لا غرو اذا أفردنا للغة الحكومة المصرية بابا خاصا لاختصاصها بألفاظ وتعبيرات لا مثيل لها في اللغة العربية، وفيها ما لا يمكن تطبيقه على قاعدة، ولا الرجوع به الى قياس.. ففي مخاطبات الدواوين وصور الاوامر العالية من الالفاظ الغريبة، والتراكيب الركيكة ماهو غريب في بابه، وقد بلغ ذروة الغرابة في أواسط القرن الماضي قبل نضج هذه النهضة.
واصل الركاكة والغرابة في لغة الدواوين، يرجع الى عصر التدهور في زمن الامراء والمماليك.. وطبيعي ان اللغة تحيا بحياة اهلها، وتموت بموتهم، وتزهو بزهوهم، وتنحط بانحطاطهم.. ففي عصر أولئك الامراء، بلغت مصر من التدهور في السياسة والادارة والآداب والعلوم ما لم يبق بعده غاية.. فلم ينقض القرن الثامن عشر حتى صارت لغة الكتابة أشبه شيء بلغة العامة لركاكة عبارتها مع ما فيها من الالفاظ الاعجمية، والعامية.
فدخل الفرنسيون مصر في أواخر القرن المذكور، ولغة العلماء تكاد تكون عامية، واليك أمثلة من كتاب نشره علماء مصر ومشايخها أثناء احتلال الفرنسيين، قالوا:
"نعرِّف اهل مصر من طرف الجعيدية وأشرار الناس حركوا الشرور بين الرعية والعسكر الفرنساوية، بعدما كانوا أصحابا وأحبابا بالسوية، وترتب على ذلك قتل جملة من المسلمين، ونهبت بعض البيوت، ولكن حصلت ألطاف الله الخفية، سكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند امير الجيوش بونابرته، وارتفعت هذه البلية لأنه رجل كامل العقل، عنده رحمة وشفعة على المسلمين، ومحبّة الى الفقراء والمساكين، ولولاه لكانت العساكر أحرقت جميع المدينة ونهبت جميع الاموال وقتلوا كامل اهل مصر، فعليكم ان لا تحركوا الفتن، ولا تطيعوا امر المفسدين، ولا تسمعوا كلام المنافقين، ولا تتبعوا الاشرار، ولا تكونوا من الخاسرين سفهاء العقول الذين لا يقرأون العواقب.."
وقد ذكرنا مثالا من كلام الجبرتي مؤرخ تلك الحوادث في كلامنا عن اللغة العربية في عصر التدهور.
ولمّا جاء الفرنسيون الى مصر، كان في جملة حملتهم جماعة من التراجمة ليتوسطوا بينهم وبين الاهالي والعلماء، ويترجموا لهم المنشورات، والمراسلات، ونحوها.. والظاهر انهم كانوا من غير أبناء اللغة العربية.. فكانوا اذا ترجموا عبارة صاغوها في قالب افرنجي، وما لم يجدوا له لفظا عربيا تركوه بلفظه الافرنجي او وضعوا له لفظا عاميا.
فلما أفضت الولاية الى محمد علي مؤسس الدولة الخديوية، وأخذ في انشاء الدواوين، لم يكن له غنى عمن يترجم بين حكومته وحكومات دول أوربا، فاستخدم التراجمة وفيهم جماعة من اهل المغرب وغيرهم، واللغة لا تزال في انحطاطها وركاكتها، والذين يعرفون اساليبها ويحفظون ألفاظها قليلون جدا.. وخاصة بين الذين استخدموهم في الدواوين للكتابة او الترجمة. وقد رأيت مثالا من لغة المشايخ والعلماء، وقد قضوا أعواما طوالا في الأزهر، وقرأوا كتب العلم والفقه.. فكيف بك بكتّاب الدواوين والتراجمة..
ومما زاد اسباب الفساد في اللغة ان الحكومة بدأت في انشاء الدواوين وترتيب مصالح الحكومة والقضاء وغيرها، قبل اهتمامها بتعليم الناس وتهذيبهم وترقية أفكارهم واصلاح شأنهم.. فدخل في العصر الاول لحكومة محمد علي كثير من الالفاظ والتراكيب العامية، ثم تنوّعت وتكيَّفت على اسلوب خاص وأوضاع خاصة وألفاظ خاصة.. وعرفت بـلغة الدواوين.
فلما استنار الناس على أثر نشر الصحافة، ونبغ الكتّاب، والمنشئون في أواخر القرن الماضي، انتظم جماعة منهم في مناصب الحكومة الكتابية، فنقحوا كثيرا من تلك الغرائب، ولا يزالون عاملين على تنقيحها.
ومع ذلك فلا يزال فيها من الالفاظ المولَّدة، والدخيلة، وضروب التركيب ما هو بعيد عن لغة سائر الكتّاب، حتى في معاني الالفاظ العربية المستعمل عند كليهما، وهاك أمثلة كثيرة الشيوع..
ألفاظ ديوانية | معناها | ألفاظ ديوانية | معناها |
---|---|---|---|
مطاعنة | شكوى | معروض | (عرضحال) |
براءة الساحة | تبرير | ناحية | قرية |
بالقضاء والقدر | عرضا | عزبة | دسكرة |
اتضحت ادانته | ظهر ذنبه | ابعدية | مزرعة |
صرف | دفع | نُزل | ادارة تقديم المؤن |
عريضة | براءة | انجرارية | ادارة المراكب |
طاقم | بحرية مركب | مصروفات | نفقات |
مفتعل | مزوَّر | خوجا (سفينة) | كاتب |
ظهورات | موقت | تعلق فلان | خاصته |
نشاوي | جديد | أفرج عنه | أطلق سراحه |
اضمحل حاله | صار فقيرا | مستند | سند |
مباشرة | رأسا | جبر | كسر |
دولاب | خزانة | نفق | مات |
استيداع | راتب يعطى بعد الرفت | مراسلة | خادم عسكري |
عجوزات | متأخرات المال | ||
مثال | مثال | مثال | مثال |
وغير ذلك كثيرا من الالفاظ العربية وغير العربية.. وقس عليه التركيب والتعبيرات مثل ادخال "لم" على فعل المضارع كقولهم: "لم اتى" بدلا من "لم يأت" وصوغ الفعل المجهول من المصدر وفعل الصيرورة على نحو ما في اللغات الافرنجية كقولهم: "صارت كتابته" بدلا من "كُتب".
وقد ولّدوا صيغة خاصة للفعل الماضي تركب من المصدر، ولفظ "معرفة" فيقولون: "كتب الكتاب بمعرفة فلان" بدلا من قولنا: "فلان كتب الكتاب" وربما ركّبوا هذه العبارة مع التي قبلها، فقالوا:"صارت كتابة الكتاب بمعرفة فلان" وقس على ذلك.. ناهيك بركاكة التعبير، وان لم تخالف قواعد النحو او الصرف مما يضيق عنه المقام وقد أعضينا عنه لشهرته.. على أنّ كتّاب اللغة وعلماءها يعدّون تلك الالفاظ وأمثالها من قبيل الاصطلاحات العامية واستعمالها خطأ، وقد اخذت الحكومة في تنقيحها بالتدريج كما تقدّم.