الرئيسيةبحث

اللغة العربية كائن حي/مقدمة

اللغة العربية كائن حي
المؤلف: جورجي زيدان


هذا كتاب صغير في بحث جديد، تنبّهنا له ونحن ننشر الطبعة الثانية من كتابنا الفلسفة اللغوية لأنّ موضوعه تابع لموضوعنا. أو هي خطوة ثانية في تاريخ اللغة باعتبار منشأها وتكونها ونموها..فالفلسفة اللغوية تبحث في كيف نطق الانسان الأول،وكيف نشأت اللغة وتولّدت الألفاظ من حكاية الأصوات الخارجية، كقصف الرعد، وهبوب الرياح، والقطع والكسر، وحكاية التف والنفخ والصفير ونحوها.. ومن المقاطع الطبيعية التي ينطق بها الانسان غريزيا كالتأوه، والزفير. وكيف تنوّعت تلك الأصوات لفظا ومعنى بالنحت، والابدال، والقلب، حتى صارت ألفاظا مستقلة وتكوّنت الأفعال، والأسماء، والحروف وصارت اللغة على نحو ما هي عليه.
وأما تاريخ اللغة فيتناول النظر في ألفاظها وتراكيبها، بعد تمام تكونها، فيبحث فيما طرأ عليهما من التغيير والتجدد أو الدثور، فيبين الألفاظ والتراكيب التي دثرت من اللغة بالاستعمال، وما قام مقامها من الألفاظ الجديدة، والتراكيب الجديدة، بما تولّد فيها، أو اقتبسته من سواها، مع بيان الأحوال التي قضت بدثور القديم وتولد الجديد، وأمثلة مما دثر، أو أهمل، أو تولّد، أو دخل.وهو بحث لغوي تاريخي فلسفي قسّمنا الكلام فيه الى ثمانية فصول، باعتبار الأدوار التي مرّت على اللغة وهي:

1-العصر الجاهلي: ويتناول تاريخ اللغة من أقدم أزمانها الى ظهور الاسلام..وأوردنا فيه أمثلة مما دخلها من الألفاظ الأعجمية من اللغات الحبشية، والسنسكريتية، والهيروغليفية، واليونانية، وغيرها، وأسندنا ذلك الى أسباب تاريخية. وذكرنا القاعدة في تعيين أصول تلك الألفاظ، وأمثلة مما تولّد في اللغة نفسها من الألفاظ الجديدة، وأيّدنا ذلك بمقابلة العربية بأخواتها، أو بالنظر إلى ألفاظها بحدّ ذاتها.

2-العصر الإسلامي: ونريد به ما حدث في اللغة بعد الإسلام من الألفاظ الاسلامية مما اقتضاه الشرع، والفقه، والعلوم اللغوية، ونحوها.

3-الألفاظ الادارية في الدولة العربية: وتشمل ما دخل اللغة العربية من الالفاظ الادارية التي اقتضاها التمدن الاسلامي عند انشاء دولة العرب..وهي إما دخيلة، وإما مولّدة. ويتخلّل ذلك بحث في كيفية انتقال اللفظ من معنى الى آخر.

4-الألفاظ العلمية في الدولة العربية: ويدخل فيها الألفاظ والتراكيب التي اقتضاها نقل العلم والفلسفة من اليونانية وغيرها الى اللغة العربية في العصر العباسي.

5-الألفاظ العامة في الدولة العربية: وهي الألفاظ التي تولّدت في اللغة، أو دخلتها بغير طريق الشرع، أو العلم، كالألفاظ الإجتماعية ونحوها.

6-الألفاظ النصرانية واليهودية: وهي ما دخل اللغة العربية من الألفاظ، والتراكيب السريانية، أو العبرانية بنقل الكتب النصرانية الى العربية.

7-الألفاظ الدخيلة في الدول الأعجمية: وتتناول ما اكتسبته اللغة من الألفاظ الأعجمية بعد زوال الدول العربية، وتولي الدول التركية والكردية وغيرها.

8-النهضة الحديثة: وفيها ما اقتضاه التمدن الحديث من تولّد الألفاظ الجديدة. واقتباس الألفاظ الإفرنجية للتعبير عما حدث من المعاني الجديدة في العلم، والصناعة، والتجارة، والإدارة وغيرها.

وصدّرنا الكتاب بتمهيد في نواميس الحياة وخضوع اللغة لها، وختمناه بفضل في لغة الدواوين، وخلاصة في مجمل ما تقدّم. على أنّنا نعد ما كتبناه في هذ الموضوع الجديد خواطر سانحة، فتحنا بها باب البحث لأئمة الإنشاء، وعلماء اللغة..فنتقدم اليهم أن يوفوا الموضوع حقّه، أو بزيدونا منه لأنه يحتاج الى بحث كثير، ودرس طويل. وقد أصبحت اللغة بعد هذه النهضة في العلم، والأدب، والشعر، في غاية الإفتقار اليه..ليعلم حملة الأقلام أن اللغة كائن حي نام خاضع لناموس الإرتقاء، وتتجدّد ألفاظها، وتراكيبها على الدوام.. فلا يتهيّبون من استخدام لفظ جديد لم يستخدمه العرب له. وقد يكون تهيّبهم مانعا من استثمار قرائحهم، وربما ترتّب على اطلاق سراح أقلامهم فوائد عظمى تعود على آداب اللغة العربية بالخير الجزيل. ولابد من اعتبار القواعد العامة، والروابط الأساسية، مما أشرنا إليه في محلّه.. ناهيك بما ينجم عن معرفة أصل الكلمة وتاريخها من تفهم معناها الحقيقي.