الرئيسيةبحث

المغني - كتاب الحجر

المغني موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي

(الجزء الحادي عشر – كتاب الحجر) •كتاب الحجر o مسألة: من أونس منه رشد دفع إليه ماله إذا كان قد بلغ أحدها: وجوب دفع المال إلى المحجور عليه إذا رشد وبلغ الفصل الثاني: امتناع دفع المال قبل البلوغ والرشد الفصل الثالث: في البلوغ فصل: ما يعلم به بلوغ الخنثى المشكل o مسألة: الأنثى كالذكر في رفع الحجر عنها بالرشد فصل: للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله فصل: حكم تصدق المرأة من مال زوجها بغير إذنه o مسألة: معنى الرشد فصل: اختبار الصبي والجارية لمعرفة رشدهما o مسألة: عود السفه موجب لعود الحجر فصل: لا يصح الحجر إلا من الحاكم o مسألة: معاملة المحجور عليه وتصرفه وبيعه وشرائه فصل: الحكم في الصبي والمجنون كالحكم في السفيه فصل: من له النظر في مال المحجور عليه o مسألة: إقرار المحجور عليه بما يوجب الحد أو القصاص فصل: إذا أقر بما يوجب القصاص فعفا المقر له فصل: صحة خلع المحجور عليه فصل: إن أعتق المحجور عليه لم يصح عتقه فصل: صحة زواج المحجور عليه فصل: صحة تدبير ووصية المحجور عليه فصل: إقرار المحجور عليه بالنسب o مسألة: لا يقبل إقرار السفيه بالدين في حال حجره فصل: تصرف السفيه المأذون له في البيع والشراء

كتاب الحجر الحجر في اللغة: المنع والتضييق ومنه سمي الحرام حجرا قال تعالى: {ويقولون حجرا محجورا} أي حراما محرما ويسمى العقل حجرا, قال الله تعالى: {هل في ذلك قسم لذي حجر} أي عقل سمي حجرا لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح وتضر عاقبته وهو في الشريعة: منع الإنسان من التصرف في ماله, والحجر على ضربين حجر على الإنسان لحق نفسه وحجر عليه لحق غيره, فالحجر عليه لحق غيره كالحجر على المفلس لحق غرمائه, وعلى المريض في التبرع بزيادة على الثلث أو التبرع بشيء لوارث لحق ورثته وعلى المكاتب والعبد لحق سيدهما, والراهن يحجر عليه في الرهن لحق المرتهن ولهؤلاء أبواب يذكرون فيها وأما المحجور عليه لحق نفسه فثلاثة الصبي, والمجنون والسفيه وهذا الباب مختص بهؤلاء الثلاثة والحجر عليهم حجر عام لأنهم يمنعون التصرف في أموالهم وذممهم والأصل في الحجر عليهم قول الله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} والآية التي بعدها قال سعيد بن جبير وعكرمة هو مال اليتيم عندك, لا تؤته إياه وأنفق عليه وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء وهي لغيرهم لأنهم قوامها ومدبروها وقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} يعني, اختبروهم في حفظهم لأموالهم {حتى إذا بلغوا النكاح} أي مبلغ الرجال والنساء {فإن آنستم منهم رشدا} أي أبصرتم وعلمتم منهم حفظا لأموالهم وصلاحا في تدبير معايشهم.

مسألة:

قال أبو القاسم -رحمه الله-: [ ومن أونس منه رشد دفع إليه ماله, إذا كان قد بلغ ] الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة:

أحدها:

في وجوب دفع المال إلى المحجور عليه إذا رشد وبلغ وليس فيه اختلاف بحمد الله تعالى قال ابن المنذر: اتفقوا على ذلك, وقد أمر الله تعالى به في نص كتابه بقوله سبحانه: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} ولأن الحجر عليه إنما كان لعجزه عن التصرف في ماله على وجه المصلحة حفظا لماله عليه, وبهذين المعنيين يقدر على التصرف ويحفظ ماله فيزول الحجر, لزوال سببه ولا يعتبر في زوال الحجر عن المجنون إذا عقل حكم حاكم بغير خلاف ولا يعتبر ذلك في الصبي إذا رشد وبلغ وبهذا قال الشافعي وقال مالك لا يزول إلا بحاكم وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه موضع اجتهاد ونظر, فإنه يحتاج في معرفة البلوغ والرشد إلى اجتهاد فيوقف ذلك على حكم الحاكم كزوال الحجر عن السفيه ولنا, أن الله تعالى أمر بدفع أموالهم إليهم عند البلوغ وإيناس الرشد فاشتراط حكم الحاكم زيادة تمنع الدفع عند وجوب ذلك بدون حكم الحاكم وهذا خلاف النص, ولأنه حجر بغير حكم حاكم فيزول بغير حكمه كالحجر على المجنون وبهذا فارق السفيه وقد ذكر أبو الخطاب أن الحجر على السفيه يزول بزوال السفه والأول أولى فصار الحجر منقسما إلى ثلاثة أقسام, قسم يزول بغير حكم حاكم وهو حجر المجنون وقسم لا يزول إلا بحاكم, وهو حجر السفيه وقسم فيه الخلاف وهو حجر الصبي.

الفصل الثاني:

أنه لا يدفع إليه ماله قبل وجود الأمرين, البلوغ والرشد ولو صار شيخا وهذا قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر: أكثر علماء الأمصار من أهل الحجاز والعراق والشام, , ومصر يرون الحجر على كل مضيع لماله صغيرا كان أو كبيرا وهذا قول القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وبه قال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد وروى الجوزجاني, في " كتابه " قال: كان القاسم بن محمد يلي أمر شيخ من قريش ذي أهل ومال فلا يجوز له أمر في ماله دونه لضعف عقله قال ابن إسحاق: رأيته شيخا يخضب, وقد جاء إلى القاسم بن محمد فقال: يا أبا محمد ادفع إلي مالي, فإنه لا يولى علي مثلي فقال: إنك فاسد فقال: امرأته طالق ألبتة وكل مملوك له حر إن لم تدفع إلي مالي فقال له القاسم بن محمد وما يحل لنا أن ندفع إليك مالك على حالك هذه فبعث إلى امرأته, وقال: هي حرة مسلمة وما كنت لأحبسها عليك وقد فهت بطلاقها فأرسل إليها فأخبرها ذلك وقال: أما رقيقك فلا عتق لك, ولا كرامة فحبس رقيقه قال ابن إسحاق: ما كان يعاب على الرجل إلا سفهه وقال أبو حنيفة: لا يدفع ماله إليه قبل خمس وعشرين سنة وإن تصرف نفذ تصرفه فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة, فك عنه الحجر ودفع إليه ماله لقول الله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} وهذا قد بلغ أشده ويصلح أن يكون جدا ولأنه حر بالغ عاقل مكلف, فلا يحجر عليه كالرشيد ولنا قول الله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} علق الدفع على شرطين, والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما وقال الله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} يعني أموالهم وقول الله تعالى: {فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل} فأثبت الولاية على السفيه, ولأنه مبذر لماله فلا يجوز دفعه إليه كمن له دون ذلك وأما الآية التي احتج بها, فإنما يدل بدليل خطابها وهو لا يقول به ثم هي مخصصة فيما قبل خمس وعشرين سنة بالإجماع, لعلة السفه وهو موجود بخمس وعشرين فيجب أن تخص به أيضا, كما أنها لما خصصت في حق المجنون لأجل جنونه قبل خمس وعشرين خصت أيضا بخمس وعشرين وما ذكرناه من المنطوق أولى مما استدل به من المفهوم المخصص, وما ذكروه من كونه جدا ليس تحته معنى يقضي الحكم ولا له أصل يشهد له في الشرع فهو إثبات للحكم بالتحكم ثم هو متصور في من له دون هذه السن, فإن المرأة تكون جدة لإحدى وعشرين سنة وقياسهم منتقض بمن له دون خمس وعشرين سنة وما أوجب الحجر قبل خمس وعشرين يوجبه بعدها إذا ثبت هذا فإنه لا يصح تصرفه, ولا إقراره وقال أبو حنيفة: يصح بيعه وإقراره وإنما لا يسلم إليه ماله لأن البالغ عنده لا يحجر عليه وإنما منع تسليم ماله إليه للآية وقال أصحابنا في إقراره: يلزمه بعد فك الحجر عنه إذا كان بالغا ولنا, أنه لا يدفع إليه ماله لعدم رشده فلا يصح تصرفه وإقراره كالصبي, والمجنون ولأنه إذا نفذ تصرفه وإقراره تلف ماله ولم يفد منعه من ماله شيئا, ولأن تصرفه لو كان نافذا لسلم إليه ماله كالرشيد, فإنه إنما يمنع ماله حفظا له فإذا لم يحفظ بالمنع وجب تسليمه إليه بحكم الأصل.

الفصل الثالث: في البلوغ

ويحصل في حق الغلام والجارية بأحد ثلاثة أشياء وفي حق الجارية بشيئين يختصان بها أما الثلاثة المشتركة بين الذكر والأنثى, فأولها خروج المني من قبله وهو الماء الدافق الذي يخلق منه الولد فكيفما خرج في يقظة أو منام, بجماع أو احتلام أو غير ذلك, حصل به البلوغ لا نعلم في ذلك اختلافا لقول الله تعالى: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا} وقوله {والذين لم يبلغوا الحلم منكم} وقول النبي -ﷺ-: (رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم) وقوله عليه السلام لمعاذ: (خذ من كل حالم دينارا) رواهما أبو داود وقال ابن المنذر وأجمعوا على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل وعلى المرأة بظهور الحيض منها وأما الإنبات فهو أن ينبت الشعر الخشن حول ذكر الرجل أو فرج المرأة, الذي استحق أخذه بالموسى وأما الزغب الضعيف فلا اعتبار به, فإنه يثبت في حق الصغير وبهذا قال مالك والشافعي في قول وقال في الآخر: هو بلوغ في حق المشركين وهل هو بلوغ في حق المسلمين؟ فيه قولان وقال أبو حنيفة لا اعتبار به لأنه نبات شعر, فأشبه نبات شعر سائر البدن ولنا أن النبي -ﷺ- لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة حكم بأن تقتل مقاتلتهم, وتسبى ذراريهم وأمر أن يكشف عن مؤازرتهم فمن أنبت, فهو من المقاتلة ومن لم ينبت ألحقوه بالذرية وقال عطية القرظي: عرضت على رسول الله -ﷺ- يوم قريظة, فشكوا في فأمر النبي -ﷺ- أن ينظر إلي هل أنبت بعد, فنظروا إلي فلم يجدوني أنبت بعد فألحقوني بالذرية متعلق على معناه وكتب عمر رضي الله عنه إلى عامله, أن لا تأخذ الجزية إلا من من جرت عليه المواسي وروى محمد بن يحيى بن حبان أن غلاما من الأنصار شبب بامرأة في شعره فرفع إلى عمر, فلم يجده أنبت فقال: لو أنبت الشعر لحددتك ولأنه خارج يلازمه البلوغ غالبا ويستوي فيه الذكر والأنثى, فكان علما على البلوغ كالاحتلام ولأن الخارج ضربان, متصل ومنفصل فلما كان من المنفصل ما يثبت به البلوغ, كان كذلك المتصل وما كان بلوغا في حق المشركين كان بلوغا في حق المسلمين كالاحتلام, والسن وأما السن فإن البلوغ به في الغلام والجارية بخمس عشرة سنة وبهذا قال الأوزاعي والشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال داود: لا حد للبلوغ من السن, لقوله عليه السلام: (رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم) وإثبات البلوغ بغيره يخالف الخبر وهذا قول مالك وقال أصحابه: سبع عشرة أو ثماني عشرة وروي عن أبي حنيفة في الغلام روايتان إحداهما, سبع عشرة والثانية ثماني عشرة والجارية سبع عشرة بكل حال لأن الحد لا يثبت إلا بتوقيف, أو اتفاق ولا توقيف في ما دون هذا ولا اتفاق ولنا, أن ابن عمر قال: (عرضت على رسول الله -ﷺ- وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة, فأجازني) متفق عليه وفي لفظ: عرضت عليه يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فردني ولم يرني بلغت وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة, فأجازني فأخبر بهذا عمر بن عبد العزيز فكتب إلى عماله: أن لا تفرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة رواه الشافعي في " مسنده " ورواه الترمذي, وقال: حديث حسن صحيح وروي عن أنس أن النبي -ﷺ- قال: (إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه وأخذت منه الحدود) ولأن السن معنى يحصل به البلوغ يشترك فيه الغلام والجارية, فاستويا فيه كالإنزال وما ذكره أصحاب أبي حنيفة ففيما رويناه جواب عنه, وما احتج به داود لا يمنع إنبات البلوغ بغير الاحتلام إذا ثبت بالدليل ولهذا كان إنبات الشعر علما وأما الحيض فهو علم على البلوغ لا نعلم فيه خلافا, وقد قال النبي -ﷺ-: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) رواه الترمذي وقال: حديث حسن وأما الحمل فهو علم على البلوغ لأن الله تعالى أجرى العادة أن الولد لا يخلق إلا من ماء الرجل وماء المرأة قال الله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب} وأخبر النبي -ﷺ- بذلك في الأحاديث فمتى حملت حكم ببلوغها في الوقت الذي حملت فيه.

فصل:

وإذا وجد خروج المني من ذكر الخنثى المشكل, فهو علم على بلوغه وكونه رجلا وإن خرج من فرجه, أو حاض فهو علم على بلوغه وكونه امرأة وقال القاضي: ليس واحد منهما علما على البلوغ, فإن اجتمعا فقد بلغ وهذا مذهب الشافعي لجواز أن يكون الفرج الذي خرج منه ذلك خلقة زائدة ولنا أن خروج البول من أحد الفرجين دليل على كونه رجلا أو امرأة, فخروج المني والحيض أولى وإذا ثبت كونه رجلا خرج المني من ذكره أو امرأة خرج الحيض من فرجها, لزم وجود البلوغ ولأن خروج مني الرجل من المرأة والحيض من الرجل, مستحيل فكان دليلا على التعيين فإذا ثبت التعيين لزم كونه دليلا على البلوغ, كما لو تعين قبل خروجه ولأنه مني خارج من ذكر أو حيض خارج من فرج, فكان علما على البلوغ كالمني الخارج من الغلام والحيض الخارج من الجارية ولأنهم سلموا أن خروجهما معا دليل على البلوغ, فخروج أحدهما منفردا أولى لأن خروجهما معا يقتضي تعارضهما وإسقاط دلالتهما إذ لا يتصور أن يجتمع حيض صحيح ومني رجل, فيلزم أن يكون أحدهما فضلة خارجة من غير محلها وليس أحدهما بذلك أولى من الآخر فتبطل دلالتهما, كالبينتين إذا تعارضتا وكالبول إذا خرج من المخرجين جميعا بخلاف ما إذا وجد أحدهما منفردا, فإن الله تعالى أجرى العادة بأن الحيض يخرج من فرج المرأة عند بلوغها ومني الرجل يخرج من ذكره عند بلوغه فإذا وجد ذلك من غير معارض وجب أن يثبت حكمه, ويقضي بثبوت دلالته كالحكم بكونه رجلا بخروج البول من ذكره, وبكونه امرأة بخروجه من فرجها والحكم للغلام بالبلوغ بخروج المني من ذكره, وللجارية بخروج الحيض من فرجها فعلى هذا إن خرجا جميعا لم يثبت كونه رجلا ولا امرأة لأن الدليلين تعارضا فأشبه ما لو خرج البول من الفرجين وهل يثبت البلوغ بذلك؟ فيه وجهان أحدهما, يثبت وهو اختيار القاضي ومذهب الشافعي لأنه إن كان رجلا فقد خرج المني من ذكره, وإن كانت امرأة فقد حاضت والثاني لا يثبت لأنه يجوز أن لا يكون هذا حيضا ولا منيا, فلا يكون فيه دلالة وقد دل تعارضهما على ذلك فانتفت دلالتهما على البلوغ, كانتفاء دلالتهما على الذكورية والأنوثية والله أعلم.

مسألة:

قال: [ وكذلك الجارية وإن لم تنكح ] يعني أن الجارية إذا بلغت, وأونس رشدها بعد بلوغها دفع إليها مالها وزال الحجر عنها, وإن لم تتزوج وبهذا قال عطاء والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور, وابن المنذر ونقل أبو طالب عن أحمد لا يدفع إلى الجارية مالها بعد بلوغها حتى تتزوج وتلد, أو يمضي عليها سنة في بيت الزوج روي ذلك عن عمر وبه قال شريح والشعبي, وإسحاق لما روي عن شريح أنه قال: عهد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا أجيز لجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها حولا أو تلد ولدا رواه سعيد في سننه ولا يعرف له مخالف, فصار إجماعا وقال مالك: لا يدفع إليها مالها حتى تتزوج ويدخل عليها زوجها لأن كل حالة جاز للأب تزويجها من غير إذنها لم ينفك عنها الحجر, كالصغيرة ولنا عموم قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} ولأنها يتيم بلغ وأونس منه الرشد فيدفع إليه ماله كالرجل ولأنها بالغة رشيدة, فجاز لها التصرف في مالها كالتي دخل بها الزوج وحديث عمر إن صح, فلم يعلم انتشاره في الصحابة ولا يترك به الكتاب والقياس على أن حديث عمر مختص بمنع العطية, فلا يلزم منه المنع من تسليم مالها إليها ومنعها من سائر التصرفات ومالك لم يعمل به, وإنما اعتمد على إجبار الأب لها على النكاح ولنا أن نمنع ذلك وإن سلمناه, فإنما أجبرها على النكاح لأن اختيارها للنكاح ومصالحه لا يعلم إلا بمباشرته والبيع والشراء والمعاملات ممكنة قبل النكاح وعلى هذه الرواية, إذا لم تتزوج أصلا احتمل أن يدوم الحجر عليها عملا بعموم حديث عمر ولأنه لم يوجد شرط دفع مالها إليها, فلم يجز دفعه إليها كما لو لم ترشد وقال القاضي: عندي أنه يدفع إليها مالها إذا عنست وبرزت للرجال يعني كبرت.

فصل:

وظاهر كلام الخرقي, أن للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله بالتبرع والمعاوضة وهذا إحدى الروايتين عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر وعن أحمد رواية أخرى, ليس لها أن تتصرف في مالها بزيادة على الثلث بغير عوض إلا بإذن زوجها وبه قال مالك وحكي عنه في امرأة حلفت أن تعتق جارية لها ليس لها غيرها فحنثت, ولها زوج فرد ذلك عليها زوجها قال: له أن يرد عليها, وليس لها عتق لما روي أن امرأة كعب بن مالك أتت النبي -ﷺ- بحلي لها فقال لها النبي: -ﷺ- (لا يجوز للمرأة عطية حتى يأذن زوجها فهل استأذنت كعبا؟ فقالت: نعم فبعث رسول الله -ﷺ- إلى كعب, فقال: هل أذن لها أن تتصدق بحليها؟ قال: نعم فقبله رسول الله -ﷺ-) رواه ابن ماجه وروى أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله -ﷺ- قال في خطبة خطبها: (لا يجوز لامرأة عطية من مالها إلا بإذن زوجها إذ هو مالك عصمتها) رواه أبو داود بلفظه, عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله -ﷺ- قال (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها) ولأن حق الزوج معلق بمالها فإن النبي -ﷺ- قال " تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها " والعادة أن الزوج يزيد في مهرها من أجل مالها, ويتبسط فيه وينتفع به فإذا أعسر بالنفقة أنظرته, فجرى ذلك مجرى حقوق الورثة المعلقة بمال المريض ولنا قوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} وهو ظاهر في فك الحجر عنهم وإطلاقهم في التصرف, وقد ثبت أن النبي -ﷺ- قال (يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن) ، (وأنهن تصدقن فقبل صدقتهن ولم يسأل ولم يستفصل) ، (وأتته زينب امرأة عبد الله وامرأة أخرى اسمها زينب فسألته عن الصدقة هل يجزيهن أن يتصدقن على أزواجهن, وأيتام لهن؟ فقال: نعم) ولم يذكر لهن هذا الشرط ولأن من وجب دفع ماله إليه لرشد جاز له التصرف فيه من غير إذن كالغلام, ولأن المرأة من أهل التصرف ولا حق لزوجها في مالها فلم يملك الحجر عليها في التصرف بجميعه كأختها وحديثهم ضعيف وشعيب لم يدرك عبد الله بن عمرو, فهو مرسل وعلى أنه محمول على أنه لا يجوز عطيتها لماله بغير إذنه بدليل أنه يجوز عطيتها ما دون الثلث من مالها وليس معهم حديث يدل على تحديد المنع بالثلث, فالتحديد بذلك تحكم ليس فيه توقيف ولا عليه دليل وقياسهم على المريض غير صحيح لوجوه أحدها, أن المرض سبب يفضي إلى وصول المال إليهم بالميراث والزوجية إنما تجعله من أهل الميراث فهي أحد وصفي العلة, فلا يثبت الحكم بمجردها كما لا يثبت للمرأة الحجر على زوجها ولا لسائر الوراث بدون المرض الثاني: أن تبرع المريض موقوف, فإن برئ من مرضه صح تبرعه وها هنا أبطلوه على كل حال, والفرع لا يزيد على أصله الثالث أن ما ذكروه منتقض بالمرأة فإنها تنتفع بمال زوجها وتتبسط فيه عادة, ولها النفقة منه وانتفاعها بماله أكثر من انتفاعه بمالها وليس لها الحجر عليه, وعلى أن هذا المعنى ليس بموجود في الأصل ومن شرط صحة القياس وجود المعنى المثبت للحكم في الأصل والفرع جميعا.

فصل:

وهل يجوز للمرأة الصدقة من مال زوجها بالشيء اليسير بغير إذنه؟ على روايتين إحداهما, الجواز لأن عائشة قالت: قال رسول الله -ﷺ-: (ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها, وله مثله بما كسب ولها بما أنفقت وللخازن مثل ذلك, من غير أن ينتقص من أجورهم شيء) ولم يذكر إذنا وعن أسماء أنها جاءت النبي -ﷺ- فقالت: يا رسول الله ليس لي شيء إلا ما أدخل على الزبير فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي؟ فقال: (ارضخي ما اسطعت, ولا توعي فيوعى عليك) متفق عليهما وروي أن (امرأة أتت النبي -ﷺ- فقالت: يا رسول الله إنا كل على أزواجنا وآبائنا فما يحل لنا من أموالهم؟ قال: الرطب تأكلينه, وتهدينه) ولأن العادة السماح بذلك وطيب النفس فجرى مجرى صريح الإذن, كما أن تقديم الطعام بين يدي الأكلة قام مقام صريح الإذن في أكله والرواية الثانية لا يجوز لما روى أبو أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: (لا تنفق المرأة شيئا من بيتها إلا بإذن زوجها قيل: يا رسول الله ولا الطعام؟ قال: ذاك أفضل أموالنا) رواه سعيد في " سننه " وقال النبي -ﷺ-: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) وقال (إن الله حرم بينكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا, في شهركم هذا في بلدكم هذا) ولأنه تبرع بمال غيره بغير إذنه فلم يجز, كغير الزوجة والأول أصح لأن الأحاديث فيها خاصة صحيحة والخاص يقدم على العام ويبينه ويعرف أن المراد بالعام غير هذه الصورة المخصوصة, والحديث الخاص لهذه الرواية ضعيف ولا يصح قياس المرأة على غيرها لأنها بحكم العادة تتصرف في مال زوجها وتتبسط فيه, وتتصدق منه لحضورها وغيبته والإذن العرفي يقوم مقام الإذن الحقيقي, فصار كأنه قال لها: افعلي هذا فإن منعها ذلك وقال: لا تتصدقي بشيء ولا تتبرعي من مالي بقليل, ولا كثير لم يجز لها ذلك لأن المنع الصريح نفي للإذن العرفي ولو كان في بيت الرجل من يقوم مقام امرأته كجاريته أو أخته أو غلامه المتصرف في بيت سيده وطعامه جرى مجرى الزوجة فيما ذكرنا لوجود المعنى فيه ولو كانت امرأته ممنوعة من التصرف في بيت زوجها, كالتي يطعمها بالفرض ولا يمكنها من طعامه ولا من التصرف في شيء من ماله, لم يجز لها الصدقة بشيء من ماله لعدم المعنى فيها والله أعلم.

مسألة:

قال: [ والرشد الصلاح في المال ] هذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأبو حنيفة وقال الحسن والشافعي, وابن المنذر الرشد صلاحه في دينه وماله لأن الفاسق غير رشيد ولأن إفساده لدينه يمنع الثقة به في حفظ ماله كما يمنع قبول قوله, وثبوت الولاية على غيره وإن لم يعرف منه كذب ولا تبذير ولنا قول الله تعالى: {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} قال ابن عباس: يعني صلاحا في أموالهم وقال مجاهد: إذا كان عاقلا ولأن هذا إثبات في نكرة ومن كان مصلحا لماله فقد وجد منه رشد, ولأن العدالة لا تعتبر في الرشد في الدوام فلا تعتبر في الابتداء كالزهد في الدنيا, ولأن هذا مصلح لماله فأشبه العدل يحققه أن الحجر عليه إنما كان لحفظ ماله عليه, فالمؤثر فيه ما أثر في تضييع المال أو حفظه وقولهم: إن الفاسق غير رشيد قلنا: هو غير رشيد في دينه أما في ماله وحفظه فهو رشيد, ثم هو منتقض بالكافر فإنه غير رشيد ولا يحجر عليه لذلك وكذلك لو طرأ الفسق على المسلم بعد دفع ماله إليه, لم يزل رشده ولم يحجر عليه من أجله ولو كانت العدالة شرطا في الرشد, لزال بزوالها كحفظ المال ولا يلزم من منع قبول القول منع دفع ماله إليه, فإن من يعرف بكثرة الغلط والغفلة والنسيان أو من يأكل في السوق ويمد رجليه في مجامع الناس, وأشباههم لا تقبل شهادتهم وتدفع إليهم أموالهم إذا ثبت هذا فإن الفاسق إن كان ينفق ماله في المعاصي, كشراء الخمر وآلات اللهو أو يتوصل به إلى الفساد, فهو غير رشيد لتبذيره لماله وتضييعه إياه في غير فائدة وإن كان فسقه لغير ذلك كالكذب, ومنع الزكاة وإضاعة الصلاة مع حفظه لماله, دفع ماله إليه لأن المقصود بالحجر حفظ المال وماله محفوظ بدون الحجر ولذلك لو طرأ الفسق بعد دفع ماله إليه, لم ينزع منه.

فصل:

وإنما يعرف رشده باختباره لقول الله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} يعني اختبروهم كقوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} أي يختبركم واختباره بتفويض التصرفات التي يتصرف فيها أمثاله إليه فإن كان من أولاد التجار فوض إليه البيع والشراء فإذا تكررت منه, فلم يغبن ولم يضيع ما في يديه فهو رشيد وإن كان من أولاد الدهاقين, والكبراء الذين يصان أمثالهم عن الأسواق رفعت إليه نفقة مدة لينفقها في مصالحه, فإن كان قيما بذلك يصرفها في مواقعها ويستوفي على وكيله, ويستقصي عليه فهو رشيد والمرأة يفوض إليها ما يفوض إلى ربة البيت من استئجار الغزالات, وتوكيلها في شراء الكتان وأشباه ذلك فإن وجدت ضابطة لما في يديها مستوفية من وكيلها, فهي رشيدة ووقت الاختبار قبل البلوغ في إحدى الروايتين وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الله تعالى قال: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} فظاهر الآية أن ابتلاءهم قبل البلوغ, لوجهين أحدهما أنه سماهم يتامى وإنما يكونون يتامى قبل البلوغ والثاني, أنه مد اختبارهم إلى البلوغ بلفظة: "حتى" فدل على أن الاختبار قبله ولأن تأخير الاختبار إلى البلوغ مؤد إلى الحجر على البالغ الرشيد لأن الحجر يمتد إلى أن يختبر ويعلم رشده, واختباره قبل البلوغ يمنع ذلك فكان أولى لكن لا يختبر إلا المراهق المميز الذي يعرف البيع والشراء والمصلحة من المفسدة ومتى أذن له وليه فتصرف, صح تصرفه على ما ذكرنا فيما مضى وقد أومأ أحمد في موضع إلى اختباره بعد البلوغ لأن تصرفه قبل ذلك تصرف ممن لم يوجد فيه مظنة العقل وقد اختلف أصحاب الشافعي في وقت الاختبار على نحو ما ذكرنا فيما مضى من الروايتين.

مسألة:

قال: [ فإن عاود السفه حجر عليه ] وجملته, أن المحجور عليه إذا فك عنه الحجر لرشده وبلوغه ودفع إليه ماله ثم عاد إلى السفه, أعيد عليه الحجر وبهذا قال القاسم بن محمد ومالك والشافعي والأوزاعي وإسحاق, وأبو ثور وأبو عبيد وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يبتدأ الحجر على بالغ عاقل, وتصرفه نافذ وروي ذلك عن ابن سيرين والنخعي لأنه حر مكلف فلا يحجر عليه كالرشيد ولنا إجماع الصحابة وروى عروة بن الزبير, أن عبد الله بن جعفر ابتاع بيعا فقال علي رضي الله عنه لآتين عثمان ليحجر عليك فأتى عبد الله بن جعفر الزبير فقال: قد ابتاع بيعا, وإن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر على فقال الزبير: أنا شريكك في البيع فأتى على عثمان فقال إن ابن جعفر قد ابتاع بيع كذا, فاحجر عليه فقال الزبير: أنا شريكه في البيع فقال عثمان: كيف أحجر على رجل شريكه الزبير قال أحمد: لم أسمع هذا إلا من أبي يوسف القاضي وهذه قصة يشتهر مثلها ولم يخالفها أحد في عصرهم فتكون إجماعا ولأن هذا سفيه, فيحجر عليه كما لو بلغ سفيها فإن العلة التي اقتضت الحجر عليه إذا بلغ سفيها سفهه وهو موجود, ولأن السفه لو قارن البلوغ منع دفع ماله إليه فإذا حدث أوجب انتزاع المال كالجنون وفارق الرشيد فإن رشده لو قارن البلوغ لم يمنع دفع ماله إليه.

فصل:

ولا يحجر عليه إلا الحاكم, وبهذا قال الشافعي وقال محمد يصير محجورا عليه بمجرد تبذيره لأن ذلك سبب الحجر فأشبه الجنون ولنا: أن التبذير يختلف ويختلف فيه, ويحتاج إلى الاجتهاد فإذا افتقر السبب إلى الاجتهاد لم يثبت إلا بحكم الحاكم, كابتداء مدة العنة ولأنه حجر مختلف فيه فلم يثبت إلا بحكم الحاكم, كالحجر على المفلس وفارق الجنون فإنه لا يفتقر إلى الاجتهاد ولا خلاف فيه, ومتى حجر عليه ثم عاد فرشد فك الحجر عنه ولا يزول إلا بحكم الحاكم وبه قال الشافعي وقال أبو الخطاب: يزول السفه لأنه سبب الحجر, فيزول بزواله كما في حق الصبي والمجنون ولنا أنه حجر ثبت بحكم الحاكم, فلا يزول إلا به كحجر المفلس ولأن الرشد يحتاج إلى تأمل واجتهاد في معرفته, وزوال تبذيره فكان كابتداء الحجر عليه وفارق الصبي والمجنون فإن الحجر عليهما بغير حكم حاكم فيزول بغير حكمه ولأننا لو وقفنا تصرف الناس على الحاكم, كان أكثر الناس محجورا عليه قال أحمد: والشيخ الكبير ينكر عقله يحجر عليه يعني: إذا كبر واختل عقله, حجر عليه بمنزلة المجنون لأنه يعجز بذلك عن التصرف في ماله على وجه المصلحة وحفظه, فأشبه الصبي والسفيه.

مسألة:

قال: [ فمن عامله بعد ذلك فهو المتلف لماله ] وجملته أن الحاكم إذا حجر على السفيه استحب أن يشهد عليه, ليظهر أمره فتجتنب معاملته وإن رأى أن يأمر مناديا ينادي بذلك ليعرفه الناس, فعل ولا يشترط الإشهاد عليه لأنه قد ينتشر أمره بشهرته وحديث الناس به فإذا حجر عليه فباع واشترى كان ذلك فاسدا, واسترجع الحاكم ما باع من ماله ورد الثمن إن كان باقيا وإن أتلفه السفيه أو تلف في يده, فهو من ضمان المشتري ولا شيء على السفيه وكذلك ما أخذ من أموال الناس برضا أصحابها كالذي يأخذه بقرض أو شراء أو غير ذلك, رده الحاكم إن كان باقيا وإن كان تالفا فهو من ضمان صاحبه, علم بالحجر عليه أو لم يعلم لأنه إن علم فقد فرط بدفع ماله إلى من حجر عليه وإن لم يعلم, فهو مفرط إذا كان في مظنة الشهرة هذا إذا كان صاحبه قد سلطه عليه فأما إن حصل في يده باختيار صاحبه من غير تسليط, كالوديعة والعارية فاختار القاضي أنه يلزمه الضمان إن أتلفه أو تلف بتفريطه لأنه أتلفه بغير اختيار صاحبه, فأشبه ما لو كان القبض بغير اختياره ويحتمل أنه لا يضمن لأنه عرضها لإتلافه, وسلطه عليها فأشبه المبيع وأما ما أخذه بغير اختيار صاحبه أو أتلفه, كالغصب والجناية فعليه ضمانه لأنه لا تفريط من المالك لأن الصبي والمجنون لو فعلا ذلك, لزمهما الضمان فالسفيه أولى ومذهب الشافعي في هذا كله كذلك.

فصل:

والحكم في الصبي والمجنون كالحكم في السفيه, في وجوب الضمان عليهما فيما أتلفاه من مال غيرهما بغير إذنه أو غصباه فتلف في أيديهما وانتفاء الضمان عنهما فيما حصل في أيديهما باختيار صاحبه وتسليطه كالثمن والمبيع والقرض والاستدانة وأما الوديعة والعارية, فلا ضمان عليهما فيما تلف بتفريطهما وإن أتلفاه ففي ضمانه وجهان "

فصل:

ولا ينظر في مال الصبي والمجنون ما داما في الحجر, إلا الأب أو وصيه بعده أو الحاكم عند عدمهما وأما السفيه, فإن كان محجورا عليه صغيرا واستديم الحجر عليه لسفهه فالولي فيه من ذكرناه وإن جدد الحجر عليه بعد بلوغه, لم ينظر في ماله إلا الحاكم لأن الحجر يفتقر إلى حكم حاكم وزواله يفتقر إلى ذلك فكذلك النظر في ماله.

مسألة:

قال: [ وأن أقر المحجور عليه بما يوجب حدا أو قصاصا أو طلق زوجته, لزمه ذلك ] وجملته أن المحجور عليه لفلس أو سفه, إذا أقر بما يوجب حدا أو قصاصا كالزنا والسرقة, والشرب والقذف والقتل العمد, أو قطع اليد وما أشبهها فإن ذلك مقبول, ويلزمه حكم ذلك في الحال لا نعلم في هذا خلافا قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن إقرار المحجور عليه على نفسه جائز إذا كان إقراره بزنا أو سرقة, أو شرب خمر أو قذف أو قتل, وأن الحدود تقام عليه وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم وذلك لأنه غير متهم في حق نفسه, والحجر إنما تعلق بماله فقبل إقراره على نفسه بما لا يتعلق بالمال وإن طلق زوجته نفذ طلاقه, في قول أكثر أهل العلم وقال ابن أبي ليلى: لا يقع طلاقه لأن البضع يجري مجرى المال بدليل أنه يملكه بمال ويصح أن يزول ملكه عنه بمال فلم يملك التصرف فيه كالمال ولنا, أن الطلاق ليس بتصرف في المال ولا يجري مجراه فلا يمنع منه كالإقرار بالحد والقصاص ودليل أنه لا يجري مجرى المال, أنه يصح من العبد بغير إذن سيده مع منعه من التصرف في المال ولا يملك بالميراث, ولأنه مكلف طلق امرأته مختارا فوقع طلاقه كالعبد والمكاتب.

فصل:

وإذا أقر بما يوجب القصاص, فعفا المقر له على مال احتمل أن يجب المال لأنه عفو عن قصاص ثابت فصح, كما لو ثبت بالبينة واحتمل أن لا يصح لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى الإقرار بالمال بأن يتواطأ المحجور عليه والمقر له على الإقرار بالقصاص والعفو عنه على مال ولأنه وجوب مال, مستنده إقراره فلم يثبت كالإقرار به ابتداء فعلى هذا القول يسقط وجوب القصاص, ولا يجب المال في الحال.

فصل:

وإن خالع صح خلعه لأنه إذا صح الطلاق ولا يحصل منه شيء, فالخلع الذي يحصل به المال أولى إلا أن العوض لا يدفع إليه وإن دفع إليه, لم يصح قبضه وإن أتلفه لم يضمنه, ولم تبرأ المرأة بدفعه إليه وهو من ضمانها إن أتلفه أو تلف في يده لأنها سلطته على إتلافه.

فصل:

وإن أعتق لم يصح عتقه, وهذا قول القاسم بن محمد والشافعي وحكى أبو الخطاب, عن أحمد رواية أخرى: أنه يصح لأنه عتق من مكلف مالك تام الملك فصح, كعتق الراهن والمفلس ولنا أنه تصرف في ماله فلم يصح, كسائر تصرفاته ولأنه تبرع فأشبه هبته ووقفه ولأنه محجور عليه لحفظ ماله عليه, فلم يصح عتقه كالصبي والمجنون وفارق المفلس والراهن فإن الحجر عليهما لحق غيرهما

فصل:

وإن تزوج, صح النكاح بإذن وليه وبغير إذنه وبهذا قال أبو حنيفة وقال: أبو الخطاب لا يصح بغير إذن وليه, وهو قول الشافعي وأبي ثور لأنه تصرف يجب به مال فلم يصح بغير إذن وليه, كالشراء ولنا أنه عقد غير مالي فصح منه, كخلعه وطلاقه وإن لزم منه المال فحصوله بطريق الضمن, فلا يمنع من العقد كما لو لزم ذلك من الطلاق.

فصل:

ويصح تدبيره ووصيته لأن ذلك محض مصلحته لأنه تقرب إلى الله تعالى بماله بعد غناه عنه ويصح استيلاده وتعتق الأمة المستولدة بموته لأنه إذا صح ذلك من المجنون, فمن السفيه أولى وله المطالبة بالقصاص لأنه موضوع للتشفي والانتقام وهو من أهله وله العفو على مال لأنه تحصيل للمال لا تضييع له وإن عفا على غير مال نظرت فإن قلنا: الواجب القصاص عينا صح عفوه لأنه لم يتضمن تضييع المال وإن قلنا: أحد الشيئين لم يصح عفوه عن المال, ووجب المال كما لو سقط القصاص بعفو أحد الشريكين وإن أحرم بالحج صح إحرامه لأنه مكلف أحرم بالحج, أشبه غيره ولأن ذلك عبادة فصحت منه, كسائر عباداته ثم إن كان أحرم بفرض دفع إليه النفقة من ماله ليسقط الفرض عن نفسه وإن كان تطوعا فكانت نفقته في السفر كنفقته في الحضر, دفعت إليه لأنه لا ضرر في إحرامه وإن كانت نفقة السفر أكثر فقال: أنا أكتسب تمام نفقتي, دفعت إليه أيضا لأنه لا يضر بماله وإن لم يكن له كسب فلوليه تحليله لما فيه من تضييع ماله, ويتحلل بالصيام كالمعسر لأنه ممنوع من التصرف في ماله ويحتمل أن لا يملك وليه تحليله بناء على العبد إذا أحرم بغير إذن سيده وإن حنث في يمينه أو عاد في ظهاره, أو لزمته كفارة بالقتل أو الوطء في نهار رمضان كفر بالصيام لذلك وإن أعتق أو أطعم عن ذلك لم يجزه وبهذا قال الشافعي لأنه ممنوع من ماله, أشبه المفلس ويتخرج أن يجزئه العتق بناء على قولنا بصحته منه وإن نذر عبادة بدنية لزمه فعلها لأنه غير محجور عليه في بدنه وإن نذر صدقة المال, لم يصح منه وكفر بالصيام وإن فك الحجر عنه قبل تكفيره في هذه المواضع كلها لزمه العتق, إن قدر عليه ومقتضى قول أصحابنا أنه يلزمه الوفاء بنذره بناء على قولهم في من أقر قبل فك الحجر عنه ثم فك عنه, فإنه يلزمه أداؤه وإن فك بعد تكفيره لم يلزمه شيء, كما لو كفر عن يمينه بالصيام ثم فك الحجر عنه.

فصل:

وإن أقر بنسب ولد قبل منه لأنه ليس بإقرار بمال ولا تصرف فيه, فقبل كإقراره بالحد والطلاق وإذا ثبت النسب لزمته أحكامه, من النفقة وغيرها لأن ذلك حصل ضمنا لما صح منه فأشبه نفقة الزوجة.

مسألة:

قال: [ وإن أقر بدين لم يلزمه في حال حجره ] وجملته أن السفيه إذا أقر بمال, كالدين أو بما يوجبه كجناية الخطإ وشبه العمد, وإتلاف المال وغصبه وسرقته, لم يقبل إقراره به لأنه محجور عليه لحظه فلم يصح إقراره بالمال كالصبي والمجنون ولأنا لو قبلنا إقراره في ماله, لزال معنى الحجر لأنه يتصرف في ماله ثم يقر به فيأخذه المقر له ولأنه أقر بما هو ممنوع من التصرف فيه, فلم ينفذ كإقرار الراهن على الرهن والمفلس على المال ومقتضى قول الخرقي أنه يلزمه ما أقر به بعد فك الحجر عنه وهو الظاهر من قول أصحابنا, وقول أبي ثور لأنه مكلف أقر بما لا يلزمه في الحال فلزمه بعد فك الحجر عنه كالعبد يقر بدين والراهن يقر على الرهن والمفلس على المال ويحتمل أن لا يصح إقراره, ولا يؤخذ به في الحكم بحال وهذا مذهب الشافعي لأنه محجور عليه لعدم رشده, فلم يلزمه حكم إقراره بعد فك الحجر عنه كالصبي والمجنون ولأن المنع من نفوذ إقراره في الحال إنما ثبت لحفظ ماله عليه, ودفع الضرر عنه فلو نفذ بعد فك الحجر لم يفد إلا تأخير الضرر عليه إلى أكمل حالتيه وفارق المحجور عليه لحق غيره, فإن المانع تعلق حق الغير بماله فيزول المانع بزوال الحق عن ماله فيثبت مقتضى إقراره وفي مسألتنا انتفى الحكم لخلل في الإقرار فلم يثبت كونه سببا, وبزوال الحجر لم يكمل السبب فلا يثبت الحكم مع اختلاف السبب كما لم يثبت قبل فك الحجر ولأن الحجر لحق الغير لم يمنع تصرفهم في ذممهم فأمكن تصحيح إقرارهم في ذممهم على وجه لا يضر بغيرهم, بأن يلزمهم بعد زوال حق غيرهم والحجر ها هنا لحظ نفسه من أجل ضعف عقله وسوء تصرفه, ولا يندفع الضرر إلا بإبطال إقراره بالكلية كالصبي والمجنون فأما صحته فيما بينه وبين الله تعالى فإن علم صحة ما أقر به, كدين لزمه من جناية أو دين لزمه قبل الحجر عليه فعليه أداؤه لأنه علم أن عليه حقا, فلزمه أداؤه كما لو لم يقر به وإن علم فساد إقراره مثل أن علم أنه أقر بدين ولا دين عليه, أو بجناية لم توجد منه أو أقر بما لا يلزمه مثل إن أتلف مال من دفعه إليه بقرض أو بيع, لم يلزمه أداؤه لأنه يعلم أنه لا دين عليه فلم يلزمه شيء كما لو لم يقر به.

فصل:

إذا أذن ولي السفيه له في البيع والشراء, فهل يصح منه؟ على وجهين أحدهما يصح لأنه عقد معاوضة فملكه بالإذن, كالنكاح ولأنه عاقل محجور عليه فصح تصرفه بالإذن فيه كالصبي يحقق هذا أن الحجر على الصبي أعلى من الحجر عليه ثم يصح تصرفه بالإذن, فهاهنا أولى ولأنا لو منعنا تصرفه بالإذن لم يكن لنا طريق إلى معرفة رشده واختباره والثاني لا يصح, لأن الحجر عليه لتبذيره وسوء تصرفه فإذا أذن له فقد أذن فيما لا مصلحة فيه, فلم يصح كما لو أذن في بيع ما يساوي عشرة بخمسة وللشافعي وجهان كهذين والله أعلم.