الليالي
الليالي المؤلف: إبراهيم ناجي |
مكانيَ الهادئ البعيد
كن لي مجيراً من الأنامْ
قد أمَّكَ الهاربُ الطريدْ
فآوهِ أنتَ والظلامْ
يا حسنها ساعة انفصال
لا ضنك فيها ولا نكد
يا حقبةَ الوهم والخيالْ
هلاَّ تمهلتِ للأبدْ؟!
يا أيها العالم الأخير
ماذا ترى فيك من نصيب؟
أراحةٌ فيك للضمير
أم موعدٌ فيك من حبيبْ؟
كم يَعذُب الموت لو نراه
أو كان فيك اللقاء يرجى
ينفضُ عن عينه كراهُ
ويقبل الراقدُ المسجَّى!
لكن شكّاً بما تجن
خيّم فوق العقول جمعا
عجبتُ للمرءِ كم يئنّ
ويستطيبُ الحياةَ مَرعَى
قد صار حبُّ الحياة منا
يقنع بالجيفة السباعْ
وعلم السمحَ أن يضنَّا
وثبَّت الجبنَ في الطباعْ!
طال بنا الصمتُ والجمودْ
لا البدر يوحي ولا الغديرْ
يا عالم الضيم والقيود
برّحت بالطائر الأسيرْ!
هربتُ من عالمٍ أضرَّا
وجئتُ يا كعبتي أزور
هاتي خيالاً إذن وشعراً
أسكبه في فم الدهورْ
هربتُ من عالم الشقاء
وجئت عليّ لديكِ أحيا!
أشرب من روعة السماء
شعراً وأسقي الفؤاد وحيا!
ملكَ في هاته العوالمْ
مهزلةَ الموت والحياةْ
وصورة القيد في المعاصم
ووصمة الذلّ في الجباه
هياكلٌ تعبرُ السنين
واحدةُ العيش والنظامْ
واحدة السخط والأنين
واحدة الحقد والخصامْ!
وواحد ذلك الطلاء
يسترُ خزياً من الطباعْ
أفنى البلى أوجه الرياء
ولم يذُبْ ذلك القناع!
بعينها كذبةُ الدموعْ
بعينها ضحكةُ الخداعْ
ومُنحنى هاته الضلوع
على صواد بها جياع!
كأن صدر الظلام ضاقْ
من كَثرة البثّ كل حينْ!
يا ويحه كيف قد أطاقْ
شكوى البرايا على السنينْ؟!
كأنما ينفث الشهب
تخفيف كربٍ يئنّ منه
كالقلب إن ضاق واكتأبْ
تخفف الذكريات عنهُ
كم زفرة في الضلوع قرّتْ
يحوطها هيكلٌ مريض
مبيدة حيثما استقرت
فان نبُحْ سمِّيت قريض!
كم في الدجى آهةٌ تطول
تسرى إلى أذنه وشعرْ!
لو يفهم النجمُ ما نقول!
أو يفهم الليلُ ما نُسرْ!
ما بالها أعين الفلك
منتثرات على الفضاءْ
تطل من قاتمِ الحلك
بغيرك فهمٍ ولا ذكاءْ!
ألا وفيّ ألا معين
في مدلهم بلا صباح؟!
وكلّما جَدَّ لي أنينْ
تسخر بي أنَّةُ الرياحْ!
هبنا شكونا بلا انقطاع
ما حظ شاكٍ بلا سميع
وحظ شعرٍ إذا أطاعْ
يا ليته عاش لا يطيع
يضيع في لجة الزمن
مبدداً في الورى صداه
ولن ترى في الوجودِ مَنْ
يدري عذاب الذي تلاهْ!
يا أيها النهر بي حسدْ
لكل جارٍ عليك رفّ
أكلّ راجٍ كما يود
يروي ظماه ويرتشف
ومن حبيب إلى حبيب
ترنو حناناً وتبتسمْ
وكل غادٍ له نصيب
من مائك البارد الشبمْ
يا نهرُ روّيتَ كل ظامي
فراح ريّان إن يذُقْ
فكن رحيماً على أوامي
فلي فمٌ بات يحترق
يا نهر لي جذوة بجنبي
هادئة الجمرِ بالنهارْ
فإن دنا الليل برّحت بي
وساكن الليل كم أثار
وقفت حرّان في إِزائكْ
فهل ترى منك مسعدُ؟
وددت ألقي بها لمائك
لعلها فيك تبرد
عالج لظاها فإن سكنْ
فرحمةٌ منك لا تحدْ
وإن عصت نارها فكن
قبراً لها آخر الأبد!
تريني الهاجر الشتيت
وقربه ليس لي ببالْ
وكلما خلتني نسيت
مر أمامي له خيال
تمر ذكرى وراء ذكرى
وكل ذكرى لها دموعْ
وتعبر المشجيات تترى
من ماضٍ بلا رجوع
ماضٍ وكم فيه من عثارْ
ومن عذابٍ قد انقضى
كم قلت لا يرفع الستار
ولا ادكارٌ لما مضى!
يا من أرى الآن نصب عيني
خياَله عطَّر النسمْ
بالله ما تبتغيه مني
ولم تدع لي سوى الألم
في ذمة الله ما أضعتمْ
من مهجٍ أصبحت هباءْ
لم نجزكم بالذي صنعتم
إنَّا غفرنا لمن أساءْ
لا تحسبو البرء قد ألَمّ
فلم يزل جرحنا جديدا
يخدعنا أنّه التأمْ
ولم يزل يخبأ الصديدا!
يا أيها الليل جئت أبكي
وجئت أسلو وجئت أنسى
طال عذابي! وطال شكي
ومات قلبي، وما تأسَّى!