس عليه حائل حصين واختار ابن عقيل أنه لا ينجس لأن البيضة عليها غاشية رقيقة كالجلد وهو القشر قبل أن يقوى فلا ينجس منها إلا ما كان لاقى النجاسة, كالسمن الجامد إذا ماتت فيه فأرة إلا أن هذه تطهر إذا غسلها لأن لها من القوة ما يمنع تداخل أجزاء النجاسة فيها بخلاف السمن.
مسألة:
قال: [ ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة] فإن فعل كره أراد بالكراهة التحريم, ولا خلاف بين أصحابنا في أن استعمال آنية الذهب والفضة حرام وهو مذهب أبي حنيفة ومالك, والشافعي ولا أعلم فيه خلافا لأن النبي -ﷺ- قال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) ونهى عن الشرب في آنية الفضة, وقال: (من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة) وقال عليه الصلاة والسلام: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) متفق عليهن فنهى والنهي يقتضي التحريم وذكر في ذلك وعيدا شديدا يقتضي التحريم ويروى " نار جهنم " برفع الراء ونصبها فمن رفعها نسب الفعل إلى النار, ومن نصبها أضمر الفاعل في الفعل وجعل النار مفعولا تقديره: يجرجر الشارب في بطنه نار جهنم والعلة في تحريم الشرب فيها ما يتضمنه ذلك من الفخر والخيلاء, وكسر قلوب الفقراء وهو موجود في الطهارة منها واستعمالها كيفما كان بل إذا حرم في غير العبادة ففيها أولى, فإن توضأ منها أو اغتسل فعلى وجهين: أحدهما تصح طهارته وهو قول الشافعي, وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي لأن فعل الطهارة وماءها لا يتعلق بشيء من ذلك, أشبه الطهارة في الدار المغصوبة والثاني: لا يصح اختاره أبو بكر لأنه استعمل المحرم في العبادة فلم يصح كالصلاة في الدار المغصوبة والأول أصح, ويفارق هذا الصلاة في الدار المغصوبة لأن أفعال الصلاة من القيام والقعود والركوع والسجود في الدار المغصوبة محرم لكونه تصرفا في ملك غيره بغير إذنه وشغلا له, وأفعال الوضوء من الغسل والمسح ليس بمحرم, إذ ليس هو استعمالا للإناء ولا تصرفا فيه وإنما يقع ذلك بعد رفع الماء من الإناء, وفصله عنه فأشبه ما لو غرف بآنية الفضة في إناء غيره ثم توضأ به ولأن المكان شرط للصلاة, إذ لا يمكن وجودها في غير مكان والإناء ليس بشرط فأشبه ما لو صلى وفي يده خاتم ذهب.
مسألة:
فإن جعل آنية الذهب والفضة مصبا لماء الوضوء, ينفصل الماء عن أعضائه إليه صح الوضوء لأن المنفصل الذي يقع في الآنية قد رفع الحدث فلم يزل ذلك بوقوعه في الإناء, ويحتمل أن تكون كالتي قبلها لأن الفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء يحصل باستعماله ها هنا كحصوله في التي قبلها وفعل الطهارة يحصل ها هنا قبل وصول الماء إلى الإناء وفي التي قبلها بعد فصله عنه, فهي مثلها في المعنى وإن افترقا في الصورة.
فصل:
ويحرم اتخاذ آنية الذهب والفضة وحكي عن الشافعي أن ذلك لا يحرم لأن الخبر إنما ورد بتحريم الاستعمال فلا يحرم الاتخاذ, كما لو اتخذ الرجل ثياب الحرير ولنا أن ما حرم استعماله مطلقا حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال كالطنبور, وأما ثياب الحرير فإنها لا تحرم مطلقا فإنها تباح للنساء وتباح التجارة فيها, ويحرم استعمال الآنية مطلقا في الشرب والأكل وغيرهما لأن النص ورد بتحريم الشرب والأكل وغيرهما في معناهما ويحرم ذلك على الرجال والنساء لعموم النص فيهما ووجود معنى التحريم في حقهما, وإنما أبيح التحلي في حق المرأة لحاجتها إلى التزين للزوج والتجمل عنده وهذا يختص الحلي, فتختص الإباحة به
فصل:
فأما المضبب بالذهب أو الفضة فإن كان كثيرا فهو محرم بكل حال ذهبا كان أو فضة لحاجة أو لغيرها وبهذا قال الشافعي وأباح أبو حنيفة المضبب, وإن كان كثيرا لأنه صار تابعا للمباح فأشبه المضبب باليسير ولنا أن هذا فيه سرف وخيلاء فأشبه الخالص, ويبطل ما قاله بما إذا اتخذ أبوابا من فضة أو ذهب أو رفوفا فإنه يحرم, وإن كان تابعا وفارق اليسير فإنه لا يوجد فيه المعنى المحرم إذا ثبت هذا, فاختلف أصحابنا فقال أبو بكر يباح اليسير من الذهب والفضة لما ذكرنا وأكثر أصحابنا على أنه لا يباح اليسير من الذهب ولا يباح منه إلا ما دعت الضرورة إليه, كأنف الذهب وما ربط به أسنانه وأما الفضة فيباح منها اليسير لما روى أنس (أن قدح رسول الله -ﷺ- انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة) رواه البخاري ولأن الحاجة تدعو إليه, وليس فيه سرف ولا خيلاء فأشبه الضبة من الصفر قال القاضي: ويباح ذلك مع الحاجة وعدمها لما ذكرنا إلا أن ما يستعمل من ذلك لا يباح كالحلقة, وما لا يستعمل كالضبة يباح وقال أبو الخطاب لا يباح اليسير إلا لحاجة لأن الخبر إنما ورد في تشعيب القدح في موضع الكسر وهو لحاجة ومعنى الحاجة أن تدعو الحاجة إلى ما فعله به, وإن كان غيره يقوم مقامه وتكره مباشرة موضع الفضة بالاستعمال كي لا يكون مستعملا لها وسنذكر ذلك في غير هذا الموضع بأبسط من هذا, -إن شاء الله تعالى-.
فصل:
فأما سائر الآنية فمباح اتخاذها واستعمالها سواء كانت ثمينة كالياقوت والبلور والعقيق والصفر والمخروط من الزجاج, أو غير ثمينة كالخشب والخزف والجلود ولا يكره استعمال شيء منها في قول عامة أهل العلم إلا أنه روي عن ابن عمر أنه كره الوضوء في الصفر والنحاس والرصاص وما أشبه ذلك واختار ذلك الشيخ أبو الفرج المقدسي لأن الماء يتغير فيها, وروي أن الملائكة تكره ريح النحاس وقال الشافعي في أحد قوليه: ما كان ثمينا لنفاسة جوهره فهو محرم لأن تحريم الأثمان تنبيه على تحريم ما هو أعلى منه ولأن فيه سرفا وخيلاء وكسر قلوب الفقراء فكان محرما كالأثمان ولنا ما روي عن عبد الله بن زيد, قال: (أتانا رسول الله -ﷺ- فأخرجنا له ماء في تور من صفر فتوضأ) متفق عليه وروى أبو داود في " سننه ", عن عائشة قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله -ﷺ- في تور من شبه) ولأن الأصل الحل فيبقى عليه ولا يصح قياسه على الأثمان لوجهين: أحدهما أن هذا لا يعرفه إلا خواص الناس, فلا تنكسر قلوب الفقراء باستعماله بخلاف الأثمان والثاني أن هذه الجواهر لقلتها لا يحصل اتخاذ الآنية منها إلا نادرا فلا تفضي إباحتها إلى اتخاذها واستعمالها, وتعلق التحريم بالأثمان التي هي واقعة في مظنة الكثرة فلم يتجاوزه كما تعلق حكم التحريم في اللباس بالحرير, وجاز استعمال القصب من الثياب وإن زادت قيمته على قيمة الحرير ولأنه لو جعل فص خاتمه جوهرة ثمينة جاز وخاتم الذهب حرام, ولو جعل فصه ذهبا كان حراما وإن قلت قيمته.
مسألة:
قال: [ وصوف الميتة وشعرها طاهر] يعني شعر ما كان طاهرا في حياته وصوفه وروي ذلك عن الحسن, وابن سيرين وأصحاب عبد الله قالوا: إذا غسل, وبه قال مالك والليث بن سعد والأوزاعي, وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي وروي عن أحمد ما يدل على أنه نجس وهو قول الشافعي لأنه ينمو من الحيوان, فينجس بموته كأعضائه ولنا: ما روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل) رواه الدارقطني, وقال: لم يأت به إلا يوسف بن السفر وهو ضعيف ولأنه لا تفتقر طهارة منفصلة إلى ذكاة أصله فلم ينجس بموته, كأجزاء السمك والجراد ولأنه لا يحله الموت فلم ينجس بموت الحيوان كبيضه والدليل على أنه لا حياة فيه, أنه لا يحس ولا يألم وهما دليلا الحياة ولو انفصل في الحياة كان طاهرا, ولو كانت فيه حياة لنجس بفصله لقول النبي -ﷺ-: (ما أبين من حي فهو ميت) رواه أبو داود بمعناه وما ذكروه ينتقض بالبيض ويفارق الأعضاء, فإن فيها حياة وتنجس بفصلها في حياة الحيوان والنمو بمجرده ليس بدليل الحياة, فإن الحشيش ينمو ولا ينجس.
فصل:
والريش كالشعر فيما ذكرنا لأنه في معناه فأما أصول الريش, والشعر إذا كان رطبا إذا نتف من الميتة فهو نجس لأنه رطب في محل نجس, وهل يكون طاهرا بعد غسله؟ على وجهين: أحدهما أنه طاهر كرءوس الشعر إذا تنجس والثاني أنه نجس لأنه جزء من اللحم لم يستكمل شعرا ولا ريشا.
فصل:
وشعر الآدمي طاهر متصله ومنفصله في حياة الآدمي وبعد موته وقال الشافعي, في أحد قوليه: إذا انفصل فهو نجس لأنه جزء من الآدمي انفصل في حياته فكان نجسا كعضوه ولنا: أن النبي -ﷺ- فرق شعره بين أصحابه قال أنس: (لما رمى النبي -ﷺ- ونحر نسكه, ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه, ثم ناوله الشق الأيسر فقال: احلقه فحلقه وأعطاه أبا طلحة, فقال: اقسمه بين الناس) رواه مسلم وأبو داود وروي أن معاوية أوصى أن يجعل نصيبه منه في فيه إذا مات وكانت في قلنسوة خالد شعرات من شعر النبي -ﷺ-, ولو كان نجسا لما ساغ هذا ولما فرقه النبي -ﷺ- وقد علم أنهم يأخذونه يتبركون به ويحملونه معهم تبركا به وما كان طاهرا من النبي -ﷺ- كان طاهرا ممن سواه كسائره ولأنه شعر متصله طاهر, فمنفصله طاهر كشعر الحيوانات كلها وكذلك نقول في أعضاء الآدمي, ولئن سلمنا نجاستها فإنها تنجس من سائر الحيوانات بفصلها في حياته بخلاف الشعر.
فصل:
وكل حيوان فشعره مثل بقية أجزائه ما كان طاهرا فشعره طاهر, وما كان نجسا فشعره كذلك ولا فرق بين حالة الحياة وحالة الموت إلا أن الحيوانات التي حكمنا بطهارتها لمشقة الاحتراز منها كالسنور, وما دونها في الخلقة فيها بعد الموت وجهان: أحدهما أنها نجسة لأنها كانت طاهرة مع وجود علة التنجيس لمعارض وهو الحاجة إلى العفو عنها للمشقة وقد انتفت الحاجة فتنتفي الطهارة والثاني هي طاهرة وهذا أصح لأنها كانت طاهرة في الحياة, والموت لا يقتضي تنجيسها فتبقى الطهارة وما ذكرناه للوجه الأول لا يصح لأننا لا نسلم وجود علة التنجيس ولئن سلمناه غير أن الشرع ألغاه, ولم يثبت اعتباره في موضع فليس لنا إثبات حكمه بالتحكم.
فصل:
واختلفت الرواية عن أحمد في الخرز بشعر الخنزير فروي عنه كراهته, وحكي ذلك عن ابن سيرين والحكم وحماد وإسحاق, والشافعي لأنه استعمال للعين النجسة ولا يسلم من التنجس بها فحرم الانتفاع بها, كجلده والثانية يجوز الخرز به قال: وبالليف أحب إلينا ورخص فيه الحسن ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة لأن الحاجة تدعو إليه وإذا خرز به شيئا رطبا, أو كانت الشعرة رطبة نجس ولم يطهر إلا بالغسل قال ابن عقيل: وقد روي عن أحمد أنه لا بأس به ولعله قال ذلك لأنه لا يسلم الناس منه, وفي تكليف غسله إتلاف أموال الناس فالظاهر أن أحمد إنما عنى لا بأس بالخرز فأما الطهارة فلا بد منها والله أعلم.
فصل:
والمشركون على ضربين: أهل كتاب وغيرهم فأهل الكتاب يباح أكل طعامهم وشرابهم, والأكل في آنيتهم ما لم يتحقق نجاستها قال ابن عقيل: لا تختلف الرواية في أنه لا يحرم استعمال أوانيهم وذلك لقول الله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} وروي عن عبد الله بن المغفل قال: (دلي جراب من شحم يوم خيبر, فالتزمته وقلت: والله لا أعطي أحدا منه شيئا فالتفت فإذا رسول الله -ﷺ- يبتسم) رواه مسلم, وأخرجه البخاري بمعناه وروي أن (النبي -ﷺ- أضافه يهودي بخبز وإهالة سنخة) رواه الإمام أحمد في " المسند " وكتاب " الزهد " وتوضأ عمر من جرة نصرانية وهل يكره له استعمال أوانيهم؟ على روايتين: إحداهما: لا يكره لما ذكرناه والثانية يكره لما روى أبو ثعلبة الخشني, قال: قلت (يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ فقال رسول الله -ﷺ-: إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها, وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها) متفق عليه وأقل أحوال النهي الكراهة ولأنهم لا يتورعون عن النجاسة ولا تسلم آنيتهم من أطعمتهم, وأدنى ما يؤثر ذلك الكراهة وأما ثيابهم فما لم يستعملوه أو علا منها كالعمامة والطيلسان والثوب الفوقاني, فهو طاهر لا بأس بلبسه وما لاقى عوراتهم كالسراويل والثوب السفلاني والإزار, فقال أحمد: أحب إلى أن يعيد يعني: من صلى فيه فيحتمل وجهين: أحدهما وجوب الإعادة وهو قول القاضي وكره أبو حنيفة والشافعي الإزار والسراويلات لأنهم يتعبدون بترك النجاسة, ولا يتحرزون منها فالظاهر نجاسة ما ولي مخرجها والثاني لا يجب وهو قول أبي الخطاب لأن الأصل الطهارة, فلا تزول بالشك الضرب الثاني: غير أهل الكتاب وهم المجوس وعبدة الأوثان, ونحوهم فحكم ثيابهم حكم ثياب أهل الذمة وأما أوانيهم, فقال القاضي: لا يستعمل ما استعملوه من آنيتهم لأن أوانيهم لا تخلو من أطعمتهم وذبائحهم ميتة فلا تخلو أوانيهم من وضعها فيها وقال أبو الخطاب حكمهم حكم أهل الكتاب, وثيابهم وأوانيهم طاهرة مباحة الاستعمال ما لم يتيقن نجاستها, وهو مذهب الشافعي (لأن النبي -ﷺ- وأصحابه توضئوا من مزادة مشركة) متفق عليه ولأن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك وظاهر كلام أحمد, -رحمه الله- مثل قول القاضي فإنه قال في المجوس: لا يؤكل من طعامهم إلا الفاكهة لأن الظاهر نجاسة آنيتهم المستعملة في أطعمتهم, فأشبهت السراويلات من ثيابهم ومن يأكل الخنزير من النصارى في موضع يمكنهم أكله أو يأكل الميتة, أو يذبح بالسن والظفر ونحوه فحكمه حكم غير أهل الكتاب لاتفاقهم في نجاسة أطعمتهم ومتى شك في الإناء هل استعملوه في أطعمتهم أو لم يستعملوه, فهو طاهر لأن الأصل طهارته ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في إباحة الصلاة في الثوب الذي ينسجه الكفار فإن النبي -ﷺ- وأصحابه إنما كان لباسهم من نسج الكفار فأما ثيابهم التي يلبسونها, فأباح الصلاة فيها الثوري وأصحاب الرأي وقال مالك في ثوب الكفار: يلبسه على كل حال, وإن صلى فيه يعيد ما دام في الوقت ولنا أن الأصل الطهارة ولم تترجح جهة التنجيس فيه, فأشبه ما نسجه الكفار.
فصل:
وتباح الصلاة في ثياب الصبيان ما لم تتيقن نجاستها وبذلك قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي لأن أبا قتادة روى, أن النبي -ﷺ- (صلى وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع) متفق عليه (وكان النبي -ﷺ- يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره) وتكره الصلاة فيه لما فيه من احتمال غلبة النجاسة له وتصح الصلاة في ثوب المرأة الذي تحيض فيه إذا لم تتحقق إصابة النجاسة له لأن الأصل الطهارة والتوقي لذلك أولى لأنه يحتمل إصابة النجاسة إياه وقد روى أبو داود, عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله -ﷺ- لا يصلي في شعرنا ولحفنا) ولعاب الصبيان طاهر وقد روى أبو هريرة قال: (رأيت رسول الله -ﷺ- حامل الحسين على عاتقه, ولعابه يسيل عليه) وحمل أبو بكر الحسن بن علي على عاتقه ولعابه يسيل وعلي إلى جانبه وجعل أبو بكر يقول: وا بأبي شبه النبي لا شبيها بعلي وعلي يضحك.
فصل:
وإذا صبغ في حب صباغ لم يجب غسل الثوب المصبوغ, سواء كان الصباغ مسلما أو كافرا نص عليه أحمد لأن الأصل الطهارة فإن تحققت نجاسته طهر بالغسل وإن بقي اللون, بدليل قوله عليه الصلاة والسلام في الدم: (لا يضرك أثره).
فصول في الفطرة
روى أبو هريرة قال: قال رسول الله -ﷺ-: (الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب, وتقليم الأظفار ونتف الإبط) متفق عليه وروى عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -ﷺ- (عشر من الفطرة: قص الشارب, وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء, وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط, وحلق العانة وانتقاص الماء) قال بعض الرواة: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة الاستحداد: حلق العانة, استفعال من الحديد وانتقاص الماء: الاستنجاء به لأن الماء يقطع البول ويرده قال أبو داود: وقد روي عن ابن عباس نحو حديث عائشة قال: خمس كلها في الرأس ذكر منها الفرق ولم يذكر إعفاء اللحية, قال أحمد: الفرق سنة قيل: يا أبا عبد الله يشهر نفسه قال: النبي -ﷺ- قد فرق وأمر بالفرق.
فصل:
فأما الختان فواجب على الرجال ومكرمة في حق النساء, وليس بواجب عليهن هذا قول كثير من أهل العلم قال أحمد: الرجل أشد وذلك أن الرجل إذا لم يختتن فتلك الجلدة مدلاة على الكمرة, ولا ينقى ما ثم والمرأة أهون قال أبو عبد الله: وكان ابن عباس يشدد في أمره وروي عنه أنه لا حج له ولا صلاة, يعني: إذا لم يختتن والحسن يرخص فيه يقول: إذا أسلم لا يبالي أن لا يختتن ويقول: أسلم الناس الأسود والأبيض, لم يفتش أحد منهم ولم يختتنوا والدليل على وجوبه: أن ستر العورة واجب فلولا أن الختان واجب لم يجز هتك حرمة المختون بالنظر إلى عورته من أجله ولأنه من شعار المسلمين, فكان واجبا كسائر شعارهم وإن أسلم رجل كبير فخاف على نفسه من الختان سقط عنه لأن الغسل والوضوء وغيرهما يسقط إذا خاف على نفسه منه, فهذا أولى وإن أمن على نفسه لزمه فعله قال حنبل: سألت أبا عبد الله عن الذمي إذا أسلم ترى له أن يطهر بالختانة؟ قال: لا بد له من ذاك قلت: وإن كان كبيرا أو كبيرة؟ قال: أحب إلى أن يتطهر لأن الحديث: (اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة) قال تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} ويشرع الختان في حق النساء أيضا, قال أبو عبد الله حديث النبي -ﷺ-: (إذا التقى الختانان وجب الغسل) فيه بيان أن النساء كن يختتن وحديث عمر: إن ختانة ختنت فقال: " أبقي منه شيئا إذا خفضت " وروى الخلال, بإسناده عن شداد بن أوس قال: قال النبي -ﷺ-: (الختان سنة للرجال ومكرمة للنساء) وعن جابر بن زيد مثل ذلك موقوفا عليه, وروي عن النبي -ﷺ- (أنه قال للخافضة: أشمي ولا تنهكي فإنه أحظى للزوج وأسرى للوجه) والخفض: ختانة المرأة.
فصل:
والاستحداد: حلق العانة وهو مستحب لأنه من الفطرة, ويفحش بتركه فاستحبت إزالته وبأي شيء أزاله صاحبه فلا بأس لأن المقصود إزالته, قيل لأبي عبد الله: ترى أن يأخذ الرجل سفلته بالمقراض وإن لم يستقص؟ قال: أرجو أن يجزئ إن شاء الله قيل: يا أبا عبد الله, ما تقول في الرجل إذا نتف عانته؟ قال: وهل يقوى على هذا أحد وإن اطلى بنورة فلا بأس إلا أنه لا يدع أحدا يلي عورته إلا من يحل له الاطلاع عليها من زوجة, أو أمة قال أبو العباس النسائي: ضربت لأبي عبد الله نورة ونورته بها فلما بلغ إلى عانته نورها هو وروى الخلال, بإسناده عن نافع قال: كنت أطلي ابن عمر فإذا بلغ عانته نورها هو بيده وقد روي ذلك عن النبي -ﷺ-, قال المروذي: كان أبو عبد الله لا يدخل الحمام وإذا احتاج إلى النورة تنور في البيت وأصلحت له غير مرة نورة تنور بها, واشتريت له جلدا ليديه فكان يدخل يديه فيه وينور نفسه والحلق أفضل لموافقته الخبر, وقد قال ابن عمر هو مما أحدثوا من النعيم يعني: النورة.
فصل:
ونتف الإبط سنة لأنه من الفطرة ويفحش بتركه وإن أزال الشعر بالحلق أو النورة جاز, ونتفه أفضل لموافقته الخبر قال حرب: قلت لإسحاق: نتف الإبط أحب إليك أو بنورة؟ قال: نتفه إن قدر.
فصل:
ويستحب تقليم الأظفار لأنه من الفطرة ويتفاحش إذا تركها, وربما حك به الوسخ فيجتمع تحتها من المواضع المنتنة فتصير رائحة ذلك في رءوس الأصابع وربما منع وصول الطهارة إلى ما تحته, وقد روينا في خبر: أن النبي -ﷺ- قال: (مالي لا أسهو وأنتم تدخلون علي قلحا ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته) ومعناه: أن أحدكم يطيل أظفاره ثم يحك بها رفغه ومواضع النتن فتصير رائحة ذلك تحت أظفاره وروي في حديث مسلسل قد سمعناه أن عليا قال: (رأيت رسول الله -ﷺ- يقلم أظفاره يوم الخميس, ثم قال: يا علي قص الظفر ونتف الإبط وحلق العانة يوم الخميس والغسل والطيب واللباس يوم الجمعة) وروي في حديث (من قص أظفاره مخالفا لم ير في عينيه رمدا) وفسره أبو عبد الله بن بطة بأن يبدأ بخنصر اليمنى ثم الوسطى ثم الإبهام ثم البنصر ثم السبابة ثم بإبهام اليسرى ثم الوسطى ثم الخنصر ثم السبابة ثم البنصر.
فصل:
ويستحب غسل رءوس الأصابع بعد قص الأظفار, وقد قيل: إن الحك بالأظفار قبل غسلها يضر بالجسد وفي حديث عائشة " غسل البراجم " في تفسير الفطرة فيحتمل أنه أراد ذلك وقال الخطابي: البراجم: العقد التي في ظهور الأصابع, والرواجب: ما بين البراجم ومعناه قال: تنظيف المواضع التي تتشنج ويجتمع فيها الوسخ ويستحب دفن ما قلم من أظفاره أو أزال من شعره لما روى الخلال بإسناده (عن ميل بنت مشرح الأشعرية قالت: رأيت أبي يقلم أظفاره ويدفنها ويقول: رأيت رسول الله -ﷺ- يفعل ذلك) وعن ابن جريج (عن النبي -ﷺ- قال: كان يعجبه دفن الدم) وقال مهنا: سألت أحمد عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه, قلت: بلغك فيه شيء؟ قال: كان ابن عمر يدفنه وروينا عن النبي -ﷺ- (أنه أمر بدفن الشعر والأظفار وقال: لا يتلاعب به سحرة بني آدم).
فصل:
واتخاذ الشعر أفضل من إزالته قال أبو إسحاق: سئل أبو عبد الله عن الرجل يتخذ الشعر؟ فقال: سنة حسنة لو أمكننا اتخذناه وقال: (كان للنبي -ﷺ- جمة) وقال: تسعة من أصحاب النبي -ﷺ- لهم شعر وقال: عشرة لهم جمم وقال: في بعض الحديث (إن شعر النبي -ﷺ- كان إلى شحمة أذنيه وفي بعض الحديث: إلى منكبيه) وروى البراء بن عازب, قال: (ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله -ﷺ- له شعر يضرب منكبيه) متفق عليه وروى ابن عمر عن النبي -ﷺ- قال: (رأيت ابن مريم له لمة) قال الخلال سألت أحمد بن يحيى - يعني ثعلبا - عن اللمة؟ فقال: ما ألمت بالأذن والجمة: ما طالت وقد ذكر البراء بن عازب في حديثه: (أن شعر النبي -ﷺ- يضرب منكبيه) وقد سماه لمة ويستحب أن يكون شعر الإنسان على صفة شعر النبي -ﷺ- إذا طال فإلى منكبيه وإن قصر فإلى شحمة أذنيه وإن طوله فلا بأس, نص عليه أحمد وقال: أبو عبيدة كانت له عقيصتان وعثمان كانت له عقيصتان وقال وائل بن حجر: (أتيت رسول الله -ﷺ- ولي شعر طويل فلما رآني قال: ذباب ذباب فرجعت فجززته ثم أتيته من الغد, فقال: لم أعنك) وهذا حسن رواه ابن ماجه ويستحب ترجيل الشعر وإكرامه لما روى أبو هريرة يرفعه (من كان له شعر فليكرمه) رواه أبو داود ويستحب فرق الشعر (لأن النبي -ﷺ- فرق شعره وذكره من الفطرة) في حديث ابن عباس, وفي شروط عمر على أهل الذمة: أن لا يفرقوا شعورهم لئلا يتشبهوا بالمسلمين.
فصل:
واختلفت الرواية عن أحمد في حلق الرأس فعنه أنه مكروه لما روي عن النبي -ﷺ- (أنه قال في الخوارج: سيماهم التحليق) فجعله علامة لهم وقال عمر لصبيغ: لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف وروي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (لا توضع النواصي إلا في حج أو عمرة) رواه الدارقطني, في الأفراد وروى أبو موسى عن النبي -ﷺ-: (ليس منا من حلق) رواه أحمد وقال ابن عباس الذي يحلق رأسه في المصر شيطان قال أحمد كانوا يكرهون ذلك وروي عنه: لا يكره ذلك لكن تركه أفضل قال حنبل: كنت أنا وأبي نحلق رءوسنا في حياة أبي عبد الله فيرانا ونحن نحلق فلا ينهانا وكان هو يأخذ رأسه بالجلمين ولا يحفيه ويأخذه وسطا وقد روى ابن عمر (أن رسول الله -ﷺ- رأى غلاما قد حلق بعض رأسه وترك بعضه, فنهاهم عن ذلك) رواه مسلم وفي لفظ قال: (احلقه كله أو دعه كله) وروي عن عبد الله بن جعفر (أن النبي -ﷺ- لما جاء نعي جعفر أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم ثم أتاهم, فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم ثم قال: ادعوا بني أخي فجيء بنا, قال: ادعوا لي الحالق فأمر بنا فحلق رءوسنا) رواه أبو داود والطيالسي ولأنه لا يكره استئصال الشعر بالمقراض وهذا في معناه وقول النبي -ﷺ-: (ليس منا من حلق) يعني في المصيبة لأن فيه " أو صلق " أو خرق قال ابن عبد البر: وقد أجمع العلماء على إباحة الحلق, وكفى بهذا حجة وأما استئصال الشعر بالمقراض فغير مكروه رواية واحدة قال أحمد: إنما كرهوا الحلق بالموسى وأما بالمقراض فليس به بأس لأن أدلة الكراهة تختص بالحلق.
فصل:
فأما حلق بعض الرأس فمكروه ويسمى القزع لما ذكرنا من حديث ابن عمر ورواه أبو داود, ولفظه (أن النبي -ﷺ- نهى عن القزع وقال: احلقه كله أو دعه كله) وفي شروط عمر على أهل الذمة: أن يحلقوا مقادم رءوسهم ليتميزوا بذلك عن المسلمين فمن فعله من المسلمين كان متشبها بهم.
فصل:
ولا تختلف الرواية في كراهة حلق المرأة رأسها من غير ضرورة قال أبو موسى: (برئ رسول الله -ﷺ- من الصالقة والحالقة) متفق عليه وروى الخلال بإسناده عن قتادة عن عكرمة قال: (نهى النبي -ﷺ- أن تحلق المرأة رأسها) قال الحسن: هي مثلة قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن المرأة تعجز عن شعرها وعن معالجته أتأخذه على حديث ميمونة؟ قال: لأي شيء تأخذه؟ قيل له: لا تقدر على الدهن وما يصلحه وتقع فيه الدواب قال: إذا كان لضرورة, فأرجو أن لا يكون به بأس.
فصل:
ويكره نتف الشيب لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده قال: (نهى رسول الله -ﷺ- عن نتف الشيب وقال: إنه نور الإسلام) وعن طارق بن حبيب (أن حجاما أخذ من شارب النبي -ﷺ- فرأى شيبة في لحيته فأهوى إليها ليأخذها, فأمسك النبي -ﷺ- يده وقال: من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة) رواهما الخلال في جامعه.
فصل:
ويكره حلق القفا لمن لم يحلق رأسه ولم يحتج إليه قال المروذي: سألت أبا عبد الله عن حلق القفا فقال: هو من فعل المجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم وقال لا بأس أن يحلق قفاه وقت الحجامة وأما حف الوجه, فقال مهنا: سألت أبا عبد الله عن الحف؟ فقال: ليس به بأس للنساء وأكرهه للرجال.
فصل:
ويستحب خضاب الشيب بغير السواد قال أحمد إني لأرى الشيخ المخضوب فأفرح به وذاكر رجلا, فقال: لم لا تختضب؟ فقال: أستحي قال: سبحان الله سنة رسول الله -ﷺ- قال المروذي: قلت: يحكى عن بشر بن الحارث أنه قال: قال لي ابن داود: خضبت؟ قلت: أنا لا أتفرغ لغسلها فكيف أتفرغ لخضابها, فقال: أنا أنكر أن يكون بشر كشف عمله لابن داود ثم قال: قال النبي -ﷺ-: (غيروا الشيب) وأبو بكر وعمر خضبا والمهاجرون, فهؤلاء لم يتفرغوا لغسلها والنبي -ﷺ- قد أمر بالخضاب فمن لم يكن على ما كان عليه رسول الله -ﷺ- فليس من الدين في شيء, وحديث أبي ذر وحديث أبي هريرة وحديث أبي رمثة, وحديث أم سلمة ويستحب الخضاب بالحناء والكتم لما روى الخلال وابن ماجه بإسنادهما عن تميم بن عبد الله بن موهب, قال: (دخلت على أم سلمة فأخرجت إلينا شعرا من شعر رسول الله -ﷺ- مخضوبا بالحناء والكتم) وخضب أبو بكر بالحناء والكتم ولا بأس بالورس والزعفران لأن أبا مالك الأشجعي قال: (كان خضابنا مع رسول الله -ﷺ- الورس والزعفران) وعن الحكم بن عمرو الغفاري قال: دخلت أنا وأخي رافع على أمير المؤمنين عمر وأنا مخضوب بالحناء, وأخي مخضوب بالصفرة فقال عمر بن الخطاب هذا خضاب الإسلام وقال لأخي رافع: هذا خضاب الإيمان ويكره الخضاب بالسواد قيل لأبي عبد الله: تكره الخضاب بالسواد؟ قال: أي والله قال: (وجاء أبو بكر بأبيه إلى رسول الله -ﷺ- ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا, فقال رسول الله -ﷺ- غيروهما وجنبوه السواد) وروى أبو داود بإسناده عن عبد الله بن عباس مرفوعا (يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة) ورخص فيه إسحاق بن راهويه للمرأة تتزين به لزوجها.
فصل:
ويستحب أن يكتحل وترا, ويدهن غبا وينظر في المرآة ويتطيب قال حنبل: رأيت أبا عبد الله وكانت له صينية فيها مرآة ومكحلة ومشط فإذا فرغ من حزبه نظر في المرآة واكتحل وامتشط, وقد روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -ﷺ-: (عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر) قيل لأبي عبد الله كيف يكتحل الرجل؟ قال: وترا وليس له إسناد وروى أبو داود بإسناده عن النبي -ﷺ- أنه قال: (من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن, ومن لا فلا حرج) والوتر ثلاث في كل عين وقيل: ثلاث في اليمنى واثنتان في اليسرى ليكون الوتر حاصلا في العينين معا وروى الخلال بإسناده عن عبد الله بن المغفل قال: (نهى رسول الله -ﷺ- عن الترجل إلا غبا) قال أحمد معناه يدهن يوما ويوما لا وكان أحمد يعجبه الطيب لأن رسول الله -ﷺ- (كان يحب الطيب ويتطيب كثيرا).
فصل:
وروي عن النبي -ﷺ- أنه (لعن الواصلة والمستوصلة, والنامصة والمتنمصة والواشرة والمستوشرة) فهذه الخصال محرمة لأن النبي -ﷺ- لعن فاعلها ولا يجوز لعن فاعل المباح والواصلة: هي التي تصل شعرها بغيره أو شعر غيرها والمستوصلة: الموصول شعرها بأمرها, فهذا لا يجوز للخبر لما روت عائشة رضي الله عنها (أن امرأة أتت النبي -ﷺ- فقالت: إن ابنتي عرس وقد تمزق شعرها أفأصله؟ فقال النبي -ﷺ-: لعنت الواصلة, والمستوصلة) فلا يجوز وصل شعر المرأة بشعر آخر؟ لهذه الأحاديث ولما روي عن معاوية أنه (أخرج كبة من شعر, فقال: سمعت رسول الله -ﷺ- ينهى عن مثل هذا وقال: إنما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذا نساؤهم) وأما وصله بغير الشعر فإن كان بقدر ما تشد به رأسها فلا بأس به لأن الحاجة داعية إليه, ولا يمكن التحرز منه وإن كان أكثر من ذلك ففيه روايتان: إحداهما أنه مكروه غير محرم لحديث معاوية في تخصيص التي تصله بالشعر, فيمكن جعل ذلك تفسيرا للفظ العام وبقيت الكراهة لعموم اللفظ في سائر الأحاديث وروي عنه أنه قال: لا تصل المرأة برأسها الشعر ولا القرامل ولا الصوف, نهى النبي -ﷺ- عن الوصال فكل شيء يصل فهو وصال وروي عن جابر, قال: (نهى النبي -ﷺ- أن تصل المرأة برأسها شيئا) وقال المروذي: جاءت امرأة من هؤلاء الذين يمشطون إلى أبي عبد الله فقالت: إني أصل رأس المرأة بقرامل وأمشطها فترى لي أن أحج مما اكتسبت؟ قال: لا وكره كسبها وقال لها: يكون من مال أطيب من هذا والظاهر: أن المحرم إنما هو وصل الشعر بالشعر, لما فيه من التدليس واستعمال الشعر المختلف في نجاسته وغير ذلك لا يحرم لعدم هذه المعاني فيها, وحصول المصلحة من تحسين المرأة لزوجها من غير مضرة والله تعالى أعلم.
فصل:
فأما النامصة: فهي التي تنتف الشعر من الوجه والمتنمصة: المنتوف شعرها بأمرها فلا يجوز للخبر وإن حلق الشعر فلا بأس لأن الخبر إنما ورد في النتف نص على هذا أحمد وأما الواشرة: فهي التي تبرد الأسنان بمبرد ونحوه لتحددها وتفلجها وتحسنها, والمستوشرة: المفعول بها ذلك بإذنها وفي خبر آخر: (لعن الله الواشمة والمستوشمة) والواشمة: التي تغرز جلدها بإبرة, ثم تحشوه كحلا والمستوشمة: التي يفعل بها ذلك.
باب السواك وسنة الوضوء
مسألة:
قال أبو القاسم والسواك سنة يستحب عند كل صلاة أكثر أهل العلم يرون السواك سنة غير واجب ولا نعلم أحدا قال بوجوبه إلا إسحاق وداود لأنه مأمور به, والأمر يقتضي الوجوب وقد روى أبو داود بإسناده (أن النبي -ﷺ- أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا وغير طاهر فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة) ولنا قول النبي -ﷺ-: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) متفق عليه يعني لأمرتهم أمر إيجاب لأن المشقة إنما تلحق بالإيجاب لا بالندب, وهذا يدل على أن الأمر في حديثهم أمر ندب واستحباب ويحتمل أن يكون ذلك واجبا في حق النبي -ﷺ- على الخصوص جمعا بين الخبرين, واتفق أهل العلم على أنه سنة مؤكدة لحث النبي -ﷺ- ومواظبته عليه وترغيبه فيه وندبه إليه, وتسميته إياه من الفطرة فيما روينا من الحديث وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي -ﷺ- أنه قال: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) رواه الإمام أحمد في مسنده وعن عائشة, رضي الله عنها قالت: (كان النبي -ﷺ- إذا دخل بيته بدأ بالسواك) رواه مسلم وروي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (إني لأستاك حتى لقد خشيت أن أحفي مقادم فمي) رواه ابن ماجه ويتأكد استحبابه في مواضع ثلاثة: عند الصلاة للخبر الأول وعند القيام من النوم لما روى حذيفة, قال: كان رسول الله -ﷺ- إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك متفق عليه يعني: يغسله يقال: شاصه, يشوصه وماصه: إذا غسله وعن عائشة, رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله -ﷺ- لا يرقد من ليل أو نهار فيستيقظ إلا تسوك قبل أن يتوضأ) رواه أبو داود ولأنه إذا نام ينطبق فوه فتتغير رائحته وعند تغير رائحة فيه بمأكول أو غيره ولأن السواك مشروع لإزالة رائحته وتطييبه.
فصل:
ويستاك على أسنانه ولسانه قال أبو موسى: (أتينا رسول الله فرأيته يستاك على لسانه) متفق عليه وقال عليه السلام (إني لأستاك حتى لقد خشيت أن أحفي مقادم فمي) ويستاك عرضا, لقوله عليه السلام: (استاكوا عرضا وادهنوا غبا واكتحلوا وترا) ولأن السواك طولا من أطراف الأسنان إلى عمودها ربما آدمي اللثة وأفسد العمود ويستحب التيامن في سواكه لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي -ﷺ- يعجبه التيمن في تنعله, وترجله وطهوره وفي شأنه كله) متفق عليه ويغسله بالماء ليزيل ما عليه, قالت عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله -ﷺ- يعطيني السواك لأغسله فأبدأ به فأستاك, ثم أغسله ثم أدفعه إليه) رواه أبو داود وروي عنها قالت: (كنا نعد لرسول الله -ﷺ- ثلاثة آنية مخمرة من الليل: إناء لطهوره, وإناء لسواكه وإناء لشرابه) أخرجه ابن ماجه.
فصل:
ويستحب أن يكون السواك عودا لينا ينقي الفم ولا يجرحه, ولا يضره ولا يتفتت فيه كالأراك والعرجون, ولا يستاك بعود الرمان ولا الآس ولا الأعواد الذكية لأنه روي عن قبيصة بن ذؤيب قال: قال رسول الله -ﷺ-: (لا تخللوا بعود الريحان ولا الرمان, فإنهما يحركان عرق الجذام) رواه محمد بن الحسين الأزدي الحافظ بإسناده وقيل: السواك بعود الريحان يضر بلحم الفم وإن استاك بأصبعه أو خرقة فقد قيل: لا يصيب السنة لأن الشرع لم يرد به, ولا يحصل الإنقاء به حصوله بالعود والصحيح أنه يصيب بقدر ما يحصل من الإنقاء ولا يترك القليل من السنة للعجز عن كثيرها والله أعلم وقد أخبرنا محمد بن عبد الباقي, أخبرنا رزق الله بن عبد الوهاب التميمي أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا ابن البختري, حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح حدثنا خالد بن خداش حدثنا محمد بن المثنى, حدثني بعض أهلي عن أنس بن مالك (أن رجلا من بني عمرو بن عوف قال: يا رسول الله, إنك رغبتنا في السواك فهل دون ذلك من شيء؟ قال: أصبعيك سواك عند وضوئك, أمرهما على أسنانك إنه لا عمل لمن لا نية له ولا أجر لمن لا حسنة له).
مسألة:
قال: إلا أن يكون صائما, فيمسك من وقت صلاة الظهر إلى أن تغرب الشمس قال ابن عقيل لا يختلف المذهب أنه لا يستحب للصائم السواك بعد الزوال وهل يكره؟ على روايتين: إحداهما يكره وهو قول الشافعي, وإسحاق وأبي ثور وروي ذلك عن عمر وعطاء ومجاهد لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يستاك ما بينه وبين الظهر ولا يستاك بعد ذلك ولأن السواك إنما استحب لإزالة رائحة الفم وقد قال النبي -ﷺ-: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) قال الترمذي: هذا حديث حسن وإزالة المستطاب مكروه, كدم الشهداء وشعث الإحرام والثانية لا يكره ورخص فيه غدوة وعشيا النخعي وابن سيرين وعروة ومالك وأصحاب الرأي وروي ذلك عن عمر وابن عباس, وعائشة رضي الله عنهم لعموم الأحاديث المروية في السواك, وقول رسول الله -ﷺ-: (من خير خصال الصائم السواك) رواه ابن ماجه وقال عامر بن ربيعة: (رأيت النبي -ﷺ- ما لا أحصي يتسوك وهو صائم) قال الترمذي: هذا حديث حسن.
مسألة:
قال: وغسل اليدين إذا قام من نوم الليل قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثا غسل اليدين في أول الوضوء مسنون في الجملة سواء قام من النوم أو لم يقم لأنها التي تغمس في الإناء وتنقل الوضوء إلى الأعضاء ففي غسلهما إحراز لجميع الوضوء (وقد كان النبي -ﷺ- يفعله, فإن عثمان رضي الله عنه وصف وضوء النبي -ﷺ- فقال: دعا بالماء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما ثم أدخل يده في الإناء) متفق عليه وكذلك وصف علي وعبد الله بن زيد, وغيرهما وليس ذلك بواجب عند غير القيام من النوم بغير خلاف نعلمه, فأما عند القيام من نوم الليل فاختلفت الرواية في وجوبه فروي عن أحمد وجوبه وهو الظاهر عنه, واختيار أبي بكر وهو مذهب ابن عمر وأبي هريرة والحسن البصري لقول النبي -ﷺ-: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) متفق عليه وفي لفظ لمسلم: " فلا يغمس يده في وضوء حتى يغسلها ثلاثا " وأمره يقتضي الوجوب ونهيه يقتضي التحريم وروي أن ذلك مستحب وليس بواجب وبه قال عطاء ومالك والأوزاعي, والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي, وابن المنذر لأن الله تعالى قال: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية قال زيد بن أسلم في تفسيرها: إذا قمتم من نوم ولأن القيام من النوم داخل في عموم الآية وقد أمره بالوضوء من غير غسل الكفين في أوله والأمر بالشيء يقتضي حصول الإجزاء به ولأنه قائم من نوم, فأشبه القائم من نوم النهار والحديث محمول على الاستحباب لتعليله بما يقتضي ذلك, وهو قوله: (فإنه لا يدري أين باتت يده) وطريان الشك على يقين الطهارة لا يؤثر فيها كما لو تيقن الطهارة وشك في الحدث فيدل ذلك على أنه أراد الندب.
فصل:
ولا تختلف الرواية في أنه لا يجب غسلهما من نوم النهار, وسوى الحسن بين نوم الليل ونوم النهار في الوجوب لعموم قوله: [ إذا قام أحدكم من نومه] ولنا أن في الخبر ما يدل على إرادة نوم الليل لقوله: [ فإنه لا يدري أين باتت يده] والمبيت يكون بالليل خاصة ولا يصح قياس غيره عليه لوجهين: أحدهما أن الحكم ثبت تعبدا, فلا يصح تعديته الثاني أن الليل مظنة النوم والاستغراق فيه وطول مدته فاحتمال إصابة يده لنجاسة لا يشعر بها أكثر من احتمال ذلك في نوم النهار قال أحمد في رواية الأثرم: الحديث في المبيت بالليل فأما النهار فلا بأس به.
فصل:
فإن غمس يده في الإناء قبل غسلها, فعلى قول من لم يوجب غسلها لا يؤثر غمسها شيئا ومن أوجبه قال: إن كان الماء كثيرا يدفع النجاسة عن نفسه, لم يؤثر أيضا لأنه يدفع الخبث عن نفسه وإن كان يسيرا فقال أحمد: أعجب إلى أن يهريق الماء, فيحتمل أن تجب إراقته وهو قول الحسن لأن النهي عن غمس اليد فيه يدل على تأثيره فيه وقد روى أبو حفص عمر بن المسلم العكبري في الخبر زيادة عن النبي -ﷺ-: (فإن أدخلها قبل الغسل أراق الماء) ويحتمل أن لا تزول طهوريته ولا تجب إراقته لأن طهورية الماء كانت ثابتة بيقين, والغمس المحرم لا يقتضي إبطال طهورية الماء لأنه إن كان لوهم النجاسة فالوهم لا يزول به يقين الطهورية لأنه لم يزل يقين الطهارة فكذلك لا يزيل الطهورية, فإننا لم نحكم بنجاسة اليد ولا الماء ولأن اليقين لا يزول بالشك فبالوهم أولى وإن كان تعبدا فنقتصر على مقتضى الأمر والنهي وهو وجوب الغسل وتحريم الغمس, ولا يعدى إلى غير ذلك ولا يصح قياسه على رفع الحدث لأن هذا ليس بحدث ولأن من شرط تأثير غمس المحدث أن ينوي رفع الحدث ولا فرق ها هنا بين أن ينوي أو لا ينوي وقال أبو الخطاب: إن غمس يده في الماء قبل غسلها, فهل تبطل طهوريته؟ على روايتين.
فصل:
وحد اليد المأمور بغسلها من الكوع لأن اليد المطلقة في الشرع تتناول ذلك بدليل قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وإنما تقطع يد السارق من مفصل الكوع, وكذلك في التيمم يكون في اليدين إلى الكوع والدية الواجبة في اليد تجب على من قطعها من مفصل الكوع وغمس بعضها ولو أصبع أو ظفر منها, كغمس جميعها في أحد الوجهين لأن ما تعلق المنع بجميعه تعلق ببعضه كالحدث والنجاسة والثاني لا يمنع وهو قول الحسن لأن النهي تناول غمس جميعها, ولا يلزم من كون الشيء مانعا كون بعضه مانعا كما لا يلزم من كون الشيء سببا كون بعضه سببا وغمسها بعد غسلها دون الثلاث كغمسها قبل غسلها لأن النهي لا يزول حتى يغسلها ثلاثا.
فصل:
ولا فرق بين كون يد النائم مطلقة أو مشدودة بشيء, أو في جراب أو كون النائم عليه سراويله أو لم يكن قال أبو داود: سئل أحمد إذا نام الرجل وعليه سراويله؟ قال: السراويل وغيره واحد قال النبي -ﷺ-: (إذا انتبه أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا) يعني أن الحديث عام, فيجب الأخذ بعمومه ولأن الحكم إذا تعلق على المظنة لم يعتبر حقيقة الحكمة كالعدة الواجبة لاستبراء الرحم تجب في حق الآيسة والصغيرة, وكذاك الاستبراء مع أن احتمال النجاسة لا ينحصر في مس الفرج فإنه قد يكون في البدن بثرة أو دمل, وقد يحك جسده فيخرج منه دم بين أظفاره أو يخرج من أنفه دم وقد تكون نجسة قبل نومه فينسى نجاستها لطول نومه, على أن الظاهر عند من أوجب الغسل أنه تعبد لا لعلة التنجيس ولهذا لم يحكم بنجاسة اليد ولا الماء فيعم الوجوب كل من تناوله الخبر.
فصل:
فإن كان القائم من نوم الليل صبيا أو مجنونا أو كافرا, ففيه وجهان: أحدهما أنه كالمسلم البالغ العاقل لأنه لا يدري أين باتت يده والثاني أنه لا يؤثر غمسه شيئا لأن المنع من الغمس إنما يثبت بالخطاب ولا خطاب في حق هؤلاء ولأن وجوب الغسل ها هنا تعبد, ولا تعبد في حق هؤلاء ولأن غمسهم لو أثر في الماء لأثر في جميع زمانهم لأن الغسل المزيل من حكم المنع من شرطه النية وما هم من أهلها ولا نعلم قائلا بذلك.
فصل:
والنوم الذي يتعلق به الأمر بغسل اليد ما نقض الوضوء ذكره القاضي لعموم الخبر في النوم وقال ابن عقيل: هو ما زاد على نصف الليل لأنه لا يكون بائتا إلا بذلك, بدليل أن من دفع من مزدلفة قبل نصف الليل لا يكون بائتا بها ولهذا يلزمه دم بخلاف من دفع بعد نصف الليل والأول أصح, وما ذكره يبطل بما إذا جاء مزدلفة بعد نصف الليل فإنه يكون بائتا بها ولا دم عليه, وإنما بات بها دون النصف.
فصل:
وغسل اليدين يفتقر إلى النية عند من أوجبه في أحد الوجهين لأنه طهارة تعبدية فأشبه الوضوء والغسل والثاني: لا يفتقر إلى النية لأنه معلل بوهم النجاسة ولا تعتبر في غسلها النية ولأن المأمور به الغسل, وقد أتى به والأمر بالشيء يقتضي حصول الإجزاء به ولا يفتقر الغسل إلى تسمية وقال أبو الخطاب يفتقر إليها قياسا على الوضوء وهذا بعيد فإن التسمية في الوضوء غير واجبة في الصحيح ومن أوجبها فإنما أوجبها تعبدا, فيجب قصرها على محلها فإن التعبد به فرع التعليل ومن شرطه كون المعنى معقولا, ولا يمكن إلحاقه به لعدم الفرق فإن الوضوء آكد وهو في أربعة أعضاء, وسببه غير سبب غسل اليد.
فصل:
ولو انغمس الجنب في ماء كثير أو توضأ في ماء كثير يغمس فيه أعضاءه, ولم ينو غسل اليدين من نوم الليل صح غسله ووضوءه ولم يجزه عن غسل اليد من نوم الليل عند من أوجب النية في غسلها لأن بقاء النجاسة على العضو لا يمنع رفع الحدث, فلو غسل أنفه أو يده في الوضوء وهو نجس لارتفع حدثه, وبقاء الحدث على الوضوء لا يمنع رفع حدث آخر بدليل ما لو توضأ الجنب ينوي رفع الحدث الأصغر أو اغتسل ولم ينو الطهارة الصغرى صحت المنوية دون غيرها, وهذا لا يخرج عن شبهه بأحد الأمرين.
فصل:
إذا وجد ماء قليلا ليس معه ما يغترف به ويداه نجستان فقال أحمد: لا بأس أن يأخذ بفيه ويصب على يده وهكذا لو أمكنه غمس خرقة أو غيرها وصبه على يديه فعل ذلك فإن لم يمكنه شيء من ذلك تيمم وتركه لئلا ينجس الماء ويتنجس به فإن كان لم يغسل يديه من نوم الليل توضأ منه عند من يجعل الماء باقيا على إطلاقه ومن جعله مستعملا, قال: يتوضأ به ويتيمم معه ولو استيقظ المحبوس من نومه فلم يدر أهو من نوم النهار أو الليل؟ لم يلزمه غسل يديه لأن الأصل عدم الوجوب فلا نوجبه بالشك.
مسألة:
قال: والتسمية عند الوضوء ظاهر مذهب أحمد رضي الله عنه: أن التسمية مسنونة في طهارة الأحداث كلها رواه عنه جماعة من أصحابه وقال الخلال الذي استقرت الروايات عنه أنه لا بأس به يعني إذا ترك التسمية وهذا قول الثوري ومالك والشافعي وأبي عبيدة وابن المنذر وأصحاب الرأي وعنه أنها واجبة فيها كلها الوضوء, والغسل والتيمم وهو اختيار أبي بكر ومذهب الحسن وإسحاق لما روي أن النبي -ﷺ- قال: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) رواه أبو داود والترمذي, رواه عن النبي -ﷺ- جماعة من أصحابه قال الإمام أحمد: حديث أبي سعيد أحسن حديث في هذا الباب وقال الترمذي: حديث سعيد بن زيد أحسن وهذا نفي في نكرة يقتضي أن لا يصح وضوءه بدون التسمية ووجه الرواية الأولى: أنها طهارة فلا تفتقر إلى التسمية كالطهارة من النجاسة, أو عبادة فلا تجب فيها التسمية كسائر العبادات ولأن الأصل عدم الوجوب وإنما ثبت بالشرع والأحاديث, قال أحمد: ليس يثبت في هذا حديث ولا أعلم فيها حديثا له إسناد جيد وقال الحسن بن محمد: ضعف أبو عبد الله الحديث في التسمية وقال: أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد, عن ربيح - يعني حديث أبي سعيد - ثم ذكر ربيحا أي من هو؟ ومن أبوه؟ فقال: يعني الذي يروي حديث سعيد بن زيد يعني أنهم مجهولون وضعف إسناده وإن صح ذلك فيحمل على تأكيد الاستحباب ونفي الكمال بدونها, كقوله: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد).
فصل:
وإن قلنا بوجوبها فتركها عمدا لم تصح طهارته لأنه ترك واجبا في الطهارة أشبه ما لو ترك النية وإن تركها سهوا صحت طهارته نص عليه أحمد في رواية أبي داود فإنه قال سألت أحمد بن حنبل: إذا نسي التسمية في الوضوء؟ قال: أرجو أن لا يكون عليه شيء وهذا قول إسحاق فعلى هذا إذا ذكر في أثناء طهارته أتى بها حيث ذكرها لأنه لما عفي عنها مع السهو في جملة الوضوء ففي بعضه أولى, وإن تركها عمدا حتى غسل عضوا لم يعتد بغسله لأنه لم يذكر اسم الله عليه مع العمد وقال الشيخ أبو الفرج: إذا سمى في أثناء الوضوء أجزأه يعني على كل حال لأنه قد ذكر اسم الله على وضوئه وقال بعض أصحابنا: لا تسقط بالسهو لعموم الخبر وقياسا لها على سائر الواجبات والأول أولى لقوله عليه السلام: (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان) ولأن الوضوء عبادة تتغاير أفعالها فكان في واجباتها ما يسقط بالسهو كالصلاة, ولا يصح قياسها على سائر واجبات الطهارة لأن تلك تأكد وجوبها بخلاف التسمية إذا ثبت هذا فإن التسمية هي قول بسم الله لا يقوم غيرها مقامها كالتسمية المشروعة على الذبيحة, وعند أكل الطعام وشرب الشراب وموضعها بعد النية قبل أفعال الطهارة كلها لأن التسمية قول واجب في الطهارة فيكون بعد النية, لتشمل النية جميع واجباتها وقبل أفعال الطهارة ليكون مسميا على جميعها, كما يسمي على الذبيحة وقت ذبحها.
مسألة:
قال: والمبالغة في الاستنشاق إلا أن يكون صائما معنى المبالغة في الاستنشاق: اجتذاب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف ولا يجعله سعوطا وذلك سنة مستحبة في الوضوء, إلا أن يكون صائما فلا يستحب لا نعلم في ذلك خلافا والأصل في ذلك ما روى عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه, قال: (قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء قال أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع, وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح ولأنه من أعضاء الطهارة, فاستحبت المبالغة فيه كسائر أعضائها.
فصل:
المبالغة مستحبة في سائر أعضاء الوضوء لقوله عليه السلام: (أسبغ الوضوء) والمبالغة في المضمضة إدارة الماء في أعماق الفم وأقاصيه وأشداقه ولا يجعله وجورا لم يمجه وإن ابتلعه جاز لأن الغسل قد حصل والمبالغة في سائر الأعضاء بالتخليل, وبتتبع المواضع التي ينبو عنها الماء بالدلك والعرك ومجاوزة موضع الوجوب بالغسل وقد روى نعيم بن عبد الله (أنه رأى أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه ويديه حتى كاد أن يبلغ المنكبين ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين, ثم قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) متفق عليه وروى أبو حازم عنه قريبا من هذا وقال: سمعت خليلي يقول: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) متفق عليه.
مسألة:
قال: وتخليل اللحية وجملة ذلك: أن اللحية إن كانت خفيفة تصف البشرة وجب غسل باطنها وإن كانت كثيفة لم يجب غسل ما تحتها, ويستحب تخليلها وممن روى عنه أنه كان يخلل لحيته: ابن عمر وابن عباس والحسن, وأنس وابن أبي ليلى وعطاء بن السائب وقال إسحاق: إذا ترك تخليل لحيته عامدا أعاد لأن النبي -ﷺ- (كان يخلل لحيته) رواه عنه عثمان بن عفان قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وقال البخاري: هذا أصح حديث في الباب وروى أبو داود عن أنس (أن النبي -ﷺ- كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل) وعن ابن عمر, قال (كان رسول الله -ﷺ- إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها) رواه ابن ماجه وقال عطاء وأبو ثور: يجب غسل باطن شعور الوجه وإن كان كثيفا كما يجب في الجنابة ولأنه مأمور بغسل الوجه في الوضوء كما أمر بغسله في الجنابة فما وجب في أحدهما وجب في الآخر مثله ومذهب أكثر أهل العلم أن ذلك لا يجب, ولا يجب التخليل وممن رخص في ترك التخليل ابن عمر والحسن بن علي وطاوس, والنخعي والشعبي وأبو العالية, ومجاهد وأبو القاسم ومحمد بن علي, وسعيد بن عبد العزيز وابن المنذر لأن الله تعالى أمر بالغسل ولم يذكر التخليل وأكثر من حكى وضوء رسول الله -ﷺ- لم يحكه ولو كان واجبا لما أخل به في وضوء, ولو فعله في كل وضوء لنقله كل من حكى وضوءه أو أكثرهم وتركه لذلك يدل على أن غسل ما تحت الشعر الكثيف ليس بواجب لأن النبي -ﷺ- كان كثيف اللحية فلا يبلغ الماء ما تحت شعرها بدون التخليل والمبالغة وفعله للتخليل في بعض أحيانه يدل على استحباب ذلك, والله أعلم.
فصل:
قال يعقوب: سألت أحمد عن التخليل؟ فأراني من تحت لحيته فخلل بالأصابع وقال حنبل: من تحت ذقنه من أسفل الذقن يخلل جانبي لحيته جميعا بالماء, ويمسح جانبيها وباطنها وقال أبو الحارث: قال أحمد إن شاء خللها مع وجهه وإن شاء إذا مسح رأسه ويستحب أن يتعهد بقية شعور وجهه ويمسح مآقيه ليزول ما بهما من كحل أو غمص وقد روى أبو داود بإسناده عن أبي أمامة أنه (ذكر وضوء رسول الله -ﷺ- فقال: كان يمسح المأقين).
مسألة:
قال: وأخذ ماء جديد للأذنين ظاهرهما وباطنهما المستحب: أن يأخذ لأذنيه ماء جديدا قال أحمد: أنا أستحب أن يأخذ لأذنيه ماء جديدا كان ابن عمر يأخذ لأذنيه ماء جديدا وبهذا قال مالك والشافعي وقال ابن المنذر هذا الذي قالوه غير موجود في الأخبار, وقد روى أبو أمامة وأبو هريرة وعبد الله بن زيد (أن النبي -ﷺ- قال: الأذنان من الرأس) رواهن ابن ماجه, وروى ابن عباس والربيع بنت معوذ والمقدام بن معدي كرب (أن النبي -ﷺ- مسح برأسه وأذنيه مرة واحدة) رواهن أبو داود ولنا أن إفرادهما بماء جديد قد روي عن ابن عمر وقد ذهب الزهري إلى أنهما من الوجه وقال الشعبي: ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرأس وقال الشافعي وأبو ثور: ليسا من الوجه ولا من الرأس ففي إفرادهما بماء جديد خروج من بعض الخلاف, فكان أولى وإن مسحهما بماء الرأس أجزأه لأن النبي -ﷺ- فعله.
فصل:
قال المروذي: رأيت أبا عبد الله مسح رأسه ولم أره يمسح على عنقه فقلت له: ألا تمسح على عنقك؟ قال: إنه لم يرو عن النبي -ﷺ- فقلت: أليس قد روي عن أبي هريرة, قال: هو موضع الغل؟ قال: نعم ولكن هكذا يمسح النبي -ﷺ- ولم يفعله وقال أيضا: هو زيادة وذكر القاضي وغيره أن فيه رواية أخرى: أنه مستحب واحتج بعضهم أن في خبر ابن عباس: (امسحوا أعناقكم مخافة الغل) والذي وقفت عليه عن أحمد في هذا أن عبد الله قال: رأيت أبي إذا مسح رأسه وأذنيه في الوضوء مسح قفاه ووهن الخلال هذه الرواية, وقال: هي وهم وقد أنكر أحمد حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده: (رأيت رسول الله -ﷺ- يمسح رأسه حتى بلغ القذال) وهو أول القفا وذكر أن سفيان كان ينكره, وأنكره يحيى أيضا وخبر ابن عباس لا نعرفه ولم يروه أصحاب السنن.
فصل:
وذكر بعض أصحابنا من سنن الوضوء غسل داخل العينين, وروي عن ابن عمر أنه عمي من كثرة إدخال الماء في عينيه. وقال القاضي: إنما يستحب ذلك في الغسل نص عليه أحمد في مواضع وذلك لأن غسل الجنابة أبلغ فإنه يعم جميع البدن, وتغسل فيه بواطن الشعور الكثيفة وما تحت الجفنين ونحوهما وداخل العينين من جملة البدن الممكن غسله فإذا لم تجب فلا أقل من أن يكون مستحبا. والصحيح أن هذا ليس بمسنون في وضوء ولا غسل لأن النبي -ﷺ- لم يفعله, ولا أمر به وفيه ضرر وما ذكر عن ابن عمر فهو دليل على كراهته لأنه ذهب ببصره, وفعل ما يخاف منه ذهاب البصر أو نقصه من غير ورود الشرع به إذا لم يكن محرما فلا أقل من أن يكون مكروها.
مسألة:
قال وتخليل ما بين الأصابع تخليل أصابع اليدين والرجلين في الوضوء مسنون وهو في الرجلين آكد (لقول النبي -ﷺ- للقيط بن صبرة: أسبغ الوضوء وخلل الأصابع) وهو حديث صحيح, وقال المستورد وقال المستورد بن شداد: (رأيت رسول الله -ﷺ- إذا توضأ دلك أصابع رجليه بخنصره) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي, وقال: لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة ويستحب أن يخلل أصابع رجليه بخنصره لهذا الحديث ويبدأ في تخليل اليمنى من خنصرها إلى إبهامها وفي اليسرى من إبهامها إلى خنصرها لأن النبي -ﷺ- كان يحب التيمن في وضوئه وفي هذا تيمن
فصل:
ويستحب أن يعرك رجله بيده, ويتعهد عقبيه والمواضع التي يزلق عنها الماء قال أبو داود: قلت لأحمد: إذا توضأ فأدخل رجله في الماء, فأخرجها؟ قال: ينبغي أن يمر يده على رجله ويخلل أصابعه قلت: فإن لم يفعل يجزئه؟ قال: أرجو أن يجزئه من التخليل أن يحرك رجله في الماء, فإنه ربما زلق الماء عن الجسد في الشتاء قيل له: من توضأ يحرك خاتمه؟ قال: إن كان ضيقا لا بد أن يحركه وإن كان واسعا يدخل فيه الماء أجزأه وقد روى أبو رافع, رضي الله عنه أن رسول الله -ﷺ- (كان إذا توضأ حرك خاتمه) وإذا شك في وصول الماء إلى ما تحته وجب تحريكه ليتيقن وصول الماء إليه لأن الأصل عدم وصوله وإن التف بعض أصابعه على بعض وكان متصلا لم يجب فصل إحداهما من الأخرى لأنهما صارتا كأصبع واحدة وإن لم يكن ملتصقا وجب إيصال الماء إلى ما بينهما.
مسألة:
قال: وغسل الميامن قبل المياسر لا خلاف بين أهل العلم - فيما علمنا - في استحباب البداءة باليمنى وممن روى ذلك عنه أهل المدينة, وأهل العراق وأهل الشام وأصحاب الرأي, وأجمعوا على أنه لا إعادة على من بدأ بيساره قبل يمينه وأصل الاستحباب في ذلك ما روي أن النبي -ﷺ- كان يعجبه ذلك ويفعله فروت عائشة (أن النبي -ﷺ- كان يحب التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) متفق عليه وعن أبي هريرة, رضي الله عنه قال: (قال رسول الله -ﷺ-: إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم) رواهما ابن ماجه وحكى عثمان وعلي رضي الله عنهما (وضوء النبي -ﷺ-: فبدأ باليمنى قبل اليسرى) رواهما أبو داود ولا يجب ذلك لأن اليدين بمنزلة العضو الواحد وكذا الرجلان فإن الله تعالى قال: {وأيديكم..., وأرجلكم} ولم يفصل والفقهاء يسمون أعضاء الوضوء أربعة يجعلون اليدين عضوا, والرجلين عضوا ولا يجب الترتيب في العضو الواحد.
باب فرض الطهارة
مسألة:
قال: وفرض الطهارة ماء طاهر وإزالة الحدث أراد بالطاهر: الطهور وقد ذكرنا فيما مضى أن الطهارة لا تصح إلا بالماء الطهور وعنى بإزالة الحدث الاستنجاء بالماء أو بالأحجار, وينبغي أن يتقيد ذلك بحالة وجود الحدث كما تقيد اشتراط الطهارة بحالة وجوده وسمي هذين فرضين لأنهما من شرائط الوضوء وشرائط الشيء واجبة له, والواجب هو الفرض وفي إحدى الروايتين وظاهر كلام الخرقي اشتراط الاستنجاء لصحة الوضوء فلو توضأ قبل الاستنجاء لم يصح كالتيمم والرواية الثانية: يصح الوضوء قبل الاستنجاء ويستجمر بعد ذلك بالأحجار, أو يغسل فرجه بحائل بينه وبين يديه ولا يمس الفرج وهذه الرواية أصح وهي مذهب الشافعي لأنها إزالة نجاسة فلم تشترط لصحة الطهارة, كما لو كانت على غير الفرج فأما التيمم قبل الاستجمار فقال القاضي: لا يصح وجها واحدا لأن التيمم لا يرفع الحدث وإنما أبيح للصلاة, ومن عليه نجاسة يمكنه إزالتها لا تباح له الصلاة فلم تصح نية الاستباحة كالتيمم قبل الوقت وقال القاضي: فيه وجه آخر أنه يصح لأن التيمم طهارة فأشبهت طهارة الوضوء, والمنع من الإباحة لمانع آخر لا يقدح في صحة التيمم كما لو تيمم في موضع نهي عن الصلاة فيه أو تيمم من على ثوبه نجاسة أو على بدنه في غير الفرج وقال ابن عقيل لو كانت النجاسة على غير الفرج من بدنه فهو كما لو كانت على الفرج لما ذكرنا من العلة والأشبه التفريق بينهما, كما لو افترقا في طهارة الماء ولأن نجاسة الفرج سبب وجوب التيمم فجاز أن يكون بقاؤها مانعا منه بخلاف سائر النجاسات.
مسألة:
قال: والنية للطهارة يعني نية الطهارة والنية: القصد, يقال: نواك: الله بخير أي قصدك به ونويت السفر أي: قصدته وعزمت عليه والنية من شرائط الطهارة للأحداث كلها لا يصح وضوء ولا غسل ولا تيمم, إلا بها روي ذلك عن علي وبه قال ربيعة ومالك والشافعي والليث وإسحاق وأبو عبيدة وابن المنذر وقال الثوري وأصحاب الرأي: لا تشترط النية في طهارة الماء وإنما تشترط في التيمم لأن الله تعالى قال: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية, ذكر الشرائط ولم يذكر النية ولو كانت شرطا لذكرها ولأن مقتضى الأمر حصول الإجزاء بفعل المأمور به, فتقضي الآية حصول الإجزاء بما تضمنته ولأنها طهارة بالماء فلم تفتقر إلى النية كغسل النجاسة ولنا: ما روى عمر عن النبي -ﷺ- أنه قال (إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى) متفق عليه فنفى أن يكون له عمل شرعي بدون النية ولأنها طهارة عن حدث فلم تصح بغير نية, والآية حجة لنا فإن قوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} أي: للصلاة كما يقال: إذا لقيت الأمير فترجل أي: له وإذا رأيت الأسد فاحذر أي: منه وقولهم: ذكر كل الشرائط قلنا: إنما ذكر أركان الوضوء, وبين النبي -ﷺ- شرطه كآية التيمم وقولهم: مقتضى الأمر حصول الإجزاء قلنا: بل مقتضاه وجوب الفعل وهو واجب فاشترط لصحته شرط آخر بدليل التيمم وقولهم: إنها طهارة قلنا: إلا أنها عبادة, والعبادة لا تكون إلا منوية لأنها قربة إلى الله تعالى وطاعة له وامتثال لأمره, ولا يحصل ذلك بغير نية.
فصل:
ومحل النية القلب إذ هي عبارة عن القصد ومحل القصد القلب فمتى اعتقد بقلبه أجزأه, وإن لم يلفظ بلسانه وإن لم تخطر النية بقلبه لم يجزه ولو سبق لسانه إلى غير ما اعتقده لم يمنع ذلك صحة ما اعتقده بقلبه.
فصل:
وصفتها أن يقصد بطهارته استباحة شيء لا يستباح إلا بها كالصلاة والطواف ومس المصحف وينوي رفع الحدث, ومعناه إزالة المانع من كل فعل يفتقر إلى الطهارة وهذا قول من وافقنا على اشتراط النية لا نعلم بينهم فيه اختلافا فإن نوى بالطهارة ما لا تشرع له الطهارة كالتبرد والأكل والبيع والنكاح ونحوه ولم ينو الطهارة الشرعية, لم يرتفع حدثه لأنه لم ينو الطهارة ولا ما يتضمن نيتها فلم يحصل له شيء, كالذي لم يقصد شيئا وإن نوى تجديد الطهارة فتبين أنه كان محدثا فهل تصح طهارته؟ على روايتين: إحداهما تصح لأنه طهارة شرعية, فينبغي أن يحصل له ما نواه وللخبر وقياسا على ما لو نوى رفع الحدث والثانية لا تصح طهارته لأنه لم ينو رفع الحدث ولا ما تضمنه, أشبه ما لو نوى التبرد وإن نوى ما تشرع له الطهارة ولا تشترط كقراءة القرآن والأذان والنوم فهل يرتفع حدثه؟ على وجهين: أصلهما, إذا نوى تجديد الوضوء وهو محدث والأولى صحة طهارته لأنه نوى شيئا من ضرورة صحة الطهارة وهو الفضيلة الحاصلة لمن فعل ذلك وهو على طهارة, فصحت طهارته كما لو نوى بها ما لا يباح إلا بها ولأنه نوى طهارة شرعية فصحت للخبر فإن قيل: يبطل هذا بما لو نوى بطهارته ما لا تشرع له الطهارة قلنا: إن نوى طهارة شرعية, مثل إن قصد أن يأكل وهو متطهر طهارة شرعية أو قصد أن لا يزال على وضوء فهو كمسألتنا, وتصح طهارته وإن قصد بذلك نظافة أعضائه من وسخ أو طين أو غيره لم تصح طهارته لأنه لم يقصدها وإن نوى وضوءا مطلقا أو طهارة, ففيه وجهان: أصحهما صحته لأن الوضوء والطهارة إنما ينصرف إطلاقهما إلى المشروع فيكون ناويا لوضوء شرعي والوجه الثاني: لا تصح طهارته في هذه المواضع كلها لأنه قصد ما يباح بدون الطهارة أشبه قاصد الأكل, والطهارة تنقسم إلى ما هو مشروع وإلى غيره فلم تصح مع التردد وإن نوى بطهارته رفع الحدث وتبريد أعضائه صحت طهارته لأن التبريد يحصل بدون النية, فلم يؤثر هذا الاشتراك كما لو قصد بالصلاة الطاعة والخلاص من خصمه وإن قصد الجنب بالغسل اللبث في المسجد ارتفع حدثه لأنه شرط لذلك.
فصل:
ويجب تقديم النية على الطهارة كلها لأنها شرط لها فيعتبر وجودها في جميعها, فإن وجد شيء من واجبات الطهارة قبل النية لم يعتد به ويستحب أن ينوي قبل غسل كفيه لتشمل النية مسنون الطهارة ومفروضها فإن غسل كفيه قبل النية كان كمن لم يغسلهما ويجوز تقديم النية على الطهارة بالزمن اليسير كقولنا في الصلاة, وإن طال الفصل لم يجزه ذلك ويستحب استصحاب ذكر النية إلى آخر طهارته لتكون أفعاله مقترنة بالنية فإن استصحب حكمها أجزأه ومعناه: أن لا ينوي قطعها وإن عزبت عن خاطره وذهل عنها, لم يؤثر ذلك في قطعها لأن ما اشترطت له النية لا يبطل بعزوبها والذهول عنها كالصلاة والصيام وإن قطع نيته في أثنائها مثل أن ينوي أن لا يتم طهارته, أو إن نوى جعل الغسل لغير الطهارة لم يبطل ما مضى من طهارته لأنه وقع صحيحا فلم يبطل بقطع النية بعده, كما لو نوى قطع النية بعد الفراغ من الوضوء وما أتى به من الغسل بعد قطع النية لم يعتد به لأنه وجد بغير شرطه فإن أعاد غسله بنية قبل طول الفصل صحت طهارته لوجود أفعال الطهارة كلها منوية متوالية وإن طال الفصل, انبنى ذلك على وجوب الموالاة في الوضوء فإن قلنا: هي واجبة بطلت طهارته لفواتها وإن قلنا: هي غير واجبة أتمها.
فصل:
وإن شك في النية في أثناء الطهارة لزمه استئنافها لأنها عبادة شك في شرطها وهو فيها, فلم تصح كالصلاة إلا أن النية إنما هي القصد ولا يعتبر مقارنتها, فمهما علم أنه جاء ليتوضأ وأراد فعل الوضوء مقارنا له أو سابقا عليه قريبا منه فقد وجدت النية وإن شك في وجود ذلك في أثناء الطهارة لم يصح ما فعله منها وهكذا إن شك في غسل عضو أو مسح رأسه, كان حكمه حكم من لم يأت به لأن الأصل عدمه إلا أن يكون ذلك وهما كالوسواس فلا يلتفت إليه وإن شك في شيء من ذلك بعد فراغه من الطهارة لم يلتفت إلى شكه لأنه شك في العبادة بعد فراغه منها, أشبه الشك في شرط الصلاة ويحتمل أن تبطل الطهارة لأن حكمها باق بدليل بطلانها بمبطلاتها, بخلاف الصلاة والأول أصح لأنها كانت محكوما بصحتها قبل شكه فلا يزول ذلك بالشك كما لو شك في وجود الحدث المبطل.
فصل:
وإذا وضأه غيره اعتبرت النية من المتوضئ دون الموضئ لأن المتوضئ هو المخاطب بالوضوء, والوضوء يحصل له بخلاف الموضئ فإنه آلة لا يخاطب به ولا يحصل له فأشبه الإناء أو حامل الماء إليه.
فصل:
وإذا توضأ وصلى الظهر, ثم أحدث وتوضأ وصلى العصر ثم علم أنه ترك مسح رأسه أو واجبا في الطهارة في أحد الوضوءين, لزمه إعادة الوضوء والصلاتين معا لأنه تيقن بطلان أحد الصلاتين لا بعينها وكذا لو ترك واجبا في وضوء إحدى الصلوات الخمس ولم يعلم عينه لزمه إعادة الوضوء والصلوات الخمس لأنه يعلم أن عليه صلاة من خمس لا يعلم عينها فلزمته, كما لو نسي صلاة في يوم لا يعلم عينها وإن كان الوضوء تجديدا لا عن حدث وقلنا إن التجديد لا يرفع الحدث, فكذلك لأن وجوده كعدمه وإن قلنا: يرفع الحدث لم يلزمه إلا الأولى لأن الطهارة الأولى إن كانت صحيحة فصلاته كلها صحيحة لأنها باقية لم تبطل بالتجديد وإن كانت غير صحيحة فقد ارتفع الحدث بالتجديد.
مسألة:
قال: وغسل الوجه, وهو من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن وإلى أصول الأذنين ويتعاهد المفصل وهو ما بين اللحية والأذن غسل الوجه واجب بالنص والإجماع, وقوله: من منابت شعر الرأس أي في غالب الناس ولا يعتبر كل واحد بنفسه, بل لو كان أجلح ينحسر شعره عن مقدم رأسه غسل إلى حد منابت الشعر في الغالب والأفرع الذي ينزل شعره إلى الوجه, يجب عليه غسل الشعر الذي ينزل عن حد الغالب وذهب الزهري إلى أن الأذنين من الوجه يغسلان معه لقوله عليه السلام: (سجد وجهي لله الذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره) أضاف السمع إليه كما أضاف البصر وقال مالك ما بين اللحية والأذن ليس من الوجه ولا يجب غسله لأن الوجه ما تحصل به المواجهة وهذا لا يواجه به قال ابن عبد البر لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بقول مالك هذا ولنا على الزهري قول النبي -ﷺ-: (الأذنان من الرأس) وفي حديث ابن عباس والربيع, والمقدام (أن النبي -ﷺ- مسح أذنيه مع رأسه) وقد ذكرناهما ولم يحك أحد أنه غسلهما مع الوجه وإنما أضافهما إلى الوجه لمجاورتهما له والشيء يسمى باسم ما جاوره ولنا على مالك أن هذا من الوجه في حق من لا لحية له, فكان منه في حق من له لحية كسائر الوجه وقوله: إن الوجه ما يحصل به المواجهة قلنا: وهذا يحصل به المواجهة في الغلام ويستحب تعاهد هذا الموضع بالغسل لأنه مما يغفل الناس عنه قال المروذي: أراني أبو عبد الله ما بين أذنه وصدغه وقال: هذا موضع ينبغي أن يتعاهد وهذا الموضع مفصل اللحي من الوجه, فلذلك سماه الخرقي مفصلا.
فصل:
ويدخل في الوجه العذار وهو الشعر الذي على العظم الناتئ الذي هو سمت صماخ الأذن وما انحط عنه إلى وتد الأذن والعارض: وهو ما نزل عن حد العذار, وهو الشعر الذي على اللحيين قال الأصمعي والمفضل بن سلمة: ما جاوز وتد الأذن عارض والذقن: مجمع اللحيين فهذه الشعور الثلاثة من الوجه يجب غسلها معه وكذلك الشعور الأربعة وهي الحاجبان وأهداب العينين, والعنفقة والشارب فأما الصدغ وهو الشعر الذي بعد انتهاء العذار, وهو ما يحاذي رأس الأذن وينزل عن رأسها قليلا والنزعتان وهما ما انحسر عنه الشعر من الرأس متصاعدا في جانبي الرأس, فهما من الرأس وذكر بعض أصحابنا في الصدغ وجها آخر أنه من الوجه لأنه متصل بالعذار أشبه العارض, وليس بصحيح فإن الربيع بنت معوذ قالت: (رأيت رسول الله -ﷺ- توضأ فمسح رأسه ومسح ما أقبل منه وما أدبر وصدغيه وأذنيه, مرة واحدة) فمسحه مع الرأس ولم ينقل أنه غسله مع الوجه ولأنه شعر متصل بشعر الرأس لا يختص الكبير فكان من الرأس, كسائر نواحيه وما ذكره من القياس طردي لا معنى تحته وليس هو أولى من قياسنا فأما التحذيف, وهو الشعر الداخل في الوجه ما بين انتهاء العذار والنزعة فهو من الوجه ذكره ابن حامد ويحتمل أنه من الرأس لأنه شعر متصل به والأول أصح لأن محله لو لم يكن عليه شعر لكان من الوجه, فكذلك إذا كان عليه شعر كسائر الوجه.
فصل:
وهذه الشعور كلها إن كانت كثيفة لا تصف البشرة أجزأه غسل ظاهرها وإن كانت تصف البشرة, وجب غسلها معه وإن كان بعضها كثيفا وبعضها خفيفا وجب غسل بشرة الخفيف معه وظاهر الكثيف أومأ إليه أحمد -رحمه الله- تعالى ومن أصحابنا من ذكر في الشارب والعنفقة, والحاجبين وأهداب العينين ولحية المرأة, وجها آخر في وجوب غسل باطنها وإن كانت كثيفة لأنها لا تستر ما تحتها عادة وإن وجد ذلك كان نادرا, فلا يتعلق به حكم وهذا مذهب الشافعي ولنا أنه شعر ساتر لما تحته أشبه لحية الرجل ودعوى الندرة في الحاجبين والشارب والعنفقة, غير مسلم بل العادة ذلك.
فصل:
ومتى غسل هذه الشعور ثم زالت عنه, أو انقلعت جلدة من يديه أو قص ظفره أو انقلع لم يؤثر في طهارته قال يونس بن عبيد ما زاده ذلك إلا طهارة وهذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن ابن جرير أن ظهور بشرة الوجه بعد غسل شعره يوجب غسلها, قياسا على ظهور قدم الماسح على الخف ولا يصح لأن الفرض انتقل إلى الشعر أصلا بدليل أنه لو غسل البشرة دون الشعر, لم يجزه بخلاف الخفين فإنهما بدل يجزئ غسل الرجلين دونهما.
فصل:
ويجب غسل ما استرسل من اللحية وقال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه: لا يجب غسل ما نزل منها عن حد الوجه طولا وعرضا لأنه شعر خارج عن محل الفرض فأشبه ما نزل من شعر الرأس عنه وروي عن أبي حنيفة أنه لا يجب غسل اللحية الكثيفة لأن الله تعالى إنما أمر بغسل الوجه, وهو اسم للبشرة التي تحصل بها المواجهة والشعر ليس ببشرة وما تحته لا تحصل به المواجهة وقد قال الخلال الذي ثبت عن أبي عبد الله في اللحية أنه لا يغسلها وليست من الوجه ألبتة قال: وروى بكر بن محمد, عن أبيه قال: سألت أبا عبد الله أيما أعجب إليك غسل اللحية أو التخليل؟ فقال: غسلها ليس من السنة وإن لم يخلل أجزأه وهذا ظاهر مثل مذهب أبي حنيفة في الرواية التي ذكرت عنه ويحتمل أنه أراد ما خرج عن حد الوجه منها, وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي والمشهور عن أبي حنيفة أن عليه غسل الربع من اللحية بناء على أصله في مسح الرأس وظاهر مذهب أحمد الذي عليه أصحابه, وجوب غسل اللحية كلها مما هو نابت في محل الفرض سواء حاذى محل الفرض أو تجاوزه وهو ظاهر كلام الشافعي وقول أحمد في نفي الغسل, أراد به غسل باطنها أي غسل باطنها ليس من السنة وقد روي (أن النبي -ﷺ- رأى رجلا قد غطى لحيته في الصلاة, فقال: اكشف وجهك فإن اللحية من الوجه) ولأنه نابت في محل الفرض يدخل في اسمه ظاهرا فأشبه اليد الزائدة ولأنه يواجه به فيدخل في اسم الوجه, ويفارق شعر الرأس فإن النازل عنه لا يدخل في اسمه والخف لا يجب مسح جميعه, بخلاف ما نحن فيه.
فصل:
يستحب أن يزيد في ماء الوجه لأن فيه غضونا وشعورا ودواخل وخوارج ليصل الماء إلى جميعه وقد روى علي, رضي الله عنه (في صفة وضوء رسول الله -ﷺ- قال: ثم أدخل يديه في الإناء جميعا فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بهما على وجهه ثم الثانية, ثم الثالثة مثل ذلك ثم أخذ بكفه اليمنى قبضة من ماء فتركها تستن على وجهه) رواه أبو داود. وقوله: [ تستن] أي: تسيل وتنصب قال أحمد -رحمه الله-: يؤخذ للوجه أكثر مما يؤخذ لعضو من الأعضاء وقال محمد بن الحكم: كره أبو عبد الله أن يأخذ الماء ثم يصبه, ثم يغسل وجهه وقال: هذا مسح ولكنه يغسل غسلا وروى أبو داود عن أنس (أن رسول الله -ﷺ- كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه, وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل).
مسألة:
قال: والفم والأنف من الوجه يعني أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الطهارتين جميعا: الغسل والوضوء فإن غسل الوجه واجب فيهما هذا المشهور في المذهب وبه قال ابن المبارك وابن أبي ليلى وإسحاق وحكي عن عطاء وروي عن أحمد رواية أخرى في الاستنشاق وحده أنه واجب قال القاضي: الاستنشاق واجب في الطهارتين, رواية واحدة وبه قال أبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر لأن النبي -ﷺ- قال: (من توضأ فليستنثر) وفي رواية قال: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم ليستنثر) متفق عليه ولمسلم: (من توضأ فليستنشق) وعن ابن عباس مرفوعا (استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثا) وهذا أمر يقتضي الوجوب ولأن الأنف لا يزال مفتوحا, وليس له غطاء يستره بخلاف الفم وقال غير القاضي عن أحمد رواية أخرى: إن المضمضة والاستنشاق واجبان في الكبرى, مسنونان في الصغرى وهذا مذهب الثوري وأصحاب الرأي لأن الكبرى يجب فيها غسل كل ما أمكن من البدن كبواطن الشعور الكثيفة ولا يمسح فيها عن الحوائل فوجبا فيها, بخلاف الصغرى وقال مالك والشافعي لا يجبان في الطهارتين وإنما هما مسنونان فيهما وروي ذلك عن الحسن والحكم وحماد وقتادة وربيعة ويحيى الأنصاري والليث والأوزاعي لأن النبي -ﷺ- قال: (عشر من الفطرة) وذكر منها المضمضة والاستنشاق والفطرة: السنة, وذكره لهما من الفطرة يدل على مخالفتهما لسائر الوضوء ولأن الفم والأنف عضوان باطنان فلا يجب غسلهما كباطن اللحية وداخل العينين ولأن الوجه ما تحصل به المواجهة ولا تحصل المواجهة بهما ولنا ما روت عائشة, رضي الله عنها أن رسول الله -ﷺ- قال: (المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه) رواه أبو بكر في الشافي بإسناده عن ابن المبارك عن ابن جريج عن عروة, عن عائشة وأخرجه الدارقطني في سننه ولأن كل من وصف وضوء رسول الله -ﷺ- مستقصيا ذكر أنه تمضمض واستنشق, ومداومته عليهما تدل على وجوبهما لأن فعله يصلح أن يكون بيانا وتفصيلا للوضوء المأمور به في كتاب الله وكونهما من الفطرة لا ينفي وجوبهما لاشتمال الفطرة على الواجب والمندوب, ولذلك ذكر فيها الختان وهو واجب.
فصل:
والمضمضة: إدارة الماء في الفم والاستنشاق: اجتذاب الماء بالنفس إلى باطن الأنف والاستنثار: إخراج الماء من أنفه ولكن يعبر بالاستنثار عن الاستنشاق لكونه من لوازمه ولا يجب إدارة الماء في جميع الفم ولا إيصال الماء إلى جميع باطن الأنف, وإنما ذلك مبالغة مستحبة في حق غير الصائم وقد ذكرناه في سنن الطهارة وإذا أدار الماء في فيه فهو مخير بين مجه وبلعه لأن المقصود قد حصل به فإن جعله في فيه ينوي رفع الحدث الأصغر, ثم ذكر أنه جنب فنوى رفع الحدثين ارتفعا جميعا لأن الماء لا يثبت له حكم الاستعمال إلا بعد الانفصال, ولو كان الماء قد لبث في فيه حتى تحلل من ريقه ماء يغيره لم يمنع لأن التغير في محل الإزالة لا يمنع أشبه ما لو تغير الماء على عضوه بعجين عليه.
فصل:
ويستحب أن يتمضمض ويستنشق بيمناه ثم يستنثر بيسراه لما روي عن عثمان, رضي الله عنه أنه (توضأ فدعا بماء فغسل يديه ثلاثا ثم غرف بيمينه, ثم رفعها إلى فيه فمضمض واستنشق بكف واحدة واستنثر بيسراه, وفعل ذلك ثلاثا - ثم ذكر سائر الوضوء - ثم قال: إن النبي -ﷺ- توضأ لنا كما توضأت لكم فمن كان سائلا عن وضوء رسول الله -ﷺ- فهذا وضوءه) رواه سعيد بن منصور بإسناده وعن علي, رضي الله عنه (أنه أدخل يده اليمنى في الإناء فملأ كفه فتمضمض واستنشق, ونثر بيده اليسرى ففعل ذلك ثلاثا ثم قال: هذا وضوء نبي الله -ﷺ-) رواه أبو بكر في الشافي, والنسائي ويستحب أن يتمضمض ويستنشق من كف واحدة يجمع بينهما قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل: أيما أعجب إليك المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة أو كل واحدة منها على حدة؟ قال: بغرفة واحدة وذلك لما ذكرنا من حديث عثمان وعلي, رضي الله عنهما وفي حديث عبد الله بن زيد (أن رسول الله -ﷺ- أدخل يديه في التور فتمضمض واستنثر ثلاث مرات يمضمض ويستنثر من غرفة واحدة) رواه سعيد وفي لفظ: (تمضمض واستنثر ثلاثا ثلاثا من غرفة واحدة) رواه البخاري وفي لفظ: (فتمضمض واستنشق من كف واحدة فعل ذلك ثلاثا) متفق عليه وفي لفظ (أنه مضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات) متفق عليه وفي لفظ: (فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من كف واحدة) رواه الأثرم, وابن ماجه فإن شاء المتوضئ تمضمض واستنشق من ثلاث غرفات وإن شاء فعل ذلك ثلاثا بغرفة واحدة لما ذكرنا من الأحاديث وإن أفرد المضمضة بثلاث غرفات والاستنشاق بثلاث, جاز لأنه قد روي في حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده, عن النبي -ﷺ- (أنه فصل بين المضمضة والاستنشاق) رواه أبو داود ولأن الكيفية في الغسل غير واجبة.
فصل:
ولا يجب الترتيب بينهما وبين غسل بقية الوجه لأنهما من أجزائه ولكن المستحب أن يبدأ بهما قبل الوجه لأن كل من وصف وضوء رسول الله -ﷺ- ذكر أنه بدأ بهما إلا شيئا نادرا وهل يجب الترتيب والموالاة بينهما وبين سائر الأعضاء غير الوجه؟ على روايتين: إحداهما تجب وهو ظاهر كلام الخرقي لأنهما من الوجه, فوجب غسلهما قبل غسل اليدين للآية وقياسا على سائر أجزائه والثانية: لا تجب بل لو تركهما في وضوئه وصلى تمضمض واستنشق وأعاد الصلاة ولم يعد الوضوء لما روى المقدام بن معدي كرب (أن رسول الله -ﷺ- أتى بوضوء, فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا, ثم تمضمض واستنشق) رواه أبو داود ولأن وجوبهما بغير القرآن وإنما وجب الترتيب بين الأعضاء المذكورة لأن في الآية ما يدل على إرادة الترتيب ولم يوجد ذلك فيهما قيل لأحمد فنسي المضمضة وحدها؟ قال: الاستنشاق عندي آكد وذلك لصحة الأخبار الواردة فيه بخصوصه قال أصحابنا: وهل يسميان فرضا مع وجوبهما؟ على روايتين وهذا ينبني على اختلاف الروايتين في الواجب, هل يسمى فرضا أو لا؟ والصحيح: أنه يسمى فرضا فيسميان ها هنا فرضا والله أعلم.
مسألة:
قال: وغسل اليدين إلى المرفقين ويدخل المرفقين في الغسل لا خلاف بين علماء الأمة في وجوب غسل اليدين في الطهارة, وقد نص الله تعالى عليه بقوله سبحانه: {وأيديكم إلى المرافق} وأكثر العلماء على أنه يجب إدخال المرفقين في الغسل منهم عطاء ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وقال بعض أصحاب مالك وابن داود: لا يجب وحكي ذلك عن زفر لأن الله تعالى أمر بالغسل إليهما, وجعلهما غايته بحرف إلى وهو لانتهاء الغاية فلا يدخل المذكور بعده, كقوله تعالى {ثم أتموا الصيام إلى الليل} ولنا ما روى جابر قال: (كان النبي -ﷺ- إذا توضأ أدار الماء إلى مرفقيه) وهذا بيان للغسل المأمور به في الآية فإن " إلى " تستعمل بمعنى مع, قال الله تعالى: {ويزدكم قوة إلى قوتكم} أي مع قوتكم {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} و {من أنصاري إلى الله} فكان فعله مبينا وقولهم: إن " إلى " للغاية قلنا: وقد تكون بمعنى مع قال المبرد: إذا كان الحد من جنس المحدود دخل فيه كقولهم: بعت هذا الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف.
فصل:
وإن خلق له إصبع زائدة, أو يد زائدة في محل الفرض وجب غسلها مع الأصلية لأنها نابتة فيه أشبهت الثؤلول, وإن كانت نابتة في غير محل الفرض كالعضد أو المنكب لم يجب غسلها سواء كانت قصيرة أو طويلة لأنها في غير محل الفرض, فأشبهت شعر الرأس إذا نزل عن الوجه وهذا قول ابن حامد وابن عقيل وقال القاضي: إن كان بعضها يحاذي محل الفرض غسل ما يحاذيه منها والأول أصح واختلف أصحاب الرأي في ذلك كنحو مما ذكرنا وإن لم يعلم الأصلية منهما وجب غسلهما جميعا لأن غسل إحداهما واجب, ولا يخرج عن عهدة الواجب يقينا إلا بغسلهما فوجب غسلهما كما لو تنجست إحدى يديه ولم يعلم عينها.
فصل:
وإن انقلعت جلدة من غير محل الفرض, حتى تدلت من محل الفرض وجب غسلها لأن أصلها في محل الفرض فأشبهت الإصبع الزائدة, وإن تقلعت من محل الفرض حتى صارت متدلية من غير محل الفرض لم يجب غسلها قصيرة كانت أو طويلة بلا خلاف لأنها في غير محل الفرض وإن تعلقت من أحد المحلين فالتحم رأسها في الآخر, وبقي وسطها متجافيا صارت كالنابتة في المحلين يجب غسل ما حاذى محل الفرض منها من ظاهرها وباطنها, وغسل ما تحتها من محل الفرض.
فصل:
وإن قطعت يده من دون المرفق غسل ما بقي من محل الفرض وإن قطعت من المرفق غسل العظم الذي هو طرف العضد لأن غسل العظمين المتلاقيين من الذراع والعضد واجب فإذا زال أحدهما غسل الآخر وإن كان من فوق المرفقين سقط الغسل لعدم محله فإن كان أقطع اليدين فوجد من يوضئه متبرعا لزمه ذلك لأنه قادر عليه وإن لم يجد من يوضئه إلا بأجر يقدر عليه, لزمه أيضا كما يلزمه شراء الماء وقال ابن عقيل يحتمل أن لا يلزمه كما لو عجز عن القيام في الصلاة لم يلزمه استئجار من يقيمه ويعتمد عليه وإن عجز عن الأجر أو لم يقدر على من يستأجره, صلى على حسب حاله كعادم الماء والتراب وإن وجد من ييممه ولم يجد من يوضئه, لزمه التيمم كعادم الماء إذا وجد التراب وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافا.
فصل:
إذا كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء إلى ما تحته فقال ابن عقيل لا تصح طهارته حتى يزيله لأنه محل من اليد استتر بما ليس من خلقة الأصل سترا منع إيصال الماء إليه, مع إمكان إيصاله وعدم الضرر به فأشبه ما لو كان عليه شمع أو غيره ويحتمل أن لا يلزمه ذلك لأن هذا يستر عادة فلو كان غسله واجبا لبينه النبي -ﷺ- لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه, وقد عاب النبي -ﷺ- عليهم كونهم يدخلون عليه قلحا ورفع أحدهم بين أنملته وظفره يعني أن وسخ أرفاغهم تحت أظفارهم يصل إليه رائحة نتنها فعاب عليهم نتن ريحها, لا بطلان طهارتهم ولو كان مبطلا للطهارة كان ذلك أهم من نتن الريح فكان أحق بالبيان ولأن هذا يستتر عادة, أشبه ما يستره الشعر من الوجه.
فصل:
ومن كان يتوضأ من ماء يسير يغترف منه بيده فغرف منه عند غسل يديه لم يؤثر ذلك في الماء وقال بعض أصحاب الشافعي: يصير الماء مستعملا بغرفه منه لأنه موضع غسل اليد, وهو ناو للوضوء بغسلها فأشبه ما لو غمسها في الماء ينوي غسلها فيه ولنا أن في حديث عبد الله بن زيد (في صفة وضوء رسول الله -ﷺ- أنه دعا بماء فذكر وضوءه - إلى أن قال - وغسل وجهه ثلاثا, ثم أدخل يده فاستخرجها وغسل يديه إلى المرفقين مرتين) وفي حديث عثمان: (ثم غرف بيده اليمنى فصب على ذراعه اليمنى فغسلها إلى المرفقين ثلاثا ثم غرف بيمينه فغسل يده اليسرى) رواهما سعيد وحديث عبد الله بن زيد رواه مسلم, وغيره وكل من حكى وضوء رسول الله -ﷺ- لم يحك أنه تحرز من اغتراف الماء بيده في موضع غسلها ولو كان هذا يفسد الماء كان النبي -ﷺ- أحق بمعرفته, ولوجب عليه بيانه لمسيس الحاجة إليه إذ كان هذا لا يعرف بدون البيان ولا يتوقاه إلا متحذلق, وما ذكره لا يصح لأن المغترف لم يقصد بغمس يده إلا الاغتراف دون غسلها فأشبه من يغوص في البئر لترقية الدلو وعليه جنابة لا يقصد غير ترقيته ونية الاغتراف عارضت نية الطهارة فصرفتها والله أعلم.
مسألة:
قال: ومسح الرأس لا خلاف في وجوب مسح الرأس, وقد نص الله تعالى عليه بقوله {فامسحوا برءوسكم} واختلف في قدر الواجب فروي عن أحمد وجوب مسح جميعه في حق كل أحد وهو ظاهر كلام الخرقي ومذهب مالك وروي عن أحمد يجزئ مسح بعضه قال أبو الحارث قلت لأحمد فإن مسح برأسه وترك بعضه؟ قال: يجزئه ثم قال: ومن يمكنه أن يأتي على الرأس كله وقد نقل عن سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه, وابن عمر مسح اليافوخ وممن قال بمسح البعض الحسن والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي إلا أن الظاهر عن أحمد -رحمه الله- في حق الرجل, وجوب الاستيعاب وأن المرأة يجزئها مسح مقدم رأسها قال الخلال العمل في مذهب أحمد أبي عبد الله أنها إن مسحت مقدم رأسها أجزأها وقال مهنا: قال أحمد: أرجو أن تكون المرأة في مسح الرأس أسهل قلت له: ولم؟ قال: كانت عائشة تمسح مقدم رأسها واحتج من أجاز مسح البعض بأن المغيرة بن شعبة روى (أن النبي -ﷺ- مسح بناصيته وعمامته) (وإن عثمان مسح مقدم رأسه بيده مرة واحدة ولم يستأنف له ماء جديدا, حين حكى وضوء النبي -ﷺ-) رواه سعيد ولأن من مسح بعض رأسه يقال: مسح برأسه كما يقال: مسح برأس اليتيم وقبل رأسه وزعم بعض من ينصر ذلك أن الباء للتبعيض فكأنه قال: وامسحوا بعض رءوسكم, ولنا قول الله تعالى: {وامسحوا برءوسكم} والباء للإلصاق فكأنه قال: وامسحوا رءوسكم فيتناول الجميع كما قال في التيمم: {فامسحوا بوجوهكم} وقولهم: " الباء للتبعيض " غير صحيح ولا يعرف أهل العربية ذلك, قال ابن برهان: من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه وحديث المغيرة يدل على جواز المسح على العمامة ونحن نقول به ولأن النبي -ﷺ- لما توضأ مسح رأسه كله وهذا يصلح أن يكون مبينا للمسح المأمور به, وما ذكروه من اللفظ مجاز لا يعدل إليه عن الحقيقة إلا بدليل.
فصل:
وإذا قلنا بجواز مسح البعض فمن أي موضع مسح أجزأه لأن الجميع رأس إلا أنه لا يجزئ مسح الأذنين عن الرأس لأنهما تبع, فلا يجتزئ بهما عن الأصل والظاهر عن أبي عبد الله أنه لا يجب مسحهما وإن وجب الاستيعاب لأن الرأس عند إطلاق لفظه إنما يتناول ما عليه الشعر واختلف أصحابنا في قدر البعض المجزئ, فقال القاضي: قدر الناصية لحديث المغيرة أن النبي -ﷺ- مسح ناصيته وحكى أبو الخطاب وبعض أصحاب الشافعي عن أحمد: أنه لا يجزئ إلا مسح أكثره لأن الأكثر ينطلق عليه اسم الشيء الكامل وقال أبو حنيفة يجزئ مسح ربعه وقال الشافعي يجزئ مسح ما يقع عليه الاسم, وأقله ثلاث شعرات وحكي عنه: لو مسح ثلاث شعرات وحكي عنه: لو مسح شعرة أجزأه, لوقوع الاسم عليها ووجه ما قاله القاضي: إن فعل النبي -ﷺ- يصلح بيانا لما أمر به فيحمل عليه.
فصل:
والمستحب في مسح الرأس أن يبل يديه ثم يضع طرف إحدى سبابتيه على طرف الأخرى ويضعهما على مقدم رأسه ويضع الإبهامين على الصدغين, ثم يمر يديه إلى قفاه ثم يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه كما روى عبد الله بن زيد (في وصف وضوء رسول الله -ﷺ- قال: فمسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر, بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه) متفق عليه وكذلك وصف المقدام بن معدي كرب رواه أبو داود فإن كان ذا شعر يخاف أن ينتفش برد يديه لم يردهما نص عليه أحمد فإنه قيل له: من له شعر إلى منكبيه, كيف يمسح في الوضوء؟ فأقبل أحمد بيديه على رأسه مرة وقال: هكذا كراهية أن ينتشر شعره يعني أنه يمسح إلى قفاه ولا يرد يديه قال أحمد حديث على هكذا وإن شاء مسح كما روي عن الربيع (أن رسول الله -ﷺ- توضأ عندها, فمسح رأسه كله من فرق الشعر كل ناحية لمصب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته) رواه أبو داود وسئل أحمد كيف تمسح المرأة؟ فقال: هكذا ووضع يده على وسط رأسه ثم جرها إلى مقدمه ثم رفعها فوضعها حيث منه بدأ, ثم جرها إلى مؤخره وكيف مسح بعد استيعاب قدر الواجب أجزأه.
فصل:
ولا يسن تكرار مسح الرأس في الصحيح من المذهب وهو قول أبي حنيفة ومالك وروي ذلك عن ابن عمر وابنه سالم والنخعي ومجاهد وطلحة بن مصرف والحكم قال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله -ﷺ- ومن بعدهم وعن أحمد أنه يسن تكراره ويحتمله كلام الخرقي لقوله الثلاث أفضل وهو مذهب الشافعي وروي عن أنس قال ابن عبد البر: كلهم يقول: مسح الرأس مسحة واحدة وقال الشافعي: يمسح برأسه ثلاثا لأن أبا داود روى عن شقيق بن سلمة قال: (رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثا, ومسح برأسه ثلاثا ثم قال: رأيت رسول الله -ﷺ- فعل مثل هذا) وروي مثل ذلك عن غير واحد من أصحاب رسول الله -ﷺ- وروى عثمان وعلي وابن عمر, وأبو هريرة وعبد الله بن أبي أوفى وأبو مالك, والربيع وأبي بن كعب أن رسول الله -ﷺ- (توضأ ثلاثا ثلاثا) وفي حديث أبي, قال: (هذا وضوئي ووضوء المرسلين قبلي) رواه ابن ماجه ولأن الرأس أصل في الطهارة فسن تكرارها فيه كالوجه ولنا (أن عبد الله بن زيد وصف وضوء رسول الله -ﷺ- قال: ومسح برأسه مرة واحدة) متفق عليه وروي عن (علي رضي الله عنه أنه توضأ ومسح برأسه مرة واحدة وقال: هذا وضوء النبي -ﷺ- من أحب أن ينظر إلى طهور رسول الله -ﷺ- فلينظر إلى هذا) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (وكذلك وصف عبد الله بن أبي أوفى وابن عباس, وسلمة بن الأكوع والربيع كلهم, قالوا: ومسح برأسه مرة واحدة) وحكايتهم لوضوء النبي -ﷺ- إخبار عن الدوام ولا يداوم إلا على الأفضل الأكمل وحديث ابن عباس حكاية وضوء رسول الله -ﷺ- في الليل حال خلوته, ولا يفعل في تلك الحال إلا الأفضل ولأنه مسح في طهارة فلم يسن تكراره كالمسح في التيمم, والمسح على الجبيرة وسائر المسح ولم يصح من أحاديثهم شيء صريح قال أبو داود: أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا ثلاثا, وقالوا فيها: ومسح برأسه ولم يذكروا عددا كما ذكروا في غيره والحديث الذي ذكر فيه: مسح رأسه ثلاثا رواه يحيى بن آدم, وخالفه وكيع فقال: توضأ ثلاثا فقط والصحيح عن عثمان أنه (توضأ ثلاثا ثلاثا ومسح رأسه ولم يذكر عددا) هكذا رواه البخاري ومسلم قال أبو داود: وهو الصحيح ومن روى عنه ذلك سوى عثمان, فلم يصح فإنهم الذين رووا أحاديثنا وهي صحاح فيلزم من ذلك ضعف ما خالفها, والأحاديث التي ذكروا فيها أن النبي -ﷺ- توضأ ثلاثا ثلاثا أرادوا بها ما سوى المسح فإن رواتها حين فصلوا قالوا: ومسح برأسه مرة واحدة والتفصيل يحكم به على الإجمال ويكون تفسيرا له ولا يعارض به, كالخاص مع العام وقياسهم منقوض بالتيمم فإن قيل يجوز أن يكون النبي -ﷺ- قد مسح مرة ليبين الجواز ومسح ثلاثا ثلاثا ليبين الأفضل, كما فعل في الغسل فنقل الأمران نقلا صحيحا من غير تعارض بين الروايات قلنا: قول الراوي: هذا طهور رسول الله -ﷺ- يدل على أنه طهوره على الدوام ولأن الصحابة رضي الله عنهم, إنما ذكروا صفة وضوء رسول الله -ﷺ- لتعريف سائلهم ومن حضرهم كيفية وضوئه في دوامه فلو شاهدوا وضوءه على صفة أخرى لم يطلقوا هذا الإطلاق الذي يفهم منه أنهم لم يشاهدوا غيره لأن ذلك يكون تدليسا وإيهاما بغير الصواب فلا يظن ذلك بهم, وتعين حمل حال الراوي لغير الصحيح على الغلط لا غير ولأن الرواة إذا رووا حديثا واحدا عن شخص واحد فاتفق الحفاظ منهم على صفة وخالفهم فيها واحد, حكموا عليه بالغلط وإن كان ثقة حافظا فكيف إذا لم يكن معروفا بذلك,
فصل:
إذا وصل الماء إلى بشرة الرأس ولم يمسح على الشعر لم يجزئه لأن الفرض انتقل إليه, فلم يجز مسح غيره كما لو أوصل الماء إلى باطن اللحية ولم يغسل ظاهرها وإن نزل شعره عن منابت شعر الرأس فمسح على النازل من منابته, لم يجزئه لأن الرأس ما ترأس وعلا ولو رد هذا النازل وعقده على رأسه لم يجزئه المسح عليه لأنه ليس من الرأس وإنما هو نازل رده إلى أعلاه ولو نزل عن منبته ولم ينزل عن محل الفرض فمسح عليه أجزأه لأنه شعر على محل الفرض, فأشبه القائم على محله ولأن هذا لا بد منه لكل ذي شعر ولو خضب رأسه بما يستره أو طينه لم يجزئه المسح على الخضاب والطين نص عليه في الخضاب لأنه لم يمسح على محل الفرض, فأشبه ما لو ترك على رأسه خرقة فمسح عليها والله أعلم.
فصل:
ويمسح رأسه بماء جديد غير ما فضل عن ذراعيه وهو قول أبي حنيفة والشافعي والعمل عليه عند أكثر أهل العلم قاله الترمذي وجوزه الحسن وعروة والأوزاعي لما ذكرنا من حديث عثمان ويتخرج لنا مثل ذلك إذا قلنا: إن المستعمل لا يخرج عن طهوريته سيما الغسلة الثانية والثالثة ولنا: ما روى عبد الله بن زيد, قال: (مسح رسول الله -ﷺ- رأسه بماء غير فضل يديه) وكذلك حكى علي ومعاوية رواهن أبو داود قال الترمذي: وقد روي من غير وجه (أن النبي -ﷺ- أخذ لرأسه ماء جديدا) ولأن البلل الباقي في يده مستعمل فلا يجزئ المسح به, كما لو فصله في إناء ثم استعمله.
فصل:
فإن غسل رأسه بدل مسحه فعلى وجهين: أحدهما: لا يجزئه لأن الله تعالى أمر بالمسح والنبي -ﷺ- مسح وأمر بالمسح ولأنه أحد نوعي الطهارة, فلم يجزئ عن النوع الآخر كالمسح عن الغسل والثاني يجزئ لأنه لو كان جنبا فانغمس في ماء ينوي الطهارتين أجزأه مع عدم المسح, فكذلك إذا كان الحدث الأصغر منفردا ولأن في صفة غسل النبي -ﷺ- أنه غسل وجهه ويديه ثم أفرغ على رأسه ولم يذكر مسحا ولأن الغسل أبلغ من المسح فإذا أتى به ينبغي أن يجزئه, كما لو اغتسل ينوي به الوضوء وهذا فيما إذا لم يمر يده على رأسه فأما إن أمر يده على رأسه مع الغسل أو بعده أجزأه لأنه قد أتى بالمسح وقد روي عن (معاوية أنه توضأ للناس كما رأى النبي -ﷺ- توضأ, فلما بلغ رأسه غرف غرفة من ماء فتلقاها بشماله حتى وضعها على وسط رأسه حتى قطر الماء أو كاد يقطر ثم مسح من مقدمه إلى مؤخره, ومن مؤخره إلى مقدمه) رواه أبو داود ولو حصل على رأسه ماء المطر أو صب عليه إنسان ثم مسح عليه يقصد بذلك الطهارة, أو كان قد صمد للمطر أجزأه وإن حصل الماء على رأسه من غير قصد أجزأه أيضا لأن حصول الماء على رأسه بغير قصد لم يؤثر في الماء فمتى وضع يده على ذلك البلل ومسح به فقد مسح بماء غير مستعمل, فصحت طهارته كما لو حصل بقصده فإن لم يمسح بيده وقلنا إن الغسل يقوم مقام المسح, نظرنا فإن قصد حصول الماء على رأسه أجزأه إذا جرى الماء عليه وإلا لم يجزئه وإن قلنا لم يجزئ الغسل عن المسح لم يجزئه بحال.
فصل:
وإن مسح رأسه بخرقة مبلولة, أو خشبة أجزأه في أحد الوجهين لأن الله تعالى أمر بالمسح وقد فعله, فأجزأه كما لو مسح بيده أو بيد غيره ولأن مسحه بيده غير مشترط بدليل ما لو مسحه بيد غيره والثاني لا يجزئه لأن النبي -ﷺ- مسح بيده وإن وضع على رأسه خرقة مبلولة فابتل بها رأسه, أو وضع خرقة ثم بلها حتى ابتل شعره لم يجزئه لأن ذلك ليس بمسح ولا غسل ويحتمل أن يجزئه لأنه بل شعره قاصدا للوضوء فأجزأه, كما لو غسله وإن مسح بإصبع أو إصبعين أجزأه إذا مسح بهما ما يجب مسحه كله ونقل محمد بن الحكم عن أحمد أنه لا يجزئه قال القاضي: هذا محمول على وجوب الاستيعاب فإنه لا يمكنه استيعاب الرأس بإصبعه, فأما إن استوعبه أجزأه لأنه مسح ببعض يده أشبه مسحه بكفه.
فصل:
والأذنان من الرأس فقياس المذهب وجوب مسحهما مع مسحه وقال الخلال كلهم حكوا عن أبي عبد الله فيمن ترك مسحهما عامدا أو ناسيا, أنه يجزئه وذلك لأنهما تبع للرأس لا يفهم من إطلاق اسم الرأس دخولهما فيه ولا يشبهان بقية أجزاء الرأس, ولذلك لم يجزه مسحهما عن مسحه عند من اجتزأ بمسح بعضه والأولى مسحهما معه لأن النبي -ﷺ- مسحهما مع رأسه فروت (الربيع, أنها رأت النبي -ﷺ- مسح رأسه ما أقبل منه وما أدبر وصدغيه وأذنيه مرة واحدة) وروى ابن عباس (أن النبي -ﷺ- مسح رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما) وقال الترمذي: حديث ابن عباس وحديث الربيع صحيحان وروى المقدام بن معدي كرب (أن النبي -ﷺ- مسح برأسه وأذنيه وأدخل إصبعيه في صماخي أذنيه) رواه أبو داود فيستحب أن يدخل سبابتيه في صماخي أذنيه, ويمسح ظاهر أذنيه بإبهاميه ولا يجب مسح ما استتر بالغضاريف لأن الرأس الذي هو الأصل لا يجب مسح ما استتر منه بالشعر والأذن أولى.
مسألة:
قال: وغسل الرجلين إلى الكعبين وهما العظمان الناتئان غسل الرجلين واجب في قول أكثر أهل العلم وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله -ﷺ- على غسل القدمين وروي عن علي أنه مسح على نعليه وقدميه, ثم دخل المسجد فخلع نعليه ثم صلى وحكي عن ابن عباس أنه قال: ما أجد في كتاب الله إلا غسلتين ومسحتين وروي عن أنس بن مالك أنه ذكر له قول الحجاج: اغسلوا القدمين ظاهرهما وباطنهما وخللوا ما بين الأصابع, فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى الخبث من قدميه فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج وتلا هذه الآية: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} وحكي عن الشعبي أنه قال: الوضوء مغسولان وممسوحان فالممسوحان يسقطان في التيمم ولم نعلم من فقهاء المسلمين من يقول بالمسح على الرجلين غير من ذكرنا, إلا ما حكي عن ابن جرير أنه قال: هو مخير بين المسح والغسل واحتج بظاهر الآية وبما روى ابن عباس, قال: (توضأ النبي -ﷺ- وأدخل يده في الإناء فمضمض واستنشق مرة واحدة ثم أدخل يده, فصب على وجهه مرة واحدة وصب على يديه مرة واحدة ومسح برأسه وأذنيه مرة واحدة, ثم أخذ ملء كف من ماء فرش على قدميه وهو منتعل) رواه سعيد وقال أيضا: حدثنا هشيم أخبرنا يعلى بن عطاء عن أبيه, قال: أخبرني أوس بن أبي أوس الثقفي أنه رأى (النبي -ﷺ- أتى كظامة قوم بالطائف فتوضأ ومسح على قدميه قال هشيم: كان هذا في أول الإسلام) ولنا أن عبد الله بن زيد, وعثمان حكيا وضوء رسول الله -ﷺ- قالا: فغسل قدميه وفي حديث عثمان: (ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا,) متفق عليه وفي لفظ: (ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا ثم غسل اليسرى مثل ذلك) وعن علي أنه (حكى وضوء رسول الله -ﷺ- فقال: ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا) وكذلك قالت الربيع بنت معوذ والبراء بن عازب, وعبد الله بن عمر رواهن سعيد وغيره وعن عمر رضي الله عنه (أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر من قدمه فأبصره النبي -ﷺ- فقال: ارجع فأحسن وضوءك فرجع فتوضأ ثم صلى) رواه مسلم, وفي لفظ: أن النبي -ﷺ- (رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي -ﷺ- أن يعيد الوضوء والصلاة) رواه أبو داود, والأثرم قال الأثرم: ذكر أبو عبد الله إسناد هذا الحديث قلت له: إسناد جيد؟ قال: نعم وعن عبد الله بن عمرو (أن النبي -ﷺ- رأى قوما يتوضئون وأعقابهم تلوح فقال: ويل للأعقاب من النار) وعن عائشة وأبي هريرة, أن النبي -ﷺ- قال: (ويل للأعقاب من النار) رواهن مسلم وقد ذكرنا أمر النبي -ﷺ- بتخليل الأصابع وأنه كان يعرك أصابعه بخنصره بعض العرك وهذا كله يدل على وجوب الغسل, فإن الممسوح لا يحتاج إلى الاستيعاب والعرك وأما الآية فقد روى عكرمة عن ابن عباس: أنه كان يقرأ {وأرجلكم} قال: عاد إلى الغسل وروي عن علي وابن مسعود والشعبي أنهم كانوا يقرءونها كذلك وروى ذلك كله سعيد, وهي قراءة جماعة من القراء منهم ابن عامر فتكون معطوفة على اليدين في الغسل ومن قرأها بالجر فللمجاورة, كما قال وأنشدوا:
كأن ثبيرا في عرانين وبله ** كبير أناس في بجاد مزمل
وأنشد:
وظل طهاة اللحم من بين منضج ** صفيف شواء أو قدير معجل
جر قديرا مع العطف للمجاورة وفي كتاب الله تعالى: {إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} جر أليما وهو صفة العذاب المنصوب, لمجاورته المجرور وتقول العرب: جحر ضب خرب وإذا كان الأمر فيها محتملا وجب الرجوع إلى بيان النبي -ﷺ- ويدل على صحة هذا قول النبي -ﷺ- في حديث عمرو بن عبسة: (ثم غسل رجليه كما أمره الله عز وجل) فثبت بهذا أن النبي -ﷺ- إنما أمر بالغسل لا بالمسح ويحتمل أنه أراد بالمسح الغسل الخفيف قال أبو علي الفارسي: العرب تسمي خفيف الغسل مسحا, فيقولون: تمسحت للصلاة أي توضأت وقال أبو زيد الأنصاري نحو ذلك وتحديده بالكعبين دليل على أنه أراد الغسل فإن المسح ليس بمحدود فإن قيل: فعطفه على الرأس دليل على أنه أراد حقيقة المسح قلنا: قد افترقا من وجوه: أحدها, أن الممسوح في الرأس شعر يشق غسله والرجلان بخلاف ذلك فهما أشبه بالمغسولات والثاني أنهما محدودان بحد ينتهي إليه, فأشبها اليدين والثالث: أنهما معرضتان للخبث لكونهما يوطأ بهما على الأرض بخلاف الرأس وأما حديث أوس في أن النبي -ﷺ- مسح على قدميه فإنما أراد الغسل الخفيف وكذلك حديث ابن عباس, ولذلك قال: أخذ ملء كف من ماء فرش على قدميه والمسح يكون بالبلل لا برش الماء فأما قول الخرقي: وهما العظمان الناتئان فأراد أن الكعبين هما اللذان في أسفل الساق من جانبي القدم وحكي عن محمد بن الحسن أنه قال: هما في مشط القدم وهو معقد الشراك من الرجل بدليل أنه قال: {إلى الكعبين} فيدل على أن في الرجلين كعبين لا غير, ولو أراد ما ذكرتموه كانت كعاب الرجلين أربعة فإن لكل قدم كعبين ولنا: أن الكعاب المشهورة في العرف هي التي ذكرناها قال أبو عبيد: الكعب الذي في أصل القدم منتهى الساق إليه, بمنزلة كعاب القنا كل عقد منها يسمى كعبا وقد روى أبو القاسم الجدلي عن النعمان بن بشير قال: كان أحدنا يلزق كعبه بكعب صاحبه في الصلاة, ومنكبه بمنكب صاحبه رواه الخلال وقاله البخاري وروي (أن قريشا كانت ترمي كعبي رسول الله -ﷺ- من ورائه حتى تدميهما) ومشط القدم أمامه وقوله تعالى: إلى الكعبين حجة لنا فإنه أراد أن كل رجل تغسل إلى الكعبين إذ لو أراد كعاب جميع الأرجل لقال: الكعاب كما قال: {وأيديكم إلى المرافق}.
فصل:
ويلزمه إدخال الكعبين في الغسل, كقولنا في المرافق فيما مضى.
مسألة:
قال: ويأتي بالطهارة عضوا بعد عضو كما أمر الله تعالى وجملة ذلك: أن الترتيب في الوضوء على ما في الآية واجب عند أحمد لم أر عنه فيه اختلافا وهو مذهب الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد أنه غير واجب وهذا مذهب مالك والثوري وأصحاب الرأي وروي أيضا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن وروي عن علي ومكحول والنخعي والزهري والأوزاعي فيمن نسي مسح رأسه, فرأى في لحيته بللا: يمسح رأسه به ولم يأمروه بإعادة غسل رجليه واختاره ابن المنذر لأن الله تعالى أمر بغسل الأعضاء وعطف بعضها على بعض بواو الجمع, وهي لا تقتضي الترتيب فكيفما غسل كان ممتثلا وروي عن علي وابن مسعود: ما أبالي بأي أعضائي بدأت وقال ابن مسعود: لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك في الوضوء ولنا أن في الآية قرينة تدل على أنه أريد بها الترتيب فإنه أدخل ممسوحا بين مغسولين والعرب لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة, والفائدة ها هنا الترتيب فإن قيل: فائدته استحباب الترتيب قلنا: الآية ما سيقت إلا لبيان الواجب ولهذا لم يذكر فيها شيئا من السنن ولأنه متى اقتضى اللفظ الترتيب كان مأمورا به والأمر يقتضي الوجوب ولأن كل من حكى وضوء رسول الله -ﷺ- حكاه مرتبا وهو مفسر لما في كتاب الله تعالى, وتوضأ مرتبا وقال: (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به) أي بمثله وما روي عن علي وابن مسعود قال أحمد: إنما عنيا به اليسرى قبل اليمنى لأن مخرجهما من الكتاب واحد ثم قال أحمد: حدثنا جرير, عن قابوس عن أبيه أن عليا سئل, فقيل له: أحدنا يستعجل فيغسل شيئا قبل شيء؟ قال: لا حتى يكون كما أمر الله تعالى والرواية الأخرى عن ابن مسعود ولا يعرف لها أصل.
فصل:
ولا يجب الترتيب بين اليمنى واليسرى, لا نعلم فيه خلافا لأن مخرجهما في الكتاب واحد قال الله تعالى: {وأيديكم... وأرجلكم} والفقهاء يعدون اليدين عضوا والرجلين عضوا ولا يجب الترتيب في العضو الواحد, وقد دل على ذلك قول علي وابن مسعود.
فصل:
وإذا نكس وضوءه فبدأ بشيء من أعضائه قبل وجهه لم يحتسب بما غسله قبل وجهه, فإذا غسل وجهه مع بقاء نيته أو بعدها بزمن يسير احتسب له به ثم يرتب الأعضاء الثلاثة وإن غسل وجهه ثم مسح رأسه ثم غسل يديه ورجليه أعاد مسح رأسه وغسل رجليه وإن غسل وجهه ويديه ثم غسل رجليه ثم مسح رأسه, صح وضوءه إلا غسل رجليه وإن نكس وضوءه جميعه لم يصح له إلا غسل وجهه وإن توضأ منكسا أربع مرات صح وضوءه, يحصل له من كل مرة غسل عضو إذا كان متقاربا ومذهب الشافعي مثل ما ذكرنا ولو غسل أعضاءه دفعة واحدة لم يصح له إلا غسل وجهه لأنه لم يرتب وإن انغمس في ماء جار فلم يمر على أعضائه إلا جرية واحدة فكذلك وإن مر عليه أربع جريات وقلنا: الغسل يجزئ عن المسح أجزأه كما لو توضأ أربع مرات وإن كان الماء راكدا, فقال بعض أصحابنا: إذا أخرج وجهه ثم يديه ثم مسح رأسه ثم خرج من الماء أجزأه لأن الحدث إنما يرتفع بانفصال الماء عن العضو ونص أحمد في رجل أراد الوضوء فانغمس في الماء, ثم خرج من الماء فعليه مسح رأسه وغسل رجليه وهذا يدل على أن الماء إذا كان جاريا فمرت عليه جرية واحدة أنه يجزئه مسح رأسه وغسل رجليه وإن اجتمع الحدثان, سقط الترتيب والموالاة على ما سنذكره -إن شاء الله تعالى-.
فصل:
ولم يذكر الخرقي الموالاة وهي واجبة عند أحمد نص عليها في مواضع وهذا قول الأوزاعي وأحد قولي الشافعي قال القاضي: ونقل حنبل عن أحمد أنها غير واجبة وهذا قول أبي حنيفة لظاهر الآية ولأن المأمور به غسل الأعضاء, فكيفما غسل جاز ولأنها إحدى الطهارتين فلم تجب الموالاة فيها كالغسل وقال مالك: إن تعمد التفريق بطل وإلا فلا ولنا ما ذكرنا من رواية عمر, أن النبي -ﷺ- (رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي -ﷺ- أن يعيد الوضوء والصلاة) ولو لم تجب الموالاة لأجزأه غسل اللمعة ولأنها عبادة يفسدها الحدث فاشترطت لها الموالاة كالصلاة, والآية دلت على وجوب الغسل والنبي -ﷺ- بين كيفيته وفسر مجمله بفعله وأمره, فإنه لم يتوضأ إلا متواليا وأمر تارك الموالاة بإعادة الوضوء وغسل الجنابة بمنزلة غسل عضو واحد, بخلاف الوضوء.
فصل:
والموالاة الواجبة أن لا يترك غسل عضو حتى يمضي زمن يجف فيه العضو الذي قبله في الزمان المعتدل لأنه قد يسرع جفاف العضو في بعض الزمان دون بعض ولأنه يعتبر ذلك فيما بين طرفي الطهارة وقال ابن عقيل في رواية أخرى إن حد التفريق المبطل ما يفحش في العادة لأنه لم يحد في الشرع فيرجع فيه إلى العادة, كالإحراز والتفرق في البيع.
فصل:
وإن نشفت أعضاؤه لاشتغاله بواجب في الطهارة أو مسنون لم يعد تفريقا كما لو طول أركان الصلاة قال أحمد إذا كان في علاج الوضوء فلا بأس, وإن كان لوسوسة تلحقه فكذلك لأنه في علاج الوضوء وإن كان ذلك لعبث أو شيء زائد على المسنون وأشباهه عد تفريقا ويحتمل أن تكون الوسوسة كذلك لأنه مشتغل بما ليس بمفروض ولا مسنون.
مسألة:
قال: والوضوء مرة مرة يجزئ, والثلاث أفضل هذا قول أكثر أهل العلم إلا أن مالكا لم يوقت مرة ولا ثلاثا قال: إنما قال الله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز: الوضوء ثلاثا ثلاثا إلا غسل الرجلين, فإنه ينقيهما وقد روي عن ابن عباس قال: (توضأ النبي -ﷺ- مرة مرة) رواه البخاري وروى أبو هريرة أن النبي -ﷺ- (توضأ مرتين مرتين) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب وعن علي أن النبي -ﷺ- (توضأ ثلاثا ثلاثا) قال الترمذي: حديث علي أحسن شيء في هذا الباب وأصح وقال سعيد: حدثنا سلام الطويل, عن زيد العمي عن معاوية بن قرة عن ابن عمر, أن (رسول الله -ﷺ- دعا بماء فتوضأ مرة مرة ثم قال: هذا وظيفة الوضوء, وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ثم تحدث ساعة ثم دعا بماء فتوضأ مرتين, مرتين فقال: هذا وضوء من توضأه ضاعف الله له الأجر مرتين ثم تحدث ساعة, ثم دعا بماء فتوضأ ثلاثا ثلاثا فقال: هذا وضوئي ووضوء النبيين من قبلي) وروى ابن ماجه بإسناده عن أبي بن كعب عن النبي -ﷺ- نحو هذا, وروى مسلم في صحيحه (أن عثمان دعا بوضوء فتوضأ وغسل كفيه ثلاث مرات ثم تمضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاث مرات, ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك ثم مسح برأسه, ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ثم غسل اليسرى مثل ذلك ثم قال: رأيت رسول الله -ﷺ- توضأ نحو وضوئي هذا, ثم قال رسول الله -ﷺ-: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه) قال ابن شهاب وكان علماؤنا يقولون: هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة.
فصل:
وإن غسل بعض أعضائه مرة وبعضها أكثر, جاز لأنه إذا جاز ذلك في الكل جاز في البعض وفي حديث عبد الله بن زيد أن النبي -ﷺ- (توضأ فغسل وجهه ثلاثا, وغسل يديه مرتين ومسح برأسه مرة) متفق عليه
فصل:
قال أحمد -رحمه الله-: لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى وقال ابن المبارك لا آمن من ازداد على الثلاث أن يأثم وقال إبراهيم النخعي تشديد الوضوء من الشيطان لو كان هذا فضلا لأوثر به أصحاب محمد -ﷺ- وروى عمرو بن شعيب, عن أبيه عن جده قال: (جاء أعرابي إلى النبي -ﷺ- فسأله عن الوضوء, فأراه ثلاثا ثلاثا ثم قال: هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم) رواه أبو داود, والنسائي وابن ماجه.
فصل:
وإذا فرغ من وضوئه استحب أن يرفع نظره إلى السماء ثم يقول ما رواه مسلم في صحيحه, عن عمر بن الخطاب عن النبي -ﷺ- أنه قال: (ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) ورواه أبو بكر الخلال بإسناده, وفيه: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم رفع نظره إلى السماء وفيه: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين).
فصل:
ولا بأس بالمعاونة على الوضوء لما روى المغيرة بن شعبة, أنه (أفرغ على النبي -ﷺ- في وضوئه) رواه مسلم وروي عن صفوان بن عسال قال: (صببت على النبي -ﷺ- في السفر والحضر) وعن أم عياش, وكانت أمة لرقية بنت رسول الله -ﷺ- قالت: (كنت أوضئ رسول الله -ﷺ- وأنا قائمة وهو قاعد) رواهما ابن ماجه وروي عن أحمد أنه قال: ما أحب أن يعينني على وضوئي أحد لأن عمر قال ذلك.
فصل:
ولا بأس بتنشيف أعضائه بالمنديل من بلل الوضوء والغسل قال الخلال المنقول عن أحمد أنه لا بأس بالتنشيف بعد الوضوء وممن روي عنه أخذ المنديل بعد الوضوء عثمان والحسن بن علي وأنس وكثير من أهل العلم ونهى عنه جابر بن عبد الله وكرهه عبد الرحمن بن مهدي وجماعة من أهل العلم لأن ميمونة روت (أن النبي -ﷺ- اغتسل فأتيته بالمنديل, فلم يردها وجعل ينفض الماء بيده) متفق عليه والأول أصح لأن الأصل الإباحة وترك النبي -ﷺ- لا يدل على الكراهة, فإن النبي -ﷺ- قد يترك المباح كما يفعله وقد روى أبو بكر في الشافي بإسناده عن عروة عن عائشة, قالت: (كان للنبي -ﷺ- خرقة يتنشف بها بعد الوضوء) وسئل أحمد عن هذا الحديث فقال: منكر منكر وروي عن قيس بن سعد (أن النبي -ﷺ- اغتسل ثم أتيناه بملحفة ورسية, فالتحف بها) إلا أن الترمذي قال: لا يصح في هذا الباب شيء ولا يكره نفض الماء عن بدنه بيديه لحديث ميمونة.
مسألة:
قال: وإذا توضأ لنافلة صلى فريضة لا أعلم في هذه المسألة خلافا وذلك لأن النافلة تفتقر إلى رفع الحدث كالفريضة وإذا ارتفع الحدث تحقق شرط الصلاة وارتفع المانع فأبيح له الفرض, وكذلك كل ما يفتقر إلى الطهارة كمس المصحف والطواف إذا توضأ له ارتفع حدثه, وصحت طهارته وأبيح له سائر ما يحتاج إلى الطهارة وقد ذكرنا ذلك فيما مضى.
فصل:
يجوز أن يصلي بالوضوء ما لم يحدث ولا نعلم في هذا خلافا قال أحمد بن قاسم: سألت أحمد عن رجل صلى أكثر من خمس صلوات بوضوء واحد؟ قال: ما بأس بهذا إذا لم ينتقض وضوءه, ما ظننت أن أحدا أنكر هذا وقال: (صلى النبي -ﷺ- الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد) وروى أنس قال: (كان النبي -ﷺ- يتوضأ عند كل صلاة قلت: وكيف كنتم تصنعون قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث) رواه البخاري وأبو داود وفي مسلم عن بريدة قال: (صلى النبي -ﷺ- يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد, ومسح على خفيه فقال له عمر: إني رأيتك صنعت شيئا لم تكن تصنعه قال: عمدا صنعته).
فصل:
وتجديد الوضوء مستحب, نص أحمد عليه في رواية موسى بن عيسى ونقل حنبل عنه أنه كان يفعله وذلك لما روينا من الحديث وعن غطيف الهذلي, قال: (رأيت ابن عمر يوما توضأ لكل صلاة فقلت: أصلحك الله أفريضة أم سنة, الوضوء عند كل صلاة؟ فقال: لا لو توضأت لصلاة الصبح لصليت به الصلوات كلها ما لم أحدث ولكني سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: من توضأ على طهر فله عشر حسنات وإنما رغبت في الحسنات) أخرجه أبو داود وابن ماجه وقد نقل علي بن سعيد, عن أحمد: لا فضل فيه والأول أصح.
فصل:
ولا بأس بالوضوء في المسجد إذا لم يؤذ أحدا بوضوئه ولم يبل موضع الصلاة قال ابن المنذر أباح ذلك كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار منهم: ابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس وأبو بكر بن محمد وابن عمر وابن حزم وابن جريج وعوام أهل العلم, قال: وبه نقول إلا أن يبل مكانا يجتاز الناس فيه فإني أكرهه, إلا أن يفحص الحصى عن البطحاء كما فعل لعطاء وطاوس فإذا توضأ رد الحصى عليه فإني لا أكرهه, وقد روي عن أحمد أنه يكرهه صيانة للمسجد عن البصاق والمخاط وما يخرج من فضلات الوضوء.
مسألة:
قال: ولا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ولا نفساء رويت الكراهية لذلك عن عمر وعلي والحسن والنخعي والزهري وقتادة والشافعي وأصحاب الرأي وقال الأوزاعي لا يقرأ إلا آية الركوب والنزول: {سبحان الذي سخر لنا هذا} {وقل رب أنزلني منزلا مباركا} وقال ابن عباس يقرأ ورده وقال سعيد بن المسيب: يقرأ القرآن أليس هو في جوفه وحكي عن مالك للحائض القراءة دون الجنب لأن أيامها تطول, فإن منعناها من القراءة نسيت ولنا: ما روي عن علي رضي الله عنه (أن النبي -ﷺ- لم يكن يحجبه أو قال: يحجزه, عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة) رواه أبو داود والنسائي, والترمذي وقال: حديث حسن صحيح وعن ابن عمر (أن النبي -ﷺ- قال: لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن) رواه أبو داود والترمذي وقال: يرويه إسماعيل بن عياش عن نافع, وقد ضعف البخاري روايته عن أهل الحجاز وقال: إنما روايته عن أهل الشام وإذا ثبت هذا في الجنب ففي الحائض أولى لأن حدثها آكد, ولذلك حرم الوطء ومنع الصيام وأسقط الصلاة, وساواها في سائر أحكامها.
فصل:
ويحرم عليهم قراءة آية فأما بعض آية فإن كان مما لا يتميز به القرآن عن غيره كالتسمية والحمد لله وسائر الذكر, فإن لم يقصد به القرآن فلا بأس فإنه لا خلاف في أن لهم ذكر الله تعالى ويحتاجون إلى التسمية عند اغتسالهم, ولا يمكنهم التحرز من هذا وإن قصدوا به القراءة أو كان ما قرءوه شيئا يتميز به القرآن عن غيره من الكلام ففيه روايتان: إحداهما لا يجوز, وروي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن الجنب يقرأ القرآن؟ فقال: لا ولا حرفا وهذا مذهب الشافعي لعموم الخبر في النهي ولأنه قرآن فمنع من قراءته, كالآية والثانية لا يمنع منه وهو قول أبي حنيفة لأنه لا يحصل به الإعجاز ولا يجزئ في الخطبة, ويجوز إذا لم يقصد به القرآن وكذلك إذا قصد.
فصل:
وليس لهم اللبث في المسجد لقول الله تعالى: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} وروت عائشة, قالت: (جاء النبي -ﷺ- وبيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) رواه أبو داود ويباح العبور للحاجة من أخذ شيء, أو تركه أو كون الطريق فيه فأما لغير ذلك فلا يجوز بحال وممن نقلت عنه الرخصة في العبور: ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب وابن جبير والحسن ومالك والشافعي وقال الثوري وإسحاق لا يمر في المسجد إلا أن لا يجد بدا, فيتيمم وهو قول أصحاب الرأي لقول النبي -ﷺ-: (لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) ولنا قول الله تعالى: {إلا عابري سبيل} والاستثناء من المنهي عنه إباحة وعن عائشة (أن رسول الله -ﷺ- قال لها: ناوليني الخمرة من المسجد قالت: إني حائض قال إن حيضتك ليست في يدك) رواه مسلم وعن جابر قال: كنا نمر في المسجد ونحن جنب رواه ابن المنذر وعن زيد بن أسلم, قال: كان أصحاب رسول الله -ﷺ- يمشون في المسجد وهم جنب رواه ابن المنذر أيضا وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعا.
فصل:
فأما المستحاضة ومن به سلس البول, فلهم اللبث في المسجد والعبور إذا أمنوا تلويث المسجد لما روي عن عائشة أن (امرأة من أزواج رسول الله -ﷺ- اعتكفت معه وهي مستحاضة فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي) رواه البخاري ولأنه حدث لا يمنع الصلاة فلم يمنع اللبث, كخروج الدم اليسير من أنفه فإن خاف تلويث المسجد فليس له العبور فإن المسجد يصان عن هذا كما يصان عن البول فيه ولو خشيت الحائض تلويث المسجد بالعبور فيه لم يكن لها ذلك.
فصل:
وإن خاف الجنب على نفسه أو ماله, أو لم يمكنه الخروج من المسجد أو لم يجد مكانا غيره أو لم يمكنه الغسل ولا الوضوء, تيمم ثم أقام في المسجد وروي عن علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن بن مسلم بن يناق في تأويل قوله تعالى: {ولا جنبا إلا عابري سبيل} يعني مسافرين لا يجدون ماء, فيتيممون وقال بعض أصحابنا: يلبث بغير تيمم لأن التيمم لا يرفع الحدث وهذا غير صحيح لأنه يخالف قول من سمينا من الصحابة ولأن هذا أمر يشترط له الطهارة فوجب التيمم له عند العجز عنها كالصلاة وسائر ما يشترط له الطهارة وقولهم: لا يرفع الحدث قلنا: إلا أنه يقوم مقام ما يرفع الحدث في إباحة ما يستباح به.
فصل:
إذا توضأ الجنب فله اللبث في المسجد في قول أصحابنا وإسحاق وقال أكثر أهل العلم: لا يجوز للآية والخبر واحتج أصحابنا بما روي عن زيد بن أسلم, قال: كان أصحاب رسول الله -ﷺ- يتحدثون في المسجد على غير وضوء وكان الرجل يكون جنبا فيتوضأ ثم يدخل, فيتحدث وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعا يخص به العموم ولأنه إذا توضأ خف حكم الحدث فأشبه التيمم عند عدم الماء, ودليل خفته أمر النبي الجنب به إذا أراد النوم واستحبابه لمن أراد الأكل ومعاودة الوطء فأما الحائض إذا توضأت فلا يباح لها اللبث لأن وضوءها لا يصح.
مسألة:
قال: ولا يمس المصحف إلا طاهر يعني طاهرا من الحدثين جميعا روي هذا عن ابن عمر والحسن وعطاء وطاوس والشعبي والقاسم بن محمد وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم مخالفا لهم إلا داود فإنه أباح مسه واحتج بأن (النبي -ﷺ- كتب في كتابه آية إلى قيصر) وأباح الحكم وحماد مسه بظاهر الكف لأن آلة المس باطن اليد, فينصرف النهي إليه دون غيره ولنا قوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} وفي (كتاب النبي -ﷺ- لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهر) وهو كتاب مشهور رواه أبو عبيد في فضائل القرآن وغيره ورواه الأثرم, فأما الآية التي كتب بها النبي -ﷺ- فإنما قصد بها المراسلة والآية في الرسالة أو كتاب فقه أو نحوه لا تمنع مسه ولا يصير الكتاب بها مصحفا, ولا تثبت له حرمته إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز له مسه بشيء من جسده لأنه من جسده فأشبه يده وقولهم: إن المس إنما يختص بباطن اليد ليس بصحيح فإن كل شيء لاقى شيئا فقد مسه.
فصل:
ويجوز حمله بعلاقته وهذا قول أبي حنيفة وروي ذلك عن الحسن وعطاء وطاوس والشعبي والقاسم وأبي وائل والحكم وحماد ومنع منه الأوزاعي ومالك والشافعي قال مالك أحسن ما سمعت أنه لا يحمل المصحف بعلاقته ولا في غلافه إلا وهو طاهر وليس ذلك لأنه يدنسه ولكن تعظيما للقرآن واحتجوا بأنه مكلف محدث قاصد لحمل المصحف, فلم يجز كما لو حمله مع مسه ولنا: أنه غير ماس له فلم يمنع منه, كما لو حمله في رحله ولأن النهي إنما يتناول المس والحمل ليس بمس فلم يتناوله النهي, وقياسهم فاسد فإن العلة في الأصل مسه وهو غير موجود في الفرع والحمل لا أثر له, فلا يصح التعليل به وعلى هذا لو حمله بعلاقة أو بحائل بينه وبينه مما لا يتبعه في البيع جاز لما ذكرنا وعندهم لا يجوز ووجه المذهبين ما تقدم ويجوز تقليبه بعود ومسه به وكتب المصحف بيده من غير أن يمسه, وفي تصفحه بكمه روايتان وخرج القاضي في مس غلافه وحمله بعلاقته رواية أخرى أنه لا يجوز بناء على مسه بكمه والصحيح: جوازه لأن النهي إنما يتناول مسه والحمل ليس بمس.
فصل:
ويجوز مس كتب التفسير والفقه وغيرها والرسائل, وإن كان فيها آيات من القرآن بدليل أن النبي -ﷺ- كتب إلى قيصر كتابا فيه آية ولأنها لا يقع عليها اسم مصحف ولا تثبت لها حرمته وفي مس صبيان الكتاتيب ألواحهم التي فيها القرآن وجهان: أحدهما الجواز لأنه موضع حاجة, فلو اشترطنا الطهارة أدى إلى تنفيرهم عن حفظه والثاني المنع لدخولهم في عموم الآية وفي الدراهم المكتوب عليها القرآن وجهان: أحدهما المنع وهو قول أبي حنيفة وكرهه عطاء والقاسم والشعبي لأن القرآن مكتوب عليها فأشبهت الورق والثاني الجواز لأنه لا يقع عليها اسم المصحف, فأشبهت كتب الفقه ولأن في الاحتراز منها مشقة أشبهت ألواح الصبيان.
فصل:
وإن احتاج المحدث إلى مس المصحف عند عدم الماء تيمم, وجاز مسه ولو غسل المحدث بعض أعضاء الوضوء لم يجز له مسه به قبل إتمام وضوئه لأنه لا يكون متطهرا إلا بغسل الجميع.
فصل:
ولا يجوز المسافرة بالمصحف إلى دار الحرب لما روي ابن عمر قال: قال رسول الله -ﷺ-: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم).
باب الاستطابة والحدث
الاستطابة: هي الاستنجاء بالماء أو بالأحجار, يقال استطاب وأطاب: إذا استنجى سمى استطابة لأنه يطيب جسده بإزالة الخبث عنه قال الشاعر يهجو رجلا:
يا رخما قاظ على عرقوب ** يعجل كف الخارئ المطيب
والاستنجاء: استفعال من نجوت الشجرة أي: قطعتها, فكأنه قطع الأذى عنه وقال ابن قتيبة هو مأخوذ من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض لأن من أراد قضاء الحاجة استتر بها والاستجمار: استفعال من الجمار, وهي الحجارة الصغار لأنه يستعملها في استجماره.
مسألة:
قال: وليس على من نام أو خرجت منه ريح استنجاء ولا نعلم في هذا خلافا قال أبو عبد الله ليس في الريح استنجاء في كتاب الله ولا في سنة رسوله إنما عليه الوضوء, وقد روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (من استنجى من ريح فليس منا) رواه الطبراني في معجمه الصغير وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إذا قمتم من النوم ولم يأمر بغيره, فدل على أنه لا يجب ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد بالاستنجاء هنا نص ولا هو في معنى المنصوص عليه لأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة, ولا نجاسة ها هنا.
مسألة:
قال: والاستنجاء لما خرج من السبيلين هذا فيه إضمار وتقديره: والاستنجاء واجب فحذف خبر المبتدإ اختصارا, وأراد ما خرج غير الريح لأنه قد بين حكمها وسواء كان الخارج معتادا كالبول والغائط, أو نادرا كالحصى والدود والشعر رطبا أو يابسا ولو احتقن فرجعت أجزاء خرجت من الفرج, أو وطئ رجل امرأته دون الفرج فدب ماؤه إلى فرجها ثم خرج منه فعليهما الاستنجاء على ظاهر كلام الخرقي وقد صرح به القاضي وغيره ولو أدخل الميل في ذكره, ثم أخرجه لزمه الاستنجاء لأنه خارج من السبيل فأشبه الغائط المستحجر, والقياس أن لا يجب من ناشف لا ينجس المحل للمعنى الذي ذكرنا في الريح وهو قول الشافعي وهكذا الحكم في الطاهر, وهو المني إذا حكمنا بطهارته والقول بوجوب الاستنجاء في الجملة قول أكثر أهل العلم وحكي عن ابن سيرين فيمن صلى بقوم ولم يستنج: لا أعلم به بأسا وهذا يحتمل أن يكون فيمن لم يلزمه الاستنجاء كمن لزمه الوضوء لنوم أو خروج ريح, أو من ترك الاستنجاء ناسيا فيكون موافقا لقول الجماعة ويحتمل أنه لم ير وجوب الاستنجاء وهذا قول أبي حنيفة لقول النبي -ﷺ-: (من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن, ومن لا فلا حرج) رواه أبو داود ولأنها نجاسة يكتفى فيها بالمسح فلم تجب إزالتها كيسير الدم ولنا قول النبي -ﷺ-: (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه) رواه أبو داود, وقال: (لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار) رواه مسلم وفي لفظ لمسلم: (لقد نهانا أن نستنجي بدون ثلاثة أحجار) فأمر والأمر يقتضي الوجوب وقال: فإنها تجزئ عنه والإجزاء إنما يستعمل في الواجب, ونهى عن الاقتصار على أقل من ثلاثة والنهي يقتضي التحريم وإذا حرم ترك بعض النجاسة فترك جميعها أولى وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله -ﷺ- قال: (لا يكفي أحدكم دون ثلاثة أحجار) وأمر بالعدد في أخبار كثيرة. وقوله: [ لا حرج] يعني في ترك الوتر لا في ترك الاستجمار لأن المأمور به في الخبر الوتر فيعود نفي الحرج إليه, وأما الاجتزاء بالمسح فيه فلمشقة الغسل لكثرة تكرره في محل الاستنجاء.
فصل:
وهو مخير بين الاستنجاء بالماء أو الأحجار في قول أكثر أهل العلم وحكي عن سعد بن أبي وقاص وابن الزبير أنهما أنكرا الاستنجاء بالماء وقال سعيد بن المسيب وهل يفعل ذلك إلا النساء, وقال عطاء غسل الدبر محدث وكان الحسن لا يستنجي بالماء وروي عن حذيفة القولان جميعا وكان ابن عمر لا يستنجي بالماء ثم فعله وقال لنافع: جربناه فوجدناه صالحا وهو مذهب رافع بن خديج وهو الصحيح لما روى أنس قال: (كان النبي -ﷺ- يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة, فيستنجي بالماء) متفق عليه وعن عائشة (أنها قالت: مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم وإن رسول الله -ﷺ- كان يفعله) قال الترمذي: هذا حديث صحيح رواه سعيد وروى أبو هريرة, عن النبي -ﷺ- قال: (نزلت هذه الآية في أهل قباء {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت هذه الآية فيهم) رواه أبو داود وابن ماجه ولأنه يطهر المحل, ويزيل النجاسة فجاز كما لو كانت النجاسة على محل آخر وإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل لما روينا من الحديث ولأنه يطهر المحل, ويزيل العين والأثر وهو أبلغ في التنظيف وإن اقتصر على الحجر أجزأه بغير خلاف بين أهل العلم لما ذكرنا من الأخبار ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم, والأفضل أن يستجمر بالحجر ثم يتبعه الماء قال أحمد: إن جمعهما فهو أحب إلي لأن عائشة قالت: (مرن أزواجكن أن يتبعن الحجارة الماء من أثر الغائط والبول فإني أستحييهم كان النبي -ﷺ- يفعله) احتج به أحمد ورواه سعيد ولأن الحجر يزيل عين النجاسة فلا تصيبها يده, ثم يأتي بالماء فيطهر المحل فيكون أبلغ في التنظيف وأحسن.
مسألة:
قال: فإن لم يعدوا مخرجهما أجزأه أحجار إذا أنقى بهن فإن أنقى بدون الثلاثة لم يجزه, حتى يأتي بالعدد وإن لم ينق بالثلاثة زاد حتى ينقي قوله: يعدوا مخرجهما يعني الخارجين من السبيلين إذا لم يتجاوزا مخرجهما يقال: عداك الشر أي: تجاوزك والمراد والله أعلم, إذا لم يتجاوز المخرج بما لم تجر العادة به فإن اليسير لا يمكن التحرز منه والعادة جارية به, وإذا كان كذلك فإنه يجزئه ثلاثة أحجار منقية ومعنى الإنقاء إزالة عين النجاسة وبلتها بحيث يخرج الحجر نقيا وليس عليه أثر إلا شيئا يسيرا ويشترط الأمران جميعا الإنقاء وإكمال الثلاثة, أيهما وجد دون صاحبه لم يكف وهذا مذهب الشافعي وجماعة وقال مالك وداود: الواجب الإنقاء دون العدد لقوله عليه السلام (من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج) ولنا: قول سلمان: (لقد نهانا - يعني النبي -ﷺ- - أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) وما ذكرنا من الأحاديث, وحديثهم قد أجبنا عنه فيما مضى.
فصل:
وإذا زاد على الثلاثة استحب أن لا يقطع إلا على وتر لقوله عليه السلام: (من استجمر فليوتر) متفق عليه فيستجمر خمسا أو سبعا أو تسعا أو ما زاد على ذلك فإن اقتصر على شفع منقية, فيما زاد على الثلاثة جاز لقوله عليه السلام: (ومن لا فلا حرج).
فصل:
وكيفما حصل الإنقاء في الاستجمار أجزأه وذكر القاضي أن المستحب أن يمر الحجر الأول من مقدم صفحته اليمنى إلى مؤخرها ثم يديره على اليسرى ثم يرجع به إلى الموضع الذي بدأ منه ثم يمر الثاني من مقدم صفحته اليسرى كذلك ثم يمر الثالث على المسربة والصفحتين لقول النبي -ﷺ-: (أو لا يجد أحدكم حجرين للصفحتين وحجرا للمسربة,) رواه الدارقطني وقال: إسناده حسن وينبغي أن يعم المحل بكل واحد من الأحجار لأنه إذا لم يعم به كان ذلك تلفيقا فيكون بمنزلة مسحة واحدة ولا يكون تكرارا ذكر هذا الشريف أبو جعفر, وابن عقيل وقالا: معنى الحديث البداية بهذه المواضع ويحتمل أن يجزئه لكل جهة مسحة لظاهر الخبر والله أعلم.
فصل:
ولا يستجمر بيمينه, لقول سلمان في حديثه: (إنه لينهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه) رواه مسلم وروى أبو قتادة رسول الله -ﷺ- قال: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه, ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) متفق عليه فإن كان يستنجي من غائط أخذ الحجر بشماله فمسح به وإن كان يستنجي من البول وكان الحجر كبيرا أخذ ذكره بشماله فمسح به وإن كان صغيرا فأمكنه أن يضعه بين عقبيه, أو بين أصابعه ويمسح ذكره عليه فعل وإن لم يمكنه, أمسكه بيمينه ومسح بيساره لموضع الحاجة وقيل: يمسك ذكره بيمينه ويمسح بشماله ليكون المسح بغير اليمين والأول أولى لقول النبي -ﷺ-: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه) وإذا أمسك الحجر باليمين, ومسح الذكر عليه لم يكن ماسحا باليمين ولا ممسكا للذكر بها, وإن كان أقطع اليسرى أو بها مرض استجمر بيمينه للحاجة ولا يكره الاستعانة بها في الماء لأن الحاجة داعية إليه وإن استجمر بيمينه مع الغنى عنه, أجزأه في قول أكثر أهل العلم وحكي عن بعض أهل الظاهر أنه لا يجزئه لأنه منهي عنه فلم يفد مقصوده كما لو استنجى بالروث والرمة, فإن النهي يتناول الأمرين والفرق بينهما أن الروث آلة الاستجمار المباشرة للمحل وشرطه فلم يجز استعمال المنهي عنه فيها, واليد ليست المباشرة للمحل ولا شرطا فيه إنما يتناول بها الحجر الملاقي للمحل فصار النهي عنها نهي تأديب, لا يمنع الإجزاء.
فصل:
ويبدأ الرجل في الاستنجاء بالقبل لئلا تتلوث يده إذا شرع في الدبر لأن قبله بارز تصيبه اليد إذا مدها إلى الدبر والمرأة مخيرة في البداية بأيهما شاءت لعدم ذلك فيها ويستحب أن يمكث بعد البول قليلا, ويضع يده على أصل الذكر من تحت الأنثيين ثم يسلته إلى رأسه فينتر ذكره ثلاثا برفق قال أحمد إذا توضأت فضع يدك في سفلتك ثم اسلت ما ثم حتى ينزل, ولا تجعل ذلك من همك ولا تلتفت إلى ظنك وقد روى يزداد اليماني قال: قال رسول الله -ﷺ-: (إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات) رواه الإمام أحمد وإذا استنجى بالماء ثم فرغ, استحب له دلك يده بالأرض لما روي عن (ميمونة أن النبي -ﷺ- فعل ذلك) رواه البخاري وروي (أن النبي -ﷺ- قضى حاجته ثم استنجى من تور, ثم دلك يده بالأرض) أخرجه ابن ماجه وإن استنجى عقيب انقطاع البول جاز لأن الظاهر انقطاعه وقد قيل: إن الماء يقطع البول, ولذلك سمي الاستنجاء انتقاص الماء ويستحب أن ينضح على فرجه وسراويله ليزيل الوسواس عنه قال حنبل: سألت أحمد قلت: أتوضأ وأستبرئ وأجد في نفسي إني قد أحدثت بعد قال: إذا توضأت فاستبرئ, وخذ كفا من ماء فرشه على فرجك ولا تلتفت إليه فإنه يذهب إن شاء الله وقد روى أبو هريرة (أن النبي -ﷺ- قال: جاءني جبريل, فقال: يا محمد إذا توضأت فانتضح) وهو حديث غريب.
مسألة:
قال: والخشب والخرق وكل ما أنقي به فهو كالأحجار هذا الصحيح من المذهب وهو قول أكثر أهل العلم وفيه رواية أخرى, لا يجزئ إلا الأحجار اختارها أبو بكر وهو مذهب داود لأن النبي -ﷺ- أمر بالأحجار وأمره يقتضي الوجوب ولأنه موضع رخصة ورد الشرع فيها بآلة مخصوصة فوجب الاقتصار عليها, كالتراب في التيمم ولنا ما روى أبو داود عن خزيمة قال: (سئل النبي -ﷺ- عن الاستطابة, فقال: بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع) فلولا أنه أراد الحجر وما في معناه لم يستثن منها الرجيع لأنه لا يحتاج إلى ذكره ولم يكن لتخصيص الرجيع بالذكر معنى وفي حديث سلمان عن النبي -ﷺ- (إنه لينهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار, وأن نستجمر برجيع أو عظم) رواه مسلم وتخصيص هذين بالنهي عنهما يدل على أنه أراد الحجارة وما قام مقامها وروى طاوس, عن النبي -ﷺ- أنه قال: (إذا أتى أحدكم البراز فلينزه قبلة الله ولا يستقبلها ولا يستدبرها وليستطب بثلاثة أحجار, أو ثلاثة أعواد أو ثلاث حثيات من تراب) رواه الدارقطني وقال: وقد روي عن ابن عباس مرفوعا, والصحيح أنه مرسل ورواه سعيد في سننه موقوفا على طاوس ولأنه متى ورد النص بشيء لمعنى معقول وجب تعديته إلى ما وجد فيه المعنى والمعنى ها هنا إزالة عين النجاسة, وهذا يحصل بغير الأحجار كحصوله بها وبهذا يخرج التيمم فإنه غير معقول, ولا بد أن يكون ما يستجمر به منقيا لأن الإنقاء مشترط في الاستجمار فأما الزلج كالزجاج والفحم الرخو وشبههما مما لا ينقي فلا يجزئ لأنه لا يحصل منه المقصود ويشترط كونه طاهرا, فإن كان نجسا لم يجزه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يجزئه لأنه يجفف كالطاهر ولنا (أن ابن مسعود جاء إلى النبي -ﷺ- بحجرين وروثة يستجمر بها فأخذ الحجرين وألقى الروثة, وقال: هذه ركس) رواه البخاري وفي لفظ رواه الترمذي قال: إنها ركس يعني نجسا, وهذا تعليل من النبي -ﷺ- يجب المصير إليه ولأنه إزالة نجاسة فلا يحصل بالنجاسة كالغسل فإن استنجى بنجس احتمل أن لا يجزئه الاستجمار بعده لأن المحل تنجس بنجاسة من غير المخرج, فلم يجزئ فيها غير الماء كما لو تنجس ابتداء ويحتمل أن يجزئه لأن هذه النجاسة تابعة لنجاسة المحل, فزالت بزوالها.
مسألة:
قال: إلا الروث والعظام والطعام وجملته أنه لا يجوز الاستجمار بالروث ولا العظام ولا يجزئ في قول أكثر أهل العلم, وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وأباح أبو حنيفة الاستنجاء بهما لأنهما يجففان النجاسة, وينقيان المحل فهما كالحجر وأباح مالك الاستنجاء بالطاهر منهما وقد ذكرنا نهي النبي -ﷺ- عنهما وروى مسلم, عن ابن مسعود قال: قال رسول الله -ﷺ-: (لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن) وروى الدارقطني (أن النبي -ﷺ- نهى أن نستنجي بروث أو عظم وقال: إنهما لا يطهران) وقال: إسناد صحيح وروى أبو داود عنه عليه السلام (أنه قال لرويفع بن ثابت, أبي بكرة: أخبر الناس أنه من استنجى برجيع أو عظم فهو بريء من دين محمد) وهذا عام في الطاهر منها والنهي يقتضي الفساد وعدم الإجزاء فأما الطعام فتحريمه من طريق التنبيه لأن النبي -ﷺ- علل النهي عن الروث والرمة في حديث ابن مسعود بكونهما زاد إخواننا من الجن, فزادنا مع عظم حرمته أولى فإن قيل: فقد نهى عن الاستنجاء باليمين كنهيه ها هنا فلم يمنع ذلك الإجزاء ثم, كذا ها هنا قلنا: قد بين في الحديث أنهما لا يطهران ثم الفرق بينهما أن النهي هنا لمعنى في شرط الفعل فمنع صحته, كالنهي عن الوضوء بالماء النجس وثم لمعنى في آلة الشرط فلم يمنع كالوضوء من إناء محرم.
فصل:
ولا يجوز الاستنجاء بما له حرمة كشيء كتب فيه فقه أو حديث رسول الله -ﷺ- لما فيه من هتك الشريعة والاستخفاف بحرمتها, فهو في الحرمة أعظم من الروث والرمة ولا يجوز بمتصل بحيوان كيده وعقبه وذنب بهيمة وصوفها المتصل بها وقال بعض أصحابنا يجمع المستجمر به ست خصال أن يكون طاهرا جامدا منقيا غير مطعوم ولا حرمة له ولا متصل بحيوان.
مسألة:
قال: والحجر الكبير الذي له ثلاث شعب يقوم مقام ثلاثة أحجار وبهذا قال الشافعي وإسحاق وأبو ثور وعن أحمد رواية أخرى لا يجزئ أقل من ثلاثة أحجار وهو قول أبي بكر بن المنذر لقوله عليه السلام: (لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار ولا يكفي أحدكم دون ثلاثة أحجار) ولأنه إذا استجمر بحجر تنجس فلا يجوز الاستجمار به ثانيا كالصغير ولنا: أنه إن استجمر ثلاثا منقية بما وجدت فيه شروط الاستجمار أجزأه كما لو فصله ثلاثة صغارا واستجمر بها, إذ لا فرق بين الأصل والفرع إلا فصله ولا أثر لذلك في التطهير والحديث يقتضي ثلاث مسحات بحجر دون عين الأحجار كما يقال ضربته ثلاثة أسواط أي ثلاث ضربات بسوط وذلك لأن معناه معقول ومراده معلوم ولذلك لم نقتصر على لفظه في غير الأحجار, بل أجزنا الخشب والخرق والمدر والمعنى من ثلاثة حاصل من ثلاث شعب أو مسحه ذكره في صخرة عظيمة بثلاثة مواضع منها أو في حائط أو أرض فلا معنى للجمود على اللفظ مع وجود ما يساويه من كل وجه وقولهم: تنجس قلنا: إنما تنجس ما أصاب النجاسة والاستجمار حاصل بغيره, فأشبه ما لو تنجس جانبه بغير الاستجمار ولأنه لو استجمر به ثلاثة لحصل لكل واحد منهم مسحة وقام مقام ثلاثة أحجار فكذلك إذا استجمر به الواحد ولو استجمر ثلاثة بثلاثة أحجار لكل حجر منها ثلاث شعب فاستجمر كل واحد منهم من كل حجر بشعبة, أجزأهم ويحتمل على قول أبي بكر أن لا يجزئهم.
فصل:
ولو استجمر بحجر ثم غسله أو كسر ما تنجس منه واستجمر به ثانيا ثم فعل ذلك واستجمر به ثالثا أجزأه لأنه حجر يجزئ غيره الاستجمار به فأجزأه كغيره ويحتمل على قول أبي بكر أن لا يجزئه محافظة على صورة اللفظ وهو بعيد.
مسألة:
قال: وما عدا المخرج فلا يجزئ فيه إلا الماء وبها قال الشافعي وإسحاق وابن المنذر يعني إذا تجاوز المحل بما لم تجر به العادة مثل أن ينتشر إلى الصفحتين وامتد في الحشفة لم يجزه إلا الماء لأن الاستجمار في المحل المعتاد رخصة لأجل المشقة في غسله لتكرر النجاسة فيه فما لا تتكرر النجاسة فيه لا يجزئ فيه إلا الغسل كساقه وفخذه, ولذلك قال علي رضي الله عنه: إنكم كنتم تبعرون بعرا وأنتم اليوم تثلطون ثلطا فأتبعوا الماء الأحجار وقوله عليه السلام: (يكفي أحدكم ثلاثة أحجار) أراد ما لم يتجاوز محل العادة لما ذكرنا.
فصل:
والمرأة البكر كالرجل لأن عذرتها تمنع انتشار البول فأما الثيب فإن خرج البول بحدة فلم ينتشر فكذلك وإن تعدى إلى مخرج الحيض فقال أصحابنا: يجب غسله لأن مخرج الحيض والولد غير مخرج البول ويحتمل أن لا يجب لأن هذا عادة في حقها فكفى فيه الاستجمار كالمعتاد في غيرها ولأن الغسل لو لزمها مع اعتياده لبينه النبي -ﷺ- لأزواجه لكونه مما يحتاج إلى معرفته وإن شك في انتشار الخارج إلى ما يوجب الغسل, لم يجب لأن الأصل عدمه والمستحب الغسل احتياطا.
فصل:
والأقلف إن كان مرتتقا لا تخرج بشرته من قلفته فهو كالمختتن وإن كان يمكنه كشفها كشفها فإذا بال واستجمر أعادها فإن تنجست بالبول لزمه غسلها كما لو انتشر إلى الحشفة.
فصل:
وإن انسد المخرج المعتاد وانفتح آخر لم يجزه الاستجمار فيه لأنه غير السبيل المعتاد وحكي عن بعض أصحابنا أنه يجزئه لأنه صار معتادا ولنا, أن هذا نادر بالنسبة إلى سائر الناس فلم تثبت فيه أحكام الفرج فإنه لا ينقض الوضوء مسه ولا يجب بالإيلاج فيه حد ولا مهر ولا غسل, ولا غير ذلك من الأحكام فأشبه سائر البدن.
فصل:
ظاهر كلام أحمد أن محل الاستجمار بعد الإنقاء طاهر فإن أحمد بن الحسين, قال سألت أبا عبد الله عن الرجل يبول فيستبرئ ويستجمر يعرق في سراويله؟ قال إذا استجمر ثلاثا فلا بأس وسأله رجل فقال إذا استنجيت من الغائط يصيب ذلك الماء موضعا مني آخر؟ فقال أحمد: قد جاء في الاستنجاء ثلاثة أحجار فاستنج أنت بثلاثة أحجار ثم لا تبالي ما أصابك من ذلك الماء قال: وسألت أحمد عن رش الماء على الخف إذا لم يستجمر الرجل؟ قال أحب إلي أن يغسله ثلاثا وهذا قول ابن حامد وظاهر قول المتأخرين من أصحابنا أنه نجس, وهو قول الشافعي وأبي حنيفة فلو قعد المستجمر في ماء قليل نجسه ولو عرق كان عرقه نجسا لأنه مسح للنجاسة فلم يطهر به محلها كسائر المسح ووجه الأول قول النبي -ﷺ- (لا تستنجوا بروث ولا عظم فإنهما لا يطهران) فمفهومه أن غيرهما يطهر ولأن الصحابة رضي الله عنهم, كان الغالب عليهم الاستجمار حتى إن جماعة منهم أنكروا الاستنجاء بالماء وسماه بعضهم بدعة وبلادهم حارة, والظاهر أنهم لا يسلمون من العرق فلم ينقل عنهم توقي ذلك ولا الاحتراز منه ولا ذكر ذلك أصلا وقد نقل عن ابن عمر, أنه بال بالمزدلفة فأدخل يده فنضح فرجه من تحت ثيابه وعن إبراهيم النخعي نحو ذلك ولولا أنهما اعتقدا طهارته ما فعلا ذلك.
فصل:
إذا استنجى بالماء لم يحتج إلى تراب قال أحمد يجزئه الماء وحده ولم ينقل عن النبي -ﷺ- أنه استعمل التراب مع الماء في الاستنجاء ولا أمر به فأما عدد الغسلات فقد اختلف عن أحمد فيها فقال, في رواية ابنه صالح أقل ما يجزئه من الماء سبع مرات وقال في رواية محمد بن الحكم: ولكن المقعدة يجزئ أن تمسح بثلاثة أحجار أو يغسلها ثلاث مرات ولا يجزئ عندي إذا كان في الجسد أن يغسله ثلاث مرات وذلك لما روت عائشة (أن النبي -ﷺ- كان يغسل مقعدته ثلاثا) رواه ابن ماجه وقال أبو داود سئل أحمد عن حد الاستنجاء بالماء؟ فقال ينقي وظاهر هذا أنه لا عدد فيه إنما الواجب الإنقاء, وهذا أصح لأنه لم يصح عن النبي -ﷺ- في ذلك عدد ولا أمر به ولا بد من الإنقاء على الروايات كلها, وهو أن تذهب لزوجة النجاسة وآثارها.
فصول في أدب التخلي
لا يجوز استقبال القبلة في الفضاء لقضاء الحاجة في قول أكثر أهل العلم لما روى أبو أيوب قال: قال رسول الله -ﷺ- (إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره ولكن شرقوا أو غربوا قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة, فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل) متفق عليه ولمسلم عن أبي هريرة عن رسول الله -ﷺ- (إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها) وقال عروة بن ربيعة وداود: يجوز استقبالها واستدبارها لما روى جابر قال: (نهى رسول الله -ﷺ- أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وهذا دليل على النسخ, فيجب تقديمه ولنا أحاديث النهي وهي صحيحة وحديث جابر يحتمل أنه رآه في البنيان أو مستترا بشيء ولا يثبت النسخ بالاحتمال ويتعين حمله على ما ذكرنا, ليكون موافقا للأحاديث التي نذكرها فأما في البنيان أو إذا كان بينه وبين القبلة شيء يستره ففيه روايتان إحداهما لا يجوز أيضا وهو قول الثوري وأبي حنيفة لعموم الأحاديث في النهي والثانية يجوز استقبالها واستدبارها في البنيان, روي ذلك عن العباس وابن عمر رضي الله عنهما وبه قال مالك: والشافعي وابن المنذر وهو الصحيح لحديث جابر وقد حملناه على أنه كان في البنيان وروت عائشة (أن رسول الله -ﷺ- ذكر له أن قوما يكرهون استقبال القبلة بفروجهم فقال رسول الله -ﷺ- أو قد فعلوها استقبلوا بمقعدتي القبلة) رواه أصحاب السنن وأكثر أصحاب المسانيد منهم أبو داود الطيالسي, رواه عن خالد بن الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة قال أبو عبد الله: أحسن ما روي في الرخصة حديث عائشة, وإن كان مرسلا فإن مخرجه حسن قال أحمد: عراك لم يسمع من عائشة فلذلك سماه مرسلا وهذا كله في البنيان وهو خاص يقدم على العام وعن مروان بن الأصفر قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها فقلت: يا أبا عبد الرحمن, أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بلى إنما نهي عن هذا في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس رواه أبو داود وهذا تفسير لنهي رسول الله -ﷺ- العام وفيه جمع بين الأحاديث فيتعين المصير إليه وعن أحمد: أنه يجوز استدبار الكعبة في البنيان والفضاء جميعا لما روى ابن عمر قال: (رقيت يوما على بيت حفصة, فرأيت النبي -ﷺ- على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة) متفق عليه.
فصل:
ويكره أن يستقبل الشمس والقمر بفرجه لما فيهما من نور الله تعالى فإن استتر عنهما بشيء فلا بأس لأنه لو استتر عن القبلة جاز فهاهنا أولى ويكره أن يستقبل الريح لئلا ترد عليه رشاش البول فينجسه.
فصل:
ويستحب أن يستتر عن الناس, فإن وجد حائطا أو كثيبا أو شجرة أو بعيرا استتر به وإن لم يجد شيئا أبعد حتى لا يراه أحد لما روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من الرمل فليستدبره) وروي عنه عليه السلام (أنه خرج ومعه درقة ثم استتر بها, ثم بال) وعن جابر قال: (كان النبي -ﷺ- إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد) والبراز: الموضع البارز سمي قضاء الحاجة به لأنها تقضى فيه وعن المغيرة بن شعبة قال: (كان النبي -ﷺ- إذا ذهب أبعد) روى أحاديث هذا الفصل كلها أبو داود وابن ماجه وقال عبد الله بن جعفر: (كان أحب ما استتر به النبي -ﷺ- إليه لحاجته هدف أو حائش نخل) رواه ابن ماجه.
فصل:
ويستحب أن يرتاد لبوله موضعا رخوا لئلا يترشش عليه (قال أبو موسى كنت مع النبي -ﷺ- ذات يوم, فأراد أن يتبول فأتى دمثا في أصل حائط فبال ثم قال إذا أراد أحدكم أن يتبول فليرتد لبوله) رواه الإمام أحمد.
ويستحب أن يبول قاعدا لئلا يترشش عليه, قال ابن مسعود من الجفاء أن تبول وأنت قائم وكان سعد بن إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائما (قالت عائشة: من حدثكم أن رسول الله -ﷺ- كان يبول قائما فلا تصدقوه ما كان يبول إلا قاعدا) قال الترمذي: هذا أصح شيء في الباب وقد رويت الرخصة فيه عن عمر وعلي وابن عمر وزيد بن ثابت وسهل بن سعد وأنس وأبي هريرة وعروة وروى حذيفة أن النبي -ﷺ- (أتى سباطة قوم, فبال قائما) رواه البخاري وغيره ولعل النبي -ﷺ- فعل ذلك لتبيين الجواز ولم يفعله إلا مرة واحدة, ويحتمل أنه كان في موضع لا يتمكن من الجلوس فيه وقيل: فعل ذلك لعلة كانت بمأبضه والمأبض ما تحت الركبة من كل حيوان.
فصل:
ويستحب أن لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض لما روى أبو داود عن النبي -ﷺ- أنه (كان إذا أراد الحاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض) ولأن ذلك أستر له فيكون أولى.